دانيال
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
سفر كل مؤمن من الشعب
لسفر دانيال أهمية خاصة في حياة المؤمنين، فهو ليس سجلاً لحياة دانيال النبي ولا تاريخًا لحقبة من تاريخ بني إسرائيل أثناء السبي البابلي، لكنه كتاب إلهي يُقدمه لنا روح الله القدوس ليبعث الرجاء في النفوس الجريحة. فإن كان يسمح لنا أحيانًا أن نُلقي في أتون التجارب، لكنه يُغير طبيعة النيران لأجل راحتنا وسلامنا.
فمن ناحية يكشف لنا هذا السفر أن الله هو ضابط التاريخ كله، يعمل لحساب بنيان مؤمنيه المخلصين أينما وُجدوا. ومن ناحية أخرى يكشف لنا أن الله يتمجد في القلة القليلة جدًا المُخلصة، هو سندهم في تقديس حياتهم، وهو سور نارٍ يحميهم، والمُدبر لخلاصهم.
إن كان الله يسمح لمؤمنيه بالضيق كما سمح لدانيال بسبيه وهو بعد شاب صغير، لكنه خلال التجربة رفعه إلى أعلى الدرجات ليسجد له أعظم ملك في ذلك الحين، يسجد له مُدركًا أن فيه روح قدوس القديسين طالبًا بركته ورضاه؛ كما فتح الرب عن بصيرته لا ليهبه حكمة فيعرف أحلام الملك ويُفسرها له، ولا ليدبر أمور المملكة بحكمةٍ وفهمٍ فحسب، وإنما ما هو أعظم لكي يتمتع بأسرار الله الفائقة، فيكشف له الروح عن عمل الله المستقبلي والأبدي مع البشرية.
إنه سفر الصداقة الإلهية القادرة وحدها أن ترفع قلب المؤمن إلى الحياة السماوية الفائقة، حتى وإن عاش في أرض الغربة كمسبي.
إنه سفر "المعرفة الإلهية"، التي يُقدمها الله لمختاريه ومحبوبيه، هذه المعرفة التي تنبع عن الإيمان الصادر من قلب متسع بالحب الإلهي. هذه المعرفة تُوهب خلال خبرة الضيق الشديد واحتمال الآلام من أجل الله وشعبه. يكشف أيضًا السفر كيف يحاول عدو الخير أن ينتزعها بتحطيم إيماننا.
أخيرً، فإن هذا السفر موجه إلى كل مؤمن من الشعب ليعرف دوره الحيّ في حياة الكنيسة كما في حياة البشرية كلها، وإذ لم يكن دانيال متفرغًا للخدمة والنبوة لكنه كان أشبه برئيس الوزراء في دولة سيطرت على العالم أجمع. عرف كيف يُعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وإن كان دانيال لم يرجع إلى أورشليم مع العائدين من السبي، ولم يشترك مع نحميا في بناء السور، ولا مع زربابل في إعادة بناء الهيكل، لكنه كان الرجل الأول الخفي العامل في هذه الأمور، إذ كان له تأثيره على ملوك بابل وفارس. لقد قدم خدمة فائقة من جوانب متعددة خلال حياته المقدسة وأمانته في عمله.
ليت روح الرب يفتح بصائرنا لنكتشف أسراره الإلهية، ونتعرف عليه، ونقبل صداقته عاملة فينا، فيستخدمنا في الموقع الذي يراه لبنيان ملكوته.
القمص تادرس يعقوب ملطي
|
الأصحاح السابع (الوحوش الأربعة) |
|
- الباب الأول الأصحاحات (1-6) |
|
الأصحاح الثامن (الكبش والتيس) |
الأصحاح الأول (متغرِّبون في القصر) |
|
الأصحاح التاسع (السبعون أُسبوعًا) |
الأصحاح الثاني (رؤيا التمثال) |
|
الأصحاح العاشر (رؤية مجد الله) |
الأصحاح الثالث (الثلاثة فتية في الأتون) |
|
الأصحاح الحادي عشر (الرؤيا الأخيرة) |
الأصحاح الرابع (مرسوم نبوخذنصَّر) |
|
الأصحاح الثاني عشر (الضيقة العظيمة) |
الأصحاح الخامس (الكتابة على الحائط) |
|
|
الأصحاح السادس (دانيال في جب الأسود) |
|
|
- الباب الثاني الأصحاحات(7-12) |
|
كان دانيال النبي معاصرًا لحزقيال النبي وأصغر منه سنًا. قدم لنا حزقيال أورشليم بهيكلها، هذه التي قد صارت خرابًا بسبب الفساد، وفي نفس الوقت رأى بروح النبوة ليس فقط العودة من السبي، وإنما إقامة هيكلٍ جديدٍ مجيدٍ، هو هيكل العهد الجديد حيث فيض النعمة الإلهية. وأما دانيال فقدم لنا لا العودة من السبي فحسب، وإنما اللقاء مع المحرر الحقيقي السيد المسيح الذي يُحررنا من سبي الخطية. ويدخل بنا إلى أمجاده، كما يفتح عيون قلوبنا لنراه قادمًا في نهاية الأزمنة ليقيم من مؤمنيه كواكب منيرة على صورته. اتفق النبيان المسبيان على كشف اهتمام الله بمؤمنيه، مؤكدين أنه لن ينساهم مهما طالت مدة السبي.
دانيال:
يُقدم لنا هذا السفر شخصية دانيال الفريدة:
· هو نبي انشغل بالإدارة، لكنه عرف كيف لا يمزج بينها وبين عمله الروحي النبوي، إذ لم يفقده مركزه الإداري نظرته السماوية واهتمامه بخلاص نفسه وخلاص شعبه، بل وخلاص الملوك الذين تعامل معهم. لم يمنعه كرجل دولة عظيم له مكانته في أكبر إمبراطورية في ذلك الحين، وهي وثنية، من أن يشهد لله الحقيقي ويحفظ شريعته، لا بتهور وعنف بل بروح الحكمة والحب والشجاعة.
· خدم شعبه، لكن لا بروح التعصب، بل بروح القداسة والاتضاع، مع الحب لكل الشعوب. سندهم في أرض السبي حيث نال نعمة في أعين الملوك، كما فتح أبواب الرجاء أمام الشعب المسبي، بل وأمام كل الأمم.
· هو الرائي الذي كان ينظر إلى المستقبل بعمل روح الله فيه، وهبه الله الكثير من الرؤى.
· هو أب التاريخ الأممي، سجل لنا نبوات دقيقة عن الممالك التي تتعاقب خلال خطة الله. سفر دانيال هو السفر الوحيد في العهد القديم الذي تنبأ بالتفصيل عن ملوك وممالك حدد بعضها بالاسم مثل فارس واليونان.
· هو نبي الأحلام والرؤى الذي تمتع بعطيةٍ إلهيةٍ وحكمةٍ سماويةٍ وفهمٍ فائقٍ.
· هو النبي الذي حدد أزمنة لأحداث الخلاص ونهاية العالم، وانشغل بأزمنة الأمم. لقبه السيد المسيح بـ "دانيال النبي" (مت 24: 15). وبسبب كثرة نبواته إذ بلغت حوالي الستين كان سفر دانيال أكثر أسفار العهد القديم قراءة ودراسة في الكنيسة المسيحية.
· رجل الحكمة، أشار إليه معاصره حزقيال مع نوح وأيوب كأتقى رجال الله (حز 14: 14، 20)، وأيضًا كأحد أحكم الرجال. ضرب به الوحي الإلهي المثل في ذلك، إذ قال الله لملك صور: "هل أنت أحكم من دانيال؟ سرّ ما لا يخفي عليك" (حز 28: 3). وُهب عطية تفسير الأحلام بروح الله، وكما يقول الملك الوثني: "إنيّ أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين ولا يعسر عليك سرّ" (دا 4: 9).
· يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن دانيال كان حاذقًا في المعمار، وأنه هو الذي صمم مبنى برج شوشن المشهور في فارس حيث كان ملوك فارس يقطنون.
غالبًا وُلد في أورشليم، وسُبي إلى بابل مثل حزقيال (1: 1-2)، غير أن الأول سُبي في السبي الأول أيام يهوياقيم سنة 606 ق.م، والثاني في الغزو الثاني. حُمل إلى بابل وهو شاب، وكان من سبط يهوذا (1: 7)، إن لم يكن من البيت الملكي من نسل داود (1: 3)، تعلم الكلدانية مع الثلاثة فتية. يرى البعض أنه عاش حوالي 84 عامًا (618-534 ق.م)[1].
أعطاه الله حكمة ونعمة فخدم في أيام الممالك: بابل ومادي وفارس. ومع أمانته للملوك بقي أمينًا لله لا يأكل من الأطياب المقدمة الأوثان، ويرفض السجود لعبادة الأوثان، وكان شجاعًا في تفسيره الرؤى والأحلام للملوك دون مجاملة.
عاش في أيام تاريخية حاسمة، فقد عاصر ملوك عظماء مثل نبوخذنصر البابلي وكورش الفارسي. لم يكن ممكنًا في أيامه أن يتحدث إنسان مع هؤلاء الملوك الجبابرة ولو بشيء من اللطف، أما دانيال الغريب الجنس والمسبي فتحدث معهم بصراحة وجسارة مع اتضاع مواجهًا الملوك بأخطائهم.
يذكر الكتاب المقدس شخصين آخرين يحملان ذات الاسم:
أ. دانيال أو دانيئيل أحد أبناء داود من أبيجايل، وُلد في حبرون (1 أي 3: 1)، ويُدعى كيلاب في (2 صم 3: 3).
ب. كاهن من عائلة إيثامار رجع مع عزرا وناب عن بيت أبيه، وكان من ضمن الذين ختموا العهد في زمن نحميا (عز 8: 2؛ نح 10: 6).
وضع سفر دانيال:
سفر دانيال عند اليهود في النسخة العبرية المعروفة باسم الماسوريتك Masoretic ليس ضمن أسفار الأنبياء، وإنما ضمن الأسفار الحكمية (كتوبيم). وكما سنرى في تفسير الأصحاح التاسع أن البعض يرى أن اليهود قاموا بنقله من الأسفار النبوية إلى الحكمية لأن السفر يُعلن بوضوح ودقة عن موعد مجيء السيد المسيح وصلبه.
· يرى آخرون أن السبب في هذا أن جميع الأنبياء كانوا متفرغين للعمل النبوي، سواء في إسرائيل أو يهوذا أو حتى في أرض السبي. عاشوا وسط الشعب ويتحدثون مع القيادات الدينية أو المدنية أو مع الشعب في شأن توبتهم ورجوعهم إلى الله؛ أما دانيال النبي فقد انفرد بمركزه في القصر يقوم بدور رئيس وزراء لدى ملوك أمميين. كان احتكاكه بالملوك والولاة، ولم يكن له احتكاك بالقيادات اليهودية الدينية أو حتى بالولاة على أرض إسرائيل في أمور دينية، لهذا نظر إليه الشعب كقائدٍ في القصر له دوره الفعَّال.
· غالبًا ما كان الأنبياء يقومون بدور التبكيت على الخطايا على المستوى الشعبي مع القيادات، أما دانيال فلم يكن له هذا الدور.
· يرى البعض من الربيين اليهود[2] أن دانيال لم يعش حياة الألم مثل إرميا وغيره من الأنبياء، وإنما عاش كأمير أو كرئيس وزراء، بينما في الواقع نراه مضطهدًا كغيره من الأنبياء، عاش في نسك شديد، لم يأكل طعامًا شهيًا (10: 3)، وإذ كان تحت روح النبوة صار ضعيفًا ونحيلاً إلى أيام (8: 27). كما تعرض لمؤامرات وقدمت اتهامات ضده ألقته في جب الأسود.
· يقدمون سببًا آخر وهو كتابته في بلد غريب وثني، لكن حزقيال كتب سفره أيضًا في السبي وحُسب مع أسفار الأنبياء.
على أي الأحوال يدعوه يوسيفوس المؤرخ اليهودي أحد "عظماء" الأنبياء.
لمن كتب؟[3]:
بلا شك كان اليهود المسبيون في ذهن دانيال وهو يُسجل هذا السفر، بجانب اليهود المنتشرون في كل موضع. كُتب السفر لنفعهم كما لنفع الأجيال القادمة من اليهود. حتى يترقبوا مجيء المسيا المخلص. وأيضًا كُتب لنا نحن المؤمنين لنفعنا الروحي ولترقب مجيء السيد المسيح الأخير والاستعداد له. ولعل هذا السفر أيضًا كُتب لنفع البابليين أنفسهم.
سماته:
1. يُعتبر سفر دانيال مثل سفر الرؤيا من الأدب الرؤيوي أو "أبوكالبسيس" apocalyptic. هذه الكلمة معناها "إعلان" أو "كشف" أو "رفع الحجاب". هو سفر رؤيوي نبوي أخروي سلوكي روحي، يقدم لنا صورة حية للحياة الإيمانية العملية مع ترقب للحياة الأخرى.
2. هذا السفر في مجمله هو إعلان عن قوة الله وحكمته في ضبط العالم حتى نهاية الأزمنة لتحقيق خطة إلهية. فالسفر لم يُقدم لنا عرضًا لحياة دانيال، ولا لتاريخ إسرائيل أثناء السبي ولا تاريخ السبي البابلي، إنما يُقدم لنا قدرة الله الفائقة في قيادة كل قوى الطبيعة وتاريخ الشعوب وقدرات الملوك لتحقيق خطة إلهية لخلاص شعبه ومؤمنيه، لذلك تكررت كلمة "مملكة" 57 مرة في هذا السفر.
3. في الأصل استخدم سفر دانيال لغتين: الآرامية وهي اللغة التي كان يستخدمها البابليون بكونها لغة دولية، والعبرية التي كان يستخدمها اليهود، بجانب اليونانية في الأصحاحين 13، 14 (تكملة دانيال). وقد استخدم دانيال الآرامية حين كان يوجه حديثه إلى البابليين أو يسجل ما قاله البابليون. لكن حين يوجه الحديث إلى اليهود فيستخدم العبرية. هذا يكشف عن مدى اهتمام دانيال بالدقة، فلم يشأ ترجمة ما كان يتحدث به مع البابليين أو ما نطقوا به.
مع كتابته بأكثر من لغة واحتوائه لتاريخ ونبوات ورؤى جاء السفر يحمل وحدة عجيبة في الهدف وتناغمًا في الفكر. على سبيل المثال يتفق التمثال الوارد في أصحاح 2 مع الوحوش المذكورة في أصحاح 7؛ والنبوات الواردة في الأصحاحات 7-12.
4. استخدم السيد المسيح وتلاميذه ورسله الكثير من الصور والتشبيهات الواردة في سفر دانيال؛ خاصة فيما يتعلق بالأزمنة الأخيرة.
غايته والفكر اللاهوتي في سفر دانيال:
1. كانت مملكتا إسرائيل ويهوذا قد انحرفتا تمامًا نحو العبادة الوثنية، وجاء سبيهما بواسطة أشور وبابل لتأديبهما. لذا يُقدم سفر دانيال درسًا واضحًا، وهو تأكيد أنه يوجد إله واحد في المسكونة كلها، يجب أن يخضع الكل له في ولاء حقيقي، وأنه من الغباء أن يتعبد أحد للأوثان، أو يعتمد على قوي وثنية، أو حكمة وثنية. وإن كان العالم يطلب من المؤمنين عدم الولاء له لكن المؤمنين في شجاعة يرفضون ذلك.
الله هو سيد التاريخ وملك الكون، ليس شيء مخفي عن عينيه، يسبق فيرى أحداث التاريخ كلها، وهو الذي يُوجه الممالك الوثنية مع تقديره للحرية الإنسانية. ليس شيء ما يحدث في العالم مصادفة أو بغير توجيه إلهي. وقد سجل لنا السفر اعتراف ملوك وثنيين عظماء لسلطان الله على كل البشر في كل جيل (2: 47؛ 4: 37؛ 6: 26).
الله هو ملك السماء (4: 37) وإله السماء (2: 44)، إله الآلهة (2: 47؛ 11: 36)، ورب الملوك (2: 47)؛ يعزل ملوكًا ويقيمهم (2: 12). وهو رئيس الجيش الخفي (8: 11). الرب الوحيد المجيد في المسكونة (3: 45)، العظيم والمخوف (9: 4). سُلّطانه إلى جيل فجيل (4: 33).
الله يُعلن لأتقيائه عن حكمته الخفية وقدرته. هو معلن الأسرار (2: 47)، وواهب الحكمة والمعرفة (2: 12).
المخلص (3: 29)، يُقيم مملكته الأبدية في قلوب البشر (7: 27)، حافظ العهد (9: 4). ملكوته يتحدى الزمن (7: 14)، هو إله آبائنا (11: 37).
مقابل هذا يعلن السفر ضعف الآلهة الوثنية وفشلها:
· عجزت عن كشف الحلم للمجوس والسحرة (ص 2).
· عجزت عن حرق الثلاثة فتية في أتون النار (ص 3).
· عجزت عن إنقاذ نبوخذنصر من طرده ليعيش كحيوان البرية يأكل الحشائش (ص 4).
· عجزت عن إثارة الأسود الجائعة لالتهام دانيال النبي (ص 6).
2. يُقدم لنا السيد المسيح بكونه الحجر المقطوع بغير يدٍ (2: 35)، يصير جبلاً يملأ كل الأرض (2: 35).
وهو ابن الله (3: 25)؛ قديم الأيام (7: 9)؛ ابن البشر (7: 3)؛ رب مملكته (7: 14)؛ رئيس الرؤساء (8: 25)؛ الكلي القداسة (9: 24)، المسيا (9: 25). ملكوته جامعي وأبدي (7: 14؛ لو 32:33؛ في 2: 9-11).
ما دام هذا السفر هو سفر عمل الله المستمر في العالم كله وسط التيارات الصعبة، لهذا يظهر السيد المسيح في هذا السفر تحت أشكال كثيرة حسب احتياجاتنا، لمساندتنا وبنياننا. يقول القديس إيرينيؤس: [لا يظهر لمن يروه بشكلٍ واحدٍ ولا بسمةٍ واحدةٍ، إنما حسب أسباب ظهوره والآثار المرجوة من ذلك حسب تدبيره، كما كُتب في دانيال. فقد رآه من هم حول حنانيا وعزريا وميشائيل حاضرًا معهم (مع الفتية الثلاثة) في أتون النار، في الاحتراق، وكما قيل: "منظر الرابع شبيه بابن الله" (دا 3: 25). مرة أخرى ظهر كحجرٍ مقطوع من جبل لا بيدين (دا 2: 45)، يضرب كل الممالك المؤقتة ويزيلها بعيدًا، ويملأ كل الأرض. رآه نفس الشخص ابن الإنسان قادمًا على سحاب السماء، مقتربًا من القديم الأيام، يستلم منه كل سلطان ومجد وملكوت، وقد قيل إن "سُلّطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13-14)[4]].
يظهر الكلمة قبل التجسد في الأصحاح السابع، ويتشبه بالإنسان ليعلن تكريمه للإنسان وبهذا يهيئ للتجسد الإلهي.
تحدث هذا السفر عن مجيء السيد المسيح، محددًا موعدًا لميلاده وأيضًا لصلبه كما تحدث عن مجيئه الثاني وما يسبقه من ضيقة عظيمة يثيرها ضد المسيح؛ وأيضًا عن خدمته على الأرض (9: 20-26)؛ وعن مملكته الروحية (2: 44-45؛ يو 18: 36). يقول القديس جيروم في مقدمة كتابه "تعليقات على دانيال": [أود أن أؤكد في مقدمتي هذه الحقيقة، وهي أنه ليس من الأنبياء من تحدث بخصوص المسيح بوضوح كما فعل دانيال[5]].
3. إذ أشار هذا السفر عن دور السيد المسيح وحدد زمن مجيئه، لهذا استخدم الكلمة العبرية "الوهيهم Elohim" عن الله. ولما كانت "im" تُشير إلى الجمع، فمع تأكيد وحدانية الله، بلاهوت واحد وطبيعة واحدة لكنه ثالوث، لأن المسيا هو الأقنوم الثاني المخلص للبشرية.
كان لقب "ابن الإنسان" الذي ورد في رؤيا دانيال الأولي (7: 13-14) هو اللقب المحبوب لدى السيد المسيح (مت 24: 30؛ 26: 24؛ مر 13: 26؛ مر 14: 62؛ لو 21: 27؛ 22: 96).
4. عالج هذا السفر موضوع "إدانة بر الله لشر الوثنية"، ويُطابق ذلك معنى اسم "دانيال" وهو: "الله ديان".
لقد دان هذا السفر:
* العادات الوثنية (ص 1).
* الفلسفة والحكمة الوثنية (ص 2).
* الكبرياء الوثني (ص 3).
* العبادة الوثنية (ص 4).
* الرجاسات الوثنية (ص 5).
* الاضطهاد الوثني (ص 6).
* الصراعات الوثنية بين الممالك (ص 7-8).
لم يدن دانيال بالهجوم على العالم الوثني، لكن حياته التقوية غلبت الشر وأدانته. كذلك بتفسيره الرؤى والأحلام أعلن أن الله يُدين الممالك الوثنية بظهور المسيَّا ليملك روحيًا على القلوب.
5. أوضح هذا السفر أن رجال الله المطيعين لوصيته يتمتعون بالآتي:
أ. النجاح في العالم (1: 9، 20؛ 2: 48-49).
ب. معرفة الأسرار الإلهية (2: 19، 22، 47).
ج. التعزية بحضرة الله وسط الضيق (3: 25).
د. الشهادة ضد الشر (4: 30-37).
إنهم يحتملون الآلام بصبر وفي ولاء لله، وذلك خلال قداسة حياتهم ونقاوة قلوبهم.
غايته أن يُعلن لنا عن السيد المسيح أنه ذاك الذي على صورته نتشكل، والذي في ملكوته نضيء كضياء الجلد[6].
6. كثيرًا ما يُهاجم العالم العدالة الإلهية، لكن التاريخ يكشف على المدى البعيد عدله وحكمته الفائقة. الله هو سيد التاريخ، يستخدم حتى المقاومين له لتحقيق أغراضه الإلهية المقدسة.
7. من جهة الكنيسة: بينما كان دانيال في السبي إذا بالله يعلن له عن اهتمامه الخاص بالكنيسة ورعايته لها:
أ. إن كان قد سمح لشعبه بالسبي لمدة 70 عامًا، فإنه يجب أن ينتظر سبعة في سبعين من السنوات ليرى عودته من سبي الخطية بمجيء المسيا. لم يكن هذا السبي الزمني إلاَّ لاكتشاف سبي أخطر يمس أبدية الإنسان، فيشتهي عودة أعظم بخلاص الله الأكيد.
ب. إذ كان البعض يسخرون بالمؤمنين الذين صدقوا العودة بعد 70 عامًا من السبي، جاءت الرؤى تؤكد أن أحزانًا كثيرة تنتظر الكنيسة قبل مجيء المسيَّا وبعده عبر الأجيال، حتى يتهيأ كل مؤمن لملكوت المسيح السماوي.
لقد أوضح السفر بقوة أن الله ضابط التاريخ، حتى في لحظات تأديب المؤمنين، إذ يسمح بهذا بهدف أبدي. ليس شيء يحدث مصادفة، لكن الله يرعى كنيسته ليدخل بها إلى الأمجاد السماوية.
ج. يصف السفر مجيء المسيا وما يتبع هذا من إبطال حرف الناموس وظلاله، إذ يحل ويتمتع المؤمنون بالروح.
د. من جهة العالم، قد يظن بعض الجبابرة أنهم بقوتهم وجبروتهم يُسيطرون على التاريخ، فيقاومون الله ويضطهدون شعبه، لكن الله يقيل ملوكًا من عروشهم في الوقت المناسب. لقد تنبأ عن كنيسة العهد الجديد كمملكة روحية أبدية، تسحق ممالك العالم بمسيحها، الحجر المقطوع بغير يدين، الذي يملأ الأرض كلها. هكذا رفع الله فكر دانيال ليدرك أن الكنيسة لا ترتبط بشعبٍ معينٍ، بل تحتضن كل الشعوب، بل تحتضن العالم كله، لتقدمه لمسيحها في مجيئه الثاني كواكب مجيدة.
تكشف النظرة السريعة للأحداث عن سلطان الشر في العالم، لكن إذ تنفتح البصيرة ندرك أن قوى الشر تزول حتمًا لتُعلن مملكة الله الأبدبة.
8. الملائكة: تعامل دانيال مع كثيرين من الملائكة، خاصة رئيس الملائكة جبرائيل والذي ذكر اسمه لأول مرة في الكتاب المقدس. يظهر في هذا السفر أن ألوف ألوف الملائكة تخدم الله، وتقف بين يديه ربوات ربوات (7: 10). الملائكة أرواح خادمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص. فنرى ابن الإنسان يطلب من رئيس الملائكة جبرائيل أن يشرح الرؤى للنبي.
الكشف عن العالم السمائي فيما وراء الطبيعة المادية، جعل بعض النقاد المتحررين الذين لا يؤمنون بالأرواح يزعمون أن ما وصفه دانيال في سفره ما هو إلاَّ انعكاس للأفكار اليهودية التي كثرت في فترة ما بعد السبي بكثرة. وقد زعموا أن هذه الأفكار لم تكن بهذا الوضوح في بقية أسفار العهد القديم الأخرى والأقدام!
يُرد على ذلك أن لكل سفر طبيعته الخاصة من حيث مضمونه وظروف وزمن كتابته. كُتب سفر دانيال في الأيام الأخيرة للعهد القديم وكان من الطبيعي أن يتكلم عن الأخرويات والعالم السماوي، مثله في ذلك سفر الرؤيا الذي هو آخر أسفار العهد الجديد والذي ركز على عمل المسيح في السماء والعالم الملائكي والأخرويات. كما أن سفر دانيال كتب في ظل السبي البابلي وفي ظروف عانى فيها الشعب من الشتات والغربة والعيش في ظل عبودية لا يُماثلها في تاريخهم القديم سوى العبودية في مصر، ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف يكشف الله عن العالم الملائكي الأفضل وقدرته غير العادية وعمله لصالح شعبه واقتراب موعد المسيا الفادي، ابن داود الذي سيجلس على كرسيه إلى الأبد، ليعلن عن سموه الفائق وأنه هو رب السموات والأرض وخالق الكون، وأنه لم يُهزم كما تصور الوثنيون كما أنه لن يتركهم إلى الأبد.
الملائكة أو الكائنات السمائية مذكورون في كل أسفار الكتاب المقدس بعهديه، لكن الحديث عنهم بصورة رؤيوية أخروية في سفر دانيال في العهد القديم وسفر الرؤيا في العهد الجديد، جاء بسبب طبيعة السفرين ونوع الوحي فيهما؛ إذ يتحدثان عن الأيام الأخيرة بصفة أساسية.
9. القيامة: تظهر فكرة قيامة الأجساد بوضوح (12: 2) والدينونة العامة للأبرار والأشرار.
بخصوص عقيدة القيامة من الأموات يعترض بعض النقاد الماديين ويقولون إن هذه العقيدة لم تكن معروفة في القرن السادس ق.م. ويعتبرون ذلك دليلاً على كتابة السفر متأخرًا في عصر المكابيين، وقد فات هؤلاء النقاد أن العهد القديم يتكلم من قبل دانيال النبي بعدة قرون عن إمكانية قيامة الموتى من خلال بعض الأشخاص الذين أقامهم الله بواسطة الأنبياء مثل إقامة إيليا النبي لابن أرملة صرفة صيدا (1 مل 17: 20-21)، والذي صلى أن يرجع نفس الولد إليه، ويقول الكاتب: "فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش"، وكذلك إقامة اليشع النبي لابن المرأة الشونمية (2 مل 4: 32-39). وفوق الكل قول الله لموسى إنه "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" مما يدل على أن هؤلاء البطاركة، كما قال السيد المسيح، أحياء عند الله بأرواحهم.
يؤكد الكاتب المقدس حقيقة وجود الروح بعد موت الجسد وفنائه إذ يقول أيوب "وبد أن يفنى جلدي وبدون جسدي أرى الله" (أي 19: 26)، أما عن القيامة من الموت يقول إشعياء النبي "تحيا أمواتك تقوم الجثث، استيقظوا ترنموا يا سكن التراب" (إش 26: 9)، ويقول هوشع النبي "من الهاوية أفديهم من الموت أخلصهم. أين آباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية" (هو 13: 14)، وفي رؤيا حزقيال النبي يُقدم الصورة التالية للقيامة من الأموات: "وكانت عليّ يد الرب فأخرجني... وأنزلني في البقعة وهي ملآنة عظامًا... فقال ليّ تنبأ على هذه العظام... فتنبأت كما أُمرت... وإذا رعش فتقاربت العظام... وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليه... فدخل فيها الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا" (حز 37: 1-10)[7].
10. المعرفة الإلهية: يُعرف هذا السفر بسفر المعرفة الإلهية. فقد تحدى دانيال بهذه المعرفة كل حكمة الكلدانيين والسحرة والمجوس هذه التي تدربوا عليها خلال الدراسة وحدها. أما معرفة دانيال فهي هبة إلهية تُعطي للنفوس النقية المجاهدة، التي تلتحق بالإيمان العلمي الحيّ في مدرسة الألم... حتى في يوم الرب العظيم يمجد الله أصحاب المعرفة: "الفاهمون يضيئون كضياء الجلد" (12: 3). يعدنا الله بالمعرفة المتزايدة، "والمعرفة تزداد" (12: 4).
شخصية دانيال:
في افتتاحية هذه المقدمة تحدثنا عن دانيال بكونه النبي المنشغل بالإدارة دون مزجٍ بينها وبين العمل الروحي، والرائي المحبوب الذي يكشف له الله عن أسراره، وأب التاريخ الأممي، ونبي الأحلام والرؤى، والآن أود أن أُقد خطوط عريضة لهذه الشخصية التقية التي نكتشفها بأكثر وضوح خلال دراستنا للسفر:
1. يتحدى دانيال المذلة والصعوبات، ولا ينحني للترف والتدليل. لقد عاش في وسط القصر كرجل آلام من أجل أمانته لله ولخلاص اخوته، لهذا لم تكن السماء ببعيدة عنه. إذ هي قريبة من الذين يتأملون فيها ويتألمون لأجلها.
2. آمن أن كل سلطة هي ن يد الله، وأن الله يُحرك التاريخ كله، وهو يهب النصرات ويسمح بالهزائم.
3. دانيال رجل الدولة القائم بمهام رئيس الوزراء هو نفسه القائم باعمال الله في آن واحد. لم يتغير وهو في الجب بين الأسود عنه وهو في القصر يخضع له كل رجال الدولة.
يُمثل دانيال النبي صورة حيَّة للمؤمن الحقيقي، الذي يعمل في سن الشيخوخة بذات الروح التي كان يعمل بها وهو شاب. يعمل وهو رئيس عام لإدارة أعظم مملكة في ذلك الحين بذات الروح التي كان يعمل بها وهو خادم في القصر كمبتدئ.
لم يعتز دانيال باللقب البابلي الذي أعطاه إياه الملك والذي كان له كرامته في كل الدولة إنما استخدم اسمه العبراني في كل السفر علامة اعتزازه بعلاقته بشعبه المسبي.
اتسم بالذكاء المُفرط منذ صباه وقدراته الموهوبة، وقد أعطاه الله نعمة ليحتل مركزًا مرموقًا في القصر أثناء فترة السبي ليكون شاهدًا أمينًا لله في معقل الوثنية في ذلك الحين. لقد تشبه بيوسف الذي أقامه الله في بدء تاريخ الشعب كرجل ثانٍ في قصر فرعون ليشهد بأمانته لإلهه، بينما أُقيم دانيال في القصر البابلي في أواخر عهد هذا الشعب ليقوم بذات الدور.
4. كان دانيال أمينًا في حياته الخاصة وفي عبادته كما في عمله ليومي.
فمن جهة حياته الخاصة كان حازمًا مع نفسه في تحقيق هدفه: "فجعل في قلبه أنه لا يتنجس بأطياب الملك ولا بخمر مشربه" (1: 8). كان أمينًا كقديس (ص 1)، وشجاعًا بلا خوف كحكيم (2: 4-5). كان وديعًا متضعًا للغاية يعترف دومًا بخطاياه أمام الله وأمام نفسه، جريئًا وشجاعًا لا يهاب أباطرة أو وُلاة. بوداعة غلب الأسود، وبحكمته كسب الكثيرين.
ومن جهة عبادته فكان حارًا بالروح في صلواته وتضرعاته التي قدمها بالصوم والمسح والروماد (9: 3). يقدمه القديس باسيليوس الكبير كمثالٍ عملي للمثابرة في حياة الصلا، إذ يقول: [كيف استحق أن أكون في صحبة دانيال إن لم اطلب الله بمثابر دائمة وبابتهال مملوء غيرة؟[8]].
ومن جهة عمله اليومي، كرجل دولة لم يكن متآمرًا ولا وصوليًا بل رجل الله الحكيم. بلا شك كانت له ضعفاته لكنه يُحسب بلا لوم، لم يستطيع ألدّ أعدائه أن ينطقوا بكلمة ضده، ولم يذكر الكتاب المقدس عنه خطأ معينًا. "ثم إن الوزراء والمرازبة كانوا يطلبون علة يجدونها على دانيال من جهة المملكة فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنبًا لأنه كان أمينًا، ولم يُجد فيه خطأ ولا ذنب" (6: 4). كما قال للملك: "لأنيّ وُجدت بريئًا قدامه وقدامك أيضًا أيها الملك لم أفعل ذنبًا" (6: 22).
دانيال الذي كرمه أهل الأرض فصار رجل دولة بيده أسرار ممالك تسيطر على العالم، جعله الله سفيره وقدم له أسراره الإلهية وكشف له عن تاريخ دقيق لنهاية العالم.
في تعليق القديس هيبوليتس الروماني على سفر دانيال دعاه الطوباي والقديس والبار والشاهد للمسيح، فمن كلماته عنه:
[إننيّ أُباشر حمل الشهادة لذلك الرجل القديس والبار، النبي والشاهد للمسيح، الذي ليس فقط أعلن عن رؤى نبوخذنصر الملك في تلك الأيام، وإنما أيضًا درب بنفسه الفتية الذين لهم فكر مشابه لفكره، مُقيمًا شهودًا أمناء في العالم[9]].
كان شاهدًا أمينًا لله، ترك أثرًا عميقًا في حياة الملك الوثني الذي انجذب إلى الله وأعلن إيمانه به، قال عنه نبوخذنصر: "إنيّ أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين ولا يعسر عليك سر" (4: 9)، وقال له بيلشاصر آخر ملوك بابل: "قد سمعت عنك أن فيك روح الآلهة وأن فيك نيرة وفطنة وحكمة فاضلة" (5: 14). قيل أيضًا عنه: "فيه روح فاضلة، وكان أمينًا ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب" (6: 3-4). وذكر في سفر حزقيال كأحد الأبرار الثلاثة: "نوح ودانيال وأيوب" (حز 14: 14). وعندما وبخ الله ملك صور قال: "ها أنت أحكم من دانيال، سرّ ما لا يخفي عليك" (حز 28: 3).
5. لم يُعطَ لدانيال أن يفهم كل ما قدمه الله له من رؤى، "لأن الأقوال مخفية ومختومة إلى وقت النهاية" (12: 9)، ويقول الرب: "أما أنت فأذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك في نهاية الأيام" (12: 13). وقدر ما تقترب النهاية يلزمنا أن نتيقظ لندرك بعض أسرار سفر دانيال.
6. إذ نعيش كدانيال ورفقائه نستعد للدخول مع مسيحنا في مجده يوم ظهوره: "وتكونون حيث أكون أنا".
سفر دانيال ورؤيا يوحنا:
· يُدعى سفر دانيال: "رؤيا العهد القديم، بينما يُدعى رؤيا يوحنا "رؤيا العهد الجديد".
· كما رافق ملاك - غالبًا رئيس الملائكة جبرائيل - دانيال النبي ليفسر له أكثر الرؤى (7: 16؛ 8: 16؛ 9: 22)، هكذا كثيرًا ما رافق ملاك يوحنا الحبيب ليُمارس نفس العمل.
· استخدم سفر الرؤيا لقب "ابن الإنسان" عن السيد المسيح (1: 13؛ 14: 14) اللقب الذي ورد في دانيال (7: 13-14).
· دُعي دانيال بواسطة الملاك "الرجل المحبوب" ثلاث مرات (9: 23؛ 10: 11، 19). ودُعي القديس يوحنا الحبيب "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" خمس مرات (يو 11: 23؛ 19: 26؛ 20: 2؛ 21: 7، 20).
· كتب دانيال السفر وهو أسير في بابل، وكتب القديس يوحنا رؤياه وهو في الأسر في جزيرة بطمس (رؤ 1: 9).
· سفر دانيال هو السفر الخاص بغلبة مملكة المسيح على الإمبراطوريات الأربع كما هو سفر أخروي، وسفر الرؤيا هو سفر الكنيسة المتألمة في العالم والمنتصرة التي تترقب مجيء مسيحها... وهو أيضًا سفر أخروي.
· يكشف السفران عن ختوم يفتحها الرب ليعلن أسراره لخائفيه... لكن تبقى بعض الأسرار مختومة (رؤ 5؛ 10: 4؛ 22: 4؛ دا 12: 4).
· وصف القديس يوحنا في رؤيا شخص السيد المسيح بأن رأسه وشعره أبيضان... (1: 14) بنفس الوصف الذي قدمه دانيال النبي (7: 9).
· تشابه السفران في وصفهما للعرش الإلهي وحوله ربوات ربوات وألوف ألوف من الملائكة (7: 9-10؛ رؤ 4: 2، 9؛ 5: 11).
· أدان الله في دانيال بيلشاصر (5: 22-23) بنفس السبب الذي به أدان البعض في سفر الرؤيا (9: 20).
· رأى القديس يوحنا رجلاً واقفًا على البحر يرفع يده إلى السماء ويقسم بالحيّ إلى أبد الآبدين (رؤ 10: 5-6)، وهو ذات المنظر الذي رآه دانيال (12: 7).
· تحدث كل من السفرين عن مدة الزمان والزمانين والنصف زمان (ثلاث سنوات ونصف أو 1260 يومًا). (رؤ 11: 3، 12: 6؛ دا 7: 25؛ 12: 7).
· تصوير إبليس بتنين ذنبه يجر ثلث نجوم السماء ويطرحها إلى الأرض (12: 4) يشبه ما ورد في دانيال (8: 10).
· حديث السفرين عن ضد المسيح متطابق.
· وصف السفرين ليوم الدينونة وفتح الأسفار متشابه (رؤ 20: 12؛ دا 7: 10).
دانيال بين الأنبياء الكبار:
1. تهتم أسفار الأنبياء الكبار (إشعياء، حزقيال، إرميا، دانيال) بالكشف عن شخص الملك، بينما أسفار الأنبياء الصغار (الإثنا عشر) فتهتم بالكشف عن الملكوت، وإن كان يصعب فصل المسيَّا الملك عن مملكته أو عن كنيسته التي هي جسده.
2. مارس اثنان من الأنبياء الكبار خدمتهما النبوية في أرض الموعد، هما إشعياء الرجل الأرستقراطي، وإرميا الكاهن الريفي المتوقف عن العمل الكهنوتي. ومارس الاثنان خدمتهما في أرض السبي، أحدهما وسط الشعب على ضفاف نهر خابور (حزقيال) وهو كاهن متوقف عن عمله والآخر في بلاط بابل رجل الدولة. يرى يوسيفوس المؤرخ أن والديه شريفان من أصل ملوكي. هكذا تجري كلمة الله إلى كل إنسانٍ أينما وجد، وفي كل الأوساط.
لقد قدم الأنبياء الكبار صورة حيَّة متكاملة عن شخصية الملك الروحي الذي يُقيم مملكته وسط البشرية.
فإشعياء عاش في أيام ازدهار يهوذا، لذا رفع قلوبنا إلى العرش الإلهي لنرى أن سرّ ازدهارنا الحقيقي هو الشركة في الأمجاد السماوية خلال النعمة الإلهية.
وعاصر إرميا أواخر ملوك يهوذا حيث امتلأ كأس الشر، فجاء يُعلن كراهية الله للخطية، مُؤكدًا تسليم الله شعبه ومدينته وهيله للأعداء من أجل التأديب.
وخدم حزقيال مجموعة من المسبيين في بابل الذين لم يتأدبوا بالرغم من قساوة الغربة وحرمانهم من خدمة الهيكل. وقد حُرم هو نفسه ككاهن من هذا العمل، لذا دخل به الرب إلى الهيكل العهد الجديد ليرى مجد بيت الرب، لا في حرف الناموس الموسوي وإنما في نزول المسيا إلى العالم ليُقيم هيكلاً جديدًا بإمكانيات إلهية فائقة.
أما دانيال فخدم في قصر بابل حيث أعظم دولة في ذلك الحين، وبات الأمر كما بلا رجاء في عودة الشعب إلى وطنه وإلى هيكل الله المقدس والذبيحة، لذا جاءت نبوته تتحدث عن مملكة الله الروحية المستمرة بالرغم من مقاومة الأمم (بابل، مادي وفارس، اليونان، الرومان). هذه المقاومة لن تتوقف حتى يأتي ضد المسيح الذي يظن أنه قادر على نزع مملكة المسيَّا تمامًا، فإذا به ينهار ويملك الرب مع قديسيه في السموات أبديًا.
|
إشعياء |
إرميا |
حزقيال |
دانيال |
تاريخ الكتابة |
أثناء مجد يهوذا |
آخر أيام يهوذا |
بين المسبيين |
في قصور الملوك |
موضوع الإعلان |
مجد الله |
مقومة الله للخطية |
* شخص الله * يعلن عن ذاته * يخدم الإنسان |
الله ضابط التاريخ كل الأمم بين يديه |
محتوياته:
جاء السفر يحمل اتجاهًا تاريخيًا نبويًا بخصوص العالم الأممي من عصر نبوخذنصر حتى مجيء ضد المسيح وإلى نهاية العالم[10].
ينقسم السفر إلى قسم تاريخي لا يخلو من رؤى ونبوات، وقسم نبوي رؤيوي لا يخلو من جوانب تاريخية.
أولاً: القسم التاريخي (ليلة تاريخية) (ص 1-6).
يُمثل هذا القسم ليلة تاريخية مظلمة بالفساد مع العنف، خلالها تقوم إمبراطورية على أنقاض إمبراطورية، والكل يقاوم عمل الله، لكن الله الذي يسمح للشر أن يتسلط إلى حين يُدينه بكل وسيلة من أجل القلة المختارة. وقد جاءت هذه الاصحاحات التاريخية تُدينه.
1. نسك دانيال يُدين الترف الوثني (ص 1).
الفتيان المؤمنون وأطايب الملك.
2. حكمة دانيال السماوية تُدين حكمة العالم (ص 2).
تمثال نبوخذنصر العظيم.
3. شجاعة الفتية المسبيين تُدين نار الظلم (ص 3).
الثلاثة فتية في أتون النار.
4. عفة نفس دانيال تُدين إمكانيات نبوخذنصر (ص 4).
تأديب نبوخذنصر المتكبر.
5. نقاوة دانيال تُدين دنس بيلشاصر (ص 5).
بيلشاصر والكتابة الخفية.
6. أمانة دانيال تُدين الظلم (ص 6).
دانيال في جب الأسود.
ثانيًا: القسم النبوي الرؤيوي (نهار نبوي) (ص 7-12).
يحمل هذا القسم رؤى نبوات مشرقة تبعث الرجاء وسط الضيق والألم، حتى يجتاز المؤمنون العالم إلى شركة المجد السماوي.
قدمت نبوات زمنية هامة تحدد ميلاد السيد المسيح، وتاريخ صلبه، وأيضًا أحداث انقضاء الدهر[11]. فكما تحدث عن تأسيس مملكة السيد المسيح أوضح مقاومة عدو الخير لها، خاصة في الأيام الأخيرة بظهور ضد المسيح. كما تنبأ عن مجيء السيد المسيح الثاني ومجد القديسين الأبدي ودينونة الأشرار. ويُضيف إليها البعض خراب الهيكل على يد تيطس الروماني. هذا بجانب النبوات الخاصة بتاريخ اليهود والإمبراطوريات الأربع، أي البابلية والفارسية (مادي وفارس) واليونانية والرومانية في شيء من التفصيل. لقد دُعي "نبي الأزمنة الأخيرة"، الذي وهبه الله أن ينطلق قلبه لا ليرى أحداث العالم المقبلة فحسب بل يعبر إلى ما وراء التاريخ ليتأمل الأبدية. بهذا تحقق القول الإلهي "سّر الله لخائفيه".
7. الوحوش الأربعة والقرن الصغير.
8. الكبش والتيس.
9. سبعون أسبوعًا.
10. رؤية مجد الله.
11. نبوات عن فارس والمملكة اليونانية ونهاية العالم.
12. الضيقة العظيمة والقيامة.
ثالثًا: تتمة دانيال (الفصلان 13، 14 من الأسفار القانونية الثانية).
يمكن أيضًا تقسيم السفر إلى إربعة أجزاء:
1. لمحة عن شخصية دانيال [ص 1].
2. رؤى الملوك يفسرها دانيال
* نبوخذنصر [ص 2-4].
* بيلشاصر [ص 5].
* داريوس [ص 6].
3. رؤى دانيال يفسرها الملاك [ص 7-12].
4. تتمة دانيال [ص 13-14] (الأسفار القانونية الثانية). نترك الحديث عنها إلى حين الحديث عن الأسفار القانوية الثانية.
دانيال وعلم الآثار[12]:
1. يقول روبرت بويد Robert T. Boyd أنه يوجد اكتشاف هام جدًا في بابل خاص بخرائب لكلية ومكتبة وبرنامج دراسي لتدريب رؤساء مواطنين على تفسير الأحلام والرؤى. جاء أحد السجلات:
أ. يُلقى الجاحدون لأحد الآلهة أحياء في أتونٍ ناري.
ب. يُلقى من يُمارس عملاً ضد الملك حيًا في جب أسود.
2. اُكتشفت سجلات جاء فيها أنه من عادة نبوخذنصر ليس فقط في بابل بل وفي أور الكلدانيين أن يأمر بعبادة التماثيل الضخمة.
3. وُجد أيضًا في الحفريات الأتون وقد نُقش عليه: "هنا موضع حرق من يجدفون على آلهة الكلدانيين، يموتون بالنار".
4. جاء في سفر دانيال أن بيلشاصر هو آخر ملوك بابل (ص 5)، بينما وجد لوح من الطين جاء فيه أن نابونيدس Nabonidus كان آخر ملوك بابل وقد سمح له الفارسيون أن يعيش متقاعدًا. وقد ظن النقَّاد أن وجود تعارض بين الكتاب المقدس والتاريخ، لكن بالبحث بين مئات الألواح الطينية عُرف أن نابونيدس له ابن يُدعى بيلشاصر وقد عينه ليملك موضعه في حياته. كانت هذه العادة منتشرة في تلك الأيام. فعند اقتحام فارس بابل كان نابونيدس في أحد قصوره بعيدًا عن بابل بينما سقط بيلشاصر في أيديهم. ومما يؤكد ذلك قول الملك لدانيال: "وتتسلط ثالثًا في المملكة" (5: 16)، أي الرجل الثالث بعد نابونيدس وبيلشاصر. هذا يؤكد دقة ما ورد في سفر دانيال.
5. وُجدت آثار لجب الأسود الذي أُلقي فيه دانيال، وعليه النقش التالي: "الموضع الذي يموت فيه من يُغضب الملك، حيث تمزقه الوحوش المفترسة".
6. أظهرت الحفريات أنه كان لحائط القصر طلية رقيقة من الجص المدهون، وبفضل لون الكلس الأبيض كان أي شيء داكن يتحرك عليه يُشاهد بكل جلاء. هذا يُطابق ما ورد في (دا 5: 5) "ظهرت أصابع يد إنسانٍ وكتبت بازاء النبراس على مكلس حائط قصر الملك"[13].
مناهج التفسير:
توجد مناهج كثيرة لتفسير نبوات دانيال والرؤى الواردة فيه، منها:
1. التفسير الآبائي، الذي ساد آباء الكنيسة الأولى. يرى أن تمثال الذهب (ص 2) يُشير إلى الأربع ممالك "بابل؛ مادي وفارس؛ اليونان؛ الرومان". في المملكة الأخيرة يختلط الحديد بالخزف إشارة إلى اختلاط أممٍ غالبة مع قوة روما الوثنية. وجاءت رؤيا الوحوش الأربعة (ص 7) مطابقة لذلك. وإن العشرة قرون الواردة في هذه الرؤيا إما عشرة ملوك أفراد، أو عشر أقسام للملكة الرومانية.
2. التفسير "ضد البابوية"، وكما يدعوة البعض "النظام البروتستانتي Protestant System ، وهو يفترض أن دانيال النبي والقديس يوحنا سبق فتنبأ عن السلطان البابوي[14]. أتباع ضد البابوية الحديثون يُعالجون موضوع "القرن الصغير" بكونه البابا الروماني[15]. يرى الأستاذ Bush في عمله "Hierophant" أن "القرن الصغير" هو دون شك السلطة الكنيسة البابوية[16] وأن الغوصيين وشرلمان قد قاموا بتحقيق دورهم في هذه الرؤيا الهامة. وقد رفض كثير من اخوتنا البروتستانت هذا التفسير مثل كلفن Calvin.
3. التفسير المستقبلي: يرون في دانيال نبوات ستحقق في المستقبل.
سفر دانيال والنقاد[17]
سفر دانيال وبورفيري Porphyry (فروفيريوس Porphyrius):
لم يوجد عبر كل القرون صوت واحد حتى القرن السابع عشر ينكر نسبة هذا السفر لدانيال النبي سوى صوت بورفيري Porphyry وهو فيلسوف يوناني أفلاطوني حديث غير مسيحي عاش في القرن الثالث (233-304م). وقد ردّ عليه القديس جيروم وميثوديوس وغيرهما.
ولد بورفيرى في صور بسوريا، وتتلمذ على يدي لونجينوس Longinus في أثينا، ثم ذهب إلى روما وهناك تتلمذ على أفلوطين فليسوف الأفلاطونية الجديدة الشهير وتعلم أفكاره، واهتم بالبحث التاريخي والفلسفي. وفي دفاعه عن تعدد الآلهة polytheism والأديان المحلية وعبادة الآلهة الشهيرة وجد هو وأتباعه من الافلاطونيين الجدد أن عدوهم الأعظم هو المسيحية والمسيحيين. ذهب إلى سيسليا Sicily وأقام هناك إلى فترة قصيرة (268-271) لأغراض صحية، ثم عاد إلى روما بعد موت أفلوطين (حوالي 270م) وتعهد مدرسته إلى يوم موته[18]. تصور أنه قادر على استئصال المسيحية من جذورها. وفي محاولته هذه كتب 15 مجلدًا بعنوان "ضد المسيحيين Against the Christians"، ركز فيها هجومه على أسفار الكتاب المقدس ككل ومن ضمنها سفر دانيال النبي. وقام يوسابيوس القيصري بتفنيد ما ورد في كتاباته في 25 كتابًا، وللأسف فُقدت هذه الكتب. أشار إليها القديس جيروم[19] وسقراط[20]، وفيلوستورجيوس[21] Philostorgius.
هاجم بورفيري هذا السفر بعنفٍ، لأنه لا يؤمن بالوحي الإلهي ولا بالنبوات أو المعجزات. جاء السفر يتنبأ في شيء من التفصيل عن ممالك وملوك حدد بعضهم بالاسم. تنبأ عن الفرس الذين لم يكن أحد في عصره يمكن أن يتخيل نصرتهم على دولة بابل العظيمة، كما تنبأ عن اليونانيين الذين لم يكن لهم وزن سياسي في ذلك الحين، وأيضًا عن شخصية الإسكندر الأكبر قبل مجيئه بحوالي 225 عامًا الذي لما جاء إلى أورشليم ثائرًا على اليهود قدم له رئيس الكهنة نبوات دانيال عن نصراته فذُهل وسجد إلى الأرض أمام الله. ومما أثار الفيلسوف الملحد تحديد دانيال الدقيق لموعد التجسد الإلهي وأيضًا التنبوء عن زمن الخراب والضيقة العظيمة وظهور المسيح وقيامة الأبرار والدينونة.
في القرن السابع عشر تغيرت الفكرة بظهور حركة الربوبية Deism الإنجليزية، التي دعت إلي الإيمان بدينٍ طبيعي مبني على العقل وحده، فقبلت وجود الله لكنها رفضت الإيمان المسيحي كما رفضت الكتاب المقدس كإعلان عن الله. منذ ذلك الحين إلى الوقت الحاضر يرفض بعض الدارسين المتحررين نسبة السفر إلى دانيال النبي في القرن السادس قبل الميلاد، ويحسبونه من وضع القرن الثاني قبل الميلاد في فترة المكابيين (168-164 ق.م)، غالبًا ما حددوا عصر أنطيخوس الرابع أو "أبيفانوس" Antiochus Epiphanes (175-163 ق.م).
وكما يقول[22] Glean L. Archer:
[ربما باستثناء إشعياء لا يوجد في العهد القديم من يحمل تحديًا صارخًا للعقلانيين rationalists (الذين يعتمدون على العقل وحده مع رفض فكرة الوحي الإلهي) مثل دانيال. فيحوي سفره ليس فقط نبوات على مدى قريب مثل السبع سنوات لجنون نبوخذنصر (أصحاح 4)، وسقوط بابل السريع أمام المحاربين من فارس ومادي (أصحاح 5)، بل ونبوات بعيدة المدى مثل التنبؤ عن الممالك الأربع المتعاقبة (أصحاح 2)، مع دقة الإتقان في هذا التعاقب، وتأكيد الأزمنة الأخيرة (الأصحاحان 7-8، والاهتمام بوجه الخصوص على المملكة الثالثة)، والتنبؤ عن مجيء المسيح الأول، وبنية السبعين أسبوعًا (أصحاح 9)، ثم تقديم عرضٍ مفصلٍ عن الصراع بين إمبراطوريتي السلوقيين والبطالسة وسيرة القرنين الصغيرين (أصحاح 11)].
اعتمد النقاد المتحررون على الأسانيد التالية:
أولاً: أهم أسباب شكهم النبوات الواردة في السفر بخصوص قيام إمبراطوريات متتالية دقيقة وعجيبة. فما أعلنه دانيال عن المستقبل كان يُسجله كمن يعيش فيه ويُسجل تاريخًا كأنه حدث فعلاً. فقد تنبأ في شيء من التفصيل عن الأحداث خلال الثلاثة قرون السابقة لميلاد السيد المسيح التي نتحدث عنها في صُلب التفسير. ولما جاءت هذه النبوات بدقة، تطابق ما كتبه المؤرخون المعاصرون للأحداث ومن بعدهم مثل هيرودت، الأمر الذي دفع هؤلاء النقاد المتحررون أن يدَّعوا بأن السفر قد سُجل بعد قيام هذه الإمبراطوريات على أنها نبوات سابقة منسوبة لدانيال. كما هاجموا السفر بكل عنفٍ. في الواقع يرفض هؤلاء الذين يدعون "متحررين" الكتاب المقدس، بل والله ككائن ضابط للكل، في قبضته أحداث التاريخ. بهذا الفكر حاول النقاد المتحررون أن ينتزعوا عن كلمة الله قدسيتها وإمكانياتها بكونها كلمة إلهية كاشفة للمستقبل.
هذا السبب استخدمه بورفيري Porphyry الذي هاجم المسيحية كما هاجم اليهودية والكتاب المقدس بعهديه. وكما يقول القديس جيروم: [إنه إذ رأى دقة ما كتبه دانيال النبي وقد تحقق عبر التاريخ، الأمر الذي لا يستطيع أن ينكره، لجأ إلى الادعاء بأن السفر كُتب كسجلٍ تاريخي بعد أن تمت الأحداث؛ فجاء هجوم بورفيري يؤكد دقة دانيال[23]].
أما عن تقديم نبوات تاريخية مفصلة، فهذا ليس بغريبٍ عن الكتاب المقدس، فقد تنبأ إبراهيم عن أمورٍ تمت أحداثها خلال خمسة قرون، إذ يقول له الله: "اعلم يقينًا أن نسلك سيكون غريبًا في أرض ليست لهم ويُستعبدون لهم؛ فيذلونهم أربعمائة سنة. ثم الأمة التي يُستعبدون لها أنا أُدينها؛ وبعد ذلك يخرجون بأملاكٍ جزيلةٍ... وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا، لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً" (تك 15: 13-16). لقد حمل هذا النص نبوات دقيقة:
· ولادة إسحق ابن الموعد، إذ يكون لإبراهيم نسل يُستعبد في مصر لمدة حوالي 400 عامًا.
· في خروجهم يحملون معهم الكثير.
· يُدين الله الأمة التي استعبدتهم، حيث غرق فرعون وجنوده في بحر سوف.
· عودتهم إلى كنعان تحت قيادة موسى ويشوع من بعده.
· هزيمة الأموريين أمامهم.
تحققت هذه الأحداث بكاملها خلال خمسة قرون بعد النبوة.
أما عن سبب تقديم دانيال تفاصيل أكثر من غيره من الأنبياء فهذا أمر طبيعي إذ اقترب عصر السيد المسيح. فالوعد الذي أخذه أبونا آدم وحواء كان يبدو غامضًا (تك 5:3)، وجاء بأكثر تفصيل في عصر الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب حيث وُعد إبراهيم: "بنسلك تتبارك جميع أمم الأرض" (تك 12: 3؛ 18: 18؛ 22: 18؛ 26: 4). ازداد الوضوح في عهد داود النبي (حوالي 1000 ق.م) حيث نسمع عن المسيا القادم كملك يقاومه الرؤساء، كما يكشف المرتل عن بعض أحداث الصلب (مز 22)، وبعد حوالي ثلاثة قرون يُحدثنا إشعياء النبي عن ميلاد السيد المسيح من عذراء (إش 9: 6-7) ويتحدث عن الصلب كمن يُعاصره (إش 53)، جاء دانيال ليحدد لنا موعد مجيئه وما يسبقه من صراعات بين الممالك العظيمة الخ. إذن ما جاء في دانيال ينسجم تمامًا مع روح الكتاب المقدس ووحدته.
ثانيًا: المعجزات الواردة في السفر مثل خلاص الثلاثة فتية في أتون النار ودانيال في جب الأسود الخ. وليست إذ يرفض هؤلاء النقاد المعجزة وكل ما هو فائق للطبيعة، سواء في سفر دانيال أو غيره من الأسفار. إن كان سفر دانيال يُقدم الكثير من المعجزات، لكنها معجزات هادفة وبناءَّه، وليسَ استعراضًا لقوة الله وسلطانه، إنما لتحقيق هدف تأديب الله لشعبه بالسبي وهو تحريرهم من العبادة الوثنية ورجاستها، حتى يلتصقوا به ويتكئوا على صدره ويثقوا في عنايته بهم وقدرته وحكمته. كما كتب لنفع البابليين الذين كان دانيال يعيش في وسطهم.
فمن بين هذه المعجزات:
* كشف حلم نبوخذنصر وتفسيره لدانيال (دا 2) ليعلن الله للملك المعتز بذاته أنه يضعف أمام حلم بسيط، وأنه الله العالم بكل شيء حتى أفكار الإنسان وأحلامه هو ضابط الكل.
* وفي إنقاذ الثلاثة فتية في أتون النار (دا 3) يعلن عن حب الله الفائق لمؤمنيه، فيُحرك الطبيعة لحسابهم حتى ولو بخلاف قوانينها الطبيعية، فيحول أتون النار إلى ندى وموضع راحة.
* طرد نبوخذنصر إلى البرية ليعيش مع الحيوانات (دا 4) غايته تأكيد عمل الله الذي يُحطم الكبرياء ليقيم منا نفوسًا مقدسة له لعلها تقترب إليه وتُشاركه مجده إن أرادت.
* الكتابة على الحائط أثناء الاحتفال بوليمة سمتها الرجاسة (د ا5)، غايتها تأكيد إدانة الخطية، فإنه ليس أحد فوق قانون العدالة الإلهية.
* إنقاذ دانيال في جب الأسود (دا 6) يعلن عن رعاية الله للمؤمن الأمين؛ فيُحول جب الأسود الجائعة إلى سماء مفرحة... ويلتقي مع الملائكة ويتلمس خدمة سمائية فائقة.
ثالثًا: يهاجم المتحررون السفر بسبب الرؤى، معتمدين في ذلك على وجود أسفار رؤيوية زائفة، لكن غير منطقي. لأن وجود عملة زائفة في كل العصور لا يعني إنكار وجود عملة حقيقية، هكذا وجود رؤى زائفة لا يُحتم أن كل الرؤى زائفة. فإبراهيم أب الآباء تمتع برؤى سُجلت في الكتاب المقدس، ويعقوب أيضًا رأى سلمًا نازلاً من السماء وسفر زكريا يُقدم لنا مجموعة من الرؤى، وفي العهد الجديد يوجد سفر باسم "رؤيا يوحنا"، جاء منسجمًا مع سفر دانيال كما رأينا، حيث يحسبه الكثيرون تأكيدًا وامتدادًا لسفر دانيال.
رابعًا: أشار سفر حكمة ابن سيراخ (حوالي 170 ق.م) إلى إشعياء، إرميا، حزقيال والإثني عشر نبيًا الصغار ولم يذكر دانيال، مما يوحي بعدم وجود هذا السفر في أيامه. هذا وقد جاء في نفس السفر "ولم يُولد رجل مثل يوسف" (ابن سيراخ 49: 15)، فيظنون أنه لا يمكن لشخص يعرف دانيال ينطق بهذا لأنه "مثل يوسف".
يرد على ذلك[24]:
1. الدليل ضعيف للغاية، لأن ذكر الأنبياء الصغار بعد إشعياء وإرميا وحزقيال (ابن سيراخ 49: 8-10) إنما هو وضع طبيعي، حيث كان سفر دانيال في الأصل العبري ضمن مجموعة "كتوبيم" وليس مجموعة "أنبياء". لأن دانيال لم يُقدم نفسه كنبي في مقدمة السفر بل كفتى مسبي نال نعمة أمام رئيس الخصيان في قصر نبوخذنصر، وقد عاش أغلب حياته بعيدًا عن أُمته. وفي بابل لم يُعرف كنبي ولا كمصلح روحي بين اليهود المسبيين.
2. عدم ذكر "دانيال" في ابن سيراخ لا يعني عدم وجوده؛ فإن أحدًا من الدارسين لم يُنكر وجود سفر عزرا بالرغم من عدم ذكر عزرا عندما أشار إلى زربابل ويهوشع رئيس الكهنة ونحميا. هذا ولم يذكر ابن سيراخ أيوب ولا القضاة الاثني عشر مثل جدعون وشمشون ودبورة وغيرهم، ولم يذكر ملوك كثيرين مثل آسا ويهوشفاط... فهل يعني هذا أنها شخصيات وهمية لم تكن موجودة. هذا وقد أوضحت مخطوطات قمران ما لدانيال النبي من شهرة في عصره.
3. العبارة الخاصة بيوسف شرحها سفر ابن سيراخ نفسه، إذ قيل: "ولم يُولد رجل مثل يوسف رئيس اخوته وعمدة الشعب، عظامه اُفتقدت وبعد موته تنبأت". فإن كان دانيال قد شابه يوسف في كونه متغربًا في قصر وثني لكنه لم يكن يشبهه في الأمور الثلاثة المذكورة في ابن سيراخ عن يوسف.
خامسًا: لماذا لم يتأثر الأنبياء المتأخرون مثل حجي وزكريا وملاخي بما ورد في دانيال مادام قد كتب في عصر سابق لهم؟ يرد على ذلك أن هناك اختلاف في الغرض بين ما كتبه دانيال وما كتبه هؤلاء الأنبياء.
سادسًا: عدم ذكر اسم دانيال في السجلات البابلية والفارسية كدليلٍ على عدم وجوده. ويُرد على ذلك بأن كثير من العظماء لم يُذكروا في سجلات التاريخ مثل الوزراء والمشيرين وقادة الجيوش ورجال العمارة مثل الذين بنوا الأهرامات.
سابعًا: ذكر ما جاء في إرميا (25: 11-12؛ 29: 10) يعني أن سفر دانيال كُتب بعد قبول سفر إرميا كسفر قانوني وذلك بعد عصر دانيال. يرد على ذلك بأنه كان يكفي أن يكون لدى دانيال هذا السفر بين يديه أو قد عرف كلمات إرميا عن والديه خاصة وأنهما كانا من الأشراف أو ربما من الأسرة الملكية.
ثامنًا: من جهة اللغة، توجد ثلاث كلمات يونانية لأدوات موسيقية وبعض الكلمات الفارسية، هذا في نظرهم يعني أن السفر قد وًضع بعد قيام الإمبراطوريتين الفارسية واليونانية، حاسبين أن ما سُجل كنبوات إنما هو تاريخ قد تحقق وضعه الكاتب كنبوات مستقبلية. يرد على ذلك بالآتي:
1. إن كان دانيال قد عاش قبل قيام الثقافة اليونانية في أوج عظمتها بزمنٍ طويل، لكن هذه الثقافة بدأت مبكرًا جدًا، وكان لها أثرها في هذه المنطقة بسبب وجود مستعمرات إغريقية في القرن السابع ق.م. وكان في جيوش نبوخذنصر فرق يونانية مرتزقة خدمت معه وأخرى خدمت مع الجيش المصري في معركة كركميش سنة 605 ق.م.
2. وُجد في نينوى بعض الأسرى اليونانيين منذ عام 700 ق.م، وكان من السهل جدًا على نبوخذنصر أن يستولى على آلات موسيقية يونانية أتى بها إلى قصره[25].
3. يقول هاريسون Harrison إن أسماء هذه الآلات الموسيقية تبدو أنها يونانية في الأصل، لكنها ترجع في أصلها إلى ما بين النهرين[26].
4. لا يمكن تجاهل دور الآراميين كوسطاء تجاريين بين مصر واليونان، وبين بابل والشرق، بجانب احتكاكهم السياسي بالدول المجاورة... هذا كله جعلهم يستخدمون بعض المصطلحات الأجنبية ضمن مصطلحاتهم اللغوية. يُقدم بعض الدارسين مثل Charles Boutflower في كتابة In and Around Daniel قوائم تاريخية عن تبادل الرجال والجنود والصناع المهرة وغيرهم بين الأمم[27].
5. لقد ظن النقاد أن النصوص الكلدانية في السفر هي آرامية عامية ترجع إلى ما بعد القرن السادس ق.م، لكن جاءت الاكتشافات والدراسات الحديثة ليس بما يشتهيه النقاد[28]، إذ برهنت أن لغة السفر قديمة ترجع إلى القرن السادس ق.م. يرى[29]Gleanson Archer أن لغة السفر لا تناسب حقبة لاحقة للعصر الفارسي، وذلك من خلال الدراسة المقارنة بين لغة السفر ولغة مخطوطات البحر الميت. فإن لغة السفر ومفرداته توضح أن السفر أقدم من المخطوطات، ترجع إلى القرن السادس أو الخامس ق.م، وأنها كُتبت في القطاع الشرقي للعالم المتحدث بالآرامية مثل بابل وليس في فلسطين.
ومما يسترعي الانتباه أن النصوص الآرامية في السفر تتفق في كل خصائص الهجاء وأصول الكلمات والتراكيب النحوية مع الآرامية في النقوش السامية الشمالية من القرن التاسع والثامن والسابع ق.م، كما تتفق مع آرامية البرديات المصرية التي اكتشفت في جزيرة فيلة عند أسوان والتي ترجع إلى القرن الخامس ق.م. سفر دانيال به مزيج من الكلمات العبرية البابلية والفارسية مثلما هو موجود ببرديات القرن الخامس ق.م، بينما تختلف عن آرامية النبطيين التي تخلو من أي كلمات فارسية أو عبرية أو بابلية، ولكنها تمتلئ بالمصطلحات العبرية، كما أنها تختلف عن آرامية بالميرا (تدمر) التي تمتلئ بكلمات يونانية، في حين أن بها بضع كلمات بالفارسية دون وجود أي كلمات عبرية أو بابلية[30].
لغة السفر لا تناسب عصر المكابيين حيث لم تكن اللغة العبرية مستخدمة كلغة حية، إذ حل محلها الآرامية العامية. هذا وتشترك بعض المصطلحات مع ما جاء في سفر حزقيال الذي كُتب أثناء السبي في القرن السادس ق.م. كما تختلف آرامية سفر دانيال بصورة واضحة عن اللهجة التي كانت سائدة للترجمة التفسيرية الكلدانية المتأخرة للعهد القديم، وتقترب كثيرًا من لغة سفر عزرا الذي كُتب في زمن قريب جدًا من زمن دانيال النبي[31].
أكدت الدراسات التي قام بها[32] Rosenthal أن اللغة الآرامية المستخدمة في سفر دانيال هي نفس اللغة التي نمت في بلاط الملوك والسفارات منذ القرن السابع ق.م. وما بعده، وقد انتشرت انتشارًا واسعًا في الشرق الأدنى.
6. الاعتراض بأن لغته العبرية ضعيفة تُناسب وقت متأخر عن عصر دانيال. فيُرد على ذلك بأننا لا نتوقع من إنسان سُبي وهو فتى صغير وعاش في القصر البابلي في ثقافة كلدانية أن يُجيد العبرية كما ينبغي.
7. بخصوص الكلمات الفارسية فقد ثبت حديثًا أن كثيرًا من الكلمات التي كان العلماء يحسبونها فارسية أصيلة أنها ذات أصل بابلي قديم. أغلب الكلمات التي أشار إليها هؤلاء النقاد بكونها فارسية هي ألقاب وأسماء ملابس وتعبيرات فنية، يمكن أن تكون قد عبَرت من مادي إلى بابل في أيام دانيال أو قبله.
يقول[33] G.L. Archer إن الـ 15 كلمة الفارسية المستعارة والتي تظهر في آرامية سفر دانيال تدل على أن الكاتب كان مرتبطًا بالعصر الفارسي. كما أنه لم يستخدم ألفاظا يونانية باستثناء ثلاث أسماء لأدوات موسيقية يدل على أن الكاتب قبل العصر اليوناني.
تاسعًا: يُدعي البعض وجود أخطاء تاريخية، لقد أوضح الدكتور روبرت ولسن Dr. Robert Dick Wilson أحد كبار الدارسين العبرانيين في العصر بطلان هذه الحجج، ويمكن الرجوع إلى ذلك في:International Standard Bible Encyclopedia.
1. جاء في (دا 1: 1) أن نبوخذنصر قام بحملته ضد أورشليم في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم، بينما يذكر إرميا النبي أن هذه الحملة كانت في السنة الرابعة للملك (راجع دا 1: 1).
2. عاش دانيال حتى السنة الأولى لكورش الملك (1: 21) بينما تمتع برؤيا في السنة الثالثة لذات الملك (10: 1) (راجع دا 1: 21).
3. ما جاء في دانيال "في ملك داريوس وفي ملك كورش الفارسي" (6: 8) يتفق مع الحقائق التي كشفت عنها الآثار، ومع نصوص السفر نفسه، بافتراض أن داريوس قد حكم في نفس الوقت مع كورش كنائب ملك عن كورش.
4. رأى دانيال رؤيا في السنة الثالثة لبيلشاصر الملك (8: 1) كآخر ملك بابلي بينما عُرف في التاريخ أن نابونيدس هو آخر ملوك بابل (راجع دانيال وعلم الآثار).
عاشرًا: اعتراضات جغرافية:
1. قيل أن شوشن خاضعة لبابل، بينما يرى البعض أنها كانت في ذات الوقت تابعة لمادي. يقول ونكلر Winkler أنه عند تقسيم الولايات الآشورية بين الحلفاء الماديين والبابليين، أصبحت عيلام خاضعة لبابل وليس لمادي، علاوة على أنه ينبغي أن نذكر أن دانيال نفسه كان في شوشن في رؤيا.
2. أن نبوخذنصر ما كان ليقوم بحملة ضد أورشليم، تاركًا في مؤخرته حامية مصرية عند كركميش، مُعرضًا بذلك خط اتصالاته للخطر عند احتمال التقهقر إلى بابل. لم يعد لهذا الاعتراض وزن بعد أن تبين أن موقع كركميش ليس عند سيريسيوم كما كان يُظن قبلاً، ولكنه عند جيرابيس Jirabis على بعد 150 ميلاً إلى الفرات الأعلى. وكان بإمكان حامية من كركميش أن تقطع خط التراجع إلى نينوى، ولكنها كانت أبعد من أن تقطع خط الاتصال إلى بابل.
3. القول بأن داريوس وليّ على المملكة مئة وعشرين مرزبانًا (واليًا) على المملكة كلها، ولكن لم يكن هناك ما يمنع نائب ملك مثل داريوس، من أن يكون له العديد من المرازبة (الولاة)، فسرجون ملك أشور يذكر أنه كان يحكم مئة وسبعة عشر شعبًا وبلدًا أقام عليها ولاة من قبله.
براهين على صحة السفر وقانونيته:
1. الدليل الداخلي[34]:
واضح من نص السفر أن الكاتب دانيال النبي في القرن السادس قبل الميلاد الذي عاش في القصر الملكي ببابل عشرات السنوات:
أ. يعرف الكاتب تاريخ المدينة وعادتها وطريقة حياة أهلها معرفة دقيقة.
ب. يعلم الكاتب طبقات علماء بابل، وهم المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون (2: 2).
ج. على دراية كاملة بأسلوب هؤلاء العلماء: تعبير الأحلام وتبيين الألغاز وحل العقد (5: 12)، وأفكارهم الدينية: "الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر" (2: 11).
د. استخدام الكاتب صور الحيوانات المجنحة، خاصة الأسد المجنح (7: 3-4)، الذي يُشير إلى بابل.
هـ. ذكر بعض الأمور الدقيقة التي ما كان يمكن كتابتها في عصر لاحق مثل:
· نشاط نبوخذنصر في أعمال البناء (4: 30).
· لم يلق داريوس الملك دانيال في النار بل في جب الأسود، لأنه كان عابدًا للإله "النار".
· لقد قُبلت نبوة حزقيال النبي بصفة عامة على أنها معاصرة له (592-570 ق.م)، وقد أشار حزقيال إلى دانيال (28: 3)، هذا الذي كان معاصرًا له. وهذه شهادة كافية أن سفر دانيال كُتب في أيام دانيال (605-530 ق.م)[35].
2. استحالة أن يكون السفر قد كتب في عصر المكابيين[36].
أ. أشار سفر المكابيين الأول (كُتب حوالي عام 135 ق.م.) إلى سفر دانيال كسفر قانونيٍ، فلا يمكن أن يكون قد كُتب السفر في عصرهم بل في عصر سابق لهم. نتساءل مع Walvoord ونقول هل كان في إمكان اليهود الذين عاشوا في العصر المكابي أن يقبلوا السفر ككتاب مقدس وينسبونه لدانيال الذي عاش قبل عصرهم بحوالي أربعة قرون، إن لم يكن السفر مكتوبًا فعلاً قبل أيامهم، وعصرهم، بزمن، وكان في عداد الأسفار القانونية الموحي بها[37].
ب. لم يظهر أي نبي في الفترة ما بين ملاخي النبي في نهاية القرن الخامس ق.م. وبين يوحنا المعمدان في النصف الأول من القرن الأول الميلادي. ويؤكد سفر المكابيين على هذه الحقيقة يقول: "فحل بإسرائيل ويل عظيم لم يعرفوا مثله منذ اليوم الذي لم يظهر فيهم نبي" (1 مك 9: 27)، "ووضعوا الحجارة (حجارة مذبح المحرقات) في موضع لائق إلى أن يظهر نبي بيدي رأيه في شأنها" (1 مك 4: 46). "وان اليهود وكهنتهم سرهم أن يكون سمعان رئيسًا لهم وكاهنًا أعظم مدى الحياة إلى أن يقوم نبي أمين فيهم يقودهم ويهتم بالهيكل" (1 مك 14: 41).
ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس[38] "ومن ارتحشتا (464-442 ق.م) إلى زماننا كتب تاريخنا (كل الأشياء سجلت) ولكن لم يقم بنفس السلطان مع أولئك الذين سبقوهم لأنه لم يكن هناك تعاقبًا حقيقيًا للأنبياء منذ ذلك الوقت". إذ عرف المكابيون هذه الحقيقة، وإذ لم يوجد نبي في زمانهم، بل ولم يقم نبي منذ ملاخي، لذلك كان من المستحيل عليهم أن يقبلوا سفرًا كُتب في أيامهم ويضموه إلى الأسفار المُوحى بها، وأن يستشهدوا بكاتبه كأحد أبطال الإيمان العظماء.
ج. شهد سفر المكابيين الأول لدانيال النبي وبره "تذكروا دانيال: براءته أنقذه الله من أفواه الأسود" (1 مك 2: 61). كما اقتبس السفر من دانيال النبي نبوته عن "رجسة الخراب" (1 مك 1: 29). ولا يمكن بل ومن المستحيل أن يذكر سفر المكابيين دانيال النبي مع إبراهيم وداود وغيرهم من عظماء الإيمان، ويقتبس من سفره، لو كان السفر قد كتب في أيامهم.
د. برهنت مخطوطات[39] قمران، وخاصة المخطوطتان المكتوبتان باللغة العبرية في كهف 11Q سنة 1956م على انتشار سفر دانيال وشهرته منذ القديم، كما أكدت المخطوطة[40] Florililegium والتي أشارت إلى سفر دانيال بالقول "دانيال النبي" مثلما قال السيد المسيح في (مت 24: 15) على أن السفر كان يُقرأ ومُعترف به في القرن الثاني كسفر مقدس مكتوب بالروح القدس. يقول أحد العلماء Raymond K. Harrison أن مخطوطات قمران بما فيها مخطوطات سفر دانيال كلها منسوخة عن مخطوطات أقدم منها على الأقل بنصف قرن، وبما أن جماعة قمران هي مكابية، أي من العصر المكابي، فتكون مخطوطات دانيال الموجودة لديهم منسوخة من نسخة أقدم من العصر المكابي ذاته على الأقل بنصف قرن[41].
3. لو كان هذا السفر من الأسفار المنحولة أو المزيفة لما نُسب إلى دانيال الذي في ذهن بعض اللاهوتيين المتحررين شخصية وهمية لم يقم بالدور الوارد في السفر، بل نسب كاتبه إلى أحد الشخصيات المشهورة لدى اليهود؛ وأيضًا لما قبله اليهود ضمن أسفار الكتاب المقدس القانونية.
4. حوت الترجمة السبعينية للعهد القديم التي ترجع إلى 280، 180 ق.م.، هذا السفر، كسفرٍ قانوني.
5. نعرف من يوسيفوس أن اليهود في أيام السيد المسيح عرفوا دانيال ككاتب للسفر وأنه سفر قانوني. يخبرنا يوسيفوس[42] أن الإسكندر الأكبر اتجه نحو أورشليم لمعاقبة اليهود لولائهم لداريوس ملك الفرس. قاد جيشًا عظيمًا جدًا وأراد أن ينتقم من اليهود، لكن رئيس الكهنة الأعظم يوياداع (نح 12: 11، 22) التقى به على رأس موكب من الكهنة واللاويين لاستقباله. أثار المنظر الإسكندر الأكبر إذ رأى نفس المنظر في رؤيا سابقة، فشعر أن الأمر صادر من قبل الله. أظهر رئيس الكهنة للإسكندر نبوة دانيال التي تعلن عن أن ملكًا يونانيًا يطيح بمملكة فارس.هذا حدث في سنة 322 ق.م. وصار الإسكندر صديقًا لليهود يعاملهم بلطف غير عادي بعد ذلك، هذا يكشف أن اليهود عرفوا السفر قبل الإسكندر وفهموا من نبواته قيام المملكة اليونانية بعد مملكة فارس.
هذا والسفر نفسه يُشير إلى أن كاتبه هو دانيال النبي (7: 1؛ 8: 2؛ 9: 2؛ 10: 1-2؛ 12: 4).
أعظم من هذا كله فإن العهد الجديد قد أشار إلى سفر دانيال أكثر من مرة. ففي (مت 24: 15) أشار السيد المسيح إلى رجسة الخراب تحدث عنها دانيال. وتوجد عبارة مشابهة في (مر 13: 14). هكذا ربنا يسوع "الحق" يشهد أن دانيال شخصية تاريخية حقيقية ونبي ونُسب السفر إليه. يقول[43] G.L. Archer إن الأمر الهام هنا هو أن السيد المسيح لم يشر ببساطة إلى سفرٍ في العهد القديم يُدعى "دانيال"، بل بالأحرى عن شخص دانيال حيث أن استخدامdia يُشير إلى شخصٍ بشري. وكأن السيد المسيح أكد وجود شخصية دانيال، وأنه واضع السفر، وأن ما تنبأ عنه بخصوص رجسة الخراب لم يتحقق بعد.
من وحي سفر دانيال
أنر عينيّ فأراك يا ضابط الكل!
v في وسط هذا السبي المؤقت،
أنر عينيّ فأراك يا ضابط الكل!
أرى التاريخ كله في قبضة يديك،
فتطمئن نفسي يا سند حياتي!
v لتقم ممالك عظيمة، وليظهر جبابرة،
فأنت وحدك ملك الملوك ورب الأرباب.
ملكوتك أبدي يتحدى كل قوات الظلمة!
ويُحطم ضد المسيح وكل أتباعه،
وتأتي إليّ قادمًا على السحاب،
لتحملني معك يا سرّ مجدي!
v لتسحب أعماقي وسط الأحداث،
فأرى العالم كله في قبضة يديك،
أراك تعد ليّ مكانًا في أحضانك الأبوية.
لترفعني من السبي إلى حرية مجد أولاد الله!
لك الشكر والتسبيح يا مصدر تهليلي!
الجانب التاريخي
[ص 1- ص 6]
في هذا القسم يُقدِّم لنا روح الله القدُّوس صورة حيَّة للإيمان العملي في حياة دانيال ورفقائه في بابل، في ظل حكم الملوك نبوخذنصر وبيلشاصر، وداريوس، وكورش.
متغرِّبون في القصر
سُبيّ يهوذا على ثلاث مراحل، وكانت هذه الفترة حتى نهاية السبيّ من أشد العصور ظلمة على الشعب، فقد عاش في مذلَّة، متغرِّبًا عن بلده، محرومًا من عبادته الجماعيَّة في الهيكل، فاقدًا كل كرامة في أعين الأمم. لكن وسط الظلمة وُجد هؤلاء الفتيان الصغار - دانيال ورفقاؤه الثلاثة - كأضواء لامعة، يهتم الله بهم، ويستخدمهم لحساب ملكوته ليس في جيلهم فحسب وإنَّما عبر الأجيال، بكونهم شهودًا للحق والإخلاص.
1. الفتيان في السبيّ [1-4].
2. اختيارهم لخدمة الملك [5-7].
3. رفضهم أطايب الملك [8-14].
4. نتائج الاختبار [15-16].
5. تمتُّعهم بالحكمة والفهم [17].
6. تفوُّقهم على كل المجوس [18-21].
1. الفتيان في السبيّ:
يُفتتح السفر بالتلميح عن سبيّ يهوذا الأول في السنة الثالثة من مُلك يهوياقيم، أي حوالي سنة 605 ق.م على يديّ نبوخذنصر ملك بابل، حيث حاصر أورشليم وأذلَّ ملكها (2 مل 24: 1، إر 22: 19). فأخذ بعض آنية بيت الرب وجاء بها إلى شنعار ليضعها في خزانة بيت إلهه.
"في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم ملك يهوذا ذهب نبوخذنصر ملك بابل إلى أورشليم وحاصرها" [1].
جاء هنا أن السبيّ تمّ في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم (دا 1: 1)، بينما جاء في (إر 25: 1) أنه في السنة الرابعة من ملكه، ذلك لأن الآشوريِّين والبابليِّين يعتبرون السنة ابتداء من السنة الجديدة بعد تولىّ الملك العرش، بينما في يهوذا يعتبرونها من بدء السنة التي في خلالها تم ارتقاؤه العرش، لذا يأتي الحساب الآشوري والبابلي أزيد عامًا عن اليهودي[44].
يرى البعض أن الفعل "ذهب" في (دا 1: 1) في العبريَّة يمكن أن يعني بدء خروج نبوخذنصر على رأس الحملة لمقاومة نخو ملك مصر في معركة كركميش، بينما ما ورد في إرميا يُشير إلى وصوله إلى أورشليم.
نبوخذنصر أو "نبوخذراصر": اسم بابلي يعني "نبو حامي الحدود"، أو "أيُّها الإله نبو احرس الحدود" أو "يا نبو احرس الخلافة". أمَّا "نبو" فمعناه "نبأ" أو "إذاعة"، وهو إله العلم والمعرفة عند البابليِّين[45]. والد نبوخذنصر هو نبوبلاسر مؤسِّس الدولة البابليَّة الحديثة سنة 625 ق.م ومحطم الإمبراطوريَّة الآشوريَّة، أرسل ابنه لمحاربة نخو فرعون مصر فغلبه عام 605 ق.م في معركة كركميش (2 مل 24: 7؛ إر 46: 2)، ثم جاء إلى أورشليم وحاصرها، وسبى بعض سكانها، من بينهم دانيال ورفاقه. إذ سمع بموت والده عاد إلى بابل ليستلم المُلك. يلاحظ هنا أن النص لم يذكر نبوخذنصر كملك لبابل أثناء حصاره أورشليم، إنَّما يُدعى ملك بابل من باب ما تمَّ بعد ذلك. أو لأنه كان ملكًا شريكًا لأبيه في الحكم، ثم انفرد بالحكم بعد موت أبيه. يرى بيروسيوس[46] Berosus أنه عندما كان نبوبلاسر قد تقدم في العمر وعاجزًا عن القيادة، أعطى قيادة الجيوش لابنه نبوخذنصر. لقد حكم كشريك لوالده على الأقل لمدة سنتين.
أخبار نبوخذنصر موجودة في أسفار الملوك وأخبار الأيام وعزرا ونحميا وإرميا ودانيال، وقد جاءت آثاره في بابل وغيرها تتَّفق مع ما ورد في الكتاب المقدَّس.
"وسلَّم الرب بيده يهوياقيم ملك يهوذا مع بعض آنية بيت الله،
فجاء بها إلى أرض شنعار إلى بيت إلهه،
وأدخل الآنية إلى خزانة بيت إلهه" [2].
تمت عملية السبيّ البابلي ليهوذا على ثلاث مراح.
1. الترحيل الأول: عام 606 ق.م. أو 605 ق.م بعد معركة كركميش التي فيها غلب نبوخذنصر فرعون مصر نخو، فاتجه إلى أورشليم. فيه سبي دانيال وأصدقاؤه، وفيه أخذ نبوخذنضر بعض آنية بيت الرب ووضعها في هيكل البعل ببابل، وترك للملك يهوياقيم على العرش كتابعٍ له، يخضع لسلطانه.
2. الترحيل الثاني: حوالي عام 598 ق.م. أو 597 ق.م بعد ثمان سنوات من سبيّ دانيال، فيه سُبي حزقيال. تم هذا السبيّ عندما ثار ملكا يهوذا يهوياقيم ويهوياكين على نبوخذنصر، فجاء الملك وأخذ بقية أواني الهيكل وكنوزه وسبيّ الملك يهوياقيم ومعه 000,10 أسيرًا من الإشراف ورجال الجيش والصناع والمهرة، ولم يترك في يهوذا سوى مساكين الشعب (حز 1: 1-3؛ 2 أي 36: 10؛ 2 مل 24: 8-20).
3. الترحيل الأخير عام 588 ق.م. أو 587 ق.م، فيه جاء الملك للمرة الثالثة ليُعاقب صدقيا الملك على تمرده "وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء وأحرقها بالنار" (2 مل 25: 9)، كما قتل أبناء صدقيا آخر ملوك يهوذا وقلع عيني الملك نفسه وقاده إلى بابل مقيدًا بالسلاسل، وهكذا تم خراب أورشليم والهيكل وتحطم المجتمع اليهودي (2 مل 25: 1-7؛ إر 34: 1-7).
كل هذا تم تحقيقًا للنبوة (إر 1: 25-4؛ 2 أي 36: 14-21)، كتأديب جماعي بسبب انحراف الشعب وإصراره على العبادة الوثنية برجاساتها، وعدم حفظ السنوات السبتية، ومقاومتهم لصوت الله خلال الأنبياء.
تم السبيّ الأول في السنة الثالثة من ملك يهوياقيم بحسب التقويم البابلي الذي يتجاهل الجزء الأول من السنة، ولم يتحقّق هذا بسبب بسالة نبوخذنصر ولا خطته العسكرية المحكمة ولا لحسن حظه أو مصادفة، وإنما بسماحٍ إلهيٍ لتأديب شعبه. هذا ما أكَّده دانيال النبي.
v حقيقة تسجيل هزيمة يهوياقيم تظهر أن النصرة كانت بإرادة الله وليس بسبب قدرة أعدائه[47].
لم يسلِّم الله ملك يهوذا فحسب بل وسلَّم بيته وأوانيه المقدسة لتُحمل بيدٍ وثنية إلى هيكل وثني في شنعار. هذا ليس كسرًا لوعد الله لإبراهيم ونسله، ولما جاء في المزمور: "لأن الرب قد اختار صهيون اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد ههنا أسكن لأنيّ اشتهيتها" (مز 123: 14)، إذ وضع شرطًا: "إن حفظ بنوك عهدي وشهاداتي التي أعلمهم إياها" (مز 123: 12).
لأجل إثارتنا للتوبة والرجوع إليه بالطاعة لله مستعد أن يسلِّم هيكله وأوانيه المقدَّسة في أيدٍ وثنية، لكي يجتذبنا إليه بكوننا هيكله، الحجارة الحيَّة، والأواني المقدسة التي نصيبها السماء.
أرض شنعار: اسم قديم لمنطقة بابل حيث سهل دورًا وأيضًا البرج الذي حاول المهاجرون القادمون من الشرق أن يبنوه إلى السماء، وإذ حدثت بلبلة دُعيت هذه المنطقة "بابل" التي تُعني "بلبلة" أو "ارتباكًا".
يُقدم لنا القدِّيس جيروم تفسيرًا رمزيًا لنقل نبوخذنصر بعض أواني الله قائلاً:
[يلزم أن نلاحظ بالتفسير الروحي anagogen أنه لم يكن ممكنًا لملك بابل أن ينقل كل أواني الله، ويضعها في بيت الوثن الذي بناه بنفسه، إنما ينقل فقط جزءًا من الأواني من بيت الله. نفهم هذه الأواني أنها تعاليم الحق. فإنك إن درست كل أعمال الفلاسفة تجد بالضرورة فيها نصيبًا من أواني الله. فتجد على سبيل المثال في أفلاطون أن الله هو صانع المسكونة، وفي زينون رئيس الرواقيِّين أنه يوجد سكان في الأماكن الجهنمية وأن النفوس خالدة، وأن الكرامة هي الأمر الصالح الوحيد. لكن لأن الفلاسفة يخلطون الحق بالخطأ، ويفسدون الطبيعة الصالحة بشرور كثيرة، لذلك قيل أنهم سبوا نصيبًا من أواني بيت الله وليس جميعها في تمامها وكمالها[48]].
هذا الفكر قدمه القدِّيس أكليمنضس السكندري بقوة، واقتبسه تلميذه العلامة أوريجينوس.
"وأمر الملك أشفنز رئيس خصيانه بأن يُحضر من بني إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء، فتيانًا لا عيب فيهم، حسان المنظر، حاذقين في كل حكمة، وعارفين معرفة، وذوي فهم بالعلم، والذين فيهم قوة على الوقوف في قصر الملك فيعلموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم" [3-4].
يزعم بعض النقاد المتحررين أنه لم يرد اسم اشفنز في سجلات بابل القديمة، وأن هذه الشخصية غير تاريخية. لكن فيما بعد اكتشف أحد علماء الآشوريات هذا الاسم على لوح طيني في خرائب بابل، وهو محفوظ الآن في المتحف البريطاني[49].
أقام الملك معهدًا في قصره تحت إشراف اشفنز. ربما كان هذا المعهد يضم أقسامًا كثيرة، من بينها قسم خاص بأبناء أشراف اليهود لتقدم لهم دراسة تناسب ثقافتهم ولغتهم. أما إقامة هذا المعهد لتخريج رجالٍ حكماء يعاونون الملك فيكشف عن حكمة الملك واتساع أُفقه وجديته. أما عن اختياره بعض الفتيان من نسل ملوك اليهود وأشرافهم فكان ذلك لعدة أسباب منها شعوره الدائم بالرجل الغالب الذي يحمل فتيان الملوك والإشراف لا ليذلهم ويعذبهم، بل لخدمة قصره وتدبير شئون الدولة. ومن جانب آخر فإنه بهذا يدفع هؤلاء الفتيان بما لهم من مواهب على الخضوع له وعدم التفكير في الثورة ضده لحساب بلدهم. كما يُعطي هذا شيئًا من الراحة النفسية لعامة اليهود أنه يوجد في القصر من يُمثلهم.
اتسم هؤلاء الفتيان بالآتي:
* شرف النسب.
* جمال الجسد وقوته.
* حذاقة في الحكمة.
* أصحاب معرفة.
* قادرون على تقديم العلم للغير.
* قادرون على الوقوف في القصر، أي على تحويل الحكمة والمعرفة والفهم إلى عملٍ يمارسونه خلال حياتهم اليومية.
مع ما لديهم من شرف وصحة جسدية وحكمة ومعرفة وخبرة أراد الملك أن يتمتعوا بثقافة بلده ولغتها لينتزعهم من انتمائهم لبني جنسهم ويربطهم ببلده. في حكمة لم يحطم ما قد وُهبوا به ولا حقر من شأنهم، بل أراد تحويل طاقاتهم لحساب قصره الملوكي.
يُقصد بكتابة الكلدانيين تعلم لغتهم وأدبهم وكل ثقافتهم بالمفهوم الواسع مثل الفلك والرياضيات والشرائع مع السحر وتفسير الأحلام الخ. كما تدرب موسى على حكمة المصريين، هكذا تدرب دانيال ورفقاؤه على حكمة الكلدانيين.
2. اختيارهم لخدمة الملك:
"وعيَّن لهم الملك وظيفة كل يوم بيومه من أطايب الملك ومن خمر مشروبه لتربيتهم ثلاث سنين وعند نهايتها يقفون أمام الملك.
وكان بينهم من بني يهوذا دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا.
فجعل لهم رئيس الخصيان أسماء، فسمى دانيال بلطشاصر، وحننيا شدرخ، وميشائيل ميشخ، وعزريا عبدنغو" [5-7].
واضح أن نبوخذنصر حمل بعض السمات اللآئقة به كملك، إذ اختار شبابًا نبيلاً يتدرب على كتابة الكلدانيين على نفقة القصر الملكي، بل ويأكلون من أطايب الملك، لا ليقفوا أمامه فحسب، يفتخر بجمالهم وحسن منظرهم، إنّما ليكونوا له مشيرين، يسندونه في تدبير أمور الدولة المتشعبة، ولم يحتقرهم لأنهم من جنسيات أجنبية. نستطيع أن نقول أنه في هذا الأمر كان سابقًا لعصره بعشرات القرون. أنه ليس كالملك أحشويرش (المذكور في سفر استير) الذي عين رجالاً لاختيار فتيات لإشباع شهواته، إنما اختار شبابًا لخدمة المجتمع.
لماذا عيَّن لهم الملك أن يأكلوا من أطايبه؟
في شيء من الخبث أمر الملك بذلك، ففيما يحمل مظهر الملك الكريم في معاملاته بالمسبيين، يدخل بهم إلى حياة الترف التي تنزع عنهم روح الثورة ضده لحساب بني جنسهم. فإن كان بالقوة سباهم من بلدهم، فبالترف أراد نزع انتمائهم إلى بلدهم. وكأنه أراد تحطيم يهوذا بالعنف كما باللطف، مستخدمًا كل وسيلة لهدمهم. أما تحديد مدة التدريب بثلاث سنوات بعدها يقفون أمام الملك، فإن رقم 3 تُشير إلى القيامة. فالسيد المسيح بقيامته قدم لنا سرّ الرقم 3 ليهبنا حياته المُقامة، ويرفعنا من الترف إلى السماء. ونبوخذنصر قدم لهؤلاء الفتية سرّ الرقم 3، ليُقيمهم لا إلى السماء بل إلى بابل. فيموتوا عن وطنهم ليحيوا بفكر جديد كلداني.
كانت أسماء الأربعة الذين من سبط يهوذا تُذكرهم بانتسابهم لله إلههم ومعيته أو وجودهم في حضرته.
· فدانيال معناه "الله ديانيّ".
· وحنانيا "يهوه حنان أو مترفق".
· وميشائيل أو ميخائيل معناه "من مثل الله"، أو الذي يتشبه بالله.
· وعزاريا معناه "من يعينه يهوه".
يبدو هنا اهتمام آباء هؤلاء الشبان بخلاص نفوسهم بكل وسيلة حتى خلال أسمائهم ليدركوا ارتباطهم بالرب. وكما جاء في سفر الأمثال: "ربِ الولد في طريقه فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه" (أم 22: 6).
أراد رئيس الخصيان أن يقطع هؤلاء الشبان عن كل صلة بماضيهم وثقافتهم وديانتهم فأعطاهم أسماء جديدة تربطهم بالآلهة الكلدانية الرئيسية، أي البعل، والإله الشمس، وإلهة الجمال والأرض، وإلهة النار.
أ. دعي دانيال "بلطشاصر"، ومعناه "الأمير الخاص بالبعل “Bel’s prince. كان البعل هو الإله الرئيسي الذي يتعبد له البابليون.
ب. دُعي حنانيا "شدرخ"، ومعناه "مُوحى به بإله الشمس".
ج. دُعي ميشائيل "ميشخ"، معناه "من قبل شَخ Shak. إذ تعبد البابليون للإلهة فينوس تحت هذا اللقب، وهي إلهة الجمال والأرض.
د. دُعي عزريا "عبدنغو"؛ معناه "عبد النار المتألقة".
ليس بالأمر العجيب أن يقوم الملك بتغيير أسمائهم كما أراد تغيير لغتهم وثقافتهم، فهكذا فعل فرعون أيضًا مع يوسف (تك 41)، لكن أحدًا منهما لم يستطع أن يُغيِّر قلوبهم أو أفكارهم عن الرب وعن شعبه ومقادسه. أما السيد المسيح إذ غيَّر اسم سمعان إلى بطرس (مر 3)، وابنيّ زبدي إلى ابنيّ الرعد... جدد أعماقهم لتتناسب مع رسالتهم السماوية التي أعدهم لها.
حمل دانيال ثلاثة أسماء:
أ. دُعي بالعبرانية دانيال، لأن العبرانيين رأوا فيه الله الذي يُدين شرّ الوثنيين.
ب. دُعي بالكلدانية بلطشاصر، لأن الكلدانيين أو البابليين رأوا فيه قوة خفية فائقة، فحسبوه الأمير الخاص بالإله الأعظم "بعل".
ج. دُعي بلغة السماء والملائكة: "الرجل المحبوب" (10: 11، 19؛ 9: 23).
3. رفضهم أطايب الملك:
"أما دانيال فجعل في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه،
فطلب من رئيس الخصيان أن لا يتنجس.
وأعطى الله دانيال نعمة ورحمة عند رئيس الخصيان" [8-9].
إذ كان دانيال أمينًا مع الله أعطاه الرب نعمة في عينيّ رئيس الخصيان، وكما يقول المرتل: "وأعطاهم نعمة قدام الذين سبوهم" (مز 106: 46). كما قسَّى الله قلب فرعون ليتمجد في خلاص شعبه، أعطى لُطفًا في قلب رئيس الخصيان ليتمجد الله في دانيال ورفقائه. هكذا يُعطينا طمأنينة لكي نعمل لحساب ذاك الذي يُحرك قلوب من حولنا سواء بالسماح لهم أن يُمارسوا عنفهم أو بتغييرها إلى اللطف فتعمل كل الأمور لخيرنا.
v ذاك الذي أُخذ في السبيّ بسبب خطايا أسلافه تمتع بمكافأة فورية من أجل عظم فضائله. لأنه وضع في قلبه إلاَّ يتنجس بطعام من مائدة الملك، وفضَّل غذاءً متضعًا عن الأطايب، لهذا وهبه الرب منحة سخية، إذ نال نعمة ورحمة في عيني رئيس الخصيان. بهذا يمكننا أن نفهم أنه حتى في الظروف القاسية يُحبْ القديسون بواسطة غير المؤمنين، هذا من قبيل مراحم الله وليس من أجل صلاح الفاسدي[50].
"فقال رئيس الخصيان لدانيال:
إنيِّ أخاف سيدي الملك الذي عيَّن طعامكم وشرابكم.
فلماذا يرى وجوهكم أخزل من الفتيان الذين من جيلكم فتديِّنون رأسي للملك؟!
فقال دانيال لرئيس السقاة الذي ولاَّه رئيس الخصيان على دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا:
جرِّب عبيدك عشرة أيام فليعطونا القطاني لنأكل وماء لنشرب.
ولينظروا إلى مناظرنا أمامك، وإلى مناظر الفتيان الذين يأكلون من أطايب الملك، ثم اصنع بعبيدك كما ترى.
فسمع لهم هذا الكلام وجربهم عشرة أيام" [10-14].
كان دانيال الشاب يعيش في أرض غريبة (أرض السبيّ)، وكان يمكنه أن ينتحل الأعذار لعدم الصوم. كان دانيال في وسط مشجع على الخطية، لأنه كان في قصر الملك. وكان لزامًا عليه أن يأكل كل يوم من أطايب الملك وخمر مشروبه.
كان يمارس الصوم حتى وهو في سن الشيخوخة (ص 10)، فكأن قلب دانيال لم يشخ.
ويلاحظ في صوم دانيال النبي:
أ. يمارس دانيال النبي صومه لا بمجرد امتناعه عن الطعام فحسب، إنما قيل: "فجعل في قلبه" [8]. فالحياة الروحية هي تمتع بكنزٍ داخلي. "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك" (مت 6: 21). هكذا تبدأ الحياة الروحية الصادقة من أعماق القلب، حتى متى حلَّت ساعة التجربة يستطيع المؤمن بالنعمة الإلهية العاملة فيه أن يُقاوم وينتصر، حاملاً قوة الإرادة المقدسة فيه. من جانب آخر لم يقف الأمر عند حدود القلب، لكنه حول ما في قلبه إلى عمل. فالعبادة تبدأ بالأعماق لكنها تُترجم أيضًا عمليًا، فيشترك الجسد مع النفس، والعمل مع الفكر، ويُمارس الإنسان حياته الروحية بكل كيانه الخفي والظاهر.
ب. طلب من رئيس الخصيان إلاَّ يتنجس. يُحسب هذا الطلب من المستحيلات بالنسبة لرئيس الخصيان، لأن تكلفته هي رقبته بلا تفاهم.
آمن دانيال أن الله إله المستحيلات يعمل في قلب هذا الرجل الوثني مادام الأمر يخص قدسية حياته ونقاوتها. لقد غيرَّ رئيس الخصيان أسماءهم، لكنه كان عاجزًا عن تغيير قلوبهم، وطبيعتهم المقدسة في الرب.
لقد حسب دانيال أطايب الملك نجاسة، لماذا؟
· لأن اخوته محرومون من الحياة المترفة، فكيف يعيش في القصر في حياة ترف وغيره محتاج؟!
· لأن ما يُقدم على المائدة قد يحوي أطعمة محرمة حسب الشريعة الموسوية، مثل المخنوق ولحوم بعض الحيوانات المحرمة،وهي غير المشقوقة الظلف والتي لا تجتر. وإن كانت بلاشك تقدم أنواعًا كثيرة من اللحوم على مائدة الملك، ويمكن لدانيال ورفقائه أن يختاروا اللحوم المُحللة.
· خشي هؤلاء الشبان المسبيون أن تلهيهم أطايب الملك عن معرفة وضعهم الحقيقي كمسبيين. أنهم لا يطلبون مائدة الملك بل حريتهم هم وشعبهم. لن تستقر قلوبهم في قصر غريب، بل يشتهون العودة إلى وطنهم. بلاشك كان دانيال ورفقاءه يئنون في داخلهم من أجل ما حلَّ بالشعب والهيكل والمدينة المقدسة، فأرادوا البقاء في حالة مرارة داخلية حتى يترفق الله بهم ويرد السبيّ.
· خشي دانيال من المشتركين في المائدة كمدمنين للخمر، فرفض الخمر تمامًا، وقد قيل: "للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج: لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تُظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة" (أم 23: 30-31). ولعل دانيال كان يحسب نفسه نذيرًا للرب لا يشرب خمرًا أو مسكرًا (عد 6: 2-3). وقد مُنع الكهنة من استخدامه قبل خدمة الهيكل (لا 10: 1-9)، كما حُرم الملوك من استخدامه (أم 31: 4-5). وكما سبق فرأينا أن هؤلاء الفتية كانوا في مرارة داخلية من أجل السبيّ، فكيف يشربون الخمر علامة الفرح؟! أنهم امتنعوا عنه حتى يرد الله سبيهم.
يقول القدِّيس هيبوليتس الروماني: [مباركون هم هؤلاء الذين يحفظون عهد آبائهم ولا يعصون الناموس المُعطى بواسطة موسى، بل يخافون الله الذي أُعلن بواسطته. هؤلاء مع كونهم مسبيين في بلاد غريبة لم تغْرِهم اللحوم الشهية، ولا صاروا عبيدًا لملذَّات الخمر، ولا أمسك بهم إغراء مجد الأمراء؛ بل حفظوا أفواههم مقدسة وطاهرة، وسبحوا بهذه الأفواه الآب السماوي[51]].
v من لم يرد أن يأكل أو يشرب من مائدة الملك وخمره لئلاَّ يتدنس (خاصة إن كان يدرك أن حكمة البابليين وتعليمهم خاطئة) لن يقبل أن يتفوه بما هو خاطئ[52].
دخل دانيال في حوار فيه شجاعة وجرأة مع دالة ولطف وبروح الاتضاع لا البرّ الذاتي. وكأن الحياة الدينية الحقة هي ممارسة الاعتدال، فلا يعيش الإنسان خانعًا في مذلةٍ ولا أيضًا عنيفًا لا يحترم الغير، أو متشامخًا كمن هو أبرّ منهم.
اتسم دانيال في حواره بالحكمة والوقار مع إيمان أن الذي يُحرك قلبه وقلب الغير هو الله. وكأن يلزمنا أن نضع عنصرًا خفيًا في الحوار وهو "تدخل الله لخيرنا الروحي"، فواضح من [9]، أن ثمرة الحوار ونتائجه لم تكن من فعل شخصية دانيال وحدها، إنما هو نعمة قدمها الله بمراحمه له في عينيّ رئيس الخصيان. فإن قلوب المتولين علينا - حتى إن كانوا غير مؤمنين أو قساة - هي في يد الله، يحركها لحسابنا. "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يُميله" (أم 21: 1).
الله نفسه يريدنا أن نحاوره، كما دخل معه إبراهيم وموسى وداود وغيرهم في حوارٍ معه.
ج. صام دانيال وأصدقاؤه عشرة أيام بجدية وتعبوا، فأعطاهم الله عشرة أضعاف. أعطاهم منظرًا حسنًا وصاروا أسمن من كل الفتيان. ما تم معهم لم يكن طبيعيًا إنَّما هو هبة من الله. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (تث 8: 3).
v لقد علموا أنه ليس اللحم الأرضي هو الذي يهب الناس جمالاً وقوة، إنما نعمة الله التي يمنحها الكلمة[53].
أعطاهم معرفة وعقلاً وحكمة، فالصوم الروحي المعتدل لا يضعف العقل بل يسنده ويقيمه وينميه.
د. يُقدم لنا هذا السفر صورة حيَّة عن صوم دانيال الذي كان يكتفي بالبقول (القطاني [12])، ممتنعًا عن أكل اللحوم (دا 10: 3) كما امتنع عن كل ترف من شرب الخمر ومن المسح بالدهن (10: 3). مارس المرتل الصوم بنفس الكيفية، إذ يقول: "ركبتايْ ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل من أكل الزيوت" (مز 109: 24). هذا ويُصاحب الصوم عن الأكل التوبة والندامة (10: 2).
v كان إيمانه عظيمًا للغاية فأنه ليس فقط وعد أنه سيكون في صحة الجسد بأكله الطعام المتضع، بل وحدد زمنًا لذلك. لم يكن ذلك تهورًا منه بل موضوع إيمان. بهذا الإيمان احتقر الطعام الفاخر الذي للملك[54].
4. نتائج الاختبار:
"وعند نهاية العشرة الأيام ظهرت مناظرهم أحسن وأسمن لحمًا من كل الفتيان الآكلين من أطايب الملك.
فكان رئيس السقاة يرفع أطايبهم وخمر مشروبهم ويعطيهم قطاني" [15-16].
لا نعرف عدد الشبان الذين اختيروا لخدمة الملك ومعاونته في عمله. بلاشك كانوا كثيرين، لكننا لا نعرف بالاسم إلاَّ دانيال وأصدقاءه الثلاثة. فإذ كانوا جادين في أمانتهم لله في كل شيء بالرغم من الظروف القاسية، وخاضعين لإرادتهم مهما كلفهم الأمر، استحقوا تسجيل أسمائهم في الكتاب المقدس، ونقشها في سفر الحياة الأبدية.
5. تمتعهم بالحكمة والفهم:
"أما هؤلاء الفتيان الأربعة فأعطاهم الله معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة وكان دانيال فهيمًا بكل الرؤى والأحلام" [17].
لقد تمم الله وعده مع مؤمنيه: "إنيِّ أُكرم الذين يكرمونني" (1 صم 2: 30).
v لاحظ أنه قيل بأن الله يُعطي الفتيان القديسين معرفة وعلمًا في الأدب العلماني، في كل كتاب أو فرع من فروع الحكمة[55].
لقد ميَّز الله دانيال لا عن بقية الشعب فقط ولكن حتى عن زملائه القديسين لكي يُهيئه لتحقيق عملٍ نبويٍ هامٍ. يرى القدِّيس جيروم أن الله أعطى الأربعة فتيان حكمة ومعرفة، لكنه أضاف إلى دانيال فهم الرؤى والأحلام، فما يراه الآخرون في مظهرٍ كظلٍ يمكنه أن يدرك بوضوح بعينيّ الفهم[56]. هكذا وهب الله الأربع فتية معرفة وعقلاً مع حكمة في الأدب الكلداني والسلوك، لكن دانيال تميَّز عن زملائه بروح النبوة إذ وهبه الله فهمًا للرؤى والأحلام، للكشف عن إرادة الله وخطته. لقد حرَّم الله استخدام السحر بدعوى معرفة المستقبل (تث 18: 10)، لكنه لا يبخل عن كشف بعض الجوانب من المستقبل لأنبيائه لبنيان شعبه ومجد اسمه القدوس.
6. تفوقهم على كل المجوس:
"وعند نهاية الأيام التي قال الملك أن يُدخلوهم بعدها أتى بهم رئيس الخصيان إلى أمام نبوخذنصر.
وكلمهم الملك فلم يوجد بينهم كلهم مثل دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا.
فوقفوا أمام الملك.
وفي كل أمر حكمة فهم الذي سألهم عنه الملك وجدهم عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته" [18-20].
ما كان يمكن للملك أن يختبر هؤلاء الشبان لو لم يكن هو نفسه حكيمًا وذا معرفة وثقافة عالية. لقد سُرَّ الملك بهم لأنه لم يحضرهم إلى القصر للتسلية بقصصٍ وأحاديث باطلة أو مداعبات لطيفة، إنما لمعاونته بروح الحكمة والجدية.
لقد تمجد الله في عبيده المسبيِّين، فقد فاقوا كل زملائهم الكلدانيين الذين كانوا يفتخرون أنهم أصحاب حكمة بالميلاد حاسبين غيرهم برابرة جهلاء. الآن يعترف ملكهم أن حكمتهم كلا شيء أمام فيض نعمة الله.
"وكان دانيال إلى السنة الأولى لكورش الملك" [21].
لا يعني هذا أن دانيال لم يبقَ سوى إلى السنة الأولى لكورش الملك، إنما أراد هنا تأكيد معاصرة دانيال لمدة السبيّ حتى نهايتها، إذ في هذه السنة رجع اليهود إلى أورشليم.
من وحي دانيال 1
v ليحملني العدو إلى قصر بابل،
لكنَّه لا يقدر أن يحدر نفسي من السماء!
ليُقدم ليّ كل الأطايب والملذات،
لكنه لن ينتزعني من المائدة السماوية!
بل أتمتع بخبز الملائكة!
v هب ليّ أن أصوم عن محبة العالم،
فتهبني بركة لجسدي ونفسي وعقلي.
تسندني بحكمتك السماوية،
وتكشف ليّ أسرارك الفائقة!
v كما كنت مع دانيال في قصر غربته،
رافقني بنعمتك أينما وُجدت!
تهبني نجاحًا في كل عمل تمتد إليه يديّ!
يصعب علينا جدًا أن نعبِّر عن مشاعر الشاب دانيال ورفقائه الثلاثة. حقًا لقد تمجَّد الله فيهم، وأعطاهم نعمة في عينيْ الملك، فحسبهم أكثر حكمة من كل حكماء الكلدانيِّين. نالوا نعمة في أعين الكثيرين، وصارت لهم كرامات، وبين أيديهم كل الإمكانيَّات، لكنهم كانوا في القصر أشبه بعصافير حُبست في قفصٍ ذهبيٍّ مرصَّع باللآلئ. فإن الحرية بالنسبة لهم كما لشعبهم أفضل من كل ما بين أيديهم.
أراد الله أن يؤكد لدانيال أن ما حلَّ به ليس على سبيل الصدفة، فإن العالم كلُّه في قبضة يده؛ لا يفلت من يده شيء، من إقامة ممالك وإزالتها، حتى أحلام الإنسان بين يدي الله، لهذا سمح الله أن يرى نبوخذنصَّر حلمًا يرعبه، وتعجز كل البشرية عن معرفة الحلم وتفسيره، إنما يعلنه الله لدانيال ويكشف له عن تفسيره الذي يتلخص في عبارة واحدة، وهى "الله ضابط التاريخ والمهتم بخلاص العالم".
هذا وقد أراد الله أن يكشف ما تميَّز به دانيال بروح النبوة، موضحًا أثر نعمة الله العاملة فيه.
1. تاريخ الحلم [1].
2. الحلم المنسي [2-12].
3. الأمر بقتل الحكماء [13].
4. تصرف دانيال [14-18].
5. كشف السرّ [19-24].
6. لقاء مع الملك [25-30].
7. التمثال المعدني [31-33].
8. الحجر العجيب [34-36].
9. تفسير الحلم [37-45].
10. دانيال الممجد [46-48].
11. رفقاء دانيال [4].
1. تاريخ الحلم:
"في السنة الثانية من مُلك نبوخذنصَّر حَلَمَ نبوخذنصَّر أحلامًا فانزعجت روحه وطار عنه نومه" [1].
ربما يتساءل البعض كيف كان الحلم في السنة الثانية لحكم نبوخذنصَّر وقام دانيال بتفسيره بينما كان هو والثلاثة فتية لازالوا طلبة تحت التمرين، لم يقفوا أمام الملك إلاَّ في نهاية الأيام (1: 18)، أي بعد ثلاث سنوات (1: 5)؟
أ. عبارة "ثلاث سنين" قد تُشير هنا إلى جزء من السنة الأولى والسنة الثانية وجزء من السنة الثالثة (قارن 2 مل 18: 9-10؛ إر 34: 14؛ مر 8: 31)، بحيث تشمل سنة التدريب الأولى جزءً من سنة ارتقاء نبوخذنصَّر إلى العرش، والسنة الثالثة جزءً من سنة ملكه الثاني بالحساب البابلي[57].
ب. يرى البعض أن السنة الثانية هنا تعني بعد خراب أورشليم والهيكل وتحطيم المجتمع اليهودي عام 588 أو 587 ق.م.
ج. الرأي الأرجح والأكثر قبولاً أن ما ورد في الأصحاح الأول كان في أيام نبوخذنصَّر حين كان مساعدًا لوالده نبوبلاسر في الحكم، أما هنا فيقصد السنة الثانية من الحكم عندما تسلمه منفردًا[58]. نبوخذنصَّر صار ملكًا شريكًا مع والده كعادة الكثير من الملوك في ذلك الحين. حينئذ حاصر أورشليم كملك شريك وقائد للجيش، ثم اضطر إلى ترك الحصار والدخول مع فرعون في معركة كركميش لتمرُّده عليه... وكان والده لا يزال حيًا. وإذ عاد وحاصر أورشليم عام 606 أو 605 ق.م. حيث تم الترحيل الأول، مات والده وانفرد بالحكم. بهذا يتفق النص مع ما ذكره التاريخ. بمعنى آخر كان دانيال ورفقاؤه يتدربون على حكمة الكلدانيِّين في أواخر أيام نبوخذنصَّر كشريكٍ مع والده، ثم وقف أمامه في السنة الثانية من حكمه المنفرد وبعد انقضاء مدة التدريب.
يقول القدِّيس جيروم إن السنة الثانية هنا بعد أن ملك ليس فقط على اليهود والكلدانيِّين وإنما على كل الأمم الأخرى مثل أشور ومصر. لهذا يقول يوسيفوس[59] أن نبوخذنصَّر حلم حلمًا عجيبًا عن الأمور المستقبلية بعد نصرته على مصر[60].
يذكر هنا أنه حلم "أحلامًا" بصيغة الجمع، مع أنه لم يرد هنا سوى حلم واحد، لكنه استخدم صيغة الجمع بسبب ما يحمله الحلم من مواضيع كثيرة، أو ربما حلم الملك أحلامًا كثيرة على فترات طويلة تحمل ذات المعنى، وجاء الحلم الأخير يبعث فيه الارتباك، فأرسل إلى المجوس والحكماء يسألهم في أمر هذا الحلم.
لماذا لم يذكر نبوخذنصَّر الحلم للحكماء؟ يجيب القدِّيس جيروم على هذا التساؤل، قائلاً: [لقد بقي الحلم في قلب الملك أشبه بظل، أقول، مجرَّد صدى أو آثار للحلم، حتى إذا أعاد آخرون الحلم أمامه يقدر أن يستعيد ما قد رآه، وبالتالي بالتأكيد لن يخدعوه بالأكاذيب[61]]. ربما مما ضاعف ارتباكه هو نسيانه للحلم، فشعر بالحاجة إلى من يذكِّره به. الله الذي أعطاه الرسالة بالحلم جعله ينساه ليزيد من ارتباكه، مع أنه عادة يتجاهل الناس الأحلام التي ينسونها.
ربما كان نبوخذنصَّر يفكر في مستقبل العالم ويطلب إرشادًا من الآلهة، لذا كشف له الرب عن أزمنة الأمم (لو 21: 24). فرأى أن حكمه ينهار ليعقبه إمبراطوريات تظهر وتختفي حتى يملك الرب أبديًا. أدرك الملك وهو يحلم أنه يرى أمورًا غير عادية، وأن هناك رسالة من العالم الآخر موجهة إليه، لا يعلم ما هي. لذا إذ استيقظ نسي تفاصيل الحلم، كل ما يعرفه أنه حلم غريب مُقدم له من السماء، لذا طلب من يذكره بما رآه ويكشف له سره.
الله الذي قدم للملك الحلم، هو بنفسه نزع ذكرى تفاصيله من ذهن الملك حتى يرتبك جدًا ويلجأ إلى الحكماء والعرافين. هذا حدث فيما بعد مع الملك أحشويرش حيث أُصيب بأرقٍ ولم يستطع أن ينام، فأخذ يتصفح سجلات القصر ليبدأ الله معه بالعمل لخلاص شعبه من هامان الشرير (إس 6: 1).
2. الحلم المنسي:
هذه الأحلام وأمثالها هي أمثلة لعمل الله القدير في الخفاء لصالح مؤمنيه.
يميِّز العلامة ترتليان في مقاله "عن النفس"، بين الأحلام بناءً على مصادرها الثلاثة[62]:
أ. أحلام من الشيطان، تبدو أحيانًا صادقة ونافعة، لكنها مخادعة.
ب. أحلام من الله، كما حدث مع نبوخذنصَّر الوثني، وذلك من قبل رحمته بكل البشريَّة.
ج. أحلام تتم كعمل طبيعي في حياة الإنسان اليومية، غالبًا ما تكون كرد فعلٍ لسلوكه، ففي المساء حيث يكون الرقيب الداخلي للنفس خاملاً تتراءى أحداث اليوم بما تحمله من اشتياقات ومخاوف ومن أفراح وأحزان في شكل أحلام. لذا يُقال الجائع غالبًا ما يحلم بالخبز، والعطشان بينابيع مياه.
"فأمر الملك بأن يُستدعى المجوس والسحرةُ والعرَّافون والكلدانيُّون لُيخبروا الملك بأحلامهِ،
فأتوا ووقفوا أمام الملك" [2].
يُستخدم تعبير "الكلدانيِّين" ليعني البابليِّين بصفة عامة، لكنه فيما بعد اُستخدم في معنى ضيِّق ليعني طبقة الحكماء وحدهم.
يظن بعض النُقاد المتحررين أن كلمة "كلدانيِّين" في عصر دانيال كانت تعني شعب كلديا Chaldea وليس فئة معينة منهم. لكن يقول A.W. Criswell أن الاكتشافات الأثريَّة دلت على صحة ما سجله دانيال النبي، فأنها كانت في عصره تعني فئة كهنوتية تخدم الإله بل Bel أو بعل وكانوا يشكلون صفوة المجتمع.
واضح من هذه العبارة أن الملك شعر بأن الحلم يحمل رسالة إلهية سماوية، فقد سبق وحلم كثيرًا ولم يهتم، لكنه في هذه المرة استدعى كل المجوس والسحرة والعرَّافين والكلدانيِّين فقد حلَّ الرعب به، وافقده قدرته على النوم، فشعر بأن السماء تعلن له سرًّا خطيرًا.
في البداية، فرح السحرة والعرَّافون بدعوة الملك، إذ ظنُّوا أنه يطلب مشورتهم في أمرٍ ما، أو يروي لهم حلمًا فيفسرونه له، وبهذا ينالون هدايا وهبات من عنده. لم يخبروا دانيال وأصدقاءه بدعوة الملك لهم وذلك بدافع الطمع والحسد. أثار اليهود التساؤل: لماذا لم يدخل دانيال وأصدقاؤه إلى الملك؟ يقدم القدِّيس جيروم إجابة اليهود على التساؤل: [عندما وعد الملك بهباتٍ وعطايا وكرامة عظيمة لم يهتموا أن يقفوا أمامه لكي يظهروا بلا عيب، فلا يطلبون غنى الكلدانيِّين وكرامتهم. أو كان الكلدانيُّون أنفسهم دون شك يحسدون اليهود على سمعتهم وعلمهم فدخلوا وحدهم أمام الملك لكي ينالوا المكافآت لأنفسهم. بعد ذلك طلبوا بجدية أن يكون معهم هؤلاء الذين جحدوا أي رجاء في المجد ليساهموا في حلَّ كارثة عامة[63]].
ولعل عدم استدعاء دانيال ورفقائه مع المجوس كان بناء على طلب الملك الذي وإن كان قد اختبر حكمتهم فوجدهم عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في مملكته (1: 20)؛ لكنه لم يكن بعد قد وثق في أمانتهم وإخلاصهم له ولمملكته، فلم يرد أن يسألهم في أمر يشعر أنه يمس كيان المملكة.
سواء كان المجوس هم السبب أو الملك فإن الله سمح بذلك لكي لا يدخلوا مع جملة السحرة والعرَّافين... كان يجب تمييزهم عنهم لأنهم يعملون بروح الرب لا بالسحر والعرافة. على أي الأحوال، قدم عزلهم عنهم الفرصة ليتمجد الله فيهم وبهم.
"فقال لهم الملك قد حلمت حلمًا، وانزعجت روحي لمعرفة الحلم.
فكلَّم الكلدانيُّون الملك بالآراميَّة:
عش أيها الملك إلى الأبد.
أخبر عبيدك بالحلم فنبَيِّن تعبيرهُ." [3-4].
اعترف الملك بجهله لمعرفة تفسير الحلم، وضعفه أمام رسالة هذا الحلم.
إذ قالوا له: "عش أيها الملك إلى الأبد"، لم يكن ذلك مجرَّد تحية بسيطة، لكنهم رأوا علامات القلق تملأ وجهه، فسألوه أن يكون متهللاً بروح طيبة وأن ينزع كل قلقٍ من روحه، فأنهم قادرون على تفسير الحلم في يقينٍ شديدٍ.
"فأجاب الملك وقال للكلدانيِّين:
قد خرج منيّ القول إن لم تنبئُوني بالحلم وبتعبيره تصيرون إربًا إربًا وتُجعل بيوتكم مزبلة" [5].
مع أنهم تحدثوا معه في اعتزاز كمن كانوا واثقين أنهم يستجيبون لطلبته، فوجئوا أنه يطلب منهم ما ليس في استطاعتهم، وفوق حدود فنونهم وعلمهم، إن كان بالحقيقة لهم معرفة أو علم.
لقد كان هؤلاء الحكماء والسحرة أنصاف آلهة في أعين رجال الدولة والشعب. الآن صاروا في موقفٍ مهين للغاية، كثمرة طبيعية للتشامخ والعجرفة، حيث نسبوا لأنفسهم ما ليس لهم.
هذا التهديد الخطير كشف عن عنف الملك ووحشيته، كما أعطى الفرصة لانتشار الخبر على مستوى واسع، فتمجد الله بالأكثر خلال عمله بواسطة دانيال النبي.
"وإن بيَّنتُم الحلم وتعبيره تنالون من قبلي هدايا وحلاوين وإكرامًا عظيمًا، فبيِّنوا ليّ الحلم وتعبيره" [6].
إذ كان الملك يعرف أنهم طمَّاعون ومحبون للمجد الباطل وعدهم بهدايا جزيلة ومكافآت مع كرامة.
"فأجابوا ثانية وقالوا: ليُخبر الملك عبيده بالحلم فنُبيِّن تعبيره.
أجاب الملك وقال: إنِّي أعلم يقينًا أنكم تكتسبون وقتًا إذ رأيتم أن القول قد خرج منيِّ.
بأنه إن لم تُنبئوني بالحلم فقضاؤكم واحد.
لأنَّكم قد اِتَّفقتم على كلام كذبٍ وفاسدٍ لتتكلموا به قُدَّامي إلى أن يتحول الوقت.
فأخبروني بالحلم فأعلم أنكم تُبيِّنُون ليّ تعبيره." [7-9].
أصرّ المجوس على إخبارهم بالحلم، وفي عجرفة أكدوا إمكانيتهم في تفسيره. أضاف الملك إلى المجوس جريمة جديدة وهي جريمة الخداع أو الاتفاق على كلام كذبٍ وفاسد. فأنهم إذ عرفوا أنه نسي الحلم وتأكدوا من ذلك طلبوا منه أن يقصه لهم. لقد تأكد أنهم يكسبون الوقت لعلَّه يهدأ من ثورته ويعفو عنهم. خلال الحوار بين الملك والكلدانيِّين يظهر أنه كان يشك في أمرهم، أنهم يقدمون كلمات معسولة لكنهم غير صادقين في المعرفة. لقد حاولوا كسب الوقت حتى يهدأ من موجة غضبه فيغيِّر رأيه في أمر قتلهم. وقد جاءت كلمة "تكتسبون" بمعنى "تشترون"، أي يشترون الوقت الذي فيه ثورة وغضب حتى يعبر وينتهي.
أدرك الكلدانيُّون أن أمور المستقبل لا يعلنها إلاَّ الله. نشكر الله على محبته إذ جاءنا كلمة الله يخبرنا بكل شيء، وكما قالت المرأة السامرية: "أنا أعلم أن مسيَّا الذي يُقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكل شيء" (يو 4: 25).
"أجاب الكلدانيُّون قُدام الملك وقالوا:
ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يُبيِّن أمر الملك.
لذلك ليس ملكُ عظيم ذو سُلطان سأل أمرًا مثل هذا من مجوسي أو ساحر أو كلداني" [10].
قدموا عذرًا عادلاً للملك، وهو أن ما يطلبه ليس في استطاعة إنسان على الأرض، ولم يذكر التاريخ مثلاً واحدًا لصاحب سلطان أن سأل أمرًا كهذا أن يخبره أحد بما رآه في حلمه. هكذا قدم الكل شهادة جماعية أنه إن أخبره أحد بالحلم، هذا لن يكون بعملٍ بشري، إنما هو عطية إلهية من السماء، لأن الله وحده يعرف أحلام الناس وأفكارهم الخفية. قدموا هذا شهادة لإله دانيال قبل أن ينطق دانيال بكلمة.
"والأمر الذي يطلبه الملك عَسر وليس آخر يُبيِّنه قُدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكُناهم مع البشر" [11].
يظن البعض أنهم يقصدون هنا الملائكة بكونهم وحدهم قادرين على تقديم هذا الحلم الغريب الذي جاء كإعلانٍ إلهيٍّ ومُحيّ من ذهن الملك لغرض إلهي، دون أن يزول الاضطراب من روحه. ويرى بعض الدارسين أنه يقصد الآلهة، إذ كان الكلدانيُّون يتعبدون لجمهور من الآلهة مع وجود إله أسمى وهو الحاكم وحده.
"لأجل هذا غضب الملك واغتاظ جدًا وأمر بإبادة كل حكماء بابل" [12].
لم يسترح الملك لإجابة المجوس بل اشتعل بالأكثر غضبه وتحول تهديده إلى أمر ملكي صدر بقتل كل حكماء بابل.
3. الأمر بقتل الحكماء:
"فخرج الأمر وكان الحكماء يُقتلُون،
فطلبوا دانيال وأصحابه ليقتُلُوهم" [13].
لم يُطلب دانيال وأصدقاؤه حينما اُستدعى الحكماء بواسطة الملك للكشف عن الحلم وتفسيره، لكن حين صدر الأمر بقتل الحكماء طُلبوا ليُقتلوا معهم، ومع هذا لم يحملوا ضغينة أو كراهية لهم، بل قام دانيال بإنقاذهم دون كلمة عتابٍ واحدة.
4. تصرف دانيال:
"حينئذ أجاب دانيال بحكمة وعقل لأريوخ رئيس شُرط الملك الذي خرج ليقتل حكماء بابل.
أجاب وقال لأريوخ قائد الملك: لماذا اشتد الأمر من قبل الملك؟
حينئذ أخبر أريوخ دانيال بالأمر" [14-15].
واضح من النص أن بعض الحكماء قُتلوا قبل طلب دانيال وزملائه للقتل. وكان لهذا القتل مع نشر المرسوم الملكي أثره على كل الأوساط في الدولة.
إذ طُلب دانيال لقتله، التقى برئيس شرط الملك وليس بالملك نفسه، لأنه كان تحت حكم الموت بناء على المنشور الصادر دون أي استثناء، فاحتاج إلى تدخل وسيط بينهما يوضح للملك أن الأمر شمل دانيال، بينما لم يُستدع مع المجوس للكشف عن الحلم. فإن الأمر بقتله يحمل ظلمًا مع تسرع. هذا واضح من كلمات اللوم بلطفٍ واتزانٍ الموجهه من دانيال إلى الملك: "لماذا اشتد الأمر من قبل الملك؟!"
واضح من حديث دانيال مع رئيس الشرط أن دانيال يطلب ما لصالح الملك أكثر منه دفاعًا عن حياته الزمنية. فالحكم المفاجئ بموته ظلمًا لم يفقده حكمته واتزانه ولم يزعج روحه. أزعج الحلم روح الملك، بينما صدور أمر بالقتل لم يربك عقل دانيال، لا لشيء إلاَّ لأن حياة دانيال وفكره وقلبه هي تحت قيادة روح الله. هذا ما يظهر بأكثر وضوح بطلبه مهلة من الملك للتمتع بإعلان إلهي. يطلب بثقة ويقين أن نعمة الله تسنده وتقدِّم له احتياجاته. لقد عرف أن هذا الطلب له خطورته فأنه إن عاد اليوم التالي بلا إجابة تكون عقوبته مضاعفة، حيث يُسرع الملك بقتله ربما بطريقة أكثر عنفٍ وعارٍ، كما يُشهَّر بأمره علانية.
"فدخل دانيال وطلب من الملك أن يعطيه وقتًا فيُبيِّنُ للملك التعبير.
حينئذ مضى دانيال إلى بيته وأَعلم حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه بالأمر ليطلبوا المراحم من ِقبَل إله السموات من جهة هذا السرَّ لكي لا يهلك دانيال وأصحابه مع سائر حُكماء بابل" [15-18].
طلب الكلدانيُّون معرفة الحلم لكي يفسروه، أما ما طلبه دانيال فهو مهلة زمنية قصيرة ليقف أمام كاشف الأسرار ويهبه السرَّ.
بالقول: "مضى دانيال إلى بيته" إشارة أن الملك أعطاه مهلة زمنية لكي يُعدّ نفسه للِّقاء معه، ربما لمدة يومٍ واحدٍ. بلاشك كان الملك يود الرد السريع لمعرفة حلمه ونزع اضطراب روحه، لكن دانيال غالبًا طلب هذا اليوم ليتمتع بإعلان إلهي يكشف له عن الحلم وتفسيره، فأمهله الملك.
إذ أُعطيت له المهلة الزمنية من قِبل الملك لم يلجأ إلى المكتبة ليقرأ، ولا إلى أصدقائه لطلب مشورة، إنما ذهب إليهم لمساندته بالصلوات. لقد كان دانيال ملاصقًا لله لكنه كان يشعر بالحاجة إلى صلوات وشفاعات أصدقائه لدى الله؛ هكذا كان يطلب الرسول بولس من الشعب أن يصلوا لأجله لكي يعطيه الرب حكمة عند افتتاح فمه. هكذا دخلت التجربة به وبأصدقائه إلى صلوات أعمق وشركة مع الله.
v طلب دانيال وقتًا لا ليبحث في السرائر بمهارة قدرته العقلية، وإنما لكي يطلب رب السرائر. لهذا السبب طلب من حنانيا وميشائيل وعزريا أن يشتركوا معه في الطلب، ليتحاشى مظاهر الظهور بأنه وحده يستحق ذلك، هذا وإذ كانوا مشتركين في الخطر العام يشتركون في صلاة عامة[64].
إذ تحدث دانيال مع أصدقائه دعى الله "إله السموات" [18]، ولم يقل "إله إسرائيل"، لأنه يعلم أن إسرائيل قد أخطأ ولم يعد مستحقًا أن يُنسب الله إليه لأجل عصيانه، إنما يُنسب إلى السماء التي بالحب تخضع لإرادته. اُستخدم هذا اللقب في أسفار نحميا وحزقيال ودانيال بكونها أسفارًا ترتبط بالسبي، فيظهر كأن الله قد فارق شعبه إلى حين، ليقدموا توبة جماعية فيرجع ويسكن في وسطهم؛ كما ذكر هذا اللقب في سفر الرؤيا حيث يرفع قلبنا إلى السماء، فنرى إلهنا يحملنا إلى سمواته، ويُدعى إله السموات.
سند الفتية الثلاثة دانيال بصلواتهم لا طمعًا في مقاسمته مكافأة من قبل الملك، ولا لنزع العار عنه، وإنما ليتمجد الله في نبيه في أرض السبيّ.
لقد كانت أعين هؤلاء الأتقياء متّجهة نحو "المراحم" الإلهية، فهي وحدها سندنا وقت الضيق.
5. كشف السرّ:
سمح الله لدانيال بالضيقة ليدخل إلى بيته ويلتقي بإله السموات، فيرفع قلبه وفكره إلى السماء، ويكتشف أسرارًا أعمق، ويتمتع بمعرفة تملأ كيانه عذوبة تبتلع كل ضيقٍ. ما أحوجنا أن ندخل كل يوم إلى بيتنا، أورشليمنا الداخليَّة، لنلتقي بذاك الذي يحملنا من هموم هذه الحياة ويدخل بنا إلى عربون الأبدية.
"حينئذ لدانيال كُشف السر في رُؤيا الليل.
فبارك دانيال إله السموات. [19].
إذ طلب دانيال ورفقاؤه من الرب بغير ارتياب قدم الله لهم سؤل قلبهم، وكما يقول يعقوب الرسول: "ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجًا من البحر تخبطه الريح وتدفعه، فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئًا من عند الرب" (يع 1: 6-7). الله قريب من الذين يصرخون إليه بالحق وفي إخلاص مع إيمان.
"أجاب دانيال وقال:
ليكن اسم الله مباركًا من الأزل وإلى الأبد،
لأن له الحكمة والجبروت.
إذ كشف الله لدانيال عن السرّ لم يفكر في لقائه مع الملك، ولا انشغل بما ناله، بل قدم تسبحة جديدة للرب، ناسبًا لله الحكمة التي نالها والقوة التي تمتع بها. أنه يمجد الله ضابط التاريخ بيده، والذي لا يُخفى عنه شيء، وهما أمران لا ينفصلان عندما يُعلن جلال الله.
وهو يغير الأوقات والأزمنة. يعزلُ ملوكًا ويُنصِّب ملوكًا.
يعطي الحكماء حكمة ويُعلم العارفين فهمًا" [20-21].
كثيرون يعترفون بوجود الله وقدرته وحكمته لكنهم يحسبونه معزولاً عن حياة البشريَّة بوجه عام، وعن حياتهم بوجه خاص؛ أما دانيال فيسبح الله العامل في حياة الكل، برحمته العلوية. إن وُجد أُناس أقوياء في العمل وحكماء، فإن الله وحده هو مصدر القوة والحكمة، لا يحرمنا منهما. مسيحنا هو حكمة الله كقول الرسول: "لله الحكيم وحده بيسوع المسيح" (رو 16: 27)، نقتنيه فنقتني الحكمة.
الإنسان المُعاصر مع كل صباح يتوقع تغييرات مستمرة على المستوى العالمي، يقرأ الصحف بشغف مترقبًا ماذا يحدث من جديد. أما أولاد الله فيرتفع قلبهم مع كل صباح ليروا ويُدركوا خطة الله نحو خلاص العالم، هذا الذي في يده كل دقائق الأحداث على كل المستويات: العالمية والمحلية والكنسية والشخصية. مع كل صباح يُسبح الله على عنايته الفائقة المُشرقة دومًا بالعمل المُستمر. يرى المؤمن حركة دائمة في السماء كما في الطبيعة وفي حياة البشرية وفي حياته الخاصة. كلها تُسبح الله الحكيم والقدير وحده. أما قوله "يُعطي الحكماء حكمة"، فتعني أن الله وهب الإنسان حكمة طبيعية، وهي هبة إلهية. فإن كان أمينًا في هذه الحكمة الطبيعية ناسبًا إياها لله وذلك بروح الاتضاع، يُقدم له حكمة سماوية أعظم، وهكذا بالنسبة للمعرفة، فإن كنا أمناء في القليل يُقدم لنا الكثير؛ لأن من له يُعطى فيزداد.
"هو يكشف العمائق والأسرار.
يعَلَم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور" [22].
يتحدَّث هنا بصفة خاصة عن نعمة النبوة حيث يُحسب الله أنبياءه مفسري أسراره لبني البشر. هذه نعمة تُعطى لبعض الأخصاء الأمناء، حسب ما فيه بنيان الجماعة وإعلان مجد الله.
إذ يسكن الله في النور يدخل برجاله إلى النور، محطمًا مملكة إبليس، أي الظلمة. شتان ما بين السحرة أبناء الظلمة ودانيال ابن النور!
يميِّز القدِّيس أغسطينوس بين التمتع باكتشاف الرؤيا بالروح وبين فهم الرؤيا بالذهن. فكما نعبد الله بالروح والذهن (1 كو 14: 15)، هكذا أدرك دانيال النبي الرؤيا الإلهيَّة بروحه واكتشف فهمها بذهنه.
v أعظم الأنبياء هو من يُمنح العطيَّتين، أعني الرؤيا بالروح للتشبيهات الرمزية بأمورٍ ماديَّة، وفهم هذه الأمور بقوة الذهن الحيوية.
هكذا كان دانيال الذي أُختبر سمو مركزه وتأسس ليس فقط عندما أخبر الملك عن الحلم الذي رآه بل وشرح معناه (دا 2: 27؛ 4: 16-24). لقد ظهرت له الصور المادية نفسها (الحلم) بالروح، واُعلن له عن فهمها بذهنه. إننيِّ استخدم هنا كلمة "الروح" بنفس المعنى الذي يستخدمه بولس عندما يميِّز بين الروح والذهن[65].
"إيَّاك يا إله آبائي أحمد وأسبِّح،
الذي أعطاني الحكمة والقوة،
وأعلمني الآن ما طلبناه منك،
لأنَّك أعلمتنا أمر الملك" [23].
يُمجد دانيال الله "إله آبائه"، أي إله الكنيسة الحية الممتدة عبر العصور. الله الذي عمل في القديم عجائب مع آبائه يعمل الآن مع دانيال، ويعمل في العصور المتتالية إلى انقضاء الدهر. يقول القدِّيس أكليمنضس السكندري: [إن الله واهب الحكمة والعلم والمعرفة والفلسفة الحقة].
v يدعو الكتاب المقدس كل علمٍ علماني أو فنٍ حكمة، ويُحسب الابتداع الفني والمهارة هما من الله. هذا يظهر واضحًا إذ نورد العبارة التالية: "وكلم الرب موسى: "اُنظر، قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور، من سبط يهوذا، باسمه، وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة" (خر 31: 1-2).
الذين هم حكماء في الذهن لهم عزوة خاصة بالطبيعة منسوبة إليهم، والذين يظهرون أنفسهم قادرين أن يتسلَّموا من "حكمة العلي" لهم روح إدراك مضاعف[66].
v يعطي الله حكمة من فمه الخاص، ومعرفة مع فهم، ويخزن عونًا للأبرار[67].
v قبل مجيء الرب كانت الفلسفة ضرورية لليونان للبرّ. والآن فهي تبلغ بالإنسان إلى التقوى بكونها نوعًا من التدريب يهيِّئ الذين بلغوا إلى الإيمان خلال البرهان[68].
القدِّيس أكليمنضس السكندري
"فمن أجل ذلك دخل دانيال إلى أريوخ الذي عينه الملك لإبادة حكماء بابل.
مضى وقال له هكذا:
لا تَبِد حكماء بابل.
أدخلني إلي قُدام الملك، فأُبيِّن للملك التعبير" [24].
لماذا طلب دانيال من أريوخ أن يتوقف عن قتل الحكماء مع أنهم سحرة ويسلكون كأتباع للشيطان؟
أ. لم يطلب هذا لأنهم أبرار، بل لأن الحكم بقتلهم صدر ظلمًا، إذ لا يستطيع أحد أن يعرف الأحلام إلاَّ الله وحده.
ب. لم يكونوا يهودًا سمعوا الشريعة التي تُحرم السحر والعِرافة.
ج. بتوقف قتلهم يعطيهم هم وعائلاتهم ومعارفهم فرصة لإدراك عمل الله الحقيقي في حياة أنبيائه.
سرعان ما استجاب الله لصلوات دانيال ورفقائه، ولم ينسَ دنيال أن يشكر الله قبل أن يتقدم إلى الملك ويخبره بالحلم وتفسيره. لقد شعر دانيال وهو في السبيّ برعاية الله الفائقة، الله الضابط الكل يُحدد المواعيد والأزمنة. فبعد قرون جاء السيِّد المسيح، وحرص القادة اليهود إلاَّ يمسكوه ويقتلوه في عيد خشية تجمُعات الشعب. ومع هذا تمَّت خطَّة الله بقتله في فترة عيد الفصح ليؤكد أنه الفصح الحقيقي، فيه تحققت الرموز الخاصة بالأعياد.
يُعلق القدِّيس هيبوليتس الروماني على كشف السرّ لدانيال قائلاً: [بقي الحلم سرًا بالنسبة للذين لهم الفكر الأرضي، أما الذين يطلبون السماويات فتُعلن لهم الأسرار السماويَّة[69]]. [أظهر لهم الله أن ما هو مستحيل بالنسبة للإنسان ممكن بالنسبة لله[70]].
يرى القدِّيس هيبوليتس الروماني أن اسم أريوخ يعني حرفيًا "رئيس الجزارين" أو "رئيس الطباخين".
6. لقاء مع الملك:
"حينئذ دخل أريوخ بدانيال إلى قُدام الملك مُسرعًا. وقال له هكذا:
قد وجدت رجلاً من بني سبيّ يهوذا الذي يُعرف الملك بالتعبير" [25].
قدم أريوخ دانيال للملك كمن صنع خيرًا للملك يستحق المكافأة، إذ يقول له: "قد وجدت رجلاً..."، بينما لم ينسب دانيال لنفسه شيئًا، بل أعطى كل المجد لله.
لقد سبق أن دخل دانيال إلى الملك وطلب منه مُهلة ليُقدم له السرّ، فلماذا يقدمه أريوخ كما لو كان الملك على غير علمٍ بأمر دانيال؟ ربما لأن الملك قد أعطى دانيال مُهلة يومٍ واحدٍ، لكنه في حديثه الودي مع أريوخ أظهر يأسه من أن دانيال أو غيره من الحكماء يمكن معرفة السرّ، حاسبًا أن مُهلة اليوم التي قدمها لدانيال إنما هي لتبرير عدالته في قتل كل الحكماء بما فيهم دانيال.
أجاب الملك وقال لدانيال الذي اسمه بلطشاصَّر:
هل تستطيع أنت على أن تُعرِّفني بالحلم الذي رأيت وبتعبيره؟" [26].
واضح من هذا التساؤل يأس الملك من وجود إنسان قادرٍ على اكتشاف الحلم ومعرفة تفسيره. تحدث الملك مع دانيال مؤكدًا استحالة تحقيق الأمر، هذا مجَّد الله بالأكثر، وأظهر عمله الفائق مع دانيال.
أجاب دانيال قُدام الملك وقال:
السرّ الذي طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجِّمون على أن يُبيِّنوه للملك.
لكن يُوجد إله في السموات كاشف الأسرار وقد عرف الملك نبوخذنصَّر ما يكون في الأيام الأخيرة.
حلمك ورؤيا رأسك على فراشك هو هذا" [27-28].
في بدء حديثه مع الملك أوضح أن الحلم نبوي، مؤكدًا فكرة الملك بأن الحلم ليس حلمًا عاديًا بالمرة. مادام الحلم ليس طبيعيًا ولا بشريًا لهذا لا يقدر إنسان ما أن يُظهره أو يُفسره، إنما الله الذي أعطى الملك الحلم بروحه يكشف سرًّه.
لقد وهبه الله إعلانًا عما يكون في الأيام الأخيرة، حيث يسقط كل ملكٍ ليقوم آخر بدلاً منه، حتى يأتي ملك الملوك ويُقيم ملكوته الروحي في القلوب.
"أنت يا أيها الملك أفكارك على فراشك صعدت إلى ما يكون من بعد هذا، وكاشف الأسرار يُعرِّفك بما يكون" [29].
أثارَ دانيال مشاعر الملك بالأكثر حين أخبره أن حلمه ليس حلمًا طبيعيًا إنما هو صعود لأفكاره وارتفاع لها لتنعم بحضرة الله كاشف الأسرار، الذي حباه بهذا الحلم.
"أما أنا فلم يكُشف ليّ هذا السرّ لحكمة فيّ أكثر من كل الأحياء.
ولكن لكي يعرِّف الملك بالتعبير ولكي تعلم أفكار قلبك"[30].
الله بحكمته رفع أفكار الملك ليتمتع بسرّ خاص بالأيام الأخيرة، لكنه لم يستطع أن يفهم الحلم؛ أما دانيال فلم ينل الحلم بل نال معرفة حلم الملك ومعرفة تفسيره. لم ينسب دانيال لنفسه الحكمة ولا المعرفة أكثر من غيره من بني البشر، إنما يُقدم المجد لله الذي يكشف له السرّ لئلا يثور الملك ويخطئ في حق الله الذي أعطاه الحلم ثم نزع عنه تذكره كما لم يُقدم له التفسير، قال دانيال: الله الذي وهبك الحلم وهبك إيَّاي مفسرًا للحلم. وكأن كل ما يحدث إنما بخطة إلهية مُحكمة.
ربما يسأل أحد: هل يحدثنا الله الآن بالأحلام؟ أنه قادر أن يفعل ذلك، لكنه يعطينا ما هو أعظم، إذ يقول بولس: "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 2).
7. التمثال المعدني:
"أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثالٍ عظيمٍ.
هذا التمثال العظيم البهي جدًا وقف قُبالتك ومنظره هائل" [31].
ربما يتساءل البعض: لماذا قدم الله هذا الحلم الخاص بالممالك الأربع التي تنتهي بمجيء السيِّد المسيح لنبوخذنصَّر وليس لدانيال؟
أ. لو أن الحلم قُدم لدانيال فأعلنه وأعلن عن تفسيره، لما سمع به كل اليهود المُشتتين في الدولة البابلية، وأيضًا البقية الباقية في إسرائيل. لكنه إذ أُعلن للملك الذي اضطربت روحه وكاد أن يَقتل جميع الحكماء والسحرة والعرافين، انتشر الأمر في كل المملكة، وأمكن لكل يهودي أن يتساءل عن السرّ الإلهي وراء هذا الحلم.
ب. إذ يخص الحلم مجيء السيِّد المسيح مخلص العالم، أراد أن يسمع به الأمم لعلهم يتابعون أمر مجيء المُخلص.
"رأس هذا التمثال من ذهبٍ جيدٍ.
صدره وذراعاه من فضةٍ.
بطنه وفخذاه من نُحاس.
ساقاه من حديد.
قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف" [32-33].
بعد أن عرض دانيال الحلم لم يسأل: "هل هذا هو الحلم؟"، بل في ثقة ويقين أن ما أعلنه له الله صدق قال: "هذا هو الحلم؟" كان الملك يستمع إليه في صمت مع دهشة، فقد أخبره دانيال بالحلم في دقة شديدة.
يُلاحظ في هذا الحلم الآتي:
1. رأى الملك تمثالاً ملوكيًا عظيمًا، جاء في الأصل "صورة واحدة عظيمة"، فمع اختلاف معادنه هو تمثال واحد. كل الممالك المتعاقبة مع اختلاف إمكانياتها في نظر الله هي تمثال واحد، أو قوة زمنية واحدة، بهيَّة جدًا في أعين المنتفعين بها، ومرعبة (هائلة) بالنسبة للذين يسقطون تحت ضغط هذه القوى. لم يرَ الملك صورًا كثيرة أو تماثيل بل صورة واحدة مع أن الممالك الأربعة تختلف عن بعضها البعض، بل قامت كل مملكة على أنقاض الأخرى. ففارس قامت بغلبتها على بابل، ومقدونيَّة على حساب فارس، والدولة الرومانية على حساب المقدونية. مع اختلاف هذه الممالك تشترك في مقاومتها لإرادة الله، لهذا فهي تمثل وحدة واحدة مقاومة للحق.
2. رأس التمثال من ذهب، وينتهي بالقدمين من حديد وخزف، ففي هذا إشارة إلى انحلال العالم شيئًا فشيئًا وضعفه وفساده المتزايد عبر الأجيال.
3. هنا يتحدث عن كل مملكة ككل، وليس عن ملوك بأعينهم. فإن كان كورش قد وُجد يحمل صفات نبيلة مع حكمة واتزان لكن مملكة فارس ككل تحمل فسادًا ومقاومة للحق.
4. قُدم هذا الحلم لملكٍ وثنيٍ، لكي إذ يتعرف عليه اليهود المسبيُّون الذين يشتاقون إلى العودة إلى بلدهم لا يصابون بحالة إحباط عندما تظهر مملكة فارس لتحكم بابل ثم اليونان فالرومان، وفي هذا كله لم تعد تظهر بعد إسرائيل كما في أيام داود الملك أو سليمان، لأن الله يوَدْ تقديم مملكة ابن داود، الحجر الذي يضرب التمثال ويصير جبلاً عظيمًا، تمتدّ مملكته الروحية على مستوى العالم كله!
لقد أراد أن يُوجه أنظارهم من انتظار مملكة زمنية إلى ملكوت أبدي روحي.
5. تجاهل مملكة أشور، لأن الحلم لا يُقصد به تسجيل التاريخ بل قيادة الكل نحو السيد المسيح مخلص العالم. لهذا لم يذكر الممالك السابقة، بل بدأ بمملكة بابل.
6. وُصف نبوخذنصَّر في هذا الحلم وهذه الرؤيا بـ "الرأس من ذهب" فهو الذي جعل من بابل إمبراطورية عالمية لها مجدها وعظمتها وسيادتها وسلطانها، لهذا جعله الوحي الإلهي ليس مؤسسًا لهذه الإمبراطورية فحسب، بل صوّره على أنه هو وبابل واحد، فقد كان رمزًا لها وممثلاً لعظمتها، كقوله: "أليست هذه هي بابل التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دا 4: 30)، أو كما وصفه الوحي: "أنت أيها الملك الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت وبلغت إلى عنان السماء، وسلطانك إلى أقصى الأرض" (دا 4: 22). كان نبوخذنصَّر ملكًا وقائدًا عسكريًا ومعماريًا وعبقريًا فذًا، وكان سلطانه سلطانًا مباشرًا وبلا حدود على كل من خضع لصولجانه[71].
رمز الوحي الإلهي لهذا الملك ولمملكته بالذهب الذي يرمز في الكتاب المقدس إلى العظمة والرفعة والسمو. كما اشتهرت المملكة أيضًا بوفرة ما كان فيها من ذهب. يقول هيرودوت الذي زار بابل بعد نبوخذنصَّر بحوالي 90 سنة (450 ق.م.)؛ أنه لم يرَ ذهبًا في الأرض بمثل هذه الوفرة التي رآها في بابل، خاصة في معابدها وهياكلها ومذابحها وأوانيها ومعداتها، وروى غيره من المؤرخين عما رأوه من مصنوعات الذهب الخالص[72].
7. وقد رمز لمملكة فارس ومادي بالفضة التي تُشير في الكتاب المقدس إلى الغنى والطلب المتواصل للمال "فمن يحب الفضة لا يشبع" (جا 5: 10)، كما باع يهوذا السيد المسيح بالفضة (لو 22: 5). وكانت كلمة "فضة" في كل اللغات السامية هي نفس كلمة "مال". وكانت هذه الإمبراطورية محبة للمال جدًا وقد طورت نظامًا واسعًا للضرائب والتي كانت تدفع بالفضة، وبسبب هذا النظام الضرائبي جمع ملوك مادي وفارس ذخيرة واسعة من الأموال الفضية. وقد تنبأ دانيال النبي في رؤياه الثالثة (11: 2) عن أحد ملوك الفرس الذي "سيكون أغناهم" وكان يعني أحشويرش الذي جمع كل فضة أبيه داريوس وملوك الفرس الآخرين[73].
"أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إله السموات أعطاك مملكة واقتدارًا وسُلطانًا وفخرًا.
وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلَّطك عليها جميعها.
فأنت هذا الرأس من ذهب" [37-38].
وكانت عبارة "ملك ملوك" هي لقب مستخدم لكثير من حكام الشرق، فقد كشفت النقوش المسمارية أنه كان لقبًا عامًا بين الفرس، وبين الإثيوبيِّين والبابليِّين[74]. يُلقب نبوخذنصَّر في سفر حزقيال أيضًا بلقب "ملك الملوك" (حز 7: 25)، وقد امتد سلطانه على كل العالم المتحضر في زمانه، خاصة الأمم التاريخية مثل مصر وفلسطين وآسيا الصغرى. وبهذا المعنى صارت بابل مملكة عالمية، وكانت النموذج الأول والبداية كممثلة لكل القوى العالمية التاليّة لها.
ويُلاحظ هنا أن دانيال لم يتملَّق الملك بل دعاه الرأس الذهبي للتمثال الذي يتحطم تمامًا، وأنه ستقوم بعده مملكة أخرى. وحينما يقول "أنت هذا الرأس" لا يقصد به هو شخصيًا بل مملكة بابل التي من أشهر ملوكها نبوخذنصَّر. وقد عُرف هذا الملك بالقسوة والعنف، كما عُرف الملك بيلشاصر باستخفافه بالله الحق.
"وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك، ومملكة ثالثة أخرى من نحاسٍ فتتسلَّط على كل الأرض" [39].
دعى مملكة فارس أصغر من مملكة بابل، ليس من جهة اتساع الرقعة ولا ضعف في القوة والسلطان أو الغنى، إنما هي أصغر بسبب تزايد الفساد والوحشية. حتى كورش المُتزن والحكيم في بعض الأمور استخدم الوحشية وهو يحاول السيطرة على العالم كله في كل اتجاه.
تحدث بعد ذلك على مملكة المقدونيِّين التي تسلطت على كل الأرض، يدعوها "نحاسية"، ليس لأنها أكثر صلابة من مملكة فارس، لكن لأنها أكثر رداءة، حتى متى قورنت بها تكون كالنحاس بالنسبة للفضة.
وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد، لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكُسر تسحقُ وتكُسر كل هؤلاء.
وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد، فالمملكة تكون مُنقسمة، ويكون فيها قوة الحديد من حيث أنك رأيت الحديد مُختلطًا بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قويًا والبعض قصمًا.
وبما رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين فأنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف" [40-43].
ينطبق الحديث هنا على مملكة الرومان (58 ق.م- 76 ق.م). إذ انقسمت المملكة المقدونية إلى أربعة أقسام بعد موت الإسكندر، وقام الرومان بإخضاع الأقسام الأربعة. دُعيَ قياصرة الرومان حديدًا إشارة إلى قسوتهم التي فاقت قسوة ملوك الممالك السابقة، كما كانت أقوى بكثير من الإمبراطوريات السابقة. أما اختلاط الحديد بالخزف فيُشير إلى عدم وجود الوحدة الحقيقية، كما يُشير إلى الفساد.
لما كانت الدولة الرومانية لم تستعمر الأراضي المقدسة حتى سنة 63 ق.م لذلك نادي الدارسون العقلانيون الذين يرفضون الوحي الإلهي والنبوات بأن سفر دانيال كُتب في فترة المكابيِّين حوالي 167-165 ق.م، وأن الكاتب لا يتنبأ إنما يُسجل حقائق تاريخية سابقة تخص الممالك الأربع: الكلدانيَّة، مادي، فارس، اليونان. لأنهم إن قبلوا فكرة المملكة الرابعة بكونها الدولة الرومانيَّة يكون الكاتب قد تنبأ عنها قبل قيامها بحوالي 100 عامًا. وقد سبق فرأينا ما تؤكده الشواهد أن الكاتب في الواقع هو دانيال النبي في القرن السادس ق.م ليس فقط قبل قيام الدولة الرومانيَّة بل وقبل قيام الدولة اليونانيَّة.
يقول القس عبدالمسيح أبو الخير:
أ. عُرفت الجيوش الرومانيَّة بالجيوش الحديديَّة، واستخدم دانيال النبي كلمة "حديد" في وصف هذه الإمبراطورية 14 مرة. ومن ثم اعتقدت الكنيسة منذ فجرها بأن هذه الإمبراطورية هي الإمبراطورية الرومانيَّة. وكان هذا هو رأي أقدم الآباء الذين وصلتنا كتاباتهم عن سفر دانيال؛ مثل القدِّيس إيريناؤس في القرن الثاني الميلادي والقدِّيس هيبوليتس في القرن الثالث والقدِّيس جيروم في القرن الرابع وذهبي الفم في القرن الرابع أيضًا (347-403 م). ويقول أحد المفسرين ويدعى جوزيف ميدى Joseh Mede: [اعتقدت الكنيسة اليهودية قبل زمن مخلصنا أن الإمبراطورية الرابعة في سفر دانيال هي الإمبراطورية الرومانيَّة، وهذا المعتقد تسلمه تلاميذ الرسل وكل الكنيسة المسيحيَّة لمدة 300 سنة[75]].
ب. ما يبرهن أيضًا على صحة هذا التفسير، وبالتالي إعجاز الوحي والنبوة في سفر دانيال، وعظمة الكتاب المقدس، وأنه كلمة الله، هو أن مملكة المسيَّا، المسيح المنتظر، بدأت في أيام هذه الإمبراطورية، إذ تقول النبوة في الحلم والرؤيا: "وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر". فقد ولد السيِّد المسيح في أيام هذه الإمبراطورية، وجاء ميلاده في بيت لحم بسبب أمر قيصرها، إذ يقول الوحي في العهد الجديد وفي بداية الإنجيل للقدِّيس لوقا: "وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة" (لو 2: 10)، ويؤرخ بداية خدمة يوحنا المعمدان سفير المسيح بتواريخ إمبراطورها وولاتها "وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس واليًا على اليهوديَّة... كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية" (لو 3: 1-3). ودفع لها السيِّد المسيح الضرائب عن نفسه وعن تلاميذه (مت 17: 24-27)، وكان يتعامل بعملتها (مت 22: 17-21)، وبحسب قوانينها صُلب (يو 19: 21).
ج. كانت الإمبراطورية الرومانيَّة أكثر استمرارية من الإمبراطوريات التي سبقتها، فقد استمرت الإمبراطورية البابليَّة 70 سنة، والإمبراطورية الماديَّة الفارسيَّة 200 سنة، والإمبراطورية اليونانيَّة 130 سنة، ولكن الإمبراطورية الرومانيَّة دامت واستمرَّت 500 سنة كإمبراطورية موحدة وغير منقسمة، واستمرت بقسميها الشرقي والغربي إلى سنة 1453م عندما استولى الأتراك على القسطنطينية واستمر القسم الغربي من خلال بقية دول أوروبا حتى اليوم، وهذه الدول نقلت حضاراتها وجزء كبير من شعبها إلى الأمريكتين وأستراليا بعد اكتشافهما، حتى صارا جزئين منها.
د. يقول القدِّيس إيريناؤس في القرن الثاني في تفسيره لقول النبوة "فالمملكة تكون منقسمة"، وفي إشارته للعشرة أصابع "العشرة أصابع إذًا هي الملوك العشرة التي ستنقسم إليهم المملكة، وسيكون بعضهم قوي وفعال، وبعضهم الآخر كسول وبلا فائدة، ولكن يتفقوا[76]. ويقول القدِّيس جيروم: [إنه يلاحظ أن النبوة قد تمت في عصره جزئيًا في دمار الإمبراطورية بالعداء الداخلي والحروب الأهلية. وقد تمت فيما بعد في التقسيم إلى إمبراطورية شرقية وإمبراطورية غربية، وتمت أخيرًا بتقسيمها إلى ولايات صغيرة كثيرة]. ويرى القدِّيس هيبوليتس أن الأصابع العشرة التي من حديد ومن خزف تعني الديموقراطيات التي كانت ناهضة ومقسمة بين الأصابع العشرة للتمثال التي سيكون فيها الحديد مختلطًا بالخزف.
ز. يرى البعض أن اختلاط الحديد بالخزف يُشير إلى اختلاط عناصر حضارتين محددتين، دخول السلالات البربرية إلى قلب الإمبراطورية المتحضرة واتخاذ البرابرة لأشكال الحضارة. ومن ثم فإن اقتحام القبائل الجرمانية من جهة والأتراك من جهة أخرى، هو تفسير أقرب للمعنى الحقيقي للرمز في النبوة.
"كُنت تنظر إلى أن قُطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما.
فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا وصارت كعُصافة البيْدر في الصيف،
فحملتها الريح فلم يُوجد لها مكان.
أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها" [34-36].
أهم ما في الحلم هو هذا الحجر العجيب القادر أن يُحطم هذه الممالك ليقيم ملكوتًا روحيًا يملأ الأرض، ملكوتًا يثبت إلى الأبد. هنا يتحدث عن مملكة جديدة يُقيمها الحجر المقطوع بغير يدين، إذ جاء السيد المسيح ليس من زرع بشر، بل مولودًا من العذراء.
يُشير تعبير "لا بيدين" إلى طبيعة مملكته أنها ليست بشرية بل سماوية إلهية، لا بداية له.
أما دعوة السيد المسيح بالحجر أو الصخرة، لأنه حجر الزاوية الذي ضم اليهود مع الأمم في إيمانٍ واحدٍ، أي ربطهما كحائطين يضمهما حجر الزاوية. وهو الحجر الذي عليه تتأسس كنيسته. قيل عنه:
"الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؛ من قِبَل الرب كان هذا هو عجيب في أعيننا" (مز 118: 22). يدعوه إشعياء النبي: "حجر صدمة وصخرة عَثرة لبني إسرائيل" (إش 8: 14). و"حجر امتحان حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسسًا" (إش 28: 16). ويقول زكريا النبي: "فهوذا الحجر الذي وضعته قدام يهوشع على حجرٍ واحدٍ سبع أعين" (زك 3: 9، راجع أع 4: 11، 1 بط 2: 7-8).
v بعد هذا يبقى أن "الحجر يأتي من السماء، الذي ضرب التمثال (الصورة) وأرعبه وحطَّم كل الممالك ويعطي الملكوت لقديسي الله العلي[77].
v الحجر الذي يضرب الصورة ويجعلها قطعًا، هذا الذي يملأ الأرض كلها هو المسيح الذي جاء من السماء وأتى بدينونة على العالم[78].
v لهذا السبب أيضًا إذ رأى دانيال مقدمًا مجيئه قال بأن حجرًا مقطوعًا بدون يدين يأتي إلى العالم. فإن هذا ما يعنيه "بدون يدين" أن مجيئه إلى هذا العالم لا يتم بعمل بشري، أي بعمل هؤلاء الذين اعتادوا أن يقطعوا الحجارة. ليس ليوسف دورًا في ذلك إنما تعاونت مريم وحدها مع الخطة (الإلهية) السابق تدبيرها. وُجد هذا الحجر الذي من الأرض بقوة الله وحكمته. لذلك يقول أيضًا إشعياء: "هأنذا أؤسس في صهيون حجرًا... حجر زاوية كريمًا أساسًا مؤسسًا" (إش 28: 16). هكذا، إذن نفهم أن مجيئه في الطبيعة البشرية لم يتحقق بإرادة إنسان بل بإرادة الله[79].
v يُشير هذا الجبل إلى مملكة اليهود، ومن هذا الجبل قُطع، حيث وُلد المسيح. حينما يقول: "بدون يدين" نفهم أنه بدون أي عمل بشري، لأن الأعمال تُعرف بالأيدي[80].
v هذا هو هيكل الجسد الذي أُخذ وقُطع من جبل الطبيعة البشرية وكيان الجسد، وذلك بدون أيدي، أي بدون عمل البشر[81].
v وُضع حجر كبير على البئر (تك 29) حيث اعتاد رعاة كثيرون أن يدحرجوه عندما يأتون معًا، وعندئذ يقدمون ماءً لأنفسهم ولمواشيهم. لكن يعقوب وحده دحرج الحجر وسقى مواشي عروسه... ما هو هذا الحجر الموضوع إلاَّ المسيح نفسه؟... دانيال أيضًا يقول: "حجر مقطوع بدون يدين"، الذي هو المسيح المولود بدون (زرع) رجل. إنه لأمر جديد وعجيب أن يُقطع حجر من الصخرة بدون فأس أو أدوات لقطع الحجارة، هكذا فوق كل عجب أن يظهر نسل من عذراء لم تتزوج[82].
9. تفسير الحلم:
"هذا هو الحلمُ.
فنُخبر بتعبيره قُدام الملك.
وفي أيام هؤلاء الملوك يُقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكُها لا يُترك لشعب آخر وتسحق وتُفنى كل هذه الممالك وهي تَثبُتُ إلى الأبد.
لأنَّك رأيت أنه قد قُطع حجر من جبلٍ لا بيدين،
فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب.
الله العظيم قد عَرفَ الملك ما سيأتي بعد هذا.
الحلم حق وتعبيره يقين" [36-45].
10. دانيال الممجد:
"حينئذ خرَّ نبوخذنصَّر على وجهه،
وسجد لدانيال،
وأمر بأن يقدموا له تقدمة وروائح سرور" [46].
لم يكن بالأمر السهل أن يخر نبوخذنصَّر ويسجد لدانيال هذا الذي يحسب نفسه أشبه بإله، يسجد كل البشر له؛ خاصة وأن دانيال لم يُقدم له أنباء مفرحة بل أكد له أن مملكته تزول. مع هذا شعر الملك بضعفه الشديد أمام عمل الله وخطته. انحنى الملك باتِّضاع يُمجد إله دانيال، ولكن إلى حين كما سبق ففعل فرعون (خر 9: 27؛ 10: 16). لمس نبوخذنصَّر نفسه يد الله القوية وشهد لذلك وأعلن: "ما أعظم معجزات الله العلي، وما أقوى عجائبه، ملكوته ملكوت أبدي، وسلطانه إلى جيل فجيل"، لكنه فقد هذا إذ ارتبط بحب المجد الباطل، وبحياة الترف خنق الشوك الكلمة التي نبتت فيه.
فأجاب الملك دانيال وقال:
"حقًا إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار،
إذ استطعت على كشف هذا السر" [47].
لقد مجد الله لكن إلى حين، إذ لم يتخذ خطوات جدية لخلاص نفسه. لقد سمح الله بذلك لتشجيع اليهود المسبيِّين، فيدركوا أن الله قادر أن يتمجد فيهم إن رجعوا إليه بكل قلوبهم.
"حينئذ عظم الملك دانيال،
وأعطاه عطايا كثيرة،
وسلَّطه على كل ولاية بابل،
وجعله رئيس الشحَنِ على جميع حكماء بابل" [48].
قبل دانيال عطية الملك لأجل خدمة شعبه، لهذا اهتم بتعيين الفتية الثلاث على أعمال ولاية بابل، مع إدراكه أنهم لا يشتهون شيئًا من كرامات هذا العالم وغناه، إنما فعل هذا من أجل اخوته المسبيِّين.
11. رفقاء دانيال:
"فطلب دانيال من الملك فولَّى شدرخ وميشخ وعبدنغو على أعمال ولاية بابل.
أما دانيال فكان في باب الملكِ" [49].
كان دانيال في باب الملك كرئيس لرجال القصر لكي تكون عيناه ترقبان كل تحرُّك وكل إنسان يدخل القصر. ربما عني بهذا أنه تسلَّم القضاء في الأمور التي تمس القصر الملكي، حيث كانت العادة القديمة أن تُقام محال القضاء عند باب القصر.
لم يشته دانيال وأصحابه أمورًا زمنية، بل طلبوا ملكوت الله وبرّه، فأعطاهم الله هذا وذاك.
v عندما سألوا الأمور السماوية من الرب، تقبلوا أيضًا الأمور الزمنية من الملك[83].
من وحي دانيال 2
لتدخل بيّ إلى بيتي!
v ارتبك الملك ورجاله ومشيروه من أجل حلم منسيّ،
أما دانيال فلم تهتز نفسه لتعرضه للقتل ظلمًا!
هب ليّ أن أدخل مع دانيال إلى بيتي،
لأدخل إلى أورشليمي الداخلية،
التقي بك يا إله السموات مع ملائكتك وقديسيك.
v تحملني إلى حجالك الأبدي،
تكشف ليّ أسرارك الفائقة،
وتهبني معرفة تلذذ نفسي.
تحول حياتي إلى تسبحة مفرحة!
عوض الارتباك بالضيق يهتز كياني كلُّه تهليلاً.
v أدرك أن كل ممالك العالم كتمثالٍ معدني يتحطم.
أنت هو حجر الزاوية تُحطم الشرّ وتجمع المقدسين فيك!
أنت الذي تُعلن للأرض فيض حبك!
لتُحطم في داخلي كل تمثال غريب عنك،
ولتُقِم ملكوتك المفرح في داخلي!
تحدث الله مع نبوخذنصَّر خلال لغة الأحلام التي يؤمن بها، فقد انزعجت روحه (دا 2: 3). وقام دانيال بتفسيره له محذرًا إياه من الكبرياء، إذ صار كرأسٍ ذهبيٍ (دا 2: 8) لتمثال معدني ينتهي بالتحطيم. خرّ الملك أمام دانيال وشهد لله إله الآلهة ورب الملوك (دا 2: 46-47)، لكن سرعان ما نسي الملك هذا كله، وأقام تمثالاً غالبًا لشخصه هو، ليس رأسه ذهبيًا، وإنما التمثال كله من الذهب (تمثال من الخشب أو المعدن المطلي بطبقة من الذهب)، وطلب أن يسجد الكل له، وإلاَّ تعرض الممتنعون لحرقهم في أتون نار متقدة (دا 3: 6).
كان قلب نبوخذنصَّر أشبه بالأرض المملوءة أشواكًا، فقد سمع تفسير الحلم بواسطة دانيال ومجد الله، وقدم دانيال على جميع حكماء بابل، كما عيَّن أصدقاءه الثلاثة على أعمال ولاية بابل، ومع هذا سرعان ما خنق الشوك الكلمة.
1. إقامة تمثال ذهب [1-7].
2. شكوى ضد الثلاثة فتية [8-12].
3. حوار مع نبوخذنصَّر [13-18].
4. الفتية في الأتون [19-23].
5. خلاص الفتية [24-30].
6. تسبحة الثلاثة فتية.
1. إقامة تمثال ذهب:
"نبوخذنصَّر الملك صنع تمثالاً من ذهب، طوله ستُّون ذراعًا وعرضه ست أذرع،
ونصبه في بقعة دورا في ولاية بابل" [1].
يرى بعض الحاخامات أن نبوخذنصَّر أراد أن يزيل أثر الحلم على الشعب في كل مملكته، إذ شعر أن كثيرين مجدوا إله إسرائيل، لذلك أقام هذا التمثال ليشغل أذهان الناس. هل كان هذا التمثال لشخص نبوخذنصَّر ليقيم نفسه في مصاف الآلهة أم للإله بعل، الإله الرئيسي للدولة، أم لإله جديد؟ لم يذكر دانيال النبي. لكن الرأي الغالب أنه أراد تأليه ذاته. فإن كان قد اتضع إلى حين أمام دانيال النبي، سرعان ما ثار فيه حب المجد الباطل والكبرياء.
ربما خشي الملك بعد انتشار موضوع حلمه أن يثير اليهود الأمم ألاَّ يعبدوا آلهة الملك، لذا أقام الملك هذا التمثال كاختبار لكل الشعوب التي سباها إن كانت خاضعة له ولعبادته أم لا. لقد نصبه في سهل دورا أو في المدينة المفتوحة.
بسبب ضخامة التمثال ظن بعض النقاد أن القصة غير تاريخية. لكن يُرد على ذلك بأنه ليس من الضروري أن يكون التمثال كله من الذهب الخالص، إنما مغطى بالذهب. وأن أبعاد التمثال تحوي القاعدة الضخمة التي عليها التمثال.
"ثم أرسل نبوخذنصَّر الملك ليجمع المرازبة والشحن والولاة والقضاة والخزنة، والفقهاء والمُفتين وكل حُكام الولايات، ليأتوا لتدشين التمثال الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك.
حينئذ اجتمع المرازبة والشحن والولاة والقضاة والخزنة، والفقهاء والمُفتون وكل حكماء الولايات لتدشين التمثال الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك،
ووقفوا أمام التمثال الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك ونادى مُنادٍ بشدةٍ:
قد أُمرتم أيها الشعوب والأمم والألسنة عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير والمزمار وكل أنواع العزف أن تخرُّوا وتسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك.
ومن لا يخر ويسجد ففي تلك الساعة يُلقى في وسط أتون نارٍ متقدة.
لأجل ذلك وقتما سمع كل الشعوب صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير وكل أنواع العزف خرّ كل الشعوب والأمم والألسنة وسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك" [2-7].
كانت أبعاد التمثال تُشير إلى النقص، فنحن نعلم أن رقم 7 يُشير إلى الكمال، بينما رقم 8 يُشير إلى ما بعد الكمال الزمني (لأن الزمن يتكون من 7 أيام الأسبوع)، وكأن رقم 8 يعني تعدي الزمن، وقد قام السيِّد المسيح في اليوم الأول من الأسبوع الجديد، أو الثامن من الأسبوع السابق. أما رقم 6 فيُشير إلى النقص لهذا فإن اسم الدجال 666 (رؤ 13: 13-18)، أي النقص الأكيد. والتمثال هنا طوله ستُّون ذراعًا وعرضه ست أذرع [1].
استخدم نبوخذنصَّر كل وسيلة لكي يتعبد الكل لتمثاله. استخدم الجيش مع العظماء يتقدمون الصفوف لكي يرهب عامة الشعب، كما استخدم كل أنواع الموسيقى في ذلك الحين لإثارة المشاعر. هكذا في كل جيل يستخدم عدو الخير كل وسيلة ليسحبنا إلى التعبُّد له بوسيلة أو أخرى، أو ينحرف بالبشر نحو طريق الخطية، واعتبار الحياة المقدسة حياة عصيان على المجتمع.
سجدت الشعوب للتمثال، سواء كان للبعل أو للملك أو لإله آخر، ليس بروح التقوى وإنما بناء على أمر الملك، الذي هدد لا بالموت فحسب بل وبالتعذيب، حيث يُلقى العصاة في أتون نارٍ.
2. شكوى ضد الثلاثة فتية:
تحدث الأشرار مع الملك بتملُّقٍ ورياءِ، ناسبين للفتية الأمناء الأتقياء الجحود والعصيان للملك وأوامره، أما الفتيان فتعلموا أنه ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 29).
"لأجل ذلك تَقدَّم حينئذٍ رجال كلدانيُّون واشتكوا على اليهود.
أجابوا وقالوا للملك نبوخذنصَّر:
أيُّها الملك عش إلى الأبد.
أنت أيُّها الملك قد أصدرت أمرًا بأن كل إنسان يسمع صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير والمزمار وكل أنواع العزف يخرّ ويسجد لتمثال الذهب.
من لا يخُر ويسجد يُلقى في وسط أتون نارٍ متقدةٍ.
وجد رجال يهود الذين وكَّلْتهم على أعمال ولاية بابل شدرخ وميشخ وعبدنغو.
هؤلاء الرجال لم يجعلوا لك أيها الملك اعتبارًا.
آلهتك لا يعبدون ولتمثال الذهب الذي نصبت لا يسجدون" [8-12].
يلاحظ هنا استخدام بعض آلات موسيقية يونانيَّة، فقد أثرت الثقافة اليونانيَّة على المنطقة، وذلك بانتشار التجار اليونان ووجود مستعمرات يونانيَّة قبل قيام الإمبراطورية اليونانيَّة.
واضح من النص أن تحركات الفتية كانت تحت رقابة شديدة، خاصة بعد صدور الأمر بالتعبُّد للتمثال. ربما بعض مشيري الملك أخبروه بأن هؤلاء الغريبي الجنس لا يشتركون مع بقية رجال القصر في الطقوس الدينية البابلية، هؤلاء الذين رفعهم الملك من العبودية لاحتلال مراكز كبيرة في الدولة. فبسبب الحسد وُجه الاتهام لهؤلاء الأتقياء أنهم جاحدون وعصاة وغير متعبدين للآلهة.
لا نعجب إن تقدم الكلدانيُّون الذين أنقذهم دانيال ورفقاؤه الثلاثة من موت محقق (دا 2: 2)، إلى الملك يشتكون من خلصهم لكي يُلقي بالثلاثة فتية في أتون النار، وهكذا يردُّون لهم الحب بالكراهية، والإحسان بالحسد والرغبة في التخلص منهم. فالجحود هو طبيعة الإنسان الساقط، والاضطهاد هي سمة الأشرار، يضايقون الأبرار بلا سبب.
يقول القدِّيس أكليمنضس الروماني: [إنكم لا تجدون في الكتب المقدسة صديقين يطردهم قديسون. حقًا نجد فيها صديقين اُضطهدوا بواسطة أشرار، وصالحين سجنهم أشقياء، وأبرارًا رجمهم عصاة وقتلهم أناس مغضوب عليهم، حملوا لهم حسدًا وغيظًا؛ أما هم فتحملوا مثل هذه الآلام بمجد. ماذا أقول يا اخوة؟ هل أُلقى دانيال في جب الأسود بواسطة رجال يخافون الله؟! هل أُلقى حنانيا وعزرا وميصائيل في أتون النار بواسطة أناس عبدوا العليّ بطريقة مجيدة وعظيمة؟! حاشا أن يكون لنا هذا الفكر![84]].
3. حوار مع نبوخذنصَّر:
"حينئذٍ أمر نبوخذنصَّر بغضبٍ وغيظٍ بإحضار شدرخ وميشخ وعبدنغو.
أتوا بهؤلاء الرجال قُدام الملك.
أجاب نبوخذنصَّر وقال لهم:
تعمدَّا يا شدرخ وميشخ وعبدنغو لا تعبدون آلهتي ولا تسجدون لتمثال الذهب الذي نصبت.
إن كنتم الآن مُستعدين عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير والمزمار وكل أنواع العزف إلى أن تَخُرُّوا وتسجدوا للتمثال الذي عملته.
إن لم تسجدوا ففي تلك الساعة تُلقون في وسط أتون النار المتقدة.
من هو الإله الذي يُنقذكم من يدي؟" [13-15].
ليس شيء يثير أصحاب السلاطين مثل الشعور بأن سلطانهم مُحتقر. أنهم يطلبون طاعة الكل لأوامرهم حتى وإن كانت غير عادلة.
إذ هدأ قليلاً أعطاهم فرصة أخيرة لإنقاذ حياتهم، إن سجدوا للتمثال مرة واحدة!
ما يشغله ليس السجود للتمثال أم عدمه بل تحديهم لسلطانه، لهذا سخر بإلههم، وانه لا يقدر أن يخلصهم من يده.
"فأجاب شدرخ وميشخ وعبدنغو وقالوا للملك:
يا نبوخذنصَّر لا يلزمنا أن نُجيبك عن هذا.
هوذا يوجد إلهنا الذي نعبدهُ يستطيع أن يُنجينا من أتون النار المتقدة، وأن يُنقذنا من يدك أيها الملك.
وإلاَّ فليكن معلومًا لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبتهُ" [16-18].
يتحدث العلامة ترتليان عن الطاعة للملوك والرؤساء (رو 13: 1؛ 1 بط 2: 13-14) في كل شيء فيما عدا ما يمس الإيمان، قائلاً: [لهذا السبب أيضًا وُضع الثلاثة اخوة كمثالٍ سابق لنا، هؤلاء الذين كانوا مطيعين لنبوخذنصَّر في الأمور الأخرى، وبكل إصرار رفضوا تكريم التمثال[85]].
كان يمكن للفتية أن يجدوا لهم أعذارًا يبررون بها السجود للتمثال منها:
أ. كانوا صغارًا في السن، ومسبيِّين.
ب. كانوا تحت سلطان ملكٍ عنيف.
ج. كان الملك صاحب سلطان مطلق، خاصة عليهم كأسرى حرب. مطلوب منهم السجود ولو مرة واحدة دون منعهم من عبادة الله.
د. قدمت كل أنواع الموسيقى للتأثير عليهم.
هـ. دخل الملك نفسه الذي وهبهم النعم التي يعيشون فيها في القصر معهم في الحوار وصار يهددهم.
و. كانوا في أرض غريبة، معرضين بسهولة للاتهام. وفي الغربة ما أسهل تطبيق المثل القائل: "حينما تكون في روما اصنع ما يفعله الرومان When in Rome do as the Romans do."
ز. عبد سلفاؤهم في أورشليم وكل يهوذا وإسرائيل الأوثان حتى في داخل هيكل الرب عينه، كما جاء في إرميا وحزقيال، ودون ضغط خارجي بينما أصر هؤلاء الغرباء ألاَّ يسجدوا لتمثالٍ في أرض غريبة.
ح. برفضهم السجود للأوثان يتعرضون للموت فيفقدون كل فرصة للقيام بأي دور للعمل لحساب شعبهم. هذا مقياس بشري بحت رفضه الشبان بروح الإيمان، واثقين في الله الذي يعمل لخيرهم وقادر أن ينقذهم إن شاء ذلك.
كان الأتون من الطوب الأحمر له فوهة من فوق، كما كان له باب جانبي من خلاله رأى الملك الفتية ومعهم الشبيه بابن الآلهة.
في الحوار تحدى الملك نبوخذنصَّر إلههم، أما هم فتحدوا الموت من أجل أمانتهم لله. لقد آمنوا أن إلههم قادر أن يُخلصهم، وإن لم يخلصهم من النار الزمنية فلا يعني هذا خيانتهم له. لم يبالوا بتهديدات الملك معتمدين في مثابرتهم على إيمانهم الحيّ:
أ. آمنوا أن الله قادر أن يخلصهم، وهو الحارس لحياتهم، وأنه لن يسمح بموتهم إن كان في ذلك نفع لهم.
ب. آمنوا أنه إن سمح لهم بالموت يقبلون ذلك بشجاعة، مقدمين حياتهم ذبيحة حب لله.
بهذا يُحسب هؤلاء الفتية شهداء، لأنهم شهدوا للحق الإلهي، مقدمين حياتهم ثمنًا للشهادة، بغض النظر إن كانوا يقتلون أو ينقذهم الرب من الموت. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس إن الاستشهاد لا يتحقق بوسيلة الموت، وإنما بحالة المؤمن. فالاستشهاد يقوم على مبدأين: الأول الإيمان بالله كحافظ لحياتنا وقائدها إلى حيث يريد، والثاني انفتاح باب في السماء أمام أعيننا لنرى المجد المُعد لنا، متطلعين إلى حياتنا هنا كفترة عبور مؤقتة.
v تطلعوا إلى إيمانهم! أنهم يقولون: إننا نؤمن أنه قادر أن يُخلصنا، ولكن إن منعته خطايانا فإننا نؤمن بالذي لا يُريد أن يسلمنا (للموت الأبدي). لسنا نؤمن بهذه الحياة بل بالحياة العتيدة. ولسنا نؤمن به لكي نهرب من الحرق هنا، وإنما لكي لا نهرب من العبور من هذه النار فنسقط في نارٍ أخرى. إذن لتفعل ما تريد، أعدد أتونك، بحرارته هذه وبناره، فإنه لتنقيتنا[86].
ربما يتساءل البعض: لماذا لم يُشتكَ ضدّ دانيال أنه لم يسجد للتمثال؟
الإجابة على ذلك هي:
أولاً: ربما كان دانيال في إرسالية خارج المنطقة.
ثانيًا: ربما خشي المشتكون أن يقف الملك ضدهم، لأنهم يعلمون تقديره لدانيال، وكيف سجد له، لذلك أرادوا التركيز على الثلاثة فتية بكونهم معينين لدانيال، ولعلهم كان في خطتهم أن يشتكونه بعد الخلاص من هؤلاء الفتية.
ثالثًا: ربما لم يُطلب من دانيال ذلك، لأن الملك شعر بأن دانيال نفسه ينبغي له السجود، فهو أعظم من التمثال أو في درجته.
4. إلقاء الفتية في الأتون:
"حينئذٍ امتلأ نبوخذنصَّر غيظًا،
وتغيَّر منظر وجههُ على شدرخ وميشخ وعبدنغو.
فأجاب وأمر بأن يُحموا الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتادًا أن يُحمى.
وأمر جبابرة القوة في جيشه بأن يُوثقوا شدرخ وميشخ وعبدنغو ويلقوهم في أتون النار المتقدة.
ثم أُوثق هؤلاء الرجال في سراويلهم وأقمصتهم وأرديتهم ولباسهم، وأُلقوا في وسط أتون النار المتقدةِ.
ومن حيث إن كلمة الملك شديدة والأتون قد حُمى جدًا قَتَلَ لهيب النار الرجال الذين رفعوا شدرخ وميشخ وعبدنغو.
وهؤلاء الثلاثة الرجال شدرخ وميشخ وعبدنغو سقطوا مُوثقين في أتون النار المتقدة" [19-23].
اُلقوا في الأتون من الفوهة العليا.
بتطلعهم إلى النار الأبدية لم يخافوا النار الزمنية ولا رهبوا الموت (لو 12: 4-5). إذ ماذا فعلت بهم نيران الاضطهاد؟
أ. ظهر كلمة الله (شبيه بابن الآلهة)، هذا الذي كان في داخلهم، ظهر ليحتضنهم ويحميهم.
ب. حلَّت النيران القيود، لكنها لم تستطع أن تمس شعرة من جسمهم أو طرف ثوبٍ لهم.
ج. اعترف الملك بإلههم المخلص لمؤمنيه، وكرمهم في ولاية بابل [30].
يرى القدِّيس يوحنا كاسيان أن ملك بابل هنا يُشير إلى الشيطان الذي يثير في داخلنا أتون نار الشهوات خلال النهم.
v إذ نُحفظ بغيرة الذهن هذه، والندامة المستمرة، نضرب شهوات الجسد الخطيرة بحرمانه (من الأطعمة التي تثيره نحو العجرفة والكبرياء)؛ وهكذا ننجح بغزارة دموعنا وبكاء قلوبنا في إطفاء لهيب أتون جسدنا الذي يشعله الملك البابلي (3: 6)، والذي يمده باستمرار بفرص الخطية والرذائل المدمرة. بهذا يمكننا بنعمة الله أن يحلّ الندى في قلوبنا بروحه، ويمكن لحرارة الشهوات الجسدية أن تُباد تمامًا[87].
5. خلاص الفتية:
"حينئذٍ تحيَّر نبوخذنصَّر الملك، وقام مُسرعًا، فأجاب وقال لمُشيريه:
ألم نُلقِ ثلاثة رجال مُوثقين في وسط النار؟
فأجابوا وقالوا للملك: صحيح أيها الملك.
أجاب وقال: ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار ومابهم ضرر،
ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة.
ثم اقترب نبوخذنصَّر إلي باب أتون النار المتقدة وأجاب فقال:
يا شدرخ وميشخ وعبدنغو، يا عبيد الله العلي، اُخرجوا وتعالوا.
فخرج شدرخ وميشخ وعبدنغو من وسط النار.
فاجتمعت المرازبة والشحن والولاة ومشيرو الملك ورأوا هؤلاء الرجال الذين لم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغيَّر، ورائحة النار لم تأتِ عليهم.
فأجاب نبوخذنصَّر وقال:
تبارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه، وغيَّروا كلمة الملك، وأسلموا أجسادهم لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير إلههم.
فمنيَّ قد صدرَ أمر بأن كل شعبٍ وأمةٍ ولسانٍ يتكلَّمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبدنغو فإنهم يصيرون إربًا إربًا، وتجعل بيوتهم مزبلة، إذ ليس إله آخر يستطيع أن يُنجي هكذا.
حينئذٍ قدم الملك شدرخ وميشخ وعبدنغو في ولاية بابل" [24-30].
كان للأتون باب جانبي، وقف عنده الملك من بعيد ليراهم وهم يُلقون، الواحد تلو الآخر، وينظرهم وهم يحترقون. لكن ماذا رأى؟
أولاً: زكتهم النيران في عينيْ الله وعينيْ الملك، فظهر شبيه بابن الله يمجدهَم.
ثانيًا: حلَّت النيران القيود الحديدية ولم تؤثر في ثياب الفتية.
ثالثًا: بينما مات بعضًا من الجند الذين ألقوا الفتية بسبب شدة الحرارة كان الفتية يتمشون.
رابعًا: تحولت النيران إلى ندى، وربما اشتهى الملك أن يتمتع بما يتمتعون به، لكنه لم يستطع الدخول إليهم، إنما ناداهم ليخرجوا إليه.
لم يخرج الفتية من الأتون بل كانوا يتمشون، حتى صدر لهم الأمر من الملك. أنهم مطيعون له في الرب.
لقد عرف الكلدانيُّون قصة إلقاء الثلاثة فتية في الأتون. لقد صاروا شهادة حية، في ولايات بابل أمام الكل، عن الله مخلص أتقيائه وقوة الالتجاء إليه. ولكن ماذا فعل الملك بخصوص أبديته؟!
v (بالصلاة) تأهل حنانيا وعزاريا وميشائيل أن يُسمع لهم، وأن يُحصنوا بهبوب ريحٍ يقدم ندى، ويمنع تأثير لهيب النار عليهم. وكُممت أفواه الأسود في جب البابليِّين بصلوات دانيال[88].
v نزل حنانيا ورفقاؤه إلى بركة روحية توهب لجميع القدِّيسين والتي نطق بها اسحق عندما قال ليعقوب: "ليعطك الله ندى من السماء" (تك 27: 28)، أعظم من الندى المادي الذي أطفأ لهيب نبوخذنصَّر؟![89]
v الآن أيضًا ينطق نبوخذنصَّر بنفس الكلمات التي لنا فإننا نحن العبرانيون الحقيقيون عبرانيو الحياة العتيدة (عب 11: 13)، نختبر الندى السماوي الذي يطفئ كل النيران عنا وبنفس الجانب الأسمى لنفوسنا نقتدي بهؤلاء الفتية[90].
v حقًا اُستخدمت الصلاة في العالم القديم لتحرر من النيران (دا 3)، ومن الوحوش (دا 6)، ومن المجاعة (1 مل 18؛ يع 5: 17-18)؛ ومع ذلك لم تكن قد نالت شكلها من المسيح. كم بالأكثر يكون عمل الصلاة المسيحية أعظم؟![91]
v صار هؤلاء الفتية الثلاثة مثالاً لكل المؤمنين، فإنهم لم يخافوا جمهور الولاة، ولا ارتعبوا عند سماعهم كلمات الملك ولا انقبضوا عندما رأوا لهيب الآتون يتوهج، بل حسبوا كل البشر والعالم أجمع كلا شيء، محتفظين بخوف الله وحده أمام عيونهم.
إن كان دانيال قد وقف بعيدًا في صمت، لكنه شجعهم ليكونوا متهللين، صالحين، وابتسم لهم. بل هو نفسه ابتهج من أجل الشهادة التي حملوها، والفهم الذي صار لهم كما صار له، لكي ينال الفتية الثلاثة إكليل النصرة على الشيطان[92].
v دعي (الملك) الثلاثة فتية بأسمائهم، لكنه لم يجد اسمًا للرابع ليدعوه به، لأنه لم يكن بعد (قد تجسد)، وصار يسوع المولود من العذراء[93].
v لقد كُرِّموا ليس فقط بواسطة الله بل وبواسطة الملك. لقد علموا الأمم الغريبة والأجنبية أن يعبدوا الله[94].
v عندما أُغلق عليهم الأتون هربت النيران، وقدم اللهيب انتعاشًا، وكان الرب حاضرًا معهم، مؤكدًا أنه ليست قوة تقف ضد المعترفين به وشهدائه، فإن الذين يتكلون على الله لا يصيبهم أذى، بل يكونوا دائمًا في أمان من المخاطر[95].
v لقد أضافوا أن الله قادر على كل شيء، لكنهم لم يتكلموا هكذا من أجل طلب إنقاذٍ زمني، بل للتمتع بمجد الحرية الأبدية والضمان الأبدي[96].
v بقولهم "إن لم يكن..." يُعرفون الملك أنهم قادرون أيضًا على الموت من أجل الله الذي يعبدونه. فإن هذه هي قوة الشجاعة والإيمان. ومع الإيمان ومعرفة قدرة الله على الإنقاذ من الموت الحاضر لا تعني الخوف من الموت ولا الهروب منه. بهذا يتزكى الإيمان بأكثر قوة[97].
v كان الفتية الثلاثة حنانيا وعزريا وميشائيل متساوين في العمر، متفقين في الحب، ثابتين في الإيمان، مثابرين في الفضيلة، أقوى من اللَّهب والعقوبات التي وُضعت عليهم، يعلنون أنهم يطيعون الله وحده، ويعرفونه ويعبدونه وحده[98].
v أظهر الثلاثة فتية القدِّيسون أنفسهم أسمى من ملذات الشهوة، واحتقروا غضب الملك، واتسموا بشجاعة بلا خوف من أهوال أتون النار الذي أمر نبوخذنصَّر بإيقاده. لقد برهنوا أن التمثال الذهبي المعبود كإله بلا نفع[99]...
v كيف انتصر الثلاثة فتية على قوة النار؟ ألم يكن بالمثابرة ؟[100]
v اشتهر الثلاثة فتية في بابل بواسطة النيران[101].
اجتمع العظماء، غالبًا الذين اشتكوا ضد الفتية، لكنهم قبل مناقشة الأمر فيما بينهم لعلهم يجدون ما يبرِّرون به وشايتهم أصدر الملك قراره بإبادة كل من يقف ضد إلههم، مقدمًا لهم كرامات زمنية أيضًا. لكنه لم يشجب العبادة الوثنية ولا تخلى عنها. لقد خلط بين تكريمه لله الحيّ وبين العبادة الوثنية ورجاساتها. لم يهتم أن يسأل عن ذاك الذي كان مع الثلاثة فتية في الأتون ليرتبط به ويتمتع به.
6. تسبحة الثلاثة فتية:
حينئذ أخذ الثلاثة بفم واحد يسبحون الله ويمجدونه ويباركونه في الأتون. سنتحدث عن هذه التسبحة الرائعة التي تستخدمها الكنيسة يوميًا عندما نتحدث عن الأسفار القانونية الثانية إن شاء الرب.
v الله في موقعه حتى الآن، إنه في وسطنا، الذي من القديم جعل نار الأتون في بابل بردًا[102].
v كان الفتية الثلاثة صدِّيقين، صرخوا إلى الرب وهم في الأتون، وإذ سبحوا صارت النار بردًا. لم يستطع اللهيب أن يقترب ليؤذي الفتية الأبرياء المستقيمين إذ سبحوا الله، وهو نجاهم من اللَّهيب[103].
v واضح أنه لم يترك الثلاثة فتية الذين سبحوا في الأتون، لم تستطع النيران أن تمسهم[104].
من وحي دانيال 3
لأتمشى معك في وسط الأتون!
v لتتقد النيران، وليتوهج اللهب، وليزمجر العدو،
مادمت في داخلي لا أرتعب!
تحول النيران إلى ندى!
عوض الأنين تتحول حياتي إلى تسبحة!
لتتجلى في أعماقي، ولتتمجد في ضعفي يا إله المستحيلات!
لتعلن ذاتك لأجل خلاص كل نفسٍ بشرية، يا مخلص العالم!
هب ليّ روح الصلاة مع التسبيح،
فأتحدى بك نيران الضيق،
بل ونيران إبليس وأعماله الشريرة!
لا أعود أخاف حتى الخطية فأنت واهب النصرة عليها!
مرسوم نبوخذنصَّر
أو
يعتبر هذا الأصحاح فريدًا في الكتاب المقدس، حيث يُقدم لنا دانيال النبي منشورًا ملكيًا يكشف فيه الملك الوثني عن حديثٍ إلهي معه خلال الحلم، لقد تحدث الله معه مرتين، في حلم (دا 2) يُظهر فيه تشامخ بابل وانكسارها، وخلال نيران الأتون (دا 3) حيث أعلن الله له أنه يتحدى عنفه وظلمه. الآن يحدثه في حلمٍ ثانٍ ليكسر تشامخه. وكما جاء في سفر أيوب: "ليكن الله يتكلم مرة وباثنين لا يُلاحظ الإنسان؛ في حلم في رؤيا الليل عند سقوط سبات على الناس في النعاس على المضطجع، حينئذ يكشف آذان الناس ويختم على تأديبهم" (33: 14-16).
في هذا المرسوم الملكي يعترف الملك الشيخ بكبريائه ولا يخجل من الشهادة لله الذي كسر تشامخه، فأدبه بانحطاطه إلى مستوى الحيوانات البرية. يعترف أنه قد سقط تحت تأديب إلهي، وإن بدى قاسيًا، خاصة بالنسبة لأعظم ملك في ذلك الحين، لكنه مستحق لهذا التأديب، وأن ما حل به هو ثمرة طبيعية لفساده. أنه يشرب من الكأس التي ملأها بيديه ويأكل من ثمرة الشجرة التي غرسها بنفسه.
لقد قدم لنا دانيال النبي المنشور بلغته الأصلية.
1. منشور نبوخذنصَّر [1-3].
2. دعوة الحكماء لتفسير حلمه [4-8].
3. الشجرة المتشامخة [9-18].
4. دانيال يفسر الحلم [19-27].
5. تحقيق التفسير [28-36].
6. نبوخذنصَّر يمجد الله [37].
1. منشور نبوخذنصَّر:
"من نبوخذنصَّر الملك إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في الأرض كلها.
ليكثر سلامكم" [1].
يقول القديس جيروم إن رسالة نبوخذنصَّر قد سُجلت في الأنبياء، حتى لا يأتي بعد من يُدعى أن السفر ليس من وضع دانيال، قاصدًا بذلك الوثني بروفيري الذي هاجم السفر[105].
يقدم لنا نبوخذنصَّر رسالة ملكية صادرة من أعماق قلبه بعد اجتيازه التأديب الإلهي الذي سقط تحته بسبب تشامخه. أنه لم يخجل من توجيه هذه الرسالة إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في كل الأرض، والتي فيها يعلن الآتي:
أ. كانت العادة القديمة للملوك العظماء أن يحسبوا أنفسهم ملوكًا على كل الأرض، بالرغم من أن الإمبراطورية البابلية لم تبلغ إلى بلاد الغال وغيرها. هكذا كانت روما أثناء الإمبراطورية الرومانية، تُدعى كرسي إمبراطورية العالم كله، مع أن الإمبراطورية لم تمتد إلى كل العالم في ذلك الحين.
ب. شهادة اختبارية للعلاقة الشخصية بين الله وبينه، فقد صنع معه آيات وعجائب. إن كان الله قد أذله بتأديبٍ قاسٍ، لكنه مستحق لهذا التأديب النافع له. يمجد الله باعترافه برعاية الله له، واعترافه بخطاياه واستحقاقه للتأديب.
"الآيات والعجائب التي صنعها معي الله العليّ حسن عندي أن أُخبر بها" [2].
ج. يشهد لقدرة الله الفائقة "آياته ما أعظمها وعجائبه ما أقواها" [3]. يقصد بآياته هنا ما يقوله القديس جيروم: [بمراحم الله أُعيد (الملك) إلى عرشه، فسبح ملك السموات ومجده على أساس أن كل أعماله حق هي، وطرقه عدل، وهو قادر أن يذل السالكين في الكبرياء[106]].
د. يشهد لملكوت الله الأبدي وسلطانه الذي لا يزول، أما الممالك البشرية فمهما عظمت لابد وأن تنهار.
"ملكوته ملكوت أبدي وسلطانه إلى دور فدورٍ" [3].
يلاحظ أن مقدمة المنشور تحمل لغة لاهوتية كتابية ثيؤقراطية (حُكم الله)، ويرى البعض أن هذا يكشف عن تأثير دانيال على الملك ولغته[107].
تحدث الله مع الملك الذي أقامه رئيسًا على كل الأرض في ذلك الحين، ومع هذا كان الملك يزداد كبرياءً وتشامخًا. لقد شهد لله بفمه أما قلبه فكان متعجرفًا. إدراكه لله الواحد القدوس كان مؤقتًا، ومع اعترافه به لم يعتزل عبادته للآلهة الوثنية ومعتقداته الخاطئة.
2. دعوة الحكماء لتفسير حلمه:
أنا نبوخذنصَّر قد كُنتُ مطمئنًا في بيتي، وناضرًا في قصري" [4].
قبل أن يروي نبوخذنصَّر أحكام الله التي حلت به بسبب كبريائه، أعطى حسابًا عادلاً عن التحذير الذي وُجه إليه [4]، عندما كان مطمئنًا في بيته وناضرًا في قصره. مؤخرًا هزم مصر وبهذا كملت كل نصراته على سوريا وفينيقية واليهودية ومصر والعربية، وانتهت بالنسبة له الحروب في السنة 34 أو 35 من حكمه (حز 29: 17). أعطته هذه النصرات المتوالية فرصة ليمارس تشامخ قلبه وكبرياءه. شعر أنه لم تعد هناك غيوم في سماء حياته، وليس من ذراعٍ يقدر أن يقاومه أو يقف أمامه. ظن أن السلام قد حلّ والأمان أكيد.
يُترجم البعض كلمة "مطمئن selueh" "وفرة"، فإنه إذ ينال الإنسان بفيض يصير كالفرس الذي متى أكل طعامًا أكثر من اللآزم يجمح ولا يمكن لراكبه أن يضبطه ويقوده، ويتعرض الراكب للسقوط منه. لهذا كثيرًا ما يضبط الله بطوننا فلا يقدم لنا كل ما نشتهيه، ليس لأنه يطلب أن يحرمنا، بل لأنه يريدنا سالكين كما يليق بنا، فلا نسيء إلى أنفسنا ولا إليه.
"رأيتُ حلمًا فروعنيّ والأفكار على فراشي ورُؤى رأسي أفزعتني.
فصدر منيِّ أمر بإحضار جميع حُكماء بابل قُدامي ليُعرفوني بتعبير الحلم.
حينئذ حضر المجوس والسحرة والكلدانيُّون والمنجمون،
وقصصت الحلم عليهم، فلم يُعرفوني بتعبيره" [5-7].
هنا يميز الملك هذا الحلم عنه الأحلام العادية التي تنبع عن ظروفه اليومية، فقد شعر أنه حلم غير عادي، يحمل رسالة من قِبل العليّ، لذا استدعى الحكماء لتفسير الحلم.
كان دانيال في القصر الملكي، ويعرفه الملك تمام المعرفة، ومع هذا تجاهله ليستدعي بأمر ملكي جميع حكماء بابل قدامه، المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين، عازلاً إياه عنهم، وإذ فشلوا في تفسير حلمه لجأ إلى دانيال. طلب خبرات السحرة مع إدراكه قوة وصدق التفسير الإلهي الذي يُمنح لرجل الله دانيال. لو أنه استدعى دانيال لكان ذلك أسرع وأوفر له، لكنه لم يفعل ذلك. هذا هو تصرفنا في كثير من الأحيان، فإن الكلمة النبوية بين أيدينا، والمعرفة الإلهية ليست ببعيدة عنا، ومع هذا فإننا نطلب الخبرات البشرية، ونتجاهل ما هو بين أيدينا مجانًا! لنطلب عمل الله، كليّ القدرة والحكمة والحب لنا، الساكن فينا، ونمسك بوعوده التي ليست بعيدة عنا عوض الالتجاء إلى ما هو خارج عنا!
لقد عرَّف الملك السحرة الحلم ومع هذا لم يستطيعوا أن يفسروه، هؤلاء الذين في يقين سبق أن قالوا: "ليخبر الملك عبيده بالحلم فنُبين تعبيره" (2: 4، 7). لقد تحقق ما سبق أن تنبأ عنه إشعياء عن ابنة بابل: "قد ضعفتِ من كثرة مشوراتك، ليقف قاسموا السماء الراصدون النجوم المُعرفون عند رؤوس الشهور ويخلصوكِ مما يأتي عليك؟!" (إش 47: 13).
أخيرًا دخل قُدامي دانيال الذي اسمهُ بلطشاصر كاسم إلهي،
والذي فيه روح الآلهة القدوسين،
فقصصت الحلم قُدّامه" [8].
إذ فشلت كل الأذرع البشرية استدعى الملك رجل الله دانيال وقص الحلم قدامه. تحدث معه كملك وثني يؤمن بتعدد الآلهة، لكن يعتقد في دانيال أن "فيه روح الآلهة القدوسين" [8].
لعل الملك لم يستدعِ دانيال بالرغم من ثقته في قدرته على تفسير الحلم، وأنه لا يُخفى عنه سرّ، أنه أدرك بأن الحلم يحمل تأديبًا وإذلالاً له يتحقَّق بيدي إله دانيال، لذا لم يلجأ إليه إلاَّ تحت الضرورة القصوى[108].
3. الشجرة المتشامخة:
"يا بلطشاصر كبير المجوس، من حيث إنيّ أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين،
ولا يعسر عليك سرّ،
فأخبرني برؤى حُلمي الذي رأيته وبتعبيره" [9].
دعاه بالاسم الذي ألزمه به "بلطشاصر"، وكان يظن أنه بهذا يكرمه إذ ينسبه إلى إلهه الوثني، بينما كان الاسم يجرح مشاعر دانيال وذهنه، فمن جهة يحرمه مما وهبه إياه والداه كاسم يرتبط باسم الله الحيّ، ومن جهة أخرى يربطه بوثنٍ لا يؤمن به.
دعاه أيضًا "كبير المجوس"، هذا أيضًا يزيد من جراحات نفسه، إذ يريد الاعتزال عن المجوس الذين خدعوا العالم بسحرهم الباطل، ولا يريد أن يكون رئيسًا عليهم. في نفس الوقت يعلم عنه أمرين:
أ. أن فيه روح الآلهة القدوسين [8-9]، ما ينطق به ليس عن خبرات بشرية وحكمة زمنية، بل عن عمل الروح الإلهي فيه. أدرك الملك أن كل الخبرات والمعرفة البشرية قد فشلت، لذا استدعى دانيال الذي انفرد بالمعرفة النابعة لا عن إمكانيات بشرية بل روح الله القدوس.
ب. أنه لا يُخفى عنه سرّ [9]، الأمر الذي ينزع عن الملك قلقه واضطراب نفسه.
"فرؤى رأسي على فراشي هي إنيّ كُنت أرى،
فإذا بشجرة في وسط الأرض وطولها عظيم.
فكبرت الشجرة وقويت، فبلغ علوها إلى السماء، ومنظرها إلى أقصى كل الأرض.
أوراقها جميلة، وثمرها كثير، وفيها طعام للجميع، وتحتها استظل حيوان البر،
وفي أغصانها سكنت طيور السماء، وطعم منها كُلِ البشر.
كُنتُ أرى في رؤى رأسي على فراشي،
وإذا بساهرٍ وقدوس نزل من السماء، فصرخ بشدة وقال هكذا:
اقطعوا الشجرة، واقضبوا أغصانها، وانثروا أوراقها، وابذروا ثمرها، ليهرب الحيوان من تحتها،
والطيور من أغصانها.
ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض، وبقيد من حديد ونُحاس في عشب الحقل، وليبتل بندى
السماء، وليكن نصيبهُ مع الحيوان في عشب الحقل.
ليتغير قلبه عن الإنسانية وليُعطَ قلب حيوانٍ، ولتمضِ عليه سبعة أزمنةٍ [10-16].
كان نبوخذنصَّر مُحبًا لأشجار لبنان، يذهب ليتمتع بها، ويُحضر منها الأخشاب للبناء، لذا شبهه الله بالشجرة الضخمة التي يُعجب بها.
غالبًا ما يُشير الأنبياء إلى العظماء والرؤساء بأشجار، كما جاء في (حز 17: 5-7؛ 31: 3الخ.، إر 22: 15؛ مز 1: 3؛ 38: 35). ويذكر المؤرخ هيرودوت (7: 19) أن أحشويرش رأى حلمًا أنه تُوج بشجرة زيتون ملأت أغصانها الأرض كلها لكن ذبل التاج من على رأسه، فأدرك أن حكمه ينتهي حتمًا.
يُريد الله من أصحاب السلاطين والعظماء كل القيادات، كما من الممالك، أن يكونوا كالأشجار التي يجد الكل فيها غذاءهم وراحتهم وأمانهم، لكن البشر والممالك أساءوا استخدام السلطة، فحولوها من الخدمة إلى التشامخ مع الاستغلال. لهذا كان لابد من اقتلاع هذه الأشجار لتغرس شجرة الصليب التي تبلغ بالحب والسلام الفائق والفرح الداخلي إلى كل قلب.
في هذا الأصحاح يُحذر الله الملك نبوخذنصَّر مُعلنًا له في حلم أنه يسقط تحت التأديب القاسي بسبب عجرفته. وفي هذا التحذير نتلمس حنان الله في معاملاته مع الإنسان، حتى الملك الوثني المُتعجرف. فمن جانب يكشف له ما سيحل به من تأديب لعله يرجع عن شره فيُعفى منه، وأعطاه مُهلة لمدة عام كامل لمراجعة نفسه، لكنه عوض التوبة تشامخ. ومن جانب آخر حتى في الإنذار شبهه بشجرة نافعة تُقدم ظلاً لحيوانات البرية، وطعامًا للإنسان والحيوان، ومأوى لطيور السماء، كما تتسم الشجرة بالجمال.
v يرتفع مثل هؤلاء الناس، لا بعظمة فضائلهم، بل بكبريائهم، لهذا يُقطعون ويهلكون[109].
روى الملك لدانيال الحلم الخاص بالشجرة الضخمة التي تميزت بالآتي:
أ. قائمة في وسط الأرض نامية، ويبلغ علوها إلى السماء [10-11]. في وسط الأرض أي في المركز حيث تشع السلطة الإمبريالية البابلية على كل الأمم والشعوب. يرى كل من العلامة أوريجينوس والقديس جيروم أن أورشليم هي مركز الأرض، بكونها مدينة الله التي أُقيم فيها الهيكل ليبارك البشرية المتعبدة لله. ويرى بعض الربيين (الحاخامات) بابليون أنها هي أيضًا في وسط الأرض بكونها على نفس الخط. لكن من الجانب الروحي إن كانت أورشليم تمثل القصر الملوكي السماوي، فإن بابل تمثل القصر الملوكي لضد المسيح وكل مملكته. إن كان نبوخذنصَّر يمثل شجرة مغروسة في بابل أم الزواني المتعجرفة، فإن المؤمن الحقيقي يمثل شجرة مغروسة في أورشليم، في بيت الرب.
ب. منظرها إلى أقصى كل الأرض [11].
ج. جميلة المنظر [12]، إشارة إلى اهتمام نبوخذنصَّر بالإنشاءات المعمارية وتزيين العاصمة.
د. ثمرها كثير، وفيها طعام للجميع [12]، إشارة إلى الغنى والإمكانيات الجبارة لنبوخذنصَّر.
هـ. موضع حماية للغير [12]، تحمي الطيور بين أغصانها وحيوانات البَرّ في ظلها.
هذا هو ما يقدمه الله للإنسان، ليجعله ملكًا يقيم في العالم كقصرٍ ملوكي، يريد من نفسه أن تكون نامية على الدوام. مع وجودها على الأرض ترتفع إلى السماء، لعلها تستقر في حضن الآب، تتمجد في أقاصي المسكونة، جميلة بلا عيب، مُشبعة للجميع، تتسع لتضم الغير بالحب فتهب أمانًا وسلامًا لمحبيها!
إذ سقط نبوخذنصَّر في الكبرياء استحق التأديب، فأرسل الله ملاكًا دعاه بالساهر والقدوس النازل من السماء ليؤدب.
يُدعى الملاك ساهرًا، لأنه روح بلا جسد، لا ينام ولا يحتاج إلى راحة، فهو دائم اليقظة ليل نهار. كما أنه يُدعى هكذا، لأنه يتحرك ليتمم إرادة الله لأجل بنيان شعبه، وكما يقول المرتل: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه" (مز 103: 20).
يُدعى أيضًا بالقدوس لأنه لا يحمل ضعفًا بشريًا. أما نحن فنعاني من الضعف، ليس فقط بسبب ما نرتكبه من خطايا، وإنما بسبب الفساد الذي تسلل إلينا من أبوينا الأولين، الذي يصيب جسدنا كما قلبنا وذهننا.
مهما بلغ الإنسان من تقديس، فإنه مادام لا يزال في الجسد، لا يُدعى "الساهر القديس"، لأنه خلال احتياج الطبيعة يلزمه أن ينام، وخلال الجهاد يتعرض للضعفات. بهذا يمكننا التمييز بين الملائكة والبشر، كما بين المؤمنين المجاهدين والمؤمنين الذين خلعوا الجسد وعبروا من العالم.
يلاحظ في هذا التأديب:
أ. أن ما يحدث حتى بالنسبة للملك الوثني ليس بخطة بشرية، لكنه بسماح إلهي. إذ أرسل ملاكه الساهر من السماء لتحقيق هذه الخطة. لقد حدثه بلغة الكلدانيين، إذ كانوا يعتقدون بكائنات سماوية تدين أعمال البشر، ولها سلطان على تقرير مصيرهم.
ب. مع التأديب توجد رحمة، فقد أمر الله بترك الجذور في الأرض لكي تنمو الشجرة من جديد بالتواضع والتوبة، فلا تُقتلع الشجرة بتمامها، والتأديب مدة محددة هي سبعة أزمنة [16]. "لأن للشجرة رجاء، إن قُطعت تُخلف أيضًا ولا تُعدم خراعيبها، ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا كالغرس" (أي 14: 7-9). هذا وإن كان قد سمح له أن يأكل العشب مع حيوان البَرّ، لكنه لم يحرمه من التمتع بندى السماء.
ج. صدر الأمر للحيوانات المستظلة بالشجرة والطيور المقيمة بين أغصانها أن تهرب، إشارة إلى تخلي كل رجال الدولة عنه. هذا هو ثمر الخطية إذ يشعر الإنسان بالعزلة. يُحسب أن الكل قد تخلوا عنه في لحظات الضيق، حتى الذين كسب صداقتهم بعطاياه الجزيلة.
د. واضح من الحلم أن الشجرة ترمز إلى شخص معين، إذ يشخصن الشجرة، فيقول في [15-16]: "يتغير قلبه عن الإنسانية وليُعط قلب حيوان"؛ لم يقل عن الشجرة "it" بل "he".
ماذا يعني بالقلب هنا؟ الفهم والإرادة والمشاعر، والنفس الداخلية ككلٍ. فمع أن الأشجار ليس لها قلب، لكن الحلم رمزي. كان الأمر الصادر ينزع عن الملك، ليس فقط إمبراطوريته، بل وطبيعته البشرية إلى حين، فإنه غير مستحق أن يعيش كإنسان حتى في أدنى درجات البشرية.
هـ. لم يقم ملك بدلاً منه، بل قام ابنه أويل مردوخ بالعمل في هذه الفترة حتى عاد والده إلى عقله وكرسيه.
و. غاية التأديب هو نفع الكثيرين [17].
في هذه العبارة [16] يؤكد الله للملك أنه لن يستطيع الهروب من التأديب الذي يعلنه له من خلال الحلم.
"هذا الأمر بقضاء الساهرين، والحُكم بكلمة القدوسين،
لكي تعلم الأحياء أن العليّ مُتسلط في مملكة الناس،
فيُعطيها من يشاء وينصب عليها أدنى الناس.
هذا الحلم رأيته أنا نبوخذنصَّر الملك.
أما أنت يا بلطشاصر فَبين تعبيرهُ،
لأن كل حكماء مملكتي لا يستطيعون أن يُعرفوني بالتعبير.
أما أنت فتستطيع لأن فيك روح الآلهة القدوسين" [17-18].
جاءت الكلمة "كلمة pethegma" هنا ربما بمعنى أمر أو منشور edict كما في (إس 1: 20). فما أُعلن هو منشور إلهي سماوي. لكنه لماذا ينسب المنشور إلى الملائكة الساهرين القدوسين، هل هو أمر إلهي أم ملائكي؟
بلاشك أن الأمر إلهي، صادر عن الله وحده دون أية خليقة سماوية؛ أما نسبته هنا لهم فلتأكيد دورهم الإيجابي.
مع طاعة الملائكة الكاملة لله، وقيامهم بتنفيذ أوامره، يصلون من أجل خلاص كل العالم. يطلبون أن يتدخل الله لتأديب المتكبرين الذين يجدفون على الله، لا للانتقام منهم، وإنما لردهم إلى طريق الحق. وكأن ما صدر عن الله جاء متناغمًا مع شهوة قلب السمائيين، وطلباتهم المستمرة، حتى حُسب الأمر كأنه صادر عنهم.
4. دانيال يفسر الحلم:
"حينئذٍ تحيرَ دانيال الذي اسمهُ بلطشاصر ساعة واحدة وأفزعتهُ أفكارهُ.
أجاب الملك وقال: يا بلطشاصر لا يفزعك الحلم ولا تعبيرهُ.
فأجاب بلطشاصر: الحلم لمبغضيك وتعبيرهُ لأعاديك" [19].
لا نعجب من تحيُّر دانيال وحزنه على الكارثة التي تحل بملك بابل، فمع كون الملك طاغية ظالم، سبى الشعب اليهودي مع شعوب أخرى، لكنه إذ كان دانيال يعمل في القصر كان ملتزمًا بالصلاة من أجله. لقد أمرهم الله بإرميا أن يصلوا من أجل رخاء بابل، ففي هذا يكمن سلامهم (إر 29: 7). ولأنه لم يكن بعد قد تمت السبعون عامًا، فلم يكن من حق المؤمنين أن يطلبوا من الملك العودة، بل يخضعون له في طاعة صادقة ويخدمونه بأمانة بغير كراهية. لهذا حزن دانيال عندما علم بما سيحل بالملك.
"الشجرة التي رأيتها، التي كبِرت وقويت، وبلغَ علوها إلى السماء، ومنظرها إلى كُل الأرض،
وأوراقها جميلة وثمرها كثير، وفيها طعام للجميع، وتحتها سكن حيوان البَر، وفي أغصانها سكنت طيور السماء،
إنما هي أنت يا أيها الملك، الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت، وبلغت إلى السماء، وسُلطانك إلى أقصى الأرض" [20-22].
هنا تظهر حكمة دانيال العجيبة، فمع محبته للملك واتضاعه أمامه، وشوقه الحقيقي أن ينقذه من الكارثة، تحدث معه كخادم للكلمة بكل صراحة، ونطق معه بالحق الإلهي. يقدم دانيال النبي درسًا عمليًا للخدمة، فالخادم يترفق بالخطاة ويشتهي خلاصهم، إن وبخ لا ينسى نفسه كإنسان ضعيفٍ؛ وفي نفس الوقت لا يهادن الخطاة على حساب الحق، ولا يخفي غضب الله على الخطية. دانيال النبي المترفق بالملك لم يخَفْه، بل بكل جرأة قال له: "أنت يا أيها الملك". لم يتردد ولا قدّم أعذارًا، ولا تحدث بلغة يبدو فيها أدنى شك، بل في يقينٍ أعلن له أنه هو الشجرة التي تحل بها الكارثة.
"وحيث رأى الملك ساهرًا وقدوسا نزلَ من السماء،
وقال اقطعوا الشجرة وأهلكوا،
ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض،
وبقيدٍ من حديد ونحاس في عشب الحقل،
وليبتل بندى السماء،
وليكن نصيبه مع حيوان البَر، حتى تمضي عليه سبعة أزمنة".
يتساءل القديس جيروم عمن يقوم بتقييد الملك بقيد من حديد ونحاس، ويجيب: [واضح جدًا يُربط كل المجانين بسلاسل لحفظهم من أذية أنفسهم أو هجومهم على الغير بأسلحة[110]].
فهذا هو التعبير أيها الملك،
وهذا هو قضاء العليّ الذي يأتي على سيدي الملك" [23-24].
إذ يؤكد دانيال النبي أن الحلم بما فيه من مرارة ينطبق على الملك، يدعو الملك في احترام "سيدي الملك". أنه يقدم التأديب الإلهي، دون أن يستخف بالملك أو يهينه بكلمة جارحةٍ.
"يطردونك من بين الناس، وتكون سُكناك مع حيوان البَرِ،
ويُطعمونك العشب كالثيران، ويَبلونك بندى السماء،
فتمضي عليك سبعة أزمنة،
حتى تعلم أن العليّ مُتسلط في مملكة الناس، ويُعطيها من يشاءُ" [25].
غالبًا ما كان الملوك، خاصة الدائمو النصرة، يحسبون أنفسهم فوق كل قانون، يأمُرون ولا يُؤمَرون، يَطلبون طاعة الغير ولا يخطر على قلبهم الخضوع للغير. إنهم كثيرًا ما ينسون طبيعتهم البشرية، كأنهم من طبيعة غير طبيعة سائر البشر. الآن يقدم له دانيال النبي تفسير الحلم لا ليُذكره أنه إنسان له الضعف البشري، إنما يسقط تحت التأديب، فيفقد مع المملكة طبيعته البشرية، ليصير كما على مستوى حيوانات البرية. يُعزل من وسط الناس ليعيش كما بين قطيع الثيران أو الخنازير.
"وحيث أمروا بترك ساق أصول الشجرة،
فإن مملكتك تثبت لك عندما تعلم أن للسماء سُلطان" [26].
يهيئ دانيال النبي نبوخذنصَّر للتوبة، فيفتح له باب الرجاء فمع التأديب تُعلن مراحم الله التي تنتظر توبته لترد له ما فقده بفيض. فإن الله يؤدب لا ليذل الإنسان، بل ليرفعه، ويهبه عطية المعرفة، إذ يقول له "عندما تعلم..." فالتأديب مدرسة إلهية للتمتع بمعرفة سماوية فائقة.
"لذلك أيُّها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك، وفارق خطاياك بالبِر،
وآثامك بالرحمة للمساكين، لعله يُطالُ اطمئنانُك" [27].
لقد بقي دانيال صامتًا إلى حين مرتبكًا، فشعر الملك بخطورة الحلم وشجعه على الحديث، معلنًا له أنه سيتقبل الأمر أيا كان. تحير دانيال وأفزعته أفكاره لسببين:
أ. سقوط ملكٍ عظيمٍ كهذا إلى أدنى مستوى، وهو أن يصير له قلب حيوان برية.
ب. أنه هو الذي يقدم التفسير للملك، وكان يتمنى الخير للملك.
لقد شجع الملك دانيال أن ينطق، إما رغبة في معرفة الحقيقة، أو من أجل حب الاستطلاع.
v أوضح الحق دون أن يهين الملك، لكي يتجنب الظهور بمظهر اتهام الملك بكبرياء خاطئ، بل بالأحرى في سمو عظيم[111].
ختم دانيال حديثه فاتحًا باب الرجاء أمام الملك بالتوبة وعمل الرحمة مع ترك خطاياه. اشتهى دانيال توبة نبوخذنصَّر حتى لا يسقط تحت هذا التأديب القاسي، بل يسقط فيه أعداؤه. لذلك قدم له مشورة بأن يترفق بالفقراء والمحتاجين. بهذا إذ يتحول قلبه عن القسوة والعنف والأنانية إلى الحب والعطاء يجد نعمة في عينيّ الله.
v إن فتحتم أياديكم للفقراء، يفتح المسيح أيضًا أبوابه لكم حتى تدخلوا كما إلى الفردوس[112].
v لنقل أن نبوخذنصَّر صنع أعمال رحمة مع الفقراء حسب مشورة دانيال، لهذا أُرجئ الحكم لمدة اثني عشر شهرًا. ولكن إذ كان يتمشى في قصره ببابل وبعجرفة قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها؟!"...، لذلك فقد فضيلة العطاء بشرّ كبريائه[113].
v إننا نقرأ أيضًا في إرميا عن توجيه الله للشعب اليهودي أنه يُلزمهم الصلاة من أجل البابليين، إذ يرتبط سلام المسبيّين بسلام الذين سبوهم أنفسهم[114].
5. تحقيق التفسير:
"كل هذا جاء على نبوخذنصَّر الملك.
عند نهاية اثني عشر شهرًا كان يتمشى على قصر مملكة بابل.
وأجاب الملك فقال:
أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟!
والكلمة بعد بفم الملك، وقع صوت من السماء قائلاً:
لك يقولون يا نبوخذنصَّر الملك، إن المُلك قد زال عنك،
ويطردونك من بين الناس،
وتكون سُكناك مع حيوان البَرِّ، ويطعمونك العشب كالثيران،
فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العليّ مُتسلط في مملكة الناس،
وأنه يعطيها من يشاء" [28-32].
جاءت الكلمة العبرية mehelek تُشير إلى أن الملك كان يتمشى على سطح القصر. كان الشرقيُّون يمارسون عادة المشي على السطح.
أمكن للملك أن يرى بابل كلها "من على السطح"، خاصة إن كان القصر مبنيًا على تل عالٍ.
في كبرياء ظن أنه إله، لهذا انحدر ليصير أشبه بحيوان، وكما قال الله لأيوب: "انظر كل متعظم واخفضه" (أي 10: 11). لقد نسب كل شيء لنفسه وقدرته وجلاله، لا إلى الله واهب القدرة والحكمة. كما تجاهل سابقيه الذين أسسوا المدينة. أما سليمان الحكيم الذي بنى الهيكل فيقول: "إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون؛ إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحراس" (مز 127: 1).
"في تلك الساعة تم الأمر على نبوخذنصَّر،
فطُرِدَ من بين الناس وأكل العشب كالثيران،
وابتل جسمهُ بندى السماء،
حتى طال شعرهُ مثل النسور وأظافرهُ مثل الطيور.
وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذنصَّر رفعت عينيّ إلى السماء،
فرجع إليّ عقلي،
وباركت العليّ وسبحتُ وحمدتُ الحيّ إلى الأبد،
الذي سُلطانه سُلطان أبدي وملكوته إلى دور فدورٍ" [33-34].
في كبريائه نسب لنفسه بابل بأسوارها وحدائقها العامة ومعبدها للإله بعل والقصر الملكي. ينسب هيرودت بابل إلى سميراميس Semiramis ونيتوقريس Nitocris، بينما يذكر بيروسوس Berosus وأبيدنس Abydenus أن البابليين، أي نبوخذنصَّر، أضافوا إلى المدينة القديمة الكثير فبنى نبوخذنصَّر قصرًا فخمًا وأسوار المدينة. يُستشف من نيتوقريس أن زوجة نبوخذنصَّر قامت بتجميل المدينة.
هاجم النُقاد هذا النص [30]، بالقول بأنه تاريخيًا لم يبنِ نبوخذنصَّر بابل، لكن في الاكتشافات الحديثة وُجدت آلاف من الطوب في بابل نُقش عليها من أسفل "نبوخذنصَّر بن نبوبلاسر". هذا وأن كلمة "بناء" هنا لا تعني مجرد التأسيس، إنما تستخدم أيضًا في التوسيع والإضافة[115]. ولا ننسى أن كثيرًا من الملوك اعتادوا أن يدفنوا أمجاد السابقين، وينسبوا كل شيء إلى أنفسهم، بمجرد تغيير شكل الشيء أو الإضافة إليه.
v لو لم يرفع عينيه نحو السماء لما استعاد عقله السابق.
علاوة على هذا بقوله: "رجع إليه عقله" أظهر أنه لم يفقد مظهره الخارجي بل عقله فقط[116].
بقوله "دور فدور" لا يعني فقط الأجيال المقبلة وإنما كما يقول القديس جيروم أنه إذ عاد إليه عقله أدرك سرّ ملكوت الله الذي يعبر من الناموس إلى الإنجيل[117].
"حُسبت جميع سكان الأرض كلا شيء،
وهو يفعل كما يشاء في جند السماء ولا يوجد من يمنع يدهُ أو يقول له ماذا تفعل" [35].
كثيرًا ما يحسب الطغاة أن الله حبيس السماء، لا دور له في شئون البشر؛ وهم يفعلون ما يشاءون كآلهة وليس من يُقاومهم. الآن يرى الملك أن إله السماء يُحرك البشر، ويقود ويُدبر كما يشاء، والأرض في قبضة يده كما السماء تمامًا!
في ذلك الوقت رجع إليّ عقلي،
وعاد إليّ جلال مملكتي ومجدي وبهائي،
وطَلَبني مُشيري وعُظمائي،
وتثبت على مملكتي، وازدادت ليّ عظمة كثيرة [36].
لم يتب نبوخذنصَّر بالرغم من أن الله قد تركه اثني عشر شهرًا، أي عامًا كاملاً بعد الحلم. إنما على العكس ضُرب الملك بالعجرفة فتحقق فيه الحلم.
لم يتحقق الحلم إلاَّ بعد سنة، مقدمًا الله للملك فرصة طويلة لمراجعة نفسه والتوبة، فيترفق بالأسرى ويهتم بالمحتاجين، لكن كبرياءه كان يتفاقم بالأكثر.
أصيب الملك بحالة جنون أفقدته وعيه كإنسان، صار كحيوان البرية يأكل العشب. ربما أُصيب بمرض الاستئذاب، وهو مرض فيه يتوهم من يعاني منه أنه مُسخ ذئبًا[118].
v بعد أن نُزع عن ذلك الملك البابلي الشكل البشري في سنيه السبع البائسة وصار مُهملاً بسبب عصيانه للرب، فإنه إذ احتمل الألم الجسدي لم يسترد مملكته فحسب، وإنما ما هو بالأكثر حقق مسرة الله[119]...
الله الذي حرك نبوخذنصَّر لتأديب شعبه إلى حين بسبيّهم، الآن يُعلن له أن كل الأمور تسير بسماح منه. لقد سمح أن يطرده رجاله من الحكم ويُقيدوه بسبب جنونه، الآن يُحركهم ليردوه إلى المُلك دون أن يُدركوا يدّ الله الخفية.
6. نبوخذنصَّر يمجد الله:
"فالآن أنا نبوخذنصَّر أُسبِّح وأُعظِّم وأحمد ملك السماء،
الذي كُل أعماله حق وطرقهُ عدل،
ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يُذِلهُ" [37].
إذ أكمل فترة التأديب عاد إليه عقله فرفع نظره نحو السماء كإنسان تائبٍ يطلب مراحم الله. انسحقت نفسه فيه، ومجد الله. أدرك أنه ليس إنسان يقدر أن يملك إلى الأبد، وأن كل الممالك أمام الله كلا شيء. أو ربما إذ رفع نبوخذنصَّر عينيه إلى السماء يُمجد الله، رفع الله عنه التأديب.
اعتقد البعض أنه لا توجد أدلة في التاريخ تُشير إلى جنون نبوخذنصَّر[120]، مما يجعل الخبر غير صحيح تاريخيًا. يرد عند بيروسُّوس أيضًا كما جاء في يوسيفوس المؤرخ اليهودي[121] ما يُشير إلى حقيقة جنون الملك. لكن لابد من الإشارة إلى أنه حتى لو لم تحتوي المصادر الخارجية ما يدل على جنون الملك هذا لا يعني أن الخبر غير صحيح تاريخيًا.
"وكان دانيال إلى السنة الأولى لكورش الملك" [21].
من وحي دانيال 4
روَض نفسي فإنها قد جمحت!
v وهبتني كثرة من الخيرات والعطايا،
فشبعتُ وصرتُ في تخمةٍ، وجمحت نفسي.
من يروضها غيرك يا من تهتم بخلاصي؟!
v لتحرمني من بعض العطايا،
لتهبني الأتضاع أمامك،
إن كان في ذلك بنيانًا لأعماقي!
لكن لا تحرمني منك،
فأنت نصيب نفسي، وميراثي الأبدي!
v أسأت إلى محبتك وغنى عطاياك،
إذ جمحت نفسي بلا ضابط!
ما أصعب عليّ أن احتفظ باتضاع الفكر،
وسط فيض عطاياك!
ضع ضعفي أمام عيني، فيتضع فكري.
أمسك بيدي، فأسير معك في طريق حبك!
v هب ليّ يا رب روح دانيال النبي الخادم.
واشتهي خلاص الخطاة، وأترفق بهم،
لكن بلا مداهنة على حساب الحق الإلهي.
لا أخشى ملكًا مهما كان طغيانه،
ولا أخفي كلمتك مهما بدت حازمة!
v تهديداتك أرعبت نبوخذنصَّر،
أجد عذوبة حبك وسط تهديداتك ليّ.
علمني أن أكرس كل حياتي لطاعتك.
تهديداتك ووعودك هي لبنيان نفسي!
v خطيتي أسقطتني تحت التأديب الإلهي،
دفعت بيّ كما إلى قطيع الثيران أو الخنازير.
لأرجع إليك فتحملني إلى شركة القديسين،
وترفعني إلى حياة السمائيين.
وتهبني معرفة سمائية فائقة!
إذ عبرت السبعون عامًا الخاصة بالسبيّ التي تنبأ عنها إرميا النبي (إر 25: 11)، وحلّ موعد العودة، كانت مملكة بابل قد تحولت إلى حياة الرخاوة والترف مع الفساد. جاء الملك بيلشاصر بشخصيته المستهترة لتنهار مملكة بابل في أيامه.
حقًا كان لنبوخذنصَّر العنيف والمتكبر أخطاءه، وقد أعطاه الله أكثر من فرصة لمراجعة نفسه، أما حفيده، الأرجح ابن ابنته، بيلشاصر فلم ينتفع من دروس آبائه. تحدى الله نفسه، وأراد أن يهينه عن عمدٍ. لهذا أعلن له تأديبه السريع الذي تحقق فورًا. ما فعله بيلشاصر لم يصنعه سالفيه مثل نبوخذنصَّر وأويل مردوخ. وكما يقول القديس جيروم: [لم يكن متزنًا حين صنع هذه الأمور، بل بالحري كان مخمورًا، ناسيًا العقوبة التي حلت بسالفه نبوخذنصَّر[122]].
لم يتعاطف دانيال النبي مع هذا الملك كما فعل قبلاً مع جده نبوخذنصَّر، إذ اشتهر الملك بالفساد والظلم. هذا يتفق مع أورده عنه المؤرخ الوثني زينوفون، الذي دعاه "الشرير"، وتحدث عن عنفه في التعامل مع عظمائه.
1. وليمة بيلشاصر [1-4].
2. الكتابة على الحائط [5-9].
3. إحضار دانيال للملك [10-16].
4. تفسير دانيال [17-29].
5. النتائج [30-31].
1. وليمة بيلشاصر:
" بيلشاصر الملك صنع وليمة عظيمة لعظمائه الألف وشرب خمرًا قدام الألف" [1].
يترجم البعض "شاصر" بمعنى "النار"، أما كلمة "بيلشاصر (Bel-shar-usur) Bel-Sharra-Utsur" فتعني "بيل يحمي الملك".
كانت الولائم العظيمة من سمات الأزمنة القديمة. ومن الواضح أن كلمة "الألف" تعني الضخامة، وهي تمثل رقمًا تقريبيًا. وقد جرت العادة في الولائم الشرقية أن يجلس الملك أو رئيس المتكأ على منصة مرتفعة، فيراه كل الحاضرين. لذا جاء التعبير: "شرب خمرًا قدام الألف" يكشف عن دقة الحديث والوصف.
"وإذ كان بيلشاصر يذوق الخمر،
أمر بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذنصَّر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم،
ليشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه.
حينئذ أحضروا آنية الذهب التي أخرجت من هيكل بيت الله الذي في أورشليم،
وشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه [2-3].
كلمة "أب" تحمل معانٍ كثيرة، هنا تعني جده أو أحد أسلافه.
بينما كانت الدولة البابلية في خطر من فارس حيث كان كورش محاصرًا المدينة، كان بيلشاصر منشغلاً بإقامة وليمة تضم ألفًا من العظماء القادمين من كل موضع، مع نسائه وسراريه. كان يظن أنه من المستحيل لكورش أو غيره أن يقتحم أسوار المدينة الضخمة، فتركه يُحاصرها في استخفافٍ به وبجيشه. كانت أسوار بابل كما جاء في هيرودوت لا يقل عرضها عن 87 قدمًا وارتفاعها عن 350 قدمًا، مع وجود 250 برجًا تعلو 100 قدمًا أخرى في الهواء. لذلك ظن بيلشاصر أنه لا يمكن غزو بابل.
الجهد الذي بذله بيلشاصر في إقامة الوليمة والإمكانيات التي قُدمت لا يمكن تقديرها. هذا مع تحدِّيه لله، فعوض الصوم في وقت الحصار، والصراخ لله لكي ينقذه وينقذ مدينته، إذا به يُقيم وليمة، ويستخدم الأواني المقدسة للشرب، في جوٍ من الفساد والإباحية، يكشف عن إصرار الملك على الحياة غير اللآئقة.
لقد عرف كورش عن الوليمة لضخامتها ولدعوة الكثيرين بالاشتراك فيها، فأدرك أن الملك ورجاله غارقون في الخمر، لا يبالون بشئون بلدهم، ووجدها فرصة ذهبية لاقتحام المدينة[123].
بينما كان بيلشاصر يفتتح الوليمة كان جيش كورش على أبواب بابل. يروي لنا المؤرخ الوثني زينوفون Xenophon أن قائدي بيلشاصر جبرايس Godatas, Gobryas المنشقين خاناه. فقد خصى أحدهما للتشهير به، وقتل ابن الثاني في أثناء حياة أبيه، لا لشيء إلاَّ لأنه كان يصطاد معه فضرب سهمه قبله، فأراد الانتقام منه. لقد حوَّل كورش مجاري كثيرة لنهر الفرات واقتحم المدينة فجأة.
لم يكن إحضار الآنية للتمتع بلذة الشرب، وإنما لإهانة الله وتدنيس الآنية المكرسة لخدمة هيكله وللتشهير. إمعانًا في الإهانة مجدوا الأوثان أثناء الشرب بها.
يرى القديس يوحنا كاسيان في مقدمة كتابه "المعاهد"، في هذه الوليمة تحذيرًا للمؤمنين من الانشغال بالأواني المقدسة الذهبية أو الفضية التي يمكن للملوك الأشرار أن يسلبوها، بل يلزمهم الاهتمام بالأواني الروحية، أي نفوس المؤمنين المقدسة التي لا يمكن اغتصابها.
v حينما تضع في خطتك أن تبني هيكلاً لله حقيقيًا ومعتدلاً، لا بحجارة جامدة، بل بمجمع القديسين، ليس بمبني مؤقت ينحل، بل بمبنى أبدي لا يهتز، وتريد أيضًا أن تقدس للرب أكثر الأواني قيمة، ليس من معادن صماء، من ذهب وفضة، هذه التي يمكن لملك بابل أن يأخذها فيما بعد ويكرسها لملذات سراريه وعظمائه، إنما يُشكِّل نفوسًا مقدسة تشرق باستقامة الطهارة والبرّ والنقاوة، وتحمل المسيح ساكنًا فيها كملك. حيث أنك مشتاق أن تؤسس في مقاطعة (نفسك الداخلية) معاهد الشرق، خاصة مصر، تقوم فيك دون وجود أديرة مع أنك أنت كامل في كل الفضائل والمعرفة ومملوءة بكل غنى روحي[124].
وجد النقاد فرصتهم لمهاجمة السفر خلال هذا الأصحاح، فقد سبق أن قرر المؤرخان لبابل الوثنيان بيروسوس Berosus وأبيدنس Abydenus بأن نابونيدس Nabonidus هو آخر ملوك بابل، وأنه كان له مركزه المكرم حتى بعد استيلاء الفارسيين على بابل. بينما جاء في هذا الأصحاح أن بيلشاصر هو آخر ملوك بابل، وأنه لاقى الموت مقتولاً.
أكد علم الآثار أن كلاً ما ذكره المؤرخان وأيضًا دانيال حقيقي. فقد جاء في النقوش الآشورية التي وجدها Sir Herbert Rawlinson عام 1854م أن بيلشاصر كان ابن الملك نابونيدس، وأنه شاركه في الحكم كما سبق فرأينا في مقدمة السفر (دانيال وعلم الآثار) هذا يتفق مع القول بأن دانيال كان الثالث في المملكة.
في الحفريات بأور Ur وُجد نقش لنابونيدس يحوي صلاة عن نفسه ثم عن ابنه البكر Bel- Shar- Usur. مثل هذه الصلاة لم تكن تقدم إلاَّ للذين تولوا الحكم. كما وُجدت مستندات "إسفينية مسمارية"، وهي حروف اُستخدمت في بابل، تُسجل كيف قدم بيلشاصر خرافًا وعجولاً في هياكل سيبار Sippar كذبائح عن الملك[125].
في وقت قريب حدثت فياضانات غزيرة على حي في بابل القديمة يُدعى هيلا Hillah، فظهرت أواني فخارية ضخمة مملوءة بألواح تمثل إيصالات وعقود لمؤسسة خاصة بالبنوك في بابل، يظهر منها أن بيلشاصر كان له بيت وسكرتاريون وحراس[126].
بيلشاصر هذا ربما هو نفس بلطشاصر المذكور في السجلات البابلية والذي قام بمهمة النائب الأول للملك. وقد أصبح ملكًا بالنيابة عن أبيه وفقًا للسجلات البابلية سنة 553 ق.م. واستمر في هذا المركز إلى سنة 539 ق.م. ومع أن نابونيدس كان متغيبًا طوال الوقت في تيماء بشمال شبه الجزيرة العربية إلاَّ أنه لم يترك الملك إلى أن فتح كورش بابل[127].
أما لماذا تُرك بيلشاصر ملكًا في بابل؟ فذلك يرجع لشخصية والده نبونيدس الذي كان رجلاً له اهتمامات دينية وثقافية، كما كان عالمًا للآثار، فكان يبحث في نقوش الملوك القدماء وأساسات وأحجار المباني العامة، ويبحث عن الوثائق التي تكشف الماضي. وكانت اهتماماته الدينية قوية جدًا، وكانت ابنته مكرسة لإله القمر، ويبدو أن أمه كانت كاهنة معبد "سين Sun" إله القمر. وهذا ما شغله عن أمور الحكم، ومن الواضح لنا، مما كشفه علم الآشوريات، أنه قضى معظم أيام حكمه ليس في بابل ولكن في تيماء، ومن ثم فقد ترك ابنه بيلشاصر لحكم بابل، بنفس الطريقة التي كان بها نبوخذنصَّر مع والده نبوبلاسر. هذه الحقائق قدمها لنا رايموند دورتى Raymond P. Dougherty أستاذ علم الآشوريات [New Haven, Yale 1929] [128].
"كانوا يشربون الخمر ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجر" [4].
إذ دنسوا الأواني المقدسة، سبحوا الآلهة الوثنية بكونها واهبة النصرة على الإله الحقيقي، وكما جاء في سفر حبقوق: "لذلك تذبح لشبكتها وتبخر لمصيدتها، لأنه بهما سمن نصيبها وطعامها مُسمن" (حب 1: 16). لقد أكلوا وشربوا فشبعوا وسمنوا، وسخَروا بالله واهب العطايا.
لقد أحضر الملك الأواني المقدسة عمدًا قبل الشرب، وأشعل السكر بالأكثر مشاعره الفاسدة، ودفعه إلى التمادي في السخرية. هذا ولم يخطئ الملك وحده بل دفع عظماءه ونساءه وسراريه للاشتراك معه، فتحولت الوليمة إلى مجلس مستهزئين.
v يا لعظم غباوتهم! إذ كانوا يشربون في أوانٍ ذهبية سبحوا آلهة من خشبٍ وحجارة[129].
يرى القديس جيروم أن آلهة الذهب تُشير إلى الذين يُهاجمون الحق مستخدمين براهين عقلية تبدو مقبولة، وآلهة الفضة تُشير إلى الذين يستخدمون البلاغة والخطابة لنفس الهدف، وأما آلهة النحاس والحديد فتُشير إلى من يستخدم الأشعار بما تحمله من خزعبلات واهية بعضها لها تذوقها الصالح والأخرى تحمل غباوة. آلهة الخشب والحجارة تُشير إلى من يقدم سخافات واضحة[130].
2. الكتابة على الحائط:
"في تلك الساعة، ظهرت أصابع يد إنسان،
وكتبت بإزاء النبراس (المنارة) على مكلس حائط قصر الملك،
والملك ينظر طرف اليد" [5].
يعلق القديس جيروم على تعبير: "في تلك الساعة" قائلاً: بأن اليد قد ظهرت في نفس الساعة ليعلن الله أن ما يحدث هو تأديب بسبب تجديفه وليس لسبب آخر.
واضح أن الحفل كان ليلاً حيث وُجدت المنارات، وأنه استمر حتى منتصف الليل حيث استولى كورش على بابل.
ظهرت اليد للملك دون العظماء، لهذا ارتبك جدًا وارتعب، فارتعب العظماء معه، دون أن يروا شيئًا.
يقول القديس جيروم أن الكتابة جاءت على حائط القصر الملكي لكي يدرك الملك أن المكتوب يخصه شخصيًا[131].
"حينئذ تغيرت هيئة الملك، وأفزعته أفكاره،
وانحلت خرز حقويْه، واصطكت ركبتاه" [6].
منذ لحظات كان الملك يظن في نفسه إلهًا جبارًا، يسخر بالله الحقيقي ويُدنس مقدساته، مسبحًا الأوثان. الآن يأخذ موقف المتهم الذليل، ويدرك أن الله هو الديان الحقيقي. انحلت قوى الملك الجسمانية، وارتبك فكره، وفقد اتزانه وكرامته بين المدعوين للحفل. صار في موقفٍ لا يُحسد عليه.
فصرخ الملك بشدةٍ لإدخال السحرة والكلدانيين والمنجمين.
فأجاب الملك وقال لحكماء بابل:
أي رجل يقرأ هذه الكتابة، ويُبين ليّ تفسيرها،
فإنه يلبس الأرجوان، وقلادةٍ من ذهب في عنقه،
ويتسلط ثالثًا في المملكة" [7].
شعر الملك أن جراحات عقله خطيرة، فاستدعى السحرة والحكماء والمنجمين لعله يجد دواءً لأعماقه، لكنه كان يشعر أنه ليس لجراحاته شفاء، وأنه لن يفلت من يديّ القدير. لقد نسيَ أنه ملك يُقيم وليمة للعظماء، فأرسل يستدعي هؤلاء الرجال على وجه السرعة، ليدخلوا إليه وهو بعد في الوليمة. لقد صرخ بشدة، الأمر الذي لا يليق بصاحب سلطان! لقد فقد أعصابه تمامًا!
لماذا لم يُستدع دانيال؟
1. ربما لأنه كان قد شاخ فأُحيل على المعاش.
2. ما ناله دانيال من كرامة من نبوخذنصَّر أثار - على مدى الوقت - أحقاد الحكماء البابليين، إذ شعروا أن رجلاً غريب الجنس مسبيًّا قد فاقهم جميعًا، فبذلوا كل الجهد بعد موت نبوخذنصَّر على استبعاده من القصر، حتى ينساه رجال القصر تمامًا، وقد وجد ذلك استطيابًا في قلب دانيال النبي الذي لا يُريد أن يُحصَى مع المجوس، وأن يكون كبيرهم. وفي نفس الوقت شوَّهوا صورة الشعب اليهودي وعبادتهم لدى الملك. هذا يظهر بوضوح مما فعله الملك عندما أقام الوليمة وأراد تدنيس المُقدسات الإلهية مع تمجيد أوثانه. هكذا استطاعوا أن يزيلوا كل أثر لدانيال على القصر الملكي.
3. مع كل ما حلّ به لم يُراجع الملك نفسه، ويفحص تصرفاته. لقد دنس مقدسات الله ومجد أوثانه، فكان يليق به أن يبحث عن رجل الله، يطلب منه مشورة للتكفير عما فعله، لكنه عِوض البحث عن رجل الله طلب رجال الأوثان من سحرة ومنجمين. لقد أرعبه الله، فكان يليق به أن يبحث عمن يقدم له الصوت الإلهي، لكنه حتى في وسط ارتباكه طلب صوت أوثانه. لقد أدرك أنه لا يستطيع الهروب من حكم الله، فطلب أن يجد تعزيته في السحرة. يمكننا القول أن بيلشاصر كان أعمى، أغلق عينيه عن معاينة النور الإلهي.
بإعلانه عن الهدايا التي يقدمها لمن يفسر له الرؤيا أوضح أن قلبه لم يتمتع بالمخافة الإلهية. لقد صار شبه ميت، ومع هذا ففي كبريائه الخفي يظن أنه يُغني من يفسر له الرؤيا، عِوض الوعد بالتوبة.
"ثم دخل كل حكماء الملك،
فلم يستطيعوا أن يقرءوا الكتابة، ولا أن يُعرفوا الملك بتفسيرها.
ففزع الملك بيلشاصر جدًا، وتغيرت فيه هيئته، واضطرب عظماؤه" [8-9].
لقد ظهرت لهم الكتابة أشبه بسفرٍ مختومٍ كما جاء في (إش 29: 11)، لم يستطيعوا فتحه وقراءته. أو قل إنهم صاروا عميانًا غير قادرين على الرؤية. وُضعت غشاوة على قلوبهم، فلم يستطيعوا القراءة.
وهب الله الملك بيلشاصر أن يرى اليد الخفية تكتب على الحائط، لكنه لم يهبه القدرة على قراءة ما هو مكتوب. وجاء الحكماء ليقرءوا، لكنهم كانوا أشبه بالعميان. لقد سمح الله بذلك حتى يزداد الملك رعبًا، فيرتعب كل من حوله. ولعل هذا الحدث بين ألفٍ من العظماء غير الزوجات والسراري جعل خبر الرؤيا ينتشر سريعًا، لا على مستوى المدينة بل وخارجها؛ مما أعطى كورش طمأنينة وثقة أن ما يصنعه يلزم أن يتم سريعًا، لأن يدّ الله تسنده. هذه الأحداث التي حتمًا بلغت كورش فيما بعد بتفاصيل دقيقة دفعته نحو تكريم دانيال وشعبه وإلهه، فسمح للشعب بالعودة إلى أورشليم.
أدان الله تصرف الملك الشرير في ذات الساعة، فجاءت الكتابة لا في حلم بل حقيقة ملموسة. وقد أدرك الملك أن عقوبة تنتظره، لذلك خاف جدًا قبل معرفته بالتفسير. هذا يوضح أن ما فعله الملك لم يكن عن جهلٍ وإنما عن إدراك ووعي.
v رأى بيلشاصر أصبع يد تكتب على الحائط، وفي الحال انطبعت صورة شيء مادي على روحه خلال حواس جسدية، وعندما انتهت الرؤيا بقيت الصورة في أفكاره، بقيت منظورة في الروح لكن غير مفهومة...
عندما فشل في اكتشاف المعنى، جاء دانيال في الحال، وإذ كان ذهنه مستنيرًا بروح النبوة، كشف للملك المضطرب المعنى النبوي للعلامة[132].
3. إحضار دانيال أمام الملك:
"أما الملكة فلسبب كلام الملك وعظمائه دخلت بيت الوليمة،
فأجابت الملكة وقالت: أيُّها الملك عش إلى الأبد.
لا تفزعك أفكارك ولا تتغير هيئتك.
يوجد في مملكتك رجل فيه روح الآلهة القدوسين،
وفي أيام أبيك وُجدت فيه نيرةُ وفطنة وحكمة كحكمة الآلهة،
والملك نبوخذنصَّر أبوك جعله كبير المجوس والسحرة والكلدانيين والمنجمين" [10-11].
واضح أن الملكة قد عاصرت أحداث نبوخذنصَّر جد بيلشاصر، غالبًا ما تكون زوجته، أي جدة بيلشاصر، وليست زوجته، لأن الأخيرة كانت مع الملك في الوليمة. أما الجدة ففي حكمة ووقار لم تشترك في الوليمة، إذ كان حضور النساء مع الرجال في الولائم يُخالف العادات الشرقية في ذلك الحين. غير أن مخاطبة الملكة للملك يشهد لدقة السفر، ففي بابل كان للملكة الأم منزلة عُليا في البيت الملكي[133].
لقد ذكَّرت الملك بدانيال، الذي غالبًا ما كان على المعاش أو مستبعدًا، لكن لا يمكننا الجزم بأن بيلشاصر لم يسمع عنه، فقد كان كثيرون ينظرون إليه كملاكٍ نازلٍ من السماء. لقد كان الملك غارقًا في ملذاته التي جعلته يتجاهل أو لا ينشغل برجل الله، ويقاوم الله نفسه.
عاتبته الملكة بروح هادئ، وكأنها تقول له: "لماذا تسلك في الظلمة وقد وهبك الله رجلاً يحمل مشعل النور الفائق؟!"
"من حيث إن روحًا فاضلة ومعرفة وفطنة وتعبير الأحلام وتبيين ألغاز وحل عقد وُجدت في دانيال،
هذا الذي سماه الملك بلطشاصر.
فليُدعَ الآن دانيال فُيبين التفسير" [12].
لقد ميَّزت الملكة العجوز بين دانيال والسحرة. فقد كان السحرة يفتخرون بأنهم قادرون على تفسير الأحلام، لكن افتخارهم كاذب وباطل، أما دانيال فتمتع بثلاث عطايا إلهية، بها فاق الجميع، وميَّزه عنهم.
· فيه روح فاضلة.
· فيه معرفة وحكمة.
· قادر على تفسير الأحلام وتبيين الألغاز وحلّ المشاكل.
كشفت أيضًا عن تقدير نبوخذنصَّر له إذ نسبه إلى إلهه، وأعطاه اسمًا مكرمًا "بلطشاصر". لقد حمل اسمًا مشابهًا لاسم الملك " بيلشاصر". لذا يليق به ألاَّ يحتقره لكونه غريب الجنس ومسبيًّا!
"حينئذ أُدخل دانيال إلى قدام الملك، فأجاب الملك وقال لدانيال:
أأنت هو دانيال من بني سبيّ يهوذا الذي جلبه أبي الملك من يهوذا؟
قد سمعت عنك أن فيك روح الآلهة، وأن فيك نيرة وفطنة وحكمة فاضلة.
والآن أَُدخل قدامي الحكماء والسحرة ليقرءوا هذه الكتابة،
ويُعرفوني بتفسيرها، فلم يستطيعوا أن يبينوا تفسير الكلام.
وأنا قد سمعت عنك أنك تستطيع أن تفسر تفسيرًا وتحل عقدًا.
فإن استطعت الآن أن تقرأ الكتابة، وتُعرفني بتفسيرها،
فتلبس الأرجوان، وقلادة من ذهب في عنقك،
وتتسلط ثالثًا في المملكة" [13-16].
مع كل ما حلّ بالملك، وما سمعه من جدته لم يتضع، نادمًا على ما فعله، بل تحدث مع دانيال في عجرفة، ناظرًا إليه كرجلٍ ذليلٍ مسبيّ. ولعله استخدم هذا الأسلوب لكي يلزمه بالطاعة والالتزام بالنطق بالحق معه.
لقد اعترف الملك أنه التجأ إلى السحرة فظهر عجزهم التام، وأنه يأمل بسبب ما سمعه عنه أن يقدم له ما عجز عنه هؤلاء الرجال.
قدم الملك وعودًا لدانيال من ثياب ملوكية (أرجوان) وقلادة ذهبية مع سلطان، ولم يكن يدري أنه هو نفسه يفقد ممتلكاته وسلطانه بل وحياته بعد ساعات. كان مرتعبًا أمام القضاء الإلهي، وربما كان يشعر أنه يفقد كل شيء سريعًا، لكنه أخفى هذا كله، مقدمًا وعودًا للآخرين لا يقدر أن يتمتع هو نفسه بها.
4. تفسير دانيال:
"فأجاب دانيال وقال قدام الملك:
لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيري.
لكني أقرأ الكتابة للملك وأُعرفه بالتفسير" [17].
أظهر دانيال استخفافه بالعطايا الزمنية قبل أن يقرأ الكتابة ويفسرها، لئلا يظن الملك أن الرفض ليس من أعماق القلب، وإنما لأن دانيال أدرك أن ملكه ينتهي، وكأن دانيال استغل الرؤيا لحسابه الشخصي. على أي الأحوال كما يقول القديس جيروم: [إن دانيال تبع الوصية الإنجيلية رافضًا أية مكافأة، إذ قيل: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا"[134]]. لم يرتبط قلبه بغنى أو كرامة أو سلطة، ومن جانب آخر أدرك أنه ليس في سلطان بيلشاصر أن يقدم هذه الأمور، لأن ساعة هلاكه قد حلّت.
اختلفت طريقة تفسير دانيال للرؤيا هنا عنها مع نبوخذنصَّر. لقد أظهر استهانته بالمكافأة، للأسباب التالية.
· خطية الملك هنا ليست عن جهل، فقد سبق أن عرف ما حدث مع جده.
· هاجم بيلشاصر الله القدير.
· مجَّد بيلشاصر الأوثان ومدحها بقصد إهانة الله الحيّ.
جاءت الكتابة: "حُسبت، حُسبت، وزنت، انقسامات" ومعناها: أحصى الله مملكتك أو قيَّمها وأنهاها. وزنت بالموازين ووُجدت ناقصًا. تقسم مملكتك وتعطى لإمبراطورية مادي وفارس.
يقول القديس جيروم: [إنه بهذا تحققت نبوة إشعياء النبي عن أنهيار مملكة بابل أثناء إقامة الوليمة بطريقة حرفية دقيقة، إذ يقول: "تاه قلبي، بغتني رعب، ليلة لذتي جعلها ليّ رعدة، يرتبون المائدة، يحرسون الحراسة، يأكلون، يشربون - قوموا أيها الرؤساء امسحوا المجن" (إش 21: 4-5)[135]].
"أنت أيها الملك، فالله العلي أعطى أباك نبوخذنصَّر ملكوتًا وعظمة وجلالاً وبهاء.
وللعظمة التي أعطاه إياها، كانت ترتعد وتفزع قدامه جميع الشعوب والأمم والألسنة.
فأيا شاء قتل، وأيا شاء استحيا،
وأيا شاء رفع، وأيا شاء وضع.
فلما ارتفع قلبه، وقَسَت روحه تجبرًا،
انحط عن كرسي ملكه، ونزعوا عنه جلاله" [18-20].
أوضح له دانيال أن ما تمتع به جده الملك نبوخذنصَّر لم يكن سوى عطية إلهية، فإن كل سلطانٍ هو من الله (رو 8: 1)، إذ يُريد الله أن تظهر قوته بطريقة منظورة خلال الممالك. لكنه أساء استخدام العطية، عوض أن يُمجد الله ويخدم البشر تشامخ وتجبَّر قلبه.
كان نبوخذنصَّر صاحب سلطان يقتل من يشاء ويعفو عمن يشاء؛ يرفع من يشاء، ويذل من يشاء، ولم يدرك أن حياة الناس هي في يد الله، بل وحياة الملك نفسه وكرامته وسلطانه هذه جميعها في يد الله.
v إن كان هذا هو الحال (يستطيع الملك أن يفعل ما يشاء)، يثور السؤال: كيف نفهم ما جاء في الكتاب المقدس "قلب الملك في يد الله حيثما شاء يميله" (أم 21: 1). ربما يمكننا القول إن كل قديس هو ملك، لأن الخطية لا تملك في جسده المائت، بهذا يبقى قلبه محفوظًا في أمان، لأنه في يد الله (رو 6). حالما يوضع في يد الله الآب، فبحسب الإنجيل، لا يقدر أحد أن ينتزعه. أما من يُنتزع يُفهم أنه لم يكن قط في يد الله[136].
"وطُرد من بين الناس، وتساوى قلبه بالحيوان،
وكانت سكُناه مع الحمير الوحشية، فأطعموه العشب كالثيران،
وأبتل جسمه بندى السماء،
حتى علم أن الله العلي سلطان في مملكة الناس،
وأنه يُقيم عليها من يشاء" [21].
ما حدث مع نبوخذنصَّر أمر له خطورته، يُحسب درسًا لأجيال متعاقبه، لكن هوذا حفيده بيلشاصر سرعان ما نسي الدرس أو تناساه، فلم ينتفع من خبرة جده، الذي لتشامخه اعتزل البشرية ليعيش في مملكة الحيوانات العجماوات كمن لا عقل له. هذا ما فعله حفيده بمحض إرادته حين صنع الوليمة بغير تعقلٍ ودنَّس المُقدسات الإلهية، حاسبًا أنه يستخف بالله.
"وأنت يا بيلشاصر ابنه، لم تضع قلبك مع أنك عرفت كل هذا" [22].
يدعو بيلشاصر ابنا للملك نبوخذنصَّر الذي سقط تحت التأديب الإلهي بسبب كبريائه؛ وكأنه يقول له: "لست أقدم لك مثالاً من أمةٍ غريبةٍ، بل من بيت أبيك وعائلتك. أنت بلا عذر!".
يقول القديس جيروم: [إن البعض يرى أن الحديث هنا ينطبق على ضد المسيح، فكما لم ينتفع بيلشاصر من تأديب أبيه نبوخذنصَّر الذي سقط في الكبرياء، هكذا لا ينتفع ضد المسيح مما حلَّ بأبيه إبليس بسبب كبريائه. وكما انتقل المُلك من بيلشاصر بعد قتله إلى غيره، هكذا يموت ضد المسيح ويملك القديسون عِوضًا عنه[137].
"بل تعظمت على رب السماء،
فأحضروا قُدامك آنية بيته،
وأنت وعظماؤك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر،
وسبحت آلهة الفضة والذهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع
ولا تعرف.
أما الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده.
حينئذٍ أرسل من قبله طرف اليد فكتبت هذه الكتابة.
وهذه هي الكتابة التي سُطرت.
منا منا تقيل وفرسين.
وهذا تفسير الكلام.
منا أحصى الله ملكوتك وأنهاه.
تقيلُ وُزنت بالموازين، فوجدت ناقصًا.
فرس قُسِمت مملكتك وأُعطِيت لمادي وفارس.
حينئذ أمر بيلشاصر أن يُلبسوا دانيال الأرجوان، وقلادة من ذهب في عنقه، ويُنادوا عليه
أنه يكون متسلطًا ثالثًا في المملكة" [29].
قدم له الملك عطاياه، لكنها لم تدم إلاَّ لساعاتٍ،. ربما قبلها دانيال النبي لئلا يظن الملك أنه ثائر ضده أو متعجرف عليه ومتشامخ. ارتدى دانيال ثوب ارجواني ملوكي، وقلادة من ذهب تُشير إلى السلطة الملوكية... بهذا أُعطيت الفرصة لكورش أن يتعرف عليه ويتساءل عن سبب تكريمه، فيسمع عن الرؤيا.
يعلل القديس جيروم تقديم الملك المكافأة لدانيال بأنه ظن أن هذه النبوة المؤلمة ستتحقق في المستقبل البعيد، أو أنه بتكريمه رجل الله يجد رحمة ونعمة لدى الله.
5. النتائج:
"في تلك الليلة قُتل بيلشاصر ملك الكلدانيين.
فأخذ المملكة داريوس المادي وهو ابن اثنتين وستين سنة" [30-31].
بينما كان الشرب بكؤوس بيت الرب جاريًا قبل الصباح دخل كورش بابل بطريقة لم يتوقعها الحراس والرقباء في الأبراج العالية، فقد فاض نهر الفرات تحت أسوار بابل الضخمة. كان الفرس قد حفروا مجرى ضخمًا خارج بابل ولم يدري البابليون بذلك. وبسرعة قاموا بتوصيل المجرى بالنهر فتدفقت المياه في المجرى، فعبر الجيش إلى داخل المدينة خلال النهر الجاف تحت الأسوار. من داخل المدينة فتحوا الأبواب فاقتحم الجند المدينة من كل جانب وقُتل بيلشاصر في نفس الليلة أو ربما الليلة التالية. لقد تحولت المملكة من أيدي البابليين إلى الفارسيين، بهذا ننتقل من الرأس الذهبي للتمثال إلى الصدر والكتفين من الفضة كما جاء في الأصحاح الثاني من السفر.
تحدث المؤرخون الوثنيون عن احتلال كورش لبابل وهم مندهشون، فقد كشف له القائدان المنشقان عن بيلشاصر الطريق لفتح المدينة.
داريوس المادي:
كلمة داريوس بالفارسية معناها "مالك الخير"، وهو لقب للملوك الفارسيين مثل فرعون بالنسبة لمصر، وقيصر لروما.
يرى البعض ان داريوس المادي هو نفسه كياكسريز الثانيCyaxares II بن[138] Astyages خال كورش الذي أعطاه عرش بابل كشريكٍ له في الحكم. وكما يقول القس عبد المسيح بسيط أبو الخير بأنه جاء في السفر أن "داريوس بن أحشويرش من نسل الماديين الذي مُلك على مملكة الكلدانيين" (9: 1). "مُلك" هنا تُعني "جُعل ملكًا" "was made ruler" على بابل، أي أنه كان حاكمًا شريكًا ونائبًا عن الملك كورش. ويقول السفر أيضًا أن المملكة لم تُعطَ لمادي وحدها، بل "لمادي وفارس" (5: 28)، وكان الملك يحكم بحسب شريعة واحدة مشتركة، هي "شريعة مادي وفارس التي لا تُنسخ" (6: 8، 15)، والتي لم يكن في مقدور داريوس أن يُغيرها أو يناقضها، أي أن دانيال النبي يتحدث عن إمبراطورية واحدة متحدة، هي إمبراطورية مادي وفارس، ولا يتحدث عن إمبراطوريتين متعاقبتين. كما أنه لم يكن في إمكانه تعديل أو تغيير أو مقاومة شريعة "مادي وفارس"، شريعة المملكة المتحدة[139]. لم يتحدث دانيال عن الحرب التي قامت بين البابليين ومادي، إنما تحدث عنها إشعياء (ص 50، 51). لسنا في حاجة إلى الإشارة إلى التحالف بين مادي وفارس، خاصة في احتلالهما بابل تحت قيادة داريوس وكورش، حيث احتل الاثنان المدينة.
يقول القديس جيروم: [بعد أن قُتل (بيلشاصر) بواسطة داريوس ملك مادي، خال كورش الفارسي، تحطمت إمبراطورية الكلدانيين بواسطة كورش الفارسي. لقد تحدث إشعياء في الأصحاح 21 عن المملكتين (مادي وفارس) كقائدي مركبة يجرها جمل وحمار (إش 21: 7)[140]].
ويرى البعض أنه هو جوباروا Gubaru أو Gubarn أو Gobryas القائد العام لكورش، الذي احتل بابل وكان له دوره الفعال. جاء في النقوش المسمارية الإسفينية، التي كُشفت ونُشرت في القرن العشرين أن كورش عَين قائد جيشه جوباروا حاكمًا على بابل فور فتحها، هذا بدوره أقام حكامًا في بابل. هذا يعني أن كورش سلمه قيادة البلد وإقامة حكام، أما هو فخرج ليحقق النصرة على بقية البلاد. كما ذكرت الألواح المسمارية اسمه كحاكم لبابل وما وراء النهرين أي؛ بابل وسوريا وفينيقية وفلسطين، على مدى أربعة عشرة عامًا، وكان اسمه يبعث الرعب في قلوب المجرمين.
ويرى آخرون أن كورش نفسه دُعي داريوس[141].
لم يشر هيرودوت إلى داريوس كملك وذلك بسبب ضعف شخصيته وفساده، خاصة وانه سلم العرش لابن اخته كورش[142]. كان داريوس في الثانية والستين من عمره، هذا يتفق مع ما ورد في زينوفون[143] بكونه كياكسريز الثانيCyaxares II.
لماذا سمح الله لدانيال أن يلبس الأرجوان؟
تُقدم لنا حياة دانيال صورة حية عن معاملات الله معنا. بين الحين والآخر يتمجد الله في حياة دانيال ويستخدمه لخدمة شعبه المسبي. لكن قدرما كان الله يتمجد فيه، كان عدوّ الخير يخطط لتحطيمه، فتتحول الخطة لبنيان ملكوت الله. الآن وقد بدى دانيال كمن هو خارج المسرح يجتذبه إلى القصر خلال رؤيا بيلشاصر، وينتهي الأمر أن يرتدي الأرجوان والقلادة من ذهب في عنقه ويصير الرجل الثالث في المملكة. لم يدم هذا أكثر من ساعات قليلة حيث استولى كورش على بابل وقتل الملك بيلشاصر، ووجد دانيال بهذا اللباس، وإذ سأل عنه عرف أنه تنبأ عن سقوط مملكة بابل وقيام مملكة فارس، وعن نصرة كورش الخ. كرَّمه وقربه إليه كرجل الله، وتعاطف مع شعبه. وكأن الله قد سمح بما ورد في هذا الأصحاح في اللحظات الحاسمة لسقوط بابل ونصرة فارس حتى يصغي كورش لدانيال وشعبه، ويستمع إلى نبوات إرميا النبي عن عودتهم بعد سبعين عامًا من السبي، فأصدر أمره بذلك (عز 1: 1-4).
من وحي دانيال 5
لأتمتع بوليمة حبك،
فلا اشتهي ولائم العالم!
v في جسارة دنّس بيلشاصر الأواني المقدسة،
وفي جهالة أُدنس جسدي، إناءك الثمين!
لأتمتع بوليمة حبك يا مخلصي،
فلا أشتهي بعد ولائم العالم!
v امتدت يدك لتُعلن حكمك على بيلشاصر المتجاسر،
ليكتب روحك الناري في قلبي كلمات حبك.
ولا أستشير حكيمًا من العالم،
بل أطلب دانيال نبيك،
وأسمع صوتك الإلهي في داخلي!
v احتقر دانيال كل عطايا الملك،
ولم يشتهِ غنى ولا سلطانًا،
فأعطيته نعمة في عيني كورش،
ليسند شعبك في سبيهم.
متى اَحتقر كل الزمنيات؟!
متى اقتنيك يا كنز نفسي ومجدها الداخلي؟!
ها أنا بين يديك استخدمني كيفما تريد!
يقدم لنا هذا الأصحاح قصة إلقاء دانيال في جب الأسود، وهي تُقابل قصة إلقاء الثلاثة فتية في أتون النار في الأصحاح الثالث.
تؤكد القصتان قدرة الله الفائقة في إنقاذ مؤمنيه حافظي وصاياه، العامل في وسط الضيق. بينما الأصحاح الثالث يُقدم التزام المؤمنين بالجانب السلبي، أي عدم العبادة للأوثان، نرى هنا التزامهم الإيجابي، وهو العبادة لله الحيّ تحت كل الظروف. وكانت القصتان معروفتين في أيام المكابيِّين (1 مك 2: 59 الخ)[144].
شاخ دانيال، أما قلبه فلم يعرف الشيخوخة؛ إذ لم يستطع زمان السبيّ الطويل أن يُغيِّر أعماقه، وأمانته لله. فبقي كما كان كشابٍ عند سبيّه، بل كان ينمو في الإيمان بالرغم من حرمانه من الجو الروحي المحيط لمساندته. كان دانيال يُمثل الكنيسة، خاصة في أواخر الدهور الرافضة للسجود لضد المسيح والوحش. كان دانيال مسبيّا، لكن الله في حبُه بسط يديه لخدمتهم بواسطة نبيِّه الأمين، دانيال، حتى في لحظات التأديب.
1. مركز دانيال أثناء حكم داريوس [1-3].
2. خطة الأعداء ضده [4-9].
3. إيمان دانيال [10-15].
4. ضيقة دانيال وخلاصه [16-24].
5. إعلان داريوس [25-28].
بلاشك سمع داريوس الملك عن دانيال النبي وربما رآه بنفسه عندما قُتل بيلشاصر، ووجده مرتديًا الأرجوان والقلادة الذهبية، فسأل عن شخصه. عرف أنه هو الذي فسَّر لنبوخذنصر أحلامه، ولبيلشاصر الكتابة التي ظهرت على الحائط أمامه. كرَّمه داريوس ووثق فيه، فصار اليد التي استخدمها الله لخدمة شعبه المسبي. لكن عدو الخير لم يقف مكتوف اليدين، فقدر ما تمجد الله في دانيال ثار العدو بالأكثر لكي يُحطمه. رفعه الله في عينيّ الملك ليجعله الرجل التالي له، بينما كان عدو الخير يُعد له جب الأسود الجائعة للخلاص منه وتحطيم عمله.
"حَسن عند داريوس أن يولي على المملكة مائة وعشرين مَرزُبانًا يكونون على المملكة كُلها.
وعلى هؤلاء ثلاثة وزراء، أحدهم دانيال، لتُؤدي المرازبة إليهم الحساب، فلا تُصيب الملك خسارة.
ففاق دانيال هذا على الوزراء والمرازبة، لأن فيه روحًا فاضلة، وفكر الملك في أن يوليه على المملكة كلها" [1-3].
سبق لنا الحديث عن داريوس المادي في الأصحاح الخامس. ويرى البعض أن فترة سقوط بابل يكتنفها بعض الغموض، ربما كان داريوس حتى ذلك الحين شخصًا مجهولاً عُهد إليه المُلك من قبل كورش. ومع أن هويته غير ثابتة حتى الآن بصورة قاطعة[145].
"ثم إن الوزراء والمرازبة كانوا يطُلبون علةً يجدونها على دانيال من جهة المملكة،
فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنبًا،
لأنه كان أمينًا ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب.
فقال هؤلاء الرجال:
لا نجد على دانيال هذا علةً إلاَّ أن نجدها من جهة شريعة إلهه" [4-5].
v مطوَّبة هي الحياة التي تقود حتى الأعداء فلا يجدوا فيها علة للاتهامات إلاَّ ربما من جهة شريعة الله[146].
"حينئذ اجتمع هؤلاء الوزراء والمرازبة عند الملك، وقالوا له هكذا:
أيُّها الملك داريوس عش إلى الأبد.
إن جميع وزراء المملكة والشحن والمرازبة والمشيرين والولاة قد تشاوروا على أن يضعوا أمرًا ملكيًا،
ويُشددوا نهيًا،
بأن كل من يطلب طلبةً حتى ثلاثين يومًا من إله أو إنسان إلاَّ منك أيُّها الملك يُطرح في جب الأسود.
فثبت الآن النهي أيها الملك،
وأمض الكتابة لكي لا تتغير كشريعة مادي وفارس التي لا تُنسخ.
لأجل ذلك أَمضى الملك داريوس الكتابة والنهي" [4-9].
واضح من الحديث أن داريوس لم يكن ملكًا على إمبراطورية مادي وحدها، بل على الإمبراطورية المشتركة لمادي وفارس كما رأينا في الأصحاح السابق، إذ كان شريكًا في الحكم مع كورش.
دبر الأعداء خطتهم ضد دانيال حسدًا، وذلك بسبب عظمته مع تقواه وإخلاصه للملك. لم يجدوا علَّة عليه لذا خططوا للخلاص منه.
اقنعوا الملك أن قرارًا مثل هذا يكشف عن مدى إخلاص الغرباء المسبيّين له في أرض جديدة.
"فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة،
ذهب إلى بيته، وكواه مفتوحة في عُليته نحو أورشليم،
فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم،
وصلى وحمد قُدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك" [10].
عرف الأعداء موعد صلوات دانيال، وكان من السهلِ مراقبته من النافذة المفتوحة. فقد اعتاد اليهود أن يُمارسوا ثلاث صلوات يومية[147]:
· في الصباح، في وقت تقديم ذبيحة الصباح.
· في وقت الساعة التاسعة (3 بعد الظهر)، في وقت تقديم ذبيحة المساء.
· في العشية عند غروب الشمس.
كان دانيال النبي يمارس عبادته في العُلية، إشارة إلى ارتفاع النفس إلى الأعالي لتلتقي مع الله فوق كل الزمنيات.
v قبل كل شيء احتفل ربنا بالفصح في العُلية (مت 14)، وفي أعمال الرسل حلّ الروح القدس على المائة وعشرين نفسًا من المؤمنين بينما كانوا في العُلية (أع 2). وهكذا دانيال في هذه الحالة، إذ استخف بأوامر الملك، واستراحت ثقته في الله، لم يمارس صلواته في بقعة غامضة بل في مكانٍ مرتفع، وفتح نوافذه نحو أورشليم حيث يرى سلام الله.
علاوة على هذا كان يُصلي حسب وصية الله، وحسب قول سليمان الذي حثَّ الشعب أن يصلوا متجهين نحو الهيكل[148].
v يلزمنا أن نسجد لله ثلاث مرات في اليوم. وبحسب تقليد الكنيسة تُفهم الثلاث مرات على أنها الساعات الثالثة والسادسة والتاسعة. في الساعة الثالثة حلَّ الروح القدس على الرسل (أع 2: 15). وفي الساعة السادسة إذ أراد بطرس أن يأكل صعد إلى العُلية للصلاة (أع 10). وفي الساعة التاسعة كان بطرس ويوحنا في طريقهما إلى الهيكل (أع 3) [149].
"فاجتمع حينئذ هؤلاء الرجال،
فوجدوا دانيال يطلب ويتضرع قُدام إلهه،
فتقدموا وتكلموا قدام الملك في نهي الملك.
ألم تمض أيها الملك نهيًا بأن كل إنسان يطلبُ من إلهٍ أو إنسان حتى ثلاثين يومًا إلاَّ منك أيها الملك يُطرح في جُب الأسود؟
فأجاب الملك وقال:
الأمر صحيح كشريعة مادي وفارس التي لا تُنسخ.
حينئذ أجابوا وقالوا قدام الملك:
إن دانيال الذي من بني سبيّ يهوذا لم يجعل لك أيُّها الملك اعتبارًا،
ولا للنهي الذي أمضيتُه،
بل ثلاث مرات في اليوم يطلب طلبته.
فلما سمع الملك هذا الكلام اغتاظ على نفسه جدًا،
وجعل قلبه على دانيال ليُنجيه، واجتهد إلى غروب الشمس لينقذه.
فاجتمع أولئك الرجال إلى الملك وقالوا للملك:
اعلم أيها الملك أن شريعة مادي وفارس هي أن كل نهيٍ أو أمرٍ يضعُه الملك لا يتغير" [11-15].
يقول القديس جيروم أنه كما فهم الملك نيّة هؤلاء الرجال إنهم دبروا الخطة للإيقاع بدانيال، هكذا فهموا هم أيضًا نيّة الملك الذي امتنع عن الطعام حتى الغروب كنوع من الضغط عليهم كي لا يطلبوا موت دانيال، إذ لم يكن في سلطانه أن يغيِّر القانون الذي أصدره، لكن كان يمكن لهم أن يتجاهلوا ما صنعه دانيال ولا يشتكوا عليه. أما هم فلم يبالوا بما فعله الملك وأصرُّوا على تطبيق القانون على دانيال[150].
كان أمام دانيال أن يتوقف عن الصلاة لمدة ثلاثين يومًا حتى تنتهي مدة القرار، مع قيامه بالصلاة خفية في منزله والنوافذ مغلقة، والتظاهر بأنه يسجد للتمثال. لكن وجد دانيال فرصته لإعلان إيمانه ففتح النوافذ، وتحدى الشر ليس استعراضًا لقوته، وإنما شهادة لإيمانه. كان دانيال يُحدد أوقاتًا معينة يوميًّا للصلاة وهكذا كان المرتل (مز 55: 16-17).
تحدث الأعداء ضده باستخفافٍ وكراهية: "دانيال هذا..."، وقد وقف الملك محاميًا عنه. لكن الأعداء كانوا قد احكموا الخطة، إذ وقَّع الإمبراطور قانونًا لا رجعة فيه.
"حينئذٍ أمر الملك، فأحضروا دانيال، وطرحوه في جُب الأسود.
أجاب الملك وقال لدانيال:
إن إلهك الذي تعبده دائمًا هو يُنجيك" [16].
أدرك الملك أن إله دانيال هو إله المستحيلات، حيث تعجز كل الأذرع البشرية عن العمل تظهر قوة الله.
v ترك الملك (إلقاء دانيال) للجماهير، ولم يجسر أن يوقف خطة الأعداء الخاصة بموت صديقه، تاركًا لقوة الله أن تتمم ما عجز هو عن تنفيذه.
لم يستخدم لغة الشك كأنه يقول: "إن كان قادرًا أن يُنجيك"، بل بالأحرى تحدث في جرأةٍ ويقين: "إن إلهك الذي تعبُده هو يُنجيك". حتمًا سمع عن الثلاثة الفتية الذين كانوا أقل مرتبة من دانيال نفسه إنهم غلبوا لهيب بابل. وسمع عن الأسرار التي أُعلنت لدانيال، فتطلع إليه بنظرة سامية، وحسبه في كرامة عظيمة، بالرغم من كونه مسبيًّا[151].
"وأُتي بحجرٍ وُوضع على فم الجُب، وختمه الملك بخاتمه وخاتم عُظمائه،
لئلاَّ يتغير القصد في دانيال" [17].
v ختم الصخرة بخاتمه حتى لا يفتح أحد الجب، فلا يحاول أعداء دانيال الإيقاع به. فقد ائتمنه في يد الله، ومع كونه لم يضطرب من جهة الأسود، لكنه خشي عليه من الناس. كما ختمه أيضًا بأختام العظماء كي يتجنب بكل وسيلة دخول الشك إليهم[152].
"حينئذٍ مضى الملك إلي قصره،
وبات صائمًا، ولم يُوتَى قدامه بسراريه،
وطار عنه نومه" [18].
v يا لإخلاص نيّة الملك الصالحة، إذ لم يرد أن يمس طعامًا بالليل كما بالنهار ولم يُعطِ لأجفانه نُعاسًا. وإنما إذ كان النبي في خطر بقي هو متعاطفًا معه في قلقٍ.
إن كان الملك الذي لا يعرف الله صنع هكذا من أجل إنسانٍ آخر يشتاق أن يُخلصه، كم بالأكثر يليق بنا أن نفعل نحن لنسترضي مراحم الله بالأصوام والأسهار بسبب خطايانا؟![153].
"ثم قام الملك باكرًا عند الفجر،
وذهب مُسرعًا إلي جُب الأسود" [19].
أسرع الملك إلي الجب في ثقة بالله إله دانيال أنه يُخلَّصه.
"فلما اقترب إلى الجُب نادى دانيال بصوتٍ أسيفٍ:
أجاب الملك وقال لدانيال:
يا دانيال عبد الله الحيّ،
هل إلهك الذي تعبده دائمًا قدر على أن يُنجيك من الأسود؟" [20].
v أظهر الملك بدموعه عاطفته الداخلية، فقد نسي كرامته الملوكية، ونصرته على المسبيّين، وسيادته على خادمه (دانيال)...
لقد دعى الله الإله الحيّ ليُميِّزه عن آلهة الأمم الذين هم كتماثيل للأموات...
لم تكن (كلمته هذه) تحمل شكًا في قوة الله الذي وثق فيها... إنما نطق بهذا، ليس في شك، ولكي يظهر دانيال ولم تصبه أذيَّة، فيجد الملك ما يبرره بالأكثر في غضبه على العظماء[154].
"فتكلم دانيال مع الملك:
يا أيُّها الملك عش إلى الأبد" [21].
v يُكرِّم دانيال ذاك الذي كرّمه، وطلب له أن يحيا أبديًا[155].
"إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود،
فلم تضرُّني لأنيِّ وُجدتُ بريئًا قُدامهُ،
وقُدامك أيضًا أيُّها الملك لم أفعل ذنبًا" [22].
v ذاك الذي يُصلي ويقول: "لا تسلم للوحوش النفس التي تعترف لك" (راجع مز 74: 19)، يُسمع له، ولا يعاني من الأفعى والحيات، لأنه يستطيع بالمسيح أن يطأ الأسد والتنِّين (مز 91: 13)، وينال القوة المجيدة التي يهبها يسوع لنطأ الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19)، فلا يؤذيه شيء من قِبَلْ هذه الأشياء. مثل هذا يلزمه أن يشكر الله أكثر من دانيال، لأنه يخلص من وحوش أكثر رعبًا وأذية[156].
v لقد كُممت أفواه أسود غير منظورة بالنسبة لدانيال النبي لكي بالأكثر لا تُضر نفسه من الأسود المنظورة[157].
v يمكن أن تصير حتى هذه الوحوش غير مؤذية، إلاَّ إذا كانت عقوبة تقع على خاطئ أو اختبارًا وتزكية لكمال فضائل المؤمن[158].
v لينطق كل قديس بهذه الكلمات، فإنه يُنتزع من أفواه الأسود غير المنظورين، ومن الحفرة، لأنه يثق في إلهه[159].
"حينئذٍ فرح الملك به، وأمر بأن يُصعد دانيال من الجُب.
فأُصعِدَ دانيال من الجُب، ولم يُوجد فيه ضرر لأنه آمن بإلهه.
فأمر الملك فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال وطرحوهُم في جُب الأسود
هم وأولادهم ونساءهم.
ولم يصلوا إلي أسفل الجُب حتى بطشت بهم الأسود وسُحقت كل عظامهم" [23-24].
تُقدم لنا قصة دانيال النبي هنا صورة حيّة عن دور الإنسان في حياة الجماعة. فدانيال بحياته المقدسة نجح، كما أعان زملاءه الشبان الثلاثة، وخدم أيضًا شعبه في السبيّ، وخدم الملوك وسندهم، وخدم الأمم، إذ قدم لهم نبوات صريحة عن السيِّد المسيح. هكذا بالتصاقه بالرب لم تكن لخدمته وهو في السبيّ حدودًا.
ومن الجانب الآخر الفساد الذي حلّ بأعدائه الحاسدين أفقدهم سلامهم، وحوّل طاقتهم للهدم عِوض البنيان، وحطم سلام الملك إلى حين كما دفع بهم وبنسائهم وأولادهم إلى الجب ليصيروا فريسة للأسود الجائعة. هكذا يليق بنا ألا نستخف بحياتنا، في كل بنيان داخلي نسند الكثيرين وتفرح السماء بنا، ومع كل انحراف نهدم معنا كثيرين وبسببنا يصير نوء عظيم، كما حدث بسبب يونان الهارب من وجه الرب. كانت عادة سقوط العائلة بأكملها تحت العقوبة معروفة في المجتمعات القديمة، وهي تتعارض مع ما ورد في (تث 24: 16، إر 31: 29 الخ؛ حز 18).
فشل الملك في إنقاذ دانيال لأن القرار قد سبق فوقَّعه ولا رجعة فيه، لكن الله نفسه خلصه.
كان الملك في قصره حزينًا للغاية، طار النوم من عينيه، وكان الأشرار واضعوا الخطة في فرح شديد. ربما اجتمعوا يُهنئون أنفسهم على نجاح خطتهم، وخلاصهم من دانيال. ربما كانوا يُخططون في هذه الليلة لترشيح إنسانٍ يحل محل دانيال. أما دانيال فعاد إلى الحياة الفردوسية الأولى حيث الصداقة القوية بين الحيوانات حتى المفترسة والإنسان. كان يُداعب هذه الحيوانات ويلاطفها لأول مرة في حياته، كما اختبر عربون السماء، إذ نزل ملاك يسد أفواه الأسود. قضى دانيال أسعد وأعجب ليلة في حياته كلها.
لو لم يُلقِ الملك بالأشرار في الجب كان يمكن القول بأن الأسود لم تكن جائعة، لذلك لم يُصَب دانيال بضرر. لكنه وقد بقي معهم ليلة كاملة في سلام وأمان بينما أُصيبت الأسود بحالة شبه جنون حين أُلقي كثيرون في الجب حتى لم تنتظر بلوغهم إلى القاعة وسحقت كل عظامهم أثناء إلقائهم... هذا كشف عن يد الله التي خلصت دانيال النبي بقوة، ونزعت أدنى شك ممكن أن يُساور إنسان ما.
استراح دانيال، لا لأنه خلُص من موت جسدي، ولكن لأنه تمتع برؤية جديدة وإدراك أعمق لحب الله ورعايته له. أما الملك فلم يسترح لأنه شعر بفقدانه أعز إنسان أمين له، وأدرك أنه مارَسَ الظلم ضد من أخلص إليه. لكنه ترجى في الله - إله دانيال - أن يُخلص ذلك الأمين.
يمكننا القول بأن دانيال النبي سبَّح الله في وسط جب الأسود قائلاً: مع المرتل: "على الأسد والصِلَّ تطَأْ. الشِبل والثعبان تدوس. لأنه تعلق بيّ أُنجيه. أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه. من طول الأيام أُشبعه وأُريه خلاصي" (مز 91: 13-16). أما عن أعداء دانيال فينطبق قول عاموس النبي: "كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد وصادفه الدب، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته الحيّة؛ أليس يوم الرب ظلامًا لا نورًا، وقِتامًا لا نور له؟!" (عا 5: 19-20).
إذ خلَّص الله دانيال قرر الملك معاقبة الأشرار وعائلاتهم الذين خططوا ضد دانيال النبي البار.
"ثم كَتَبَ الملك داريوس إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في الأرض كلها.
ليكثر سلامكم.
من قِبلي صدرَ أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قُدام إله دانيال، لأنه هو الإله
الحيّ القيوم إلى الأبد، وملكوته لن يزول، وسلطانه إلى المنتهى.
هو يُنجي ويُنقذ، ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض.
هو الذي نجى دانيال من يد الأسود" [25-27].
كان إعلان داريوس أقوى من إعلان نبوخذنصر (3: 29)، وذلك لأنه كان إيجابيًا لا سلبيًا. فقد تأثر داريوس بما حدث، واهتزت أعماقه أمام المعجزة. لقد أدرك أن الله الحيّ الحقيقي، إله دانيال هو الأبدي الذي لا يموت، يُحرك السماء والأرض بقوة، ليخلَّص مؤمنيه. هذا لا يعني أن داريوس قد صار تقيًا، لأنه لم ينزع عن قصره ولا عن مملكته العبادات الوثنية، ولا نزع عن سلوكه ما لا يليق بالمؤمنين. لقد مجَّد الله إلى حين، لكنه بقي في الرجاسات الوثنية.
لقد دعى الملك الله: "إله دانيال"، كما سبق فنُسب الله إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب، لكنه إذ لم يتمتع بخبرة الحياة مع الله لم يستطع الملك أن ينسب الله إليه. إننا في حاجة أن نتمتع بالله إلهنا، الذي يشتاق أن يُنسب نفسه إلينا، كما ننسب أنفسنا إليه، فنقول مع إرميا النبي: "نصيبي هو الرب، قالت نفسي" (مرا 3: 24). كما نسمع صوب الرب قائلاً: "من يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهًا، وهو يكون ليّ ابنًا" (رؤ 21: 7).
يتحدث الملك عن الله كمخلص نجى وينجي دانيال، لكنه لم يتقدم ليتمتع هو بالمراحم الإلهية، ويتذوق أبوته في حياته الشخصية.
سبّح الله كصانع آيات وعجائب في السموات وعلى الأرض، فقد عرف كل ما حدث مع آبائه، وما تم على يديّ دانيال النبي، لكنه لم يتمتع بالآيات في أعماقه. لم يُسلم جسده ونفسه كأرض وسماء يُحركهما الله بيده القوية، ويُعلن عجائبه فيهما!
تساءل البعض هل يمكن للجب أن يضم 120 مرزبانًا مع نسائهم وأولادهم؟ الإجابة أنه لم يُلق في الجب غير عدد قليل منهم هؤلاء الذين اشتكوا ضد دانيال.
تظهر دقة القصة أنه حسب العادات الفارسية كان أقرباء الإنسان يُعاقبون بجريرة جريمته، لهذا أُلقيت الزوجات أيضًا والأبناء.
"فنجَح دانيال هذا في مُلك داريوس وفي مُلك كُورش الفارسي" [28].
يُختتم الأصحاح بخبر نجاح دانيال "في ملك داريوس وفي مُلك كورش الفارسي". فإذ كان في أيام مملكة فارس ومادي، كان المتولي على شئونها داريوس المادي كحاكم شريك مع كورش الفارسي، فالنص لا يُعني حكمين متعاقبين، وقد جاءت اكتشافات الآثار الحديثة تؤكد ذلك.
نجح دانيال النبي في أيام الكلدانيِّين أو المملكة البابلية حيث سبيَ إلى بابل واُختير كأحد الحكماء الذين يقفون أمام الملك (دا 1)، وأعطاه الله نعمة في عينيّ نبوخذنصر حيث كان يُفسر له الأحلام، لكنه اُستبعد غالبًا بحسد السحرة والعرافين والحكماء. وفي اللحظات الأخيرة من حياة بيلشاصر آخر ملوك بابل، أُعيد ليقرأ ما كتبته اليد الخفية التي كتبت على حائط القصر. وإذ فتح داريوس وكورش بابل أعطياه كرامة خاصة، كرَّمه داريوس المادي وهو شيخ حتى مات، وحسبه كورش الفارسي ابن أخت داريوس من عظمائه المقربين إليه. بهذا حوَّل الله أحزان دانيال في السبيّ إلى تعزيات. نجح في حياته اليومية وفي عباراته كما في عمله. خدم جيله بقوة، كما خدم الأجيال التالية من الأمم كما اليهود خلال نبواته التي وردت في القسم الثاني من السفر.
بلا شك كان دانيال حزينًا، لا لأنه سبيَ مثل كثيرين من الشعوب التي أخضعها نبوخذنصر، وإنما ما هو أكثر أنه حُرِم من أرض الموعد، ومن التمتُّع بالمدينة المقدسة وهيكل الرب. لكن الله استخدمه لعمل أعظم وسط الشعوب، ولرسالة فائقة تستمر عبر الأجيال. هكذا أعطاه الله نجاحًا حسب الفكر الإلهي لا حسب فكرنا البشري. لقد حُرم من الهيكل في أورشليم، لكنه وقف أمام هيكل الرب الجديد ليفتح أبواب الرجاء للأمم للتمتع بالمُقدسات الإلهية، فحق له الترنم: "اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السُكنى في خيام الأشرار" (مز 84: 10). لهذا حسبه حزقيال النبي أحد الرجال الأولين الثلاثة العظماء: "نوح و دانيال و أيوب" (حز 14: 14).
من وحيّ دانيال 6
حوِّل ليّ الحب سماءً!
v عجيبة هي رعايتك يا ضابط الكل!
تسمح ليّ مع دانيال أن أُلقى في وسط الجب،
لكنك تُحول الجب إلى فردوس!
تهبني رؤية ملائكتك،
هؤلاء الذين يخدموننا للخلاص،
ويُسرُّون بالعمل لحساب ملكوتك فينا!
v لتُلقني في الجب،
لكن، لتسد أفواه الأسود الجائعة فلا تؤذيني.
v في حيرتي أرى كأن الكل ضدي.
لكنني أجد حتى وسط غير المؤمنين داريوس الملك الأمين!
أخجل منه في إخلاصه، وثقته فيك!
من أجل دانيال لم يأكل حتى الغروب،
بل وطال صومه حتى الفجر.
امتنع حتى عن حقوقه البشرية من أجل خادمه دانيال!
طار النوم من عينيه!
ومع الفجر ركض نحو الجب!
v بصوت أسيف نادى دانيال،
لكي يُعلم من هم حوله،
أن إله دانيال قادر أن يُنجي إلى التمام!
v داريوس يُدينني!
هل ليّ أن أصوم وأبكي لأجل خلاص اخوتي،
بل ومن أجل خلاص العالم كله؟!
هل أثق بإله دانيال القادر أن يُنجي؟
هل لا أُعطي لعيني نومًا مادامت توجد نفوس في جب الأسود غير المنظورة؟!
هل أُبكر لأبحث عن كل نفس؟!
بماذا أُجيب؟
[ص 7- ص 12]
حوى القسم الأول من السفر مجموعة من الأحداث المختارة من حياة دانيال النبي ورفقائه الثلاثة، تكشف عن اهتمام الله بالقلَّة القليلة المقدسة، حتى وإن كانت مسبيّة ومحرومة من أرض الموعد ومن المدينة المقدسة "أورشليم" وهيكل الرب.
هذه الأحداث تكشف عن اهتمام الله أيضًا بكنيسته حتى في لحظات تأديبها، وتؤكد أن التاريخ كلُّه في قبضة الله ضابط الكل، الذي يعمل بخطته الإلهية الفائقة.
أما القسم الثاني فيحوي أربع رؤى تمتع بها دانيال، بدأت من قبل أن تنتهي الأحداث السابقة، تسير جنبًا إلى جنب تاريخيًا مع ما ورد في الأصحاحين 5-6.
الرؤيا الأولى: في السنة الأولى من مُلك بيلشاصَّر.
الرؤيا الثانية: في السنة الثالثة من مُلك بيلشاصَّر.
الرؤيا الثالثة: في السنة الأولى لداريوس المادي.
الرؤيا الرابعة: في السنة الثالثة لكورش.
في هذه الرؤى يُقدم لنا روح الله تاريخ الخلاص منذ أيام دانيال حتى مجيء السيِّد المسيح الأخير، كما يُقدم مفهوم الخلاص بكونه إقامة ملكوت الله في حياة المؤمنين من كل الأمم، ليدخل بهم إلى المجد السماوي. فتفتح هذه الرؤى قلوب المؤمنين من اليهود لقبول الأمم معهم في الإيمان بالمسيا المخلِّص.
يرى Harrison[160] أن التنظيم العام للسفر يوحي لنا بأن السفر كتبه دانيال نفسه، أو أنه كُتب بعده بفترة قصيرة لا تتعدى منتصف القرن الخامس ق.م.
الرؤى والنقاد الحديثون[161]:
أولاً: أثار النقاد مناقشات كثيرة ولسنوات طويلة حول هذه الرؤى. وكما سبق أن تحدثنا في مقدمة السفر، أن أغلب هذه المناقشات دارت حول الإمبراطوريات الأربع المؤقتة، وحسبوا أنها: بابل، ومادي، وفارس، واليونان. اعتمدوا في هذا على الظن بأن كاتب السفر يُشير إلى وجود دولة مادي المستقلَّة، قامت بين سقوط بابل وقيام كورش الفارسي (5: 31) [162]. على أي الأحوال فإن تاريخ مملكة مادي لا يترك مجالاً لمثل هذا الافتراض[163]. كما أن القراءة الدقيقة لسفر دانيال تؤكد أنه لم يكن في ذهن الكاتب هذا الافتراض.
· واضح في دانيال (5: 28)، أن بابل تهتز لا أمام مملكة مادي بل أمام مملكة مشتركة، وتَظهر فيها فارس أعظم من مادي.
· وفي ممارسة داريوس المادي لإدارة المملكة كان ملتزمًا بشريعة مادي وفارس (6: 8، 12، 15)، الأمر الذي ما كان يمكن أن يحدث لو أن مادي دولة مستقلَّة في ذلك الحين، خاصة وأنه لم يكن ممكنًا له تغييرها.
· هذا ولم يذكر سفر دانيال أن داريوس ملك دولة مادي أو الماديِّين، بل ينتسب إلى مادي.
هذا كلُّه يوضح أن الإمبراطورية الثانية هي مملكة فارس ومادي المشتركة.
ظن كثير من الدارسين أن واضع سفر دانيال تبع ما ورد خطأ في إشعياء (13: 17، 21: 2) وإرميا (51: 11، 28) بأن مادي هي التي تنتصر على بابل دون ذكر "فارس". وكأن واضعو أسفار إشعياء وإرميا ودانيال الثلاثة قد أخطأوا في الظن بأن مملكة مادي وحدها تُحطم الإمبراطورية البابلية.
أوضح Rowley[164] أن كاتب سفر إشعياء وإن كان قد تحدث عن مادي بكونها تهز كيان بابل، لكنه حينما يتحدث عنها إنما يقصد المملكة المشتركة "فارس (عيلام) ومادي"، إذ جاء في السفر: "قد أُعلنت ليّ رؤيا قاسية. الناهب نهبًا، والمخرِّب مخربًا. اصعدي يا عيلام، حاصري يا مادي" (إش 21: 2). وكما يقول Harrison أن الاكتشافات الخاصة بالآثار تظهر أنه يجوز لإشعياء وإرميا أن يُشيرا إلى مادي كغالبة لبابل. كمثالٍ تحدث نابونيدس البابلي عن الأحداث التي تمت في عهده وعن نفيه في جنوب العربية لمدة عشرة سنوات إلى ملك مادي، وذلك في عام 546 ق.م، أي بعد أربع سنوات من ذوبان مادي مع فارس بواسطة كورش، إذ كان الذين من مادي يحتلُّون مركزًا رئيسيًا في هزيمة بابل، لكنهم لم يكونوا جيشًا مستقلاً بل جزءً لا يتجزأ من الجيش الذي تحت قيادة كورش الفارسي[165]. بهذا يتضح أن الأمر لم يكن فيه التباس في ذهن إشعياء أو إرميا ولا في ذهن دانيال بخصوص مملكة مادي وفارس كما ظن كثير من الناقدين المتأخرين لهذه الأسفار.
ثانيًا: اعتمد أيضًا بعض النقاد الحديثين على ما ورد في هذه الرؤى بخصوص القرن الصغير في (دا 7: 8؛ 8: 9)، حاسبين أن ما ورد في النص الأول يخص أنطيوخس أبيفانس الذي ارتبط بالوحش الرابع، وكأن المملكة الرابعة هي اليونان لا الإمبراطورية الرومانية. لكنه من الواضح أن سمات القرن الصغير الواردة في (7: 8) تختلف تمامًا عن سمات المذكور في (8: 9)، كما يختلف عملهما عن بعضهما البعض. وكما سنرى فإن ما ورد في (7: 8) يخص ضد المسيح الذي يُحارب قديسي الله قبل المجيء الثاني للسيِّد المسيح، أما ما ورد في (8: 9) فيتحدث عن أنطيوخس أبيفانس قبل ظهور الإمبراطورية الرومانية، وهي رمز لضدّ المسيح.
ثالثًا: ما ورد عن الصراع بين البطالسة في مصر والسلوقيِّين في سوريا كما ورد في الأصحاح العاشر بدقةٍ وتفصيلٍ جعل بعض النقاد ينكرون ما ورد هنا كرؤيا، ويحسبونها عرضًا تاريخيًا كُتب بعد حدوثها، وقد سبق لنا الرد على ذلك في مقدمة السفر.
من التاريخ إلى الرؤيا:
يبدو سفر دانيال بشقيه الرئيسين: القسم التاريخي والقسم الرؤيوي، كأنه كتابان، لكل منهما أسلوبه وسماته الخاصة به، لكن وحدة السفر واضحة جدًا، ليس فقط في تأكيد أن الله ضابط التاريخ والمؤسس لملكوته الروحي الذي يمتد في العالم كله، ومخلِّص المؤمنين به الذين يعانون وسيعانوا من الضيق الشديد، وإنما يظهر الاتفاق العجيب بينهما في عرض الأحداث المستقبلية منذ أيام دانيال حتى نهاية الدهور.
بين حلم نبوخذنصَّر ورؤيا دانيال:
عوض تفسير دانيال لأحلام الملوك وُهب رؤى يفسرها له ملاك؛ والرؤيا التي بين أيدينا في هذا الأصحاح لا تحتاج إلى تفسيرٍ تاريخي حيث قدم للنبي التفسير.
بصفة عامة جاءت هذه الرؤيا تحمل نفس أساس حلم نبوخذنصَّر الوارد في الأصحاح الثاني، ولكن بمعانٍ مختلفة مع إضافات. فقد رأى تحول المملكة من أشور إلى بابل (سنة 612 ق.م)، ومن بابل إلى فارس (سنة 539 ق.م)، ومن فارس إلى الإسكندر الأكبر (سنة 331 ق.م)، ومن المقدونيِّين إلى الدولة الرومانية التي بدأت في (سنة 63 ق.م).
رأى نبوخذنصَّر، الذي يمثل الإنسان الطبيعي، ممالك العالم العظيمة ممثلة في تمثالٍ لرجلٍ عظيمٍ، وكان التمثال معدنيًا برأسٍ ذهبيٍ. أما دانيال، الإنسان الروحي، فرآها ممثلة في أربعة حيوانات مفترسة قاتلة وجائعة، تتحدث عن الجانب الأخلاقي لإمبراطوريات العالم. ما رآه نبوخذنصَّر يمثل النظرة البشرية للممالك الأربع، إذ تركز على الغني والعظمة والسلطة، أما ما رآه دانيال فيُمثل نظرة الله إلى هذه الممالك عينها حيث يراها وحوشًا مفترسة تخرج كل منها لتفترس سابقتها[166]. الأول رآها من الزاوية السياسية كملكٍ ممتص بكل تفكيره في السلطة، أما دانيال فيشغله انتصار مملكة الحق وزوال الشرّ بكل جبروته.
رأى نبوخذنصَّر السيِّد المسيح كحجرٍ صغيرٍ ينمو فيملأ الأرض كلها، أما دانيال فرآه بطريقة مباشرة ابن الإنسان الممجد (13-14)، جاء ليقيم مملكته الروحية الأبدية في حياة البشرية.
لم يرَ نبوخذنصَّر ضد المسيح، أما دانيال فرآه بكونه الملك الشرير يظهر في الأيام الأخيرة في شيء من التفاصيل.
كلاً من حلم نبوخذنصَّر ورؤية دانيال قد سُجلا لنفع الشعب اليهودي المسبي والبابليِّين، كما لنفع الأجيال المقبلة. في هذه الرؤيا تختلف كل إمبراطورية عن الأخرى، لكن الكل يشترك معًا في العُنف والوحشية (وحوش أربعة) وعدم التعقل.
1. تاريخ الرؤيا [1].
2. البحر الكبير [2].
3. الوحش الأول: بابل [3-4].
4. الوحش الثاني: مادي وفارس [5].
5. الوحش الثالث: الإمبراطورية اليونانية [6].
6. الوحش الرابع: الإمبراطورية الرومانية [7].
7. القرن الصغير [8].
8. القديم الأيام [9-12].
9. مثل ابن إنسان [13-14].
10. تفسير الرؤيا [15-18].
11. مملكة ضد المسيح ومملكة القديسين [19-27].
12. اضطراب دانيال [28].
1. تاريخ الرؤيا:
"في السنة الأولى لبيلشاصَّر ملك بابل رأى دانيال حُلمًا ورؤى رأسه على فراشه.
حينئذ كتب الحلم، وأخبر رأس الكلام" [1].
وُهب دانيال هذه الرؤيا خلال السنة الأولى من ملك بيلشاصَّر آخر ملوك بابل (556-539 ق.م)، فمن الجانب التاريخي يأتي هذا الأصحاح قبل الأصحاحين [5-6]؛ أي أن زمن هذه الرؤيا عام 555 ق.م.
2. البحر الكبير:
"أجاب دانيال وقال:
كنت أرى في رؤياي ليلاً،
وإذا بأربع رياح السماء هجمت على البحر الكبير" [2].
في الليل، أي في هذا العالم قبل أن يُشرق عليه شمس البرّ، في ظلام الفساد الذي لا نور له، رأى البحر الكبير الذي ندعوه حاليًا البحر الأبيض المتوسط.
1. كانت حدود الأربع ممالك العظيمة هو البحر الأبيض المتوسط، وجاءت عاصمة المملكة الأخيرة "روما" على ساحله، لذا فمن المناسب أن تظهر الحيوانات الأربعة صاعدة منه.
2. يُشير البحر في الكتاب المقدس رمزيًا إلى شعوبٍ وجماهيرٍ وأممٍ وألسنةٍ (رؤ 17: 15؛ لو 21: 25؛ إش 57: 20).
3. يرمز البحر العظيم بأمواجه إلى حالة الاضطراب الدائم أو عدم الاستقرار... هذه سمة اشتركت فيها الممالك الأربع.
يرى البعض أن البحر الكبير هنا ليس هو البحر الأبيض المتوسط كما في (يش 9: 1)، وإنما هو الهاوية مسكن إبليس، الذي في كل جيل يبعث بخدامه للعمل لحساب ملكوته، ومقاومة ملكوت الله. والبحر أيضًا يمثل الاضطراب، فإن عدو الخير تقوم مملكته على بث روح الاضطراب والقلق، لذا في السماء الجديدة والأرض الجديدة لا يكون بحر بعد (رؤ 21: 1).
يرى اليهود أن التنِّين، رمز إبليس، يسكن في البحر (إش 27: 1). وأن الكنيسة المستيقظة اللآبسة القوة التي تعمل بذراع الرب تجفف البحر وتطعن التنِّين: "استيقظي، استيقظي، ألبسي قوة يا ذراع الرب... ألستِ أنتِ القاطعة رهب، الطاعنة التنِّين؟!" (إش 51: 9، 10). لذا تترنم قائلة: "أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رؤوس التنانين على المياه. أنت رضضت رؤوس لوياثان" (مز 74: 13-14).
رياح السماء الأربع:
تُشير إلى وكالات الله الخفية العاملة. هذا وتُشير الريح إلى الروح القدس الذي يعمل في الخفاء (يو 3: 8)، إذ "ريح" و"روح" في العبرية كما في اليونانية كلمة واحدة. وكأن ما يراه النبي هنا صادر من السماء بسماحٍ إلهيٍّ، حيث يعمل روح الله لحساب ملكوته السماوي حتى وإن بدت الأحداث مُرّة أو مقاومة لعمل الله.
v أظن أن الأربع رياح السماء هي قوات ملائكية عُهدت إليها الرئاسات، وذلك في توافق مع ما جاء في سفر التثنية: "حين قسَّم العليّ للأمم، حين فرق بني آدم نصب تُخومًا لشعوب حسب عدد الملائكة؛ إن قسم الرب هو شعبه؛ يعقوب حَبْلُ نصيبه (ميراثه)" (تث 32: 8LXX ). لكن البحر يعني هذا العالم والزمن الحاضر، وقد غطّته الأمواج المالحة المُرّة، وذلك كتفسير الرب عن الشبكة المُلقاة في البحر (مت 13). هكذا أيضًا يُوصف ملك كل الخلائق القاطنة في المياه كتنِّينٍ، تُضرب رؤوسه في البحر كقول داود (مز 73). ونقرأ في عاموس: "وإن اختفى في قعر البحر فمن هناك آمر التنِّين فيعُضه" (عا 9: 3 LXX)... أما عن الرياح الأربع التي تهب على البحر العظيم، فتُدعى "رياح السماء" لأن كل ملاك يمارس في حدود اختصاصه ما هو ملتزم به[167].
ولعله يقصد برياح السماء الأربع أن ما سيحدث بخصوص الإمبراطوريات الأربع إنما هو في مهب الريح، لا تحمل الممالك استقرارًا، وليس في يد إنسان أن يُغيِّر الأحداث التي يعلنها الله له.
3. الوحش الأول: بابل:
"وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة هذا مخالف ذاك.
الأول كالأسد وله جناحا نسرٍ.
وكنت أنظر حتى أنتتف جناحاه، وانتصب على الأرض،
وأوقف على رجلين كإنسان،
وأُعطي قلب إنسان" [3-4].
في [17] تُشير الحيوانات الأربعة إلى أربعة ملوك بينما في [23] يُشير الحيوان الرابع إلى المملكة الرابعة. واضح أن كل مملكة من الممالك عُرفت بملك خاص له دوره الرئيسي في المملكة ككلٍ. فنبوخذنصَّر يمثل مملكة بابل، بينما كورش يمثل مملكة فارس، والإسكندر الأكبر يمثل المملكة اليونانية (المقدونية)، أما المملكة الرومانية فأُشير إليها في سفر الرؤيا بالوحش (رؤ 13).
يُشار إلى مملكة بابل بأسدٍ مجنحٍ، أي يمتاز بالقوة والافتراس مع سرعة الحركة، إذ كادت الدولة البابلية أن تستولي على العالم كلُّه في فترة وجيزة. في حزقيال 17 أُشير إلى بابل بالنسر الطائر، حيث تلتقط فريستها بسرعة، ولا يستطيع أحد اللحاق بها. يقول القديس جيروم: [أما عن حقيقة أن لها جناحا نسر، فهذا يُشير إلى كبرياء المملكة الكلية القوة، والحاكم الذي أُشير إليه في إشعياء: "أرفع كرسيّ فوق كواكب السماء، أصير مثل العليّ" (إش 14: 14). لذلك قيل: "إن كنت ترتفع كالنسر... فمن هناك أُحدِرك" (عد 4). علاوة على هذا، كما يحتل الأسد رتبة ملوكية بين الوحوش، هكذا يحتل النسر بين الطيور[168]].
نظر دانيال النبي المملكة البابلية وقد اُنتُتف جناحاها وانتصب على الأرض، أي بدأت تنهار، حيث صارت عاجزة عن الطيران.
حينما يُعرف إنسان بشجاعته يقال عنه "صاحب قلب الأسد Lion-hearted"، مثل الملك ريتشارد، أما هنا فنجد أسدًا صاحب قلب إنسان. من الخارج يبدو أسدًا شجاعًا وسط الوحوش، وفي الداخل مملوء خوفًا كإنسان أعزل وسط وحوش مفترسة. هذا ما حدث مع بابل في أيام بيلشاصَّر.
يترجم القديس جيروم الكلمة الأرامية aryeh لبوة بالمؤنث. ويقول: [لم تُدع مملكة البابليِّين أسدًا بل "لبؤة"، وذلك بسبب وحشيتها وقسوتها، أو بالأحرى بسبب ترفها واتسام حياتها بالانغماس في الشهوات[169]]. كما يقول: [يؤكد كتَّاب التاريخ الطبيعي أن اللبؤات أكثر شراسة من الأسود، خاصة متى كن يُرضعن فهودًا، وهن شهوانيات على الدوام في العلاقات الجنسية[170]].
يقول القديس هيبوليتس الروماني:
[عند الحديث عن لبؤة صاعدة من البحر يعني صعود مملكة بابل، وهي بعينها رأس التمثال الذهبي. وأما الحديث عن جناحي نسر فيعني الملك نبوخذنصَّر الذي تعالى وتشامخ بمجده ضد الله. عندئذ قيل "اُنتُتف جناحاه"، أي تحطم مجده، إذ طُرد من مملكته. أما الكلمات "وأُعطيَ قلب إنسان وأوقف على رجلين كإنسان" فيعني أنه رجع إلى نفسه وعرف أنه مُجرَّد إنسان، مُعطيًا المجد لله[171]].
يقول القديس جيروم:
[إن فهمنا ذلك عن نبوخذنصَّر، واضح جدًا أنه بعد أن فقد مملكته اُنتزعت عنه قوته، ثم أعيد إلى حاله الأصلي وتعلَّم ليس فقط أن يكون إنسانًا بدلاً من لبؤة، بل ويسترد قلبه الذي فقده. من جانب آخر يمكن فهم ذلك وتطبيقه على مملكة الكلدانيِّين بوجه عام، فيعني هذا أنه بعد قتل بيلشاصَّر حيث احتل مادي وفارس السلطة الإمبريالية تحقق رجال بابل أن طبيعتهم واهية ووضيعة أكثر من الكل[172]].
مملكة بابل:
أ. أسَّسها نابوبلاسر الأول بعد أن تمرد على مملكة أشور في الشمال واستقل عنها وكوَّن مملكة بابل الجديدة. وفي عام 612 ق.م دمرَّ نينوى وحرقها.
ب. نبوخذنصَّر (606-562)، قام بفتوحات كثيرة، وأسَّس مدينة بابل ومعابد مردوخ، وغزا أورشليم على ثلاث مرات (606، 599، 587 ق.م). وفي المرة الأخيرة هدم الهيكل وأحرقه وخرَّب أورشليم، فأُوقفت المحرقة الدائمة طوال مدة الأسر.
ج. وآبل مردوخ (562-560 ق.م)، عفي عن يهوياكين ملك يهوذا.
د. نرجال شالاسر (560-556 ق.م)، وهو زوج أخت الملك السابق.
هـ. نابونيدس والد بيلشاصَّر (556-539 ق.م)، حيث انتهت دولة بابل في أيامه. تنازل عن المُلك لابنه، وعندما غزا كورش بابل قتل بيلشاصَّر واستبقى والده الذي كان غالبًا خارج مدينة بابل، وبقي معتزلاً العمل السياسي إلى يوم وفاته.
4. الوحش الثاني: مادي وفارس:
"وإذا بحيوان آخر ثانٍ شبيه بالدب،
فارتفع على جنبٍ واحدٍ،
وفي فمه ثلاث أضلعٍ بين أسنانه،
فقالوا له هكذا:
قمْ كُلْ لحمًا كثيرًا" [5].
أهم سمات الدب قوته وشراسته مع جبنه. وقد عرف عن مملكة فارس ومادي أنها لم تغلب أعداءها خلال المهارة العسكرية وسرعة التحرك، وإنما خلال اقتحام البلاد بأعداد ضخمة من المقاتلين، ففي حرب أحشويرش ضد اليونان حارب حوالي 2.5 مليون مقاتلاً، بجانب 2.5 مليونًا من الحلفاء التابعين له، فكان معسكره يضم حوالي 5 مليونًا، فمتى دخلوا مدينة يسببون لها دمارًا بسبب كثرة العدد، يسببون مجاعات لاستيلائهم على المواد الغذائية لاحتياجات الجيش[173].
ارتفع على جنب واحد، لأن المملكة تتكون من أمتين هما مادي الأقدم وبعدها فارس، لكن بعد فترة بسيطة سيطرت فارس على مادي. ويرى القديس جيروم أن ارتفاع الدب على جنب واحد يُشير إلى أن مملكة فارس وإن كانت شرسة مع الشعوب لكنها كانت مُترفقة مع اليهود. تعامل الشعوب الأخرى بطريقة واليهود بطريقة أخرى، أي تقف على جانب واحد[174].
الثلاثة أضلع التي بين أسنانه هي المدن البابلية الرئيسية بابل وإكباتانا Ecbatana وبورسيبا Borsippa. هذه المدن افتتحتها جيوش كورش. وربما تُشير إلى الممالك التي التهمتها: ليديا وبابل ومصر[175]. ويرى القديس هيبوليتس الروماني أنها تُشير إلى ثلاث أمم: "مادي وفارس وبابل"[176] حيث التقت معًا تحت لواء الإمبراطورية الفارسية.
أما ملوك فارس فهم:
أ. كورش الثاني Cyrus II (559-530 ق.م)، دعاه إشعياء النبي "كورش مسيح الرب"، لأنه عفي عن اليهود وأصدر أمرًا بالرجوع الأول من سبيّ بابل في عهد زربابل وتصريحه له بإعادة بناء الهيكل في أورشليم، وأعاد إليهم كل آنية الهيكل التي كان قد نهبها نبوخذنصَّر. وكورش هذا كان قد بدأ ملكه في الجزء الشمالي عام 559 ق.م. لكنه تمكن من ضم بابل، وهي الجزء الجنوبي في عام 539 ق.م. بعد أن هزم بيلشاصَّر آخر ملوك بابل الذي كان يقوم في ذلك الوقت بفتوحات جديدة في الجزيرة العربية.
ب. قمبيز Cambyses (530-522 ق.م).
ج. المدعو أسميردس Smerdis-Pseudo (522 ق.م).
د. داريوس الأول Darius I (522-486 ق.م).
هـ. أحشويرش الأول Xerxes I (486-465 ق.م) سفر إستير.
و. أرتحشتا الأول Artaxerxes I (465-424 ق.م). سفر نحميا.
ز. أحشويرش الثاني Xerxes II (424-423 ق.م).
ح. داريوس الثاني Darius II (423-404 ق.م).
ط. أرتحشتا الثاني Artaxerxes II (404-8/359 ق.م).
ي. أرتحشتا الثالث Artaxerxes III (8/359-7/338 ق.م).
ك. أرسيس Arses (7/338-5/336 ق.م).
ل. داريوس الثالث Darius III (6/337-5/336 ق.م).
5. الوحش الثالث: الإمبراطورية اليونانية:
"وبعد هذا كنت أرى وإذا بآخر مثل النمر،
وله على ظهره أربعة أجنحة طائرة.
وكان للحيوان أربعة رؤوس،
وأُعطيَ سلطان" [6].
مع أنه أصغر من الأسد في حجمه لكن له أربعة أجنحة وأربعة رؤوس.
إن كانت إمبراطورية اليونان أقل من إمبراطورية بابل كما أن النمر أصغر من الأسد لكن إسكندر الأكبر كان أكثر حركة وأسرع من الأباطرة البابليِّين، لذا ظهر في النمر 4 أجنحة؛ كمن يطير في كل جهات العالم الأربع.
الأجنحة الأربعة تُشير إلى سرعة مضاعفة في التحرك والنصرة، ففي حوالي عشرة سنوات هزم الإسكندر الأكبر مؤسس الإمبراطورية اليونانية عام 333 ق.م. قوات فارس، وأخضع كل العالم الممتد في ذلك الحين ومنها مصر وفلسطين[177]، والأربعة رؤوس تُشير إلى تقسيم المملكة إلى أربعة أقسام بعد موت الإسكندر الأكبر في الرابعة والثلاثين من عمره مباشرة على قواده الأربعة: سلوقس الذي صار ملكًا على سوريا وبطليموس الذي ملك على مصر وإسرائيل وفلسطين. والثالث ملك على مقدونية، والرابع على تراثيا Thrace.
وكما يقول القديس جيروم: [لم تحدث أية نصرة أسرع من تلك التي للإسكندر، فقد عبر كل الطريق من الليرقيوم Illyricum والبحر الأدرياتيكي إلى المحيط الهندي ونهر جانجز Ganges، ليس مجرد يدخل في معرك بل ينال نصرات مصيرية قوية، وفي ست سنوات أخضع لحكمه نصيبًا من أوروبا وكل أسيا[178]].
مع ذكائه الحاد وقدراته العسكرية لكن ما حققه إنما لأنه أُعطي سلطان من قبل الله. وكما يقول القديس جيروم:[ بالقول "فأُعطى سلطانًا" يظهر أن الإمبراطورية لم تقم ثمرة شجاعة الإسكندر وإنما بإرادة الله[179]].
6. الوحش الرابع: الإمبراطورية الرومانية:
احتل الحديث عن الإمبراطورية الرومانية النصيب الأكبر من الأصحاح. على خلاف الحيوانات السابقة، رُمز إليها بحيوان لم يَر له دانيال النبي شبيهًا، ولم يسمع عنه، فإنه لا يوجد في عالم الوحوش المفترسة ما يحمل سمة الشراسة والعنف مثل هذه الإمبراطورية.
يقول القديس جيروم: [رأينا في الحيوانات السابقة رموزًا متنوعة للرعب، لكن تركزت هذه كلها في هذا الحيوان الواحد[180]].
ويقول أيضًا: [ربما كان ذلك ليظهر الحيوان بشكلٍ مرعبٍ؛ بالحقيقة لم يعطِه اسمًا، حتى نفهم من ذلك أن الرومان قد شاركوا في أبشع السمات شراسة يمكن أن نفكر فيها بالنسبة للوحوش... إنهم كحيوانٍ يفترس ويسحق ويدوس كل الباقين بقدميه. هذا يعني أن الرومان إما يذبحون الأمم، أو يخضعونهم للجزية والعبودية[181]].
بدأت مملكة الرومان من سنة 63 ق.م وامتدت فتوحاتها حتى احتلت أراضي مملكتيّ بابل وفارس القديمة ومصر سنة 47 ق.م.
"بعد هذا كنت أرى في رؤى الليل،
وإذا بحيوانٍ رابعٍ هائلٍ وقويٍّ وشديدٍ جدًا،
وله أسنان من حديدٍ كبيرة.
أكل وسحق وداس الباقي برجليه.
وكان مخالفًا لكل الحيوانات الذين قبله.
وله عشرة قرون" [7].
هذا الحيوان أكثر قوة من الحيوانات السابقة: "هائل وقوي وشديد جدًا، وله أسنان من حديدٍ ومخالب من نحاسٍ" (الترجمة السبعينية). يُقابل قدميّ التمثال الذي رآه نبوخذنصَّر "بعضهما من حديد والبعض من خزف" (دا 2: 33). يقول القديس هيبوليتس الروماني أن أصابع القدمين العشرة التي بعضها من حديد والأخرى من خزف تُقابل العشرة قرون التي لهذا الحيوان، وهي تُشير رمزيًا للملوك العشرة الذين قاموا من هذه المملكة[182].
وُصف هذا الحيوان بأنه هائل وقوي وشديد جدًا، لأنه لا يُقارن بالنسبة للمالك السابقة. حقًا لقد أخضع الإسكندر الأكبر أغلب دول العالم، لكنه كان يطلب الشهرة لا السيطرة، وإذ تحققت أحلامه وهب الدول الخاضعة له الكثير من الحرية. أما الرومان فأخضعوا العالم وصاروا سادته العنفاء. أخضعوا آسيا الصغرى وسوريا وكيليكية واليونان ومقدونية وأسبانيا وبلاد الغال وجزء من ألمانيا. خضعت كل دول البحر الأبيض المتوسط لها. حقًا كان لمصر ملوكها، لكنهم خضعوا للجزية؛ وكل قانون يصدره الرومان يُطبق فورًا في مصر. لقد تركوا ولاة في آسيا الصغرى، لكنهم كانوا جواسيس لحساب الرومان. يوليوس قيصر هو أول من دخل بريطانيا بعد إخضاع الغال الخ. لهذا كله دعاها دانيال بالوحش الهائل والقوي والشديد جدًا.
"وله أسنان من حديد كبيرة" [7]، إشارة إلى افتراسها العنيف مع طمعها الشديد. كانت أفضل محاصيل العالم وموارده تُنقل إلى روما، دون أن تشبع. لم تكن الإمبراطورية تهتم باحتياجات الدول المستعمرة بل تسحقها وتدوسها بأقدامها. كان الأباطرة يبعثون سفراءهم إلى الدول بحجة الحفاظ على أمن الدولة وسلامها، وكان همّهم الأول التجسُّس لحساب الأباطرة، ونقل كل ما هو ثمين إليهم.
يظن بعض النقاد الحديثين أن هذا الحيوان يُشير إلى السلوقيِّين، ورؤوسه العشرة هم الملوك: سلوقس الأول، أنطيوخس سوتير، أنطيوخس الثاني، سلوقس الثاني، سلوقس الثالث، أنطيوخس الثالث، سلوقوس الرابع، هليودورس، بطليموس السادس، ديمتريوس، والقرن القوي هو أنطيوخس أبيفانيوس الذي داس الثلاثة ملوك الأخيرين. لكن الرأي الأرجح هو أن الحيوان الرابع يُشير إلى الإمبراطورية الرومانية. وهو حيوان غريب لا شبيه له، لأن الدولة الرومانية لم تفرض ثقافتها على الدول التي استعمرتها. كان كل ما يشغلها هو السلطة العسكرية وجمع الجزية. امتازت بالإدارة والتنظيم ولم تُبالِ بفكر ثقافي معين، لذا صارت الدولة تحمل ثقافات متنوعة، كل بلد حسب رغبته.
يرى البعض في القرون العشرة إشارة إلى الاضطهادات العشر التي مارسها الرومان ضد الكنيسة، ويرى آخرون أنها تمثل ممالك سوف تبرز إلى الوجود خلال المرحلة الثانية من تاريخ الحيوان. ولا يستتبع ذلك بالضرورة أن هذه الممالك يجب أن تقوم بعد ضعف روما. إذ جل ما يستنتج من ذلك كون هذه الممالك يمكن رد أصلها إلى روما، وهي متعاصرة فقط بمعني وجودها في حقبة معينة، فليس من الضروري أن تكون متعاصرة بالفعل[183].
ظن بعض اليهود أنه يعني هنا قيام عشرة ملوك يحكمون معًا في روما، لكن واضح أن رقم 10 في الكتاب المقدس يعني الكثرة، فقد أقام الأباطرة الرومان ولاة كثيرين على مستعمراتهم، واليًا على سوريا وآخر على مقدونية وثالث على أسبانيا الخ. وكان لهم حقوق أشبه بحقوق الملوك، يفعلون ما يريدون، لكنهم يخضعون للإمبراطور، ويُطيعون قوانينه التي يصدرها، الذي كان يحسب نفسه ملك الملوك أو أشبه بإله.
7. القرن الصغير:
"كُنت مُتأملاً بالقرون، وإذا بقرنٍ آخر صغير طلع بينها،
وقُلعت ثلاثة من القرون الأولى من قدامه،
وإذا بعيون كعيون الإنسان في هذا القرن،
وفم مُتكلِّم بعظائم" [8].
في رأي بورفيري أن القرن الصغير الذي ظهر بعد العشرة قرون هو أنطيوخوس ابيفانيس، وأن الثلاثة قرون التي اقتلعت من العشرة هو بطليموس السادس (فيلومايتر Philometer) وبطليموس السابع (أورجيتيس Euergetes) وArtaraxias ملك أرمينيا.
رفض القديس جيروم هذا التفسير قائلاً: [إن بعض المفسرين المسيحيِّين قالوا بأنه إبليس أو شيطان ما، أو ربما إنسان قد ملك عليه الشيطان تمامًا، ابن الخطية، ابن الهلاك الذي يتجاسر ويجلس في هيكل الله جاعلاً نفسه مثل الله (2 تس 2)[184].
يقول أيضًا أنه لو كان القرن الصغير هو أنطيوخس الذي هزمه يهوذا المكابي، فهل يمكن القول عن يهوذا أنه يأتي على السحاب كابن إنسان [13]، وأنه يُقدم أمام "القديم الأيام" [13]، وكيف يُقال عنه أنه يُمنح سلطانًا وقوة ملوكية وأن تتعبد له كل الشعوب والقبائل والألسنة وأن سلطانه أبدي لا ينتهي [14]؟[185]. [لو أنه يُشير إلى المكابيِّين، فليشرح المدافعون عن هذا الوضع كيف تكون مملكة المكابيِّين لها سمة الديمومة [14] [186].
يذكر جون كالفن في تفسيره سفر دانيال أن في أيامه ظن البعض أن القرن الصغير هو بابا روما أو ظهور الأتراك، وقد رفض هذا الرأي[187]. لقد نادى بأن يوليوس قيصر وما خلفه من قياصرة أي أوغسطس وتيباريوس وكاليجيولا وكلوديوس ونيرون وغيرهم هم القرن الصغير، مدللاً على ذلك بأن هؤلاء القياصرة مع ما لهم من سلطان لكن يشاركهم في السلطة مجلس الأشراف senate الذي يحد من سلطانهم، لذا دُعوا بالقرن الصغير[188].
إن كانت الرؤى والنبوات قد هدفت نحو الكشف عن مجيء السيِّد المسيح ليُقيم ملكوته الروحي في القلوب، مُحطمًا العُنف من القلب، فإن عدو الخير لا يقف مكتوف اليدين بل يُقاوم السيِّد. تتجلى هذه المقاومة في أبشع صورها في آخر الأيام حين يأتي ضد المسيح، أو إنسان الخطية أو النبي الكذاب. هذا ما سبق أن تنبأ عنه دانيال النبي هنا تحت رمز "القرن الصغير"، كما حدثنا عنه السيِّد المسيح بوضوح وصراحة في حديثه عن نهاية الأزمنة (مت 24)، وأيضًا القديس بولس (2 تس 3: 8)، والقديس يوحنا الرائي (رؤ 13).
يُشير القرن الصغير هنا إلى ضد المسيح. وقد تحدث عنه العهد القديم كما العهد الجديد (مت 24؛ 2 تس 2: 2-8؛ رؤ 13؛ دا 7)، ليؤكد أنه وإن كانت تعيش الكنيسة في ضيقٍ شديدٍ خاصة في الأيام الأخيرة، لكن هناك خطة إلهية تنتهي بنصرة ملكوت الله. مهما قاوم إبليس وكل جنوده، حتمًا سيملك القديسون مع الله، لا على أرض زائلة بل في السماويات. وقد جاء وصف ضد المسيح هنا مطابقًا لما ورد في العهد الجديد.
أما سمات هذا القرن الصغير فهي:
أ. صغير وغامض وعنيف [8]، يظهر فجأة، ويُحطم ممالك، ويُقيم لنفسه مملكة تقاوم كنيسة الله [25]، بسببه يحدث فزع شديد [28].
ب. يقوم كملك آخر [8] قابل للموت (رؤ 13: 2؛ 2 تس 2: 9)، يحمل قوة شيطانية، يجعل نفسه إلهًا.
ج. تبدأ قوته بالغلبة على ثلاثة ملوك [8، 24].
د. ذكي ومخادع يعرف كيف يخطط... له عيون كثيرة.
هـ. مُجدف، يقاوم الله، له قدرة على الكلام [8].
و. منظره مُثير [20].
ز. مملكته زائلة، تدوم فقط زمانًا وزمانين ونصف زمان. يظن أنه يُحطم مملكة الله ويُغيِّر الأزمنة والأوقات [25]، كأنه لا يعلم عن وجود خطة إلهية خفية تُحطم كل شرُّه.
ح. سرّ الغلبة عليه هو مجيء السيِّد المسيح:
1. المجيء الأول: حيث حطم عمل إبليس بصليبه.
2. المجيء الثاني: ليملك قديسوه معه في السماء بعد تحطيم ضد المسيح.
3. مجيء الرب في القلب ليُحطم مملكة الشرّ في الداخل.
8. القديم الأيام:
"كُنت أرى أنه وُضعت عروش وجلس القديم الأيام.
لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار، وبكراته نار متقدة.
نهر نار جرى وخرج من قدامه.
ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه.
فجلس الدّيان وفُتحت الأسفار.
كُنت أنظر حينئذ من أجل صوت الكلمات العظيمة التي تكلم بها القرن.
كُنت أرى إلى أن قُتل الحيوان، وهلك جسمه، ودفع لوقيد النار.
أما باقي الحيوانات فنُزع عنهم سلطانهم، ولكن أُعُطوا طول حياة إلى زمانٍ ووقتٍ" [9-12].
بعد أن تحدث عن الإمبراطوريات الأربعة التي انتهت بمجيء السيِّد المسيح ليقيم مملكته على القلوب، تحدث عن إدانة هذه الإمبراطوريات الشرسة، فقد رأي الله الأزلي الجالس على العرش وقد ألقى بعروش الإمبراطوريات أيضًا ونزع عنها سلطانها، وإن كان أعطاهم "طول حياة إلى زمان ووقت" [12].
يتحدث هنا عن الله كديان، يدعوه "القديم الأيام"، ليؤكد أنه ليس شيء من الأحداث الماضية تفلت من بين عينيه. أنه الديان الأزلي، لكنه في طول أناته ينتظر الوقت المناسب. أنه منذ بدء خلقتنا يقدم لنا الفرص للتمتع بمراحمه، ومنذ سقوطنا يترقب رجوعنا إليه، لكنه يأتي وقت يجلس فيه على عرش الدينونة ليحكم بالعدل والبرّ.
يرى البعض تعبير "وُضعت عروش" بالعبرية يعني "نُزعت عروش" الملوك والعظماء ليجلس ملك الملوك الذي وحده له أن يدين. غير أن البعض يرى أن المعنى هنا "أُقيمت عروش"، حيث يجلس الله وحوله السمائيُّون يشاهدون الدينونة، ويتهلَّلون بنصرة المؤمنين وتحطيم إبليس وكل جنوده.
ولعل العروش هنا تُشير إلى وعد السيِّد المسيح لتلاميذه إنهم سيدينون بني إسرائيل. فإن الله الكلي العدل يُدين البشرية، يُدين الأبرار الغالبين الأشرار الذين هم بلا عذر، يوبخهم برّ العبيد زملائهم الذين عاشوا معهم في هذا العالم.
وصف الله الديان هنا يطابق ما جاء عن السيِّد المسيح في الرؤيا (1: 2-4 الخ.)! وقد تحدث السيِّد المسيح عن نفسه كديان للأمم (مت 30: 25-46).
v كلما أسرع إنسان إلى النهاية يكون بالأكثر وقورًا، ويكون الله وحده هو الأكبر منه، إذ هو الأزلي القديم الأيام، هو أقدم من كل شيء[189].
v إن كان الذي يُحاكم بلا شك سيكون بائسًا، إلاَّ أن ذاك الذي لأجله يجلس الله (ليكافئه) فهو سعيد[190].
v يحل قضاء الله لإذلال الكبرياء. لهذا فإن الدولة الرومانية ستهلك، لأنها هي القرن الذي ينطق بالكلمات المتعجرفة[191].
v لأنه في دينونة الله التي يصفها دانيال نجده جالسًا، ويُشير إلى الكتب التي فُتحت (دا 7: 10)، بدون شك هذه الأسفار التي تحوي خطايا البشر. نحن بأنفسنا نكتب هذه المستندات التي تُديننا وذلك بالأمور التي نرتكبها[192].
إننا نعلم أن الله لا يمكن أن يُرى كما هو، لكنه يُعلن ذاته حسبما نستطيع أن نراه، وبالطريقة التي فيها بنياننا. هنا إذ تُقدم الرؤيا الصراع بين مملكة السيِّد المسيح في قديسيه ومملكة ضد المسيح، يظهر الله بلباسٍ أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي. البياض والنقاوة يرمزان إلى الحياة السماوية التي بلا دنس. وكأن سلاحنا في المعركة هو تمتعنا بالحياة السماوية الطاهرة. ارتفاع القلب إلى السماء، وانشغالنا بالأبديات، وطهارة نفوسنا هي أسلحتنا التي لحساب مملكة المسيح.
أما الحديث عن العرش الملتهب الناري والبكرات النارية المتقدة، فتعني التزامنا أن تتحول أعماقنا إلى عرشٍ روحيٍ متقدٍ بنار الحب الإلهي، فلا يكون للخمول أو للتراخي موضع فينا، بل نكون كالشاروبيم الملتهبين بنار الروح.
يخرج من أمامه نهر نار يجري متدفقًا، فيروي نفوسنا لا بالمياه بل بالنار المقدسة، فتتحول أعماقنا إلى جنة تحمل ثمر الروح الناري. إن كان ضد المسيح مرهب ومخيف، فإن أولاد الله الذين يفيض عليهم النهر السماوي بنار فائقة يصيرون مرهِبين، لا يقدر العدو أن يقف أمامهم!
أخيرًا يُعلن أنه يقف أمامه أعداد بلا حصر، ألوف ألوف وربوات ربوات، يشتهون أن يخدموه. في اختصار يقف السمائيُّون ومعهم المؤمنون حاملين السمات التالية:
* الفكر السماوي والطهارة.
* لهيب الحب والغيرة المتقدة.
* نار القلب الجريء الذي لا يفشل ولا يخزى.
* يقفون في أعدادٍ بلا حصر.
يرى العلامة أوريجينوس أن سفر الحياة أو الكتاب الإلهي يُذكر بالمفرد كذاك الذي رآه القديس يوحنا اللاهوتي والذي مفتاحه في يديّ الأسد الخارج من سبط يهوذا (رؤ 5: 1-5؛ 3: 7)، الكتاب الذي قال عنه موسى النبي: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتب" (خر 32: 32). بينما تستخدم صيغة الجمع بالنسبة للأسفار التي فيها تُسجل الذين هم محفوظون للدينونة[193].
v الكتب التي تكون مغلقة إلى ذلك الوقت تقدم حسابًا عن كل ما نصنعه، كل كلمة نطقنا بها وكل فكرٍ، حتى كل كلمة بطالة (مت 12: 36)، كل ما يُسجل في أسفار الله. يظن البعض أنه توجد كتب حقيقية في السماء تنقش فيها خطايانا. أظن أن هذه الكتب هي ضمائرنا التي ستُعلن في ذلك اليوم، وسيرى كل واحد ما قد فعله من أجل نفسه[194].
v تكشف أمام الكل ضمائر الناس وأعمال الأفراد التي تُساهم في كل شخصية، سواء كانت صالحة أو شريرة. أحد هذه الكتب هو الكتاب الصالح الذي غالبًا ما نقرأه، أعني كتاب الأحياء. الكتاب الآخر هو الكتاب الشرير الذي يمسك به المشتكي بيده، الذي هو منتقم وخبيث للغاية، نقرأ عنه في الرؤيا "المشتكي على الاخوة" (رؤ 12: 10). هذا هو الكتاب الأرضي الذي يقول عنه النبي: "في التراب يكتبون" (إر 17: 13)[195].
9. مثل ابن إنسان:
"كُنت أرى في رؤى الليل،
وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قُدامه.
فأُعطي سُلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة.
سُلطانه سُلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض" [13-14].
يأتي ليملك إلى الأبد، حيث يتمتع القديسون بشركة المجد معه. في حوار العلامة ترتليان مع اليهود أوضح أن دانيال سبق فتنبأ عن مجيئين للسيِّد المسيح، جاء أولاً كحجرٍ صغيرٍ يصدم تمثال الممالك الزمنية ويُحطمها، جاء مُتجسدًا مُخليًا ذاته، وفي المجيء الثاني يأتي في مجده الملوكي السماوي على السحاب[196].
v هو ابن الله، ربنا، إذ هو كلمة الآب؛ وهو ابن الإنسان، إذ وُلد حسب ناسوته من مريم، فنزل من الجنس البشري، وهو كائن بشري إذ صار ابن الإنسان[197].
القديس إيريناؤس
v لقد أُظهر كل سلطان أُعطي بواسطة الآب للابن الذي عُيِّن ربًا لكل ما في السماء وما على الأرض وما تحت الأرض وديانًا للجميع (في 2: 10).
هو رب الذين في السماء لأنه كلمة الله المولود قبل الدهور؛ ورب الذين على الأرض لأنه أُحصي بين الأموات كارزًا بالإنجيل لنفوس القديسين (1 بط 3: 19)، وقد غلب الموت بالموت[198].
10. تفسير الرؤيا:
في البداية اضطرب دانيال جدًا بخصوص هذه الرؤيا، فاقترب إلى واحد من الوقوف، غالبًا ما كان ملاكًا، يطلب منه تفسيرًا لما يراه. لكن تمتع دانيال بالسلام بعدما أدرك أن هذه الممالك بالرغم مما تناله من سلطان ومع شراستها لكن ينتهي الأمر بمملكة القديسين في السماء التي يسبقها الضيقة العظيمة التي يسببها ضد المسيح.
"أما أنا دانيال فحزنت روحي في وسط جسمي، وأفزعتني رؤى رأسي.
فاقتربت إلى واحدٍ من الوقوف، وطلبت منه الحقيقة في كل هذا.
فأخبرني وعرَّفني تفسير الأمور.
هؤلاء الحيوانات العظيمة التي هي أربعة هي أربعة ملوكٍ يقومون على الأرض.
أما قديسو العليّ فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين" [15-18].
رأى دانيال النبي كل جموع السمائيِّين يقفون أمام العرش يتأهبون لخدمته بفرح، إذ يقول: "ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه" (دا 7: 10)، الأمر الذي يُثير فينا أن نجتمع معًا على مثال السمائيِّين لخدمة الله.
يقول القديس أكليمنضس الروماني: [ونحن أيضًا إذ نجتمع مع بعضنا البعض باتفاق، نصرخ بغيرة كما من فمٍ واحدٍ، لنصير شركاء مواعيده العظيمة الممجدة]، [ليكن فخرنا واطمئناننا بالرب، ولنخضع لإرادته، ونُدرك أن كل جموع ملائكته يقفون حوله متأهبين لخدمة إرادته[199]].
ويرى القديس غريغوريوس النيسي أن هذه الصورة تُثير فينا الاشتياق للتشبه بالملائكة خلال عمل المسيح الخلاصي فينا، فيقول: [إننا نحيا مع المسيح كنتيجة لصلبنا معه، ونتمجد أيضًا معه ونملك معه. أما نتيجة حضورنا لله فهي إننا نتغير من رتبة الطبيعة البشرية والكرامة الإنسانية إلى تلك التي للملائكة، وهكذا يقول دانيال "ألوف ألوف وقوف قدامه"[200]].
v يليق جدًا بالذين هم بيض وبلا غضن في الداخل أن يستخدموا ثيابًا بيضاء وبسيطة. يقول دانيال بكل وضوح وجلاء: "وُضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج" [9]. وتقول الرؤيا أن الرب نفسه ظهر مرتديًا ثوبًا كهذا، كما تقول: "رأيت نفوس الذين استشهدوا تحت المذبح وقد أُعطيت لكل منهم ثوب أبيض" (رؤ 6: 9، 11). وإن كان هناك ضرورة للبحث عن لون آخر فيكفي اللون الطبيعي للحق[201].
11. مملكة ضد المسيح ومملكة القديسين:
"حينئذٍ رُمت الحقيقة من جهة الحيوان الرابع الذي كان مُخالفًا لكلها، وهائلاً جدًا، وأسنانه من حديد، وأظافره من نحاس، وقد أكل وسحق وداس الباقي برجليه، وعن القرون العشرة التي برأسه وعن الآخر الذي طلع فسقطت قدامه ثلاثة وهذا القرن له عيون وفم مُتكلِّم بعظائم ومنظره أشدُ من رُفقائه.
"وكُنت أنظر وإذا هذا القرن يُحارب القديسين فغلبهم.
حتى جاء القديم الأيام وأُعطي الدّين لقديسي العليّ وبلغ الوقت فامتلك القديسون المملكة" [19-21].
اشتاق دانيال النبي أن يتعرف على حقيقة هذا الحيوان الغريب والمختلف عن بقية الحيوانات ليُدرك سرُّه. لقد كرر وصفه بسبب دهشته، ولشعوره بخطورة دوره وعمله الجنوني القاتل.
الملك الآخر الذي يقدم بعد الملوك العشرة هو القرن الصغير الذي يُعرف بضد المسيح. هذا يملك "إلى زمان وأزمنة ونصف زمان" [20]، أو "زمان وزمانين ونصف زمان". في رأي القديس جيروم أن الزمان هنا معناه "سنة"، أي يملك ضد المسيح ثلاث سنوات ونصف [16-23].
v سيثير ضد المسيح حربًا ضد القديسين وسيغلبهم، ويمجد ذاته إلى مثل هذا العلو من العجرفة، محاولاً تغيير نفس نواميس الله والطقوس المقدسة أيضًا. سيرفع نفسه ضد كل ما يُدعى إلهًا، مخضعًا الذين له[202].
v الأربعة ممالك التي تحدث عنها قبلاً هي ممالك أرضية في سماتها. "كل ما هو من التراب إلى التراب يعود" (جا 3: 20). أما القديسون فإنهم سوف لا ينالون مملكة أرضية، إنما سمائية فقط. تبًا بالفكر التافه عن الملك الألفي![203]
"فقال هكذا. أما الحيوان الرابع فتكون مملكة رابعة على الأرض مُخالفة لسائر الممالك،
فتأكُل الأرض كُلها وتدوسها وتسحقها.
والقرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك يقومون،
ويقوم بعدها آخر، وهو مُخالف الأولين ويذل ثلاثة ملوك.
ويتكلَّم بكلام ضد العليّ، ويُبلى قديسي العليّ،
ويظُن أنه يُغير الأوقات والسُّنة،
ويُسلِّمون ليده إلى زمانٍ وأزمنةٍ ونصف زمانٍ.
فيجلس الدّين وينزعون عنه سُلطانه ليفنوا ويبيدوا إلى المنتهى.
والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تُعطى لشعب قديسي العليّ.
ملكوته ملكوت أبدي وجميع السلاطين إياهُ يعبدون ويطيعون" [22-27].
12. اضطراب دانيال:
"إلى هنا نهاية الأمر.
أما أنا دانيال فأفكاري أفزعتني كثيرًا، وتغيرت على هيئتي، وحفظت الأمر في قلبي"[28].
يعلن دانيال النبي عجزه عن إدراك التفسير الكامل للرؤيا لهذا حفظ الأمر في قلبه [28].
من وحيّ دانيال 7
v هوذا العالم كبحرٍ مضطربٍ،
تخرج منه وحوش مفترسة،
تفترس وتُسيطر!
لكن ملكوتك قادم حتمًا!
تملك في قديسيك إلى الأبد!
لا على أرضٍ زائلةٍ،
بل في سماء جديدة خالدة!
v أنها الساعة الأخيرة!
أنت قادم حتمًا لتملك!
لكن ضد المسيح يدخل إلى ساحة المعركة،
أنها معركة حاسمة،
هي حياة أو موت!
ليمت الشرّ، ولتبطل الظلمة،
ولتقِمْ ملكوت النور في داخلنا!
v ليأتِ ضدّ المسيح،
أنه عنيف للغاية ومُحطم للنفوس!
لكنك أنت أقوى وأعظم.
لتحمِ كنيستك، فقد بدأت نهاية الأزمنة!
في السنة الأخيرة من مُلك بيلشاصر حيث صارت نهاية مملكة بابل على الأبواب، قدم الله له رؤيا جديدة عن دمار ممالك قادمة، لكي لا يندهش عندما يرى بابل العظيمة تنهار أمامه. فقد ظن الكثيرون أن بيلشاصر سيسخر بكورش وداريوس، وأن مقاومتهما لبابل لا تستحق اهتمام بيلشاصر. لكن الله كشف أكثر من مرة لدانيال عن انهيار بابل ثم انهيار فارس فيما بعد. تمتع دانيال النبي برؤيا جديدة تؤكد ما جاء بالرؤيا الأولى وتشرحها بأكثر تفصيل، مع إبراز جوانب جديدة خاصة بدور الشر العنيف الممثل في أنطيوخس أبيفانس Antiochus Epiphanes (في العهد القديم) وضد المسيح (في أواخر الدهر)، الأمر الذي جعل دانيال يضعف جدًا ويتحير. يقول القديس هيبوليتس الروماني أن هذه الرؤيا بتفاصيلها هي "لبنيان المؤمنين"[204].
1. مقدمة عن الرؤيا [1-2].
2. رؤيا الكبش [3-4].
3. رؤيا التيس [5-8].
4. القرن الصغير [9-14].
5. تفسير الرؤيا [15-27].
1. مقدمة عن الرؤيا:
تمت هذه الرؤيا قبل سقوط بابل بفترة قصيرة، إذ رأى دانيال النبي نفسه كمن هو في شوشان، عاصمة ولاية عيلام، غرب فارس وشرق بابل وجنوب مادي.
"في السنة الثالثة من مُلك بيلشاصر الملك ظهر ليّ أنا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت ليّ في الابتداء" [1].
وُهب دانيال من قبل الرب أن يقف كما في برج مراقبة عالٍ، ليرى الأمور البعيدة التي لا يراها غيره، والتي قد يظنها البعض أنها غير منطقية، بل وأحيانًا مستحيلة. هذه العطية تُقدم للنفس الأمينة التي ترتمي في حضن الله، فيرفعها كما بجناحي حمامة، لترى حتى ما هو وراء الزمن.
وُهبت له هذه الرؤيا بعد عامين من الرؤيا السابقة، وذلك قبل سقوط بابل (دا 5) بقليلٍ، لهذا تجاهلت الرؤيا الإمبراطورية البابلية وكشفت عن مملكة مادي وفارس (الكبش) التي تُهاجمها مملكة المقدونيِّين (التيس).
"فرأيت في الرؤيا،
وكان في رؤياي وأنا في شوشان القصر الذي في ولاية عيلام،
ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاي" [2].
مدينة شوشان أو سوسا، وهي توصف في الكتاب المقدس بالحصن. احتلت مركزًا خاصًا، إذ كانت عاصمة فارس؛ صارت فيما بعد تشارك بابل كعاصمة في أيام الإمبراطورية الفارسية. تقع على بعد حوالي 250 ميلاً شرقي بابل، تُستخدم إحداهما في الشتاء والأخرى في الصيف، وقد صارت عاصمة لكورش. كان دانيال في القصر في بابل، لكنه إذ كان في الرؤيا شاهد نفسه كأنه عند نهر أولاي. ظن البعض أن دانيال كان في مدينة شوشان، لكن هذا غير مقبولٍ، لأنه لم يكن ممكنًا لدانيال المسبي أن يترك بابل ويقطن في شوشان التابعة لفارس، إنما رأى نفسه هكذا في الرؤيا. ولعل الله سمح له بذلك ليطمئن أنه كما خدم شعبه خلال الحكم البابلي سيخدمه أيضًا خلال الحكم الفارسي. غالبًا لم يكن شوشان القصر فد بُني بعد، لأنه لم تكن إمبراطورية فارس قد ازدهرت بعد.
2. رؤيا الكبش:
في الرؤيا السابقة رأى دانيال أربعة حيوانات، أما هنا فينظر حيوانين، الأول كبش له قرنان.
إذ اقترب وقت انهيار بابل أمام فارس ومادي رأى دانيال هذه الرؤيا. رأى كبشًا واقفًا عند النهر له قرنان عاليان، الواحد أعلى من الآخر. يقول القديس هيبوليتس الروماني: [يعني بهذا الكبش الذي ينطح غربًا وشمالاً وجنوبًا داريوس ملك الفرس، الذي غلب كل الأمم، إذ قيل "لم يقف حيوان قدامه"[205]].
"فرفعت عيني ورأيت،
وإذا بكبشٍ واقف عند النهر،
وله قرنان، والقرنان عاليان،
والواحد أعلى من الآخر، والأعلى طالع أخيرًا.
رأيت الكبش ينطح غربًا وشمالاً وجنوبًا،
فلم يقف حيوان قدامه،
ولا مُنقذ من يده،
وفعل كمرضاته وعظم" [3-4].
إذ شعر دانيال النبي أنه مدعو لرؤية أسرار إلهية مستقبلية، رفع عينيه ليرى. وكأن الرؤيا وإن بدت أنها تخص ظهور مملكتيْ فارس ومادي واليونان، لكنها في جوهرها تمس أبدية المؤمنين وتمتعهم بما هو فوق الزمن. هكذا ليس لنا أن نتجاهل التاريخ الزمني، لكن إذ يرفع روح الله أعيننا نرى خطة الله الخفية التي تعمل عبر التاريخ ليحملنا إلى ما وراء التاريخ.
في دقة عجيبة شُبهت مملكة فارس بالكبش ذي القرنين، واحد أعلى من الآخر. لأن فارس صارت أعظم من مادي. لقد تزوج كورش الفارسي ابنة خاله كياكسارس Cyaxares (داريوس المادي)، وكان داريوس ضعيف الشخصية جدًا بالنسبة لكورش، الذي فاق حماه جدًا، مع ذلك تركه شريكًا معه في الحكم، فتحققت النبوة حرفيًا.
هنا القرنان يقابلان جانبي الحيوان الثاني (الدب) في الرؤيا السابقة حيث ارتفع على جنبٍ واحدٍ (7: 5)، كما يقابلا كتفي التمثال العظيم المعدني Colossus في حلم نبوخذنصَّر المذكور في الاصحاح الثاني. ويرمز نطاح الكبش إلى الانتصارات السريعة التي حققها الفارسيُّون.
إذ شُبه فارس بالكبش، شُبه الملوك الآخرون بالحيوانات، التي لم تستطع الوقوف أمامه، ولا أن تفلت من يديه.
يقول مارسيلينوس Marcellinus: [إنه إذ كان ملك الفرس على رأس جيشه كان يرتدي رأس كبش على رأسه عوض التاج[206]].
3. رؤيا التيس:
"وبينما كُنت متأملاً،
إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كل الأرض،
ولم يمس الأرض،
وللتيس قرن مُعتبر بين عينيه.
وجاء إلي الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقف عند النهر،
وركض إليه بشدة قوته" [5-6].
إذ ظهر الكبش بقوة وسلطان ينطح كل حيوان يلتقي به ظهر له عدو هو تيس ذو قرن معتبر بين عينيه. رآه النبي قادمًا من الغرب، حيث تقع اليونان غرب فارس. كان التيس سريعًا جدًا حتى أن أقدامه لم تكن تمس الأرض [5]. كان بجيشه أشبه بطائر يطير في الهواء، أكثر منه قادمًا على البَرّ أو خلال الأسطول البحري. لقد شُبه فارس بالكبش بالمقارنة بالمملكة اليونانية التي شُبهت بالتيس. فإن التيس أكثر رشاقة وسرعة حركة من الكبش. هكذا كان الإسكندر الأكبر أكثر سرعة في تحرُّكاته.
ضرب الكبش وكسر قرنيه وطرحه على الأرض وداسه، ولم يكن للكبش مُنقذ من يده [7].
"ورأيته قد وصل إلي جانب الكبش،
فاستشاط عليه وضرب الكبش، وكسر قرنيه،
فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه،
وطرحه على الأرض وداسه،
ولم يكن للكبش مُنقذ من يده" [7].
إنها رؤيا صادقة تحققت بعد أكثر من 200 عامًا. هنا يظهر الله لنبيِه نصرة الإسكندر الذي أخضع الشرق كله، حيث دخل في معاركٍ كثيرة، لكنه يركز على فارس التي كانت مسيطرة على دولٍ كثيرةٍ، والتي سبق فشُبهت بالكبش الذي ينطح في كل جهات المسكونة.
رأى التيس قد وصل إلى الكبش، الأمر الذي لم يكن أحد يتوقعه، إذ كانت المدن الكبرى محصنة، هذا مع بُعد المسافة بين فارس واليونان. لكن الإسكندر بلغ إلى فارس، وهزمها بقوة وبسرعة غير متوقعة. لقد هُزم داريوس في معركتين مثيرتين، هٌزم في المعركة الأولى، فحاول أن يجمع قواته من جديد، وبالفعل دخل معه في معركة ثانية، لكن اتباعه خانوه وانتهت المعركة بقتله بواسطتهم.
يقول بعض المؤرخين أن الإسكندر ادعى بأنه ابن الإله جوبتر آمون الذي كان يُرمز إليه بشكل تيس، وقد اُكتشفت صور تاريخية تُصور تيسًا بقرنٍ واحدٍ كرمز للجيوش اليونانية القديمة.
"فتعظم تيس المعز جدًا،
ولما اعتز انكسر القرن العظيم،
وطلع عوضًا عنه أربعة قرون مُعتبرة نحو رياح السماء الأربع" [8].
يقول القديس هيبوليتس الروماني: [يقصد بالتيس من الماعز القادم من المغرب الإسكندر المقدوني القادم من اليونان... لقد أثار الإسكندر حربًا ضد داريوس وغلبه، وأقام نفسه سيِّدا على كل المملكة بعد أن هزمه هزيمة منكرة وحطم معسكره. بعد أن تمجد التيس انكسر قرنه العظيم، وطلع أربعة قرون تحته نحو رياح السماء الأربع. فإنه عندما أقام الإسكندر نفسه سيدا على كل أرض الفرس وأخضع شعبها مات وانقسمت مملكته على أربعة رؤساء[207]].
عظم التيس جدًا، وفي عز عظمته حدث تغيُّر عجيب، فقد انكسر القرن المعتبر، وحلّ موضعه أربعة قرون معتبرة، تمتد نحو رياح السماء الأربع [8]. بموت الإسكندر الأكبر، انقسمت مملكته بين قواده الأربعة إلى أربع ممالك: مقدونية، وتراقيا، وسوريا، ومصر. ولم يكون أحد منهم في قوته. اختلف المؤرخون بخصوص موته، فالبعض يرى أنه مات بسبب المرض، وآخرون يرون أنه مات مسمومًا. قبل موته سُئل عمن يخلفه، ففي كبريائه لم يرَ أحدًا مستحقًا أن يخلفه، فقال: "الإنسان الذي يُحسب نفسه مستحقًا جدًا لهذه الإمبراطورية!" وكان له ابنان أحدهما من روكسانا Roxana ابنة داريوس، وأيضًا كان له أخ يُدعى أريداؤس Aridaeus، لكنه لم يرَ أحدًا منهم مستحقًا أن يخلفه، كأنه لا يوجد في العالم كله من هو مثله. وإذ صار عاجزًا عن النطق نزع الخاتم من يده وأعطاه لبيرديكاس Perdiccas. بعد موته حدثت اضطرابات كثيرة وقُتل حوالي 15 قائدًا.
صار كاساندر Cassander بن انتيباتير ملكًا على مقدونية بعد قتل أولمبياس والدة الإسكندر، وأخته، وابنه، وزوجته روكسانا، وكثير من أقربائه. وفقد القادة ثقتهم في بعضهم البعض، وخشي كل قائد من زملائه، فقد ساد بينهم روح الغدر والخيانة. أخيرًا بعد 15 عامًا من موته انقسمت المملكة إلى أربعة أقسام وهي:
أ. مقدونية، حيث ملك عليها كاساندر بن أنتيباتير، وانضم إليها بعض أجزاء من تراقيا Thrace مع مدن اليونان.
ب. سوريا وبابيلونيا وكل ممالك الشرق، ملك عليها سلوقس نيقانور Selecus Nicanor.
ج. آسيا الصغرى، ملك عليها أنتيجونس Antigonus، حيث ضم فيريجيا وبافلاجونيا Paphlagonia والمناطق الأسيوية الأخرى، وذلك بعد قتل 5 أو 6 من القادة.
د. مصر ملك عليها بطليموس بن لاغوس Lagos.
هؤلاء هم الأربعة قرون المعتبرة [8] التي سادت العالم في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
4. القرن الصغير:
"ومن واحد منها خرج قرن صغير جدًا،
نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضي.
وتعظم حتى إلى جند السموات،
وطرح بعضًا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم.
وحتى إلى رئيس الجند تعظم،
وبه أُبطلت المُحرقة الدائمة، وهُدم مسكن مقدسه.
وجعل جند على المُحرقة الدائمة بالمعصية،
فطرح الحق على الأرض وفعل ونجح.
فسمعت قدوسًا واحدًا يتكلم، فقال قدوس واحد لفُلان المُتكلِّم:
إلى متى الرؤيا من جهة المُحرقة الدائمة ومعصية الخراب لبذل القدوس والجند مدوسين.
فقال ليّ: إلى ألفين وثلاث مائة صباح ومساء فيتبرأ القُدس" [9-14].
ما هو هذا القرن الصغير إلاَّ دجال العهد القديم أنطيخوس أبيفانس، والذي يرمز أيضًا إلى ضد المسيح في أواخر الدهور. دُعي بالقرن الصغير ليس بمقارنته ببقية الملوك في عهده، وإنما لأنه لم يكن أحد يتوقع أنه يتولى الحكم بعد والده، لكنه استولى على الحكم بخبثه ودهائه. ملك أبيفانس على سوريا (مملكة الشمال للإمبراطورية اليونانية) وكان ذلك حوالي سنة 175 ق.م. تحدث عنه دانيال النبي بأكثر تفصيل في (دا 11: 21-35). دُعي أدنس إنسان في العهد القديم، اضطهد اليهود. التقى بعد وفاة أخيه بالشعب، وتظاهر باللطف الشديد وخدعهم، فأقاموه ملكًا، وذبح خنزيرًا ورش دمه على المذبح والأواني المقدسة، ومنع تقديم الذبائح اليومية [11]، وإلاَّ تعرضوا للقتل.
v قام أنطيخوس المدعو أبيفانس من خط الإسكندر، وإذ ملك على سوريا، وأخضع مصر تحت سلطانه صعد إلى أورشليم، ودخل الهيكل، واستولى على كل كنوز بيت الرب، والمنارة الذهبية والمائدة والمذبح وصنع مذبحة عظيمة في الأرض، كما كُتب: "يُداس المقدس بالأقدام إلى ألفٍ وثلاثمائة صباح ومساء". لقد حدث أن المقدس بقي خرابًا كل هذه المدة - ثلاث سنوات ونصف - فتمت الألف وثلاثمائة يومًا. عندئذ ظهر يهوذا المكابي بعد موت والده متياس وقاومه وحطم معسكر أنطوخيوس، وخلص المدينة وطهر المقدس وأصلحه بدقة حسبما ورد في الشريعة.
لقد وُصف هذا بوضوح في سفريّ المكابيِّين[208].
القديس هيبوليتس الروماني
"خرج نحو الجنوب" [9]، أي نحو مصر، فقد أراد الاستيلاء على مصر، لكن مجلس الشيوخ Senate أرسل إليه بومبيليوس Pompilius لكي يترك مصر، وبطريقته المملوءة خداعًا طلب من الرسول مهلة لكي يترك مصر، أما الرسول إذ كان ممسكًا بعصا صنع دائرة على الأرض حوله وقال: "قبل أن تخرج من هذه الدائرة تعطيني إجابة ولا تخدعني بالقول أنك تطلب مشورة المشيرين"، واضطر إلى ترك مصر. لكنه فيما بعد دخل في حرب ضد بطليموس فيلوباتير ملك مصر.
اتجه نحو الشرق [9]، إذ امتدت مملكته حتى بتولمايس Ptolemais، وقد حارب الثائرين ضده في فارس.
ثم إلى "فخر الأراضي" [9]، أي الأراضي المجيدة، أو أرض الموعد "كنعان". وكما جاء في إرميا "وأعطيكِ أرضًا شهية ميراث مجد أمجاد الأمم" (إر 3: 19)؛ "وأعطيتهم هذه الأرض التي حلفتُ لآبائهم أن أُعطيهم إياها أرض تفيض لبنًا وعسلاً" (إر 31: 22). دُعيَت فخر الأراضي أيضًا لوجود هيكل الرب المجيد في يهوذا، وقد حارب أنطيوخس اليهود ودنس هيكلهم.
يتعظم أنطيخوس (أو ضد المسيح) حتى على جند السماء ويطرح بعضًا من الجند والنجوم إلى الأرض [10]. هكذا يُعلن الله لنبيِّه دانيال عن كنيسته أنها سماء، وأن المؤمنين هم جند المسيح وكواكبها.
وكما قاوم أنطيخوس المؤمنين - كنيسة العهد القديم - وقتل كثيرين، هكذا سيبذل ضد المسيح كل جهده ليُحطم كواكب العهد الجديد. لهذا يقول السيِّد المسيح عن مجيئه الأخير: "متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟!" كما يقول عن ضد المسيح: "إن أمكن أن يضل حتى المختارين".
لا يقف الأمر عند كواكب السماء أو جنودها، بل يتعظم العدو على رئيس الجند [11]، أي رئيس الكهنة اليهودي الذي اضطهده أنطيوخس أبيفانس. ويرى القديس جيروم أنه يقصد برئيس الجند الله نفسه[209] رب الجنود، فقد وقف أنطيوخس ضده، ولم يترك جزءً من الهيكل مقدسًا لعبادة الله الحيّ، بل دنّس كل الهيكل وملحقاته. وإذ منع تقديم المحرقة الدائمة endelekhismos، صار هيكل الرب كأنه غير قائم. يقول القديس جيروم أن أنطيوخس فعل هذا ليس بسبب شجاعته وإنما بسبب خطايا الشعب[210]. هذا كله يحمل رمزًا لما سيفعله ضد المسيح الذي يُقيم نفسه إلهًا.
ولا يقف الأمر عند مقاومة عبادة الله، وإنما يمتد إلى إفساد التعاليم الإلهية، إذ يقول عنه أنه "طرح الحق على الأرض" [12]. هكذا تربط الرؤيا بين العبادة والتعليم السليم. من جانب آخر فإن عدو الخير يستطيع أن يطرح الحق على الأرض، لكنه لا يقدر أن ينتزعه عن السماء. وكأن من يحيا في السماويات يحمل بجوار العبادة الروحية الحق ذاته فيه.
إذ ارتفع قلب دانيال إلى السماء رأى ملاكًا (قدوسًا) يسأل ملاكًا آخر، وإن كان البعض يرون أنه يسأل كلمة الله: "إلى متى الرؤيا من جهة المحرقة...؟" فالملائكة لا يعرفون كل الأسرار (أف 3: 10)، لكن في حبهم للبشرية واشتياقهم إلى كمال مجدهم يتساءلون عما يخص الكنيسة، ولعلهم خشوا أن تطول مدة الضيقة فيفقد المؤمنون إيمانهم وأكاليلهم.
اختلف الدارسون في أمر هذا القرن الصغير:
أ. يرى البعض أنه هو بعينه القرن الصغير الوارد في الاصحاح 7.
ب. آخرون يميِّزون بين الاثنين، فيرون أن القرن الصغير الوارد في الاصحاح 7 يُشير إلى ضد المسيح، بينما المذكور هنا يُشير إلى أنطيوخس أبيفانيس الذي اعتبره البعض "ضد المسيح" لفترة العهد القديم.
ج. هناك رأي يوفق بين الرأيِّين السابقين وهو أن ما ورد هنا في الاصحاح الثامن يُشير إلى أنطيوخس الذي بدوره يُشير إلى ضد المسيح، وكأن ما ورد في الاصحاح السابع يُشير إلى ضد المسيح بصورة مباشرة، أما هذا الاصحاح فهو يُشير إليه بطريقة غير مباشرة.
أما عن المدة الخاصة بتبرئة القدس أو تطهيره، وهي 2300 صباحًا ومساءً؛ لئلا تُفهم على أن اليوم هنا رمز لسنة يقول: "صباحًا ومساءً"، فيعني 2300 يومًا حقيقيًا. يرى القديس جيروم أنها تعادل 6 سنوات وثلاثة شهور، وهي تمثل المدة من بدء مقاومة أنطيوخس للعبادة حتى انتصر يهوذا المكابي عليه[211]. بينما يرى القديس هيبوليتس الروماني أن 2300 صباحًا ومساءً تعني 1150 يومًا (2300÷2)، حيث مُنعت الذبيحتان اليوميتان (الصباحية والمسائية) أثناء الاضطهاد، وهي تُعادل حوالي ثلاث سنوات ونصف، حيث طهر يهوذا المكابي الهيكل بعد تدنيسه بواسطة أنطيوخس.
كثير من المفسرين يرون أن 2300 صباحًا ومساءً تؤكد أنها أيام حقيقية، وهي تعادل 6 سنوات و4 شهور و20 يومًا نبويًا حيث أن السنة في الكتاب المقدس تعادل 360 يومًا نبويًا، والشهر 30 يومًا. هذه هي المدة الفعلية التي تبدأ من 5 أغسطس 71 ق.م، أي من بدء معصية الخراب، حيث تعين ياسون رئيس كهنة بالدسائس، وتعهد الملك بأن يدفع له 260 وزنة فضة إذا صرح له بإنشاء محل لتعليم شبان اليهود عادات الوثنيِّين وتسميتهم بالأنطيوخيِّين، فأذن له بذلك. وبالفعل أدخل عادات الوثنيِّين بين قومه وتزيوا بزيِّهم، ولبسوا قبعاتهم، فازدرى الكهنة بهيكل الله وذبائحه، وانشغلوا بالألعاب اليونانية، وفضلوها على كل شيء. وكما جاء في سفر المكابيِّين: "وفي تلك الأيام خرج من إسرائيل أبناء لا خير فيهم، فأغروا الكثيرين بقولهم: هلمُّوا نعقد عهدًا مع الأمم التي حولنا، فإننا منذ انفصلنا عنهم لحقنا شرور كثيرة؛ فحسن الكلام في عيونهم... وارتدّوا عن العهد المقدس، واقترنوا بالأمم، وباعوا أنفسهم لعمل الشرّ" (1 مك 1: 11-15). فإذا حُسبت نبوة دانيال من هذه الحادثة حتى إعادة العبادة إلى أصلها وتطهير المقدس في 25 ديسمبر 165 تكون المدة 2300 يومًا تمامًا. بمعنى آخر ما ورد هنا تشمل المدة التي حلّت فيها كل الكوارث على الهيكل في أيام أنطيوخس إبيفانُس من أول معصية الخراب إلى انتهاء مدة أبطال المحرقة الدائمة، حيث خلّص يهوذا المكابي اليهود من أنطيوخس.
أما الأحداث المؤلمة التي تعرضت لها أورشليم في ذلك الحين فهي:
أ. تعيين ياسون رئيسًا للكهنة واشتراكه مع أنطيوخس في الرجاسات الوثنية.
ب. هجوم أنطيوخس على أورشليم ودخوله الهيكل ونهبه نفائس وتقديم خنزير على المذبح (1 مل 1: 20-28).
ج. بعد سنتين إذ شاع خطأ خبر موته فتهلل اليهود، أرسل إليهم أبولونيس أحد قواده، فنكَّل بالمدينة ثم أحرقها ودكَّ أسوارها وبنى بأطلالها قلعة منيعة على جبل مطل على الهيكل (1 مك 2: 29؛ 2 مك 5: 11-14).
د. منع رسميًا تقديم المحرقات والذبائح في الهيكل (1 مك 44: 51) وكان ذلك في شهر يونيو 197 ق.م.
بخصوص ما حلّ باليهود على أيدي أنطيوخس إبيفانُس نميِّز بين مدتين رئيسيتين:
أ. مدة 2300 يومًا تضم كل الأحداث السابقة، تبدأ بتوليّة ياسون رئيس كهنة وتنتهي بنصرة يهوذا المكابي.
ب. مدة 1290 يومًا، أو حوالي ثلاث سنوات ونصف تبدأ بإزالة المحرقة الدائمة وإقامة تمثال جوبتر في الهيكل وتدنيس المقدس بعد استيلاء أنطيوخس على أورشليم بواسطة قائده أبولونيس[212].
5. تفسير الرؤيا:
"وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا، وطلبت المعنى،
إذ بشبه إنسان واقف قُبالتي.
وسمعت صوت إنسان بين أولاي، فنادى وقال:
يا جبرائيل فَهِّم هذا الرجل الرؤيا" [15-16].
اشتهى دانيال النبي تفسير الرؤيا بصورة أكمل، فقد عرف القليل، لكن لنفعه ولنفع الكنيسة ككل اشتهى أن يبحث عن المعنى، وقبل أن يسأل رأي "شبه إنسان" [15]؛ غالبًا ما يكون كلمة الله قبل التجسد الذي له سلطان أن يأمر رئيس الملائكة جبرائيل لكي يفسر له الرؤيا [16]. وكأن الله الذي يعرف خفايا القلب، إذ يرى الداخل مشتاقًا نحو الحق يقدمه له بفيضٍ، ويطلب من خدامه السمائيِّين أن يكشفوا له بعض الأسرار الخفية.
"فجاء إلى حيث وقفت،
ولما جاء خفت وخررت على وجهي.
فقال ليّ: افهم يا ابن آدم.
إن الرؤيا لوقت المنتهى.
وإذا كان يتكلم معي كنت مُسبَّخَا (في نومٍ عميقٍ) على وجهي إلى الأرض،
فلمسني وأوقفني على مقامي.
وقال: هأنذا أُعرفك ما يكون في آخر السخط.
لأن لميعاد الانتهاء" [17-19].
يبرر القديس جيروم دعوة دانيال "ابن آدم" بقوله: [إذ رأى حزقيال ودانيال وزكريا أنفسهم إنهم غالبًا ما كانوا في صحبة ملائكة، كانوا دائمًا يُذكرون بضعفهم حتى لا يرتفعوا بالكبرياء، ويظنوا إنهم يشاركون في طبيعة الملائكة أو كرامتهم. لذلك كانوا يُدعون كأبناء البشر (أبناء آدم)، ليتحققوا إنهم ليسوا إلاَّ كائنات بشرية[213]].
إذ اقترب رئيس الملائكة من دانيال سقط النبي في رعبٍ. ولعل دانيال اكتشف خطورة الرؤيا، واهتمام الله بكشف أسرارها له عن طريق رئيس الملائكة، فاستقبل هذا التفسير في خوفٍ ومهابةٍ. وقد سجل لنا ذلك كي لا نستهين بالرؤيا أو نستخف بتفسيرها، بل يلزم أن تستعد أذهاننا كما حياتنا للتعرف عليها بروح الاجتهاد والجدية. أوضح الملاك له أن هذه الرؤيا "لوقت المنتهى" [17]، أي تخص المستقبل. هنا ربما يقصد إتمامها في أيام أنتيخوس وبالأكثر قُبيل مجيء المسيح الأخير. أنه يؤكد أن الرؤيا ستتحقق حتمًا وبالتمام، ولكن في الوقت المناسب والمحدد لها.
أقامه رئيس الملائكة من نومه العميق، ليتقد ذهنه بالمعرفة، وطمأنه، كما أكد له هلاك هذا القرن الصغير. قيل أن أنطيوخس قد مات شر ميتة، حيث كان الدود يضرب في جسمه مثل هيرودس أغريباس الأول (أع 12). وهكذا سيُضرب أيضًا ضد المسيح وتهلك مملكته.
"أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادي وفارس.
والتيس العافي ملك اليونان، والقرن العظيم الذي بين عينيه هو الملك الأول.
وإذ انكسر وقام أربعة عوضًَا عنه،
فستقوم أربع ممالك من الأمة ولكن ليس في قوته.
وفي آخر مملكتهم عند تمام المعاصي يقوم ملك جافي الوجه وفاهم الحيل.
وتعظم قوته، ولكن ليس بقوته.
يُهلك عجبًا وينجح ويفعل ويُبيد العظماء وشعب القديسين.
بحذاقته ينجح، أيضًا المكر في يده،
ويتعظم بقلبه، وفي الاطمئنان يُهلك كثيرين،
ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر" [22-25].
سبق لنا شرح ما ورد في العبارات السابقة. هنا يؤكد رئيس الملائكة لدانيال معنى الكبش والتيس، نازعًا أدنى شك من جهة تفسيرهما.
هنا يدعو أطيوخس ملكًا جافي الوجه، أي أنه ملك ذو وجهٍ قاسٍ لا يلين، كما يدعوه فاهم الحيل أو الأحاجي، لأنه كان بارعًا في الخداع.
تنبأ دانيال النبي عن أنطيخوس قائلاً: أنه بالسلام أو الاطمئنان يُهلك كثيرين [25]، وقد تحقق ذلك عندما أرسل قائده ومعه 22000 رجلاً إلى أورشليم كإرسالية سلام. وكان هؤلاء الجنود يدخلون ويخرجون حتى اطمأن لهم اليهود، وكان الرجال يُعاملون الشعب بلطف شديد، فلم يتشككوا في أمرهم. وفي يوم السبت إذ كان اليهود يعبدون في الهيكل صدرت الأوامر بقتلهم جميعًا، فقُتل الآلاف، وهكذا بالاطمئنان أهلك كثيرين[214].
تنبأ أيضًا دانيال النبي عن قيامه ضد رئيس الرؤساء وانكساره بغير يد بشرية [25]، وقد تم ذلك حين قاوم أنطيوخس أبيفانس الله نفسه، رئيس الرؤساء وملك الملوك. وبقي هكذا لمدة أكثر من 6 سنوات (2300 يومًا). قاومه المكابيُّون، وعلى أيديهم تطهَّر الهيكل وتحققت النصرة عليه. سمع أن اليهود تحت قيادة المكابيِّين قد أزالوا تمثال جوبتر أوليمبياس من الهيكل الذي وضعه بنفسه هناك، فثار جدًا وجمع جيشًا ضخمًا وقرر إبادة الجنس اليهودي تمامًا، لكنه أصيب بألم حادٍ جدًا في أحشائه، ومات حالاً من شدة الألم، وهكذا هلك بسماحٍ إلهي دون استخدام يد بشرية[215].
"فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق.
أما أنت فاكتُم (اختم على) الرؤيا لأنها إلى أيام كثيرة.
وأنا دانيال ضَعفت ونحلت أيامًا، ثم قُمت وباشرت أعمال الملك.
وكنت متحيِّرًا من الرؤيا ولا فاهم" [26-27].
بقوله: "فرؤيا المساء والصباح التي قيلت هي حق" [26]، يعني أن الرؤيا هي حق بوجهها المظلم حيث الضيقة الشديدة، ووجهها المشرق حيث يُعلن الله عن نصرة شعبه.
لم يحتمل دانيال الرؤيا فصار مريضًا غير قادرٍ على مفارقة الفراش وذلك إلى أيام. ولكنه كان مرتعبًا مما سيحل بالكنيسة سواء في عهد أنطيوخس أو ضد المسيح. لكنه كما يقول القديس جيروم[216]: [قام ليباشر أعمال الملك، فيعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله (لو 20: 25).
على أي الأحوال لم يُدرك دانيال كل أسرار الرؤيا، ومستقبل ختومها مع الأزمنة، إذ يقول: "كنت متحيِّرًا من الرؤيا ولا فاهم" [27].
الإمبراطوريات الأربع في سفر دانيال
دانيال 2 |
دانيال 7 |
دانيال 8 |
|
|
الرأس الذهبي |
أسد مجنح |
- |
البابلية |
626 ق.م |
صدر وأذرع من الفضة |
دب |
كبش |
مادي وفارس |
539 ق.م |
البطن والفخذان من النحاس |
نمر |
تيس |
اليونانية [تضم البطالسة والسلوقيُّون]. [المكابيُّون] |
330 ق.م
167 ق.م |
رجلان من حديد |
حيوان مرعب |
- |
الرومانية |
63ق.م |
وقدمان من الطين |
لا شبيه له |
|
|
|
|
|
|
سقوط أورشليم |
70ق.م |
من وحيّ دانيال 8
صرت متحيِّرًا ولا فاهم!
v رافق جبرائيل رئيس الملائكة نبيك دانيال،
وقدم له تفسيرًا لبعض أسرارك،
وها هو يصرخ بعد أن انحلّ جسده في ضعفٍ:
كنتُ متحيِّرًا من الرؤيا ولا فاهم!
v لتكشف ليّ أسرار حبك،
فأرى التاريخ كله في قبضة يديك،
وأرى حياتي كلها موضوع اهتمامك!
هب ليّ صحبة ملائكتك،
لكن ذكرني بضعفي لئلاَّ أتشامخ.
اذكر إنيَّ ابن آدم الضعيف.
بك أصير قويًا وفهيمًا!
v لتتعاقب الممالك القوية،
ويظهر ضد المسيح،
فأنت وحدك حصن الكنيسة وقوتها!
لن تسمح له أن يملك إلاَّ إلى زمن محدود!
تنتهي مملكته، ويملك قديسوك في السماء إلى الأبد!
إذ كان دانيال يحمل في قلبه حبه لشعبه، بل ولكل البشرية، وهبه الله نعمة الحكمة والفهم مع النبوة. كشف للملوك أحلامهم وفسرها لهم، كما أُعلن له عن رؤى تخص الأحداث المستقبلية الخاصة بالعالم كله. الآن في شيخوخته، إذ لاحظ أن الله سبق فوعد بالعودة من السبي بعد سبعين عامًا كما جاء في سفر إرميا، بدأ يسأل بروح الاتضاع عن هذا الوعد الإلهي، يطلب من الله الصفح عن خطايا شعبه، وتحقيق وعده معهم، فوهبه الله رؤيا السبعين أسبوعًا، يعلن له فيها ليس فقط عن عودة الشعب إلى أورشليم، بل وعودة البشرية إلى الأحضان الإلهية، بتحديد موعد التجسد الإلهي وتقديم ذبيحة المسيح الفريدة.
جاءت هذه النبوة المسيحانية تصحح مفاهيم اليهود، فإنهم إذ كانوا ينتظرون العودة من السبي لإقامة مملكة يهودية مجيدة، أكد لهم أن كلمة الله المتجسد آتٍ ليُقيم مملكته بذبيحة نفسه، فيهب المؤمنين مجدًا داخليًا، لا مملكة زمنية.
1. دانيال دارس النبوات [1-2].
2. دانيال رجل الصلاة [3-19].
3. استجابة الصلاة [20-23].
4. رؤيا السبعين أسبوعًا [24-27].
1. دانيال دارس النبوات:
"في السنة الأولى لداريوس بن أحشويرش من نسل الماديِّين الذي ملك على مملكة الكلدانيِّين" [1].
تمت أحداث هذا الأصحاح بعد سقوط بابل، في السنة الأولى من حكم داريوس بن أحشويرش أو Astyages كما يدعوه المؤرخ زينوفون، أي تقريبًا في ذات التاريخ الذي للأصحاح السادس، حوالي سنة 537 ق.م، قبل أن يسمح كورش لليهود بالعودة إلى أورشليم بسنة. كان اسم أحشويرش شائعًا بين كثير من ملوك مملكة فارس ومادي.
بالقول "الذي مُلك made king" يعني أن داريوس لم يصر ملكًا ببسالته، إنما وُهب له المُلك من آخر؛ أي من كورش ابن أخته وزوج ابنته.
"في السنة الأولى من مُلكه،
أنا دانيال فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمال سبعين سنة على خراب أورشليم" [2].
يظهر دانيال ليس كنبي فحسب، لكنه أيضًا كدارسٍ للنبوات (إر 25: 9-11؛ 29: 10؛ 31: 38؛ 2 أي 36: 21)، يدرس كلمة الله والنبوات، ويمزج دراسته بالصلاة، مقدمًا ثلاث صلوات كل يوم. لم تكن دراسته لإشباع لذة فكرية، أو كحب استطلاعٍ ليتعلم شيئًا جديدًا، ولكن للتمتع بوعود الله. كان دانيال قد كبر في السن، وأُحيل على المعاش، قضى حوالي 69 عامًا في السبي منذ عام 606 ق.م إلى عام 537 ق.م (حتى لحظات هذه الرؤيا)؛ أما قلبه فلم يشخْ قط، ولا اعتزل العمل الإلهي كرجل الله، بل مع الزمن كانت نفسه تمتلئ قوة ورجاءً في مواعيد الله الصادقة. لهذا التجأ دانيال إلى الكتاب المقدس، يجد فيه كنز هذه المواعيد التي يتمسك بها. هذا وقد مزج دراسته للكتاب بحياة النسك والصلاة بروح الانسحاق أمام الله.
"أنا دانيال فهمت من الكتب" [2]. يزعم بعض النقاد المتحررين أن كلمة "الكتب" جاءت مُعرَّفة في اللغة العبرية، وهذا يعني أن دانيال النبي كان يتحدث عن قانونٍ كاملٍ لأسفار العهد القديم، في حين أنهم يزعمون أن هذا القانون لم يتم إلاَّ في القرن الثاني ق.م، وما يدعيه النقاد مبني على أفكار القرون الثلاثة الماضية وقد أثبتت الدراسات العلمية والأبحاث بطلان هذه المزاعم:
أولاً: لم يكتب الأنبياء أسفارهم لكي يخفوها حتى يأتي من يضعها في القانون كما توهم النقاد، وإنما كان الشعب يحفظ ما جاء في أسفار الأنبياء قبل أن تُكتب، لأن ما بها من إعلانات أُعلنت على الشعب أولاً ثم دُونت في أسفارٍ بالروح القدس بعد ذلك.
ثانيًا: كانت هذه الأسفار تُجمع في الهيكل ومع الأفراد، خاصة الأنبياء وعلماء الدين. وبالطبع فإن كل ما سبق فكُتب قبل دانيال كان معه نسخة منه. كانت النسخة الأصلية توضع دائمًا في الهيكل، كما وُجدت نسخ عديدة في المجامع التي أُنشئت في السبي للعبادة اليهودية وكبديلٍ مؤقت للهيكل[217].
2. دانيال رجل الصلاة:
إذ فتح دانيال الكتاب المقدس واكتشف كنوز المواعيد السمائية أدرك أن التمتع بهذه الكنوز يحتاج إلى الصلاة الممتزجة بالصوم مع الاتضاع والانسحاق. لقد كشف هذا السفر في أكثر من موضع عن شخصية دانيال كرجل صلاة. يُلاحظ في صلاته هنا الآتي:
أ. الصلاة كلقاء حيّ مع الله:
إذ يعلم أنه لم يكن هو أو شعبه مستعدًا روحيًا لتحقيق ما وعد به الله، التجأ إلى الله يعترف بخطاياه كما يعترف ببرّ الله [3-14]. بهذا يعترف دانيال أنه ينتظر العمل الإلهي ليس عن استحقاقٍ خاصٍ به أو بالشعب، أي ليس عن برٍّ بشري [18].
"فوجهت وجهي إلى الله السيِّد،
طالبًا بالصلاة والتضرعات، بالصوم والمسح والرماد" [3].
الصلاة بالنسبة لدانيال ليست عملاً روتينيًا أو واجبًا يلتزم به، إنما هي تمتع برؤية وجه الله بعينيْ القلب، إذ يقول: "وجّهت وجهي إلى الله"، حتى يدخل معه في حوارٍ، بروح الحب والاتضاع. بهذا حقق ما قاله سليمان الحكيم يوم تدشين بيت الرب: "إذا أخطأوا إليك، لأنه ليس إنسان لا يخطئ، وغضبت عليهم ودفعتهم أمام العدو، وسباهم سابوهم إلى أرض العدو، بعيدة أو قريبة، فإذا ردوا إلى قلوبهم في الأرض التي يُسبون إليها، ورجعوا وتضرعوا إليك في أرض سبيهم، قائلين: قد أخطأنا وعوِّجنا وأذنبنا، ورجعوا إليك من كل قلوبهم، ومن كل أنفسهم في أرض أعدائهم الذين سبوهم، وصلُّوا إليك نحو أرضهم التي أعطيت لآبائهم، نحو المدينة التي اخترت، والبيت الذي بنيت لاسمك، فاسمع في السماء..." (1 مل 8: 46-48).
ب. لم ينقص دانيال الإيمان أن الله يُحقق مواعيده:
v سأل دانيال الله بمسحٍ ورمادٍ لكي يحقق وعده، ليس لأن دانيال كان ينقصه الإيمان بخصوص ما سيحدث في المستقبل، بل بالأحرى أراد أن يتجنب خطر الشعور بالأمان الذي يولد لامبالاة، واللآمبالاة تولد عصيانًا لله[218].
ج. الشعور بالعلاقة الشخصية مع الله، فيدعو: "الرب إلهي" [4، 20]. فإن كان يعترف بخطاياه هو وشعبه، لكنه يتقدم لله لا في رعبٍ، بل في ثقة ويقين بالله صديقه الشخصي والمنتسب إليه، واهب الوعود الصادقة.
"وصليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت:
أيُّها الرب الإله العظيم المهوب،
حافظ العهد والرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه" [4].
v "وصليت إليك... أيها الرب الإله القدير المهوب"، بمعنى: أنت مخوف للذين يستخفون بوصاياك[219].
د. الشعور بمشاركته شعبه خطاياه، فلا يلقي باللوم عليهم وحدهم، بل وعلى نفسه معهم. يُقدم لنا دانيال النبي مادة صلاته واعترافه، وهو يمزج بينهما، إذ يعترف في اتضاعٍ بعظمة الله المهوب ومراحمه كما يعترف بخطاياه هو وشعبه. يبدأ صلاته بالاعتراف بمجد الله وعنايته الفائقة بشعبه.
لقد عرف دانيال أن الله يُتمم مواعيده لحافظي وصاياه. هذا ويربط الكتاب المقدس بين العهد الإلهي والمراحم الإلهية، إذ أقام العهد معتمدًا على مراحمه. عبر كل العصور يشعر المؤمن أن الله أمين في مواعيده وصادق ورحوم، إنما يليق بالمؤمن أن يعد نفسه للتمتع بالمواعيد الإلهية والمراحم. وذلك بإعلان إيمانه وثقته في الله مع توبته عن خطاياه. يقول الرسول: "أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا" (1 كو 1: 9)، "ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 10: 13). "أمين هو الرب الذي سيثبتكم ويحفظكم من الشرير" (2 تس 3: 3).
"أخطأنا وأثِمنا وعملنا الشرّ،
وتمرَّدنا، وحِدنا عن وصاياك وعن أحكامك" [5].
إذ يستمر النبي في الاعتراف بخطاياه يُعلن أن ما حلّ به وبشعبه إنما بسبب خطاياهم، فالسبيّ هو تأديب عادل بسبب العصيان. ليس من حقهم التذمُّر على وحشية العدو الذي سباهم وما لحق بهم من أضرارٍ مادية وعارٍ وخزي. هذا وكثيرًا ما ينسب خطايا الشعب إليه، وكما يقول القدِّيس جيروم: [كان يتطلع إلى خطايا الشعب كما لو كان قد ارتكبها هو شخصيًا على أساس أنه واحد منهم، كما نقرأ هكذا عن الرسول في الرسالة إلى أهل رومية[220]].
إذ نقترب إلى الله بالصلاة مع الاعتراف لا نظن أننا ننال شيئًا بصلواتنا، لكننا كمجرمين في حقه نسترضيه بإيماننا بحبه ومراحمه وبره.
استخدم دانيال النبي أكثر من تعبير في اعترافه بالخطايا، منها:
· أخطأنا chetanu، ولعلها ترتبط بكلمة "شيطان"، لأن طبيعة الشيطان بعد سقوطه هو أن يُخطئ في حق الله. ونحن إذ نخطئ، نرفض أبوة الله، لنعلن البنوة للشيطان. وكما قال السيِّد المسيح لليهود المخطئين: "أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44).
· أثِمنا، أي ارتكبنا الإثم أو الظلم.
· عملنا الشرّ، صار سلوكنا غير لائق.
· تمردنا reshegn، والتمرد أشر من الخطية، لأن فيه تحدي لوصية الله وأحكامه. ففي التمرد رفض للنور الإلهي المقدم لنا، كقول المرتل: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 119: 105)، وقبول للظلمة عن معرفة وبإرادة، وليس عن ضعفٍ أو جهلٍ.
وما سمعنا من عبيدك الأنبياء،
الذين باسمك كلموا ملوكنا ورؤساءنا وآباءنا وكل شعب الأرض" [6].
لم يُقدم النبي تبريرًا للخطأ، بل على العكس يبرر تأديب الله الذي حذرهم عن طريق أنبيائه. هذا وقد اشترك الكل في الخطأ، سواء على مستوى القيادات المدنية أو الدينية أو على المستوى الشعبي، فقد اندفع الكل نحو الشرّ بصورة جماعية.
"لك يا سيِّد البرّ.
أما لنا فخزْي الوجوه، كما هو اليوم.
لرجال يهوذا ولسكان أورشليم ولكل إسرائيل، القريبين والبعيدين، في كل الأراضي التي طردتهم إليها من أجل خيانتهم التي خانوك إياَّها" [7].
إن كانوا قد سقطوا تحت الغضب الإلهي، ففي غضبه هو بار، أما هم فيليق بهم خزْي الوجوه، أي السقوط بوجوههم أمامه معترفين بخطأهم. وكما يقول الرسول: "ليكن الله صادقًا، وكل إنسانٍ كاذبًا، كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك، وتغلب متى حوكمت" (رو 3: 4). لا نستطيع أن نمجد الله، خاصة ونحن ساقطون تحت التأديب ما لم نكتشف خطايانا ونعترف بها وندرك حكمته من تأديبنا.
يقصد بالقريبين والبعيدين يهوذا وإسرائيل، حيث سُبي إسرائيل منذ زمن بعيد وتشتتوا أكثر من يهوذا. هؤلاء طردوا من أراضيهم بسبب الخيانة، لذا لاق بهم ألاَّ يرفعوا وجوههم، بل في خزي يعترفون للرب.
"يا سيِّد لنا خزي الوجوه لملوكنا لرؤسائنا ولآبائنا،
أخطأنا إليك.
للرب إلهنا المراحم والمغفرة، لأننا تمردنا عليه" [8-9].
يعود فيُكمل النبي اعترافه أمام الله عن نفسه وعن الشعب بقياداته. حقًا لقد استحق الكل خاصة الملوك والعظماء والآباء خزْي الوجوه. وكما جاء في إشعياء: "كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس، وليس فيه صحة، بل جُرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت" (إش 1: 6).
وما سمعنا صوت الرب إلهنا لنسلك في شرائعه،
التي جعلها أمامنا عن يد عبيده الأنبياء.
وكل إسرائيل قد تعدى على شريعتك،
وحادوا لئلاَّ يسمعوا صوتك،
فسكبت علينا اللعنة والحلف المكتوب في شريعة موسى عبد الله،
لأننا أخطأنا إليه" [10-11].
ارتكب إسرائيل خطأين خطيرين:
أ. عدم الطاعة لشريعة الله التي أُعلنت لهم، والتي صارت بين أيديهم. ليس فيها شيء غامض أو موضع شكٍ، فقد أعلن الله عن برّه وإرادته ووصاياه بكل وضوح خلال شرائعه. هذا يجعل الشعب مستحقًا لعقوبة مضاعفة.
ب. لم ينصتوا لصوت الأنبياء الذين حذروهم [6].
لم يحاول دانيال أن يبرر خطأ الشعب، بل أكد أمانة الله في مواعيده وعدم تقصيره من جهة شعبه. مرة أخرى يؤكد أن التعدي كان جماعيًّا. انسكبت اللعنة على الشعب بكل فئاته كفيضان لا يمكن الهروب منه. يستخدم هنا كلمة "سكبت tittach" وهي تستخدم في صهر المعادن وسكبها على أجسام المجرمين، هكذا كانت إحساسات المسبيِّين من جهة مرارة السبي والحرمان من بلادهم وهيكلهم وحريتهم. وهكذا كانت نفوسهم مُرّة من جهة تأديبات الله لهم. لكن الله سبق فحذرهم، باسطًا يديه إليهم منذ أجيال طويلة، بل منذ نشأة هذا الشعب في أيام موسى القائد الأول لهم. أنهم بلا عذر! هذا وقد حسب النبي كل خطية مهما كان دافعها موجهة ضد الله نفسه [11].
يعلق القدِّيس جيروم على هذه العبارة قائلاً: ["وسكبت علينا (اللعنة) قطرة قطرة" (11 LXX)، بمعنى لا تسكب علينا كل غضبك، لأننا لا نقدر أن نحتمله، بل تسكب مجرد قطرة من غضبك لكي نعود إليك عندما نسقط في شبكتك[221]].
"وقد أقام كلماته التي تكلم بها علينا،
وعلى قضاتنا الذين قضوا لنا،
ليجلب علينا شرًا عظيمًا،
ما لم يُجْرَ تحت السموات كلها كما أُجْرِيَ على أورشليم" [12].
كأن ما حلّ بالشعب من تأديبات إنما هو تثبيت لما سبق أن أنبأ به على لسان موسى النبي منذ زمن بعيد. لقد سبق فحذر ليس فقط عامة الشعب، ولكن حتى الذين وهبهم حق القضاء؛ فإنه ليس أحد فوق القانون الإلهي. ليس لجسدٍ أن يفتخر أمام الله، ولا يعفيه مركزه المدني أو الديني من التأديب الإلهي. لقد نال القادة سلطانًا من الله، لكن في حدود ناموسه وإرادته. السلطان الممنوح من الله لا يتستر على خطاياهم، ولا يحميهم من التأديب.
لقد امتدت فترة السبي إلى سبعين عامًا، لكن لم يتحرك الشعب بالتوبة، ولا رجعوا عن آثامهم وقبلوا الحق الإلهي.
لقد اختار الرب أورشليم مدينة مقدسة له، لكنها إذ أخطأت وعصت وأصرت على عدم التوبة، صار تأديبها عظيمًا، لم يُسمع عنه من قبل في كل المسكونة [12].
"كما كُتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشرّ،
ولم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا،
لنرجع من آثامنا، ونفطن بحقِّك" [13].
يعترف دانيال النبي أن تأديب الرب حلّ بهم، ومع هذا لم ينتفعوا من هذا التأديب، للأسباب التالية:
أ. لم يتضرعوا إلى وجه الرب. حقًا لقد مارسوا صلوات كثيرة، سواء الذين بقوا في مدن إسرائيل ويهوذا أو الذين سُبوا؛ مارس الكهنة والقادة والشعب صلوات جماعية وفردية وعائلية، لكنها في عينيْ الله لا تُحسب تضرعًا إلى وجه الرب. مارسوا الشكليات الظاهرة في رياء، أما قلوبهم فلم ترتفع نحو السماء، ولا دخلت في حوارٍ حيٍّ مع الله. لم تصدر صلواتهم عن إيمانٍ حيٍّ، ولا عن حياة توبة صادقة.
ب. لم يرجعوا عن آثامهم؛ الأمر الذي حرمهم من اللقاء مع القدوس، وحجب صلواتهم عنه.
ج. لم يفطنوا بحق الله، إذ سلكوا بحكمة بشرية زمنية، واستهانوا بالحكمة الإلهية. لم تدفعهم سياط التأديب إلى الحكمة، بل بقوا في غباوتهم. بقوله: "لنرجع من آثامنا، ونفطن بحقِّك" [13]. يربط بين الحياة المقدسة والإيمان المستقيم أو الحق الإلهي؛ كما يربط بين السلوك الشرير والانحراف عن الحق. يقول القدِّيس جيروم: [لتحسب حق الله معادلاً للرجوع عن الشر[222]].
يربط النبي الصلاة أو التضرع إلى وجه الرب بالرجوع عن الإثم مع التمتع بالحكمة الإلهية النابعة عن الحق الإلهي.
"فسهر الرب على الشرّ وجلبه علينا،
لأن الرب إلهنا بار في كل أعماله التي عملها،
إذ لم نسمع صوته" [14].
"سهر" seked الرب؛ يُستخدم هذا الفعل ليعني يقظة الذهن والاهتمام بكل شيء، لهذا يُستخدم بالنسبة للحراس الذين يسهرون ليل نهار في يقظة لحراسة المدن. يُستخدم هنا ليُعلن أن ما حدث من كوارث لم يأتِ مصادفة، لكن الله الحارس للنفس والمهتم بخلاصها يسمح بحكمته أن تحل الضيقة أو ما نظنه شرًا. لقد أطال أناته إلى أجيال طويلة، وفي الوقت المناسب سمح بالسبي لبنيان شعبه بالتأديب، حتى وإن بدى قاسيًا.
v كلما نُوبخ على خطايانا، يسهر الله علينا، ويفتقدنا بالتأديب. لكن عندما يتركنا الله وحدنا ولا نعاني من التأديب نكون غير أهلٍ لتوبيخ الرب، لهذا قيل أنه ينام. حسنًا نقرأ في المزامير: "يقوم الرب كمن هو نائم، كالثامل من الخمر" (مز 78) [223].
أكد دانيال في كل السفر خطورة الاعتقاد بأن ما يحلّ بنا من ضيق جاء عارضًا نتيجة أحداث جُزافية. فإنه لا يوجد ما يُدعى بالحظ، إنما تسير كل الأمور خلال يدّ الله ضابط الكل، وإلاَّ نكون قد سلبنا الله عنايته الفائقة بخليقته، وأسأنا إلى قدرته وعدله.
إنه في وسط ضيقتنا يود تأكيد أنه "الرب إلهنا"، المهتم بنا، يليق بنا أن نسمع صوته؛ أي نفهم خطته، وننصت إلى تعاليمه، ليس فقط خلال الوصايا، بل وخلال التأديب والألم! أنه يدخل بنا إلى مدرسة التأديب ويكشف لنا عن فلسفة الألم!
"والآن أيها السيِّد إلهنا،
الذي أخرَجْت شعبك من أرض مصر بيدٍ قوية،
وجعلت لنفسك اسمًا كما هو هذا اليوم،
قد أخطأنا، عملنا شرًا [15].
إذ اعترف دانيال النبي عن خطاياه وخطايا شعبه، كما اعترف أنه بعدلٍ سقطوا تحت التأديب، يعلن عن ثقته في الله مخلص شعبه، إذ حمل خبرة الخلاص حين أخرج الشعب من أرض مصر بيدٍ قوية، الآن يستطيع أن يخرج بهم من بابل، لكي يتمجد اسمه القدوس. آمن دانيال النبي أن الله الذي عمل في القديم لا يزال يعمل الآن.
"يا سيِّد حسب كل رحمتك،
اصرف سُخطك وغضبك عن مدينتك أورشليم جبل قُدسك،
إذ لخطايانا ولآثام آبائنا صارت أورشليم وشعبك عارًا عند جميع الذي حولنا" [16].
إن كانت خطايانا عظيمة وشرورنا كثيرة ونستحق الموت مئات المرات، لكن مراحمك أيضًا غير محصاة، لذا نطلب "كل" رحمتك.
إذ ندخل بجرأة أمام عرش رحمتك، تصرف غضبك عن مدينتك التي نعتز بها، وعن جبل قدسك الذي اخترته لنتقدس نحن فيه، إذ عليه نُقدم لك الذبائح المرضية أمامك.
فاسمع الآن يا إلهنا صلاة عبدك وتضرعاته،
وأضيء بوجهك على مقْدِسك الخرب من أجل السيِّد" [17].
كأنه يقول له: قدم لنا الدليل على مصالحتك لنا بإشراق نور وجهك علينا، فنضيء بك. لم يطلب من الله أن يسمح لهم ببناء الهيكل الذي خُرب، وإنما أن يشرق بنوره على الهيكل، فإنه ليس بالحجارة يُبنى بيت الرب، بل بسكناه فيه ورضاه على شعبه.
يختم الصلاة بطلب تدخل الله السريع ليس عن شعور بالاستحقاق وإنما من أجل نعمة الله. لم يطلب من الله الرحمة من أجل ذاته، ولا من أجل إسرائيل، وإنما من أجل الله نفسه، لكي يتمجد اسمه، إذ يرى الأمم عجائبه معهم. لم يجد دانيال ما يُقدمه لله ليبرر التمتع بمراحمه، إنما يجد في الله المحب إمكانية العطاء بسخاء.
"كل رحمة الله" [16]... فمراحم الله عظيمة [18]، ومتسعة وتغفر كل خطايانا وعصياننا.
· "من أجل مدينة الله جبل قدسه" [16]، فقد صارت في عاٍر بسبب خطايانا، لكنها هي مدينة الله وجبل قدسه. هنا تظهر إحساسات الرسول بالحرمان الشديد والمرارة، لأن مدينة الله والهيكل المقدس يحتلان قلبه، وقد حُرم منهما.
· "من أجل السيِّد" [17]، أي من أجل الله نفسه.
· "من أجل اسمه" الذي دعيَ على الشعب وعلى المدينة.
"أمل أُذنك يا إلهي، واسمع،
افتح عينيك وانظر خُربنا والمدينة التي دُعي اسمك عليها،
لأنه لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك،
بل لأجل مراحمك العظيمة.
يا سيِّد اسمع، يا سيِّد اغفر، يا سيِّد اِصغ واِصنع.
لا تُؤَخِّر من أجل نفسك يا إلهي،
لأن اسمك دُعيَ على مدينتك وعلى شعبك" [18-19].
لا يطلب من الله أن يستمع إليه وينظر إلى الخراب الذي حلّ بالمدينة، إنما يطلب أن يميل الله بأذنه إليه، وأن يفتح عينيه ليرى. فإننا إذ نخطئ نشعر كأن الله يتجاهلنا تمامًا، يبتعد بأذنيه كي لا يسمع، ويغمض عينيه لكي لا يرى. بقوله هذا كأنه يقول: "نُريدك قبل أن تسمع وترى أن تلتصق بنا. نراك تميل بأذنيك كأبٍ ينحني نحو طفله، ويفتح عينيه بالحب فتستريح نفوسنا. نُريدك أنت! لتقترب إلينا، فإننا في حاجة إليك". ويقول القدِّيس جيروم: [عندما يحول وجهه نظهر غير أهلٍ لاهتمام عينيه أو أذنيه[224]].
شعر الشعب طوال فترة السبي كأن الله قد تركهم، ولم يعد يسمع لهم ولا يصغي ولا يعمل لحسابهم، الآن يطلب دانيال باسم الشعب أن يغفر دون تأجيل، فإنهم يطلبون التمتع بصلاحه ومراحمه.
هكذا قدم دانيال لله مبررات لكي يرحم شعبه، متشبهًا بموسى الذي كان يشفع في الشعب. لم يبرر دانيال نفسه، لكنه شعر بالمسئولية كعضوٍ في هذه الجماعة، وأن له دوره الإيجابي الذي يلتزم به. حقًا لم يذكر الكتاب شيئًا عن خطايا شخصية ارتكبها دانيال، لكن هذا لا يمنعه من التوبة مع الشعب بشكل جماعي، إذ يقول: "اعترف بخطيتي وخطية شعبي" [20].
إذ كان دانيال النبي رجل صلاة تمتع بالبركات التالية:
أ. ظهور ابن الإنسان له أكثر من مرة (7: 13؛ 8: 15؛ 10: 5-9). هكذا تمتع دانيال بذاك الذي هو مشتهى الأمم.
ب. انفراد دانيال برؤى سماوية فائقة، إذ يقول: "فرأيت أنا دانيال الرؤيا وحدي، والرجال الذين كانوا معي لم يروا الرؤيا، لكن وقع عليهم ارتعاد عظيم، فهربوا ليختبئوا، فبقيت وحدي ورأيت هذه الرؤيا العظيمة" (10: 7-8).
ج. تمتع بصحبة رئيس الملائكة جبرائيل الذي سأله ابن الإنسان أن يُفسر له الرؤى ويُفهمه أسرار مجيئه الأول والأخير وعمله الخلاصي (8: 16؛ 9: 21؛ 11: 1)، كما كان يقوِّيه (10: 19).
د. دُعي بالرجل المحبوب جدًا من الله (9: 23؛ 10: 19). المعنى الحرفي "الرجل الذي يشتهيه الله ويسرّ به".
3. استجابة الصلاة:
"وبينما أنا أتكلم وأُصلي وأعترف بخطيتي وخطية شعبي إسرائيل،
وأطرح تضرعي أمام الرب إلهي عن جبل قُدس إلهي" [20].
كثيرًا ما كان القدِّيس أغسطينوس يقتبس هذه الآية في حديثه ضد أتباع بيلاجيوس وكالستوس Coelestius الذين كانوا يعتمدون على العمل البشري، ويتجاهلون النعمة الإلهية وطلب المراحم الإلهية. كان القدِّيس أغسطينوس يؤكد دائمًا أنه لا يوجد في العالم إنسان واحد بار لا يحتاج إلى مراحم الله. إن كان دانيال الذي لم يذكر عنه الكتاب المقدس خطية ما ارتكبها، وشهد له حزقيال أنه أحد ثلاثة أفراد في العالم مشهود لهم "أيوب ونوح ودانيال" (حز 14: 14)، قد ألقى بنفسه في قطيع الخطاة، طالبًا باتضاع وانسحاق مغفرة خطاياه، فماذا يكون حالنا نحن؟! لقد طالب السيِّد المسيح جميع تلاميذه أن يطلبوا في كل يوم مغفرة الخطايا أكثر من مرة خلال الصلاة الربانية، فمن يظن أنه بار وغير محتاج إلى المغفرة إنما يفصل نفسه عن مدرسة السيِّد المسيح.
يقول القدِّيس جيروم: [كما سبق فأشرنا قبلاً لم يفكر دانيال في خطايا الشعب فقط بل وفي خطاياه بكونه واحدًا من الشعب، أو فعل هذا بطريق الاتضاع، فإنه وإن لم يكن قد ارتكب خطايا شخصية، لكن هدفه هو نوال العفو باتضاعه[225]].
"وأنا متكلم بعد بالصلاة،
إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مُطارًا واغفًا لمسني عند وقت تقدمة المساء.
وفهَّمني، وتكلم معي وقال:
يا دانيال إنيّ خرجتُ الآن لأُعلِّمك الفهم.
في ابتداء تضرُّعاتك خرج الأمر،
وأنا جئتُ لأخبرك لأنك أنت محبوبٌ جدًا.
فتأمل الكلام وافهم الرؤيا [21-23].
يكشف دانيال النبي عن حب الله الفائق الذي يستمع إلى صلاته، ويقبل اعترافه عن خطاياه وخطايا شعبه، وينصت إلى تضرعه من أجل جبل قدس الرب، أي من أجل مدينة أورشليم والهيكل وكل المقدسات الإلهية.
يُسر الله بالمؤمنين المتضعين الذين يعترفون بضعفاتهم، والذين في غيرة متقدة، لا يطلبون لأجل أنفسهم، بل لأجل الغير، كما لأجل المقدسات الإلهية.
أولاً: يقول دانيال النبي: "وأنا متكلم" [21]. لم يُصلِّ دانيال بقلبه فحسب، وإنما أيضًا بلسانه؛ يُقدم الصلاة بروحه كما بجسده؛ يشترك بكل كيانه في التعبير عما في أعماقه. وقد جاءته الإجابة على سؤاله بينما كان يُصلي.
ثانيًا: لم يكن بعد قد انتهى دانيال النبي من صلاته، إذ يقول: "وأنا متكلم بعد بالصلاة" [21]، استجاب الله لصلاته قبل أن يفرغ منها. والعجيب أن رئيس الملائكة جبرائيل يقول له: "في ابتداء تضرعاتك خرج الأمر" [23]، أي في بدء الصلاة، لأن الله استجاب لقلب دانيال قبل أن يُعبر عما فيه بشفتيه.
ثالثًا: أرسل الله إليه رئيس ملائكة طائرًا بسرعة! اهتمام إلهي عجيب. هنا لأول مرة نسمع عن أجنحة الملائكة أو أنها كائنات طائرة. ظهر له على شكل إنسانٍ، لذا قال "الرجل جبرائيل". بهذا يؤكد الله تقديره للإنسان واعتزازه به، فيجعل ملائكته ليس فقط تظهر لخدمة الإنسان، وإنما تحمل أيضًا شكله، حتى يمكن التلاقي بينهم. يقول القدِّيس جيروم: [قيل أنه "طار" لأنه ظهر بمظهر إنسانٍ[226]].
رابعًا: ظهر رئيس الملائكة لدانيال ولمسه "عند وقت تقدمة المساء"، أي في وقت الساعة الثالثة بعد الظهر. كان دانيال مسبيًا منذ قرابة سبعين عامًا، لم يرَ ذبيحة المساء، التي كان الكهنة يقدمونها في هيكل الرب. لكن السنوات الطويلة لم تسحب قلبه عن الذبيحة، ولم تحرمه عن التمتع ببركة بيت الرب الذي تهدمت حجارته! في وسط القصر ببابل كان قلبه ينطلق مع كل صباحٍ ومساءٍ ليشارك بالروح العبادة التي انقطعت في أورشليم. هكذا يرتبط الإنسان مع كل الشعب في العبادة، حتى وإن كان مستبعدًا في زنزانة، بل ويشارك الكنيسة السماوية عبادتها الفائقة أينما وُجد.
يقول القدِّيس جيروم: [قيل: "عند وقت تقدمة المساء" ليُظهر أن صلاة النبي قد امتدت من وقت ذبيحة الصباح حتى المساء، لهذا وجه الله رحمته إليه[227]].
ظهور رئيس الملائكة ولمسه "في وقت تقدمة المساء" يحمل معنى رمزيًا، أنه قد جاء المساء، وحلّ ملء الزمان الذي فيه لا تنتهي السنوات السبعون للسبي بل ينتهي زمان الخطية بمجيء المحرر المخلص، الذي يلمسنا بتجسده الإلهي، ويدخل بنا إلى المعرفة السماوية الجديدة.
خامسًا: كشف رئيس الملائكة جبرائيل لدانيال عن مركزه لدى الله إذ يقول: "لأنك أنت محبوب جدًا" [23]، وبالمعنى الحرفي للكلمة العبرية "الرجل الذي يرغب فيه الله"، أي موضع سرور الله. الله محب كل البشرية يُسر بالأكثر بمن يتمتعون بشركة عميقة معه، فيُسر أن يُعلن لهم أسراره الإلهية.
سادسًا: قدم له وصية إلهية، بل عطية إلهية، وهى عطية الفهم: "فتأمل الكلام وافهم الرؤيا" [23]. لقد درس دانيال نبوات إرميا، وفهم تاريخ العودة من السبي، لكنه كان محتاجًا إلى فهمٍ أعظم، حيث ينسحب قلبه من الرجوع إلى كنعان إلى الرجوع إلى السماء عينها خلال عمل المسيا.
4. رؤيا السبعين أسبوعًا:
مقدمة:
لهذه الرؤيا أهميتها الخاصة عند اليهود كما عند المسيحيِّين، وقد اتفق الفريقان على أن اليوم هنا يُشير إلى سنة، والأسبوع إلى سبع سنوات. وكما جاء في سفر اللآويِّين: "تعد لك سبعة سبوت سنين، سبع سنين سبع مرات..." (لا 25: 8).
أما عن غاية هذه الرؤيا فيقول القدِّيس جيروم أن تعليم اليهود السابقين لعصره يختلف عن تعليم المعاصرين له. فالأولون في اتضاعٍ اعترفوا أن هذه العبارة لا يمكن فهمها إلاَّ بمجيء المسيا. لكن من الملاحظ أن أغلب الحاخامات يرون في هذه الرؤيا أن العقوبة الإلهية تحل باليهود حتى بعد عودتهم من السبي. وفي رأيهم أن السبعين أسبوعًا تبدأ بخراب الهيكل السابق وتنتهي بدمار الهيكل الثاني في أيام تيطس. وأما بالنسبة للكنيسة المسيحية فمع اختلاف آراء المفسرين واللآهوتيِّين، لكن الكل يتفق أن مركز الرؤيا كله هو شخص السيِّد المسيح، كما سنرى في شرحنا لنصوص الرؤيا.
أولاً: غاية الرؤيا:
"سبعون أُسبوعًا قُضِيت على شعبك،
وعلى مدينتك المقدَّسة،
لتكْميل المعْصية وتتْميم الخطايا ولكفاَّرة الإثم،
وليُؤتى بالبرّ الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القُدُّوسين" [24].
حُددت هذه المدة (سبعون أسبوعًا) لتحقيق غرض خاص له ست نتائج، ثلاثة منها سلبية، والثلاثة الأخرى إيجابية، وقد تحققت هذه كلها فعلاً بمجيء السيِّد المسيح:
أ. تكميل المعصية، أي إزالتها من أمام عيني الله، وذلك بالكرازة بإنجيل الخلاص والتمتع بعطية الروح القدس التي وهبها الله لكنيسته في استحقاقات الدم الثمين، إذ صارت معصيتنا كأنها غير موجودة أمام الله. كان السبي تأديبًا عن معاصي إسرائيل ويهوذا، لكنه لم يكن قصاصًا عادلاً عنها، وليس للسبي القدرة على محو الخطية وإزالتها، لذا كانت هناك حاجة إلى ذبيحة الصليب، حيث يُقدم السيِّد المسيح نفسه كفارة عن خطايا العالم كله (1 يو 2: 1).
ب. تتميم الخطايا، وتترجم "إنهاء". إذ قدم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة خطية مرة واحدة عن العالم كله، هذا الذي لا يوجد عيب في نفسه أو في جسده، وضع للخطية نهاية.
ج. لكفارة الإثم، وتعني ضمنًا أن الضرورة تقتضي تقديم ذبيحة للمصالحة أو الكفارة.
هذه هي النتائج السلبية حيث تُنزع لعنة المعصية والخطايا والإثم، هذه التي حجبتنا عن الله، ودخلت بنا إلى العداوة فصرنا في حاجة إلى مصالحة. الآن يحدثنا عن النتائج الإيجابية الثلاث.
د. جلب البرّ الأبدي الذي يجلب سلامًا دائمًا، حيث يأتي به المسيا ويُقدمه هبة إلهية، يُقدم نفسه برًا فنتبرر به. يؤتى إلينا بالبرّ من خارج طبيعتنا، إذ هو عمل الله فينا بالمسيا البار.
وإذ يعلق القدِّيس أثناسيوس الرسولي على نبوة دانيال النبي في هذا الأصحاح يقول: [هذا هو السبب لكل نبواتهم، أعني إلى أن يأتي البار الحقيقي، ذاك الذي صار فدية عن خطايا الكل[228]]. وكما يقول القدِّيس بولس الرسول: "المسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرّ وقداسة" (1 كو 1: 30). إذ نقل مونتجمري الذي تبنى آراء النقاد الحديثين بعض آراء علماء اليهود في تفسير هذه النبوة ذكر بأن الحاخام موسى هادرشان Haddershan يقول: "البرّ الأبدي هو الملك المسيا".
هـ. الختم على الرؤيا والنبوة، حيث تتحقق نبوات العهد القديم والرؤى الواردة فيه بمجيء المسيا، والإعلان عن شخصه وعمله الفدائي ومجده الأبدي. لقد تمتع دانيال وغيره من الأنبياء برؤى ونبوات لحساب شعب الله، لكنه يأتي وقت لا تكون هناك حاجة إلى ذلك، حيث يحل كلمة الله نفسه في وسطنا، ويتحدث معنا فمًا لفمٍ.
وكما يقول البابا أثناسيوس أنه متى جاء السيِّد المسيح لم تعد هناك حاجة إلى النبوات والرؤى عند اليهود.
[لأنه متى توقفت النبوة والرؤيا عن إسرائيل إلاَّ عندما جاء المسيح، قدوس القدِّيسين؟
فإن هذه علامة وبرهان قوي على مجيء كلمة الله أن أورشليم لا تقف بعد، ولا يقوم بعد نبي، ولا تُعلن لهم رؤيا، هذا أمر طبيعي جدًا. لأنه ما قد عُني به قد جاء، فما الحاجة بعد إلى أية إشارة إليه؟ إذ جاء الحق، أية حاجة بعد إلى الظل؟...
هكذا إذ جاء قدوس القدِّيسين بالطبيعة يُختم على الرؤية والنبوة وتنتهي مملكة أورشليم.
كان الملوك يُمسحون من بينهم فقط حتى جاء قدوس القدِّيسين الذي مُسح. يتنبأ يعقوب عن مملكة اليهود أنها تتأسس إلى مجيئه، إذ قيل: "لا يزول حاكم (قضيب) من يهوذا، وأمير (مشترع) من بين رجليه حتى يأتي (شيلون)، والذي تتوقعه الأمم" (راجع تك 49: 10). وصرخ المخلص نفسه قائلاً: "الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا" (مت 11: 13؛ لو 16:16). لو أنه وُجد الآن بين اليهود ملك أو نبي أو رؤيا لكانوا حسنًا ينكرون أن المسيح قد جاء[229]].
و. مسح قدوس القدِّيسين، إذ قدَّس ذاته لأجلنا، مقدمًا نفسه رئيس كهنة وذبيحة فريدة وشفيعًا عنا. وكما يقول السيِّد المسيح في صلاته الوداعية: "لأجلهم أُقدس أنا ذاتيّ ليكونوا هم مُقدّسين في الحق" (يو 17: 19). كأن لا غاية له سوي الدخول بكل نفس إلى الأمجاد الأبدية، والتمتع بالميراث السماوي. وفي ترجمة أخرى "مسح قدس الأقداس"، أي مسح المكان الكلي القداسة، أي أقدس موضع في الهيكل.
لاحظ القدِّيس جيروم أن الله يقول لدانيال النبي: "شعبك، مدينتك المقدسة" ولم يقل: "شعبي، مدينتي المقدسة"، ذلك لأن الله قد طلَّق شعبه، ورفض مدينته بسبب معاصيهم. هكذا تحدث الله مع موسى النبي حينما كان الشعب مُصرًّا على الخطية. ولعلَّه هنا يُعلن الله لدانيال الذي يُحب شعبه اليهودي ومدينة أورشليم، أنه إذ سيأتي السيِّد المسيح ويحقق الخلاص، لا تقبله خاصته، ولا تؤمن به، فيصير شعبًا مرفوضًا، ومدينة تحت التأديب!
ثانيًا: مراحل السبعين أسبوعًا الثلاث:
"فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع،
واثنان وستون أُسبوعًا يعود ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة.
وبعد اثنين وستين أُسبوعًا يُقطع المسيح، وليس له وشعب.
رئيس آتٍ يَخرب المدينة والقُدس وانتهاؤُه بغَمارةٍ وإلى النهاية حرب وخُرب قُضي بها.
ويُثبِّت عهدًا مع كثيرين في أُسبوع واحدٍ،
وفي وسط الأُسبوع يُبطل الذبيحة والتقدمة،
وعلى جناح الأرجاس مُخرَّب حتى يتم ويُصَبَّ المَقْضي على المُخرِب" [24-27].
لقد حدد الله وقتًا معينًا لمجيء كلمة الله المتجسد إلى العالم، وبحكمة فائقة حدد الساعة التي يولد فيها المسيا، واللحظة التي فيها يُقدم حياته كفارة عن خطايا العالم، فإن مجيء السيِّد وعمله الخلاصي هما في عينيْ الله مركز التاريخ، وعصب العناية الإلهية، وإكليل النعمة. لا يحدث شيء مصادفة، بل يتم كل شيء في دقة عجيبة. لقد أكد الكتاب المقدس مجيء المخلص في ملء الزمان في أواخر الدهور.
جاءت هذه النبوة أشبه بكوكب مضيء في وسط أحزان المسبيِّين الذين يعانون من ظلمة الحزن القاتل. لقد فهم كثيرون النبوة، حتى أنه عندما جاء كان هناك توقعًا عامًا بين اليهود عن مجيء المسيا. كان الرجال والنساء القديسون يدرسون النبوات باجتهاد، وكانوا يترقبون مجيء المخلص. كان سمعان الشيخ ينتظر تعزية إسرائيل، وحنة تترقب الخلاص في أورشليم مع غيرها ممن حملوا نفس فكرها. ليس فقط اليهود، بل واالسامريُّون كانوا يتوقعون قرب مجيئه كما يظهر من حديث المرأة السامرية: "أنا أعلم أن مسيا الذي يُقال له المسيح يأتي" (يو 4: 25). حتى بين الأمم كان يترقب البعض مجيئه كما حدث مع المجوس الذين رأوا نجمه[230].
قدم العلامة ترتليان في مقاله "An Answer to the Jews" فصل 8 عرضًا تفصيليًا كيف تحققت هذه النبوة بدقة بميلاد السيِّد المسيح وآلامه وخراب أورشليم.
v بخصوص هذه النقطة (مجيء السيِّد المسيح)، فان آراءهم تُفند بالأكثر لا بأيدينا نحن، بل بتلك التي للحكيم جدًا دانيال، الذي حدد كلاً من التاريخ الفعلي لمجيء المخلص وحلوله الإلهي بيننا، إذ قال: "سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك..." ربما بالنسبة للنبوات الأخرى يمكنهم أن يجدوا أعذارًا وأن يرجئوا ما هو مكتوب إلى المستقبل. لكنهم ماذا يستطيعون أن يقولوا عن هذه (النبوة)، أو كيف يمكنهم أن يواجهوها تمامًا؟ فإنها ليست فقط تُشير إلى المسيح، بل تُعلن أن ذاك الذي يُمسح ليس إنسانًا مجردًا بل قدوس القديسين، وأن أورشليم تثبت إلى حين مجيئه، وعندئذ تتوقف النبوة والرؤيا في إسرائيل[231].
يُعلق نيافة الأنبا ديسقورس على هذا الأصحاح قائلاً بأنه نظرًا لدقة ووضوح هذا الأصحاح في تحديد زمن صلب السيِّد المسيح بعد تجسده، فقد قام اليهود باستبدال تعبير "مسح قدوس القديسين" إلى "تدشين قدس الأقداس" وذلك في النسخة المتداولة عندهم باسم الماسوريتك Masoretic والتي يُرجعون تاريخها إلى القرن الحادي عشر الميلادي، حتى تبدو النبوة أنها خاصة بمكان وليس بشخصٍ، بل وضمُّوا سفر دانيال إلى قسم الكيتوبيم الذي يحتوي على الأسفار التاريخية والمزامير وكتب الحكمة السماوية لكي لا يُحسب من الأسفار النبوية. هذا نادى به بعض الدارسين[232].
ويعلق القمص بيشوى كامل على هذه النبوة بقوله: [والحقيقة أن هذه الحسابات أعطت الفرصة لليهود لمعرفة ميعاد مجيء المسيح بالتقريب. لذلك يقول معلمنا لوقا الإنجيلي: "... مع المنتظرين تعزية إسرائيل،... فداء أورشليم" (لو 2: 25، 38). بل قال بعضهم: "إن ملكوت الله سيظهر في الحال" (لو 19: 11). لذلك أصبح اليهود بلا عذر في تحديد ميعاد مجيء السيِّد المسيح[233]].
ثالثُا: ما هو معنى الأسبوع؟
جاءت كلمة "أسبوع" هنا في العبرية "شبوع Shabua"، المشتقة من "seba" لا بمعنى سبعة أيام، بل وحدة من سبعة. وقد جاء الجمع للكلمة "شبوعيم Shabu’im" وهي ليست الجمع المؤنث المعتاد لكلمة أسبوع، من ثم فهي تعني سبعات أو فترات من سبعة[234]. وقد أجمع علماء ومفسرو اليهود والمسيحيِّين في تفسيرهم لهذه النبوة، مع اختلاف اتجاهاتهم، على أن عبارة "سبعون أسبوعًا" تعني سبعين وحدة من سبعات، وهي بهذا تعني سبعين أسبوعًا من السنين. رأى غالبية المفسرين أن هذه الفترة تبدأ فيما بين 457 و445 ق.م. وتنتهي فيما بين 26 و70 م.
رابعًا: المراسيم الخاصة بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل وأورشليم:
صدرت ثلاثة مراسيم أو أوامر ملكية خاصة بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل وأورشليم:
المرسوم الأول: أصدره كورش عام 538 ق.م أو 537 ق.م، بعد استيلائه على بابل (إش 44: 8؛ 45: 1؛ عز 1: 1-2؛ 2 أي 36: 22-23). بدأت العودة الأولى تحت قيادة زربابل، وبدأ ترميم المذبح وإعادة تنظيم العبادة، لكن قاومهم الأعداء. وفي عهد داريوس الأول بُحث عن مرسوم كورش وأمر الملك بالاستمرار في العمل (من سنة 520 إلى 515 ق.م). يليق بنا أن نلاحظ أن كورش أصدر أمرًا ببناء الهيكل فقط، لكنه لم يصدر أمرًا بتجديد مدينة أورشليم وبنائها. يقول دانيال النبي أنه من صدور الأمر بتجديد أورشليم وبنائها، وهو غير صدور الأمر ببناء الهيكل. فيوجد بين الأمرين فرق عظيم، فكورش رأى أن لا مانع من جواز مساعدة اليهود على بناء الهيكل سياسة منه، لكنه رأى أن مساعدتهم على بناء المدينة وإعادة حصونها خطر عليه. فبناء الهيكل يُعتبر نهاية مدة السبي وهي 70 سنة. وقد ذُكر في سفر (عز 1: 2-3) أمر الملك: "هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها ليّ الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. مَنْ منكم مِن كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل. هو الإله الذي في أورشليم". لم يذكر في هذا الأمر كلمة عن تجديد المدينة وبنائها.
المرسوم الثاني: أصدره الملك ارتحشستا الأول Artaxerxes I (464-424 ق.م.) عام 457 ق.م. وحمله عزرا الكاهن والكاتب (عز 8) بعد حوالي 80 عامًا من العودة الأولى. سمح المرسوم للراغبين من اليهود أن يعودوا إلى أورشليم (عز 7: 13)؛ وتنظيم القضاء وتطبيق شريعة موسى (عز 7: 7)، وترتيب الأمور المالية الخاصة بالهيكل (عز 7: 15، 20). كان اهتمام عزرا هو إعادة بناء الشعب نفسه أخلاقيًا وروحيًا (7: 9). لقد أُعطيَ الحق في تجديد بناء الهيكل وإقامة الأسوار، إذ قال: "لأننا عبيد نحن وفي عبوديتنا لم يتركنا إلهنا، بل بسط علينا رحمة أمام ملوك فارس ليُعطينا حياة لنرفع بيت إلهنا ونُقيم خرائبه وليعطينا حائطًا في يهوذا وفي أورشليم" (عز 9: 9). للأسف لم يُقدم التاريخ لنا شيئًا عما حدث من إصلاحات خاصة بالبناء، لكن واضح أن عزرا قام بالإصلاح الأخلاقي والروحي ولم يستطع القيام ببناء الأسوار ولا تجديد المدينة. هذا ما يظهر مما قاله فيما بعد حناني لنحميا: "هناك في البلاد هم في شرٍ عظيمٍ وعارٍ، وسور أورشليم منهدم، وأبوابها محروقة بالنار" (نح 1: 3). واضح من تصرف نحميا في نفس الأصحاح أنه لم يكن متوقعًا أن يكون حال أورشليم هكذا، ربما لأنه كان يتوقع أن عزرا ومن معه قاموا بتجديدات في المدينة وبناء الأسوار[235].
المرسوم الثالث: أصدره ارتحشستا الأول في نيسان من السنة العشرين لملكه (مارس/ إبريل 445 ق.م.)، حمله نحميا، ساقي الملك (نح 1: 11)، وقام نحميا ببناء سور أورشليم وبناء المدينة إذ يقول للملك: "إذا سُرّ الملك، وإذا أحسن عبدك أمامك ترسلني إلى يهوذا، إلى مدينة قبور آبائي فأبنيها" (نح 2: 5).
خامسًا: حسابات المراحل الثلاث:
طالب دانيال النبي - بإيمان - أن يحقق الله مواعيده، وهي عودة الشعب بعد سبعين عامًا من السبي؛ فإذا بالله يُقدم له ما هو أعظم، يتحقق لا بعد 70 سنة بل بعد سبوتها (70 × 7=490 سنة)، فيتمتع هو وكل البشرية بسبتٍ جديد، وراحة فائقة وبرّ الله، وهيأها لها عبر الأجيال، واشتهاها الآباء والأنبياء وهي رجوع البشرية إلى الله خلال عمل الله الخلاصي. وذلك بتجسد الكلمة وتقديم ذاته كفارة عن خطايا العالم. لقد حدد موعد مجيء هذا المخلص وصلبه كما كشف عن أحداث مجيئه الأخير.
v تقف هذه العبارة هكذا، إذ تمسّ عجائب كثيرة...
واضح أن العبارة تتحدث عن مجيء المسيح الذي كان يجب أن يعلن عن نفسه بعد سبعين أسبوعًا. ففي وقت المخلص، أُزيلت المعاصي وانتهت الخطايا، ومُحيت خلال المغفرة الآثام مع المعاصي بالكفارة، وكُرز بالبرّ الأبدي الذي يختلف عن برّ الناموس، و(توقفت) الرؤى والنبوات إلى يوحنا، ومُسح الكلي القداسة. فإن هذه الأمور لم تتحقق قبل مجيء المخلص، بل كانوا يترجُّونها.
يعلمنا الملاك أن بداية الأعداد، أي السبعين أسبوعًا التي هي 490 عامًا، تبدأ بالأمر الصادر بالبدء في بناء أورشليم (كاستجابة لطلب المسبيِّين). هذا حدث في السنة العشرين من ملك ارتحشستا ملك فارس. فقد سأله نحميا واستلم الإجابة أنه يلزم بناء أورشليم... كان ذلك في السنة 115 من الإمبراطورية الفارسية والسنة الرابعة من الدورة 83 من الأولمبي، والسنة العشرين من ارتحششتا نفسه.
إلى هذا التاريخ، حيث السنة الثانية من الدورة 202 للأولمبي، والسنة 16 من ملك طيباريوس قيصر (حيث صُلب السيِّد المسيح)، تكون المحصلة 475 سنة، وهي تُقابل 490 سنة بالحساب اليهودي، حيث يحسبون السنة حسب دورة القمر. هذا أمر يسهل بيانه، إذ تتكون السنة عندهم من 354 يومًا بينما تتكون السنة الشمسية من 365 يومًا وربع، فإن السنة الأخيرة تزيد في الـ12 شهرًا حسب دورة القمر 11 يومًا وربع... [236]
[ما بين السنة الرابعة للدورة الأوليمبية 83 والسنة الثانية من الدورة 202 حيث تُقام الدورة كل 4 سنوات تكون المحصلة 475 سنة شمسية، وهي توازي 490 سنة قمرية].
وقد أورد القدِّيس جيروم رأي الأب يوليوس أفريكانوس Julius Africanus في تفسيره لهذه الرؤيا.
وقد قُسمت المدة هكذا:
أولاً: 7 أسابيع، أي 7×7=49 عامًا، وهي الفترة ما بين صدور الأمر بإصلاح الهيكل وبناء السور بواسطة منشور أرتحشستا الأول في 14 نيسان (مارس - إبريل) سنة 445 ق.م، وتعيين نحميا واليًا على أورشليم، وانتهت الفترة بسنة 397 أو 396 ق.م حيث مات نحميا في أيام ملاخي النبي. فالسبعة أسابيع (أي 49 سنة) هي مدة تجديد أورشليم وبنائها، لأنها كانت أطلالاً بالية. ولا شك أن نحميا صرف هذه المدة في بناء أورشليم، وكان آخر عمله في ولايته على أورشليم هو تنظيم أحوال الأمة الإسرائيلية وإصلاح شؤونها. لقد تعين نحميا واليًا على اليهودية ولم يكمل تجديد أورشليم إلاَّ في مدة ولايته للمرة الثانية. ففي المرّة الأولى استمر 12 سنة واليًا على اليهودية، وذلك لأن أرتحشستا أصدر إليه أمرًا ببناء أورشليم، وعيّنه واليًا عليها. وفي السنة الثانية والثلاثين ر جع إليه نحميا، ثم استأذن من الملك ليرجع إلى أورشليم (نح 13: 6-7) فصرّح له. ولا يخفى أن نحميا عمّر طويلاً، فإذا كان عمره لما شرع في تجديد أورشليم 30 سنة، وصرف 49 سنة في بنائها، كان عمره 79 سنة، وقد قال المؤرخ يوسيفوس أنه كان هرِمًا.
يُقدم البعض حسابًا لبناء الهيكل خلال 49 عامًا كالآتي: لقد سمح كورش للشعب أن يبني الهيكل، فوضعوا الأساسات في ثلاث سنوات عندما ذهب كورش إلى الحرب في سكيثيا Scythis، لكن اضطر اليهود إلى التوقف عن البناء في أيام خليفته كمبيز Cambyses الذي كان معاديًا لهم. وإذ سُمح لهم بالبناء تمموا ذلك في 46 عامًا في هذه الفترة (3 + 46 = 49 سنة) تم إصلاح أورشليم وكذا حال الشعب اليهودي دينيًا ومدنيًا بواسطة عزرا ونحميا[237].
ثانيًا: 62 أسبوعًا (62 × 7 = 434 عامًا). هذه الفترة التي تبلغ أربعة قرون تمثل أظلم فترات الشعب روحيًا، إذ لم يوجد فيها أنبياء إلى ظهور القدِّيس يوحنا المعمدان. فحُسبوا بحق جالسين في الظلمة حتى يشرق عليهم شمس البرّ بصليبه.
v بعد عودة الشعب من بابل تحت قيادة يشوع بن يهوصاداق وعزرا الكاتب وزرُبابل بن شلتيئيل من سبط داود (وتجديد أورشليم وبنائها) يوجد 434 عامًا حتى مجيء السيِّد المسيح حيث يظهر كاهن الكهنة للعالم، ويقوم بوضوح ذاك الذي ينتزع الخطية من العالم كما يقول يوحنا عنه: "هوذا حمل الله الذي يحمل خطية العالم". ولكن من هو هذا الذي يمحي معاصينا؟ يُعلمنا بولس الرسول، قائلاً: "هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14)؛ وعندئذ "يمسح صك خطايانا الذي علينا" (كو 2: 14).
توجد 434 سنة ما بين عودة الشعب من بابل (وتجديد أورشليم وبنائها) ووقت ميلاد السيِّد المسيح. هذا يمكن إدراكه بسهولة[238].
القدِّيس هيبوليتس الروماني
في هذه الفترة تم حدثان هامان:
الحدث الأول هو ظهور أنطيوخس إبيفانُس (167-164 ق.م) الذي يُعتبر "ضد المسيح" في العهد القديم، هذا الذي أوقف تقديم ذبيحة المحرقة الدائمة لمدة ثلاث سنوات ونصف، وأقام كهنة اليونانيِّين الذين أدخلوا عبادة الآلهة اليونانية ودنّس الهيكل بدم خنزير وقتل الآلاف من اليهود، ولكن المكابيِّين تصدّوا له حتى تمَّ تحرير الهيكل وعودة المحرقة.
أما الحدث الثاني وهو في أيام الإمبراطورية الرومانية حيث ملك هيرودس الكبير، وقد أراد أن يكسب رضا اليهود، فبدأ ببناء الهيكل الجديد حوالي سنة 20 ق.م واستغرق بناؤه 46 عامًا؛ وكان قد وسَّع أرض الهيكل إلى ضعف المساحة تقريبًا.
إذ جاء في [27] أن إبطال الذبيحة الحيوانية في وسط الأسبوع، أي في وسط الأسبوع الأخير من الـ 69 أسبوعًا فيعني هذا أن الصلب يتم في الأسبوع 68.5، أي بعد (68.5 × 7) 479.5 عامًا من صدور المنشور بالعمل بتجديد الهيكل بواسطة نحميا (عام 445 ق.م)، بهذا يكون الصلب بعد 33 سنة ونصف من الميلاد وهذا تحقق، إذ صُلب السيِّد المسيح وهو في هذا السن. أما نهاية الأسبوع الأخير فيكون بعد الصلب بحوالي 35 عامًا (3.5 يومًا)، أي حولي سنة 70م حيث نُقض الهيكل تمامًا على يد تيطس الروماني.
يرى بعض الدارسين أن صلب السيِّد المسيح قد جاء بعد 483 عامًا (7 + 62 = 69 × 7 = 483) من صدور منشور أرتحشستا السابق ذكره. لأن الصلب تم في إبريل سنة 30م، فإن كان المنشور صدر سنة 445 ق.م فالفارق هو 445 ق.م + 30 = 475 سنة وليس 483 أي يوجد فارق 8 سنوات. والسبب في هذه الثماني سنوات هو أن السنة في الكتاب المقدس تحسب 360 يومًا وليس كالسنة الفلكية أو اليوليانية 365 يومًا وربع. فالخمسة أيام وربع في السنة يسبب فارقًا قدره 8 سنوات. بهذا تحقق مجيء المسيا الرئيس بعد 69 أسبوعًا (69 × 7 = 483 عامًا) تمامًا، وذلك بحساب السنة كما جاء في الكتاب المقدس[239].
يرى Gleason L. Archer أن الـ 69 سنة رمزية (483 سنة) تُحسب من المرسوم الثاني، أو المرسوم الأول بالنسبة للملك ارتحشستا الأول عام 457 ق.م الذي حمله عزرا الكاتب للبناء، وإن كان لم يتحقق البناء إلاَّ بواسطة نحميا. فإن طرحنا 483 من 457 ق.م يتبقى 26، وحيث لا توجد سنة تعادل الصفر يُضاف رقم 1 إلى 26 فيكون الموعد هو 27م. وإذ عُرف أن السيِّد المسيح صُلب عام 30 م، فإنه يكون قد بدأ خدمته وعماده عام 27 م. بهذا تحققت النبوة بدقة.
يرى آخرون أن السنة العشرين من أرتحشستا هي سنة 454 ق.م حسب تحقيقات العلاّمة هنجستنبرج و"أشر". فإذا طرحنا هذه المدة من حاصل ضرب 69 أسبوعًا في 7 (483 سنة ميلادية)، وهي المدة التي قال عنها النبي دانيال في آية 25، كان الباقي حوالي 29 سنة ميلادية، وهي بداية خدمة السيِّد المسيح، أو دعوته إلى طريق الخلاص، فإنها الغاية المقصودة بالذات، لأن النقطة المهمة في تواريخ الملوك والسلاطين هي أوائل حكمهم وعملهم، وليس مولدهم، لهذا راعى النبي دانيال هذه النقطة المقصودة بالذات.
هكذا يرى الكثيرون أن هذه الفترة الثانية تنتهي بعماد السيِّد المسيح وبدء كرازته بإنجيله، لتأتي الفترة الثالثة حيث يُقدم السيِّد المسيح ذبيحته في وسط الأسبوع أي بعد ثلاث سنوات ونصف من خدمته، فتبطل الذبائح الحيوانية.
ثالثًا: الأسبوع السبعون، أو الأسبوع الأخير. "ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يُبَطّلُ الذبيحة والتقدمة..." [ 27].
يوجد رأي أو تأمل في تفسير هذه الآية بأن هذا الأسبوع يُشير إلى أسبوع الآلام بأيامه السبعة حيث دخل السيِّد المسيح إلى الهيكل يوم الأحد (العاشر من نيسان) كحمل وأخرج الخراف التي كانت ترمز إليه، وظل يبيت في بيت عنيا كأنه تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر (الخميس) حيث عمل الفصح الأخير مع تلاميذه وأبطله، وكان العشاء حيث قدم لتلاميذه ذبيحة العهد الجديد بجسده ودمه المتحولان من الخبز والخمر كطقس ملكي صادق كنبوة داود النبي في المزمور. فتُشير الخمسة الأيام الأولى إلى خمسة آلاف عام (تقريبًا) التي كانت تقدم فيها الذبائح الدموية التي كانت ترمز إليه، ثم اليومان الباقيان من الأسبوع إلى ألفى عام، وبذلك يتحقق قول بطرس الرسول حينما يتكلم عن مجيء السيِّد المسيح الثاني للدينونة قائلاً "ولكن لا يخف عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء أن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد. لا يتباطأ الرب عن وعده كما يُحسب قوم التباطؤ لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة.. الخ" (2 بط 3: 8-10).
يرى البعض أن الـ 69 أسبوعًا قد انتهت بتقديم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة حب فريدة، والآن تنتقل بنا رؤيا دانيال إلى نهاية العالم، وهي مدة السبع سنوات الأخيرة التي خلالها يأتي ضد المسيح ليملك ثلاثة سنوات ونصف حيث الضيقة العظيمة التي قال عنها السيِّد المسيح: "فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي في المكان المقدس. ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيت شيئًا... لأنه يكون حينئذٍ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون. ولو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد. ولكن لأجل المختارين تقّصر تلك الأيام (مت 24: 15-21). وقد تحدث بعد ذلك عن مجيئه الأخير.
تحدث عنها أيضًا دانيال في موضع آخر: "ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت" (دا 12: 1). وفي إرميا: "آه لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثله، وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه" (إر 30: 7)؛ وجاء في صفنيا: "لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم في يوم غضب الرب بل بنار غيّرته تؤكل الأرض كلها" (صف 1: 18).
وجاء في سفر الرؤيا: "هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 7: 14). جاء وصف فترة الضيق هذه في (رؤ 6: 15؛ 11: 1-14؛ 12: 6-17).
v ببسط يديه يعني آلامه، وبالإشارة إلى زمان وزمانين ونصف زمان يُشير إلى الثلاث سنوات ونصف لضد المسيح... وهي الـ 1290 يومًا التي تنبأ عنها دانيال لأنهاء الألم وتحقيق التشتيت عندما يأتي ضد المسيح[240].
القدِّيس هيبوليتس الروماني
من وحي دانيال 9
تهبني أكثر مما أطلب،
وتعطيني فوق ما احتاج!
v شعر دانيال في اتضاع أنه غير مستحق لمواعيدك،
صلى متضرعا وهو في المسوح والرماد،
اعترف بخطاياه وخطايا شعبه كاسر الوصية.
اشتهى أن تحقق له وعدك بالعودة بعد سبعين عامًا!
v بعدل وبرِّ أدبت شعبك بالسبي البابلي،
في وسط التأديب كنت ساهرًا على شعبك،
كل ما حلّ بشعبك بسماحٍ من عندك.
إنك تود أن تمحصهم فتمجدهم!
v استغاث بك فقد حجبت الخطايا شعبك عنك،
تضرع إليك أن تميل بأذنك وتسمع،
تفتح عينيك وتنظر ما بلغه الشعب من عارٍ.
تغفر الآثام من أجل اسمك،
من أجل هيكل قدسك ومدينتك!
v لقد توقفت الذبائح إذ خرب الهيكل،
لكن مع موعد تقديم كل ذبيحة
كان دانيال يُسكب نفسه ذبيحة حب.
يصرخ إليك يا ينبوع الرحمة.
أرسلت له جبرائيل رئيس الملائكة يهبه فهمًا.
أعلمه أنه محبوب لديك جدًا،
قدم له رؤيا وشرحها له.
v مع الوعد القديم بالتحرر من السبي بعد سبعين عامًا.
قدم له وعدًا جديدًا في سبت هذه السبعين.
أراه كيف يتحرر العالم من سبي الخطية،
تنتهي الخطايا ويُكفر عن الآثام.
يتمتع المؤمنين بالبر وتتحقق النبوات بقدوم قدوس القدِّيسين.
v حددت له موعد التجسد الإلهي وغايته.
أعلنت له عن سرّ الصليب الذبيحة الفريدة.
كشفت له عن نهاية الأزمنة والتمتع بالأمجاد الأبدية!
حقًا أنك تُقدم ليّ أكثر مما أطلب،
وتهبنيّ دومًا فوق ما احتاج!
آراء أُخرى بخصوص السبعين أسبوعًا:
قدم لنا القدِّيس جيروم الكثير من آراء آباء الكنيسة وعلماء اليهود بخصوص رؤيا السبعين أسبوعًا، إن اختلفت في طريقة الحسابات لكنها تتركز جميعها حول شخص المسيح وعمله الخلاصي.
بدأ برأي الأب يوليوس أفريكانيوس، وقد سبق لنا عرضه. كما قدم لنا بعد ذلك مجموعة آراء ليوسابيوس أسقف قيصرية التي وردت في الكتاب الثامن من عمله "الإعداد للإنجيل Praeparatio Evangelica" نذكرها هنا في شيء من الاختصار.
1. الرأي الأول:
يقوم هذا الرأي على أساس أن السيِّد المسيح، رئيس الكهنة، هو مركز الرؤيا، لذا تقوم الحسابات من خلال رؤساء الكهنة الذين تعاقبوا على شعب إسرائيل منذ عودتهم من بابل إلى مجيء المخلص الممسوح لأجلنا.
[لست أظن أن تقسيم السبعين أسبوعًا جاء جزافًا... لنفكر في الرؤساء (المسحاء) الآخرين الذين تعهدوا شعب اليهود، وقد جاءوا ملاحقين لهذه النبوة وللعودة من بابل، أي رؤساء الكهنة arkiereis، الذين يدعوهم الكتاب المقدس مسحاء. كان يشوع بن يهوصاداق (عز 3: 22؛ 4: 3؛ ويُدعى أيضًا يهوشع زك 3: 1، 3) تلاه آخرون ممن احتلُّوا هذه الوظيفة حتى وقت مجيء ربنا ومخلصنا... بمعنى أن المقصود هنا هو جمع السبعة أسابيع إلى الـ62 أسبوعًا فيكون المجموع (69 × 7 = 483 سنة) بعد وقت كورش. ولئلاَّ يُقال أننا قد استخدمنا الحدس لنحصي أولئك الذين احتلُّوا هذه الوظيفة كمسحاء يتعهدون الشعب من أيام يشوع بن يهوصاداق حتى مجيء الرب، أي الذين مُسحوا رؤساء كهنة (نذكر هنا بالتفصيل)...].
· يشوع بن يهوصاداق رئيس الكهنة، هذا الذي اشترك مع زرُبابل بين شلتيئيل في وضع أساسات الهيكل وتحقق البناء في 49 عامًا، إذ تعطل البناء بواسطة السامريِّين وغيرهم من الأمم المحيطة. وقد انفصلت هذه الأسابيع السبعة (49) عن الـ 62 أسبوعًا كما جاء في النبوة. أخذ اليهود أخيرًا بهذا الرأي، إذ قالوا للرب كما ورد في قصة الإنجيل "في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟!" (يو 2: 20)... يضيف يوسيفوس ثلاث سنوات أخرى تمت خلالها الأعمال الخاصة بالإعداد للبناء وغيرها فيكون المجموع 49 سنة تُحسب من السنة السابعة لداريوس. في ذلك الحين كان متعهِّدًا الشعب هما يشوع بن يهوصاداق وزرُبابل (الذي كان قد بلغ الذروة)، وقد تنبأ في ذلك الوقت حجِّي وزكريا.
· ثم جاء عزرا ونحميا من بابل وبنيا أسوار المدينة أثناء رئاسة كهنوت يوياقيم بن يشوع (نح 12: 10) الملقب يهوصاداق، وأعقبه ألياشيب في الكهنوت (نح 12: 10)، ثم تلاه يوياداع ويوحانان، وجاء بعده يدوع (نح 12: 22) الذي في عهده أنشأ الإسكندر، ملك المقدونيِّين، الإسكندرية، كما ذكر يوسيفوس في كتبه Antiquities، وجاء إلى أورشليم وقدم ذبائح دموية في الهيكل. لقد مات الإسكندر في الدورة الأولمبية الـ 113 في السنة 236 للإمبراطورية الفارسية التي بدأت بدورها السنة الأولي للدورة الأولمبية 55. وجاء هذا التاريخ مطابقًا للوقت الذي فيه هزم كورش ملك فارس البابليِّين والكلدانيِّين.
· وبعد موت يدوع الكاهن الذي كان متعهدًا الهيكل أثناء مُلك الإسكندر تولى أونياس رئاسة الكهنوت. في ذلك الحين نصّب سلوقس نفسه ملكًا على سوريا وآسيا بعد فتحه بابل في السنة الثانية عشرة بعد موت الإسكندر. حتى ذلك الحين كان مجموع السنوات التي انقضت منذ كورش الملك هي 248 عامًا. وجاء تاريخ سفر المكابيِّين مطابقًا لذلك.
· بعد أونياس الكاهن الأعظم جاء اليعازر يرأس الكهنوت عند اليهود. في هذه الفترة قام السبعون بترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية في مدينة الإسكندرية.
· بعد ذلك جاء أونياس الثاني ثم سمعان الذي قاد الشعب، وقد كتب يشوع بن سيراخ، وعنوانه اليوناني Panartos (رجل كامل فاضل)، والذي نسبه كثيرون إلى سليمان خطأ. في هذا الوقت كان أنطيوخس يحاول إلزام اليهود بتقديم ذبائح لآلهة الأمم. بعد أونياس جاء يهوذا المكابي الذي طهَّر الهيكل وحطم تماثيل الآلهة الوثنية. ثم جاء بعده أخوه يوناثان، ومن بعده أخوه سمعان ليحكم الشعب. وبموته انقضى 277 سنة من حكم المملكة السريانية. وقد سجل لنا سفر المكابيِّين الأحداث التي تمت في ذلك الحين، بهذا تكون نهاية مكابيِّين الأول وموت سمعان الكاهن الأعظم هي 425 سنة.
· بعد ذلك تولى يوحنا هركانسHyrcanus رئاسة الكهنوت لمدة 29 عامًا، وبعد موته تولى أرسطوبولس (الأول) رئاسة الشعب لمدة عام، وكان أول من جمع بين كرامة رئاسة الكهنوت وسلطة المُلك بعد الرجوع من السبي البابلي.
· وتلاه اسكندر الذي كان بالمثل رئيس كهنة وملك، حكم الشعب لمدة 27 عامًا. عند هذه النقطة يكون مجموع السنوات منذ السنة الأولي لكورش وعودة المسبيِّين الذين رغبوا في العودة إلى اليهودية هي 483 عامًا. هذا المجموع يضم الـ 7 أسابيع مع الـ 62 أسبوعًا، أي الـ 69 أسبوعًا في جملتها. خلال هذه المدة تولى رئاسة الكهنوت كهنة حكموا الشعب اليهودي، واعتقد أنهم هؤلاء الذين أُشير إليهم بالمسحاء.
بعد موت آخرهم وهو إسكندر انقسم الشعب اليهودي إلى أحزابٍ مختلفةٍ، وحدثت في وسطهم فتنة داخلية إذ كانوا بلا قائد. هذا دفع بإسكندرا زوجة إسكندر والتي دُعيت Salina أيضًا أن تنتزع السلطة، وتحتفظ بمركز رئاسة الكهنوت لابنها هركانس (الثاني)، أما المُلك فسلمته لابنها الأخير أرسطوبولس (الثاني) الذي اعتلى العرش لمدة عشرة سنوات. لكن الأخوين تنازعا، وخاضا حربًا أهلية، وانقسم الشعب اليهودي إلى أحزاب. حينئذ ظهر بومباي Graeus Pompey جنرال الجيش الروماني على مسرح الأحداث. وإذ غزا أورشليم بلغ قدس الأقداس في الهيكل وأرسل أرسطوبولس (الثاني) مقيدًا إلى روما ليسخر به وهو في موكب نصرته. وأعطى رئاسة الكهنوت لأخيه هركانس (الثاني)، فصارت الأمة اليهودية لأول مرة خاضعة للرومان. أعقبه هيرودس بن أنتيباتر في تولى المُلك على اليهود بمرسوم من مجلس الشيوخ (الروماني) بعد اغتيال هركانس. هذا صار أول أجنبي يحكم اليهود. وأيضًا بعد موته والديه أَعطى رئاسة الكهنوت لأولاده مع أنهم لم يكونوا يهودًا، معارضًا بهذا الناموس الموسوي. وهو لم يعهد إليهم بهذه الوظيفة إلى مدة طويلة إلاَّ بناء على تعهُّدهم أن يٌقدموا له منافع خاصة به ورشاوي، إذ احتقر وصايا ناموس الله[241].
2. الرأي الثاني:
يُقدم لنا القدِّيس جيروم تفسيرًا ثانيًا ليوسابيوس القيصري، جاء فيه أن عدد السنوات منذ السنة السادسة لحكم داريوس الذي تولى الحكم بعد كورش وابنه كمبيز، هذا التوقيت الذي يُضاهي وقت انتهاء العمل لبناء الهيكل، إلى وقت هيرودس وأوغسطس قيصر، هذه المدة تُقابل السبعة أسابيع مضافًا إليها 62 أسبوعًا، وفي مجموعها 483 سنة. في ذلك الوقت اُغتيل هيركانس بكونه آخر رئيس كهنة للمكابيِّين بواسطة هيرودس، وانتهت بذلك رئاسة الكهنوت بحسب الناموس. في ذلك الحين أيضًا دُمِّرت المدينة والمقدس على يد قائد روماني. ربما بيد هيرودس نفسه الذي نصب نفسه حاكمًا ذا سلطة بدون وجه حقٍ. وبحسب قول الملاك: "ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد، وفي وسط الأسبوع..."، يُفهم الآتي:
وُلد المسيح أثناء مُلك هيرودس في اليهودية وأوغسطس قيصر في روما، وكرز بالإنجيل، وأسس عبادة الإله الحق لكثيرين ونعني بلاشك الرسل والمؤمنين عامة، ثم بعد آلام الرب بطلت الذبيحة والتقدمة في وسط الأسبوع. لأنه ما قُدمت من ذبائح بعد ذلك لم يكن بذي قيمة لدى الله... إذ صرخ الجميع: "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 2: 25)، وأيضًا "ليس لنا ملك إلاَّ قيصر".
ذكر يوسابيوس هذا في كتاب Chronicle أما بخصوص حساب السنوات منذ إتمام بناء الهيكل إلى السنة العاشرة لمُلك الإمبراطور أوغسطس قيصر، أي حين ذُبح هركانس وتولى هيرودس ولاية اليهودية، ففي مجموعها 7 + 62 أسبوعًا (69 × 7) أو 483 سنة، ويمكن تقديمها هكذا:
تحقق إتمام بناء الهيكل في الدورة الأولمبية 67، وهي السنة السادسة لداريوس. وفي السنة الثالثة للدورة 186 أي العاشرة لأوغسطس انتزع هيرودس الحكم على اليهود. بهذا تُحسب مدة الـ 483 سنة بحسب الدورات الأولمبية، حيث تتم الدورة كل 4 سنوات.
[توجد 120 دورة ما بين 186، 67. (120 × 4 = 480 + 3 (السنة الثالثة بعد الدورة) = 483)].
3. الرأي الثالث:
يقول القدِّيس جيروم إن ليوسابيوس رأي آخر لا يرفضه تمامًا، وهو تقييم الأسبوع الأخير من السنين بكونه يقابل سبعين عامًا باعتبار أن كل يوم يوازي عشرة سنوات من الزمن.
ففي منتصف الأسبوع، أي حوالي سنه 35م قُدِمت ذبيحة المسيح، وبعدها بحوالي 35 عامًا (سنة 70م) قامت روما ضد اليهود وهدمت الهيكل على يد تيطس الروماني.
رأي القدِّيس هيبولتيس الروماني:
سبق لنا عرضه في تفسير الأصحاح. يرى أن الأسبوع الأخير يخص نهاية العالم حيث يظهر ضد المسيح كما يظهر إيليا النبي لإعلان معرفة الله. أخيرًا يأتي السيِّد المسيح ويقتل المضلَّ بنفخة فمه وتخرب مملكته.
رأي أبوليناريوس:
رأى أنه مع ميلاد السيِّد المسيح وعمله الخلاصي تمت السبعة أسابيع (49 عامًا)، فإذا أُضيفت إليها الـ 62 أسبوعًا (434 عامًا)، أي في عام 482م يُعاد بناء الهيكل وأورشليم... حيث يظهر إيليا الذي يرد قلوب الآباء على الأبناء، حينئذ يأتي ضد المسيح كقول الرسول أنه يجلس في هيكل الله (2 تس 2) ويشن حربًا ضد القدِّيسين، ثم يُقتل بنفخة ربنا ومخلصنا. هذا يحدث في منتصف الأسبوع فيثبت عهد الله مع قدِّيسيه، بعد أن يصدر ضد المسيح مرسومًا يمنع فيه تقديم ذبائح، لأن سيُقيم رجسة الخراب، أي تمثالاً للوثن داخل الهيكل. ثم يتم الدمار النهائي ويُدان اليهود الذين يُفتنون بضد المسيح بعد أن رفضوا المسيح.
يستشهد أبوليناريوس بمؤلف الـTempora وهو يوليوس أفريكانيوس الذي سبق لنا عرض تفسيره في شرح الأصحاح.
إنه يؤكد أن الأسبوع الأخير يأتي في نهاية العالم، لكن أبوليناريوس يقول بأنه يستحيل فصل الفترات عن بعضها البعض، إنما هي ملتصقة وراء بعضها.
رأي القدِّيس أكليمنضس السكندري:
رأى أن الفترات متتابعة وأن السبعين أسبوعًا تمت وذلك من مُلك كورش ملك فارس حتى تولى فسبسيان الروماني وتيطس الحكم، فهي تضم عصر فارس واليونان وقياصرة روما.
رأي العلامة أوريجينوس:
مع تبنِّيه للتفسير الرمزي إلاَّ أننا نجده في هذه الرؤيا لا يميل إلى الرمزية بل كان ملتزمًا بالحقائق التاريخية. هكذا قدم لنا الملاحظة المختصرة التالية في المجلد العاشر من المتفرقات Stromata.
[يجب أن نتحقق بدقة المدة ما بين السنة الأولي لداريوس بن أحشويرش ومجيء المسيح الثاني، ونكتشف كم تتضمن من عدد السنوات، وما هي الأحداث التي قيل أنها قد حدثت أثناءها؛ ثم نرى ما إذا كانت هذه التوقيتات تتفق مع وقت مجيء المسيح الثاني].
رأي العلامة ترتليان:
قدم لنا القدِّيس جيروم رأي العلامة ترتليان[242] عن كتابه "ضد اليهود Contra Judaeos" في شيء من الاختصار.
كيف نقول أن السيِّد المسيح قد جاء خلال الـ 62 أسبوعًا؟ يبدأ حساب ذلك بالسنة الأولى لداريوس حيث يطابق هذا التوقيت إعلان الرؤيا لدانيال. لهذا قيل وفهمني وتكلم معي وقال يا دانيال إنيّ خرجت الآن لأعلمك الفهم، في ابتداء تضرعاتك خرج الأمر" [22-23].
ملك داريوس 19 سنة، وملك أرتحشستا Artaxerxes 40 سنة، أما Ochus الملقب كورش فملك 24 سنة وأرغوس Argus عامًا واحدًا ثم داريوس الثاني المسمى Melas لمدة 21 عامًا. وملك الإسكندر المقدوني 12 عامًا. ملك سوتير Soter في الإسكندرية 35 عامًا، خليفة فلاديلفيوس لمدة 38، ثم تولى الحكم إفرجيتس Euergetes لمدة 25 عامًا ثم فيلوباتور لمدة 17 عامًا وتلاه إبيفانس لمدة 24 عامًا، وأيضًا ملك إفرجيتس الثاني لمدة 29 سنة وسوتير 38 سنه، وبطليموس لمدة 37 عامًا وكيلوباترة لمدة 20 عامًا وخمسة أشهر. وأيضًا شاركت كيلوباترة أوغسطس في الحكم لمدة 13 سنة. وملك أوغسطس بعد حكمه مع كيلوباترة لمدة 43 سنة أخرى، فكانت مجموع سنوات حكم أوغسطس 56 سنة. وقد عاش أوغسطس هذا بعد ميلاد السيِّد المسيح لمدة 15 سنة.
جاء مجموع السنوات حتى ميلاد السيِّد المسيح (السنة 41 من حكم أوغسطس) فيها 13 سنة في شركة كيلوباترة و 28 من حكمه وحده (وجاء ميلاد السيِّد في السنة 29 من حكمه)، هو 437 سنة وخمسة أشهر بمعنى أنه يكون قد انقضى 62.5 أسبوعًا، أي ما يوازي 437 سنة و6 أشهر عند ميلاد المسيح. حينئذ ظهر الصلاح الأبدي، ومُسح قدوس القدوسين وهو المسيح، وبطلت الرؤيا والنبوة، ومحا المسيح الخطية لكل من يؤمن به. لكن ماذا يعني أنه قد تثبتت الرؤيا والنبوة؟... يقول العلامة ترتليان: قد خُتمت النبوة، محققًا كل النبوات التي جاءت قبلاً بخصوصه.
ومن المؤكد أنه قد بطلت كل رؤيا ونبوة عن مجيء المسيح وآلامه، لأنها قد تحققت.
يضيف ترتليان: لنبحث إذًا عن معنى السبعة أسابيع ونصف التي قُسمت بدورها إلى أجزاء من أسابيع سابقة، كيف تحققت خلال تلك الأجزاء؟ بعد موت أوغسطس الذي عاش بعد ميلاد السيِّد المسيح، انقضت 15 عامًا، وتلاه طيباريوس قيصر وملك لمدة 22 سنة و7 شهور و28 يومًا. في السنة 15 لملكه تألم المسيح في الـ 33 سنة من عمره. ثم ملك غايس قيصر الملقب Caligula لمدة 3 سنوات و8 أشهر و13 يومًا. وملك نيرون لمدة 9 سنوات و 9 أشهر و 13 يومًا. وملك Galba لمدة 7 أشهر و28 يومًا. وملك Otho لمدة 3 أشهر وخمسة أيام؛ أما Vitellius فملك لمدة 8 أشهر و28 يومًا. هزم فسبسيان اليهود في السنة الأولي لملكة، فصار مجموع السنين 52 سنة و6 أشهر، لأنه ملك لمدة 11 سنة مجموع السنين 52 سنة و 6 أشهر، لأنه ملك لمدة 11 سنة وبذلك في الوقت الذي اقتحم فيه أورشليم، فيكون اليهود قد أتمُّوا السبعين أسبوعًا كما جاء في نبوة دانيال.
رأى اليهود:
يقول القدِّيس جيروم[243] إن اليهود حسبوا الـ 490 سنة تبدأ بالسنة الأولى لداريوس الذي ذبح بيلشاصر وحول الإمبراطورية الكلدانية إلى مادي وفارس، وتنتهي إلى عصر المسيح، فوجدوا فيها نبوة عن موته وعن اقتراب الجيش الروماني تحت قيادة فسبسيان وابنه تيطس. وإن النبوة قد تحققت بدمار أورشليم على أيدي الرومان، واعتبر اليهود أن الثلاث سنوات ونصف الأولى من الأسبوع الأخير تُشير إلى دمارها على أيدي فسبسيان وتيطس والثلاث سنوات ونصف الأخرى تُشير إلى حرب هادريان.
هذا وقد ذكر مونتجمري[244] James Montgomery الذي تبنى أراء النقاد في القرن العشرين أن كثير من علماء اليهود في العصور الوسطى اتبعوا الرأي التقليدي في اعتبار أن نقطة النهاية في النبوة هي دمار أورشليم بواسطة تيطس أو هادريان؛ مثل راشي وابن عزرا وغيرهما، وينقل أرتحشستا.
وينقل عنShottgen أمثلة لتفاسير اليهود لهذه النبوة، كقول الحاخام Nachmanides بأن "قدوس القدوسين ليس سوى المسيا، المكرس من أبناء داود".
ويقول الحاخام موسى هادرشان "البرّ الأبدي هو الملك المسيا".
وللاستزادة في تفسير علماء اليهود لهذا النبوة نرجو الرجوع إلى كتاب القس عبد المسيح بسيط أبو الخير، ص 136-139.
تقدم الأصحاحات (10-12) الرؤيا الرابعة والأخيرة لدانيال النبي.
ص 10: افتتاحية للرؤيا، تصف ظهور ملاك أو ربما كلمة الله نفسه لدانيال ودخوله في حوار معه.
ص 11: الرؤيا ذاتها، تقدم نبوات خاصة بالعلاقة بين بطالسة مصر والسلوقيِّين بسوريا، وتنتهي بموت أنطيوخس.
ص 12: خاتمة الرؤيا، تحدثنا عن الضيقة العظيمة ونهاية الأزمنة.
يقدم لنا دانيال النبي هذا الأصحاح كمقدمة للأصحاحين التاليين، فيه يعلن اهتمام السمائيِّين بالعالم البشري (أي 1: 7؛ 2: 1؛ زك 3: 1؛ رؤ 12: 7). كما يقدم لنا الصراع بين الملائكة وقُوى الشرّ من أجل تمتع البشرية بالخلاص أو هلاكهم. كما أن الملائكة لا تكف عن أن تعمل لحساب العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14)، فإن الشياطين أيضًا لا تكف عن مقاومة الحق وهلاك الناس.
في الأصحاح السابق قدم لنا رؤياه الخاصة بالسبعين أسبوعًا التي حددت موعد مجيء السيِّد المسيح لتحرير المؤمنين به كما وجهت أنظارنا إلى مجيئه الثاني أو الأخير. الآن يؤكد لنا النبي في الرؤيا التالية الأحداث الرئيسية ما بين العودة من بابل إلى مجيء السيِّد المسيح في شيء من التفصيل، وفي دقة فائقة.
1. تاريخ الرؤيا [1].
2. تمتعه بالرؤيا [2-9].
3. خدمة ملائكية [10-14].
4. خدمة إلهية [15-27].
"في السنة الثالثة لكورش ملك فارس كُشف أمرٌ لدانيال الذي سُمِّي باسم بلطشاصَّر.
والأمر حق، والجهاد عظيم (طويل)، وفهم الأمر،
وله معرفة الرؤيا" [1].
في السنة الثالثة من مُلك كورش ملك فارس. بمقارنة ذلك بما جاء في (دا 1: 21) "وكان إلى السنة الأولى لكورش الملك" يُفهم أن دانيال أحيل على المعاش وترك الخدمة في الثمانين من عمره، بعد تولي كورش المُلك بسنة واحدة.
أما سبب عدم رجوعه إلى أورشليم مع زرُبابل، بل بقي في بابل، فلم يخبرنا عنه الكتاب؛ ربما بأمرٍ إلهيٍ ليتمم رسالة خاصة بخدمة شعبه يمارسها وهو في أرض السبيّ.
وُهبت له هذه الرؤيا بعد عامين من تركه العمل، قبيل نياحته. وقد تأكد أن ما يراه سيحققه الله حتمًا (رؤ 22: 6)، إذ يقول: "الأمر حق"، لا يوجد مجال للشك، بالرغم من أن الأحداث غير مُتوقعة. على أي الأحوال قرر دانيال أن الزمن المحدد طويل. يرى البعض أن الزمن طويل لأن الرؤيا الرابعة (ص 10-12) تمتد إلى قيامة الأموات وانقضاء الدهر[245].
بالنسبة للرؤيا السابقة كان دانيال مرتبكًا وغير قادرٍ على فهمها، أما هذه النبوة فيؤكد أنه قد فهمها تمامًا.
لماذا أورد هنا اسمه الذي أُعطي له في بابل "بلطشاصَّر"؟
أ. ليؤكد أنه وإن كان قد أُحيل على المعاش، ولا وجود له في القصر، لكن لم يعرفه أحد باسمه الأصلي، إنما التصق به الاسم الذي فُرض عليه، ومع عدم محبته للاسم تركه لعله يجد به فرصة لخدمة شعبه.
ب. إن كان لا يزال يحمل هذا الاسم الكلداني كل هذه الفترة، لكن قلبه لا يزال ملتصقًا بإلهه الذي يكشف له أسراره، ويهبه فهمًا وحكمة.
"في تلك الأيام أنا دانيال كنت نائحًا ثلاثة أسابيع أيام،
لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر،
ولم أُدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام" [2].
صام دانيال ثلاثة أسابيع كاملة، لم يأكل طعامًا شهيًا ولم يتطيب بدهنٍ، لأن كورش انشغل بالحرب ضد السكيثيِّين Scythians، فترك منطقة آسيا الصغرى، وقام ابنه قمبيز Campyses بمقاومة إعادة بناء الهيكل والمدينة المقدسة أورشليم. حقًا لقد عاد البعض إلى أرض الموعد، لكنهم صاروا في عارٍ وخزي، غير قادرين على إعادة الحياة الروحية في بلدهم. ولعله أيضًا سمع عن عدم مبالاة الراجعين إلى أورشليم بشأن بناء الهيكل؛ بيت الرب.
يميِّز بين الأسبوع في الرؤيا السابقة كرمزٍ لسبع سنوات وبين الأسبوع هنا إذ يدعوه "أسبوع أيام"، أي بمعناه الحرفي لا الرمزي.
في الأصحاح الأول من السفر رأيناه ممتنعًا عن أطايب الملك، مكتفيًا بأكل البقول، هل عاد ليأكل اللحم ويشرب الخمر؟ لا يعني النص هكذا، لكنه مع امتناعه عن أطايب الملك سابقًا الآن يرفض كل طعامٍ شهيّ حتى في بيته الخاص، ليقدم صومًا صارمًا من أجل شعبه.
يهاجم البعض الصوم الكنسي كأنه بلا هدف، وأنه لا حاجة إليه إلاَّ عند الضرورة كما حدث هنا بالنسبة لدانيال النبي. يُرد على ذلك أن دانيال كان رجل صلاة مع صوم منذ قدم لنا سيرته في الأصحاح الأول. حقًا كان لصومه هدفه، وأيضًا لصلاته، لكننا لم نسمع عنه أنه توقف عن الصلاة حتى متى حلت الضيقة يُصلِّي. لقد قدم لنا صلاته واعترافه في وقت الضيق، هذا لم يمنعه عن الصلاة ثلاث مرات يوميًا. هكذا بالنسبة للصوم الكنسي، فإننا في حاجة إليه بجانب الأصوام الخاصة عند حلول ضيقة معينة. إنما ما يجب التأكيد عليه هو وجود هدفٍ روحي واضح لا للأصوام الكنسية فحسب، بل ولكل عبادتنا.
مع امتناع دانيال النبي عن اللحم والخمر امتنع أيضًا عن كل طعامٍ شهي، هكذا يليق بنا في أصوامنا مع امتناعنا عن المنتجات الحيوانية أن نمتنع عن كل طعامٍ شهي حتى وإن كان نباتيًا، فلا نأكل بشهوة، حتى وإن كان خبزًا جافًا.
ارتبط صوم دانيال بالصلاة والاعتراف بخطاياه، لأن الصوم هو تهيئة للنفس للحديث مع إلهها، وليس هدفًا في ذاته. وقد ربط السيِّد بينهما بقوله: "وأما هذا الجنس فلا يخرج إلاَّ بالصلاة والصوم" (مت 17: 21).
v على أي الأحوال إذ مارس دانيال، رجل الرغبات، السيطرة على شهواته، صارت له سيطرة على مملكة الكلدانيِّين، فطرح أصنامهم، وأهلك التنِّين، وروَّض الأسود، وبشر بالتجسد، وفسَّر الأسرار الخفية (5: 9، 14) [246].
v وماذا عن دانيال؟ كيف نال التأمُّل في العجائب؟ ألم يحدث هذا بعد صوم عشرين يومًا؟![247]
"وفي اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول إذ كنت على جانب النهر العظيم هو دَجلة" [4].
يرى البعض أنه رأى نفسه في الرؤيا على شاطئ نهر الدجلة، ولم يكن بالفعل هكذا، ولا قاطنًا في هذه المنطقة، وإن كان البعض الآخر يرون أنه بعد ثلاثة أسابيع من الصوم كان دانيال بجوار النهر العظيم (دجلة) يتمشى على شاطئ النهر يتأمل في الله ومعاملاته، كما كان اسحق يتمشى في الحقل.
عند نهر خابور رأى حزقيال النبي رؤياه العظيمة (حز 1)، وعند مجاري نهر الأردن انفتحت السموات لترى ربنا ومخلِصنا يعتمد... هكذا إذ نجلس بجوار مياه المعمودية، ونقبل عمل روح الله فينا، وندرك بنوتنا لله ننال رؤيا جديدة في أعماقنا، ونكتشف تجلِّي ابن الله الوحيد الجنس في أعماقنا. نراه كمن على عرشه يهبنا عربون مجده السماوي إلى أن نلتقي به وجهًا لوجه فننعم بشركة أمجاده وميراثه الأبدي.
عوض العيد كان دانيال حزينًا وصائمًا، لا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن بزيت كعادة الفارسيِّين. ظهرت له الرؤيا وهو في مناحة يبكي على خطايا شعبه.
منذ عامين كان قد سمح كورش للراغبين من اليهود أن يعودوا إلى أورشليم، لكن قلة قبلت ذلك. لأن كثيرين فضلوا البقاء في بابل يمارسون أعمالهم التجارية، ويهتمون بالمكاسب المادية عِوض إنفاق ما لديهم على عودتهم مع أسرهم للبدء في مشاريع جديدة بأرض الموعد. هذا ما أحزن دانيال النبي الذي بقي في السبي، ليس طمعًا في مركزٍ أو مكسبٍ، وإنما لخدمة الذين لم يرجعوا بعد. ولعل ما أحزنه أيضًا أنه سمع عن تراخي الذين عادوا إلى أورشليم في بناء هيكل الرب، مهتمين ببناء بيوتهم الخاصة حاسبين أنه لم يأتِ بعد الوقت للبناء. هذا ما أحزن قلب حجي النبي أيضًا، إذ جاءته كلمة الرب: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة، وهذا البيت خراب؟!" (حج 1: 4).
كانت هذه الرؤيا في اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول، أي في عيد الفطير (خر 12: 18) الذي يأتي بعد الفصح مباشرة لمدة أسبوع.
"رفعت ونظرت فإذا برجلٍ لابسٍ كتانًا وحقواه متنطِّقان بذهب أُوفاز.
وجسمه كالزبرجد، ووجهه كمنظر البرق،
وعيناه كمصباحيّ نار،
وذراعاه ورجلاه كعين النحاس المصقول،
وصوت كلامه كصوت جمهور" [5-6].
يرى البعض أن كلمة أوفاز Uphaz صفة تعني "نقيًا"، بينما يرى البعض أنها تُشير إلى منطقة معينة كما جاء في إرميا "ذهب من أوفاز" (إر 10: 9)، ويترجمها البعض "أوفير" Ophir.
يرى البعض أن اللباس الكتاني هنا يُشير إلى كهنوت السيِّد المسيح، والمنطقة الذهبية إلى العمل الرعوي للسيِّد المسيح. فقد اعتادوا في الشرق أن يلبسوا مناطق على الحقوين، لأن ثيابهم طويلة تبلغ إلى القدمين فتعوق حركتهم. فالمنطقة ترفع الثوب وتساعد الإنسان على الخدمة وسرعة الحركة.
جسمه كالزبرجد، وكما يقول القديس جيروم: [إنها إحدى الحجارة الكريمة الإثنتي عشرة التي توضع علي صدرة رئيس الكهنة[248] إن كانت الحجارة الكريمة تُشير إلى الأسباط الاثني عشر فيقف رئيس الكهنة أمام الله يشفع فيهم، ويحملهم بالحب على صدره لينعموا بالحضرة الإلهية. فإننا وقد صرنا سبطًا واحدًا، ننتسب إلى سبط يهوذا (روحيًا)، وصرنا أعضاء في جسد السيِّد المسيح. فإننا لا نجد أنفسنا على صدرية المخلِّص، بل بالحري أعضاء جسده، لنا حق الدخول إلى الأقداس السماوية مع الرأس السماوي.
كان صوته كصوتِ جمهورٍ عظيم سمعه دانيال النبي وفهمه بينما هرب من معه ولم يفهموا شيئًا من الصوت. هذا ما حدث مع شاول الطرسوسي في الطريق إلى دمشق حيث رأى وسمع، فتحدث مع يسوع المسيح الذي ظهر له في السماء، أما الذين حوله فرأوا وكأنهم لم يروا وسمعوا صوتًا ولم يفهموا شيئًا؛ لذا حُسبوا كأنهم لم يروا ولم يسمعوا (أع 9: 7؛ 22: 9).
شاهد دانيال النبي شخصًا أوصافه تطابق ما ورد عن السيِّد المسيح في رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي (رؤ 1: 13-15). يرى البعض أنه نظر ملاكًا قديرًا، بينما يرى آخرون أنه كلمة الله قبل التجسد[249]. فإنه إذ كان نائحًا على خطايا شعبه ظهر له ذاك الذي يحمل خطايا العالم كله.
v يقول: "رفعت (عيني) ونظرت فإذا برجل لابسٍ كتانًا" [5]. في الرؤيا الأولى يقول: "أنظر، قد أُرسل الملاك جبرائيل"، أما هنا فالأمر مختلف، إذ يرى الرب ليس إنسانًا كاملاً وإنما في شكل إنسانٍ...
ارتداؤه لباسًا مختلف الألوان يُشير رمزيًا إلى تنوُّع النعم التي لدعوتنا. لقد صُنع اللباس الكهنوتي من ألوان مختلفة، لأن أممًا متنوِّعة تنتظر مجيء المسيح لكي نصير (جسدًا واحدًا) بألوان متباينة.
يقول "وحقواه متنطقتان بذهب أوفاز" [5]. كلمة "أوفاز" انتقلت عن العبرية إلى اليونانية لتعني ذهبًا نقيًا. لقد تمنطق حول حقويه بمنطقة طاهرة. كان على "الكلمة" أن يحملنا ويربطنا به كمنطقة حول جسده بحبّه الخاص، الجسد الكامل، أما نحن فأعضاء جسده المتحد معًا، ونقوم بالكلمة نفسه.
"وجسمه مثل Tharses (كالزبرجد)". كلمة Tharses تُفسر "إثيوبيِّين". أو "من الصعب التعرُّف عليه". هكذا أعلن النبي مقدمًا، مؤكدًا أن الجسد سيُعلن في العالم، لكن كثيرين يجدون صعوبة في التعرُّف عليه.
"ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحيّ نار". فإنه يليق بقوة الكلمة الناري والقضاء أن يُعلن مقدمًا عن ممارسته لنار (دينونته)، فيضيء بالعدل على الأشرار ويهلكهم.
يضيف أيضًا هذه الكلمات: "وذراعاه وقدماه مثل نحاس لامع" ليظهر الدعوة الأولى والثانية للبشر، أي للأمم. "فإن الآخرين يكونون كالأولين"؛ إذ أُقيم حكّامك كما في البداية. "وكان صوته كصوت جماهير كثيرة" (إش 1: 26، رؤ 19: 6). فإننا نحن جميعًا ننطق بأمور مُتنبأ عنها، ننطق بفمه عن الأمور التي عينها هو[250].
"فرأيت أنا دانيال الرؤيا وحدي،
والرجال الذين كانوا معي لم يروا الرؤيا،
لكن وقع عليهم ارتعاد عظيم، فهربوا ليختبئوا.
فبقيت أنا وحدي ورأيت هذه الرؤيا العظيمة،
ولم تبقَ فيَّ قوة، ونضارتي تحوَّلت فيَّ إلى فساد،
ولم أضبط قوة.
وسمعت صوت كلامه،
ولما سمعت صوت كلامه،
كنت مسبَّخًا على وجهي ووجهي إلى الأرض" [7-9].
أدرك دانيال - وهو أفضل من كان في زمانه - أن كماله قد تحوَّل كما إلى فسادٍ، فلم يفتخر ببرٍ ذاتي، هذا الذي يُحسب كخرقة الطامث (إش 64: 6). إذ غلبه مجد الرب سقط النبي على الأرض كمن قد فقد وعيه وخارت قواه تمامًا، لكنه أدرك صوت الرب.
وقع خوف على الذين كانوا مع دانيال النبي وهربوا ليختبئوا؛ ربما رأوا شيئًا غريبًا، لكنهم لم يُميِّزوا الرؤيا فارتعبوا. لقد سمح لهم الله بهذا لئلاَّ يظن أحد أن ما أعلنه دانيال كان وهمًا أو تخيُّلاً. لقد اُختير دون غيره ليصير معلِّمًا يكشف عن أسرار الله ويتقبل المعرفة الإلهية لحساب الجماعة كلها، لكنه كان محتاجًا إلى من يشهد له أنه مدعو لعملٍ إلهيٍ فائقٍ.
كرر أكثر من مرة أنه رأى ليؤكد أن ما ينطق به هو حقيقة شاهدها حقًا، ويدعو الرؤيا عظيمة لكي يلفت أنظارنا فنهتم بها.
ارتعد دانيال وفقد قوته الجسمية، حتى صار كميِّتٍ فاسدٍ بلا حياة... الله لا يُريد لنا نحن أولاده هذا الضعف الشديد، لكنه يسمح لنا بذلك إن كان فيه نفعنا. لأنه أحيانًا إذ نكون في كامل صحتنا لا نبالي بالصوت الإلهي، ولا نتمتع برؤيا سماوية داخلية، لذا يسمح لنا بالضعف الجسدي إلى حين ليسحب طاقاتنا الداخلية إلى رسالة سماوية معينة. إن كانت الرؤيا قد أرعبت دانيال، لكن الصوت السماوي أعطاه طمأنينة وسلامًا، ولمسات يده ملأته قوة.
3. خدمة ملائكية:
"وإذا بيدٍ لمستني،
وأقامتني مرتجفًا على ركبتيّ وعلى كفَّيّ يدي" [10].
واضح أن دانيال شاهد الرؤيا وهو منبطح على الأرض، وكان مستندًا على ركبتيه ويديه، وكان محتاجًا إلى عون سماوي ليُقيمه.
اليد التي كتبت على الحائط فأرعبت الملك بيلشاصَّر، هي التي لمست دانيال وأعطته قوة للقيام والتمتع بالفهم. يرى البعض أن اليد السماوية تُشير إلى التجسد الإلهي، حيث قدم لنا السيِّد المسيح العمل الإلهي، واهبًا إيّانا الفهم والحكمة مع الفداء والمجد.
يقول القديس جيروم: [ظهر الملاك في شكل إنسانٍ ووضع يده على النبي إذ كان مستلقيًا على الأرض. لقد حمل شكله (البشري) حتى لا يرتعب![251]].
ظهور الملائكة على شكل بشر يكشف عن تقدير السماء لنا كبشرٍ، فهم وإن لم يحملوا أجسادًا مثلنا لا يستنكفون من الظهور بشكلٍ بشريٍ. أنهم بهذا أيضًا يعلنون عن شوق السمائيِّين إلى الدخول في صداقة معنا.
"وقال ليّ: يا دانيال أيُّها الرجل المحبوب (جدًا)،
افهم الكلام الذي أُكلِّمك به،
وقم على مقامك،
لأنيَّ الآن أُرسلت إليك.
ولما تكلم معي بهذا الكلام قمت مرتعدًا" [11].
لمسته اليد وناداه صوت سماوي يحثه على القيام، ينزع عنه الخوف ويهبه فهمًا. ومع هذا إذ قام دانيال كان مرتعدًا. وكأن الله من أجل محبته لنا، يسمح أن يترك فينا شيئًا من الضعف لكي لا نستكبر. لقد كان دانيال دون سواه مؤهلاً لنعمة الرؤى في عهده، ونال عونًا إلهيًا إذ أرسل الله له رئيس الملائكة جبرائيل يلمسه بيده ويتحدث معه، ويقدم له الفهم. لكنه بقي في رعدة فيدرك مع إبراهيم أب الآباء أنه تراب ورماد.
لمست يد سمائية دانيال وأقامته، ربما كانت يد رئيس الملائكة جبرائيل الذي يُفسر الرؤى لدانيال (9: 23)، هذا الذي يدعو دانيال بالمحبوب جدًا، لتشجيعه ومساندته.
يُعلق القديس جيروم على تعبير: "المحبوب"، قائلاً: [إنه تعبير لائق، فإن كل قديس يحمل جمالاً في نفسه، وهو محبوب من الرب[252].]
وقف النبي الشيخ لكنه كان مرتعبًا. طمأنه الملاك بأن صلاته قد سُمعت وأُرسلت الإجابة.
"فقال ليّ: لا تخف يا دانيال،
لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك سُمع كلامك،
وأنا أتيت لأجل كلامك" [12].
طلب رئيس الملائكة من دانيال ألا يخف، ولم يكن ذلك في قدرة دانيال بل كان محتاجًا إلى عونٍ إلهي يهب فكره سلامًا، ويهيِّئ أعماقه لإدراك الأسرار الإلهية. بقوله: "لا تخف" لا يقدم مجرد وصيَّة سمائية، بل عطية سمائية يهبها الله نفسه لمحبِّيه. أما لماذا قُدمت هذه العطايا لدانيال دون الذين حوله، هل عند الله محاباة؟ حاشا! لقد جعل دانيال قلبه للفهم، وذلك بالصلاة والصوم والتذلُّل مع التوبة. تمتع دانيال بعطايا إلهية مجانية، لكن ليس وهو متهاون في حياته، يحيا لا بروح الترف والتدليل، بل بروح الجدية، ملتجئًا إلى الله واهب الفهم والمعرفة. وكما يقول القديس يوحنا الحبيب إننا نعرف أننا إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا (1 يو 5: 14).
لقد تذلل دانيال بالتوبة قدام الله إلهه، أي خلال العلاقة الشخصية مع الله الذي يحسبه إلهه، أي ينسبه إليه، ولهذا تأهل أن يرسل الله ملاكه إليه، لأن ملاك الرب حال حول خائفيه (مز 145: 19).
"ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحدًا وعشرين يومًا،
وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي،
وأنا أبقيت هناك عند ملوك فارس" [13].
يبرر الملاك سبب تأخيره 21 يومًا أو ثلاثة أسابيع، وهي الأسابيع التي كان فيها دانيال النبي صائمًا ومتذللاً أمام الله، لكن لم يعرف دانيال ذلك حتى تمَت الثلاثة أسابيع، فقد كان الملاك يعمل لصالح النبي وهو لا يدري.
كثيرًا ما نظن أن الله لا يسمع لصلواتنا أو يتباطأ في الإجابة، مع أنه مهتم بنا، ويخفي عنا عمله من أجلنا حتى نكتشفه في الوقت المناسب، حين نصير قادرين على فهم خطَّة الله وعمله لأجلنا.
"وجئت لأُفهمك ما يصيب شعبك في الأيام الأخيرة،
لأن الرؤيا إلى أيام بعد" [14].
يؤكد الملاك لدانيال أنه جاء ليعلن له أن صلواته قد اُستجيبت، وأنه يعمل لصالح الشعب، مقاومًا شر ملك فارس. عاد ليعلن له أن عناية الله ممتدة عبر سنوات طويلة؛ عليه أن ينتظر ليرى بروح النبوة الأحداث القادمة لا إلى يوم رقاده فحسب، بل وإلى مجيء السيِّد المسيح مخلص العالم.
v ليتأكد ذاك الذي يرتاب في استجابة صلاته أنه لن يُستجاب له.
غير أنه يلزمنا ألا نسأل الله بقلقٍ، وذلك كما يُعلِّمنا دانيال الطوباوي، إذ سمع الله له من أول يوم بدأ فيه يقدم الصلاة، لكنه نال ثمرة صلاته بعد 21 يومًا. هكذا ليتنا لا نفتر في غيرة صلواتنا التي نبدأها، إن تصورنا أن الاستجابة قد أبطأت، لئلا تتأجل الاستجابة التي تهبها لنا العناية الإلهية... وهذا ما كان يمكن أن يحدث في حالة النبي المذكور لو لم يُوجد مثابرًا على الدوام بثبات في صلواته خلال الـ 21 يومًا رغم أن الاستجابة صدرت من اليوم الأول[253].
أوضح رئيس الملائكة جبرائيل سرّ تأخره في الإجابة على صلاته، إذ له ثلاثة أسابيع يُقاوم "رئيس مملكة فارس" حتى جاء رئيس الملائكة ميخائيل، شفيع شعب الله ومعينًا له. ماذا يقصد برئيس مملكة فارس؟ هل يقصد الملك أم ملاك شرير مقاوم لعمل الله؟
إن ملاكًا شريرًا يوجهه الشيطان ليُجرب ملوك فارس ويؤثر عليهم ضد شعب الله، لذا وقف الملاك جبرائيل يسنده الملاك ميخائيل ليُحطم أعمال عدو الخير ضد المؤمنين، لا يقصد هنا بـ "رئيس مملكة فارس"، إنسانًا بل الشيطان الذي يجرب ملك فارس ويحركه.
يقول القديس جيروم: [في رأيي أنه الملاك المُكلف بفارس، وذلك كما جاء في التثنية: "حين قسم العلي للأمم حين فرَّق بني آدم نصب تخومًا لشعوب حسب عدد ملائكة" (تث 32: 8). توجد الرئاسات التي يتحدث عنها بولس: "لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين... التي لم يعلمها أحد من رؤساء (عظماء) هذا الدهر. لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 6-8). هكذا قدم رئيس أو ملاك فارس مقاومة، عاملاً لحساب المقاطعة الموكولة إليه حتى لا تتحرر الأمة المسبية بكاملها. لعله بالرغم من أن الله قد سمع للنبي بحنو منذ اليوم الذي فيه وضع قلبه للفهم، مع ذلك لم يُرسل إليه الملاك ليعلن له قرار الله المملوء حنوًا لأن ملاك فارس قاومه لمدة 21 يومًا، معددًا خطايا الشعب اليهودي كأساس عادل لبقائهم في السبي وكحجة لكي لا يتحررون[254]].
هل كان رئيس الملائكة جبرائيل عاجزًا عن مقاومة الشيطان الذي يبث روح العنف والكراهية في قمبيز Cambyses ضد المؤمنين؟ أو كان عاجزًا عن مقاومة الملك الشرير نفسه؟ لماذا أرسل له الملاك ميخائيل؟ لست أظن أن حديث الملاك هنا يقلِّل من شأن الملاك جبرائيل أو قدرته، إنما يكشف عن روح العمل الجماعي حتى بين السمائيِّين، وأيضًا يعلن عن اهتمام الله بشعبه، فيرسل لا رئيس ملائكة واحد بل أكثر من أجل شعبه. يقول يوناثان: "لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلِّص بالكثير أو بالقليل" (1 صم 14: 6). ويقول آسا: "أيُّها الرب ليس فرقًا عندك أن تُساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة" (2 أي 14: 11).
يؤكد رئيس الملائكة جبرائيل أن دوره لم ينتهِ بعد، بل تركه الله عند ملك فارس الذي لا يزال يحمل كراهية ضد الشعب. فإن الله في عدله لم ينهِ حياة ملك فارس، ولا ألزمه بحب المؤمنين، بل ترك له حرية الإرادة يفعل كما يشاء، ولكن من أجل المؤمنين يرسل ملائكة لصد الهجمات التي تحل عليهم من الملك الشرير.
في التقليد اليهودي كما المسيحي يُنظر إلى رئيس الملائكة ميخائيل كحارسٍ لشعب الله (12: 1).
4. خدمة إلهية:
"فلما تكلم معي بمثل هذا الكلام جعلت وجهي إلى الأرض وصَمَت.
وهوذا كشبه بني آدم لمس شفتيَّ،
ففتحت فمي وتكلمت وقلت للواقف أمامي:
يا سيِّدي، بالرؤيا انقلبت علي أوجاعي، فما ضبطت قوة.
فكيف يستطيع عبد سيِّدي هذا أن يتكلم مع سيِّدي هذا،
وأنا فحالاً لم تثبت فيَّ قوة ولم تبقَ فيَّ نسمة؟!" [15-17].
يُعلق القديس جيروم على هذه العبارات قائلاً: [يليق بطبيعتنا الداخلية أن توجه أنظارها إلى خارج (فترى أننا في ضعف)، وذلك قبل أن تتأهل لمعاينة رؤية الله، لكن ما أن تتحقق فعلاً رؤية الله تتحول طبيعتنا الداخلية إلى الداخل ونصير بكليتنا في تعداد من كتب عنهم في مزمور آخر: "كل مجد ابنة الملك من الداخل، في ثياب ذهبية" (مز 44: 14) [255]].
إذ غُلب دانيال بالضعف مرة أخرى سقط على الأرض. وبلطف اهتم الله به، لكن دانيال كان عاجزًا عن الحديث حتى فتح الرب شفتيه، إذ جعل ملاكه يمس شفتيه...
وإن كان دانيال قد عجز عن الدخول في حوارٍ، سنده الملاك، ليس فقط بالكلمات المشجعة، والكشف عن استجابة صلواته، وإنما بلمسه أيضًا. وكأن الله يؤكد لنا شوقه أن نلتقي مع السمائيِّين، وندخل معهم في شركة حب، لأننا نجتمع معًا لتسبيحه إلى الأبد.
ظهر له الملاك في شبه بني آدم حتى يمكن لدانيال أن يسمع له، ويتلامس معه. في حبٍ مملوءٍ اتضاعًا تظهر لنا الملائكة في شبه البشر، لا من جهة طبيعتهم، بل من جهة شكلهم. وعلى العكس في كبرياء يحاول الشيطان أن يخدعنا ليظهر في شكل ملاك نور (2 كو 11: 14).
يرى البعض أن الذي ظهر في شبه بني آدم هو كلمة الله الذي لمسنا بحبُّه الإلهي، وأعطانا قوة للدخول معه في حوارٍ مفتوحٍ.
مقدمة للنبوة الأخيرة:
"فعاد ولمسني كمنظر إنسانٍ وقوَّاني.
وقال: لا تخف أيُّها الرجل المحبوب (جدًا).
سلام لك.
تشدد، تقوَّ.
ولما كلمني تقويت وقلت: ليتكلم سيِّدي، لأنك قوَّيتني" [18-19].
يقول القديس جيروم: [لو لم يطمئنه الملاك بلمسه كابن الإنسان، فيحرر قلبه من الرعب، ما كان يمكنه أن يسمع أسرار الله. لهذا السبب يقول الآن: "ليتكلم سيِّدي، لأنك قويتني، لأنك جعلتني قادرًا أن أسمع وافهم ما تقوله"[256]].
كان دانيال محتاجًا إلى عملٍ سماويٍ مستمرٍ، إذ عاد ولمسه الملاك، ثم قواه، مؤكدًا له أنه إنسان محبوب جدًا من قبل الله والسمائيِّين، معطيًا إياه السلام، ومشددًا إياه بالوصية الإلهية: "تشدد، تقوَّ".
نحن في حاجة إلى نموٍ روحيٍ دائمٍ، خلال لقائنا المستمر مع الله، وتمتعنا الدائم بالشركة مع السمائيِّين والقديسين. نتلامس معهم، ونتقوَّى بالعمل الجماعي الحيّ، وننصت إلى وعود الله ووصاياه التي ينطقون بها لكي نتشدد.
حياتنا في المسيح تمتع دائم وخبرة غير متوقفة؛ وليست وليدة لحظة معينة بلا نمو!
إذ تحدث معه الملاك وتقوى لم يكتفِ دانيال بذلك، بل طلب المزيد قائلاً: "ليتكلم سيِّدي لأنك قويتني".
"فقال: هل عرفت لماذا جئت إليك؟
فالآن أرجع وأحارب رئيس فارس" [20].
v ما يعنيه هو هذا: حقًا أتيت لأعلمك الأمور التي تتسلمها كإجابة للصلاة، لكنني ها أنا أعود مرة أخرى لأصارع رئيس فارس في عينيّ الله، لأنه لا يُريد أن يحرر شعبك من السبيّ[257].
"فإذا خرجت هوذا رئيس اليونان يأتي.
ولكنيَّ أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق.
ولا أحد يتمسك معي على هؤلاء إلاَّ ميخائيل رئيسكم" [21].
أرسل الرب الملاك (ربما جبرائيل) لدانيال حيث تحدث معه عن رئيسٍ ثانٍ، هنا يتحدث عن اليونانيِّين. كما أعلن أن الشيطان يبعث بملائكته الأشرار لإثارة الأمم للشرّ، وهو يقوم بخطة محكمة.
لقد أكد الملاك له وجود خطة إلهية سماوية يحتفظ بها الله، ويُعلنها لنا تدريجيًا. وأن الله قد عهد لميخائيل رئيس الملائكة حماية شعبه ضد قوى إبليس وملائكته الأشرار.
لقد أرسله الله إلى الملك الفارسي قمبيز، لكن رسالته لم تنتهِ بعد، فإن المقاومة مستمرة في أيام اليونان كما في أيام فارس لذا يتركه يعمل وسط الملوك المقاومين للحق من أجل حماية المؤمنين البسطاء. وكأن عناية الله لكنيسته بكل وسيلة لا تتوقف عبر الأجيال، وإرساليته لملائكته مستمرة لأن قوى الشر لا تتوقف.
من وحي دانيال 10
لتعلن ليّ مجدك وسط آلامي!
v هب ليّ يا رب مع دانيال روح الصلاة مع الصوم باتضاع.
هب ليّ ألا أطلب طعامًا شهيًا،
بل أجد في اللقاء معك سلامي وفرح قلبي!
لاعترف عن خطاياي وخطايا شعبي بدموعي،
فإن صوت دموعي يرتفع إلى عرش نعمتك!
v كثيرًا مع ظننت أنك نسيتني،
لا تبالي بصلواتي وصرخات نفسي،
اكشف عن عيني فأراك تعمل لأجلي،
تخفي عنيّ أعمالك إلى حين،
حتى لا تتوقف نفسي عن الحوار معك!
v سقطت وارتعبت،
لتلمسني بيدك أيُّها القدُّوس،
لتُسمعني صوتك الذي يملأنيَّ رجاءً.
لتقل ليّ: تشدَد وتقوّ!
كلماتك لها سلطان على أعماقي!
v أرى العالم مقاومًا للحق، ومضطهدًا لكنيستك.
وأرى جبرائيل رئيس ملائكتك يعمل معه ميخائيل العظيم!
تترك للأشرار كمال حريتهم للعمل،
وبحبك تبعث بجنودك السمائيِّين لحمايتنا!
عجيب أنت في عدلك كما في حبك.
لتعلن ليّ مجدك وسط آلامي!
عن
يحوى هذا الأصحاح تفاصيل نبوية عجيبة لأحداث العالم تخص شعب الله لمدة تزيد عن ثلاثة قرون جاءت مطابقة تمامًا للأحداث التاريخية. وكما يقول C. Larkine: [هذا الأصحاح هو واحد من أعجب الأصحاحات التي قدمت نبوات تفصيلية دقيقة أكثر من أي أصحاح في الكتاب المقدس. إنها تُطابق تمامًا التاريخ العلماني لملوك مصر وسوريا لأكثر من 350 عامًا. الآيات 5 حتى 31 تُقدم لنا نبؤات عن الحروب التي نشبت بين ملوك الشمال (سوريا) وملوك الجنوب (مصر)[258]].
1. نبوات عن فارس [1-2].
2. نبوات عن اليونان [3-4].
3. نبوات عن الصراع بين مصر وسوريا [5-35].
4. نهاية الأزمنة - ضد المسيح [36-45].
"وأنا في السنة الأولى لداريوس المادي وقفت لأشدده وأقويه" [1].
يظن البعض أن الحديث هنا عن مساندة رئيس الملائكة ميخائيل لرئيس الملائكة جبرائيل، ولكن هذا غير مقبول هنا. إنما الحديث لرئيس الملائكة جبرائيل الذي وقف بجانب داريوس الملك وقوَّاه لكي يسند كورش ملك فارس ضد بابل. بمعنى آخر إن كان بعض ملوك فارس يُقاومون الله في شعبه فإن ما نالوه من نصرات هو بسماح إلهي، وبقوة قُدّمت لهم خلال ملائكة الله. هنا لا يفتخر الملاك بقوته وإمكانياته الخاصة، إنما يتحدث كوكيل الله، وباسم الله العامل بملائكته.
"والآن أخبرك بالحق.
هوذا ثلاثة ملوك أيضًا يقومون في فارس،
والرابع يستغنى بغنى أوفر من جميعهم، وحسب قوته بغناه يهيج الجميع على مملكة اليونان" [2].
غاية ما ورد في هذا الأصحاح من نبوات تخص مملكتي فارس واليونان ثم الصراع بين مصر وسوريا، ليس أن تستعرض أحداثًا مستقبلية تثير في النبي حب الاستطلاع، وإنما تُعلن عن عناية الله بكنيسته، وتحث المؤمنين على الاتكال على الله والثقة في عنايته الإلهية حتى في اللحظات الحرجة. حقًا يبدو من الظاهر وجود صراعات عالمية بين الدول العظمى مثل بابل وفارس ومادي واليونان، وبين شقّين من الإمبراطورية اليونانية وهي دولة البطالسة ودولة السلوقيِّين، لكن وراء هذه الأحداث يد الله الخفية التي تحول كل مجريات الأمور لبنيان كنيسته، وأن الله يُعطي لعهده مع شعبه أولوية خاصة حتى وإن لم يلحظ أحد ذلك.
بالرغم من أن هذه النبوة بأكملها أُعطيت في السنة الثالثة لكورش (10: 1)، أشار رئيس الملائكة جبرائيل في وقت مبكر عندما ثبت بطريقة سرِّية داريوس وقوَّاه في السنة الأولى له. هذا حدث غالبًا في الوقت الذي فيه أُلقيَ دانيال في الجب.
يرى البعض أن الثلاثة ملوك الذين كانوا يحكمون في فارس بعد كورش هم:
1. قمبيز Cambyses بن كورش (527-522 ق.م): في أثناء قيامه بمهمة طويلة في مصر اُغتيل أخوه الأصغر ماغوس Magus الملقب سميردس Smerdis.
2. المدعو سميردس (522-521 ق.م): اغتصب المُلك بعد اغتيال سميردس وكان يشبه شكل سميردس، تزوج Pantaptes ابنة قمبيز. وبقيَ في الحكم 7 شهور واغتاله سبعة مجوس.
3. داريوس هيستاسبس Darius Hystaspes أو داريوس الأول (521-486 ق.م) صار ملكًا، وقد تزوج Pantaptes نفسها زوجة الملك السابق وأنجبت له أحشويرش الذي صار من أغنى الملوك وأشهرهم.
يرى آخرون أن الملاك يقصد بالملوك الثلاثة كورش وابنه قمبيز وداريوس مُستبعدين مغتصب الحكم المخادع "المدعو سميردس".
تحدَث رئيس الملائكة عن ملك رابع فاق الثلاثة ملوك السابقين في الغنى، وهو أحشويرش بن داريوس (480-465 ق.م) الذي تزوج استير. يتحدث القديس يوستينوس عن غناه أنه كانت له ثروات كثيرة حتى إن جفت الأنهار بواسطة قواته لا تنفذ ثروته[259]. هذا عبر بجيش تعداده 2641000 نسمة وغلب اليونان. وقد وضع اليونانيُّون في قلبهم أن ينتقموا لأنفسهم الأمر وقد فعلوا ذلك. لقد بقى أربع سنوات يجمع جيشه، لكن ضخامة الجيش الزائدة أفقدته قدرته على تنظيمه، وانهزم في موقعة سلاميس Salamis. بكبريائه واندفاعه اِنهزم أحشويرش، وهرب في مركب صغير، ولم يجد سفينة واحدة تنقذه، مع أن مياه البحر كانت مغطاة بأسطوله الضخم الذي فقده بسوء نظامه. حسبه شعبه غبيًّا في تصرفاته العسكرية، كما احتقروه لأنه قتل أخاه، وسلك سلوكًا شائنًا مع أخته، وارتكب جرائم أخرى.
اعتبر الملاك ما تبقى من ملوك فارس أشبه بالساقطين. إذ انحدرت دولة فارس وتحطمت نفسية الشعب وصار الملوك فيما بعد كأن لا كيان لهم حتى تسلَّط الإسكندر المقدوني على العالم.
يقول القديس جيروم: [يجب ملاحظة أنه بعد أن حصر بعض ملوك فارس بعد كورش حذف السِفر بوضوح التسعة ملوك الآخرين وعبر مباشرة إلى الإسكندر، لأن روح النبوة لا يهتم بتقديم التفاصيل التاريخية، بل يُقدم في اختصار الأحداث الهامة جدًا وحدها[260]].
2. نبوات عن اليونان:
"ويقوم ملك جبار، ويتسلَّط تسلُّطًا عظيمًا، ويفعل حسب إرادته.
وكقيامه تنكسر مملكته، وتنقسم إلى رياح السماء الأربع،
ولا لعقبه ولا حسب سلطانه الذي تسلَّط به،
لأن مملكته تنقرض وتكون لآخرين غير أولئك" [3-4].
يُشير بكل وضوح إلى أنه في الوقت المناسب يقوم الإسكندر الأكبر (356-323 ق.م) وبقدرة عظيمة يهزم فارس وغيرها من الدول. سبق لنا الحديث عن العداوة التي حملها الإسكندر الأكبر لليهود، ولكن في طريقه إلى اليهودية رأى رؤيا تحققت عندما شاهد رئيس الكهنة بثيابه الكهنوتية يستقبله بحفاوة، ويُقدم له نبوات دانيال النبي، ليؤكد له أنه يهزم فارس، ويُقيم مملكة عظيمة. بهذا تحولت عداوته إلى صداقة، وأحسن معاملته لليهود.
مات فجأة في بابل بعد فتوحات ونصرات متوالية وسريعة، لكنه سكر بالنجاح الفائق والغنى، ومات وهو مخمور. لا يعلم أحد إن كان قد مات بمرض أصابه فجأة وهو مخمور لا يُعرف له علاج، أم مات مسمومًا، شرب السم لينتحر أم أخفاه له كاساندر Cassander. قول الملاك "وكقيامه تنكسر مملكته" يعني بعد أن صار الملك الوحيد لكل الشرق اِنهارت مملكته بموته المفاجئ. وقد سبق لنا الحديث عن الصراعات والاغتيالات التي حدثت بعد موته حتى انقسمت مملكته في النهاية بين أربعة من قواده بعد معركة Ipsus.
يقول: "لأن مملكته تنقرض، وتكون لآخرين غير أولئك" [4]. في دقة تحقَّقت هذه النبوة حرفيًّا إذ لم يرث أحد أبنائه العرش، ولا أحد أقربائه بل تسلَّم العرش قوّاد غرباء، مع أنه كان له ابنان هما هيراقليوس والإسكندر الثاني، لكن لم يتولَّ أحدهما الحكم بل قُتلا، أحدهما قبل موت أبيه والآخر بعده.
يقول القديس جيروم: [بجانب الأربع ممالك، أي مقدونية وآسيا الصغرى وسوريا ومصر، تمزقت مملكة المقدونيِّين بين حكام آخرين أقل أهمية وبين ملوك صغار لا كيان لهم. هنا يُشير إلى Perdiccas وLysimachus و Craterus وغيرهم الذين حكموا كبادوكية وأرمينيا وبيثينية وهيراقليا وبوفورس وأقاليم أخرى كثيرة انسحبت من القوة المقدونية وأقامت لنفسها ملوكًا مختلفين[261]].
هذا كله أعلنه الملاك لدانيال النبي قبل ولادة الإسكندر الأكبر بسنين كثيرة.
3. نبوات عن الصراع بين مصر وسوريا:
تتحدث هذه النبوات عن حروب السلوقيِّين مع البطالسة، إذ دخلت هاتان الأسرتان في حروب دائمة ضد بعضهما البعض. وبحكم موقع فلسطين الجغرافي، في المنتصف بين مصر وسوريا كانت هي أرض المعركة للطرفين في أغلب الحالات. ودُعي ملوك مصر بملوك الجنوب، وملوك سوريا ملوك الشمال.
يليق بنا أن ندرك أن هذا القسم يُغطي فترة زمنية طويلة، حوالي قرنين من الزمان، وعندما يتحدث عن ملك الشمال أو ملك الجنوب لا يقصد ملكًا معينًا واحدًا لكل من الدولتين.
"ويتقوَّى ملك الجنوب.
ومن رؤسائه من يقوى عليه ويتسلط،
تسلط عظيم تسلطه" [5].
كان أول ملك للجنوب (مصر) قويًا هو وامرأته، وهو بطليموس لاغوس Lagus (الأول 323-285 ق.م). كان قويًا وذكيًا وغنيًا، أقوى من أنطيوخس بن سلقوس Seleucus، ملك الشمال (سوريا)، لكنه فيما بعد صار أنطيوخس أقوى وأغنى، إذ ضم إليه بابلونيا ومادي. لقد عرف الملاك ما يبلغه أنطيوخس من عظمة أكثر من بطليموس في المستقبل.
أما المقصود بأحد رؤسائه الذي صار أقوى منه وأكثر سلطة، فيقول عنه القديس جيروم:
[الشخص المذكور هنا هو بطليموس فيلادلفيوس، ملك مصر الثاني، وابن بطليموس السابق ذكره. قيل أنه في عهده قام السبعون بترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية.
لقد أرسل أيضًا كنوزًا كثيرة إلى أورشليم إلى اليعازر رئيس الكهنة وأرسل أوانٍ للهيكل.
كان أمين مكتبته ديمتريس Demetrius of Phalrum رجلاً ذا شهرة بين اليونانيِّين كخطيبٍ وفيلسوف.
جاء عن فيلادلفيوس أنه كان ذا قوة عظيمة فاقت والده بطليموس، إذ يروي عنه التاريخ أنه كان له 200 الفًا من الجنود المشاة، وعشرين الفًا من الفرسان، والفين مركبة، وأربعمائة فيلاً، أول من استوردها من إثيوبيا...
كان كنزه من الذهب والفضة عظيمًا جدًا، وكان دخله السنوي الذي يتسلمه من مصر يبلغ 14.800 قطعة فضة، ويبلغ القمح من نصف مليون إلى مليون إردبًا[262]].
"وبعد سنين يتعاهدان،
وبنت ملك الجنوب تأتي إلى ملك الشمال لإجراء الاتِّفاق،
ولكن لا تضبط الذراع قوة،
ولا يقوم هو، ولا ذراعه،
وتُسلَّم هي والذين أتوا بها والذي ولدها ومن قوَّاها في تلك الأوقات" [6].
يتنبأ عن أواخر الأيام حيث تمت معاهدة بين ملكيّ مصر وسوريا عام 250 ق.م، وكان طريق هذه المعاهدة هو زواج ملك سوريا ابنة ملك مصر. وبالفعل طلق أنطيوخس ثيوس Antiochus Theos (285-247 ق.م) ثالث ملك لسوريا زوجته لاوديس Laodice ليتزوج بيرينيس Berenice أو بيتونيس Betonice أو برنيس Bernice ابنة بطليموس الثاني (283-246 ق.م) والمدعو فيلادلفيوس. لقد وهب ابنته الآلاف من القطع الذهبية والفضية بلا حصر كمهرٍ (دوطة) لها حتى دعي Phernophoros أي "واهب الدوطة" Dowery-giver (dotalis). وكان هدف بطليموس أن يستخدم زواج ابنته بملك سوريا فرصة لكي يُسيطر على سوريا وكل مملكة أنطيوخس، لكن الخطة فشلت. إذ أن لاوديس، التي بعد أن طلَّقها أنطيوخس احتفظ بها كإحدى السراري وليس كملكة، أثارت أصدقاءها ضد الملك، وقتلت ضُرَّتها بيرينيس ومن حولها. أعاد أنطيوخس زوجته الأولى لاوديس التي قيل أنها قتلته مسمومًا بعد قليل، وأقامت ابنها الأكبر سلقوس كالينيكوس Seleucus Callinicus على العرش، والابن الأصغر أنطيوخس الصغير والمدعو Hierax واليًا على آسيا الصغرى. ويقال أن الابن الأكبر هو الذي استمال بيرنيس ووعدها أنه يهتم بها فاطمأنت إليه، وقام بقتلها هي وابنها بطريقة خسيسة وبشعة. هكذا إذ دخل الغش في حياة الملكين فشل الاثنان.
لقد تحققت النبوة حرفيًا، فقد فشلت خطة ملك مصر تمامًا: فمن جهة لم ينل الملك مأربه بتقديم ابنته زوجة لملك سوريا، وقُتلت الابنة ومن حولها، وأيضًا زوجها الذي كان سندًا لها، كما قُتل ابنها.
ب. الحرب الثانية:
"ويقوم من فرع أصولها قائم مكانه، ويأتي إلى الجيش،
ويدخل حصن ملك الشمال ويعمل بهم ويقوى.
ويسبي إلى مصر آلهتهم أيضًا،
مع مسبوكاتهم وآنيتهم الثمينة من فضة وذهب.
ويقتصر سنين عن ملك الشمال.
فيدخل ملك الجنوب إلى مملكته ويرجع إلى أرضه" [7-9].
يُشير إلى أن فرعًا من عائلة بيرنيس يأتي ويغلب ملك الشمال. بالفعل جمع بطليموس (الثالث) إيرجيتس Ptolemy Euergetes أخ بيرينيس، غالبًا أصغر منها، الملك الثالث لمصر الذي خلف والده فيلادلفيوس، جيشًا عظيمًا للانتقام لأخته. وبالفعل غلب كالينيكوس الذي كان حاكمًا سوريا بالشركة مع أمه لاوديس، وفتح مدنًا كثيرة محصَّنة. لم ينتصر فقط على سوريا، لكنه اقتحم أيضًا كيليكية وبعض المناطق وراء الفرات، وكاد أن يتسلط على كل آسيا[263]. جاءت أخبار عن قيام حركة تمرَّد في مصر جعلت ايرجيتس يسرع بالعودة إلى مصر حاملاً معه المسبيِّين وأيضًا الفين ونصف من التماثيل الذهبية والفضية بعضها جاء بها قمبيز من مصر منذ زمنٍ بعيد، كما حمل 40 ألف وزنةٍ من الفضة. لم يفكر كالينيكوس في الدخول في معركة أخرى مع أيرجيتس، إذ عرف أنه لن يستطيع أن يغلبه أو يسترد ما حمله من غنائم. وقد بقي أيرجيتس ملكًا لمدة 46 عامًا [8]. إذ شعر كالينيكوس بالهزيمة أمام أيرجيتس استنجد بأخيه هيراكس والي آسيا الصغرى، الذي لم يبالِ بصرخات أخيه إذ حسب أنه أولى بالعرش. ودخل مع أخيه فيما بعد في معركة وسقط أخوه عن حصانه ميتًا، بينما بقيَ إيرجيتس ملكًا في مصر 4 سنوات بعد موت ملك سوريا. على أي الأحوال لم يرجع إيرجيتس إلى سوريا.
ج. الحرب الثالثة:
"وبنوه يتهيَّجون فيجمعون جمهور جيوش عظيمة،
ويأتي آتٍ ويغمر ويطمو ويرجع ويُحارب حتى إلى حصنه.
ويغتاظ ملك الجنوب ويخرج ويُحاربه أي ملك الشمال،
ويقيم جمهورًا عظيمًا فيُسلَّم الجمهور في يديه" [10-11].
يتنبأ عن ابني كالينيكوس ملك سوريا وهما سلقوس (الثاني) سيرانوس Ceraunus وأنطيوخس الكبير، اللذين جمعا جيشًا للانتقام من المصريِّين بعد موت أيرجيتس. لكن سيرانوس قُتل في فيريجة في السنة الثالثة من حكمه، إذ خانه نيكانور وأباتيريوس Apaturius وهو يستعد للمعركة ضد مصر، تاركًا الحكم لأخيه وحده. صار أنطيوخس الكبير ملكًا مرموقًا، قاد جيشًا ضخمًا ضد مصر. كان في ذلك الوقت بطليموس فيلوباتور الملك الرابع على مصر، وقد حمل لقب فيلوباتور كوصمة عار، لأن الكلمة تعني "المحب لوالده"، بينما قتل والده ووالدته وأخاه، فكرهه الشعب. هذا ما دفع أنطيوخس الكبير للدخول معه في معركة شرسة في رفح سنة 217 ق.م، استخدم فيها الطرفان فيلة ضخمة، لاسترداد ما فقدته سوريا، معتبرين كراهية الشعب لملكهم فرصة للهزيمة. لكن ملك مصر جمع جيشًا عظيمًا يكاد يعادل جيش سوريا. استطاع أن يتحرك سيرانوس بجيشه ويسترد الأراضي السورية المغتصبة، بينما كان ملك مصر المتسم بالجُبن والتهاون يستعد بجيشه العظيم، وإذ التقى بجيش أنطيوخس انتصر عليه في مذبحة عظيمة [11].
لم يغلب فيلوباتور أنطيوخس الكبير بشجاعته وقوته، لكن الرب سمح بذلك ليكسر كبرياء الأخير.
وإذا كان متهاونًا في متابعة نصرته، خاصة وأنه لم يكن يثق فيمن حوله فمع نصرته صنع سلامًا مع أنطيوخس بطريقة غير كريمة [12].
"فإذا رُفع الجمهور يرتفع قلبه ويطرح ربوات ولا يعتز" [12].
يقول المؤرخون أنه كان يمكن لفيلوباتور أن يستولى على سوريا بسهولة، لكنه كان مستسلمًا لشهواته الجسدية وانحلال خلقه مع ارتكابه الكثير من الجرائم. فعند عودته من الحرب قتل زوجته Eurydice وارتكب جرائم كثيرة، كما سلَّم زمام الملك لسيِّدة شرِّيرة لاعبة موسيقى تسمى Agathoclea كما سقط في حب أخيها أغاثوكاليس Agathocles الذي أقامه قائدًا عامًا على مصر.
بعد أن اشتهر بالنصرات فكان الشرق كله يخشاه انغمس في السُكر مع الكسل والتراخي، ولم يعد يشغله شيء سوى الولائم والسهرات والملذات، بهذا ارتفع قلبه إلى سحب نصراته ليسقط منطرحًا في خزي.
"فيرجع ملك الشمال ويُقيم جمهورًا أكثر من الأول،
ويأتي بعد حين بعد سنين بجيشٍ عظيمٍ وثروةٍ جزيلةٍ.
وفي تلك الأوقات يقوم كثيرون على ملك الجنوب،
وبنو العُتاة من شعبك يقومون لإثبات الرؤيا ويعتزون" [13-14].
هنا يعلن الملاك للنبي عن قيام حروب جديدة، فبعد موت بطليموس فيلوباتير، صارت مصر بلا ملك، إذ كان ابنه بطليموس إبيفانس (الخامس 203-181 ق.م) طفلاً صغيرًا يبلغ عمره أربع سنوات وزاد انحراف أغاثوكاليس جدًا وعجرفته فثارت المقاطعات الخاضعة لمصر وتمردت ضد الحكم، ودخلت في مشاكل داخلية كبرى. قام أنطيوخس بالهجوم على مصر، وإذ كانت مصر قد ضعفت جدًا بعثت سفارة إلى روما، وإذ كان الرومان يشتهون مدّ سلطانهم في العالم أرسلوا إلى أنطيوخس يطلبون منه أن يتوقف عن الحرب. بعد محاولات كثيرة فشل في حربه، وأخيرًا انتصر في معركة ضد القائد المصري Scopas على حدود اليهودية. أوضح الملاك أنه لم يقف أنطيوخس الكبير وحده ضد مصر، بل صار لمصر أعداء كثيرون.
صنع أنطيوخس معاهدة مع فيليب الثالث المقدوني، وطلب عون اليهود [13]. رفض الأتقياء من اليهود معاونته لكن بعض اليهود ساندوه.
ماذا نعني ببني العتاة الذين من شعب دانيال يقومون لإثبات الرؤيا؟ يرى القديس جيروم[264] في هذا نبوة عن رئيس الكهنة أونياس الصغير الذي خان مذبح الرب ودنسه في أورشليم. هرب إلى مصر وآخذًا معه عددًا كبيرًا من اليهود، فاستقبلة بطليموس بكرامة عظيمة. قدم له الملك منطقة هليوبوليس (مصر الجديدة)، هناك بنى مذبحًا للرب، مدعيًا أنه يتمم نبوة إشعياء النبي الخاصة بإقامة مذبح للرب في أرض مصر (إش 19: 19)، وذلك كما أخبرنا سفر المكابيِّين وأيضًا يوسيفوس المؤرخ. يقول القديس جيروم: [إن الهيكل بقي قائمًا حتى عصر فسبسيان لمدة 250 عامًا. وقد دُعيت المدينة نفسها "مدينة أونياس"، وقد خُربت أثناء الحرب بين اليهود والرومان. ولم يعد باقيًا أي أثر للهيكل ولا للمدينة في أيام القديس جيروم.
"فيأتي ملك الشمال ويقيم مترسة ويأخذ المدينة الحصينة،
فلا تقوم أمامه ذراعا الجنوب ولا قومه المنتخب ولا تكون له قوة المقاومة.
والآتي عليه يفعل كإرادته وليس من يقف أمامه،
ويقوم في الأرض البهية وهي بالتمام بيده.
ويجعل وجهه ليدخل بسلطان كل مملكته،
ويجعل معه صلحًا، ويُعطيه بنت النساء ليفسدها فلا تثبت ولا تكون له" [15-17].
يقول القديس جيروم إن أنطيوخس لكي يسترد اليهودية وبعض مدن سوريا دخل في معركة مع Scopas قائد بطليموس، وذلك بجوار الأردن بقرب مدينة تُسمى Peneas، فهرب سكوباس، لكنه حوصر في صيدون مع عشرة ألاف من جنوده. ولم يعد للمصريِّين قوة للمقاومة، وهكذا جلس في الأرض البهية، فلسطين، التي صارت تحت سلطانه جاء في الترجمة السبعينية "أرض المسرة the land of desire"، ويقصد بها الأرض موضع سرور الله. سبق فأعلن الله لدانيال ما سيحدث حتى متى سقطت فلسطين في أيدي أنطيوخس العنيف لا تتحطم نفسية الأتقياء، بل يدركوا أن الله سبق فأعلن عن ذلك. هكذا تصير هذه النبوة سبب تعزية لهم وسط الضيق والسقوط تحت الألم والاضطهاد. ولكي تصير مصر في قبضة يده أعطى أنطيوخس ابنته الجميلة كليوباترة لبطليموس الشاب، ظانًا أنه بهذا يُخضع مصر تحت سلطانه. لكنها لم تقف بجانبه [17]، بل وقفت بجانب زوجها، فحوّل وجهه من مصر إلى آسيا الصغرى بأسطوله البحري فاستولى على كثير من الجزائر.
"ويحول وجهه إلى الجزائر، ويأخذ كثيرًا منها،
ويزيل رئيس تعبيره فضلاً عن ردِّ تعبيره عليه" [18].
يُقصد بالجزائر آسيا الصغرى وسواحل البحر المتوسط واليونان وقبرص وجميع الجزائر بالبحر. فقد كانت عادة اليهود أن يدعو كل المناطق التي تقع بعد البحر بالجزائر، إذ لم تكن لهم خبرة في الشئون البحرية.
استطاع أنطيوخس بجيش صغير أن يتقدم إلى آسيا الصغرى، وكان معه هانيبال Hannibal الذي بلغت شهرته إلى الرومان وكانوا يرتعبون منه، لهذا لم يكن من الصعب عليه أن يطرد الرومان من كل منطقة يعبر إليها. صار هانيبال صديقًا حميمًا لأنطيوخس، يلازمه كل يوم ويتحدث معه، لكن أنطيوخس شك في إخلاصه. اتجه أنطيوخس نحو اليونان بلا تدبير حسن وفي غير تحفظ، وإذ بلغ خالسيس Chalcis انجذب نحو فتاة جميلة هناك فأقام حفل زواج معها كما لو كان في أرضه في سلامٍ تامٍ. وبحكم شهرته العظيمة افتتح مدنًا كثيرة كانت ترتعب أمامه، وحرَّر هذه المدن من الرومان. وكما يعلن الملاك لدانيال: "ويحوَّل وجهه إلى الجزائر، ويأخذ كثيرًا منها" [18].
برفضه مشورة هانيبال بدأ أنطيوخس ينهار ويحل به العار دون أن يدري، وكان يسخر بالرومان ويعيرهم. لقد احتل في البداية بعض مناطق باليونان التي كانت متحالفة مع القوة الرومانية الناشئة حديثًا، لكن القائد الروماني Acilius أو Lucius Scipio Nasica (ومعه أخوه Publius Scipio Aficanus) استطاع أن يجتذبه إلى ما وراء جبل طورس Taurus ويهزمه في مغنسيا فرد لأنطيوخس تعييراته التي كان ينطق بها ضد الرومان، لهذا يعلن الملاك "ويزيل رئيس تعييره فضلاً عن ردّ تعييره عليه" [18]. بهذا اِنهار أنطيوخس أمام اليونان المتحالف مع روما. وهنا يلوم كثيرون القائد Scipio لأنه ترك كل إمكانيات روما تحت تصرف فيليب المقدوني.
"ويحول وجهه إلى حصون أرضه ويعتز ويسقط ولا يوجد" [19].
ضعف أنطيوخوس أمام القائد الروماني Scipio فعاد إلى بلاده في خيبة أمل لكي يتحصن في بلاده بعد أن فقد الكثيرين [19]، وإذ حاول أن ينهب هيكل جوبيتر دودنيوس Jupiter Dodoneus في اليمايس Elymais بجوار شوشان، ربما لكي يدفع الجزية الرومانية، قُتل هو وجنوده بواسطة الشعب الثائر ضده. لهذا يقول الملاك "يسقط ولا يوجد".
مات أنطيوخس سنة 187 ق.م وقد تولى بعده المُلك سلقوس فيلوباتو (187-176 ق.م) ويدعوه البعض سيرانيوس Ceraunus والابن الثاني هو ديمتريوس. والثالث أنطيوخس إبيفانس، الآن يتحدث عن خلفه سلقوس قائلاً:
"فيقوم مكانه من يُعبر جابي الجزية في فخر المملكة،
وفي أيام قليلة ينكسر لا بغضب ولا بحرب؟" [20].
خلفه ابنه سلقوس فيلوباتور، وكان هذا مبالغًا في طلب الضرائب [20] ليدفع الجزية لروما فأرسل رئيس وزرائه Heliodorus إلى أورشليم لينهب الهيكل هناك. بعد قليل اغتال Heliodorus سيِّده، وتولى أنطيوخس إبيفانس الحكم.
"فيقوم مقامه مُحتقر، لم يجعلوا عليه فخر المملكة،
ويأتي بغتة ويُمسك المملكة بالتملقات" [21].
لقد أجمع كل المؤرِّخين أن أنطيوخس إبيفانس كان ماكرًا وعنيفُا إلى أبعد الحدود. إذ بلغ روما خبر موت أبيه أطلقوا سراحه إذ كانوا content (يستخفون) بأخيه ديمتريوس. كان يتملق الرومان، وعند وصوله إلى بلده استقبلوه بحفاوة عظيمة. لم يدم أخوه سلقوس كثيرًا، وكان قد ترك ابنه خلفًا له، لكن استطاع أنطيوخس بخداعه أن يستلم الحكم بلا حق، لذلك يقول عنه الملاك: "لم يجعلوا عليه فخر المملكة" ويكمل "ويُمسك المملكة بالتملُّقات". كيف تم ذلك؟ بخداعه تظاهر أنه رجل سلام مع ابن أخيه، الوارث الشرعي للمُلك، وأنه حارس له... بهذا استطاع أن يسحب المُلك منه.
"وأذرع الجارف تُجرف من قدامه وتنكسر وكذلك رئيس العهد" [22].
لقد وجد أنطيوخس مقاومة من شعبه الذي اكتشف خداعه واستبعاده لابن أخيه، وأيضًا وجد متاعب من البلاد المحيطة مثل مصر، فقد كان ملكها بطليموس فيلوميتور ولدًا، وكان مشيروه على علاقة طيِّبة بابن سلقوس الذي استبعده عمه، فأرسلوا معونة سرية لمقاومة أنطيوخس. هكذا فعلت بلاد مجاورة كثيرة. لكن كل هذه الأذرع المقاومة انكسرت كقول الملاك هنا، إذ كانت كالسيل الجارف. لكنها سارت قدامه وانهارت. لم يكن ذلك بسبب قوة أنطيوخس وإنما بسماحٍ إلهي، لأن الله سمح بإقامته لتأديب اليهود في ذلك الحين.
من هو رئيس العهد الذي انكسر أمام أنطيوخس؟ يُقصد به بطليموس لأنه يمت بصلة قرابة مع الوارث الشرعي ابن سلقوس.
بطليموس فيلوميتور هذا كان أبنًا لبطليموس فيلوباتور وكليوباترة أخت سلقوس، ومع كونه ولدًا صغيرًا لا يستطيع أن يتحرك بنفسه لكنه كان رئيس عهد بكونه ملك مصر.
"ومن المعاهدة معه يعمل بالمكر، ويصعد ويعظم بقومٍ قليلٍ" [23].
في البداية كان أنطيوخس محتقرًا في سوريا، وكانت هناك محاولات تسندها مصر لكي يستلم الملك الشرعي "ابن سلقوس" الحكم. لكن أرسل أنطيوخس إلى ملك مصر (ابن أخته) يطلب صداقته، خاصة وأن كليوباترة أخت أنطيوخس كانت لا تزال على قيد الحياة. اطمأن بطليموس لخاله أنطيوخس وصارا في صداقة، لكن إذ ثبَّت أنطيوخس أقدامه قام فجأة بحملة قوامها عدد قليل واستولى على بعض مدن مصر من ابن أخته الذي لم يكن يتوقع قيام هذه الحملة.
"يدخل بغتة على أسمن البلاد، ويفعل ما لم يفعله آباؤه، ولا آباء آبائه.
يبذر بينهم نهبًا وغنيمة وغنى،
ويفكِّر أفكاره على الحصون وذلك إلى حين" [24].
استطاع بخداعه لا بقوة عسكرية ضخمة أن يغتصب من ابن أخته بعض مدنه وينهب ويحمل غنائم وغنى إلى بلده، إذ كان المصريُّون يعيشون في ترفٍ. عاد أنطيوخس يفكر كيف يهجم بعد ذلك على بلاد مصر الحصينة كمرحلة ثانية.
لقد فاق أنطيوخس آباءه وأجداده في الخداع، ولم يوجد من يُقارن به، خاصة وأن كسر العهود - خاصة في الشرق - يُعتبر أمرًا مُشينًا، مهما كانت الظروف.
"ويُنهض قوته وقلبه على ملك الجنوب بجيش عظيم،
وملك الجنوب يتهيج إلى الحرب بجيش عظيم وقوي جدًا،
ولكنه لا يثبت لأنهم يدبِّرون عليه تدابير" [25].
بعد استيلائه على المدن المفتوحة الآمنة ونهبها عاد أنطيوخس يُهيِّئ جيشًا ضخمًا لفتح مصر والهجوم على مدنها الحصينة. كان محتاجًا إلى وقتٍ طويلٍ لتكوين هذا الجيش بعد أن استولى على بلاد كثيرة مجاورة بخداعه. في نفس الوقت أدرك ابن أخيه ميول خاله فاستعد للمعركة العلنية وهيّأ نفسه بجيشٍ عظيمٍ.
[21-25] ركزت على أنطيوخس إبيفانس الذي أشير إليه قبلاً في الأصحاح 8، والذي دعي "ضد المسيح في فترة العهد القديم"
كان رجال قصره يدعوه Epiphanes إبيفانس أي السامي أو البهي، لأنه كان يهتم بالفنون والعمارة وإنشاء مبانٍ ضخمة جميلة وبهية، لكن البعض كانوا يغيِّرون حرفًا واحدًا Epimanes ويعني "المجنون" لأنه كان عنيفًا ومخادعًا ومعتوهًا في تصرفاته.
"والآكلون أطايبه يكسرونه، وجيشه يطمو، ويسقط كثيرون قتلى" [26].
لقد سمح الله لبطليموس أن يُغلب أمام أنطيوخس بخيانة رجاله، لأنه كان منهمكًا في الملذات، طامعًا، غير مبالٍ بشئون بلده.
"وهذان الملكان قلبهما لفعل الشرّ،
ويتكلَّمان بالكذب على مائدة واحدة، ولا ينجح،
لأن الانتهاء بعد إلى ميعاد" [27].
كان الملكان، الخال وابن أخته، شرِّيرين ومخادعين، لهذا إذ انكسر بطليموس رأى الاثنان حاجتهما إلى الصلح والدخول في صداقة حتى يُدبر كل منهما للآخر ما يُحطمه. لقد غلب أنطيوخس ابن أخته لكنه لم يجسر أن يكمل الرحلة، إذ خشي من الانهيار أمام بقية المدن الحصينة. جلس الاثنان على مائدة واحدة، أما قلباهما فكانا مملوئين كراهية وبغضة. هكذا تفعل السياسة بكثيرين، فيفقد الإنسان ثقته في أقرب من له.
يقول الملاك: "لأن الانتهاء بعد إلى ميعاد" [27]، بمعنى أن ما حدث كان في حدودٍ معينة، لكي تتم خطة الله، إذ لم يكن المنتهى قد جاء، لكن الله حدد لكل شيء موعدًا.
"فيرجع إلى أرضه بغنى جزيل، وقلبه على العهد المقدس، فيعمل ويرجع إلى أرضه" [28].
عاد أنطيوخس إلى أرضه، سوريا، ولم يملك مصر، لكنه حمل غنى كثيرًا منها، ثم عاد ليشن حربًا ضد أورشليم والهيكل المقدس، وضد كل اليهود. لقد اضطر أن يترك أورشليم كما ترك الكثير من الخزائن كما جاء في (2 مك 5: 2)، حيث صنع الله عجائب. ضمَّ ما اغتصبه من الهيكل إلى ما سلبه من مصر، وعاد إلى سوريا حاملاً في داخله الرغبة في مقاومة العهد المقدس، أي يقاوم الله نفسه.
"وفي الميعاد يعود ويدخل الجنوب، ولكن لا يكون الآخر كالأول.
فتأتي عليه سفن من كتّيم،
فييئس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس،
ويعمل، ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" [29-30].
إذ تمت المعاهدة بين أنطيوخس وابن أخته وجلسا معًا على مائدة واحدة، بدون سبب هيأ أنطيوخس جيشه وكسر العهد ودخل مصر واستولى على جزءٍ منها، كما حاصر الإسكندرية وأخذ الملك الولد مسبيًا، في ذلك الوقت جاءت إرسالية رومانية برئاسة Publuis أو Popilusمن كتيم، التي يُقصد بها مقدونيا واليونان وإيطاليا. استقبله أنطيوخس بلطف شديد كعادته، لكن بوبيلس لم ينخدع بل طلب منه كأمر مجلس السناتور أو الشيوخ الرماني أن يترك مصر فورًا. طلب منه مهلة ليتشاور مع أصدقائه ومشيريه، لكن بوبيلس في حزم رسم دائرة حول الملك بالعصا التي في يده، وطلب منه أن يدعو مشيريه ويتفاهم معهم فورًا قبل خروجه من الدائرة، وإلاَّ أعلن الحرب ضده حالاً. لم يستطع أنطيوخس أن يتردد بل سلّم نفسه في أيدي السيناتور ورجع عن مصر. هذا الواقع التاريخي أعلنه الملاك لدانيال النبي.
لم يُحقق أنطيوخس أطماعه في مصر، وعاد في خزي لمجرد كلمة صدرت من السناتور الروماني، فعاد ليوجه كل طاقاته ضد أورشليم والهيكل المقدس؛ في هذه المرة جاء إلى أورشليم بصورة أكثر عنفًا وشراسة من المرة السابقة. عاد يبحث عن خونة للهيكل "تركوا العهد المقدس" من اليهود يستخدمهم ضد الشعب اليهودي والمقدسات الإلهية. وقد تحقق ذلك كما جاء بالتفصيل في (2 مك 3-5).
"وتقوم منه أذرع، وتنجِّس المقدِس الحصين،
وتنزع المحرقة الدائمة، وتجعل الرجس المُخرِّب" [31].
الأذرع التي وقفت مساندة لأنطيوخس هي لأولئك الذين خانوا الله ونسوا الشريعة، فكانوا مساندين للملك الشرِّير ضد الحق الإلهي (2 مك 4).
سمع اليهود خطأ أن أنطيوخس قُتل ففرحوا جدًا ولما سمع بالأمر في طريق عودته عبر بأورشليم وتصرَّف بقسوة شديدة معهم.
التجأ اليهود إلى روما للمساندة فأرسلت روما جيشًا بينما اتجه أنطيوخس لمقاومة القوى اليهودية تحت قيادة المكابيِّين [29]. خضع أنطيوخس لروما ووعد بحفظ السلام، لكن ما أن عادت القوات الرومانية حتى خان الوعد [30]، وساعده في ذلك بعض الخونة من اليهود.
بخداعه المعروف لم يمنع عبادة الله الحيّ، لكنه بدأ أولاً بممارسة العبادات الوثنية في داخل الهيكل جنبًا إلى جنب مع عبادة الله. دنَّس الهيكل حيث وضع تمثال جوبتر أولمبياس Jupiter Olympius فيه، بعد ذلك وأوقف العبادة اليهودية، وأقام نفسه إلهًا، وذبح خنزيرًا على المذبح. ثار الأمناء الأتقياء ضده تحت قيادة أسرة المكابيِّين الأبطال، فقُتل منهم الآلاف. ما فعله يُحسب "رجسه خراب للهيكل" رمزًا لرجسة الخراب التي ستحدث في أواخر الدهور والتي أشار إليها السيِّد المسيح (مت 25: 24).
"والمتعدُّون على العهد يغويهم بالتملُّقات.
أمّا الشعب الذين يعرفون إلههم فيقْوون ويعملون" [32].
يوضح الملاك كيف انقسم الكهنة وأيضًا الشعب إلى فريقين، فريق خدعته تملقات أنطيوخس، وآخر تمسكوا بمعرفة الله فيهبهم الله قوة وفهمًا أكثر. وكما يقول القديس جيروم: [إنه لا يشك أحد بأن هذا سيحدث أيضًا في أيام ضد المسيح، حيث يقاومه كثيرون ويهربون منه في اتجاهات كثيرة. ويفسِّر اليهود هذه الأمور عن خراب الهيكل على يديّ فسبسيان وتيطس، ويقولون إن كثيرين ممن أقامهم عرفوا ربهم وقتلوا من أجل حفظهم شريعته[265]].
يقول القديس جيروم: [نقرأ في المكابيِّين أنه وُجد من تظاهروا بأنهم أوصياء على شريعة الله، وأخيرًا دخلوا في عهد مع الأمم... لكن في رأيي هذا سيحدث في أيام ضد المسيح حين تبرد محبة الكثيرين. عن هؤلاء يقول ربنا في الإنجيل "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعلَّه يجد الإيمان على الأرض؟! (لو 18: 8)[266]].
"والفاهمون من الشعب يُعلِّمون كثيرين.
ويعتزُّون بالسيف وباللَّهيب وبالسبي وبالنهب أيامًا.
فإذا عثروا يُعانون عونًا قليلاً، ويتصل بهم كثيرون بالتملُّقات" [33-34].
رفض الحكماء بين الشعب (غالبًا من الكهنة) تملُّقات أنطيوخس وعلَّموا كثيرين أن يستهينوا بكل وسائل العذابات سواء كان القتل بالسيف أو الحرق بالنار أو سبيهم أو نهب ممتلكاتهم، حاسبين هذه كلها أمجادًا وكرامة.
هنا دعوة لاتباع المخْلصين والأمناء في علاقتهم بالله، وعدم الانسياق وراء المتملِّقين أيَّا كانت رتبتهم أو مركزهم. كما هي دعوة للكهنة والقادة أن يقبلوا السيف ويستهينوا بالنار ولا يفقدوا إخلاصهم لله وتمسكهم بالوصية الإلهية، فإنهم وإن بدوا كأنهم قد سقطوا، وليس من عونٍ إلا القليل، مثل المكابيِّين الذين لم يلتصق بهم إلاَّ القلة القليلة الأمينة، يلزمهم ألاَّ يهتموا بالأمجاد الزمنية والمديح.
"وبعض الفاهمين يعثرون امتحانًا لهم للتطهير وللتبييض إلى وقت النهاية.
لأنه بعد إلى الميعاد" [35].
هنا يؤكد أنه يسقط بعض الفاهمين، ولعلَّه يقصد هنا السقوط بالسيف أو بالحرق بالنار، لكن هذا لا يعني عدم مساندة الله لهم، إنما يسمح بذلك لخلاصهم، من أجل تزكيتهم في النهاية، حيث يتطهرون ويبيضون بعمل الله فيهم أثناء معاناتهم من الضيق. يُحسبون شهداء عبروا النيران فتنقوا كالذهب الخالص.
هكذا كان الله يُهيِّئ نفوس المكابيِّين ومن على شاكلتهم ليس منذ لحظة ولادتهم، بل وقبل خلقتهم... حتى متى تحرَّكوا للعمل وشاهدوا المقاومة يرجعوا إلى نبوات دانيال فيتشددوا ولا يخافوا.
يقول القديس هيبوليتس الروماني: [صار أنطيوخس ملكًا على سوريا، ملك في السنة 107 من مملكة اليونان. وفي نفس الوقت أثار حربًا ضد بطليموس ملك مصر وغلبه ونال سلطانًا. في عودته من مصر صعد إلى أورشليم في سنة 103، حاملاً معه كل كنوز بيت الرب، واتجه إلى أنطاكية. بعد عامين أرسل الملك جابيًا للضرائب إلى مدن اليهودية ليجبر اليهود على ترك شرائع آبائهم ويخضعهم لسنن الملك. جاء وحاول أن يُلزمهم بذلك، قائلاً: "تعالوا، وتمموا أوامر الملك فتحيون". أما هم فأجابوا: "لا نأتي ولا نتمِّم أوامر الملك، إننا نموت طاهرين؛ فقام بذبح ألفًا من النفوس" (1 مك 2: 33). بهذا تحقق ما قاله دانيال: "ويعثرون بالأتعاب والمجاعة والسيف والسبي" (دا 11: 33). ويضيف دانيال: "يعانون عونًا قليلاً" (دا 11: 34). إذ قام متياس في ذلك الحين ويهوذا المكابي لمعاونتهم وتخليصهم من أيدي اليونان[267]].
فجأة تحولت الرؤيا إلى نهاية الأزمنة ومجيء ضد المسيح في تفصيل عن شخصه وأعماله الشرِّيرة.
[36-39] تقدم نفس الشخصية الواردة في (دا 7: 8؛ 9: 26) عن "القرن الصغير"، هنا يدعوه الملك الذي يعمل حسب إرادته [36].
ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظَّم على كل إله،
ويتكلَّم بأمورٍ عجيبةٍ على إله الآلهة،
وينجح إلى إتمام الغضب لأن المقْضي به يُجرى.
ولا يُبالي بآلهة آبائه، ولا بشهوة النساء، وبكل إله لا يبالي،
لأنه يتعظَّم على الكل" [36-37].
اختلف اليهود في تفسيرهم للنص السابق، فالبعض ظن أن الملاك يتحدث عن أنطيوخس إبيفانس وآخرون ظنوا أن الحديث هنا عن الرومان مثل فسبسيان وابنه تيطس، أو الدولة الرومانية ككل. أما آباء الكنيسة فرأوا أن الحديث هنا عن ضد المسيح وليس عن أنطيوخس، لأن ما ورد بعد ذلك لا ينطبق عليه. وإن كان البعض رأى أن الحديث عن الدولة الرومانية المتشامخة، التي أقام بعض الأباطرة أنفسهم آلهة، وطلبوا من الشعب السجود لتماثيلهم وصورهم.
يضع هذا الشخص السالك بإرادته الذاتية فوق كل شيء مثل لوسيفور (إش 14: 13-14)، حتى فوق الله نفسه. يمثل تمجيد لذاته، الأمر الذي يقاومه الإيمان المسيحي.
ينسب لنفسه كرامات إلهية وينطق بعجائب (تجديفات) ضد الله، إله الآلهة. إذ قيل أنه لا يبالي بإله آبائه، هذا دعي البعض بالقول أن ضد المسيح سيكون يهوديًا جاحدًا للإيمان.
ما جاء هنا عن ضد المسيح بكونه حاكمًا يعيد إقامة الدولة الرومانية وأنه يقاوم اليهود جعل البعض يظنون أنه مسيحي جاحد الإيمان.
الكلمة العبرية "إله آبائه" هيElohim وهي التي تترجم آلهة بهذا يظن أنه يحتقر كل الديانات التي لآبائه. الإله الوحيد الذي يؤمن به هو القوة والعنف، إله القدرة العسكرية.
أما "شهوة النساء" فكما يقول القديس جيروم: [إنه يوجد تفسيرين لهذا التعبير، أما أنه يُقصد به طلب شهوة النساء أو حجد هذه الشهوة كما سيفعل ضد المسيح الذي سيتظاهر بالعفة لكي يخدع الكثيرين[268]. يرى البعض أنها تُشير هنا إلى رغبة اليهوديات أن يحبلن بالمسيَّا. وربما تعني أنه لا يبالي بالنساء ورغباتهن. يُقال أن هتلر كان من هذا النوع. في القرن السادس عشر وُجد رأيان رفضهما كالفن، الأول هو أن المقصود هنا هو "البابا" إذ جاء في الفصل السابع من المجلد الأول للمجامع قوانين البابا Siricius حيث قيل إن الذين في الجسد لا يسرُّون الله، حاسبين أن الزواج أقرب إلى الزنا. أما الرأي الثاني فهو الرغبة في النساء حيث يُسمح للشخص بالارتباط بأكثر من زوجة شرعيًا. ويرى البعض أن الحديث هنا عن الأباطرة الرومان الذين اشتهروا بكراهيتهم لزوجاتهم ولجنس النساء بوجه عام.
يقول القديس جيروم: [إن النص هنا ينطبق على ضد المسيح وليس على أنطيوخس لأن الأخير حاول أن يُلزم اليهود والسامريِّين أن يُعيِّدوا لآلهته، وأنه أقام تماثيل لآلهة اليونان، أما ضد المسيح فهو لا يبالى بآلهة آبائه، بل يُقيم نفسه إلهًا.
"ويكرم إله الحصون في مكانه،
وإلهًا لم تعرفه آباؤه
يُكرمه بالذهب والفضة وبالحجارة الكريمة والنفائس.
ويفعل في الحصون الحصينة بألَّه غريب.
من يعرفه يزيده مجدًا،
يُسلطهم على كثيرين،
ويقسم الأرض أُجرة" [38-39].
يتحدث هنا عن "ضد المسيح"، الإله الذي لم يعرفه آباؤه وهو يعني "نفسه"، إذ ينسب لنفسه الكرامات الإلهية، ويطلب كل غنى وسلطان لذاته، فهو الإله الغريب. وسيقدم هدايا للذين يخضعون له، وينخدعون به.
يرى البعض أن هذا ينطبق أيضًا على الدولة الرومانية التي رفضت عبادة الله الحيّ، وكان إلهها هو القوة والحصون المنيعة، وحب السلطة مع طلب الجزية والمكاسب المادية من الدول التي تستعمرها. لقد أقام الأباطرة لأنفسهم أو لآلهتهم تماثيل من الذهب والفضة والحجارة الكريمة والنفائس. كانوا يحسبون أنفسهم أعظم وأقوى من الآلهة، ليس من يقدر أن يبلغ إليهم. وكانوا أيضًا يتطلَّعون إلى "روما" بكونها الإله الذي يجب تكريمه فوق كل الآلهة.
لم يكن يجسر اليونانيُّون على مهاجمة الآلهة أيّا كانت، أما الرومان فكثيرًا ما كانوا يتظاهرون بتكريم حتى الآلهة الغريبة للشعوب الأخرى، لكنهم أيضًا كانوا يسخرون بالآلهة وينادون بإنكارها حاسبين أن دولتهم وكيانهم فوق كل اعتبار.
"ففي وقت النهاية يُحاربه ملك الجنوب،
فيثور عليه ملك الشمال بمركباتٍ وبفرسانٍ وبسفن كثيرةٍ،
ويدخل الأراضي ويجرُف ويطمو.
ويدخل إلى الأرض البهية،
فيعثر كثيرون، وهؤلاء يفلتون من يده أدوم وموآب ورؤساء بني عمون.
ويمد يده على الأراضي، وأرض مصر لا تنجو.
ويتسلَّط على كنوز الذهب والفضة وعلى كل نفائس مصر.
واللوبيُّون والكوشيُّون عند خطواته.
وتفزعه أخبار من الشرق ومن الشمال،
فيخرج بغضبٍ عظيمٍ ليخْرب وليحرم كثيرين.
وينصب فسطاطه بين البحور وجبل بهاء القدس ويبلغ نهايته ولا معين له" [40-45].
[40-45] تقدم لنا بعض أحداث الأيام الأخيرة التي للملك المعتد بذاته وغيره.
يلاحظ أنها تقدم لنا ثلاثة شخصيات:
1. الملك المعتد بذاته "ضد المسيح".
2. ملك الجنوب (مصر).
3. ملك الشمال (سوريا).
يقول القديس جيروم: [إننا نقرأ أن أنطيوخس حقق هذا جزئيًا، لكن إذ نلاحظ ما جاء بعد ذلك تفصيليًا "وسيعبر على اللوبيِّين (الليبيِّين) والكوشيِّين (الأثيوبيِّين)" فإن مدرستنا تصر أن يناسب ذلك بالأكثر ضد المسيح. فإن أنطيوخس لم يفتتح ليبيا قط، هذه التي يفهمها أغلب الكتَّاب على أنها شمال أفريقيا، ولا أثيوبيا[269]].
سيُقيم ضد المسيح مركزه في أورشليم، ويمتد سلطانه إلى البحار [45]، خاصة البحر الأبيض المتوسط والبحر الميِّت. سيُقيم مركزه على الجبل البهي المجيد، أي جبل صهيون. ومع كل ما يبلغه من قوة وسلطان فإنه لن يقدر أحد أن يسنده؛ سينهار ضد المسيح أمام إيليا وأخنوخ اللذان يسندان الكنيسة في عصره ويهيِّئان المؤمنين لمجيء السيِّد المسيح الأخير.
يقول القديس جيروم: [مدرستنا الفكرية تصر على أن ضد المسيح سوف يهلك في نفس البقعة التي فيها صعد الرب إلى السماء (جبل الزيتون)[270]].
من وحي دانيال 11
ليعبر التاريخ، ولتأتِ آخر الأزمنة!
v في قبضتك التاريخ كلُّه،
وليس شيء مخفيًا عنك.
يقوم جبابرة وينهار آخرون.
تُقام عهود، يحفظها البعض، ويكسرها آخرون.
مملكة تصارع مملكة،
والتاريخ يطوي هذه وتلك.
v ليعبر التاريخ وينطوي بكل أحداثه،
ولتأتي آخر الأزمنة.
سيبث ضد المسيح كل سمومه؛
لكن مسيحنا الغالب قادم حتمًا!
لتأتٍ أيُّها الغالب، وليتمجَّد مؤمنيك!
يرى القدِّيس هيبوليتس الروماني أن دانيال تحدث عن الضيقة العظيمة أو رجسة الخراب التي تحققت جزئيًّا وعلى مستوى محلي في أيام أنطيوخس إبيفانُس، وتتحقق على مستوى العالم كله في أواخر الدهور أيام ضد المسيح[271]. لكن الكثير من الآباء، خاصة القدِّيس جيروم، يرون أن الحديث هنا واضح عن ضد المسيح وانقضاء الدهر.
1. الضيقة العظيمة [1].
2. القيامة [2-3].
3. خاتمة [4-13].
1. الضيقة العظيمة:
"وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك،
ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أُمَّة إلى ذلك الوقت،
وفي ذلك الوقت يُنجي شعبك كل من يوجد مكتوبًا في السفر" [1].
إذ يُفتتح الأصحاح بالتعبير: "وفي ذلك الوقت" [1] ، واضح أنه يكمل ما جاء في الأصحاح السابق. ففي قمة سلطان ضد المسيح يقوم رئيس الملائكة ميخائيل ويعمل لحساب الكنيسة (كما جاء في رؤ 12) ، وذلك في فترة الضيقة العظيمة التي يعلن عنها السيَّد المسيح (مت 24: 15-22).
وسط الضيق يُنجي الله شعب دانيال، أي كنيسة المؤمنين المكتوبة أسمائهم في سفر الحياة. أنها تتعرض دومًا للضيق، لكنها ليست منسية أمام الله، بل كلما اشتدت الضيقة أظهر الله بالأكثر اهتمامه بها. أنها في يد مخلصها السيَّد المسيح الذي يعمل لبنيانها، ويستخدم ملائكته ورؤساء ملائكته لحمايتها.
2. القيامة:
"وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون،
هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي.
والفاهمون يضيئون كضياء الجلد،
والذين ردُّوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" [2-3].
يعتبر البعض سفر دانيال هو أول سفر في العهد القديم يتحدث بوضوح وبقوة عن القيامة ويحدِّد زمانها. عندما يأتي يوم الرب العظيم ويضيء الحكماء الذين أطاعوا الله ككواكب أبدية. وإن كان قد حُسب هذا الأمر فوق قدرة دانيال نفسه، إذ يقول: "وأنا سمعت وما فهمت" [8].
يحاول البعض أن يميز بين قيامتين هنا، إحداهما للمُلك الألفي والأخرى للحياة الأبدية، لكن واضح أن الحديث هنا عن قيامةٍ واحدةٍ ودينونةٍ أبدية، ومجدٍ أو عذابٍ أبديٍ.
v أما هؤلاء السادة والمعلمون الذين لهم معرفة الناموس، فسيضيئون كالسماء، والذين يحثون الشعوب المتخلفة عن الإيمان على الاهتمام بعبادة الله فيتلألأون ككواكب في الأبدية[272].
v لنهرب بكل قوتنا من معوقات هذا العالم ونطلب بعض الساعات حيث نستطيع أن نكرِّس أنفسنا للصلاة أو قراءة الكتاب المقدس لأجل خلاص نفوسنا. هذا يحقق فينا المكتوب: "والفاهمون يضيئون كضياء الجلد"[273].
v بعد أن يتحطم ضد المسيح ويهلك بنفخة فم المخلص، سيخلص الشعب المكتوب في سفر الله، وذلك حسب استحقاق كل واحدٍ؛ فيقوم البعض لحياة أبدية، والبعض الآخر لعارٍ أبدي.
يُشبه المعلمون بالسموات عينها، ويُقارن الذين يعلمون الآخرين ببهاء الكواكب. فإنه لا يكفي أن يعرف الإنسان الحكمة بل يليق به أن يُعلمها للآخرين.
لسان التعليم الذي يبقى صامتًا ولا يبني أحدًا لا ينال مكافأة.
v يعين الرب المتواضعين، ويتحول المتواضعون إلى كواكبٍ. إذ "يشرق الأبرار مثل الكواكب" كما يقول دانيال[274].
3. خاتمة:
"أما أنت يا دانيال فأخفِ الكلام، واختم السفر إلى وقت النهاية.
كثيرون يتصفحونه والمعرفة تزداد" [4].
أُمر دانيال أن يُختم على السفر حتى "إلى وقت النهاية"، لكن المعرفة تزداد، وإن كان يبقى الإنسان كما في لغز حتى يتحقق ما ورد في السفر تمامًا. ربما قصد بالختم هنا بقاء النبوات غير واضحة حتى يتحقق الخلاص في ملء الأزمنة، وتنكشف أسرار المجيء الثاني كما في سفر الرؤيا (رؤ 22: 10) . لهذا يرى كثير من الدارسين أن سفر الرؤيا هو مفتاح سفر دانيال.
يرى القدِّيس إيريناؤس أن الوحيّ الإلهي طلب من دانيال أن يختم على النبوة، لأنه لا يستطيع أحد أن يدركها حتى يأتي السيَّد المسيح الذي هو غاية النبوات، فيدرك المؤمنون سرّها، إذ يقول: [الكنز المخفي في الكتب المقدسة هو المسيح، حيث أُشير إليه خلال الرموز والأمثال. وحيث أن طبيعته البشرية لم يكن ممكنًا فهمها قبل تحقيق هذه الأمور المُتنبأ عنها، أي قبل مجيء المسيح، لذلك قيل لدانيال النبي: "اخفِ الكلام، واختم السفر إلى وقت النهاية، حتى يتعلَّم كثيرون وتكمل المعرفة. في ذلك الزمان عندما يتحقق التدبير فسيعرفون كل هذه الأمور" (راجع دا 12: 4، 7). فإن كل نبوة - قبل تحققها - تكون بالنسبة للبشر لغزًا وغموضًا. لكن عندما يحل الوقت وتتحقق النبوات تصير واضحة ويصبح تفسيرها أكيدًا[275]].
يقول القدِّيس هيبوليتس الروماني: [الأمور التي نُطق بها قديمًا بواسطة الناموس والأنبياء كلها قد خُتمت، ولم تكن معروفة للناس، هذا يعلنه إشعياء بقوله: "السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين: اقرأ هذا، فيقول: لا أستطيع لأنه مختوم" (إش 29: 11). إنه لائق وضروري أن تكون الأشياء التي نطق بها الأنبياء قديمًا مختومة بالنسبة للفرِّيسيين غير المؤمنين، الذين ظنُوا أنهم يفهمون حرف الناموس، بينما تكون مكشوفة بالنسبة للمؤمنين. لقد كانت الأمور القديمة مختومة، أما الآن فبنعمة الله الرب جميعها مكشوفة للقدِّيسين. فقد كان هو نفسه (الله) هو الختم والكنيسة هي المفتاح: "الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح"، كما يقول يوحنا (رؤ 3: 7)... لهذا السبب يقول الملاك لدانيال: "اختم الكلمات، فإن الرؤيا إلى وقت النهاية". أما بالنسبة للمسيح فلا يُقال "اختم" بل فك الأشياء التي كانت مربوطة قديمًا، لكي بنعمته تُعرف إرادة الآب، ونؤمن بذاك الذي أرسله لخلاص البشر، ربنا يسوع[276]].
يقول القدِّيس جيروم [ذاك الذي أعلن الحق من جوانب متعددة لدانيال يعلن أن الأمور التي قالها سرية. وقد طلب منه أن يطوي الدرج الحاوي لكلماته، ويضع ختمًا على السفر. فتكون النتيجة أن كثيرين يقرأونه ويسألون عن تحقيقه عبر التاريخ، ويختلفون في آرائهم (تفاسيرها) بسبب غموضها العظيم.
بقوله "كثيرون يتصفَّحونه" [4] أو "يعبرون فيه"، يُشير إلى أن كثيرين يقرأونه...
وأيضًا في رؤيا يوحنا يُرى سفر مختوم من الداخل والخارج. وإذ لم يقدر أحد أن يتأهل لفك ختومه يقول يوحنا: "فصرت أنا أبكي...وجاءني صوت: لا تبكِ كثيرًا، هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود ليفتح السفر ويفك ختومه" (راجع رؤ 5: 4).
أما ذاك السفر فيمكن أن يُفتح بواسطة من يتعلم أسرار الكتاب ويفهم حقائقه المخفية وكلماته التي تبدو مظلمة بسبب عظمة الأسرار التي تحويها. أنه هو الذي يستطيع أن يشرح الأمثال ويحوِّل الحرف الذي يقتل إلى الروح الذي يحيي[277].
القدِّيس جيروم
"فنظرت أنا دانيال وإذا باثنين آخرين قد وقفا،
واحد من هنا على شاطئ النهر، وآخر من هناك على شاطئ النهر.
وقال للرجل اللآبس الكتَّان الذي من فوق مياه النهر:
إلى متى انتهاء العجائب؟
فسمعت الرجل اللآبس الكتَّان الذي من فوق مياه النهر،
إذ رفع يُمناه ويسراه نحو السموات،
وحلف بالحيّ إلى الأبد أنه إلى زمان وزمانين ونصف.
فإذا تم تفريق أيدي الشعب المقدس تتم كل هذه.
وأنا سمعت وما فهمت. فقلت يا سيدي ما هي آخر هذه.
فقال: اذهب يا دانيال لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت النهاية.
كثيرون يتطهَّرون ويبيضُّون ويُمحَّصون.
أما الأشرار فيفعلون شرًا ولا يفهم أحد الأشرار، لكن الفاهمون يفهمون" [5-10].
لكي يختم دانيال السفر رأى ملاكين آخرين واللآبس الكتَّان، أي كلمة الله قبل التجسُّد (6: 10). سأله أحد الملاكين عن مدة هذه الضيقة، وجاءت الإجابة إلى زمان وزمانين ونصف زمان ، أي إلى ثلاث سنوات ونصف. وهو نصف الأسبوع الذي تحدث عنه دانيال قبلاً، فترة الاضطهاد المُرّة جدًا ، تنتهي بكسر عهد الملك المفترس. يقول القدِّيس جيروم[278]: [إن الزمان والزمانين والنصف زمان لا يمكن أن يُقصد بها الثلاث سنوات ونصف التي فيها دنس أنطيوخس الهيكل كما ادعى بورفيري، لأن هذا يقتضي أن الغالب يتمتع بملكوت أبدي، وأن كل الملوك يخضعون له ويطيعونه، وهذا لم يحدث. إنما واضح أن الحديث هنا عن ضد المسيح الذي يملك لمدة 1290 يومًا أو ثلاث سنوات ونصف.
إن كان قد طُلب من دانيال أن يختم السفر، لأنه يحوي أسرارًا لا يعرفها الجميع، وإن كان دانيال نفسه يقول: "وأنا سمعت وما فهمت" [8]، لكنه في نفس الوقت يؤكد أن من كان طاهرًا ومُقدسًا سيفهم ما قيل ويصير حكيمًا، أما الأشرار فلا يفهمون. المعرفة والحكمة هنا أمر نسبي فبلاشك أدرك دانيال الكثير من أسرار انقضاء الدهر، لكن كما في مرآة، أو خلال الظل، لكن تزداد المعرفة بالنسبة للمؤمنين وتنكشف أمور كثيرة.
v لقد علق بأنه إذ يأتي المنتهى سينقص الأشرار الفهم، بينما المثقفون بتعاليم الله فسيستطيعون أن يفهموا. لأن الحكمة سوف لا تدخل النفس المنحرفة، ولا يمكنها أن تُفصح عن نفسها لجسدٍ خاضع للخطايا[279].
القدِّيس جيروم
"ومن وقت إزالة المحرقة الدائمة وإقامة رجس المُخرب ألف ومائتان وتسعون يومًا.
طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الألف والثلاث مائة والخمسة والثلاثين يومًا" [11-12].
يُحدد المدة بالأيام لا السنوات 1290 يومًا وتعني ثلاث سنوات ونصف، تُعاني فيها الكنيسة من الضيق الشديد، مضافًا إليها 45 يومًا (1335 يومًا)، ولعل هذه الفترة هي ما بين قتل ضد المسيح ومجيء السيَّد المسيح. أنها فترة راحة ليرجع ويتوب من انحرف وراء ضد المسيح، وفي نفس الوقت فترة تذكية للمؤمنين حيث يترقبوا بفرح مجيء المسيح بعد الخلاص من ضد المسيح. لذلك يطوِّب دانيال النبي من ينتظر ويبلغ 1335 يومًا.
يقول القدِّيس جيروم: [واضح أن الثلاث سنوات ونصف قبلت بخصوص زمن ضد المسيح، فإنه سيضطهد القدِّيسين لمدة ثلاث سنوات ونصف أو 1290 يومًا، وعندئذ سيواجه سقوطه على الجبل الشهير المقدس. وهكذا منذ الوقت الذي فيه يمنع الـ Endelekismos والتي تُترجم "الذبيحة الدائمة"، أي من الوقت الذي فيه يملك ضد المسيح على العالم ويمنع عبادة الله إلى يوم موته فإن الثلاث سنوات ونصف أو الـ 1290 يومًا تتم[280]].
v يعني بهذا أنه مطوَّب من ينتظر خمسة وأربعين يومًا بعد الرقم المعين (1290)، لأنه في هذه الفترة سيأتي ربنا في مجده. ولكن السبب في الخمسة وأربعين يومًا بعد قتل ضد المسيح أمر مستقر في معرفة الله، اللهم إلاَّ إذا قلنا أن حكم القدِّيسين يتأجل لكي يُمتحن إيمانهم[281]. (بمجيء المسيح الأخير).
القدِّيس جيروم
"أما أنت فاذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك في نهاية الأيام" [13].
أخيرًا يطلب من دانيال أن يستريح حتى يقوم حين يأتي رب المجد القائل "ها أنا آتي سريعًا" (رؤ 22).
v من هذه الملاحظة يظهر بوضوح أن كل نص النبوة خاص بقيامة كل الأموات، الوقت الذي فيه سيقوم أيضًا النبي[282].
القدِّيس جيروم
في القرن السادس عشر يقول جون كالفن إن بعض المفسرين يضيفون الرقمين معًا (1290 + 1335) فيكون الناتج حوالي 2600 عامًا، ولما كانت النبوة حوالي 600 ق.م، إذن سيكون مجيء السيَّد المسيح مع نهاية العالم بعد 2000 عامًا من مجيئه الأول. وقد رفض كالفن هذا التفسير[283].
ويعلق البعض على قول السيَّد المسيح في مَثل "السامري الصالح": "وفي الغد لما مضى أخرج دينارين، وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: اعْتنِ به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك" (لو 10: 35)، مستخدمين التفسير الرمزي، بأن السيَّد المسيح قد أودع النفوس الجريحة في هذا العالم بين يدي الكنيسة المجاهدة لمدة 2000 عامًا. فإن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، فالديناران يُمثِّلان ألفين عامًا بعد خدمة المسيح، أي يرجع السيَّد المسيح كما إلى الفندق مع بداية القرن الواحد وعشرين.
قدم نيافة الأنبا ديسقورس بحثًا في سفر دانيال يكشف فيه عن قرب انقضاء العالم، كما ظهرت آراء في الغرب تؤيد سرعة انقضاء العالم. هذا وقد رأى بعض العلماء أن اتِّساع ثقب الأوزون، من الجانب العلمي، سبَّب تحركًا لكتلة ثلجية ضخمة في منطقة القطب الجنوبي لمسافة حوالي 3 كيلومترات وأن تحرُّكها بهذا المعدل سيؤدي إلى اختلال مغناطيسية وتوازن الكرة الأرضية مما يسبب حدوث زلازل قوية وبراكين تنتهي بتحطيم الكرة الأرضية بعد عام 2000 بسنوات قليلة.
كان لظهور هذه الآراء انعكاساتها القوية في الشرق والغرب بين مؤيد ومعارضٍ. لكن مما لاشك فيه أنه عند ظهور "ضد المسيح" سيكتشف المؤمنون أن ما ورد بسفر دانيال كان واضحًا تمامًا للأتقياء، وذلك كما أدركت كنيسة العهد الجديد منذ بداية انطلاقها مع أتقياء اليهود أن الأزمنة الخاصة بمجيء المسيح كانت صريحة وواضحة.
ما أود أن أوضحه هنا، أنه منذ صعود السيَّد المسيح والكنيسة بفرح تترقب مجيئه سريعًا، في يقين أنه قادم، وأنه قادم سريعًا، لكن في غير استهتار بالالتزامات الزمنية ولا تراخٍ. وقد كشف لها السيَّد المسيح عن علامات مجيئه الأكيدة لكي تستعد بالصبر وتواجه الضيقات، خاصة الضيقة العظيمة ورجسه الخراب، كما تستعد بالفرح والرجاء أن لها نصيبًا معه في الأحضان الأبوية. أما الآن فيظن كثيرون أن ترقب مجيء السيَّد المسيح يُعتبر نظرة سوداوية تشاؤمية تبعث على التراخي والتهاون في الالتزام بالمسئوليات، هذا يكشف عن ضعف إيمان وعدم التهاب القلوب بالفكر الأخروي السماوي.
إنه قادم حتمًا! وستعبر الأزمنة سريعًا، ونفرح ونتهلَّل بقيامتنا مع الأموات، ولقائنا معه على السحاب.
من وحي دانيال 12
نعم! لتنقضِ الأزمنة!
v من أجلنا خلقت الزمان لنمجدك فيه،
ومن أجلنا ينقضي الزمان لنتمجَّد معك أبديًا.
نعم! لتنقضِ الأزمنة!
لتأت أيُّها الحبيب إلينا،
أو لتحملنا بروحك القدُّوس إليك،
إننا نتعجَّل اللقاء معك!
v لتفتح عيون قلوبنا،
فنراك قادمًا الآن إلى أعماقنا،
ونرى أنفسنا عابرة إليك تنعم بحضرتك!
الاهتمام بظهور ضد المسيح وانقضاء الدهر:
إذ تحدث سفرا دانيال ورؤيا يوحنا اللاهوتي عن ضد المسيح، آثرت أن أقدم ملحقًا لتفسير سفر دانيال عن "ضد المسيح في كتابات آباء الكنيسة"، خاصة وأن موضوع "ضد المسيح وانقضاء الدهر" يشغل العالم في وقتنا الحاضر أكثر من كل عصرٍ سابقٍ. فقد ذكر منذ سنوات قليلة أحد مشاهير الوُعاظ بالولايات المتحدة الأمريكية أن الأسئلة التي قُدمت له في سنة واحدة عن انتهاء العالم أكثر بكثير من عدد الأسئلة في نفس الموضوع لمدة عشرين سنة سابقة إن جُمعت معًا. هذا يكشف عن المشاعر الشعبية حتى في الدول المتقدمة من جهة اقتراب انقضاء الدهر.
تزايدت التساؤلات في الأعوام الأخيرة للأسباب التالية:
· ظهور دولة إسرائيل، وكأن الصيف قد اقترب لأن شجرة التين قد صار غُصنها رخصًا، وأخرجت أوراقها (مت 24: 32، مر 13: 28).
· يتساءل البعض عما إذا كانت إسرائيل ستقبل الإيمان بالسيَّد المسيح في آخر الأزمنة كقول الرسول بولس (رو 11). لقد نمت حركة التبشير بالإيمان المسيحي بين اليهود، وظهر المركز المسيحي اليهودي The Jewish Christian Center بأمريكا... واهتم الكثير بالكرازة بين اليهود حتى داخل إسرائيل.
· مناداة أحد الحاخامات المشهورين الذي قبل الإيمان بالسيَّد المسيح بأن ما يترقبه اليهود ليس المسيَّا بل ضد المسيح، وأنهم يهيِّئون لظهوره دون أن يدروا.
· ظهور بعض التسابيح اليهودية التي تتغنى بأن المسيَّا قد وُلد فعلاً، ويترقب بعض اليهود مجيئه سريعًا.
· الصراع الخطير بين اليهود والدول المحيطة بخصوص إقامة الهيكل من جديد الذي اندثر تمامًا منذ سنة 70م حتى اليوم، أكثر من تسعة عشرة قرنًا...
· بعيدًا عن الجو السياسي، يتساءل كثير من المسيحيين:
* هل يسمح الله ببناء الهيكل وقد أكد السيَّد المسيح أنه يخرب إلى الأبد (مت 23: 38؛ لو 13: 35)، وقد فشلت المحاولات السابقة في إقامته؟
* هل يسمح الله ببناء الهيكل حيث يُقيم ضد المسيح مركزه الروحي فيه ويبث سمومه ضد الكنيسة في العالم، فيتحقق القول الرسولي عن ظهور إنسان الخطية في هيكل الرب؟
* هل تُقدم ذبائح حيوانية بعد أن بطلت كل هذه القرون بذبيحة السيَّد المسيح الفريدة؟ وما موقف السماء منها إن قُدمت؟
إن التصريحات الإسرائيلية بالعمل على بناء الهيكل، بجانب ما تسببه من مشاكل سياسية، الأمر الذي يشغل رجال السياسة، تُثير في نفوس بعض المسيحيين في العالم كله تساؤلات بخصوص انقضاء الدهر.
· بجانب العوامل السابقة تُثير تصريحات بعض العلماء عن اتساع ثقب الأوزون وما قد يسببه من دمار الأرض تمامًا بالزلازل والبراكين ما يُثير الكثيرين في هذا الأمر.
موعد المجيء الثاني للسيد المسيح:
فيما يخص موعد المجيء الثاني للسيد المسيح، تُثار في السنوات الأخيرة تساؤلات كثيرة، خاصة وأن كثيرين حاولوا عبر مختلف العصور حساب الأزمنة والأوقات، وقد استعان أغلبهم بسفري دانيال والرؤيا بقصد تحديد موعد مجيئه وانقضاء الدهر.
الرأي الأول: لا يعرف أحد هذا الموعد:
أ. قيل لدانيال: "اخفِ الكلام، واختم السفر إلى وقت النهاية" (دا 12: 4). هذا يحمل في نفس الوقت احتمال معرفة دانيال للنهاية، لكنه يلتزم بإخفائها.
تحدث السيَّد المسيح صراحة أن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم بها أحد من البشر، ولا ملائكة السموات، وأنه ليس للبشر أن يعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه وحده (مت 24: 36، 42؛ مر 12: 32-33).
يقول القديس هيلاري أسقف بواتييه: [وقد حرم عليهم معرفتها، وليس ذلك فقط، وإنما الشوق إلى الاهتداء إلى معرفتها ممنوع، لأنه ليس لهم أن يعرفوا تلك الأزمنة[284]].
ب. الشعور بقرب مجيء السيَّد المسيح أمر لازم عبر كل الأجيال، لكي يكون الكل مستعدًا، وكما قيل:
"فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنّا، قد تناهى الليل وتقارب النهار" (رو 13: 12).
"غير تاركين اجتماعنا كما لقومٍ عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب" (عب 10: 25).
"لأنه بعد قليل جدًا سيأتي الآتي ولا يُبطئ" (عب 1: 37).
"وإنما نهاية كل شيء قد اقتربت، فتعقلوا واصحوا للصلوات" (1 بط 4: 7).
"هوذا الديان واقف قدام الباب" (يع 5: 9).
"ها أنا آتي سريعًا" (رؤ 3: 11؛ 22: 7، 12، 20).
الرأي الثاني: أن العلامات أكيدة والمجيء اقترب:
لقد سبق فحدد كثيرون موعد انقضاء الدهر، خاصة الذين اعتقدوا في المُلك الألفي الحرفي، إذ ظنوا أنه كما خلق الله العالم في ستة أيام هكذا سينتهي العالم بعد ستة آلاف سنة، لأن اليوم عند الرب كألف سنة (2 بط 3: 8)، ثم تبدأ راحة الرب في اليوم السابع (المُلك الألفي) وفي اليوم الثامن يكون مجيئه للدينونة. فمع بدء الألف السابعة للعالم يأتي المسيح ثانية ليملك على الأرض لمدة ألف سنة[285]، مثل القديس إيريناؤس[286] وكوموديان[287] وفيكتوريانوس[288] ولاكتانتيوس[289].
إن تركنا العلامات التي يمكن أن تنطبق على كل الأجيال، فإن عصرنا هذا يتسم بعلامات خاصة تؤكد سرعة المجيء، وقد سبق لنا الحديث عنها مثل عودة اليهود وإقامة إسرائيل، والصراع بخصوص إقامة هيكل لليهود، وشعور بعض اليهود أن المسيَّا قد وُلد فعلاً.
هذا وما أن يُعلن اليهود عن قبولهم لشخصٍ ما أنه المسيَّا المنتظر يكون قد تأكد المؤمنون أنه ضد المسيح، وأنه لن يبقى سوى 1290 يومًا، وهي فترة حكمه المُرَّة وقتله ثم فترة انتظار (45 يومًا) لتوبة الراجعين وتزكية المؤمنين.
الآن نقدم عرضًا لما ورد عبر التاريخ بخصوص ضد المسيح.
ضد المسيح في الكنيسة الأولى:
منذ انطلاق الكنيسة للعمل الكرازي والتعبدي بعد العنصرة كانت توجه أنظار أولادها إلى حقيقتين أخرويتين:
1. مجيء السيَّد المسيح الأخير، حيث يحمل كنيسته معه إلى حضن أبيه، لتشاركه مجده. الآن تتمتع الكنيسة بحلول السيَّد المسيح في وسطها وسكناه في قلوب المؤمنين، لينعموا بعربون مجده الداخلي، وتلتهب قلوبهم بالشوق كي تراه وجهًا لوجه قادمًا على السحاب.
2. مجيء ضد المسيح، المقاوم للحق، والذي يدخل في معركة حاسمة أخيرة لحساب إبليس في أواخر الأزمنة. يبث ضد المسيح كل أنواع الخداع والفساد، إن أمكن أن يضل حتى المختارين. ويعد لهذا المضل أضداد للمسيح في كل عصر.
* ضد المسيح في العصر الرسولي:
يتحدث القديس يوحنا الحبيب عن أضداد المسيح في عصره، قائلاً: "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روحٍ بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم... هذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي والآن هو في العالم" (1 يو 4: 1-3). هكذا يُحذرنا القديس يوحنا من أضداد المسيح الذين هم أنبياء (معلمين) كذبة لا ينطقون بالحق. وفي نفس الوقت يوجه القديس بولس أنظارنا إلى ضد المسيح الذي يرتبط مجيئه بحالة ارتداد خطيرة في نهاية الأزمنة، إذ يقول: "لأنه لا يأتي (يوم المسيح) إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلن إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم، والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا، حتى انه يجلس في هيكل الله كإلهٍ، مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 3-4).
* في عصر الآباء الرسوليين:
يحدثنا واضع الديداكية (القرن الثاني - بعض نصوصها ترجع إلى القرن الأول) عن ضد المسيح بكونه مضلل العالم، الذي يدَّعي أنه ابن الله[290]، يحكم على الأرض ويصنع آيات وعجائب ويضطهد المؤمنين. لكن تتحقق النصرة الكاملة للسيد المسيح بظهور علامة (الصليب) في السموات المفتوحة، ويُسمع صوت البوق، ويقوم الأموات. عندئذ يأتي السيَّد المسيح ومعه جميع قديسيه على سحب السماء.
هذا ويربط واضع الديداكية بين مجيء السيَّد المسيح وانتشار البغضة والكراهية مع الظلم.
يدافع القديس بوليكربس أسقف سميرنا عن التجسد الإلهي، وموت السيَّد المسيح على الصليب، حاسبًا أن من ينكرهما هو ضد المسيح ومن الشيطان والابن البكر لإبليس[291].
* القديس يوستين الشهيد (حوالي 100-165):
يتحدث عن إنسان الخطية بكونه إنسان الارتداد الذي ينطق بما هو ضد العليّ، ويتجاسر بارتكاب أعمالٍ شريرةٍ ضد المسيحيين[292].
* القديس إيريناؤس:
يقول: [مع كونه لصًا ومرتدًا يهتم أن يُعبد كإله، ومع كونه عبدًا مُجردًا يرغب في إقامة نفسه ملكًا؛ وإذ يحمل قوة إبليس يأتي لا كملكٍ بارٍ خاضع لله، وإنما كإنسانٍ مُقاوم، فيه يتركز كل ارتداد شيطاني، مُخادعًا الناس بكونه الله...[293]].
يرى القديس إيريناؤس وكيرلس الكبير أن ضد المسيح يقوم بتجديد الهيكل اليهودى في أورشليم كمركز لعمله. بينما يرى القديسون يوحنا الذهبي الفم وأغسطينوس وجيروم والأب ثيؤدرت أنه يتربع في هيكل الكنيسة المسيحية. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "إنه يجلس في هيكل الرب ليس فقط في أورشليم، وإنما في كل كنيسة"[294].
على أي الأحوال إن كان السيَّد المسيح قد جاء إلى العالم ليكرس كل قلب كهيكلٍٍ مقدسٍ للثالوث القدوس، وخلال هذا التقديس يعود للهيكل الإلهي قدسيته، فإنً ضد المسيح يأتي ليهدم القلوب ويفسد الهيكل القائم مغتصبًا إيّاه لحسابه، كما يفسد كنائس الرب ويضطهدها[295].
* العلامة ترتليان (160-240م تقريبًا):
ساد في القرون الأولى اعتقاد بأن هذا الإنسان يظهر بعد زوال الدولة الرومانية، وكانوا يتطلعون إلى الإمبراطورية كقوة مقاومة لظهوره. يقول العلامة ترتليان: [أي عائق له إلاَّ الدولة الرومانية، فإنه سيظهر الارتداد كمقاومٍ وضد المسيح[296]]. كما يقول: [نلتزم نحن المسيحيون بالصلاة من أجل الأباطرة واستقرار الإمبراطورية استقرارًا كاملاً، فإننا نعرف أن القوة المرعبة التي تهدد العالم يعوقها وجود الإمبراطورية الرومانية. هذه القوة التي لا نُريدها، فنصلي أن يؤجل الله ظهورها... بهذا تظهر إرادتنا الصالحة لدوام الدولة الرومانية[297]].
يرى أن ضد المسيح قد اقترب مجيئه جدًا، فيقول: [إنه الآن على الأبواب، يتوق إلى دم المسيحيين لا إلى الأموال[298]].
* العلامة أوريجانوس:
يتحدث العلامة أوريجانوس عن الآيات الشيطانية التي تتبع ضد المسيح وجودها، لكنها آيات خادعة وعاجزة، إذ لا تقدر أن تغير طبيعتنا الفاسدة إلى طبيعة مقدسة، ولا أن تهب نموًا في الحياة الفضلي، بل أن الممارسين لها أنفسهم لا يسلكون في نقاوة[299].
يرى العلامة أوريجانوس أن إنسان الخطية وهو يحمل أعمال الشيطان بكل عنفها وخداعها إنما يمثل الكذب الذي لا يمكن أن يكون له وجود بإعلان ظهور مجيء المسيح، أي ظهور الحق[300]. فظهور المسيح يسوع شمس البر في أواخر الدهور ويقضى تمامًا على ظلمة عدو الخير ويدفع بها إلى العذاب الأبدى، وإعلان الحق يحطم الكذب.
إذ اتبع العلامة أوريجانوس منهج التفسير الرمزي جاء تفسيره للأصحاح 24 من إنجيل متى (Comm. in Matthaeum on 24:3-4) رمزيًا، فيرى ضد المسيح هو التفسير الزائف للتعليم المسيحي والفضيلة المسيحية. أما أحداث الأزمنة الأخيرة فهي:
* المجاعة التي تسبق مجئ السيَّد المسيح هي مجاعة المسيحي للمعنى الذي هو تحت سطح الكتاب، أي المعنى الروحي أو الرمزي المختفي وراء الحرف.
* الأوبئة هي الخطابة المؤذية للنفس التي يستخدمها الهراطقة والغنوسيون.
* الاضطهادات هي التعاليم الباطلة التي يشوه بها المخادعون الحق المسيحي.
* رجسة الخراب في الموضع المقدس هو التفسير الخاطئ للكتاب المقدس.
* السحاب الذي يظهر عليه السيَّد المسيح هو كتابات الأنبياء والرسل التي تعلن عنه في النفس.
* السماء التي نتمتع بها هي الأسفار المقدسة التي تقدم لنا الحق.
* النصرة النهائية هي اعلان الانجيل في العالم.
استخدام العلامة أوريجانوس للتفسير الرمزي هنا لا يعني إنكار مجيء ضد المسيح كشخصٍ حقيقيٍ وذلك في أواخر الأزمنة.
* القديس هيبوليتس أسقف روما[301] (القرن الثالث):
في مقاله "عن المسيح وضد المسيح De Christo et Antichristo" الذي اعتمد فيه على اقتبسات من العهدين: القديم والجديد، قال إن التاريخ سينتهي بظهور طاغيةٍ عنيفٍ، يقلد المسيح لكي يغلب كل الأمم لحسابه[302]. سيقوم ببناء الهيكل في أورشليم، ويكون أساسه السياسي هو مملكة روما (بابل الجديدة)[303].
سيدعو ضد المسيح كل الشعب لتبعيته، ويغويهم بوعود باطلة، ويكسب الكثيرين إلى حين[304]. ولكن إذ يبلغ الأمر إلى القمة يأتي الرب ويسبقه النبيان يوحنا المعمدان وإيليا[305]؛ يأتيان بمجدٍ، ويجمعان مؤمنيه معًا في موضع الفردوس[306]. سيحدث حريق ويسقط رافضوا الإيمان تحت الحكم العادل. عندئذٍ يقوم الأبرار إلى الملكوت والخطاة إلى نارٍ أبدية[307].
يفترض القديس هيبوليتس أن ضد المسيح سيكون يهوديًا، ويحدد أنه من سبط دان[308]، ويشترك القديس إيريناؤس معه في ذات الرأي[309].
وفي تفسيره سفر دانيالCommentary on Daniel الذي يُعتبر أقدم تفسير آبائي للسفربين أيدينا، يربط القديس هيبوليتس بين مملكة ضد المسيح ونهاية العالم التي تتم بعد 6000 عامًا من الخليقة حيث يستريح الرب في اليوم السابع.
* كوموديان Commodian:
توجد قصيدتان شعريتان باللاتينية ترجعان إلى النصف الثاني من القرن الثالث أو إلى القرن الرابع، وهما منسوبتان لكوموديان، أول مسيحي لاتيني شاعر، هما Carmen de Duobus populis, Instructions يتحدثان عن الأيام الأخيرة هكذا:
سيقوم نيرون من الجحيم كضد المسيح يُحارب الكنيسة، وسيقف أمامه إيليا النبي الذي يرجع إلى العالم[310]. وأن المسيح الغاش هو إعادة حياة نيرون الذي سيصنع معجزات في اليهودية[311]. وتشير القصيدة Carmen عن مجيء ضد آخر للمسيح في الشرق، بينما تُشير القصيدة الأخرى إلى ظهور ضد واحد للمسيح، وهو نيرون الذي يأتي إلى أورشليم بعد نصرته على الغرب وخداعه لليهود الذين يقبلونه بكونه المسيَّا[312].
* القديس أثناسيوس الرسولي (حوالي 295-373):
إذ ذاقت الكنيسة الأمرّين من أريوس، تطّلع البابا أثناسيوس إليه كضد المسيح، لكن لا بروح الخوف والقلق، بل بروح النصرة والغلبة على الشر. ففي رسالته الفصحية العاشرة يقول: [كيف يُذكى طول الأناة مالم تأتِ أولاً اتهامات ضد المسيح الباطلة والمخادعة؟![313]] دعي أريوس "السابق" لضد المسيح[314]، الذي يُهيء لمجيء ضد المسيح. وقد دافع عن حرم وعزل الكنيسة لأريوس أنه بإنكاره لاهوت السيَّد المسيح اقترب جدًا من ضد المسيح[315].
* القديس كيرلس الأورشليمي (تنيح عام 364م):
يُقدم لنا القديس كيرلس الأورشليمي حديثًا عن ضد المسيح في مقاله الخامس عشر الخاص بمجيء السيَّد المسيح في مجده، جاء فيه:
1. إن البغضة بين الإخوة هي الطريق الذي يُهيء لضد المسيح، وهو في هذا يتفق مع ما ذكره السيَّد المسيح أنه في الأيام الأخيرة تبرد محبة الكثيرين، كما يتفق مع ما ورد في الديداكية[316].
2. تم الارتداد بظهور الهرطقات.
3. أرسل الهراطقة روّاده للضلال الجُزئي حتى يأتي لينقَض على الفريسة.
4. يُقيم نفسه إمبراطورًا على روما، فيخدع اليهود البسطاء المُنتظرين المُلك المادي، ويخدع الأمم بالعجائب المُخادعة.
5. مُدة حكمه ثلاث سنوات ونصف تنتهي بظهور السيَّد المسيح في مجده من السماء.
يقول: ["فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي في المكان المقدس. ليفهم القارئ" (مت 24: 15). وأيضًا "حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا" (مت 24: 23).
إن كراهية الاخوة تفسح الطريق لمجيء ضد المسيح. لأن الشيطان يصنع الانقسام بين الناس حتى يقبلوا المزمع أن يأتي. لكن الله منع أي خادم من خدام المسيح أن يذهب إلى هنا أو هناك نحو العدو[317]].
[وإذ يكتب الرسول بولس في هذا الأمر يُعطي علامة واضحة إذ يقول: "لأنه لا يأتي (هذا اليوم) إن لم يأت الارتداد أولاً..." (2 تس 2: 3-10).
هكذا كتب بولس، وقد تم الارتداد إذ ارتد الناس عن الإيمان المستقيم، فالبعض يتجاسر ويقول إن المسيح أُوجد من العدم. كان الهراطقة من قبل ظاهرين، أما الآن فالكنيسة مملوءة هراطقة مستترون، إذ ضل الناس عن الحق وصموا آذانهم (2 تي 4: 3). هل يوجد مقال مملوء اعتدادا؟! الكل ينصت إليه بفرح! هل توجد كلمة للإصلاح؟ الكل يتحول عنها!
تحول الغالبية عن الكلمات الصحيحة واختاروا بالأحرى الكلمة الشريرة بدلاً من الصالحة. هذا هو الارتداد، والعدو يتطلع إليه فقد أرسل جزئيًا رواده حتى يأتي فينقض على الفريسة.
اهتم بنفسك يا إنسان ولتكن نفسك في أمان.
الكنيسة تحملك المسئولية أمام الله الحيّ، فهي تخبرك عما يخص بضد المسيح قبل أن يأتي. وإننا لا نعلم إن كان يأتي في أيامكم أو بعدكم، لكن يليق بكم إذ تعرفون هذه الأمور أن تحترسوا...[318]].
[لكن كما أنه كان يليق به (بالمسيح) من قبل أن يأخذ الناسوتية وكان منتظرًا أن يولد الله من عذراء، فقد خلق الشيطان خداعًا بإيجاد روايات عن آلهة كذبة تلد وتولد من نساء، لكي بوجود الأكاذيب لا يُصدق الحق. وهكذا أيضًا إذ يأتي المسيح مرة أخرى، فإن المقاوم يستغل فرصة انتظار البسطاء خاصة الذين من أهل الختان، فيأتي رجل ساحر نابغ في فنون السحر والعرافة مخادع ماكر يأخذ لنفسه سلطان إمبراطور روما ويُنصب نفسه مسيحًا كذابًا، وتحت اسم المسيح يخدع اليهود المنتظرين مجيء المسيح ويغوي الأمم بأضاليله السحرية[319]].
[هذا المسيح الكذاب السابق ذكره يأتي بعد انتهاء أزمنة إمبراطورية روما عندما تقترب نهاية العالم. سيقوم عشرة ملوك لروما ضد بعضهم، ربما يحكمون في مناطق مختلفة، لكنهم يقومون في زمن واحد، بعد هذا يأتي الحادي عشر أي الضد للمسيح الذي بخداعاته السحرية يغتصب القوة الرومانية، ومن هؤلاء العشرة ملوك الذين كانوا يحكمون سابقًا"
"يذل ثلاثة ملوك" (دا 7: 24) والسبعة يخضعهم لسطوته. في البداية يلبس مظهر اللطف والتعقل والحنو، وبالعلامات الكاذبة والعجائب السحرية المخادعة يخدع اليهود كما لو كان المسيح المنتظر. بعد هذا يُظهر كل أنواع الجرائم الوحشية والشرور، فيفوق كل الأشرار والملحدين الذين سبقوه، مستخدمًا روح قتال عنيفٍ جدًا ضد كل البشرية خاصة المسيحيين، فيكون بلا رحمة مملوء غشًا.
وبعد ثلاث سنوات وستة أشهر فقط تتحطم هذه الجرائم بالظهور المجيد لابن الله الوحيد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الحقيقي من السماء، حيث يسحق ضد المسيح فمه ويلقيه في نار جهنم[320]].
[لسنا نُعلم بهذا من اختراعنا، بل تخبرنا به الكتب المقدسة الإلهية التي في الكنيسة وخاصة ما جاء في نبوة دانيال التي قرأت منذ قليل، كما فسرها رئيس الملائكة جبرائيل قائلاً "الحيوان الرابع مملكة رابعة على الأرض تفوق سائر الممالك" (دا 7: 23). ومعروف في تقليد مفسري الكنيسة أنها مملكة الرومان. فكما كانت المملكة الأولى التي ذاع صيتها هي مملكة الآشوريين، والثانية هي مملكة مادي والفرس معًا. وبعد هذا المملكة الثالثة هي المقدونيون، والرابعة هي مملكة الرومان. ثم يستمر جبرائيل في التفسير قائلاً "قرونه العشرة هم عشرة ملوك سيقومون ويقوم بعدهم آخر الذي يفوق في الشر كل سابقيه: (ليس فقط يفوق العشرة بل كل سابقيه)". "ويذل ثلاثة ملوك" (دا 7: 24). واضح أنهم من العشرة ملوك السابقين... إنه "يتكلم بكلام ضد العليّ" (دا 7: 25). انه يكون مجدفًا وشريرًا، لا يأخذ المملكة عن آبائه بل يغتصبها بالسحر[321]].
[(من هو هذا؟ وما هو نوع عمله؟)
فسِّر لنا يا بولس. يقول "الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة" (2 تس 2: 9). مظهرًا أن الشيطان يستخدمه كأداة عاملاً في شخصه، ومن خلاله. فإذ يعلم أن دينونته لن تتأخر بعد كثيرًا، يصنع حربًا ليس خلال وكلائه كعادته بل يصنعها علنًا من ذلك الحين فصاعدًا. مستخدمًا "آيات وعجائب كاذبة". لأن أب الكذب يعمل أعمال الكذب حتى يظن الناس أنها ترى الميت يقوم وهو لم يقم، والعرج يمشون والعمي يبصرون مع أنهم لم يشفوا حقيقة[322]].
[يقول أيضًا "المُقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا... حتى أنه يجلس في هيكل الله".
يجلس في هيكل الله".
أيّ هيكل هذا؟ لئلا يُظن أننا نفضل أنفسنا فإنه متى جاء لليهود على أنه المسيح راغبًا في أن يكون موضع عبادتهم، يعطي اهتمامًا للهيكل لكي يخدعهم تمامًا مُدعيًا أنه من نسل داود وأنه سيبني الهيكل الذي شيده سليمان هذا الذي متى جاء ضد المسيح لن يجد فيه حجر على حجر كما حكم بذلك مخلصنا...
إنه سيأتي "بآيات وعجائب كاذبة" رافعًا نفسه على كل الأصنام، فيتظاهر أولاً بمحبة الإحسان، لكن يعود فيظهر طبعه الذي لا يعرف الرحمة وخاصة ضد قديسي الله. إذ قيل "وكنت أنظر وإذا هذا القرن يُحارب القديسين" (دا 7: 21). وفي موضع آخر قيل "ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت" (دا 12: 1). مرعب هو هذا الوحش، تنين عظيم لا يهزمه إنسان، مستعد للافتراس، هذا لنا أن نتكلم عنه الكثير مما ورد في الكتب الإلهية، لكننا نكتفي الآن بهذا حتى لا نتعدى حدود المقال[323]].
* لاكتاتنتيوس (القرن الرابع):
يتحدث عن ضد المسيح قائلاً إنه سيأتي عدو قدير من أقصى الشمال[324]، في وقتٍ فيه يتدمر جو الجنس البشري الطبيعي[325]. أخيرًا يظهر ملك سرياني ابن الشيطان مخرب للجنس البشري ومدمرٍ له[326]. هذا الملك هو ضد المسيح الحقيقي[327]، الذي يطالب بالتعبد له؛ يصنع المعجزات، ويقتل النبي الذي سيرسله الله لكي يجمع شمل شعبه[328]. بعد ثلاث سنوات ونصف من اضطهاده للمؤمنين يرسل الله الملك العظيم يسوع المسيح من السماء ليُخلص المؤمنين، ويهلك ضد المسيح مع كل قواته[329]. وسيقوم كل المؤمنين ليدينوا من لم يعرفوا الله، هؤلاء الذين حُكم عليهم بالفعل وسقطوا تحت الدينونة[330]، لكنهم كانوا ينتظرون الموت الثاني والقيامة النهائية. بهذا يُلقى الأشرار في النار الأبدية، وهي نار إلهية تحيا بذاتها لا تحتاج إلى ما يشعلها، وتُبقي على من تستهلكه[331].
يفهم أيضًا من كلماته أن كل البشرية تدخل هذه النار، لكن الأبرار لا يحترقون "لأن فيهم ما هو من الله يقاوم قوة اللهيب ويستخف به"[332].
يؤكد لاكتانتيوس أن دينونة المؤمنين لن تتم بعد الموت مباشرة بل في مجيء السيَّد المسيح[333]. ويعتقد لاكتنتيوس أن الأبرار سيحكمون مع المسيح على بقية الأمم لمدة ألف سنة من السلام والرخاء العجيب[334].
* تيخون الأفريقي (القرن الرابع):
اعتقد تيخون الذي اتبع الدونستين أن ضد المسيح قد ظهر في أيامه في أفريقيا (مات عام 380 م)، وأنه سيعلن في كل العالم[335].
رأى أن ضد المسيح إلى أيامه كان يضطهد كنيسة المسيح الحقيقية بطريقة غير مباشرة وملتوية، يحمل مظهر القداسة مقدمًا سرّ الشر المخفي[336]. لكنه قد حان الوقت لظهوره علانية كشخصية حقيقية ويعلن عن أتباعه، فانه لا يعود ينطق بتجاديف على الله بطريقة خفية تحت ستار الدين وإنما يتحدث أمام الكل[337].
في نفس الوقت تنمو الكنيسة - جسد المسيح - على الدوام في مجدٍ غير منظورٍ، بجهادها المخفي[338]. وإذ تنتهي فترة النمو الغامضة هذه ويكمل عدد القديسين، يحل الشيطان من الهاوية الروحية حيث هو محبوس الآن، ويخطئ شعبه علانية ويعطلوا كرازة الكنيسة[339]. ولا يكون أمام القديسين إلاَّ بذل دمائهم[340]. حتى تستمر شهادتهم للإنجيل في كل الأرض بالرغم من الضيقة الشديدة والمقاومة[341].
الأيام الأخيرة بالنسبة له ليس فقط وقتًا للإعلان فحسب بل ولتطهير الكنيسة. بعد ذلك يُرسل الملائكة لجمع حصاد العنب من كرم الرب، وتُبنى المعصرة خارج المدينة (رؤ 14: 1). فيُعزل الخطاة عن جماعة المسيح[342]. يقول: "من لا يتعذب الآن بالتوبة سيتعذب حتمًا فيما بعد في جهنم"[343].
* القديس يوحنا ذهبي الفم:
يتطلع إلى نيرون بكونه ضد المسيح الذي ظن في نفسه إلهًا[344]. كما يقول: [دعاه: الارتداد، لأنه سيُهلك كثيرين ويجعلهم يرتدون، إن أمكن حتى المختارين أن يضلوا (مت 24: 24). دعاه: إنسان الخطية، لأنه يصنع شرورًا بلا حصر، ويثير الآخرين لفعل ذلك، ودعاه: ابن الهلاك لأنه هو نفسه أيضًا يهلك[345]].
شدة الهجوم الذي يشنه إنسان الخطية تجعل البعض ينظرون إليه أنه الشيطان بعينه، لذلك يتدارك القديس يوحنا ذهبي الفم ذلك بقوله: ["هل هو الشيطان؟ لا، إنما هو إنسان يبث فيه الشيطان كل أعماله"[346]].
ربما تُثير فينا كلمات الرسول بولس "والآن تعلمون ما يَحجزُ حتى يُستعلن في وقته، لأن سرّ الاثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يَحجزُ الآن (2 تس 2: 6-7) التساؤلات التالية:
ما هو هذا الحاجز الذي يعوق استعلان إنسان الخطية؟
ولماذا كتب الرسول بأسلوب غامض؟
وكيف يرفع من الوسط؟
يُجيب القديس يوحنا ذهبي الفم بأن في عصره ساد رأيان:
الرأي الأول: أن الحاجز هو الروح القدس الذي يعوق قيام إنسان الخطية حتى يحل الوقت المحدد. هذا الرأى يرفضه القديس يوحنا ذهبي الفم.
والرأي الثاني: أن الحاجز هو "الدولة الرومانية" التي تقف عائقًا عن ظهوره. وقد قبل القديس هذا الرأى مُتطلعًا إلى نبوة دانيال التي يفسرها هكذا: إن الدولة البابلية قامت على أنقاض مادي، وقام الفرس على انقاض بابل، والمقدونيّون (الدولة اليونانية) على انقاض سابقتها، والرومانية على أنقاض اليونانية، ويكون ذلك قبل مجيء المسيح يسوع ربنا ليملك على كنيسته في السموات إلى الأبد. ففي رأيه أن الرسول أخفي ما هو الحاجز لكى لا يُثير الإمبراطور الروماني ضد الكنيسة بكونها تتنبأ عن نهاية الدولة الرومانية وحلول ضد المسيح مكانها.
* القديس أمبروسيوس:
يبيد السيَّد المسيح "ضد المسيح" بروحه القدوس: [لا ينال (المسيح) نعمة تُوهب له، إنما يمثل الوحدة التي بلا انقسام، حيث لا يمكن أن يوجد المسيح بدون الروح، ولا الروح بدون المسيح، إذ وحدة اللاهوت لا تنقسم[347]].
* القديس أغسطينوس:
يرى القديس أغسطينوس أن السيَّد المسيح قد جاء إلى اليهود يطلب مجد الآب فرفضوه، وسيأتي ضد المسيح يطلب مجد نفسه فيحسبوه المسيا المنتظر: [إذ يعلن الرب عن ذاك الذي يطلب مجد نفسه لا مجد الآب (يو 7: 18) يقول لليهود: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني؛ إن أتى آخر باسم نفسه فذاك تقبلونه" (يو 5: 45). لقد أعلن لهم أنهم سيقبلون ضد المسيح الذي يطلب مجد نفسه منتفخًا، وهو ليس بصادقٍ ولا ثابتٍ وإنما بالتأكيد هالك. أما ربنا يسوع المسيح فأظهر لنا نفسه مثالاً عظيمًا للاتضاع، فمع كونه بلا شك مساوٍ للآب... لكنه يطلب مجد الآب لا مجد نفسه"[348]]. أما سرّ قبول اليهود لضد المسيح فهو تفكيرهم المادى وتفسيرهم الحرفي للنبوات. وكما يقول القديس أغسطينوس: [يبدو ليّ أن الشعب الإسرائيلي الجسداني سيظن أن النبوة تتحقق (في ضد المسيح)، القائلة: "خلصنا أيها الرب إلهنا واجمعنا من الأمم" (مز 106: 47). تتحقق تحت قيادته وأمام أعين أعدائهم المنظورين هؤلاء الذين سيأسرهم بطريقة منظورة ويقدم المجد المنظور"[349].
كثيرون ظنوا أن العالم سينتهي بعد 6000 عامًا تقابل 6 أيام الخليقة ليستريح الرب في يوم السبت. أما القديس أغسطينوس فاعتقد أن الدينونة تأتي في اليوم الثامن "سبت الراحة"[350].
* القديس جيروم:
يرى أن كثيرين يقومون كرمزٍ لضد المسيح فيقول: [كما كان سليمان وقديسون آخرون رموزًا للمخلص، هكذا نؤمن بظهور رمزٍ لضد المسيح مثل أنطيوخس أكثر الملوك شرًا، مضطهد الكنيسة ومدنس الهيكل[351]].
في تفسيره سفر دانيال وتفنيده هجوم بورفيري Porphyry قال إن ضد المسيح هو إنسان يهودي من أصل وضيع سيُحطم مملكة الرومان ويسود العالم[352].
* سويرس Sulpicius Severus (حوالي 363-420):
أخبرنا أن معلمه القديس مارتن أسقف تورز St. Martin of Tours مقتنع بأن نيرون وضد المسيح سيُخضعان العالم قريبًا جدًا، وكان ذلك حوالي عام 396 م، وذلك كإعداد لنهاية العالم والدخول في المعركة الفاصلة. كما اعتقد أن ضد المسيح كان قد وُلد فعلاً وأنه صبي يستعد لنوال القوة في السن المناسب[353].
* نارساي Narsai السرياني (399-503 م):
يرى أن ضد المسيح هو إنسان يلبسه الشيطان تمامًا، فيصنع عجائب باهرة، ويؤسس سلامًا غاشًا، ويطلب أن يُعبد[354].
يعود إيليا إلى العالم لكي يقاوم ضد المسيح باسم البشرية المؤمنة، وسيغلبه في معركة واحدة حاسمة، بالروح القدس، متسلحًا بالكلمة[355]. وفي نهاية المعركة يظهر السيَّد المسيح نفسه ويتوج نصرة إيليا بسحق ضد المسيح في الجسد والنفس.
ينزل الرب إلى الأرض في بشريته المتجلية بالمجد في موكب مجيد لأرواح مسبحة يقودها ملاك متوشح بصليب على رأسه[356] ويُقيم الأموات من الأرض بعلامة بسيطة، ويحول طبيعة الأحياء حيث يلبسهم الخلود[357]. وبعلامة أخرى يفصل الأبرار عن الأشرار بدينونة عظيمة، حيث يقود كل خليقته إلى أتون الحكم فيصهرهم ليختار الذهب الحقيقي ويزدري بالغاش[358].
* اكيومينس Oecumenius (بداية القرن السادس):
كتب تفسيرًا لسفر الرؤيا اعتمد فيه على أقوال الآباء السابقين، فيه رفضوا فكرة الملك الألفي (المادي)، حاسبًا أن التلاميذ قد تربعوا على العرش بطريقة متواضعة في أيام السيَّد المسيح[359]. وتمتع البعض بالقيامة (الأولي) حقيقة بقبولهم حياة الإيمان الجديدة[360]، وأن القيامة الأولي (رؤ 20: 5) هي اجتذاب تلاميذ جدد إلى الحياة بالروح القدس[361].
تحدث أيضًا عن جوج وماجوج (رؤ 20: 8) بكونها قبائل بربرية غير معروفة تُصاحب الشيطان في اضطهاده المؤمنين[362]. وأن ضد المسيح سيأتي إنسانًا يلبسه شيطان، يصير ملكًا على اليهود، ويقتل إيليا وأخنوخ النبيين اللذين يظهرا في أواخر الدهور[363].
* رومانس Romanos The Melodist (القرن السادس):
يقدم لنا انعكاسًا للفكر الأخروي اليوناني والسرياني في عصره. خصص تسبحة (رقم 50) عن مجيء السيَّد المسيح الثاني، وصف فيها طغيان ضد المسيح في شيء من التفصيل[364].
يرى ضد المسيح أنه الشيطان متجسدًا[365]، يقاوم مؤمني المسيح بقوة[366]. وأنه يصنع معجزات ويقيم موتي[367]، ويبذل كل جهده لكي يقود الأبرار إلى حجال عرسه[368].
سيُلقي العدو في النار الأبدية، وهو وملائكته وكل الأشرار[369].
* أندراوس مطران قيصرية Andrew of Caesaraea:
يرى الأب اندراوس من القرن السابع أن ضد المسيح يأتي من سبط دان[370]، من باشان في منطقة الفرات[371].
في رأيه أنه يظهر كمن هو إلهي[372]، يقيم نفسه إمبراطورًا رومانيًا، ويعيد تأسيس الإمبراطورية الرومانية[373]، لكنه لا يجعل عاصمتها روما بل يقيمها مملكة أرضية عامة، هي "جسد الذين يقاومون كلمة الله في كل الأزمنة والأماكن"[374].
يرى المطران أندراوس أن الله وحده هو الذي يعرف عدد السنوات اللازمة لكي تكمل الكنيسة[375].
* الأب يوحنا الدمشقي (حوالي 650-750 م):
قدّم لنا مفاهيم كتابية لضد المسيح. أصر أن ضد المسيح سيكون إنسانًا عاديًا قابلاً للموت، مولودًا من زنا، تلبسه قوة شيطانية، وسيقبله اليهود بحماسٍ[376]. سيضطهد الكنيسة ويخدع كثيرين بعلامات وعجائب كاذبة[377].
يُرسل الله اخنوخ وإيليا ويُقتلا[378].
عندما يأتي السيَّد المسيح على السحاب كما صعد في مجد ويهلك الإنسان غير الشرعي (ضد المسيح) [379].
لقد رفض الأب يوحنا الدمشقي فكرة تجسد الشيطان تمامًا[380].
نقتبس هنا ما ترجمه له الأرشمندريت شكور في هذا الشأن[381].
مفاهيم كتابية عن المسيح الدجال:
[ينبغي أن تعلم أن المسيح الدجال لا محالة آتٍ وأنه لمسيح دجال كل من لا يعترف أن ابن الله قد أتى بالجسد وأنه إله كامل وأنه قد صار إنسانًا كاملاً بعد أن كان إلهًا. ومع ذلك فبالمعنى الخاص والحصري فإنهم يدعون المسيح الدجال ذاك الذي سوف يأتي في منتهي الدهر. ومن ثم ينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم (مت14:24)، كما قال الرب، ثم يأتي الدجال ليحاج اليهود مقاومي الله، فقد قال الرب لهؤلاء: "أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني، ويأتيكم آخر باسم نفسه فذاك تقبلون" (يو 5: 43). وقال الرسول أيضًا: "لذلك يُرسل الله إليهم عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، ويُدان جميع الذين لم يؤمنوا بالحق بل ارتضوا بالإثم" (2 تس 2: 10-12)].
اليهود سوف يقبلونه على أنه مسيحهم:
[فاليهود إذًا لم يقبلوا الرب يسوع المسيح، على أنه ابن الله والله، ويقبلون الغاش المدعي بأنه الله. وقد سمي نفسه الله لأن الملاك الملقن لدانيال يقول هكذا: "لا يعبأ بآلهة آبائه" (دا 11: 27).
ويقول الرسول: "لا يخدعنكم أحد بوجهٍ من الوجوه، لأنه لا بد أن يسبق الارتداد أولاً، ويظهر إنسان الخطيئة ابن الهلاك المعاند المترفِّع فوق كل من يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى إنه يجلس في هيكل الله ويُري من نفسه أنه هو الله" (2 تي 2: 3-4). هو يقول "في هيكل الله" - لا هيكلنا - بل الهيكل القديم اليهودي، لأنه لا يأتي إلينا بل إلى اليهود. ليس لأجل المسيح، بل ضد الذين هم للمسيح. لذلك يُدعي المسيح الدجال].
سيكون المسيح الدجال رجلاً حقيقيًا:
[وعليه ينبغي أن يكرز بالإنجيل في جميع الأمم، "وحينئذ يظهر الذي لا شريعة له ويكون مجيئة بعمل الشيطان بكل قوة وبالعلامات والعجائب الكاذبة، وبكل خديعة وظلم في الهالكين، فيُهلكه الرب يسوع بنَفَسْ فمه ويبطله بمجيئه" (2 تي 2: 8-10). وعليه فإنه ليس هو بالشيطان الذي يصير إنسانًا على مثال تأنس الرب، حاشا! بل هو إنسان يولد من زنى، ويتسلم كل عمل الشيطان. وقد سبق الله وعلم شناعة اختياره فترك للشيطان أن يسكن فيه].
بداية المسيح الدجال وامتداد نفوذه:
[إذًا قلنا إنه سُيولد من زنى ويتربى في الخفية ويثور فجأة ويستولي ويملك. وفي أوائل تملكه أو الأحرى تجبره يتظاهر بالعدل. وعندما تكون قد اتسعت سلطته يضطهد كنيسة الله ويُظهر كل شره. "وبكون مجيئه بالعلامات والعجائب الكاذبة" (2 تس 2: 9) المضلة وغير الصادقة. ويخدع من كان أساس ذهنهم فاسدًا وضعيفًا ويُبعدهم عن الله الحي و"يُضل المختارين لو أمكن" (مت 24: 24)].
محاربة أخنوخ وإيليا ضد المسيح الدجال:
[وسيُرسل الله أخنوخ وإيليا التشبي فيُعيدان قلوب الآباء إلى الأبناء، أي شيوخ المجمع إلى ربنا يسوع المسيح وإلى كرازة الرسل. ولكنه سيقتلهما. ثم يأتي الرب من السماء كما كان شاهده الرسل القديسون صاعدًا إلى السماء، إلهًا كاملاً وإنسانًا كاملاً، بمجد وقوة، فيهلك بنفس فمه الإنسان الزائغ عن الشريعة وابن الهلاك. فلا يتوقعن أحد إذًا مجيء الرب من الأرض بل من السماء، على ما أكده لنا هو نفسه].
* البابا غريغوريوس (الكبير):
جاء في سيرته التي سجلها الشماس يوحنا في القرن التاسع أن البابا غريغوريوس كان يحسب أن يوم الدينونة قريب الحدوث وأن نهاية العالم على الأبواب بما يرافقها من كوارث عديدة[382]. لقد اتبع التقليد اللاتيني القديم فرأى في الأمراض الاجتماعية لعصره علامة أن العالم قد شاخ[383]. لقد قال: "صارت ضربات الأرض الآن مثل صفحات كتبنا[384]".
كتب إلى الإمبراطور موريس Maurice:
[سوف لا يحدث تأخير،
السماء والأرض تحترقان،
والعناصر تنحل،
وسيظهر الديّان المهوب مع الملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والسلاطين والرؤساء والقوات[385]].
كان يرى البابا غريغوريوس في عجرفة أخيه أسقف القسطنطينية كبرياء ضد المسيح عاملاً فيه[386].
مع اعتقاده بسرعة نهاية العالم، لكنه اعتقد انها لا تتم في عصره[387].
* آراء متطرفة:
في القرون الوسطى اهتم كثير من اللاهوتيين الغربيين بموضوع "ضد المسيح" فتطلع بعض مقاومي السلطان الكنسي في أوربا إلى الكرسي البابوي كضد المسيح. يقول الأب برنارد: "صار خدام المسيح خدامًا لضد المسيح، وجلس وحش الرؤيا على كرسي القديس بطرس"[388].
غير أن كثير من اخوتنا اللاهوتيين البروستانت رفضوا هذا الرأى، مؤكدين أن ضد المسيح ليس نظامًا معينًا، بل هو إنسان معين يظهر في أواخر الدهور قبل مجيء السيَّد المسيح الأخير.
وكما اتهم بعض المتطرفين من البروتستانت البابوية انها "ضد المسيح"، فإنه من الجانب الآخر قام بعض المتطرفين الكاثوليك يتهمون الحركة البروتستانتية كضد المسيح، ورفض بعض اللاهوتيين الكاثوليك ذلك[389].
1. خزائن المعبد:
"وأدخل الآنية إلى خزائن بيت إلهه" (1: 2).
اعتاد الوثنيون أن يضعوا الأواني الثمينة، خاصة التي تستخدم في العبادة والاحتفالات الدينية، في مخازن ملحقة بالمعبد الوثني. وكان الأباطرة والملوك متى غلبوا بلدٍ ما يسلبون أوانيها الثمينة ويأتون بها إلى مخازن إلههم. كما فعل نبوخذنصَّر الذي جاء بالأواني المقدسة من هيكل أورشليم وأودعها في مخازن معبد الإله بعل أو بيل. أما غاية هذه المخازن، كما سبق فرأينا، هي:
أ. تأكيد أن كل ثمين في المملكة هو ملك للإله الذي يعبدونه.
ب. احضار الأواني من البلاد المستعمرة كغنائم تعني أن الإله قد وهبهم النصرة على أعدائهم.
ج. وجود المخازن بجوار المعبد، يحمل إشارة إلى أن الإله هو الحامي لمخازن الدولة والملك.
وُجدت في هيكل سليمان حجرات منفصلة بعضها لاستقبال العشور والبكور والأخرى لتخزين الأدوات النفيسة. عُرف اليهود بسخائهم الشديد في العطاء لبيت الرب، كما حدث في أيام موسى النبي عند بناء الخيمة، وفي أيام داود حيث كان يُعد لبناء الهيكل، كما في أيام يوآش (2 أي 24)، ويوشيا (2 مل 22). كانت الأواني الثمينة تُقدم كنذورٍ أو هباتٍ، وبسبب كثرتها كانت خزانة الهيكل في أورشليم مطمعًا للغرباء، مثل السريان والرومان[391].
2. أطايب الملك وخمر مشروبه (1: 5):
عُرف ملوك بابل وعظماؤها بالحياة المترفة المبالغ فيها. اعتادوا أن يقيموا الموائد بما لذَّ وطاب من أصناف الطعام، كما عُرفوا بحياة اللهو. كانوا يشربون الخمور حتى الثمالة، وقد تمثل بهم ملوك فارس.
3. عقاب المجرمين (2: 5، ص 3، 6):
ورد في سفر دانيال ثلاثة أنواع من العقوبات:
النوع الأول: تقطيع المجرم إربًا إربًا (2: 5). كانت هذه العقوبة مألوفة عند كثير من الشعوب القديمة، استخدمها العبرانيون أحيانًا كما حكم صموئيل النبي على الملك أجاج (1 صم 15: 33). يظن البعض أن هذه العقوبة تُشير إلى شطر الإنسان إلى نصفين أو نشره إربًا. وكانت العادة في بابل أن يُدمر منزل المجرم، وتُحسب الأرض المُشيد عليها منزله ملعونة إلى الأبد. وقد اتبع الفارسيون هذه العادة أيضًا، واُتبعت أيضًا في أثينا. لذا وُجدت في المدن القديمة مساحات شاسعة من الأراضي فضاء لا يمكن بنائها بسبب صدور أحكام على أصحابها بتقطيعهم إربًا وهدم منازلهم.
النوع الثاني: إلقاء العصاة ضد الآلهة في النار (راجع تفسير الاصحاح الثالث).
النوع الثالث: إلقاء العصاة ضد الملوك في جب أسود (راجع تفسير الاصحاح السادس).
4. الآلات الموسيقية (2: 5، 7، 10، 15):
احتلت الموسيقي مركز الصدارة في العصور القديمة، فكانت تُستخدم أثناء العبادة، وفي المعارك لإثارة الجنود، وفي مواكب الملوك خاصة عند نصرتهم، وفي الأعياد والاحتفالات كما في الجنازات.
عرف العالم القديم ثلاثة أنواع من الآلات الموسيقية: ذوات الأوتار، آلات النفخ، وآلات النقر. بعض هذه الأدوات معروفة تمامًا، بينما وصف الأدوات الأخرى يشوبها الغموض.
أ. القرن: قديمًا كانت آلات النفخ الموسيقية تُصنع من قرون الحيوانات. تطورت فصارت من المعادن مع احتفاظها بشكلها الأصلي وتسميتها الأولى، كما دُعيت "الهزوزران". الفرق بين القرن horn والبوق carnet هو أن شكل الأخير أقل انحناءً من الأول. وفي سفر دانيال دُعي القرن Keren "Carnet"، وكأنهما نوع واحد.
ب. الناي: Mashrokitha: من أقدم وأبسط الآلات الموسيقية. كان في الأصل مجرد قصبة بها بعض الثقوب على امتدادها. وإذ انتشر استخدامه صار يُصنع بأكثر اهتمام، وأحيانًا يصنع من النحاس أو الخشب أو الأبنوس أو العظم. أحيانًا يُستخدم مزماران معًا، يُعزف عليهما باليد اليمنى واليد اليسرى، ملتصقان معًا في الطرف الذي من جهة الفم.
كان الناي يُستخدم في المواكب الخاصة بالأعياد الكبرى لبث روح البهجة، كما يُستخدم أثناء السفر حتى لا يشعر المسافرون بالملل، وأيضًا في الجنازات بنغماته الهادئة الحزينة.
ج. القيثارة أو الكِنور أو العود Kathros: يظن Rawlinson[392] انه يمثل القيثارة البابلية، وهي تشبه القيثارة الآشورية، لكن أوتارها أقل. كما يتشابهان في أن تُحمل كل منهما تحت أحد الذراعين ويُعزف عليها باليدين، كل يد تأخذ اتجاهًا معينًا من الأوتار.
يظن البعض أن القيثارة harp تشبه الـ "cittern" وهي آلة من أصل يوناني، استخدمها الكلدانيون وهي نوع من الجيتار لازال يستخدم في الشرق.
د. الرباب Sabbeca, Sackbut: وهي الـ Sambuca عند الرومان. يرى Rawlinson أنها ربما ربابة ضخمة مرتكزة على الأرض مثل الربابة عند المصريين. يرى Wright[393] أن الـ Sambuca مثلثة الشكل لها أربعة أوتار أو أكثر ويُضرب عليها بالأصابع، وتعطي صوتًا حادًا.
هـ. السنطير Pesanterin, Psaltery: وهو نوع من الرباب، ويُظن أنها هي النَّبِل Nebel، ويبدو أنه ليس لها شكل معروف. وهي آلة وترية ربما كان لها شكل المثلث المقلوب (دلتا مقلوبة)، ويظن آخرون أنها تشبه الزق، هذا ما يُشير إليه كلمة نَّبِل. ويرى آخرون أنها تشبه الجيتار بوجه عام.
يقول يوسيفوس[394] أن السنطير له اثني عشر وترًا تصدر اثنتي عشرة نغمة، يقول المرتل: "ذو العشرة أوتار"، يُعزف عليه بالأصابع. كانت الأوتار، أيا كان عددها، مشدودة على قطعة خشبية (2 صم 6: 5؛ 1 مل 10: 6).
من غير المعروف متى ظهرت النَّبِل، ومتى اُستخدمت عند العبرانيين. جاء ذكرها في البداية عند تولي شاول المُلك. وعندما لاقته مجموعة من الأنبياء بعد أن مسحه صموئيل النبي بوقت قليل، استخدمت النَّبِل بين الآلات الموسيقية (1 صم 10: 5)، كما اُستخدمت في القيادة الإلهية (2 صم 6: 5، 1 أي 1: 8، 13، 15، 16، 25، 25، عا 6: 5) وأثناء الاحتفالات (إش 5: 12، 14: 11). يبدو أن النبل اُستخدمت لمصاحبة الصوت للغناء.
يرى Rawlinson[395] أن السنطير يشبه الـ Santour الحديث، وهو نوع من المزمار. أوتارها أقل من عشرة، مشدودة على صندوق مجوف أو لوحٍ موسيقي. غالبًا ما يُضرب عليها بقضيبٍ صغير أو مدق، يحمله الموسيقار بيده اليمني بينما يضغط بيده اليسرى على الأوتار لكي يخرج النغم المطلوب.
و. المزمار Sumpongah, Dulcimer: اختلفوا في أمره فدُعي العود أو البوق المعقوف أو الطبلة المرتفعة، أو أرغن، أو مزمار قربة bag piper. حاليًا يسمى مزمار القربة بالإيطالية Sampogne، وفي آسيا الصغرى Sampony. بينما في بعض المراجع يُسمى مزمار القربة في الآلات القديمة Ugab.
الـ Ugab آلة قديمة جدًا وقد نُسب إلى يوبال اختراعها (تك 4: 12). وقد جاء في (أي 21: 12، 30: 31) انه استخدم في احتفالات المناسبات.
يقول البعض انه يبدو أن الـ Ugab يشبه مزمار القربة Bag pipe. إنها تمثلها على اعتبار أنها تتكون من مزمارين مثبتين في حقيبة جلدية، الواحد من فوق والآخر من أسفل. خلال المزمار العلوي الذي له الفم (وهو الجزء من الآلة الذي يُوضع بين شفتي الموسيقار)، يمتلئ الكيس بالهواء، بينما المزمار السفلي الذي له بعض الثقوب يُعزف عليه بالأصابع مثل الفلوت Flute. وفي نفس الوقت نجد الكيس يرتفع وينخفض مثل المنفاخ بالضغط.
جاء في كثير من المراجع أن الـ Ugab يماثل الـ Syrinx (المصفار) وهي آلة بدائية من آلات النفخ، تتألف من سلسلة أنابيب متدرجة الطول، وهي أصل آلة الأرغن الحديثة. ويقول Kitto أن المترجمين عند استخدامهم لكلمة "الأرغن" كانوا يعنون به المصفار Syrinx)).
استخدمه الرعاة الأركاديون Arkadian وآخرون من بقع أخرى من اليونان. ويظنون أن Pan الإله الحارس هو الذي ابتكرها، ويسترسلون في خيالاتهم فيقولون انه كان يعزف عليها على جبل Maenalus. وكان يصنع من عيدان القصب والشوكران hemlock (وهو نبات يستخرج من ثمره شراب سام). بوجه عام كان يُؤتي بسبعة عيدان مجوفة من هذه النباتات ويوضع شمع للصق العيدان مع بعضها البعض بعد أن تقطع بحسب الطول المطلوب، وتنظم حتى تصنع ثمانية وأحيانًا تسعة، معطية نغمات مطابقة لعددها. ونادرًا ما كانت تنظم الأنابيب بانحنائة حتى تلائم شكل الشفاه، بدلاً من أن تكون مستوية[396]. مازالت هذه الآلة تستخدم في بعض مناطق الشرق. القصب مختلف الأطوال لكن له قطر موحد، ويختلف في عدده ما بين 5 و23. وأحيانًا نرى هذه الآلة في يد الموسيقيين المتجولين في شوارع مدن أوروبا وأمريكا.
تشهد الآثار بإسهاب أن البابليين كانوا مُغرمين بالموسيقى، يستخدمون كثير من الآلات ولهم فرق موسيقية منظمة على مستوى كبير. ويحكي Annarus أنه كان يستضيف ضيوفه على مأدبة يصحبها غناء وآلات موسيقية تؤديها فرقة تتكون من 150 سيدة.
ساعات اليوم:
"ساعة" بالأرامية "Sha-ah" ربما تعني "نظرة". اُستخدم هذا الاصطلاح لأول مرة في الكتاب المقدس في دانيال (3: 6؛ 5: 5). وهو تعبير غامض ينبيء عن فترة قصيرة غير محددة تمامًا، ليس بمعنى "ساعة" كما نفهمه اليوم.
يبدو ان البابليين هم أول من قسموا النهار إلى 12 قسمًا متساويًا، ويشهد هيرودت أن اليونان أخذوا هذا عن البابليين، وأيضًا تبنى اليهود عنهم هذه الفكر.
كان اليوم عند اليهود يُحسب من المساء إلى المساء التالي، وكان الجزء من اليوم يُحسب يومًا كاملاً. فقد مكث السيَّد المسيح في القبر قبل السبت مباشرة وقام في فجر الأحد، فحُسب أنه بقي في القبر ثلاثة أيام (الجمعة والسبت والأحد) ويُقسم الليل عند اليهود إلى 4 هزيعات، وقد أخذوا هذا النظام عن الرومان بعد أن صاروا تحت سلطتهم. كل هزيع يعادل ثلاثة ساعات، اُشير إليها في (مز 13: 35) بالمساء ونصف الليل وصياح الديك والصباح. أما النهار فقُسم إلى 12 ساعة متساوية تختلف حسب طول النهار خلال السنة من شروق الشمس إلى غروبها، فساعات الصيف أطول من ساعات الشتاء. ففي منطقة فلسطين الصيف يبلغ أطول نهار 14 ساعة و12 دقيقة بينما أقصر نهار هو 9 ساعات و48 دقيقة، لذلك تتراوح الساعة ما بين 71 دقيقة و49 دقيقة.
تبدأ الساعة الأولي مع شروق الشمس وتقع الساعة السادسة عند ظهيرة، والثانية عشر عند الغروب حيث يبدأ الليل، أما الساعة التاسعة فتُقابل الساعة 3 بعد الظهر.
الساعات في الكتاب المقدس
6.00 م |
الغروب |
(تك 28: 1؛ خر 17: 12؛ يش 8: 29). |
||
6.20 م |
ظهور النجم |
(صلاة المساء). |
||
10.00 م |
نهاية الهزيع الأول |
(مرا 2: 19). |
||
12.00 م |
نصف الليل |
(خر 11: 4، را 3: 8). |
||
2.00 ص |
نهاية الهزيع الثاني |
(قض 7: 9). |
||
3.00 ص |
صياح الديك |
(مر 13: 35، مت 26: 57). |
||
4.30 ص |
صياح الديك الثاني |
(مت 26: 75،؛ مر 14: 30). |
||
5.40 ص |
السحر |
|
||
6.00 ص |
الشروق (نهاية الهزيع الثالث) |
(خر 14: 24؛ عد 21: 11). |
||
9.00 ص |
الصلاة الأولي |
(أع 2: 15). |
||
12.00 ص |
الساعة السادسة (ظهرًا) |
(تك 43: 16). |
||
1.300 م |
العشية الكبرى (المنشا الأول) |
|
||
3.30 م |
العشية الصغرى (المنشا الثاني). |
|
||
5.40 م |
وقت ذبيحة المساء. |
|
||
جبابرة القوة:
جاء في الآثار التي اُكتشفت في Khorshabad مثل هؤلاء "جبابرة القوة" أو "العمالقة". يبدو أن هؤلاء الرجال كانوا يُختارون من بين أفراد الجيش حسب حجمهم وقوتهم، يقفون في حراسة القصور الملكية متأهبين لتنفيذ أمر الملك. وذلك كما في أوربا وفي الشرق إلى يومنا هذا.
قام بعض هؤلاء الجبابرة بالقاء الثلاثة فتية في اتون النار (3: 30).
الملابس:
"ثم أوثق هؤلاء الرجال في سراويلهم وأقمصتهم وأرديتهم ولباسهم" (3: 21).
أ. السروال Sarbalin، له سماته المختلفة عن العبري.
ب. القميص Patish وهو ثوب Tunic داخلي.
ج. رداء Carbala وهو ثوب داخلي.
د. لباس Lebush عباءه تغطي كل الملابس.
الصلاة في العلية:
"وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم" (6: 10).
العلية aliyah هي حجرة عليا في البيت الشرقي، كانت تُبنى أحيانًا على السطح، واحيانا فوق هذه الحجرة. غالبًا البيوت الفقيرة لم يكن بها عليه. كانت غالبًا ما تكون مؤثثة بما يليق باستضافة الضيوف، كما استضافت الشونمية ايليا النبي في عليتها (2 مل 4: 10). اعتكف داود في العلية ليبكي ابنه أبشالوم (2 صم 18: 24).
في (مر 14: 14-15) أُعد الفصح في عُلّيه كبيرة ضمت السيَّد المسيح وتلاميذه...
احيانا تُقام العلية في مكان مرتفع في الفناء، مستقل عن البيت، وتقام أمامه نافورة لترطيب الجو، وتضفي جمالاً على المباني، يتمتع بها الضيوف.
شريعة مادي وفارس (6: 15):
لم يكن من حق الملك أن يُغير قرارًا صدر وخُتم ونُشر، وذلك حسب شريعة مادي وفارس، وذلك بناء على اتفاق بين مادي وفارس عند اتحادهما معًا.
سفر كل مؤمن من الشعب .......................................................... |
مقدمة في سفر دانيال ................................................................. دانيال، وضع سفر دانيال، لمن كتب؟، سماته، غايته والفكر اللاهوتي في سفر دانيال، شخصية دانيال، سفر دانيال ورؤيا يوحنا، دانيال بين الأنبياء الكبار، محتوياته، دانيال وعلم الآثار،مناهج التفسير. |
سفر دانيال والنقاد .................................................................... سفر دانيال وبورفيري Porphyry (فروفيريوس Porphyrius)، براهين على صحة السفر وقانونيته. |
الباب الأول: الجانب التاريخي [ص1- ص 6]. |
الأصحاح الأول: متغربون في القصر .......................................... الفتيان في السبي، اختيارهم لخدمة الملك، رفضهم أطايب الملك، نتائج الاختبار، تمتعهم بالحكمة والفهم، تفوقهم على كل المجوس. |
الأصحاح الثاني: رؤيا التمثال ................................................... تاريخ الحلم، الحلم المنسي، الأمر بقتل الحكماء، تصرف دانيال، كشف السرّ، لقاء مع الملك، التمثال المعدني، الحجر العجيب، تفسير الحلم، دانيال الممجد، رفقاء دانيال. |
الأصحاح الثالث: الثلاثة فتية في الأتون ...................................... إقامة تمثال ذهب، شكوى ضد الثلاثة فتية، حوار مع نبوخذنصَّر، الفتية في الأتون، خلاص الفتية، تسبحة الثلاثة فتية. |
الأصحاح الرابع: مرسوم نبوخذنصَّر أو الشجرة المتشامخة .............. منشور نبوخذنصَّر، دعوة الحكماء لتفسير حلمه، الشجرة المتشامخة، دانيال يفسر الحلم، تحقيق التفسير، نبوخذنصَّر يمجد الله. |
الأصحاح الخامس: بيلشاصَّر والكتابة على الحائط .......................... وليمة بيلشاصَّر، الكتابة على الحائط، إحضار دانيال للملك، تفسير دانيال، النتائج. |
الأصحاح السادس: دانيال في جب الأسود .................................... مركز دانيال أثناء حكم داريوس، خطة الأعداء ضده، إيمان دانيال، ضيقة دانيال وخلاصه، إعلان داريوس. |
الباب الثاني: الرؤى والنبوات [ص 7-ص 12]. |
الرؤى والنبوات ................................................................... الرؤى والنقاد الحديثون، من التاريخ إلى الرؤيا. |
الأصحاح السابع: الوحوش الأربعة والقرن الصغير ........................ تاريخ الرؤيا، البحر الكبير، الوحش الأول: بابل، الوحش الثاني: مادي وفارس، الوحش الثالث: الإمبراطورية اليونانية، الوحش الرابع: الإمبراطورية الرومانية، القرن الصغير، القديم الأيام، مثل ابن إنسانٍ، تفسير الرؤيا، مملكة ضد المسيح ومملكة القديسين، اضطراب دانيال. |
الأصحاح الثامن: الكبش والتيس ............................................... مقدمة عن الرؤيا، رؤيا الكبش، رؤيا التيس، القرن الصغير، تفسير الرؤيا. |
الأصحاح التاسع: السبعون أُسبوعًا ............................................ دانيال دارس النبوات، دانيال رجل الصلاة، استجابة الصلاة، رؤيا السبعين أسبوعًا. |
الأصحاح العاشر: رؤية مجد الله ............................................... تاريخ الرؤيا، تمتعه بالرؤيا، خدمة ملائكية، خدمة إلهية. |
الأصحاح الحادي عشر: الرؤيا الأخيرة عن فارس واليونان ونهاية الأزمنة نبوات عن فارس، نبوات عن اليونان، نبوات عن الصراع بين مصر وسوريا، نهاية الأزمنة - ضد المسيح. |
الأصحاح الثاني عشر: الضيقة العظيمة والقيامة ............................ الضيقة العظيمة، القيامة، خاتمة. |
ملحق لتفسير سفر دانيال: ضد المسيح في كتابات الآباء ................. الاهتمام بظهور ضد المسيح وانقضاء الدهر، موعد المجيء الثاني للسيَّد المسيح، الرأي الأول: لا يعرف أحد هذا الموعد، الرأي الثاني: أن العلامات أكيدة والمجيء اقترب، ضد المسيح في الكنيسة الأولى. |
سلوكيات وعادات في سفر دانيال .............................................. خزائن المعبد، أطايب الملك وخمر مشروبه، عقاب المجرمين، الآلات الموسيقية، ساعات اليوم، جبابرة القوة، الملابس، الصلاة في العلية، شريعة مادي وفارس. |
[1] Cf. G. Coleman Luck: Daniel, 1958, p.7.
[2] See Bethany Parallel commentary on the Old Testament, 1985, p. 1764.
[3] Cf. Baker’s Pictorial Introduction to the Bible, 1967, p. 196.
[4] Adv. Haer. 4:20:11.
[5] PL 25:61.
[6] Boyd's Bible Handbook, p. 397.
[7] القس عبد المسيح بسيط أبو الخير: اعجاز الوحي والنبواة في سفر دانيال، ص 69.
[8] The Long Rules: Preface.
[9] ANRrs., vol. 5, p. 177.
[10] Boyd's Bible Handbook, p. 307.
[11] الأنبا ديسقورس الأسقف العام: بحث في تفسير المعادلات الزمنية التي في سفر دانيال؛ القمص بيشوي كامل: دانيال صيق الملائكة، إبريل 1879..
[12] Boyd's Bible Handbook, p. 311-2..
[13] منشورات النفير: تفسير الكتاب المقدس، ج 4، ص 337.
[14] John Calvin: A Commentary on Daniel (Banner of Truth Trust), Oxford 1985, p. 40.
[15] Ibid, p. 42.
[16] Hieraphant, N.Y 1844, p. 109.
[17] Cf. J.E.H. Thomson, “Daniel” in Pulpit Commentary, p xliii; Robert H. Pfeiffer: Introduction to the Old Testament, p. 755
[18] Angelo Di Berardino: Encyclopedia of the Early Church, Oxford 1992, vol. 2, p.704.
[19] De vir illus. 81, Ep. 70
[20] H.E. 3:23
[21] H.E. 8:14
[22] Gleanson L. Archer: Encyclopedia of Bible Difficulties, 1982, p. 282.
[23] PG 25:619-620.
[24] J.H. Raven: O.T. Introduction, p. 319.
[25] Coleman Luck: Daniel, Moody Press, 1958, p. 9ff.
[26] القس عبد المسيح بسيط أبو الخير: اعجاز الوحي والنبواة في سفر دانيال.
Harrison: Introduction to the Old Testament, p. 1162.
[27] W.A. Criswell: Expository Sermons on the Book of Daniel, vol.1, p. 31.
[28] Cf. Robert Dick Wilson: Book of Daniel 1SBE, 2, p.785.
[29] Gleanson L. Archer: Encyclopedia of Bible Difficulties, 1982, p. 282.
[30] دائرة المعارف الكتابية: بند دانيال.
[31] Cf. Dr. Kitto: Encyclopedia of Biblical Literature; p. 620.
[32] cf. Harrison: Introduction to the Old Testament, p. 1124-26
[33] Gleanson L. Archer: Encyclopedia of Bible Difficulties, 1982, p. 284.
[34] القس عبد المسيح بسيط أبو الخير: اعجاز الوحي والتنبوة في سفر دانيال، 1995، ص 29.
[35] Boyd’s Bible Handbook, Oregon 1983, p. 307.
[36] القس عبد المسيح البسيط أبو الخير: إعجاز الوحي والنبوة في سفر دانيال، ص 46 الخ.
[37] J.F. Walvoord: Daniel, The Key to prophetic Revelation, p. 20-21.
[38] Against Apion 1:8.
[39] القس عبد المسيح البسيط أبو الخير، ص 34،35.
[40] R.K. Harrison: Introduction to the Old Testament, p 1107.
[41] Ibid 1118.
[42] Antiquities 7:11:8.
[43] Gleanson L. Archer: Encyclopedia of Bible Difficulties, 1982, p. 284.
[44] Raven: O.T. Introduction, p. 319-320.
[45] New Westminster Dictionary of the Bible, p. 655
[46] Josephus: Contra Apionem 1:19; Antiq. 10:11:1.
[47] PL 25:623.
[48] PL 25:623-4
[49] W.A. Criswell: Expository Sermons on The Book of Daniel, vol. 1.
[50] PL 25:625B
[51] Scholia on Daniel 1:8.
[52] PL 25:625A.
[53] Scholia on Daniel 1:12.
[54] PL 25:625C.
[55] PL 25:625C
[56] PL 25:625C.
[57] منشورات النفير: تفسير الكتاب المقدَّس، جـ 4، ص 329.
[58] G. Goleman Luck: Daniel, P. 26.
[59] Antiquites., book 10.
[60] PL. 25:627.
[61] PL. 25:627E-628
[62] Cf. A Treatise on the Soul, 4-7
[63] PL 25: 628D.
[64] PL 25: 628D.
[65] The Literal Meaning of Genesis, Book 12, ch. 9.
[66] Stromata 1: 4.
[67] Ibid.
[68] Ibid 1: 5.
[69] Scholia on Daniel 2: 3.
[70] Scholia on Daniel 2: 10.
[71] The Pulpit Commentary, Daniel, p.70.
[72] W. A. Criswell, vol. 2, p. 62.
[73] W. A. Criswell, vol. 2, p. 63.
[74] G. H. Lange: The Histories and Prophecies of Daniel, p.76.
[75] Chr. Wordworth: Holy Bible with notes and introduction, p. 8.
[76] Adv. Haer. 5:26:1
[77] AN Frs. Vol. s, P. 178.
[78] Ibid. 179.
[79] Adv. Haer. 3: 21: 7.
[80] Sermon 169:6.
[81] In Exod. hom. 6:12.
[82] On the Baptism of Christ.
[83] Scholia on Daniel 2:49.
[84] l Cor. 45:4-7.
[85] On Idolatry, 15.
[86] On Ps. hom. 55
[87] Institutes, Book 5:14
[88] On Prayer, 16:3.
[89] On Prayer, 16:3.
[90] Exhortation to Martyrdom 33.
[91] On Prayer, 29
[92] Scholia on Daniel, 3:16.
[93] Scholia on Daniel, 3:39.
[94] Scholia on Daniel, 3:79.
[95] Epistle, 80:3.
[96] Epistle, 80:3
[97] Epistle, 55:5.
[98] Treatise, 11:11.
[99] On Renunciation of the World.
[100] The Long Rules, Q.16.
[101] Sermons for Christmas 1:13.
[102] On Detatchment.
[103] Second Discourse on Ps 33 (34).
[104] Third Discourse on Ps 36 (37).
[105] PL 25:644 B.
[106] Ibid.
[107] cf. the New Bible Commentary, Eerdmans, 1971, p.693.
[108] The New Bible Commentary, p. 693.
[109] PL 25:646.
[110] PL 25:647C.
[111] Ibid.
[112] Sermon 31:3.
[113] PL 25:649.
[114] PL 25:649A.
[115] The Bethany Parallel Commentary on the O.T., p. 1779.
[116] PL 25:650.
[117] Ibid.
[118] منشورات النفير: تفسير الكتاب المقدس، جـ 4، ص335.
[119] On Patience 13.
[120] منشورات النفير: تفسير الكتاب المقدس 1988، جـ 4، ص325.
[121] Contra Apionem 1:20.
[122] PL 25:652.
[123] Bethany Parallel Commentary on the O.T., p. 1780.
[124] Institutes, Preface.
[125] G. L. Archer: Encyclopedia of Bible Difficulties, p.286.
[126] Today’s Dictionary of the Bible; Bethany Parallel Commentary on O.T., p. 1780.
[127] قاموس الكتاب المقدس، ص 208.
[128] W.A. Griswell, p.38-40.
[129] PL 25:652.
[130] PL 25:652A, 653.
[131] PL 25:653
[132] The Literal Meaning of Genesis, Book 12, ch. 11.
[133] منشورات النفير: تفسير الكتاب المقدس، ص4، ص337.
[134] PL 25:653B.
[135] PL 25:657.
[136] PL 25:653-5.
[137] PL 25:655.
[138] St. Jerome: Comm. on Daniel, PL 25:651D.
[139] القس عبد المسيح بسيط أو الخير، ص63،64.
[140] PL 25:651D.
[141] دار منهل الحياة: موسوعة الكتاب المقدس، ص147.
[142] Cyrop. 1:5;8:7.
[143] Cyrop. 8:5,19
[144] A New Catholic Commentary on Holy Scripture, Nelson 1959, p. 661.
[145] منشورات النفير: تفسير الكتاب المقدَّس، جـ 4، ص 338.
[146] PL 25:658B.
[147] E. Schurer: A History of the Jewish People in the Time of Jesus Christ, 2, I p. 290, n. 248.
[148] PL 25:659.
[149] PL 25:660A.
[150] PL 25:660A.
[151] PL 25:660A.
[152] PL 25:660A.
[153] PL 25:660A..
[154] PL 25:660A..
[155] PL 25:660A..
[156] On Prayer, ch 13:4.
[157] On Prayer, ch 16:3.
[158] The Literal Meaning of Genesis, Book 15:24.
[159] PL 25:662.
[160] R. K. Harrison: Introduction to the Old Testament, Eerdmans 1988, p. 1127.
[161] Cf. R. K. Harrison: Introduction to the Old Testament, Eerdmans 1988, p. 1126ff.
[162] Cf. J.G. Eichhorn: Einleitung in das (Altes Testament), 1823 ed, IV, p. 483 ff; S. Davidson: Introduction to the Old Testament, 1862, III, p. 207; R. H. Charles: A Critical and Exegetical Commentary on the Book of Daniel, p. 167 ff.
[163] J.C. Whitcomb: Darius the Mede, p.68 ff.
[164] H. H. Rowley: Darius the Mede and the Four World Empires in the Book of Daniel, p.58.
[165] D. J. Wiseman. Christianity Today, II, no 4 (1957), p.10.
[166] See Clarence Larkin: The Book of Revelation, 1919, p. 111.
[167] PL 25:663A, B; 664
[168] PL 25:664.
[169] PL 25:664.
[170] PL 25:664
[171] AN Frs., vol. 5. p. 178, 209.
[172] PL 25:664C.
[173] Clarence Larkin: The Book of Revelatien, 1919, p. 109.
[174] PL 25:665.
[175] Ibid 109.
[176] AN Frs., vol. 5. p. 178-9.
[177] Clarence Larkin, p. 110.
[178] PL 25:666.
[179] PL 25:666.
[180] PL 25:666.
[181] PL 25:666.
[182] AN Frs., vol. 5. p. 178.
[183] منشورات النفير: دراسات في الكتاب المقدَّس، ج4، ص 344.
[184] PL 25:667A-668.
[185] PL 25:670-671.
[186] PL 25:671.
[187] John Calvin: A Commentary on Daniel, 1986, vol. 2, Oxford, p. 26.
[188] Ibid 27.
[189] Paed. 3:3.
[190] On Ps. hom.. 26.
[191] PL 25:669D.
[192] In Gen. hom. 13:4.
[193] Comm. on John, book 5,7.
[194] On On Ps. hom. 14.
[195] PL 25:669D.
[196] Cf. An Answer to the Jews, 14.
[197] Adv. Haer. 3:19:3.
[198] Treatise on Christ and Antichrist, 26.
[199] 1Cor. 34:7,5.
[200] On Virginity, ch. 24.
[201] Paed. 2:11.
[202] PL 25:671,671A.
[203] PL 25:671.
[204] AN Frs., vol. 5, p. 179.
[205] Cf. AN Frs., vol. 5, p. 179.
[206] القس عبد المسيح بسيط، ص 116.
[207] Cf. AN Frs., vol. 5, p. 180.
[208] Cf. AN Frs., vol. 5., p. 180.
[209] PL 25:674.
[210] PL 25:674.
[211] PL 25:675C.
[212] المتنيح القس منسى يوحنا: كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس 1982، ص112 الخ.
[213] PL 25:677F.
[214] Boyd’s Bible Handbook, p. 309.
[215] Boyd’s Bible Hand book, p.309.
[216] PL 25:677F.
[217] القس عبد المسيح بسيط أبو الخير: إعجاز الوحي والنبوة في سفر دانيال، ص 62.
[218] PL 25:678.
[219] PL 25:678.
[220] PL 25:678-679.
[221] PL 25:679.
[222] PL 25:679.
[223] PL 25:679 A,B.
[224] PL 25:680.
[225] PL 25:680.
[226] PL 25:680A.
[227] PL 25:680A.
[228] De Incarnatione Verbi Dei, 40:2.
[229] De Incarnatione Verbi Dei, 40:1-4.
[230] Bethany Parallel Commentary on the O.T., p.1798; The Treasury of the Old Testament.
[231] De Incarnatione Verbi Dei, 39:1-3.
[232] Bethany, p. 1764.
[233] دانيال صديق الملائكة، ص 67.
[234] J. Barton Payne: Encyclopedia of Biblical Prophecy, p.383.
[235] Gleson L. Archer: Encyclopedia of Bible Difficulties, p. 290.
[236] Cf. A N Frs, vol. 6, p.134-35.
[237] Bethany parallel Commentary on the O.T., p.1799.
[238] Cf. A N Frs, vol. 5, p.180 -1.
[239] Clarence Larkin: The Book of Revelation, 1919, p. 52.
[240] Cf. A N Frs, vol. 5, p.185.
[241] PL 25:684 - 686B.
[242] PL 25:691 - 694.
[243] PL 25, 694 - 695.
[244] A Critical and Exegetical Commentary on the Book of Daniel, p. 392.
[245] Bethany Parallel Commentary on O.T., p. 1802.
[246] On Renunciation of the World
[247] The long Rules, Q. 16.
[248] PL 25:696F.
[249] Bethany Parallel Commentary on O.T., p. 1802.
[250] AN Frs., vol. 5, p. 182.
[251] PL 25: 697G.
[252] PL 25: 697G.
[253] Cassian: conf. 9: 34.
[254] PL 25: 699.
[255] PL 25: 700A, B.
[256] PL 25: 700B.
[257] PL 25: 700B.
[258] C. Larkine: The Book of Revelation, p. 113.
[259] St. Justin: Apol. 1: 10.
[260] PL 25: 701.
[261] PL 25: 703.
[262] PL 25: 703.
[263] PL 25: 706.
[264] PL 25: 707.
[265] PL 25: 717.
[266] PL 25: 716.
[267] AN Frs., vol. 5, p. 183.
[268] PL 25: 719B.
[269] PL 25: 721.
[270] PL 25: 723.
[271] Scholia on Daniel, 12: 11.
[272] PL 25: 725
[273] Sermon 7: 4.
[274] On Ps. hom. 56.
[275] Adv. Haer. 4: 26: 1.
[276] AN Frs., vol. 5, p. 180-1.
[277] PL 25: 726 - 727.
[278] PL 25: 729.
[279] PL 25: 728 A-B.
[280] PL 25: 729.
[281] PL 25: 730.
[282] PL 25: 730 B.
[283] John Calvin: A Commentary on Daniel, Oxford 1986,. p. 392.
[284] عن الثالوث 75:9، ترجمة الدكتور إميل ماهر اسحق.
[285] الدكتور إميل ماهر إسحق: موعد المجيء الثاني، 1966، ص18.
[286] Adv. Haer 5:33-35.
[287] Instr. 2:35:8ff.
[288] PL 5:303.
[289] Inst 7:24.
[290] للمؤلف الآباء الرسوليين، 1995، ص 210 [ديداكية 4:16-7].
[291] Ep. to Philippians, 7:1.
[292] Dial. cum. Trypho, 110.
[293] Adv. Haer. 5:25:1.
[294] In 2 Thess. hom.3.
[295] للمؤلف: رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تسالونيكي الاصحاح الثاني.
[296] De. Resurr. 24.
[297] Exhort. ad Martyr.
[298] De Fuga 12; cf De An. 50; De Resur. 25.
[299] J. Wendland: Miracles and Chrlstianianity. 1911, p 53f.
[300] See Gomm. on John 2:4.
[301] Brain E. Daley: The Hope of the Early Church, A Handbook of Patristic Eschatolology, Cambridge, 1990, p. 38ff.
[302] De Christo et Antichristo, 6:49.
[303] Ibid 30-36.
[304] Ibid 49-63.
[305] Ibid 64f; 44f.
[306] Ibid 64.
[307] Ibid 65.
[308] Ad Anti Christo, 14.
[309] Adv. Haer 5:30:2.
[310] Carmen 825-36; Instructions 1:41:50.
[311] Carmen 837-41; 891-926.
[312] Instructions 1:41:13-20.
[313] Epist. Pasch. 10:7.
[314] Depositio Arii 1.
[315] Ibid 5.
[316] الديداكية 4:16.
[317] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:9.
[318] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:9.
[319] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:11.
[320] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:12.
[321] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:13.
[322] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:14.
[323] St. Cyril of Jerusalem: Lect. Cath. 15:15.
[324] Institutiones, 16.
[325] Ibid
[326] Ibid 17.
[327] Ibid 19.
[328] Ibid 17.
[329] Ibid 17-19.
[330] Ibid 20.
[331] Ibid 21
[332] Ibid.
[333] Ibid .
[334] Ibid 24.
[335] Beatus 2:6:82; Sanders 243.
[336] Beatus 6:3:38; Sanders 478.
[337] Beatus 6:3:38; Sanders 478f
[338] Lib. Reg.1; Burkitt 4:21-23.
[339] Beatus 5:6:6; Sanders 423.
[340] Beatus: Praef: 4:12; Sanders 8.
[341] Beatus 5:10:36ff; Sanders 443.
[342] Beatus 7:2:21; Sanders 522.
[343] Beatus 7:2:15; Sanders 522.
[344] In 2 Thess. hom 4.
[345] 33, In 2 Thess hom. 3.
[346] 34.2 Thess. hom.3.
[347] 37. of the Holy Spirit 3:7.
[348] In Joan. hany 29:8.
[349] On Ps. 107:33.
[350] Enarr in Ps. 37:9-12; conf. 12:10:10; 12:11:13; Epistle 55:17f.
[351] On Dan. 11:35
[352] Comm. on Daniel 2:7:7f; 2:7:11; 4:11:21.
[353] Dial. 2:14:4
[354] Hom. 4:4.
[355] Hom.15;52.
[356] Hom. 34.
[357] Hom. 52.
[358] Hom. 18.
[359] Hoskier 217:19-24.
[360] Hoskier 219:1-15.
[361] Hoskier 219: 13-19; 220:19-27.
[362] Hoskier 225:14-20.
[363] Hoskier 131:3-13ff; 128ff; 155:12ff.
[364] Hymn 50:6-14.
[365] str. 7.
[366] str. 9-10.
[367] str. 17.
[368] str. 18.
[369] str. 19.
[370] Schmid 79:3.
[371] Ibid 35:7.
[372] Ibid 142:5-10.
[373] Ibid 137:1; 18:18-21; 202:5f.
[374] Ibid 181:6-9; 202:8-13.
[375] Ibid 216:13-18; 221:15-222:6.
[376] Expositio Fidei (Kotter, Berlin 1973, 232:23).
[377] Ibid 233:39-43.
[378] Ibid 233:44-47.
[379] Ibid 233:47-234:52
[380] Ibid 233:31ff.
[381] الأرشمندريت أدريانوس شكور: المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، 1991، ص273-274.
[382] Vita 4:65 PL 75:214 A15- B5.
[383] Hom. in Ev. 1:1:1 PL 76: 1077c ff.
[384] Epistle 3:29 ( April 593 AD ).
[385] Ep.11:37.
[386] Ep.11:37.
[387] Ep. 11:37.
[388] Bishop Hurd: On Prophecy, vol 2., p28.
[389] Pulpet Commentary, Vol. 21 (2 Thess.) p. 54.
[390] Cf. Victor H. Matthews: Manners and Customs, article: Daniel; Freeman: Manners and Customs of the Holy Bible,1991.
دار منهل الحياة: موسوعة الكتاب المقدس، لبنان، ص310-312.
[391] A. Edersheim: The Temple, 1976, p.69.
[392] Five Ancient Monarchies, vol. 3, p.20.
[393] Smith Dict. of the Bible
[394] Antiquities 7:12:3.
[395] Five Ancient Monarchies, vol.1, p. 537-8.
[396] Smith, Dict. Greek and Roman Ant.