المقدمة

1-     معنى كلمة الجامعة:

الكلمة بالعبرية "كوهيليث Qoheleth" وهي مشتقة من الفعل qahal ومعناها يجتمع. والكلمة تعني اجتماع. وبالإنجليزية نجد اسم السفر Ecclesiastes والكلمة مأخوذة عن الكلمة اليونانية Ecclesia أي مجمع أو اجتماع. وهذه الكلمة اليونانية تعني بالعربية كنيسة.

وفي (1:1) نجد كاتب السفر يقول "كلام الجامعة ابن داود الملك". ولقد اتفق آباء الكنيسة ومعلمي اليهود أن سليمان الملك هو كاتب السفر، ولكن لماذا أطلق على نفسه اسم الجامعة؟

‌أ.   ربما تعني أنه يجمع في هذا السفر أقوالاً حكيمة (9:12،10). فهو جامع أقوال. وتاء التأنيث دلالة على المبالغة كقولنا "الراوية" عن كثير الروايات.

‌ب. سليمان هو محبوب الله (2صم24:12،25). والله أعطاه حكمة عجيبة، وهو أول من بنى بيتاً لله، لكنه عاد وإنحرف إلى العبادة الوثنية. ويؤخذ هذا السفر دليل على توبة سليمان ورجوعه إلى الكنيسة الجامعة أي إلى شعب الرب أو جماعة الرب.

‌ج. ربما كتب سليمان هذا السفر لينصح كل من يسمعه ألا يسير في طريق الخطية مثله ولكي يحث كل خاطئ تائه لكي يعود إلى حياة الكنيسة الجامعة، وهو يكشف لكل من يسمعه بطلان هذه الحياة. وربما كان يجمع الشعب ليعظهم وينذرهم بهذه الأقوال فسمى سليمان الجامعة لأنه كان يجمع الشعب بهدف مخاطبتهم ووعظهم (لو32:22) وربما بسبب هذا فهم الكثيرين أن سليمان تاب في أواخر أيامه. وكان هذا السفر هو ثمرة عودته وتوبته بعد إنغماسه في الملذات الدنيوية وارتباطه بنساء وثنيات.

2-  هناك من شكك في أن سليمان كاتب هذا السفر ولكنها أراء لا يعتد بها كثيراً والمعترضين أشاروا لوجود كلمات أجنبية في السفر ولكن يرجع هذا لعشرة سليمان مع نساء أجنبيات ولكثرة التجارة مع كل أمم العالم وانفتاح إسرائيل على كل العالم وثقافاته في أيام سليمان.

3-     موضوع سفر الجامعة:

سفر الجامعة هو سفر إنسان فيلسوف حكيم يجول باحثاً عن السعادة، أو كيف يحيا الإنسان سعيداً في هذا العالم، وجال الجامعة ليختبر كل أساليب المتع الحسية والعقلانية، ليحكم بنفسه هل أعطته هذه المتع السعادة الحقيقية، إذاً هو سفر اختبارات يعكس فيه سليمان اختباراته العملية في سنى حياته المختلفة. ولذلك لا تؤخذ كل آية في هذا السفر على أنها آية نطبقها عملياً في حياتنا، فسليمان يحكي خبراته التي سبق وجربها ثم يقول أنه وجد أنها باطل أي لم تعطه السعادة التي كان يتصورها. ولذلك نقول هنا أن من الخطر جداً استخدام آية واحدة نعتمد عليها من هذا السفر أو من الكتاب المقدس عموماً وبالأخص هذا السفر.

 

أمثلة لخطورة استخدام الآية الواحدة من هذا السفر:

‌أ.   ليس للإنسان خيرُُ من أن يأكل ويشرب ويرى نفسه خيراً في تعبه (24:2). لو طبقنا هذه الآية نجد أنه يجب علينا أن نأكل ونشرب ونتمتع ويكون هذا طريق مدمر لحياتنا، أي طريق الإنغماس في اللذات.

‌ب. فتحولت لكي أجعل قلبي ييئس من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس (20:2) وطبقاً لهذه الآية وغيرها([*]) كثير فإنه على الإنسان أن يكف عن جهاده فلا فائدة والكل باطل ولا منفعة. هي آيات تدعو لليأس، ولذلك قال بعض المفسرين أنه سفر يدعو لليأس، وهذا غير صحيح إن فهمنا السفر فهماً جيداً.

‌ج. لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة (19:3). من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل الأرض (21:3). من يقرأ هذه الآيات لا يدخل في حالة يأس فقط، بل يظن أنه لا حياة للنفس بعد الموت ولكن نفهم أن كل هذه تساؤلات لسليمان يعرضها أمامنا على أنها كانت تجول بفكره لوقت معين. وأنه توصَّل للحلول أخيراً، فالاعتدال في رأيه في استعمال العالم مطلوب فنأكل ونشرب ونشكر الله بلا انغماس في محبة العالم. بل هو وجد الرد على تساؤلاته في (19:3-22) وردده في (7:12) فيرجع التراب إلى الأرض.. وترجع الروح إلى الله.

‌د. هو إنسان كان حائراً يجول يبحث عن طريق الفرح والسعادة، ولذلك نجد كلامه قد يشوبه في بعض الأحيان نغمة اليأس وفي بعض الأحيان روح الانغماس في لذة العالم. ولكنه لأنه كان يبحث بجدية توصل أخيراً لطريق الفرح الحقيقي (13:12) "فلنسمع ختام الأمر كله. إتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله" ونجد إيمانه في خلود النفس وأن نفس الإنسان ليست كنفس البهيمة (14:12) لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيراً أو شراً"

‌ه. إذا فهمنا أن سليمان في هذا السفر يحكي خبراته كخاطئ تائب فهل نأخذ بعض آيات قالها في فترة خطاياه لنجربها على أنفسنا؟! هذا فيه خطورة كبيرة بل خطية.

4-  باطل الأباطيل: هذه عن الدنيا بمعنى أنها فانية وزائلة فلا نتعلق ونتمسك بها. هذه هي النغمة المكررة في سفر الجامعة ويقابلها في العهد الجديد "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم.. والعالم يمضي وشهوته (1يو15:2-17) أي أن الملك الحكيم الغني الذي جرب كل اللذات وتزوج 1000 امرأة، وجرًّب عبادة الأوثان، والتلميذ الطاهر البتول حبيب المسيح، القديس العظيم، اتفقا كلاهما على نفس المبدأ. ولقد توصل سليمان لهذه الحكمة بعد أن سقط وأدبه الله بآلام كثيرة (2صم14:7) "إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بنى آدم" وتحقيق هذا في (1مل11:11،14،23،26). وتوصل لها يوحنا بتأملاته الهادئة دون أن يختبر الخطية بلذتها وآلامها وتأديباتها ولم تنغص حياته بكل نتائجها المؤلمة، فالإنسان الروحي يحكم في كل شئ .. (1كو15:2)

5-  سفر الجامعة هو من الأسفار الشعرية والحكمية، ومن أسفار الزهد والنسك في الكتاب المقدس، يقرأه الإنسان فيشعر ببطلان هذا العالم وما فيه من متع الجسد. عباراته تحث على التوبة والانسحاق وتثبت أن الإنسان لو عاش بعيداً عن الله يتعب.

6-  وسليمان كان له نوعان من الحكمة. الأولى كانت موهوبة له مجاناً من الله والثانية حصل عليها نتيجة سقوطه وقيامه وتجاربه المؤلمة في حياته ومن الممكن أن يستفيد كل إنسان من سليمان فيمتنع عن اختبار طريق الخطية ويريح نفسه من آلام هذا الطريق. ونلاحظ أن الحكمة الإلهية التي حصل عليها سليمان مجاناً في أول طريقه كانت ترشده لما توصل إليه في نهاية طريقه وهذا ما سجله في (13:12،14). ولكنه عاند وجرب بنفسه وتألَّم وتعب وضل الطريق كثيراً ولكن مراحم الله أدركته فتاب، فلماذا يخاطر أي إنسان ليجرب طريق الخطية، نحن لا نضمن أنفسنا فلربما لا تكون لنا فرصة للتوبة مثل سليمان. ولنلاحظ أننا حصلنا على الروح القدس، روح الحكمة مجاناً في سر الميرون وهو يشهد لنا ببطلان طريق الخطية. ويا ليت سليمان كان قد طلب طهارة ونقاوة مع الحكمة، ففي هذه الحالة ما كان سليمان قد سقط ولا احتاج لتأديب الله، ولا تألّم بمرارة في حياته، ولعاش سعيداً فرحاً بطهارته عوضاً عن أن يظل تائهاً يبحث عن طريق السعادة، بل إن موضوع توبته هو مجرد تصور شخصي مبنى على قول الله أنه إن تعوج سيؤدبه وأنه لن ينزع رحمته منه (2صم14:7،15) ولكن الكتاب المقدس لم يذكر صراحة أن سليمان تاب عن خطاياه وترك أمامه علامة استفهام كبيرة بخصوص أبديته وذلك ليخاف كل إنسان من أن يسلك في طريق الخطية فلن يكون منا من هو أقوى وأحكم من سليمان، فإن كل أمر خلاص نفسه محل شك فبالأولى أياً منّا سيكون أمر خلاص نفسه مشكوك فيه لو دخل من هذا الباب، أي أن يجرب بنفسه طريق الخطية.

7-  إن كان سفر الجامعة قد ركز على تأكيد بطلان العالم بكل ملذاته، فإنه في نفس الوقت يوضح أن كل ما صنعه الله حسن ورائع. ولكن علينا أن نفهم أنه علينا أن نعيش في العالم نستعمله ولكن لا يسيطر علينا، فالله هو هدفنا وليس خليقته، علينا ألا ننشغل بخليقة الله عن الله نفسه، فمن ينشغل بالعالم فقط سيسمع الصوت المخيف "يا غبي في هذه الليلة ستؤخذ نفسك فهذه التي أعددتها لمن تكون". وعوضاً عن أن ننشغل بالعالم يكشف لنا السفر أن الله وحده هو مصدر الشبع والسعادة وليس العالم. لذلك ركز السفر على كلمة "باطل" فوردت 37مرة في السفر ليثبت أنه لا شئ في العالم قادر أن يهب الإنسان شبعاً حقيقياً أو سعادة مطلقة. العالم في حد ذاته جيد وحسن إذ هو خليقة الله. ولكن إذا قورن ضوء مصباح (العالم) بالشمس (الله) فهو لا شئ. وكلمة باطل بالعبرية hebel ومنها اسم هابيل أي مضمحل وزائل كالبخار، فهل نتمسك بما هو زائل ونترك الله الأبدي. العالم كله يعجز عن تقديم أي نوع من الشبع للإنسان الداخلي الذي هو على صورة الله خالقه. فالنفس التي لها صورة الله لن تشبع إلا بالأصل أي الله ذاته. والنفس سماوية فلن تشبع لو أعطى لها كل الأرضيات ما لم تلتقي بالسماوي ذاته. العالم حسن وجيد ولكننا نسئ استخدامه عندما نجعل منه هدفاً في ذاته، أو نظن حياتنا الوقتية كأنها أبدية. إذاً المشكلة ليست في طبيعة العالم بل في مفاهيمنا المنحرفة. ولذلك طلب الله أن نعمل 6 أيام ونستريح في اليوم السابع لنذكر أننا ننتمي إلى السماء وأننا سننطلق للسماء، فيوم السبت عطلة عن العمل ويوم عبادة لنذكر الله.

8-  تركيز السفر على الموت يأتي من المنطلق السابق، فهو لا لنتطلع إلى الحياة بمنظار مظلم ولكن لترتفع قلوبنا ومشاعرنا إلى ما وراء الموت.

9-     لمن يوجه هذا السفر:

يوُجَّه السفر للإنسان الطبيعي، لكل إنسان تحت الشمس، وليس للإنسان الروحي وذلك حتى يدرك الإنسان الطبيعي الذي يهتم بالعالم، أن العالم هدفه ورجاؤه هو عالم باطل، فيسعى ليجد طريق الله ويجد أن الله مصدر غناه وشبعه فيحبه، هو عظة عملية للتوبة لكل إنسان، لذلك لم يستخدم السفر تعبير يهوه الخاص بشعب الله وإنما استخدم تعبير ألوهيم الخاص بالله كخالق لكل البشر وإله لكل العالم. وإصطلاح تحت الشمس تكرر 29مرة. وهو يشير لجميع بني البشر. واصطلاح تحت الشمس هو ما عبر عنه العهد الجديد بقوله "العالم". ومن هم تحت الشمس، والشمس تشير للتجارب والآلام هم كل البشر في العالم، أما شعب الله الذي إتحد بالمسيح شمس البر هم فوق الشمس فلقد أجلسهم المسيح إلههم في السمائيات (أف6:2). والملائكة مثلاً هم في عالم فوق الشمس يعملون بلذة وبلا تعب، وبالنسبة لشعب الله فهم في عزاء وسلام وفرح كثمر للروح القدس الذي فيهم، ةوهذا ما يعزيهم وسط الآلام. وبنفس المفهوم تتكرر كلمة تحت السماء وكلمة على الأرض إشارة لكل إنسان في العالم ولكن شعب الله يصير هو نفسه سماء حيث يقام ملكوت الله في داخله (لو21:7)، وكل ابن لله لا يخضع لشهوات جسده (الأرض إشارة للجسد) بل يرتفع فوق شهواته الزمنية.

10- الله خلق العالم فكان حسن جداً. ولكن لعن الله الأرض بسبب الخطية. وهذا السفر الذي نكتشف فيه عدم راحة الإنسان بكل وسيلة عالمية يفسر نتائج هذه اللعنة. وكانت الخطية هي إنفصال عن الله. والسفر يكشف مدة تفاهة الحياة خارج دائرة محبة الله ونعمته ويتضح أنه لا شبع خارج دائرة محبة الله، كما قال السيد المسيح "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً" (يو13:4). ومهما تعب الإنسان في عمله لن يجد شبعاً، وهذا ليس معناه أن الله يريد أن يحطم إمكانياتنا البشرية بل هو يريد أن يقدسها ويكملها بأن يشترك في العمل معنا، كما نصلي في أوشية المسافرين "اشترك يا رب في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح" وكما يبارك الكاهن الشعب عند إنصرافهم بقوله "محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة وعطية الروح القدس تكون معكم" (2كو14:13) ولكن مشكلة الإنسان أنه يريد أن يتكل على ذاته في كبرياء ويعجب بذاته ناسباً كل الفضل لذاته وهذا يفصله عن الله فيشعر بعدم راحة ويحطم حياته ويفسد إمكانياته.

11- سليمان إفتتح السفر باختباره أن الحياة باطلة وما الفائدة من تعب الإنسان وهو يختتم السفر بدعوته  لكل واحد أن يتقي الله ويحفظ وصاياه فهناك دينونة (13:12،14). فخلاصة السفر أن الحياة بملذاتها وثرواتها وحكمتها البشرية بمعزل عن الله إنما هي عبث، أي باطلة. ولا نرى أن سليمان يمنع التمتع بملذات الحياة وراجع (22:3 ، 15:8)، بل هو ضد البخل (1:6،2). ولكن سليمان يرى أن يكون كل شئ بتعقل وفي مخافة الله، فعالم وسيلة يظهر الله بها صلاحه ومحبته للإنسان، ولكن حينما يصير العالم هدفاً للإنسان ينشغل به عن الله يصير العالم باطلاً.

12-علاقة سفر الجامعة بسفري الأمثال ونشيد الأناشيد

سفر الأمثال

سفر الجامعة

سفر النشيد

1-  نرى سليمان في قمة حكمته.

2-  نرى سلوك الإنسان بحكمة وفي خوف الله.

3-  ملاحظات سليمان خلال حياته.

1-  نرى سليمان في قمة توبته.

2-  يكشف هذا السفر حقيقة هذا العالم.

 

3-  خبرة سليمان أن نتيجة الخطية شقاء.

1-  نرى سليمان في قمة محبته.

2-  هذا السفر مناجاة حب لله.

 

3-  لذة العلاقة في محبة مع الله.

ونرى في تطور الأسفار الثلاثة مراحل مختلفة مر بها سليمان في رحلة عمره وخبراته.

‌أ.   أعطى الله لسليمان حكمة عجيبة فكتب سفر الأمثال، ولكننا نجد سليمان يسقط كما سقط الكاروبيم المملوء حكمة ومعرفة (هو مملوء عيوناً رمزاً لمعرفته). ومن هنا نرى أن الحكمة وحدها ليست كافية. أما السيرافيم الملاك المملوء حباً نارياً فلم يسقط منهم أحد. ولكن بينما أن الملائكة التي سقطت أي الشياطين لا رجاء لهم في توبة، نجد سليمان في سفري الجامعة والنشيد في مراحل توبته. ولاحظ أنه قيل عن المعرفة العلم ينفخ (1كو1:8). لكن عن المحبة قيل المحبة لا تسقط أبداً (1كو8:13).

‌ب.  في سفر الجامعة يكشف سليمان حقيقة هذا العالم بعد أن اختبره خبرة شخصية ووجد أن الخطية لا تنتج غير الشقاء. ودعا كل واحد للتوبة والرجوع إلى الله. لأنه اكتشف بطلان هذه الحياة. وغلب على هذا السفر نغمة اليأس فهو كان في مرحلة الشك في غفران الله، كان لم يكتشف بعد محبة الله الغافرة.

‌ج.  في سفر النشيد نجد مناجاة الحب مع الله بعد أن اكتشف سليمان محبة الله الغافرة لذلك يبدأ سفر النشيد بقول سليمان "ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر" وهذا ما صنعه أبو الابن الضال إذ وقع على عنقه وقبله (لو20:15). ونجد في هذا السفر سليمان متمتعاً ببركات حلاوة هذه المحبة.

‌د.   سفر الجامعة بدون سفر النشيد قد يدعو لليأس. أما الذي نراه في ورود سفر النشيد وراء سفر الجامعة، نرى تكاملاً حقيقياً، نرى النمو في حياة التأئب وكيف تتحول التوبة إلى فرح حقيقي فالذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج (مز5:126) نرى الطريق الملوكي، طريق الحب الإلهي دون الارتباك بأمور العالم المفرحة أو المحزنة.

‌ه.   لقد كان سليمان في حكمته قادراً أن يختبر أفراح هذا الحب الإلهي دون أن يجتاز مرارة آلام الخطية لو قرر أولاً أن لا يختبر حياة الخطية. وهذا هو ما حدث لآدم.


 

الإصحاح الأول

آية (1): "كلام الجامعة ابن داود الملك في أورشليم."

كلام الجامعة= هو سليمان الملك. ومعنى اسم سليمان هو "سلام". وفهمنا معنى كلمة الجامعة، ولكن هو أخفى اسمه، فالخطية التي عاشها فترة طويلة حطمت سلامه الداخلي فكيف يسمى نفسه سلاماً وهو في حزن وقلق، بل هو جلب المتاعب لنفسه ولمملكته. واستخدم اسم الجامعة لأن الله ضمه بعد توبته لكنيسته الجامعة، وهو يعظ بخبراته كل الكنيسة الجامعة. ابن داود الملك= هو يذكر بنوته لداود لسببين [1] يوبخ نفسه أن ابن ذلك القديس العظيم قد تاه وإنحرف [2] ليبعث في نفسه الرجاء أنه كما قبل الله توبة داود سيقبل توبته. في أورشليم= هذه أيضاً توبيخ لنفسه فهو بخطيته أخطأ في حق أورشليم مدينة الله والتي أقامه الله ملكاً على شعبه فيها بعد أن أحسن إليه وأحبه، وصار قدوة سيئة لشعبها.

 

آية (2): "باطل الأباطيل قال الجامعة باطل الأباطيل الكل باطل."

باطل الأباطيل= باطل= hebel معناها بخار أو شئ فاني، أو نسمة. كأنه يشبه العالم بنسمة تخرج من فم الإنسان أو بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. وقوله باطل الأباطيل هو للتشديد أي أعظم الأباطيل مثل قوله نشيد الأناشيد بمعنى أحلى الأناشيد. وكلمة باطل تشير لأن العالم زمنى عابر وبلا جدوى على المدى الأبدي. والعالم هو باطل إذا كان الإنسان في استخدامه للعالم بعيداً عن الله، ولو لم يكن هناك حياة في العالم الآخر لكانت حياتنا عدم ولا شئ (مز47:89). وما جعل العالم باطل هو إساءة استخدام الإنسان له. والحياة الروحية مع الله لا تتطلب كراهية العالم بل حب السماء والتمتع بالله المشبع للنفس وهذا لا يمنع من أن نستخدم العالم ولكن لا يكون هو هدفنا وشهوتنا. بل لا يكون هو محور تفكيرنا، فلو إنشغلنا فيه وبه لن ندرك الله السماوي، ولكي ندرك الله السماوي علينا أن نهرب أولاً من العالم. لهذا السبب أيضاً إذ أراد المسيح الاقتراب من الله الآب (وهو واحد مع تلاميذه) قال لتلاميذه "قوموا ننطلق من ههنا" (يو31:14). لماذا؟ الله خلق العالم حسن وصالح، ولكن الإنسان وقد فسد ذهنه وطبيعته وبصيرته الداخلية أساء النظر للعالم وأساء استخدامه فصار باطلاً. الله خلق العالم خادماً للإنسان فحول الإنسان نفسه خادماً للعالم، وصار يسعى للمجد الباطل والأفكار المتشامخة. فالعالم ليس شراً في نفسه ولكن استخدام الإنسان يحول الشئ إلى خير أو إلى شر.

 

آية (3): "ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس."

سبق سليمان وقال في (أم23:14) "في كل تعب منفعة" فهل هناك تناقض مع هذه الآية، حين يقول ما الفائدة للإنسان من كل تعبه؟! قطعاً لا يوجد تناقض لمن يفهم غرض السفر. ففي سفر الأمثال يكلم الكسلان ليتحرك ويعمل ويجتهد، وهنا يكلم من يعمل ويجتهد وهو يظن أنه سيعيش للأبد، ويقول لمثل هذا، أنت لن تنتفع بكل ما تعمل تحت الشمس أي في هذا العالم بعد موتك، كل مكاسبك المادية (ثروة وعظمة .. ) لن تنفعك بعد موتك .. إن لم يكن هدفك في كل ما تعمل مجد الله. فلنعمل ونكسب وهدفنا مجد الله. فأنا لابد وسأموت وسيأتي الحساب. والمكاسب المادية ليست دائمة ولا تعطينا اللذة الحقيقية. فتعبنا في حياتنا اليومية لن يشبع النفس ما لم تكون لنا جلستنا اليومية مع الله ونطلب أن يعمل روحه القدوس فينا ويشترك معنا في كل عمل. وهذه هي أهمية وصية حفظ السبت، نعمل 6 أيام واليوم السابع هو لله لنذكر أبديتنا ونرتاح في علاقتنا بالله.

 

الآيات (4-11): "دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد. والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال تذهب دائرة دوراناً وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة. كل الكلام يقصر لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو ما يكون والذي صنع فهو الذي يصنع فليس تحت الشمس جديد. أن وجد شيء يقال عنه انظر هذا جديد فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين والآخرون أيضاً الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم."

يقدم الجامعة أمثلة واقعية من الطبيعة تؤكد أن الكل باطل والأمثلة:-

1) قصر الحياة الزمنية.   2) الحياة الزمنية طبيعتها متغيرة      3) هي تعجز عن إشباع القلب.

4) لا جديد بحق في الحياة 5) كل ما يناله الإنسان حتى من كرامة أو شهرة يمحيه الزمن بالنسيان.

ففي آية (4) نرى أن فترة استمتاعنا بالأمور الأرضية قصيرة للغاية، فجيل يعيش ثم ينتهي ليأتي محله جيل آخر، نحن بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. ولاحظ قوله إلى الأبد= أي لمدة طويلة تستمر حتى اليوم الذي ستحترق فيه الأرض، ونلاحظ تفاهة الإنسان، فهو يذهب سريعاً بينما الأرض المادية قائمة لا تذهب. وفي الآيات (5-7): نجد هناك دورات للطبيعة فالشمس تشرق وتغرب ثم تعود لتشرق والريح تأتي ثم تختفي ثم تعود وهكذا، هي تختفي من مكان لتظهر في مكان آخر، تتحرك في مدارات معينة، وأيضاً المياه تتحرك إذ تتبخر فتصير سُحباً ثم مطراً فأنهاراً وتعود للبحار لتتبخر من جديد. فالظروف الطبيعية حولنا تتغير، ولكن بينما الظواهر الطبيعية تختفي لتأتي وتظهر ثانية فالإنسان يختفي بالموت ولا يظهر ثانية. فحالته أسوأ وأضعف من الطبيعة (هذا من ناحية الصورة الراهنة، ولكن ربما تحمل هذه الصورة رجاءً في القيامة، فإذ يختفي الإنسان بالموت فإنه سيظهر ثانية بعد القيامة، ولكن هذا الإيمان لم يكن واضحاً تمام الوضوح في العهد القديم) ونفهم أيضاً من صورة التغير في العالم حولنا واضطرابه، أنه عالم مضطرب فهل نتمسك به؟ ولأن الإنسان يذهب ولا يعود احتجنا لمخلص ليعطينا حياة أبدية.

وفي آية (8) كل الكلام يقصر= وفي ترجمة أخرى "جميع الأشياء مرهقة" أي كل شئ متعب ويقصر عن إشباع القلب. فالنفس المخلوقة على صورة الله لن تشبع بأمور زمنية فانية بل مملوءة تعباً. لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل= في ترجمة أخرى "لا يستطيع إنسان أن يعبر عنها". والمفهوم أن سليمان يشعر بكل أحاسيس الناس وتعبهم وألامهم وعدم شبعهم ومعاناتهم، بل هم في تعب لا يمكن التعبير عنه. العين لا تشبع من النظر= فكل ما في العالم لا يعطي شبعاً، الحواس لا تشبع، فإذا كانت الحواس لا تشبع من العالم، فكيف يشبع العالم الحواس الداخلية والحياة الداخلية. بل الحواس تمل بعد وقت مما تراه، النفس تطلب الآن شيئاً جديداً وتشتهيه وبعد أن تحصل عليه تمل منه ثم تطلب الجديد ثم تمل. والعكس في السماء، فسيكون شعورنا بأن كل شئ جديد، أي نفرح به ولا نمل منه، وهذا معنى أنه سيكون لنا ترنيمة جديدة (رؤ3:14)، أي هي دائماً جديدة ودائماً مشبعة (راجع 2كو17:5 + مز3:40 + رؤ5:21 + إش19:43). الإنسان يسعى وراء الشبع من الأمور المادية ولكن الشبع لن نجده في هذا العالم. وفي الآيات (9،10) ([†]) نرى أن ظروف الإنسان الخارجية وإمكانياته تتغير ولكن طبيعته وأحاسيسه ودوافعه وغرائزه تبقي كما هي لا تتغير، كل ما هو تحت الشمس لا يشبعه ولا يجد فيه جديداً، يسمع عن شئ جديد فيشتهيه ويفرح به ثم يمل منه، كالطفل يشتهي لعبة جديدة يفرح بها لدقائق ثم يلقيها ويمل منها. وكثيراً ما يشعر الإنسان بالحاجة إلى التجديد، فيطلب ما هو جديد لمجرد أنه جديد ويرفض ما هو قديم لمجرد قدمه، فيجري وراء الجديد كالموديلات الجديدة والتعبيرات الجديدة ولكنه لا يحس بالإكتفاء وسريعاً ما يعود للملل. أما النفس التي ترتبط بالسيد المسيح عريساً لها يقودها الروح القدس إلى التجديد المستمر في الفكر الداخلي، فلا تشر بملل أو بضجر، لذلك يطلب بولس الرسول تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم .. (رو2:12). ومثل هذا يحيا متهللاً بالروح كما في السماء ومثل هذه النفس لا تمسها الشيخوخة. وفي (11) نرى كيف ينسى العالم الأولين ونحن سوف تنسانا الأجيال القادمة، فماذا ينتفع الإنسان لو ركز اهتمامه على جذب أنظار الناس.

 

الآيات (12-18): "أنا الجامعة كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم. ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السماوات هو عناء رديء جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض الريح. الأعوج لا يمكن أن يقوم والنقص لا يمكن أن يجبر. أنا ناجيت قلبي قائلاً ها أنا قد عظمت وازددت حكمة اكثر من كل من كان قبلي على أورشليم وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة. ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح. لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم والذي يزيد علماً يزيد حزناً."

هنا نجد سليمان يقدم برهانين آخرين لإثبات أن الكل باطل

[1] اختباره الشخصي [2] أشياء يتوهم الناس أنها فيها سعادة للبشر والعكس صحيح مثل المعرفة.

وفي (12) كنت ملكاً= الفعل في العبرية يعني كنت ولا أزال ملكاً، وهو استخدم هذا الأسلوب للتواضع بمعنى أنا غير مستحق لهذا المركز فبعد سقوطي أنا الآن لست سوى واعظ يحذركم من سلوك نفس الطريق الذي سلكته. فمع كوني جامعة أي جامع كل الحكمة وكوني ملكاً على أورشليم فأنا سقطت وتعذَّبت. وما زاد حزني أنني في وقت سقوطي كنت ملكاً على شعب الله في مدينة الله.

وفي (13) وجهت قلبي للسؤال= هذا سبب حيرة سليمان في هذا السفر، فالله أعطاه حكمة، هذا حقيقي، ولكنه عوضاً عن أن يرفع قلبه لله يطلب أن يكشف له الله عن أسئلته، أجهد نفسه وأجهد عقله بالإنفصال عن الله، هو حاول بأمانة أن يعرف ويدرس وهو مشهوداً له في الكتاب بنجاحه في علوم الدنيا، ولكنه عوضاً عن الدخول في حوار مع الله واهب الحكمة السماوية استغل حكمته الدنيوية وعلمه في حل مشكلات لا يقوى عقل الإنسان مهما إزدادت معرفته على الغوص فيها، بل كلما تعمق فيها اكتشف ضعفه وعجزه وإزداد غمه، أما حكمة الله فهي تكشف عن ضعفاتنا، لكنها تهبنا رجاءً فلا نيأس ولا نغتم. ولكن سليمان ضل سبيله بسبب خطيته، فالخطية تمنع عني حكمة الله فلا شركة للنور مع الظلمة. (وهو في تعبه قال هو عناء ردئ جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيها= هو رأى آلام الإنسان ولحكمته البشرية العجيبة رأي ما لا يراه الإنسان العادي فإكتأب وظن أن الله خلق الإنسان ليتألم عقلياً وجسدياً ونفسياً. والواقع أن الله لم يخلقنا لنعيش في عالم الشقاء والعناء، لكن إساءة استخدام العالم أفسدت حياتنا، ولكن من يحيا لمجد الله ناظراً للسماء حتى وإن وقعت عليه نفس الآلام فالله يعطيه سلاماً يفوق العقل وتعزية وفرح لا ينزعه أحد.

وفي (14) رأي سليمان عجز كل الأنشطة البشرية على الأرض وعقمها عن تقديم شبع حقيقي للنفس أو إصلاح وعلاج النفس داخلياً.

وفي (15) الأعوج لا يمكن أن يقوَّم= هذا شعور مُّر بالعجز عن الإصلاح، وهذا حقيقي، لكن المسيح جاء ليصلح ما عجزت البشرية عن حله وعن إصلاحه. لقد اكتشف سليمان هنا أن الإنسان أعوج وناقص بسبب خطيته، لن تكمله حكمة بشرية مهما سمت ولا معرفة مهما إزدادت.

وفي (16،17): نرى سليمان في حكمته البشرية التي إزدادت عن كل إنسان وأنه إنكب بجدية على الدراسة والقراءة لزيادة معرفته وحكمته وعلمه. ولكنه سعى إلى هذا بعيداً عن الله فتعب.

وفي (18) وجد أنه في زيادة معرفته وحكمته إزداد غماً. ومن المؤكد أن هذه الآية ليست دعوة للجهل. ولكن سليمان هنا يعلن أن الإنسان الذي يعلم أكثر يتألم أكثر، فكلما عرفنا عن الناس أكثر وعن آلامهم سنتألم وكلما عرفنا عن شرورهم سنتألم وكلما عرفنا عن خداعاتهم سنتألم وكلما عرفنا حقيقة قلوبنا سنحتقر أنفسنا، وكلما عرف الإنسان جهله السابق وخطاياه السابقة سيخجل من نفسه، فكلما إزداد علمه أكتشف جهله السابق وأخطاء شبابه. وكلما إزداد علمه إزداد احتياجه للمعرفة وتعطشه بالأكثر للمعرفة وبأن كل ما يعرفه ما هو إلا قشور. وكلما إزداد الإنسان علماً إزداد إحساساً بالعجز وقلة الحيلة أمام هذا الكم الهائل من المشكلات والآلام التي يعجز عن حلها بإمكانياته مهما إزدادت حكمته. وكلما أزدادت حكمته سيقارن بينه وبين الجهلاء وسيجد أن الموت سيأتي ويسوى بينهما ما الفائدة من كل معرفته. بل كلما زادت معرفتنا الروحية إزداد حزننا لعجزنا عن تحقيق المثاليات التي عرفناها.

عموماً لا يهاجم الحكمة والعلم والمعرفة بل يعلن عن عجزهم عن تحقيق السعادة والفرح للبشر. والكتاب المقدس عموماً لا يحرمنا من العلم على ألا يحرمنا العلم من الإتكال على الله وعشرة الله التي تعطي سلاماً للنفس. فالعالم العظيم أو الفيلسوف لن يكون سعيداً إن لم يكن قديساً. فمن له عِشْرَةْ وحياة مع الله سيعطيه سلاماً يفوق عقله المرهق المكدود من البحث والكد. وسيعطيه صبراً على ما سيعرفه ويكتشفه من أحزان وسيعطيه رجاءً في أن الله ضابط الكل هو المسيطر على الأحداث المضطربة التي لا يستطيع هو أن يضبطها. فهناك فرق بين من يبحث ويعمل مستقلاً عن الله وبين من يعمل ويبحث في شركة مع الله. من يعمل بالانفصال عن الله مهما زادت حكمته فهو محدود، ولكن من يعمل في شركة مع الله ينطلق إلى       اللا محدودية لذلك تصلي الكنيسة اشترك يا رب في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح "أوشية المسافرين" ولأن سليمان اعتمد على حكمته تألم وتعب وظل يجول باحثاً إلى أن اهتدى في نهاية السفر.


 

الإصحاح الثاني

الآيات (1-3): "قلت أنا في قلبي هلم امتحنك بالفرح فترى خيراً وإذا هذا أيضاً باطل. للضحك قلت مجنون وللفرح ماذا يفعل. افتكرت في قلبي أن أعلل جسدي بالخمر وقلبي يلهج بالحكمة وأن اخذ بالحماقة حتى أرى ما هو الخير لبني البشر حتى يفعلوه تحت السماوات مدة أيام حياتهم."

قلت أنا في قلبي= مازال سليمان يناجي قلبه عوضاً عن أن يرفع قلبه لله مصلياً، وذلك لأنه مازال في بحثه العقلي بعيداً عن روح التقوى، ومازال في مراحل حياته الخاطئة يفتش عن طريق السعادة. وقد رأيناه في الإصحاح الماضي يبحث عن سعادته في اللذات العقلية والمعرفة ولم يجدها. وهنا نجده يبحث عن سعادته في اللذات الجسدانية الحسية وقد ظن أنها تعطيه الشبع. فراح يأكل ويشرب= أعلل جسدي بالخمر= فالخمر هنا كناية عن ملذات الطعام. وجرَّب أن يلهو ويضحك= أمتحنك بالفرح. وكثيرون يظنون أن السعادة تكمن في حياة اللهو والحفلات والأفراح الزمنية بما تحويه من أكل وشرب وضحك. وهؤلاء لا يميزون بين الفرح الداخلي الذي يهب بشاشة دائمة وسلاماً حقيقياً وبين ضحكات اللهو التي تنبع عن فراغ داخلي. الفرح الداخلي الذي يعطيه الله لا تؤثر عليه الظروف الخارجية فالشهداء كانوا يذهبون لساحات الاستشهاد المرعبة وهم متهللين فملكوت الله كان في داخلهم أما الأفراح الزمنية فمؤقتة، هي خارج دائرة الله، هي تخدر الإنسان ولا تشبعه بل تزيده حزناً. ولكن الإنسان ينخدع إذ يظن أنه لو حصل على هذه الملذات الزمنية لصار سعيداً، عموماً فالطالب يشعر أن سعادته تكتمل حين ينهي دراسته ويعمل، والموظف يظن أن سعادته تكتمل بترقيته، ولكن الخبرة العملية تقول أن هذه الأنواع من الأفراح لا تستمر أكثر من ساعات يعود بعدها الإنسان لما كان عليه، فالنفس الخالدة لن تشعر بفرح حقيقي من الزمنيات. (راجع لو19:12). وحينما اختبر سليمان أن هذا الفرح يزيده حزناً وكآبة دعاه جنوناً= للضحك قلت مجنون. ومجنون من يحاول أن يجد سعادته في البحث وراء الأفراح المجنونة للعالم وينفصل عن الله. وللفرح ماذا يفعل= هو يقصد الفرح الزمني الظاهري الذي ليس من القلب، هو أدرك أنه لا يصلح القلب ولا ينزع عنه كآبته (أم20:25) ولا يهدئ هذا الفرح العالمي الضمير المذنب. أما دموع التوبة فتهب فرحاً داخلياً وبشاشة صادقة لأن الخطية تحطم القلب وتملأه كآبة مرة. ولقد اكتشف سليمان بالتجربة أن هذا أيضاً باطل.

أعلل جسدي بالخمر= أي يشرح صدره ويمتع جسده بالخمر. وقلبي يلهج بالحكمة= كان يشرب ليختبر ويتحقق هل الخمر قادرة أن تشبع حياته. وحتى يتمكن من الحكم، لم ينزلق إلى درجة فقدان الوعي، واستمر واعياً ليحكم ويعرف هل في هذا الطريق أي مسرة، ونلاحظ أنه يعترف مقدماً أنه كان يعلم أن هذا الطريق خطأ= وأن أّخذ بالحماقة= هو كان يسمع أن الخمر تسعد الناس فقرر أن يجربها ليرشد الناس للطريق الصحيح لسعادتهم. نرى سليمان هنا مستخدماً حكمته الزمنية بعيداً عن الحكمة الإلهية. إن الله يتعجب على من يبحث عن أفراحه بعيداً عنه، يبحث عنها في ملذات العالم. هذا يشبهه الله بمن ترك ينبوع الماء الحي لينقر لنفسه أباراً مشققة لا تضبط ماء (أر12:2،13).

 

الآيات (4-11): "فعظمت عملي بنيت لنفسي بيوتاً غرست لنفسي كروماً. عملت لنفسي جنات وفراديس وغرست فيها أشجاراً من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه لتسقى بها المغارس المنبتة الشجر. قنيت عبيداً وجواري وكان لي ولدان البيت وكانت لي أيضاً قنية بقر وغنم اكثر من جميع الذين كانوا في أورشليم قبلي. جمعت لنفسي أيضاً فضة وذهباً وخصوصيات الملوك والبلدان اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات. فعظمت وازددت اكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم وبقيت أيضاً حكمتي معي. ومهما اشتهته عيناي لم امسكه عنهما لم امنع قلبي من كل فرح لأن قلبي فرح بكل تعبي وهذا كان نصيبي من كل تعبي. ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس."

زود الجامعة نفسه بالمباهج العالمية والمباني الفخمة والعبيد والفضة والذهب وخصوصيات الملوك= أي ما يخص الملوك أو ما ينفرد به الملوك عن سائر العظماء من ممتلكات أو قنية معينة، فالملوك أرسلوا له هدايا ثمينة ملوكية ليستعطفوا وجهه ويسمعوا حكمته.

(تأمل: شعب الله دُعِيَ شعب إقتناء فهو ثمين جداً في عينيه (خر5:19) وملك الملوك يقدم لك ذاته لتقتنيه. فهو يقتنيك وأنت تقتنيه، أنت خصوصيات الملك= أنا لحبيبي وحبيبي لي). وراجع (1مل15:9-19). فعظمت عملي= هذه هي المشكلة أن سليمان نظر إلى نفسه وأعجب بذاته وبما عمله ولم ينظر لله ويشكره، وهذه نفس سقطة نبوخذ نصر الملك (دا 30:4،31). وكما زال الملك عن نبوخذ نصر لتأديبه هكذا تعب سليمان وفارقه سلامه. لقد بني هيكلاً للرب ولكن ما كان ينقص سليمان أن يبني للرب بيتاً في قلبه، وهذا يكون بحفظ الوصايا (يو23:14) فمن يحفظ الوصايا يصنع الله عنده منزلاً وهيكلاً ووجود الهيكل داخلنا كان سيكون سبب فرح لا ينطق به ولكن كان خطأ سليمان أنه ظن في المجد الزمني سبباً للفرح ففشل. وليس العيب في المقتنيات أو الغني بل في فساد الإرادة حين يتحول الغني أو تتحول المقتنيات إلى هدف. سيدة وسيدات= قد يكون المقصود سيدات كثيرات أو أن السيدة هي بنت فرعون أول زوجة له ثم أضاف سيدات كثيرات الذين كانوا قبلي في أورشليم= ربما داود أو من كانوا رؤساء على يهوذا في زمن القضاة. لم أمنع قلبي من كل فرح= وهذا خطأ كثيرين حينما يشعرون بالضيق يظنون أن فرحهم سيكمل لو حققوا كذا أو كذا من الأفراح العالمية (سينما / تليفزيون.. بل هناك من يلجأ للخمر أو للمخدرات) ولكن لا شئ من هذا يمنع الضيق. والسلام الحقيقي لا يأتي سوى من ملك السلام "سلامي أعطيكم ليس كما يعطي العالم أعطيكم" أما مباهج العالم فتنسينا مشاكلنا إلى لحظات كمخدر موضعي ولكنه لا يحل المشكلة. أما المسيح فيعطينا السلام الحقيقي بأن يحل بنفسه في النفس ويشبعها ويهبها سلاماً. لذلك فلنستعمل العالم باعتدال ناظرين للمسيح حافظين وصاياه فنمتلئ سلاماً. ولاحظ أن سليمان وسط هذا كله إهتم بأن يكون عقله صاحياً راجحاً ليستطيع أن يحكم، فهو لم ينجرف بجنون وراء شهواته= وبقيت أيضاً حكمتي معي= وهذا يحسب له. ولكن ليحذر كل إنسان أن يعمل مثل سليمان فهل يضمن أن تكون له حكمة سليمان بل أن سليمان مع كل حكمته إنجرف إلى عبادة الأوثان في أواخره.

 

آية (12): "ثم التفت لأنظر الحكمة والحماقة والجهل فما الإنسان الذي يأتي وراء الملك الذي قد نصبوه منذ زمان."

فما الإنسان الذي يأتي وراء الملك= يبدو أن هذا كان مثلاً شائعاً بمعنى هل يأتي بعد سليمان من يكون أحكم منه أو أغنى منه أو أسعد منه، فسليمان في كل هذا كان مضرباً للأمثال. وسليمان هنا يوجه نصيحة لكل إنسان يريد أن يختبر طرق اللذات الدنيوية من نساء وغني و.. .. الخ ويقول له يا ابني لن تتمكن من أن تجرب كل ما جربته أنت فمن يستطيع أن يتزوج 1000سيدة ويقول له سليمان بالرغم من كل ما جربت وإمتلكت فأنا أعطيك خبرتي "الكل باطل" لقد جرَّب سليمان كل الملذات العقلية والشهوانية كملك ذو سلطان يفعل ولا يرده أحد، وكل من يأتي بعده لن يستطيع أن يحصل إلا على النذر اليسير من هذه المتع. الذي قد نصبوه منذ زمان= أي مدة تمتعه كانت أيضاً طويلة.

 

الآيات (13-19): "فرأيت أن للحكمة منفعة اكثر من الجهل كما أن للنور منفعة اكثر من الظلمة. الحكيم عيناه في رأسه أما الجاهل فيسلك في الظلام وعرفت أنا أيضاً أن حادثة واحدة تحدث لكليهما. فقلت في قلبي كما يحدث للجاهل كذلك يحدث أيضاً لي أنا وإذ ذاك فلماذا أنا أوفر حكمة فقلت في قلبي هذا أيضا باطل. لأنه ليس ذكر للحكيم ولا للجاهل إلى الأبد كما منذ زمان كذا الأيام الآتية الكل ينسى وكيف يموت الحكيم كالجاهل. فكرهت الحياة لأنه رديء عندي العمل الذي عمل تحت الشمس لأن الكل باطل وقبض الريح. فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث اتركه للإنسان الذي يكون بعدي. ومن يعلم هل يكون حكيماً أو جاهلاً ويستولي على كل تعبي الذي تعبت فيه وأظهرت فيه حكمتي تحت الشمس هذا أيضاً باطل."

في الآية السابقة نراه يقول أنه ينظر الحكمة والحماقة والجهل= والمقصود بالحكمة اللذات العقلية وزيادة العلوم والمعارف. والمقصود بالحماقة أي اللذات الشهوانية الحسية أي شهوات البطن والجسد والجهل هو عدم إدراك أي علوم أو معارف أي هو ضد الحكمة. وسليمان هنا نراه يقارن بين هذا كله بعد أن اختبر اللذات العقلية والحسية وحتى لا يظن أحد أن سليمان يدعو للجهل يقول أن المسافة بين العلم والجهل هي المسافة بين النور والظلمة، فهو ليس ضد العلوم ولا يدعو لبطلانها ولا يدعو للجهل. بل في نظره أنه لا مقارنة بين ملذات الحكمة وبين ملذات الخمر فهو يسمى الملذات الحسية حماقة. والمسافة بين الحكمة والحماقة أيضاً هي المسافة بين النور والظلمة. ومع هذا فهو رأى أن اللذات العقلية لا تكفي لإسعاد الناس وحدها. ومع هذا شبه الحكمة والعلوم بالنور فالحكمة تكبح جماح الجسد وطلبه للذات البهيمية. والعكس فالشهوات البهيمية تظلم العقل. ولنفهم أنه هنا يتكلم عن الحكمة الطبيعية والخبرات البشرية والعلوم والمعارف واللذات العقلانية ولكن شتان الفارق بين هذه اللذات العقلانية وبين السيد المسيح أقنوم الحكمة السماوي المشبع لنفوسنا وعقولنا وأرواحنا، هو وحده القادر على أن يعطينا الشبع، وإذا كانت الحكمة الإنسانية تعطي إستنارة فكم وكم الحكمة الإلهية حين يكون المسيح فينا سر إستنارة، وهذه تعطي تفسير للآية (14) الحكيم عيناه في رأسه= فإذا كان المسيح هو رأس الجسد، فالحكيم هو من له المسيح رأساً لجسده  وعيناه في رأسه أي في السيد المسيح ومثل هذا يرتفع قلبه إلى السماء. وهذا معنى ما قاله القديس يوحنا "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" فالمسيح هو الحياة الأبدية التي حصلنا عليها وبه وهو النور نعاين النور.        وهذا معنى (كو2:2،3). ونحصل على هذا ببساطة بدراستنا للكتاب المقدس. ولكن كلام سليمان المباشر في هذه الآية هو عن الحكمة الإنسانية التي تعطي إستنارة وميزة للحكيم عن الجاهل. ولذلك لم تعط هذه الحكمة راحة لسليمان إذ تأمل في مصير كل من الحكيم والجاهل فوجد أن نهايتهما واحدة وهي الموت= حادثة واحدة تحدث لكليهما= ونجد هنا نغمة اليأس والسبب أنه يفكر بعيني حكمته البشرية اللتين في رأسه البشرية. أما من يفكر بعينيه اللتين في المسيح فيكون له نظرته السماوية ويعلم أنه مكلف بعمل ما فالله قد خلقنا لأعمال صالحة سبق فأعدها لنسلك فيها (أف10:2) والله خلقنا لننفذ خطة معينة إلهية وحين ننتهي من عملنا على الأرض ندخل إلى الراحة السماوية. ومن يكتشف ما هو مكلف به ويعمله بأمانة هذا سيفرح وسيجد سعادته. وقارن مع قول بولس الرسول "أنا محصور بين الاثنين .. .. لي اشتهاء أن انطلق .. لكن أن أبقى ألزم لأجلكم" فهو هنا يشعر بأنه مكلف بعمل ما يحيا لأجله وهو غير خائف من الموت فهو في المسيح سواء على الأرض أو في السماء (في23:1،24). ولأن سليمان كان يفكر بحكمته البشرية شعر أن الحكيم لن ينتفع شيئاً بل حكمته باطلة بل قال أنها تزيده غماً فالجاهل لا يفكر في شئ ولا يشغل باله شئ. بل الحكيم الذي إزداد علماً وشهرة سيموت وينساه الناس (16) بل كل ما صنعه من مجد وغني وثروة قد يرثهم إبنه الجاهل فيضيعهم (19) وهذا ما حدث فعلاً من رحبعام إبنه. وحينما استغرقته أفكاره هذه السوداوية إزداد غماً وحزناً وقال فكرهت الحياة .. لأنه ردىٌّ عندي العمل الذي عُمِل تحت الشمس لأن الكل باطل نغمة اليأس هذه هي نغمة الحكمة البشرية العاجزة عن أن ترفع الإنسان إلى التمتع بالحياة الأبدية. ولكن الحكمة الإلهية تحملنا فوق الزمن للتطلع في السماويات. الحكمة الإنسانية لا تقدر أن تواجه الموت أو تتحداه وبأقنوم الحكمة الإلهية غلبنا الموت (1كو26:15،54-57) ونرى هنا الحكيم في (16) خائفاً من أنه بعد الموت سينسى الناس إسمه ولكن الإنسان الروحي لا يهتم بأن يذكر أحد اسمه هنا بل يهتم بأن يكتب اسمه في سفر الحياة ولا يمحى (رؤ5:3 + لو20:10) فمن يربط نفسه بعجلة الزمن الذي يدور معها إلى أعلى وإلى أسفل يبقي في تغير مستمر، ثم ينتهي ذكره مع الزمن، أما من يربط حياته بحياة المسيح الأبدي تصير حياته في مصاعد دائمة وينعم بقوة فوق قوة. نعود لسليمان الذي ظن الفرح في ملذات الحياة، هو هنا مازال تائهاً يبحث عن الفرح الحقيقي، هو كالطفل يشتهي لعبة وما أن يلعب بها حتى يسأمها لذلك قال فكرهت كل تعبي= أي أنه لم يجد فيه راحة. بل قال كرهت الحياة= لأنه إنشغل بالعمل وبنفسه فمل وتعب. والمسيح يعلم هذا ويعلم أن راحتنا فيه وحده لذلك قال لنا "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين.. وأنا أريحكم" (مت28:11). العمل الذي عُمِلَ تحت الشمس كل الأمور العالمية كالغني والكرامة والملذات، أما العمل فوق الشمس فهو عمل الملائكة أو من يعمل عملهم الروحي من تسبيح وصلاة وكل عمل لمجد الله، هدفه مجد الله. وملاحظة أخيرة على آية (19) فسليمان يحزنه أن يترك ثروته لابن جاهل يضيعها وهذا يصدق على الثروات العالمية أما من يترك لأولاده بركات روحية يورثهم بركة مثل الركابيين (أر35) ومن يملك ثروة يعيش في قلق لا يعرف ما سيحدث في المستقبل أو ما سيفعله وَرَثَتَهُ بما تركه فيعيش أيامه في هم وحزن بل في الليل لا يستريح قلبه (آية23). أما من إنشغل بالمسيح اللؤلؤة الكثيرة الثمن فلا يخشى من المجهول ولا المستقبل، يقول لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح. وأن عمل يعمل أعمالاً صالحة يعلم أنه مخلوق ليؤديها (أف10:2). وأما الذي يعيش وهدفه العالم يدخل في حالة اليأس لا شعورياً ويكره حياته وعمله ويراه بلا قيمة، يجمع ثماراً تقع في قبضة آخر.

 

آية (20): "فتحولت لكي اجعل قلبي ييئس من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس."

من يرتبط بالحكمة الزمنية يعاني من اليأس والبؤس، ومن يرتبط بالحكمة الإلهية ينعم بالرجاء السماوي المفرح. ويعمل لأن الله يريده أن يعمل فلا يتعب من عمله لا الدنيوي ولا الروحي.

 

آية (21): "لأنه قد يكون إنسان تعبه بالحكمة والمعرفة وبالفلاح فيتركه نصيباً لإنسان لم يتعب فيه هذا أيضاً باطل وشر عظيم."

ربما يشير لابنه رحبعام الذي كان يشعر أنه بلا حكمة. باطل وشر عظيم= لأنه يفكر بنفسه ويطلب أن يخطط مستقبله بنفسه.

 

الآيات (22،23): "لأنه ماذا للإنسان من كل تعبه ومن اجتهاد قلبه الذي تعب فيه تحت الشمس. لأن كل أيامه أحزان وعمله غم أيضاً بالليل لا يستريح قلبه هذا أيضاً باطل هو."

تصور حالة اليأس لمن يفكر ويعمل بالانفصال عن الله.

 

الآيات (24-26): "ليس للإنسان خير من أن يأكل ويشرب ويري نفسه خيراً في تعبه رأيت هذا أيضاً انه من يد الله. لأنه من يأكل ومن يلتذ غيري. لأنه يؤتي الإنسان الصالح قدامه حكمة ومعرفة وفرحاً أما الخاطئ فيعطيه شغل الجمع والتكويم ليعطي للصالح قدام الله هذا أيضا باطل وقبض الريح."

لئلا يُظن أن الجامعة يدفعنا نحو اليأس أو أنه يشوه صورة العالم والجسد اللذين خلقهما الله من أجلنا نجده يقدم هنا نصيحة عملية لكل واحد، وهي أن نقبل الظروف التي نعيش فيها وأن نتمتع بالحياة قدر المستطاع متطلعين إلى كل شئ حتى الأكل والشرب والقدرة على العمل والتعب كعطية إلهية، بكون الله قد وهبنا هذه الحياة وهو الذي خطط لها كما هي عليه= ورأيت هذا أيضاً أنه من يد الله. والمنطق الذي نراه هنا ليس للإنسان خيرٌ من أن يأكل ويشرب ويُرى (يذيق) نفسه خيرا ًفي تعبه هو نفس منطق بولس الرسول في (1تي3:4-5) الذي أكمل الصورة بأن نأكل ونشرب مع الشكر لله على ما أعطانا. وهذا ما يؤكد أن الخليقة صالحة وأما بطلانها فيتوقف على نظرتنا لها. أما لو شكرنا الله وكنا نحيا شاكرين الله على كل ما أعطانا (طعام/ شراب/ عمل/ صحة) لن نشعر أن الحياة باطلة، بل سنعمل بفرح ولذة، سنتلذذ بالله الذي يعمل معنا. ولن يشعر بهذا سوى الإنسان الصالح= لأنه يؤتي الإنسان الصالح قدامه حكمة ومعرفة وفرحاً والصالح هو من يحفظ الوصايا ويعبد الله ويحبه، ويحبه الناس. وقوله في تعبه (24) هي دعوة لكل إنسان أن يعمل بجدية ويتعب فلا نتخذ العبادة حجة للبطالة والهرب.

وآية (25) يترجمها البعض "إذ كيف نستلذ بغيره" والترجمتين متكاملتين. فمن يعمل بخوف الله سيتلذذ بالله، ولا فرح حقيقي بغير بركة الله. والصالح الذي يعمل في خوف الله سيعطيه الله أن يتذوق لذة محبته وعطاياه، بل سيعطيه مع الأكل والشرب حكمة ومعرفة وفرحاً (26). أما الخاطئ فيعطيه شغل التكويم= هنا نرى أن الشرير يكد ويعمل بعرق جبينه، وهو في هم من ناحية عمله نجده خائفاً من المستقبل فيكنز ويكنز ويكوم المال متصوراً أن المال سيحميه من شرور المستقبل، هو يخزن حارماً نفسه من أن يتمتع بما أعطاه له الله، يحيا بلا فرح وبلا شكر بل يحيا في هم وقلق، بل سوف يذهب ما يكنزه لإنسان صالح= ليعطي للصالح= وهكذا ترك الكنعانيون الأشرار الأرض لشعب الله فالشرير يضيع أجره الأرضي وأجره السمائي. والجامعة يرى أن الأشرار حين يكومون المال ويحيون في خوف ثم يضيع منهم ما كنزوه، أن هذا باطل. هذا باطل إذ لا بركة فيما يعملون أو يكنزون.


 

الإصحاح الثالث

الآيات (1-15): "لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السماوات وقت. للولادة وقت وللموت وقت للغرس وقت ولقلع المغروس وقت. للقتل وقت وللشفاء وقت للهدم وقت وللبناء وقت. للبكاء وقت وللضحك وقت للنوح وقت وللرقص وقت. لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت. للكسب وقت وللخسارة وقت للصيانة وقت وللطرح وقت. للتمزيق وقت وللتخييط وقت للسكوت وقت وللتكلم وقت. للحب وقت وللبغضة وقت للحرب وقت وللصلح وقت. فأي منفعة لمن يتعب مما يتعب به. قد رأيت الشغل الذي أعطاه الله بني البشر ليشتغلوا به. صنع الكل حسناً في وقته وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية.عرفت انه ليس لهم خير إلا أن يفرحوا ويفعلوا خيرا في حياتهم. وأيضاً أن يأكل كل إنسان ويشرب ويرى خيراً من كل تعبه فهو عطية الله. قد عرفت أن كل ما يعمله الله انه يكون إلى الأبد لا شيء يزاد عليه ولا شيء ينقص منه وأن الله عمله حتى يخافوا أمامه. ما كان فمن القدم هو وما يكون فمن القدم قد كان والله يطلب ما قد مضى."

طبع الإنسان هو الخوف من المستقبل والقلق. والإنسان متسرع، إذا واجه مشكلة يريد حلها فوراً، وإذا لم تحل فوراً يضطرب، الإنسان متعجل وهذا يسبب له هَمْ كثير وآلام نفسية كثيرة. وسليمان هنا وهو يجول باحثاً عن طريق سعادة الإنسان يقدم نصيحة غالية لكل إنسان متعجل قلق. أنه لكل شئ زمانٌ لكل أمر تحت السموات وقت= أي لا شئ يحدث عرضاً في هذه الحياة فالكل محدد من الله. حياتنا بكل ظروفها وأوضاعها تسير حسب خطة منظمة معينة تحقق مقاصد الله في الوقت المناسب وعلينا أن نؤدي واجباتنا بأمانة، وأن نثق أن خطة الله ضابط الكل هي خطة حكيمة وأنه أب حنون وضابط الكل وأن كل الأمور تعمل معاً للخير. وكل ما في حياتنا هو أنسب شئ للوقت الحاضر. بل أنه ليس في إمكاننا تغييره ولا تغيير إرادته. فمهما دارت عجلة الزمن بنا إلى فوق أو إلى تحت فنحن في يد إلهنا الحنون الذي خلق العالم لأجلنا. هنا دعوة للتسليم، تسليم حياتنا في يد الله الحنون بأن نقبل كل ما يسمح به. بل أنه إذا كان العالم نفسه متغيراً فكيف نضع ثقتنا فيه. فالشمس تأتي ثم تغيب وهكذا، فكيف نضع ثقتنا في أي شئ مادي، فهل يضمن المال وكثرته المستقبل، هل تضمن الصحة مستقبلنا، إن وُجِدَ خير فلوقت قصير، فماذا يفرحني لو امتلكت قصور وجنات والكل سيقلع. ونصيحة سليمان أن تكون عيوننا متجهة للأبدية (آية11) وبعد ذلك نلقي كل هم عليه فهو بحكمة سماوية يهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياتنا حتى شعور رؤوسنا لا تفلت من رعايته. فقط لنحيا بروح الأمانة ونعمل بكل طاقاتنا ونحيا بفرح وسرور واثقين في الله مدبر حياتنا.

 

خطة الله فوق الزمن:

خطة الله للعالم غير خاضعة لمنطق بشري، لذلك فهي مصدر حيرة للإنسان دائماً، لأن خطة الله هي أزلية أبدية، خطة ممتدة من الأزل للأبد، والإنسان ظهر في فترة متناهية الصغر من الزمن وعاش منغمساً في الزمن ولكنه يريد أن يمتد ببصره إلى الأزل وإلى الأبد ليفهم وحينما يرى نفسه عاجزاً عن تخطي حاجز الزمن يتألَّم، بل ربما ظن أن خطة الله يشوبها التشويش. وسليمان يرى أن خطة الله ممتدة للأبدية= كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد (14) ويرى أن خطة الله أزلية= ما كان فمن القدم هو وما يكون فمن القدم قد كان. إذاً خطة الله هي خطة سرمدية (أزلية أبدية) ولذلك لن ندركها بعقولنا المحدودة. ولن نرى جمالها إلا بعد إنتهاء رسم الصورة كلها، فالبيت لا يظهر جماله إلا بعد الإنتهاء منه تماماً ولن يحدث ذلك لنا إلا في الأبدية. وعمل الله كامل= لا شئ يزاد عليه ولا شئ ينقص منه. فمشورات الله وحكمته وتدبيره كاملة ولا شئ فيها عديم الفائدة. حقاً العالم متغير ولكن الله وراء كل تغيير وكل حادثة وللخير فلنفرح بما نحن فيه لأن الله أراده ولنخضع لإرادته ونقبل حكمه بروح الشكر محاولين إرضائه وبهذا وحده نجد راحتنا هنا بل يكون لنا راحة في أبديتنا وهناك مبادئ أساسية علينا أن نضعها نصب أعيننا.

1.     لكل شئ زمان، وليس شئ صالحاً بذاته، إنما حسب استخدامنا له وبالقدر اللائق وفي الوقت اللائق به وبطريقة صالحة.

2.     كل شئ له فائدة جزئية ولكن إن أحسننا استخدام كل شئ كان له فائدة تامة.

3.  في حياتنا هنا لكل شئ زمان ولا شئ يبقي أبدياً. كل شئ متغير حتى تأتي الأبدية التي هي فوق الزمان وهناك الراحة الحقيقية ويضل من يظن الراحة الحقيقية أنها هنا.

4.     لكل شئ زمان، يعجز الإنسان عن إدراك مقاصد الله وتدابيره الفائقة وتغييرها.

5.  الله الذي خلق الزمن ولا يخضع له، من أجل تدبير خلاصنا خضع بإرادته للزمن حينما أخذ طبيعتنا وقبل الموت في جسده عنا. خضع للزمن ليرفعنا فوق الزمن.

6.  الله كخالق محب للبشر صنع الكل حسناً في وقته (11). فلكل شئ وقت أما الله فله في قلوبنا كل الوقت. جعل الأبدية في قلبهم= أي جعل في قلوبنا الاشتياق للأبدية والاشتياق لمعرفته هو الأبدي والاشتياق للحياة الأفضل في الأبدية.

7.  الآيات (12،13) حياتنا من عمل وأكل وشرب هي عطية إلهية، وليس معنى إهتمامنا بالأبدية أن لا نعمل على الأرض أو نستهتر بحياتنا الزمنية، فكل متعة في الحياة إن كنا نعمل بأمانة شاكرين الله نجد هذه المتعة تحمل بصمات حب الله الفائق، بل سنرى أن الظروف التي نحيا فيها هي أفضل ما تناسبنا كتهيئة للحياة الأبدية فنمارس حياتنا بروح التسبيح والفرح.

8.  لكل شئ زمان فالله أحب شعب العهد القديم وأحب شعبه في العهد الجديد، هو دائماً محب للبشر. ولكن البشر هم الذين يتغيرون من نحوه.

9.  في بعض أعمال الله نجد يده القوية التي تؤدب الأشرار= وأن الله عمله حتى يخافوا فالله يظهر قوته وعقوباته حتى نخاف ونعرف أن هناك إلهاً فوقنا له سلطان علينا وله وصايا، إذا إلتزمنا بها يكون لنا الخير هنا وفي الأبدية.

10. الله يطلب ما قد مضى= فالله يذكر خطايانا الماضية التي لم نتب عنها ونعترف بها. فعلينا أن نفتش داخلنا. وهذه الآية لها معنى آخر "فيسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" ومعاملات اله وحكمته ورحمته ومحبته للبشر هي هي، فإذا رأينا الله يرحم أيوب بعد أن أدبه فلنقل في تجربتنا أن الله بالتأكيد سيرحمنا، وأن رأينا الله يعاقب شاول على خطيته فلنخف فهو سيؤدبنا على خطايانا إن لم نتب عنها. وهناك من يرى في هذه الآية علامة على قبول شعب إسرائيل في الإيمان مرة أخرى.

11. لو آمن الإنسان بالأبدية وأن الله سيحاسبه يوماً فيخاف الله ويطلب الأبدية، يعمل بأمانة وبلا قلق وبتسليم لله الذي حكمته سرمدية وخطته سرمدية وكل عمله كامل لا ينقص، من يدرك هذا بقلبه يدرك العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية. يكون مثل إبراهيم الذي قال عنه الله "هل أخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله" أما من لا يضع فكرة الأبدية في قلبه ويقول مع من قال "نأكل ونشرب لأننا غداً نموت" لن يفهم عمل الله (11) .

12. ومن يفهم عمل الله لن يدخل في قلق وغم وحزن ويقول فأي منفعة لمن يتعب (9) فهو سيعلم أن الله أعطاه عملاً ليعمله (10) وهذا يتفق مع (أف10:2). مثل هذا سيعمل بفرح.

ملحوظة: لفظة الأبدية= آية (11) ربما لم يفهمها سليمان كما نفهمها نحن الآن ولكن كان يعني بها أن خطة الله أبدية أي لقرون طويلة للمستقبل والمستقبل مظلم غير معلن لنا، بل هو سر فالكلمة الأصلية تحمل معاني عديدة مثل (سر/ نسيان/ يصير مظلماً)

للولادة وقت وللموت وقت= الله في محبته لنا وحسب خطته حدد موعد ولادتنا وأيضاً موعد رحيلنا من هذا العالم. للغرس وقت ولقلع المغروس وقت= هذا ينطبق على النبات وينطبق على الأمم (أر10:1) فالله يعطي لأمم معينة سلطة وقوة زماناً معيناً ثم يقلعها ونحن غرسنا كزيتونة في بيت الرب وقلعنا من العالم فلنتب حتى لا نقلع من زيتونة الرب (رو22:11). للقتل وقت وللشفاء وقت= تفهم روحياً بقتل الإنسان العتيق وشفاء الإنسان الجديد في المعمودية (رو4:6-6 + هو1:6). وبالنسبة للحاكم فهناك وقت للشدة مع المجرم وهناك وقت للعفو. ونلاحظ مراحم الله فهو يذكر القتل أولاً ثم الشفاء لأنه يجرح ثم يعصب. وبنفس المفهوم نفهم للهدم وقت وللبناء وقت. للبكاء وقت وللضحك وقت= ابتدأ بالبكاء والنوح لأن من يزرع بالدموع يحصد بالإبتهاج. ونحن على الأرض فالوقت وقت النوح والبكاء أما في السماء فسيمسح الله كل دمعة من عيوننا ونحيا في أفراح أبدية (ضحك والرقص يشير لتهليل النفس). (رؤ4:21). لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت= يشير تفريق الحجارة وتجميعها إلى هدم مبنى قديم وإحلاله بآخر جديد. وبالرجوع إلى (أف20:2،21 + 1بط5:2) نفهم أننا الحجارة الحية في هيكل الله، وبذلك يصير تفريق الحجارة إشارة لهدم مبنى العهد القديم ليحل محله كنيسة العهد الجديد أي جسد المسيح، وقد هُدِمَ الهيكل فعلاً سنة 70م وانتهى بذلك الكهنوت اليهودي حتى الآن وتفرقت حجارة شعب اليهود لتجتمع حجارة شعب المسيح. بل حينما تنقض خيمتنا الأرضية (الموت بالجسد) فسيكون لنا بناء في السماء أبدي (2كو1:5) حينما تتجمع كل الحجارة الحية ليعلن هيكل الله السماوي (راجع رؤ12:3 + عب1:11).

للمعانقة وقت وللإنفصال وقت= قد تشير لسفر الناس سعياً وراء أرزاقهم وما يحمله هذا من آلام الفراق الجسدي ثم العودة وما يصاحبها من أفراح. وهناك من رأي أن المعانقة فيها إشارة للزواج (1كو3:7-5). فهناك وقت للزواج وهناك وقت للإنفصال، بل هناك من طلب البتولية والرهبنة وهذه يفضلها بولس الرسول عن الزواج ولكنها ليست لكل الناس. للكسب وقت وللخسارة وقت= لا يوجد من يكسب كل الأوقات وعلينا أن نشكر الرب على كل حال. للصيانة وقت وللطرح وقت= هناك أشياء غالية نحتفظ بها ونصونها، ولكن يأتي وقت تكون تكلفة إصلاحها أكبر من قيمتها فنطرحها دون أن نصلحها. وجسدنا الذي نهتم به ونصونه بل نقوته ونربيه (اف29:5) يأتي وقت ونسلمه للموت في فرح مثل وقت الاستشهاد. للتمزيق وقت وللتخييط وقت= كان من علامات الحزن تمزيق الملابس (تك29:37 + أي20:1) والعكس ففي وقت الأفراح يخيطون ملابس جديدة، وهناك من يمزق عاداته الشريرة ليخيط له المسيح ملابس بر. للسكوت وقت وللتكلم وقت= هناك وقت لو تكلمنا فيه يكون كطرح الدرر قدام الخنازير (أم23:15 + أم11:25 + إش4:50). ويبدأ بالسكوت قبل الكلام فإنه علينا أن نصمت لنفكر قبل أن نتكلم. للحب وقت وللبغضة وقت= هناك وقت يجب أن يقدم الوالدين محبة لأبنائهم هم في حاجة إليها وهناك وقت يجب أن يعاملوهم بالشدة حتى لا يفسدوا. بل أن الشهيدة دميانة كانت في حزنها الأشبه بالبغضة لأبيها، كانت محبة له جداً إذ ردته للإيمان. للحرب وقت وللصلح وقت= هذا يتضح تماماً من موقف بولس الرسول من نحو خاطئ كورنثوس (1كو5:5 + 2كو6:2) فأحياناً نحتاج للحزم الذي هو أشبه بالحرب.

 

الآيات (16،17): "وأيضاً رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم وموضع العدل هناك الجور. فقلت في قلبي الله يدين الصديق والشرير لأن لكل أمر ولكل عمل وقتاً هناك."

لكل شئ زمان، والله الصالح قد صنع كل شئ حسناً أو جميلاً في وقته، وما حل بالعالم من فساد ليس هو من طبيعة العالم ذاته وإنما خلال ظلم الإنسان وجوره لأخيه الإنسان. وتفشي الظلم في العالم دليل على بطلان هذا العالم، بل من يفترض فيهم إقامة العدل هم أنفسهم يظلمون الآخرين. والإنسان يتصور أنه يمكن إقامة نظام عالمي يفرض به العدل على الناس ويمنع الظلم، هكذا أخطأ لينين وغيره وتمردوا على الله وظنوا أنه سيقيمون نظاماً يحقق العدل لكل الناس فتحول حكمهم إلى ظلم لكل الناس، فالحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن الإنسان ساقط وخاطئ فكيف يقيم هذا الخاطئ العدل مهما حاول (1:4)

ولكن ما يعطي راحة للنفس أن الله كضابط للكل وهو وحده العادل والعارف بواطن الأمور وفاحص القلوب والكلي، هو الذي يحكم التاريخ بأسلوب لا نفهمه، ولن نستوعبه فهو يعاقب الظالم ولكن بطول أناة، ربما نتصور معها بحكمتنا المحدودة أن الله أبطأ في عدله.. لكن لكل شئ وقت. وكيف يمكن أن نحكم على عدل الله وحكمته وكل أيام حياتنا هي بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل، الوقت لن يسعفنا لتتبع كل أعمال الله في الخليقة. فأعمال الله هي وفق خطة ممتدة من الأزل وإلى الأبد، وهو يطلب ما قد مضى الذي لم نراه، وفي الوقت المناسب يحاسب عليه. موضع الحق هناك الظلم= حيثما من المفروض أن نجد العدل نجد الظلم. ولكننا نجد في (17) أن الجامعة يؤمن بقضاء الله العادل ولكن في الوقت المناسب. فإن كان الإنسان في فساده يظلم أخيه فهناك الله الذي لن يترك الظلم وسيحكم بالحق.

 

الآيات (18-22): "قلت في قلبي من جهة أمور بني البشر أن الله يمتحنهم ليريهم انه كما البهيمة هكذا هم. لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة وحادثة واحدة لهم موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما.من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق وروح البهيمة هل هي تنزل إلى اسفل إلى الأرض. فرأيت انه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه لأنه من يأتي به ليرى ما سيكون بعده."

في (18) يتعجب سليمان من أن الإنسان المعرض للموت، مثله في هذا مثل البهيمة (هذا من جهة الجسد) فجسد كلاهما يرجع للتراب، مثل هذا الإنسان الذي يعلم أنه سيموت ويتعفن، يظلم أخيه. لقد وضع الله الموت أمام عيوننا لنعتبر= يمتحنهم ليريهم. ولكن للأسف فالإنسان لا يعتبر. وفي (19) نسمة واحدة للكل= هناك فرق بين الروح وهي نفخة الله للإنسان والنفس وهي حياة الإنسان ومثله في هذا مثل الحيوان وحينما يموت الإنسان أو الحيوان يموت الجسد والنفس، وبالنسبة للإنسان تبقى روحه وتذهب لله ولكن سليمان هنا عاد للتفكير بعقله البشري وحكمته البشرية فراح يقارن بين الإنسان والحيوان بحسب ما تراه العين البشرية فوجد المنظر واحد في الموت لكليهما فقال كليهما باطل أي فانٍ. بل وهو مغمض العينين الروحيتين الداخليتين تساءل في (21) من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق= أي لله. وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل إلى الأرض= أي تموت النفس بموت البهيمة. هو لم يجد شئ منظور يراه بعينيه يشرح له ما يحدث بعد الموت سواء للإنسان أو الحيوان. ولكن حين قدَّم توبة وانفتحت عينيه الداخليتين بالإيمان وحينما توصًّل في نهاية السفر لأن يرى حقيقة ما يحدث قال "فيرجع التراب إلى الأرض والروح إلى الله الذي أعطاها" (7:12). ولكنه في (21:3) كان مازال يجول باحثاً عن الحقيقة بحكمته البشرية. وإذا كانت الروح ستصعد إلى فوق، إلى الله أبو الأرواح الذي خلقها فنلهتم بما فوق وفي (22) فلنفرح الآن بما أعطاه الله لنا ولا نفكر ماذا سيحدث بعد إنتقالنا، أو كما فكَّر سليمان فيمن يرثه، وإذا كان من يرثه سيضيع ثروته أو يزيدها. وعلينا أو نعمل بفرح ناظرين للسماء، طالبين مجد الله في كل ما نعمل، غير ناظرين لهذا العالم الفاني.


 

الإصحاح الرابع

في تأملات سليمان في هذا الإصحاح نراه يصل للنتيجة التي يرد إثباتها ويه بطلان هذا العالم، بعدة طرق، فالفقراء مظلومون والأغنياء محسودون من الكسالى الذين لا يعملون ومن يجمع المال لا يشبع منه، وهو تعيس إذ لا يعرف لمن يترك ما قد جمعه. ومن يتسلط أي يملك لا يثبت في سلطته بل إذا ملك غيره ينفض عنه شعبه ويلتفوا حول الملك الجديد.

 

الآيات (1-3): "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر أما هم فلا معز لهم. فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان اكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد بعد الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس."

المظالم منتشرة تحت الشمس، لأن فوق الشمس بر وعدل. لا مُعزٍ لهم= خوفاً من الظالمين لا يُساند أحد المظلومين ولا يجرؤ أحد على الوقوف بجانبهم. ومن يد ظالميهم قهر= في يد ظالميهم قوة وسلطان. والجامعة يرى أن هذا الظلم دليل بطلان العالم. وهذه الآيات هنا تكشف رقة مشاعر الجامعة، فهو إذ رأى دموع المظلومين، اشتهى الموت عن رؤيته للظلم والسقط الذي لا يولد بل يموت كجنين في أحشاء أمه هو أكثر غبطة من الكل. لأنه لم ير العمل الردئ الذي عمل تحت الشمس أي الظلم المتفشي والأثام التي ترتكب.

 

آية (4): "ورأيت كل التعب وكل فلاح عمل انه حسد الإنسان من قريبه وهذا أيضاً باطل وقبض الريح."

نرى هنا حالة إنسان ينجح ويفلح ولكن دوافعه للعمل والجد هي حسده الآخرين على نجاحهم فإذ يراهم ناجحين ويمتلكون يحسدهم ويعمل ليمتلك مثلهم، وهذا يعيش بلا سلام داخلي بل هو بحسده للآخرين يمرر حياته بل ربما يمرض ويتألّم وهذا باطل وقبض الريح، فهو لم ينتفع بما امتلك. وهذا نجده في الكتاب المقدس في حسد قايين لهابيل وشاول لداود. لذلك فعلى كل من يصيبه الفلاح= النجاح أن لا يندهش من حسد الآخرين وضيقهم منه فهذا هو طبع الإنسان الخاطئ. وعوضاً عن أن ننظر لنجاح الآخرين فنحسدهم ننظر لله فنشكره على ما أعطانا.

 

آية (5): "الكسلان يأكل لحمه وهو طاو يديه."

نرى هنا صورة مثيرة للحزن، الكسلان الذي بسبب كسله لا يعمل ولا يملك شئ ولكنه يحسد من يملك وحسده يكون كسوسة تنخر في أعماق قلبه، وتعمل فيه كما يعمل الصدأ بالحديد= الكسلان يأكل لحمه. وهو طاوٍ يديه= أي لا يعمل.

 

آية (6): "حفنة راحة خير من حفنتي تعب وقبض الريح."

هنا دعوة للاعتدال في كل شئ، أن نعمل بلا كسل ونعمل بلا طمع ولا حسد فنحيا في راحة وفي سلام. فمن يندفع للعمل مدفوعاً بجنون الحسد ليملك كغيره يفقد سلامه، وهذا أفضل له أن يعمل باعتدال ويعطي لنفسه راحة ولقلبه سلام، عوضاً أن يعمل بجنون وبلا راحة فيجني قبض الريح.

 

الآيات (7،8): "ثم عدت ورأيت باطلاً تحت الشمس. يوجد واحد ولا ثاني له وليس له ابن ولا أخ ولا نهاية لكل تعبه ولا تشبع عينه من الغنى فلمن اتعب أنا واحرم نفسي الخير هذا أيضاً باطل وأمر رديء هو."

نجد هنا صورة أخرى محزنة لإنسان لم يدرك أن العالم باطل، فإندفع في طمعه وإنعزل عن العالم في أنانية وترك أصحابه وإخوته ليجمع الكثير، بل لم يمتع نفسه بما يملك، بل هو يكنز ولا يشبع مما يكنزه ولا يريد أن يشرك أحد فيما يملك، بل هو يريد أن لا يرثه أحد. هو حرم نفسه وحرم من حوله من الحياة، مثل هذا هل يظن أنه يحيا للأبد، فليعلم أن العالم باطل أي سينتهي، هو وهو لن يستمر للأبد، بل هو سيترك كل شئ ويمضى. هنا الجامعة يحث كل أحد على حياة الشركة والمحبة والصداقة العملية الفعالة بدلاً من الحسد والظلم واكتناز المال.

 

الآيات (9-12): "اثنان خير من واحد لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة. لأنه أن وقع أحدهما يقيمه رفيقه وويل لمن هو وحده أن وقع إذ ليس ثان ليقيمه. أيضاً أن اضطجع اثنان يكون لهما دفء أما الوحد فكيف يدفأ. وأن غلب أحد على الواحد يقف مقابله الاثنان والخيط المثلوث لا ينقطع سريعاً."

هي دعوة أخرى واضحة وصريحة لحياة الشركة والمحبة، والصداقة الحلوة مثل التي كانت بين داود ويوناثان، فمن أسنده اليوم يسندني غداً، ومن أدعوه اليوم للتوبة وأشدده سيدعوني غداً ويشددني فالطريق صعب ويحتاج تشجيع. لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة= فكل خدمة يتممانها لبعضهما تعود على كليهما بالنفع. فالصداقة مفيدة والحياة الاجتماعية مفيدة. ولكن لها كلفة، قد تكون مادية أو معنوية أو خدمات ولكنها سترد حتماً. وبنفس المفهوم نرى أن هذه الآيات هي دعوة للزواج كصورة من صور الحياة الاجتماعية وهذا ما قاله الله "ليس جيداً أن يكون الإنسان (آدم) وحده فأصنع له معيناً نظيره (تك18:2) فالحياة تعاون على مستوى البيت (زوج وزوجة وأولاد) وعلى مستوى الأسرة (الأخوة والأقارب) وعلى مستوى الأصدقاء وعلى مستوى كل المجتمع. وويل لمن هو وحده إن وقع إذ ليس ثانٍ ليقيمه= فمن هو وحده في الطريق يتعرض لأخطار يستطيع أصدقاؤه إن وُجِدوا أن ينقذوه منها. فالمسافران في طريق خيرٌ من مسافر واحد، لأنه إن وقع واحد يقيمه الآخر. وهكذا في رحلة حياتنا الروحية، إن عثر أحدنا روحياً يسنده رفيقه ويصلي لأجله، وإن قابله أحزان يقف بجانبه يسانده ويعزيه. إن اضطجع أثنان يكون لهما دفء= ربما يقصد بالاثنان المسافران في مناطق صحراوية باردة، أو يقصد الحياة الزوجية أو يشير عموماً لدفئ المشاعر بين الأصدقاء وهذه مطلوبة في ضيقة الحياة، ودفئ المشاعر الأسرية والزوجية التي تعطي شبعاً للنفس وفي آية (12) إن هاجم عدو شخصاً= وإن غلب احدٌ على الواحد= يقف مقابله الإثنان= أي يساند الصديق صديقه وقت هذه المحنة، حتى وإن كان بالمساندة المعنوية. والخيط المثلوث لا ينقطع سريعاً= يتكلم هنا عن الخيوط المجدولة، فالخيط المجدول من ثلاثة خيوط أمتن من المجدول من اثنين، وتكون شدة احتماله أكثر. ولكن لنلاحظ أن سليمان في كل ما سبق يتكلم عن اثنين، وهنا يتكلم عن ثلاثة، فمن هو الثالث. يقول السيد المسيح "إذا اجتمع اثنين.. باسمي أكون في وسطهم" أي يكون ثالثهم. هذه هي وحدة الكنيسة حيث يحل المسيح في وسطها كوعده ويكون هو قوتها (مت20:28) ها أنا معكم كل الأيام.

 

الآيات (13-16): "ولد فقير وحكيم خير من ملك شيخ جاهل الذي لا يعرف أن يحذر بعد. لأنه من السجن خرج إلى الملك والمولود ملكا قد يفتقر. رأيت كل الأحياء السائرين تحت الشمس مع الولد الثاني الذي يقوم عوضا عنه. لا نهاية لكل الشعب لكل الذين كان أمامهم أيضاً المتأخرون لا يفرحون به فهذا أيضاً باطل وقبض الريح."

هنا يشير سليمان لشئ آخر رآه محزن وباطل في هذا العالم. وهو هنا ربما كان يشير لقصة كانت معروفة أيام سليمان، أو قصة يرويها هو ليشرح بطلان هذا العالم وربما نسجها على منوال قصة يوسف وصعوده من السجن إلى الحكم. أو لسقوط شاول الملك وصعود داود عوضاً عنه للعرش ثم انفضاض الناس عنه أيام ثورة إبشالوم. والقصة هي قصة ولد صغير حكيم كان في السجن، وخرج ليملك، فأزاح الناس الملك السابق العجوز وإلتفوا حول الملك الشاب الجديد الذي رأوا فيه حكمة، ولكنهم سرعان ما أنفضوا من حوله وتركوه. وحدث شئ مثل هذا مع المسيح الذي إلتف اليهود حوله ثم أنفضوا عنه. ونرى عدة أمور هي حِكَم في هذه القصة:-

1-    الملك والسلطان ليسا بدائمين وهكذا الغني والمال (أم24:27). ولا حتى محبة الناس.

2-    عظمة الإنسان الحقيقية ليست في سنه ومركزه بل في حكمته الساكنة فيه فالولد هنا كان أحكم من الشيخ.

3-  العالم يسوده الظلم فالولد الحكيم موضوع في السجن. والذي يملك يفتقر الحكمة ويفتقر إلى حياة الحذر. لا يعرف أن يحذَر بعد= كَفَّ عن قبول النصيحة، لا يقبل النصح والمشورة. وربما لأنه لا يجسر أحد أن يحذر الملك، وربما لعدم حكمته أصبح متكبراً لا يقبل النصح. ولنعلم أن الصبي الصغير الذي يقبل المشورة خيرٌ من الشيخ الذي لا يقبل المشورة.

4-  الناس متقلبون ومحبتهم وولائهم ليسا بثابتين، فها هم يزيحون الملك ليأتوا بالملك الشاب الجديد، ثم بعد وقت لا يفرحون به= أيضاً المتأخرون لا يفرحون به. فلا شئ ثابت في العالم.

5-  نرى صورة لبُطْل المجد العالمي= لا نهاية لكل الشعب لكل الذين كان أمامهم= فالملك الشاب كان له أتباع ومحبين كثيرين كان هو أمامهم قدوة ومثلاً يحبونه. ولكن المتأخرين أي الذين يكونون في أواخر أيام ملكه لا يفرحون به. باطل هذا المجد العالمي الذي نسعى وراءه.


 

الإصحاح الخامس

لقد أثبت سليمان في الإصحاحات (1-4) أن العالم باطل وابتداء من هذا الإصحاح نجده يقدم نصائح عملية فيها يقدم لكل منا دوره العملي الذي يجب أن يسلك به.

 

آية(1): "احفظ قدمك حين تذهب إلى بيت الله فالاستماع اقرب من تقديم ذبيحة الجهال لأنهم لا يبالون بفعل الشر."

احفظ قدمك= إصلاح السلوك من كل طريق شر. وذلك قبل أن تدخل بيت الرب. حين تذهب إلى بيت الله. وحفظ القدم قبل الذهاب إلى بيت الله تشبه أمر الله لموسى أن يخلع حذاؤه لأنه في مكان مقدس (خر5:3) . وهذه تفهم بأنه يجب أن نخلع عنا ما يمس الحياة الميتة أو أعمال الإنسان العتيق لنحيا بروح الله في جدة الحياة. لندخل بيت الرب بقلوبنا بعد خلع حذائها منها فلا نسلك في الحياة الشريرة. فدخول بيت الرب والسكنى فيه يتطلب نقاوة القلب وقداسته. وبيت الرب هو أيقونة السماء، صورة لها، يلجأ إليه المؤمنون وسط هموم وخطايا العالم فيحمل روح الله قلوبهم وأفكارهم ومشاعرهم إلى ما فوق الزمن، لهذا لا نعجب إذا كان الجامعة يبدأ نصائحه للإنسان بعد تأكيده بطلان العالم بالذهاب إلى بيت الله وكأنه يقول إهرب من العالم الزائل إلى خالقه الأبدي بالدخول إلى بيته المقدس، ولكن حتى تقابل الله في بيته عليك أولاً أن تحفظ قدمك من الشر (مز6:23+ 3:61،4 + 14:73،17)

فالاستماع أقرب من تقديم ذبيحة الجهال= المقصود بالاستماع الطاعة لكلام الله في حب. أي لا تذهب لبيت الله للعبادة الشكلية ولكن بالحب تتعبد لله بروح الطاعة الصادقة القلبية. لأنهم لا يبالون بفعل الشر= الجاهل ليس فقط يخطئ بل يخطئ ولا يبالي، فلا تقبل ذبيحته التي يقدمها.

 

آية(2): "لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله لأن الله في السماوات وأنت على الأرض فلذلك لتكن كلماتك قليلة."

لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك= لا تكرر كلمات كثيرة دون أن تكون صادرة من قلبك. بل لننطق بعد أن نفكر في كل كلمة قبل أن نقولها. فلا نستعجل أفواهنا ويسبق لساننا أفكارنا، فالأفكار هي كلمات تنطق بها قلوبنا لله. ولا يعني قول سليمان هذا أن نقلل صلواتنا بل أن نصلي بالروح وبالذهن أيضاً (1كو15:14). فهناك من يصلي بلا تفكير وينصحنا هنا الجامعة أن ننطق بروية وخشوع. وقطعاً لا يقصد أن نصلي قليلاً فبولس الرسول يقول صلوا بلا انقطاع (1تس17:5)، وكان المسيح يقضى الليل كله في الصلاة (لو12:6 + كو3:1) ولكن المطلوب هنا أن لا تكن صلاتنا هي كثرة الكلام (مت7:6). والقديس يوحنا سابا قال "سكت لسانك ليتكلم قلبك، سكت قلبك ليتكلم فيك الروح" أي لا تتسرع في صلاتك لتنهيها، إنما بين الحين والآخر أرفع فكرك ومشاعرك نحو الله، فتترك المجال لنعمة الله تعمل فيك أثناء الصلاة وتسمع صوت الله، بل تتحول الصلاة إلى ديالوج حب يشترك فيه الإنسان لا بلسانه وحده بل بكل كيانه الداخلي. لأن الله في السموات وأنت على الأرض= فنقف بخشوع أمام الله وباحترام فهو إله سماوي ونحن بشر ترابيون. وتعلم في صلاتك الهدوء والانتظار ليعلن لك السماوي عن سمواته ويعلمك لغة السماء، ويهبك شركة التسبيح مع السمائيين. هذه هي الصلاة وليست تكرار كلام بصورة متكررة كأن الله محتاج لمن يذكره كما نفعل مع البشر. سليمان يطلب الهدوء أمام الله.

 

آية(3): "لأن الحلم يأتي من كثرة الشغل وقول الجهل من كثرة الكلام."

يقتبس الجامعة مثلاً ليدلك به على أهمية الهدوء أمام الله وعدم ترديد كلام كثير أمامه بلا فائدة. ومعنى المثل أنه كما أن الأحلام المشوشة تأتي نتيجة لما نفكر فيه اليوم كله ولإنشغال الفكر بأشياء كثيرة تزحمه. هكذا كثير الكلام يتحول إلى جاهل وتكون كلماته هي كلمات جهالة بل إن كثرة الكلام تكشف عن فراغ وجهالة. وهكذا كثير الكلام في صلاته بلا هدوء وبلا استماع سيخرج فارغاً.

 

آية(4): "إذا نذرت نذراً لله فلا تتأخر عن الوفاء به لأنه لا يسر بالجهال فأوف بما نذرته."

من ينذر ثم يتلاعب يكون كمن يمزح مع الله، وهل هذا يليق إلا بجاهل. والنذر هو وعد بتكريس شئ ما لله، يلتزم المرء بالوفاء به. والله يهتم أولاً بتكريس القلب نفسه له لمجد اسمه.

 

الآيات (5،6): "أن لا تنذر خير من أن تنذر ولا تفي. لا تدع فمك يجعل جسدك يخطئ ولا تقل قدام الملاك انه سهو لماذا يغضب الله على قولك ويفسد عمل يديك."

لقد كان خير لحنانيا وسفيرة أن لا ينذران كل ثمن حقلهما من أن ينذران ثمن الحقل كله ثم لا يوفوا ما نذروه. فعدم الوفاء بالنذر هو استخفاف بالله. وليس من نذر يفرح قلب الله مثل تسبيحنا وشكرنا إياه وسط ضيقاتنا ومتاعبنا. لا تدع فمك يجعل جسدك يخطئ= الجسد هنا يعني الإنسان بكليته. الملاك= هو كاهن الله (رؤ1:2) وكلمة ملاك تعني المرسل من الله. والمعنى أن تتصنع الأعذار أمام الكاهن، مدعياً أن النذر الذي نذرته لم تكن تقصده فالله يغضب على المتسرعين في كلماتهم ونذورهم. ويفسد عمل يديك= لا تكون بركة في أعمالهم.

 

آية(7): "لأن ذلك من كثرة الأحلام والأباطيل وكثرة الكلام ولكن اخش الله."

تشديد آخر على عدم التسرع أمام الله. وقوله إخش الله= يفيد بأن التسرع في الكلام والوعود والنذور فيه عدم خشية لله. والجامعة ذكر 3 أشياء تسبب التسرع أمام الله. [1] كثرة الأحلام= أي الإنشغال بالأوهام دون السلوك الواقعي العملي، وهذه تشمل الخوف من الأحلام أو الأوهام غير الحقيقية، ولكن من يثق في الله لا يخاف من شئ. [2] الأباطيل= أي الإنشغال بأمور الحياة الباطلة [3] كثرة الكلام= بدون تفكير. إذاً لكي تكون تعهداتنا مقدسة وواقعية يلزمنا أن نهرب من الأفكار الباطلة (الأحلام) ومن الأعمال الباطلة ومن الكلمات الباطلة ونضع مخافة الله نصب أعيننا عندما نفكر أو نعمل أو نتكلم.

 

الآيات (8،9): "أن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر لأن فوق العالي عالياً يلاحظ والأعلى فوقهما. ومنفعة الأرض للكل الملك مخدوم من الحقل."

في (8) يقول إذا رأيت الظلم قد ساد على الأرض فلا تخف لأن الله الذي في السماء وهو أعلى من كل عرش سينصف المظلومين ولكن عدله في الوقت المناسب. وإن كان الظالمون متعالين فمجد الله فوق السموات. فوق العالي عالياً والأعلى فوقهما= النظام السائد في العالم هو نظام التدرج الرئاسي فلكل رئيس هناك رئيس أعلى منه، والله الأعلى فوق الكل.

أية (9) تشير أن الملك يحتاج للعامل الفقير الذي يعمل في أرضه لينتج له طعامه فلماذا يظلمه أو يتعالى عليه. هي نصيحة للرؤساء والملوك الأرضيين، أن الكل محتاج للكل والله فوق الكل بعدل يحكم.

 

آية(10): "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل هذا أيضاً باطل."

الإنسان جسد وروح، وربما يشبع الجسد من كثرة المال أي الفضة ولكن الروح لن تشبع من المال. بل الجسد أيضاً مهما حصَّل من ثروة يزداد جشعه (حب5:2 + أم15:30 + في18:4).

 

آية(11): "إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها وأي منفعة لصاحبها إلا رؤيتها بعينيه."

إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها= إذ يزداد الإنسان غنى تزداد مسئولياته، فهو ملتزم بالصرف على العاملين في أرضه وممتلكاته. وأي منفعة لصاحبها إلا رؤيتها بعينيه= لن ينتفع هذا الغني بكل ما يملك فإنه مضطر أن يوزع منه على عماله والأجراء عنده. هذا الكلام موجه لمن تكلم عنهم في آية (10) الذين لا يشبعون من الفضة، فهو هنا يسخر منهم كأنهم يرون أن المال الذي يعطونه لعمالهم كثير عليهم، هم في حالة جشع فهم يمتلكون ولكنهم يريدون أن يكنزوا أكثر وأكثر. وبينما هم في جشعهم غير مستريحين يكون العمال الفقراء لديهم أكثر راحة.

 

آية(12): "نوم المشتغل حلو أن أكل قليلاً أو كثيراً ووفر الغني لا يريحه حتى ينام."

بهذه الآية تكتمل الصورة، فالعامل الفقير يعمل ويكد ويحصل على القليل لكنه ينام في راحة "الله يعطي لأحبائه نوماً". أما الجشع فلا يعرف معنى الراحة، لا ينشغل سوى بمضاعفة ثروته، وهو خائف من ضياعها. نوم المشتغل حلو= فالتعب الجسماني يجعل النوم يأتي سريعاً ليقوم الإنسان في راحة نشيطاً، بل لأنه فقير فهو لا يعاني من أمراض الجشع التي للأغنياء، فهو ينام مستريحاً بلا هم. وإن كان التعب الجسماني بسبب ضروريات الجسد يعطي لذة عند النوم، فكم بالحري من يتعب ويجاهد روحياً لأجل خلاصل نفسه.

 

آية(13): "يوجد شر خبيث رأيته تحت الشمس ثروة مصونة لصاحبها لضرره."

شر عظيم أن يظل الإنسان يصون ثروته ثم تصبح لضرره [1] لأحقاد الناس عليه وتدبيرهم شرور ضده لا لشئ سوى ثروته. [2] لطمع اللصوص في ثروته. [3] لمرضه بسبب همومه للحفاظ على ثروته ولزيادتها. [4] لخسارته الروحية وهلاك نفسه لإنشغاله بالماديات عن الروحيات.

ولنلاحظ أن المشكلة لا تكمن في المال والثروة إنما في الارتباك بهما والولع بالكسب والإنشغال عن الله. ولنذكر أن إبراهيم واسحق ويعقوب كانوا أغنياء (أم19:1).

 

الآيات (14-17): "فهلكت تلك الثروة بأمر سيئ ثم ولد ابناً وما بيده شيء. كما خرج من بطن أمه  عرياناً يرجع ذاهباً كما جاء ولا يأخذ شيئاً من تعبه فيذهب به في يده. وهذا أيضاً مصيبة رديئة في كل شيء كما جاء هكذا يذهب فآية منفعة له للذي تعب للريح.  أيضاً يأكل كل أيامه في الظلام ويغتم كثيراً مع حزن وغيظ."

هذه موجهة لكل مولع بالكسب، أو لمن يظن أن في زيادة ثروته ضمان لمستقبل آمن. فكم من غني ضاعت ثروته في مشروع خاسر= هلكت تلك الثروة بأمر سيئ= أو ضاعت بسبب أي مصيبة (حرب- زلزال.. .) ولم يترك لابنه شيئاً= ولد ابناً وما بيده شئ بل هو قد يموت ويترك كل شئ= عرياناً يرجع ذاهباً كما جاء. فلماذا الجشع والإكتناز، المال غير مضمون، هو وهم وسراب وخدّاع. ومن يظن أن فيه ضمان لحياته يقبض الريح. مثل هذا الجشع محب المال يفقد بصيرته الروحية= يأكل كل أيامه في الظلام فإما أن يعبد الإنسان الله أو المال، من يلقي بهمه على الله مؤمناً أنه يُدَّبر له حياته يحيا في فرح ويرى يد الله التي تحفظه فيسبح الرب كل أيامه، أما من يعتمد ويتكل على أمواله فهو محروم من نور الله، لا يرى فرحاً حقيقياً ولا أمل له في الخلاص، يأكل بلا فرح، بل في غيظ وحزن خوفاً من حسد الناس أو خوفاً ممن يأكلون أمواله. لا يشعر بعناية الله، بل يتهم الله أنه لا يعتني به، دائم التذمر على الله فهو في ظلام لا يرى يد الله الحانية عليها، لقد سبق سليمان وطلب أن نقدم عبادة حقيقية لله ولا نكون جشعين في طلب المال والمقابل أن يعطينا الله استنارة فنرى يده ونحيا في فرح مسبحين شاكرين الله على ما نراه من أعماله.

 

الآيات (18-20): "هوذا الذي رأيته أنا خيراً الذي هو حسن أن يأكل الإنسان ويشرب ويرى خيراً من   كل تعبه الذي يتعب فيه تحت الشمس مدة أيام حياته التي أعطاه الله إياها لأنه نصيبه. أيضاً كل إنسان أعطاه الله غنى ومالاً وسلطه عليه حتى يأكل منه ويأخذ نصيبه ويفرح بتعبه فهذا هو عطية الله. لأنه لا يذكر أيام حياته كثيراً لأن الله ملهيه بفرح قلبه."

نصائح سليمان أن يأكل الإنسان ويشرب ويمارس عمله بفرح، ويحسن استغلال عطايا الله ويفرح بها بشكر، يخدم الله بما أعطاه، وينتفع هو به بلا بخل ولا جشع فكل ما أعطاه الله لنا هو هبة إلهية فلنفرح بها ونشكره عليها ونمارس حياتنا اليومية بفرح. لا يذكر أيام حياته= الله يطلب فرح أولاده، فلا ينشغل أولاده بما في الحياة من هم ولن ينشغل أولاده بالغد ويقلقوا، فالله سيعطيهم فرح واطمئنان أن الغد في يده هو. لأن الله ملهيه بفرح قلبه= يترجمها البعض "لأن الله يعطيه سؤل قلبه فرحاً". فلماذا لا يذكر أيام حياته بهمومها لأن الله يعطيه سؤل قلبه فرحاً. فالله يتطلع إلى الإنسان المؤمن كطفله المحبوب لديه، يلهيه بالحكمة السماوية وعربون المجد الأبدي والتعرف على بعض الأسرار كمن يود أن يفرح قلبه بها، وهذا تلهيه عن أن ينشغل بهمومه (لو21:10). ولاحظ قوله لا يذكر أيام حياته كثيراً. فنحن لابد وسنذكر ألامنا لأننا نحياها، ولكن سرعان ما تعزينا النعمة الإلهية فلا ننشغل بهمومنا كثيراً. كحزانى ونحن دائماً فرحون (2كو10:6).


 

الإصحاح السادس

الآيات (1،2): "يوجد شر قد رأيته تحت الشمس وهو كثير بين الناس. رجل أعطاه الله غنى ومالاً   وكرامة وليس لنفسه عوز من كل ما يشتهيه ولم يعطه الله استطاعة على أن يأكل منه  بل يأكله إنسان غريب هذا باطل ومصيبة رديئة هو."

البخل هو استخدام سييء لعطايا الله من المال والغني، فالمال سواء حصلنا عليه بعملنا أو كميراث من الآباء هو عطية من الله، ينبغي أن يعيش بها الشخص ويفرح بها ويفرح بها أولاده والباقي فهو للمحتاج ليفرح الكل. ولكن من يفرح بماله وفي جشع لا يصرف على نفسه ولا أولاده، ويأتي غريب ويأخذ كل ما لديه، وهناك تفسير لهذا:-

1.     إما أن هذا الغني الجشع أصبح لا يثق في أولاده، وأقام وكيلاً على أمواله فنهبه الوكيل.

2.     يموت هو دون أن يتمتع بماله، ويترك كل شئ بعدما حرم نفسه من ماله في حياته.

3.     لو إنحرف إنسان لطريق الزنا يسلبه عدو الخير من كل عطايا الله فيذهب ماله للغريب (أم10:5).

ونلاحظ أنه في وقت سليمان كثر الذهب والفضة أي صار الجميع أغنياء، وكانت أيام سليمان أيام سلام ولا حرب يخاف منها الناس فيكنزوا أموالهم، ومع هذا لم يكف الناس عن جشعهم.

 

آية(3): "أن ولد إنسان مئة وعاش سنين كثيرة حتى تصير أيام سنيه كثيرة ولم تشبع نفسه من الخير وليس له أيضاً دفن فأقول أن السقط خير منه."

كان في العهد القديم أن كثرة البنين دليل البركة، فهذا إنسان له 100ابن أي له خير كثير، لكنه لا يشعر بالشبع بل يشعر بالعوز وعدم الإكتفاء، ويبقي في حالة فراغ، مثل هذا الإنسان حتى وإن عاش سنين كثيرة بل لو عاش للأبد ولم يدفن= ليس له أيضاً دفن فهو لن يشعر بفرح، ولن ينعم بعذوبة الحياة بسبب شعوره الدائم بالحاجة إلى الإكتناز. السقط خير منه= السقط هو من يولد ميتاً. وهناك تفسير آخر للآية ليس له أيضاً دفن= فالدفن كان مهماً جداً عند اليهود. ولكن هذا الإنسان الجشع بسبب حرمانه أولاده من حقهم في الحياة والتمتع بأمواله أصبحوا لا يحبونه ولا يبالون بكرامته ولا يهتمون بدفنه، إنما إنصب اهتمامهم على البحث عن ثروته وتوزيع ميراثه عليهم وهم لم يدفنوه بعد (وهذا يحدث كثيراً) .. (ار19:22).

 

الآيات (4-9): "لأنه في الباطل يجيء وفي الظلام يذهب واسمه يغطى بالظلام. وأيضا لم ير الشمس ولم يعلم فهذا له راحة اكثر من ذاك. وأن عاش ألف سنة مضاعفة ولم ير خيراً أليس إلى موضع واحد يذهب الجميع. كل تعب الإنسان لفمه ومع ذلك فالنفس لا تمتلئ. لأنه ماذا يبقى للحكيم اكثر من الجاهل ماذا للفقير العارف السلوك أمام الأحياء. رؤية العيون  خير من شهوة النفس هذا أيضاً باطل وقبض الريح."

حالة السقط محزنة للغاية. لأنه في الباطل يجئ= فباطلاً حملت الأم وتعبت ثم خاب أملها. وفي الظلام يذهب= لا يكاد يشعر به أحد، يدفن قبل أن يحتفل بميلاده. اسمه يغطي بالظلام= فإن كان الوالدان قد اعدا اسماً لهذا المولود، يتوارى معه الاسم في الظلام. لم ير الشمس= لم ينظر نورها فقد خرج من ظلام الرحم إلى ظلام القبر. ولم يعلم= لم يعرف شيئاً عن الدنيا وملذاتها ولا عرف أبويه. فهذا له راحة أكثر من ذاك= فالسقط لم يصنع خطية ولم يحمل هماً وهو في بطن أمه، بينما الجشع خسر حياته على الأرض فهو قضاها مهموماً وخسر حياته الأبدية. فهو والسقط ذهبا للقبر= إلى موضع واحد يذهب الجميع= ولكن هناك فروق تجعل السقط أفضل من الجشع الذي لا يشبع، الذي تحرمه محبة المال من رؤية المسيح شمس البر، عاش مهما عاش ربما لألف سنة ولم يفرح، ولم يعمل خيراً لأحد ولم يُسْعِد أحد. كل تعب الإنسان لفمه ومع ذلك فالنفس لا تمتلئ([‡])= نتيجة عمل الإنسان يذهب كله لفمه ويكون له أما النفس فلا يكفيها شئ بل هي دائماً تقول هات هات (أم15:30) فنفوسنا لا يملأها شئ إلا الله نفسه، العالم كله لا يكفي أن يشبع النفس التي تشتهي العالم "من يشرب من هذا الماء يعطش". ولنعلم أن ما وهبنا الله إياه فلكي نستخدمه لا لكي يستخدمنا ويستعبدنا. فليملأ الغني فمه بالطعام وليدرك أن نفسه لن تشبع مطلقاً مهما كنزت، لأن من يحب الفضة لا يشبع من الفضة (10:5). فالفم محتاج للطعام والنفس تحتاج إلى حب الله والقريب. لأنه ماذا يبقي للحكيم أكثر من الجاهل= كلاهما سيترك ماله ويمضي للقبر. ولكن الحكيم الذي عاش في محبة للجميع سيترك ذكرى طيبة لمحبته للناس، عاش فرحاً بما أعطاه الله وأسعد من حوله، أما الجاهل فعاش حزيناً لا يشبع، بل أن الفقير الحكيم يعيش سعيداً مكتفياً بما لديه من قوت وكسوة (1تي8:6) ويحمل معه الحب إلى أبديته بينما يفقد من يظن نفسه حكيماً وغنياً سعادته هنا ومجده الأبدي.

ماذا للفقير العارف السلوك أمام الأحياء سؤال إجابته رؤية العيون خيرُُ من شهوة النفس

الفقير العارف السلوك هو من قال عنه بولس الرسول أنه مقتنع بما لديه من قوت وكسوة. مقتنع بما تراه عينه مما أعطاه الله له فعلاً، شاكراً الله على ما أعطاه له، هذا خير له من أن يعيش على أوهام شهوات لن تتحقق يعذب بها نفسه إذ لا يجدها. الإنسان الفقير الذي يشعر بالشبع مكتفياً بما لديه، أو بما هو حاضر أمامه، يراه بعينيه، خير من ذاك الذي تجول نفسه في طمع، يشتهي الأمور الذي قد لا يستطيع نوالها. وسليمان يسمى من لا يشبع في شهواته أحمقاً، أما الحكيم فهو من لا يوجد أسيراً لتلك الشهوات.

الشعب في سيناء لم يفرحوا بالله السائر معهم، فهم لم يروه لأنهم كانوا بشهواتهم هناك في مصر في أرض العبودية فاشتهوا الكرات ولحم مصر. فالجاهل الأحمق لا يرى الله فلا يرى سوى العالم فيشتهيه، هو يشتهي أيضاً ما ليس له فيعيش دائماً تعيس (يع1:4-4). أما الحكيم فهو يرى الله، ويرى العالم لكنه لا يشتهيه، هو يستعمله ولا يطلب أكثر مما له. يشكر الله ويفرح بما أعطاه له، ولا يطلب ولا يشتهي ما ليس له. الفقير الحكيم يعيش محبوباً محترماً، أما الغني الجاهل فيعيش بلا محبة من أحد وموته صعب. ويكمل سليمان أن إطلاق الإنسان لشهواته، ما فيها شهوة الاقتناء هو أيضاً باطل وقبض الريح= فهو كلما نال شيئاً يزداد بالأكثر لهيب الشهوة فيطلب المزيد فيدخل في مضايقة الروح. على الإنسان أن يفهم أن كل العالم سيزول فمهما اقتني فهو باطل أي عدم ومصيره للزوال. فلا نضع قلوبنا على أي شئ في هذا العالم.

 

الآيات (10-12): "الذي كان فقد دعي باسم منذ زمان وهو معروف انه إنسان ولا يستطيع أن يخاصم  من هو أقوى منه. لأنه توجد أمور كثيرة تزيد الباطل فأي فضل للإنسان. لأنه من يعرف ما هو خير للإنسان في الحياة مدة أيام حياة باطلة التي يقضيها كالظل لأنه  من يخبر الإنسان بما يكون بعده تحت الشمس."

الذي كان فقد دعي باسم منذ زمان= الاسم هو آدم ويعني المأخوذ من تراب الأرض. والاسم يميز الشخص ويشير لصفاته وأعماله. ومعروف أن الإنسان ضعيف ومهما زادت ثروته فسيستمر إنسان ضعيف محدود قابل للموت في أي لحظة، وهذا دُعِيَ على الإنسان منذ الأزل، لا يستطيع أن يخاصم من هو أقوى منه= يعجز الإنسان عن أي يقاوم ويخاصم الله القوي، وعادة فالإنسان الذي يشتهي ولا يجد يخاصم الله لأنه لم يعطيه، والله قسم لنا ما عندنا فلنقبل ونكتفي ولا نخاصمه، حينئذ سنكتشف أنه أعطانا كفايتنا وأعطانا معها الشبع والإكتفاء والرضا. أمور كثيرة تزيد الباطل= الشهوة والهموم مع الغني، وعدم الاكتفاء، ومخاصمة الله، وحسد الناس على ما عندهم يزيد ألام الإنسان، وزيادة المعرفة يزداد معها الشعور بالضعف والعجز. وعبثاً أن يظن الإنسان أن أشياء هذا العالم فيها راحة. فأي فضل للإنسان= من ثروته وملذاته وأمجاده العالمية. وفي آية (12) يختم الجامعة حديثه بالنتيجة النهائية أن ما يجمعه الإنسان لن يزيده سعادة، خاصة أن أيام حياته على الأرض مهما طالت فهي كالظل لذلك أسماها أيام حياة باطلة التي يقضيها كالظل. وطالما لا نعرف ما هو لصالحنا علينا أن نسلم بأن كل الأمور تعمل معاً للخير فلا نضطرب فأحسن اختيار لحياتنا هو ما أعطاه الله لنا. نحن لا نعرف ماذا سيحدث في المستقبل لنا أو لعائلاتنا بعد موتنا، الكل في يد الله وهو يدبر كل الأمور للخير. وإذا كان لنا ثقة في الله وفي محبته وتدبيره سنحيا سعداء لا نحمل هماً للغد.


 

الإصحاح السابع

هذا الإصحاح يقدم لنا مجموعة نصائح في شكل قطع شعرية، غايتها السلوك بروح الحكمة بعيداً عن اللهو والترف والحياة المستهترة ناظرين للحياة الأبدية.

 

الآيات (1-7): "الصيت خير من الدهن الطيب ويوم الممات خير من يوم الولادة. الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة لأن ذاك نهاية كل إنسان والحي يضعه في قلبه.  الحزن خير من الضحك لأنه بكابة الوجه يصلح القلب. قلب الحكماء في بيت النوح  وقلب الجهال في بيت الفرح. سمع الانتهار من الحكيم خير للإنسان من سمع غناء الجهال. لأنه كصوت الشوك تحت القدر هكذا ضحك الجهال هذا أيضا باطل. لأن الظلم يحمق الحكيم والعطية تفسد القلب."

الصيت= اقتناء اسم أو سمعة حسنة خير من الدهن الطيب= فالدهن يستعمل لوقت ما وزمان ما. أما الصيت فهو لكل وقت ولكل زمان. والدهن للجسد فقط أما الصيت فهو للإنسان كله. والدهن الطيب هو زيت مع روائح طيبة لتعطير الجسم وترطيبه وهو إشارة لكل ملذات الدنيا. لقد أخبرنا سليمان قبلاً أن هذا العالم باطل والآن يخبرنا عن أحسن السبل لنحصن أنفسنا ضد شروره وأخطاره، وهنا يبدأ بأن نحرص على سمعتنا، وبعد هذا سيكلمنا أن نحيا بجدية وبهدوء الروح والحكمة، ونخضع لإرادة الله متجنبين التطرف في كل شئ. وطالما كنا نهتم ونسعى بصيت حسن لا نهتم بكلام أحد ضدنا.

والإنسان الحكيم الذي يعرف كيف يسعى باعتدال لا يكنز ويجمع ولا يبدد ماله في عيش مسرف وفي خطايا ولذات، يعرف كيف يستخدم العالم ولا يستعبده العالم سيترك شهادة حقة على الأرض رائحتها أفضل وأبقى من الطيب الكثير الثمن. وراجع قول السيد المسيح للمرأة التي سكبت الطيب على رأسه (مت13:26) "حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها". فإذا سكبنا حياتنا مبذولة كقاروة طيب نقتني صيتاً حسناً. يوم الممات خير من يوم الولادة= فالولادة هي بداية حياة مجهولة قد تكون سعيدة وقد تكون تعيسة، أما الموت فيحملنا للراحة وهو نهاية الجهاد. ولذلك تحتفل الكنيسة بأعياد نياحة واستشهاد القديسين وليس بيوم ميلادهم "ناظرة إلى نهاية سيرتهم". والحكيم يحيا وعيناه على يوم موته فلا ينشغل بالأمور الزمنية منتظراً يوم موته ليدخل إلى كمال حرية مجد أولاد الله، ويرى ميلاده عطية إلهية وحياته على الأرض ما هي إلا استعداد لمجد أبدي. أما الإنسان المادي فيحتفل بعيد ميلاده ويهرب من التفكير في يوم مماته. الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة= الإنسان الروحي لا يُسَّر بالولائم والأفراح العالمية لأنهما سينسيانه حقيقة غربته، أم بيت النوح فيذكره بوطنه السماوي لأننا نرى فيه نهاية العالم، ونرى أنتقالنا للفرح، والراحة الحقيقية فنشتاق لها. وهو يحث الإنسان على التوبة التي تبعث سلاماً داخلياً، وهذا خير من ضحك المستهترين. وصلوات الجنازات فيها تعزية لمن يسمعها. أما حياة اللهو فتجعلنا ننزلق في الإنغماس في اللذة. الحزن خير من الضحك لأنه بكآبة الوجه يصلح القلب= الحزن هو حزن التوبة نمارسه يومياً وهذا يصلح القلب. ولا يفهم من هذا أن نظهر بوجه مكتئب أمام الغير، وإنما يمارس هذا الحزن والكآبة والدموع في المخدع، دون أن نحطم الآخرين معنا، بل هذه علاقة سرية مع أبي الذي في السموات لا داعي لأن يراها أحد. بل أبي الذي رآني باكياً حزيناً في غرفتي ومخدعي سيجازيني علانية بعلامات السلام والفرح الروحي على وجهي أمام الناس. والآيات (5،6) تظهر أن الحكيم يفرح بانتهار إنسان حكيم آخر مخلص. ولا يُسَّرْ بغناء الجهال= أي تملقهم له بكلمات معسولة. التي هي كصوت الشوك تحت القدر= صوت الشوك الذي يحترق صوتاً عالياً ولهيبه عالياً ولكن لوقت قصير ثم ينطفئ سريعاً فلا يستفيد القدر بهذه النار، بل يتحول لرماد سريعاً وهكذا كلمات التملق الغاشة لأن الظلم يحمق الحكيم= سليمان اعتبر من يتملق أحد بكلمات غش وخداع هو كمن يظلمه. والعطية تفسد القلب= يقصد الكلام اللين الغاش فهذا يفسد القلب. فمن يرى أحداً يخطئ ويشجعه ولا يلومه فهو يدفعه إلى الهاوية، لأنه سينخدع ويظن أنه لا يخطئ.

 

الآيات (8،9): "نهاية أمر خير من بدايته طول الروح خير من تكبر الروح. لا تسرع بروحك إلى الغضب لأن الغضب يستقر في حضن الجهال."

نهاية أمر خير من بدايته= هذه الآية تصلح كختام للآيات السابقة. فرجوع جندي من الحرب منتصراً هو أحسن قطعاً من يوم ذهابه للحرب المجهولة نتائجها. وهكذا فنهاية حياة قديس أفضل من يوم ميلاده، لأن يوم نياحته هو يوم رجوعه منتصراً من حروبه الروحية وجهاده "راجع سفر الرؤيا من يغلب أعطيه.. .." فنهاية حياتنا بالموت هي نهاية تعب وأما يوم ميلادنا هو بداية التعب. وهذه الآية توجه لكل ظالم يظن أن له اليد الطولى فهو الأقوى والله يقول له هذا ليس ختام الأمر ففرعون لم يستطع أن يظلم الشعب مدة طويلة. وهذه الآية توجه لكل غضوب، وهذا موضوع الآيتين (8،9) طول الروح خير من تكبر الروح= فإذا كان نهاية أمر خير من بدايته فأصبر ولا تتكبر ولا تقول كلاماً بكبرياء عن الله إذا كنت في ضيقة كأنك تعرف أكثر من الله. وحتى لو كنت مظلوماً (كشعب الله) فالله لن يترك عصا الأشرار تستقر على نصيب الصديقين (مز3:125). طول الروح يعني الصبر وأن ننتظر أن يتدخل الله في الوقت المناسب، ونهاية أمر، حين يتدخل الله بعدله خير من بدايته حين تمتد يد الظالم بشره. لا تسرع بروحك على الغضب= لا تغضب سريعاً من الذي تسبب في ألامك ولا تظهر غضبك سريعاً. لأن الغضب يستقر في حضن الجهال= بمعنى أن الغضب وليد الجهل والحماقة يجد راحته فيه كما يستقر الرضيع في حضن أمه. ولاحظ قوله لا تسرع بروحك إلى الغضب= فقد يبدأ الغضب بعلامات على الوجه ثم ينتقل للروح في علامات العجرفة والكبرياء ضد من أخطأ إلىّ، بل قد ينتقل للعجرفة على الله، إذ يتهم الغضوب الله أنه ترك العدل وتخلى عنه.

 

آية(10): "لا تقل لماذا كانت الأيام الأولى خيراً من هذه لأنه ليس عن حكمة تسأل عن هذا."

لها معنيان [1] قول شائع حتى الآن به نبرر أخطائنا، كأن خطايانا سببها أن الأيام شريرة، أما الأمس فكان أفضل، ولو كنا في أيام الأمس لصرنا قديسين، ولكن الله الذي صنع في الماضي قديسين قادر أن يصنعه الآن أيضاً "هذه كقول الشاعر : نعيب زماننا والعيب فينا     وما لزماننا عيب سوانا

[2] قد يعتبر إنسان أن حياته الماضية (حين كان له صحة أو وفرة من المال) هي أفضل. أما الإنسان الروحي فهو يشعر أن اللحظة التي يعيشها الآن هي أمتع لحظات عمره وأسعدها في الرب. مدركاً أنها قد وهبت له لتوبته ونموه الروحي ولا ينشغل بالماضي "أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام" (في13:3).

 

الآيات (11،12): "الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس. لأن الذي في ظل الحكمة هو في ظل الفضة وفضل المعرفة هو أن الحكمة تحيي أصحابها."

نصيحة من الجامعة أن نقتني الحكمة (والمسيح هو أقنوم الحكمة). فالحكمة صالحة مثل الميراث= فالحكيم يستطيع تكوين ثروة، أما الجاهل الأحمق فهو بسهولة يضيع ثروة ورثها عن الأباء. ناظري الشمس= الأحياء. وبالحكمة ندرك أن الله هو ميراثنا الأبدي، ونحن نصيبه. وبالحكمة نلتقي بالسيد المسيح شمس البر فتستنير عيون قلوبنا وترى شمس البر. ولأن الحكيم قادر بحكمته أن يقتني ثروة إن أراد قال لأن الذي في ظل الحكمة هو في ظل الفضة= من تحميه كمن تحميه ثروته، بل هي أفضل فهي تحيي أصحابها، أما الفضة فقد تكون سبباً في هلاكهم.

 

الآيات (13،14): "انظر عمل الله لأنه من يقدر على تقويم ما قد عوجه. في يوم الخير كن بخير وفي يوم الشر اعتبر أن الله جعل هذا مع ذاك لكيلا يجد الإنسان شيئاً بعده."

أنظر عمل الله= قبل أن تعترض وتتذمر أنظر وتأمل ماذا أعطاك الله ولماذا والله أعطى بعض الناس أموالا ولكنه وضع الحكمة التي بها يتأملون في طرقه، في متناول الجميع. لأنه من يقدر على تقويم ما قد عوجه= أعمال الله كلها مستقيمة، ولكن في بعض الأحيان يظهر لنا أنها معوجة (في حالات المرض والموت المفاجئ والفشل والظلم .. ). ونحن نتصور أنها معوجة لأننا لا نقدر أن نفهمها. هكذا تصوَّر بني إسرائيل أن الله ظللهم إذ وجدوا البحر أمامهم وجيش فرعون من خلفهم. وقد نتصور أن طريق الله معوجة إذ هي ليس حسب إرادتنا، ونحن غير قادرين على تغيير إرادة الله فلنسلم بأن حكمته أرفع من حكمتنا. في يوم الخير كن بخير وفي يوم الشر إعتبر= قد يسمح الله لك بأيام أحداثها مفرحة فافرح بها، وإن سمح بأيام فيها أحداث محزنة فنتأمل حكمته وننتهزها فرصة للتوبة. فالله في محبته يهبنا بركات لنشكره ونفرح ويهبنا تأديبات لننتفع بها ولبنياننا، والله يستخدم هذه وتلك لإصلاح طبيعتنا المعوجة، فلنقبل من يده كل شئ دون تذمر= إن الله جعل هذا مع ذاك .. لكيلا يجد الإنسان شيئاً بعده= هذه الآية يترجمها اليسوعيون "لكي لا يطلع البشر على شئ مما يكون فيما بعد" فالله رتب أمور الإنسان بحيث أنه لا يعرف ما سيحدث له في المستقبل، وعليه أن يتقبل الحاضر كما هو، واثق أن الله يدبر الخير للمستقبل، وحتى لو كان من وجهة نظري أن الأمور تسير بطريقة معوجة، وحتى لو جاء الشر مع الخير فعلينا أن نثق ونصبر. واليهود يفسرونها هكذا "حتى لا يجد الإنسان نقصاً في تدبير الله".

 

آية(15): "قد رأيت الكل في أيام بطلي قد يكون بار يبيد في بره وقد يكون شرير يطول في شره."

أيام بطلي= قد تكون الأيام التي انحرف فيها سليمان وقد تكون إشارة لكل أيام حياته على الأرض، فهي في نظره قصيرة والعالم كله باطل. ومع أن سليمان هو أعظم ملوك الأرض فهو يسمى أيام حياته على الأرض أيام بطلي. قد يكون بار يبيد في بره= أي قد يموت بار في سن مبكرة، فالله رآه ثمرة ناضجة، حان وقت اقتطافها، وإن بقيت على الشجرة تفسد، وكثيرون يضمهم الله مبكراً من وجه الشر. وكثيرون أبرار يؤدبهم الرب بتجارب شديدة ليكملوا. وقد يكون شرير يطول في شره= فالله قد يعطي فرصة عمر طويل للشرير لعله يتوب، وقد يتأنى ولا يعاقبه. عموماً الله له حكمته التي لا تناقش.

 

الآيات (16-18): "لا تكن باراً كثيراً ولا تكن حكيماً بزيادة لماذا تخرب نفسك. لا تكن شريراً كثيراً ولا تكن جاهلاً لماذا تموت في غير وقتك. حسن أن تتمسك بهذا وأيضاً أن لا ترخي يدك عن ذاك لأن متقي الله يخرج منهما كليهما."

يدعونا الجامعة إلى الطريق المعتدل في كل شئ، دون تطرف يميناً أو يساراً لا تكن باراً كثيراً= مثل الفريسيين "لعلة يطيلون صلواتهم" (مت23-33). وهناك من يفرط في الأمور الروحية فيتعب سريعاً لذلك يقول بولس الرسول (رو3:12). فهناك من يحدد لنفسه أصواماً بزيادة تفقده القدرة على التركيز، وهناك من يقرأ الإنجيل لفترات طويلة في أيام الإمتحانات، وهناك من يحب البتولية فينظر للزواج على أنه دنس. (أهمية المرشد الروحي) لا تكن حكيماً بزيادة= لا تتصور أنك أحكم من كل من هم حولك، ولا تتكبر وتغتر وتضع نفسك في موضع المنتقد والمعلم للجميع، ولا تتصور نفسك المصلح لهذا الكون. موسى تصوًّر هذا أنه مصلح شعب إسرائيل والله لم يكن قد أرسله بعد فجلب المتاعب على نفسه= لماذا تخرب نفسك ولذلك قال المسيح للفريسيين ويل لكم أيها المراءون فهم يزيدون برهم لطلب المزيد من إعجاب الناس. لذلك فالخادم الذي يضيع كل وقته في الخدمة وينسى جلسته الهادئة في غرفته يخرب نفسه. لا تكن شريراً= قدِّم توبة سريعاً. لماذا تموت في غير وقتك= فالله يصير على الأشرار لعلهم يقدمون توبة، فإن لم يقدموا توبة يجازيهم، وفي شرهم يموتون جسدياً وروحياً. لاحظ أن دعوته هي للاعتدال فلا يكون الإنسان باراً بزيادة ولا أن يكون شريراً لذلك يقول حسن أن تتمسك بهذا (أي لا تكون باراً بزيادة) أيضاً لا ترضى عن ذاك (أن تمنع نفسك عن الشر) لأن متقي الرب يخرج منهما كليهما= متقي الرب يتفادى التطرف في كلا الإتجاهين.

 

الآيات (19،20): "الحكمة تقوي الحكيم اكثر من عشرة مسلطين الذين هم في المدينة. لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ."

كثيرون يظنون أن لو لديهم سلطة وقوة لأصلحوا الفساد المتفشي وسط الناس ولكن سليمان يضع هنا مبدأين في منتهى الأهمية:

1-    لا إنسان صديق .. لا يخطئ. قارن مع (1يو8:1)

2-  الحكمة تفضل على السلطة = الحكمة تقوي الحكيم أكثر من عشرة مسلطين الذين هم في المدينة= فالذي يملك السلطة والقوة يخاف منه الناس وربما يمتنعوا عن فعل الشر خوفاً منه، ولكن يفعلونه سراً. فالقانون والسلطة لا تطول القلب، أما الحكيم فبمحبته الحكيمة قادر أن يقنع الشرير بأن يكف عن شره بل ويتوب عنه. ورقم (10) هو رقم كامل أي الحكمة خير من التسلط عموماً. والحكيم يعلم أن لكل إنسان ضعفاته فلا يبالغ في حجم أخطاء الآخرين، بل هو بمحبته يمتص غضب الناس. إن وجود حكيم في مدينة لهو خير لها من وجود (10) مسلطين أي رقم كامل.

 

الآيات (21،22): "أيضاً لا تضع قلبك على كل الكلام الذي يقال لئلا تسمع عبدك يسبك. لأن قلبك أيضاً يعلم أنك أنت كذلك مراراً كثيرة سببت آخرين."

ما دمنا نهتم بأن نرضى الله فعلينا أن لا نهتم بما يقوله الناس عنا. فالحكيم لا يفرح بالمديح ولا يحزن بالذم (2كو7:13-9) نجد بولس لا يهتم بالمدح ولا بالذم فهو مشغول بغيره + 1كو1:4-5). بل أن من يهتم ويضع قلبه عن ماذا يقول عنه الناس سيكتشف أشياء مؤلمة فهناك من يمدحه ليتملقه، وهناك من يسبه من وراء ظهره متصوراً أنه لا يعرف، فلا يفرح بمن يمدحه ولا يحزن بمن يسبه. فالمديح لن يزيده شيئاً والذم لن ينقصه شيئاً. ومن يهتم بمديح الناس سينحرف إلى صنع البر زيادة. ومن يهتم بأن يعرف من الذي يذمه، قد يكتشف أن عبده الذي تحت سلطانه يسبه.فلننشغل بأبديتنا فهذا أفضل. وهناك سبب أهم فإذا كناَّ نحن نخطئ أحياناً ونسب آخرين فلماذا نحزن إذا حدث معنا نفس الشيء وعرفنا أن هناك من يسبنا.

 

الآيات (23-25): "كل هذا امتحنته بالحكمة قلت أكون حكيماً أما هي فبعيدة عني. بعيد ما كان بعيداً والعميق العميق من يجده."

لقد وضع كل عزمه أنه يبلغ الحكمة كطريق للبر، بكل قلبه، وما وجده أكتشف أنه لا شئ بالنسبة لما لم يجده= أما هي فبعيدة عني. وما كان بعيداً ظل بعيداً والعميق العميق من يجده= العميق والبعيد هو الله وطرقه وحكمته وهذه لن يصل إليها أحكم الحكماء، بل كلما دخل إلى أعماق الحكمة زادت حيرته واكتشف أن كم هي بعيدة عنه هذه الحكمة (رو33:11-36). ولأعرف الشر أنه جهالة= لقد اختبر سليمان أن الشر جهالة ولكن الثمن كان غالياً، فهو عانى معاناة شديدة من ضمه نساء كثيرات بل سقط في عبادة الأوثان بسببهن واختبر جنون سقطته=  الحماقة أنها جنون.

 

الآيات (26-28): "درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلاً ولأعرف الشر انه جهالة   والحماقة أنها جنون. فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود الصالح قدام الله ينجو منها أما الخاطئ فيؤخذ بها. انظر هذا وجدته قال الجامعة واحدة فواحدة لأجد النتيجة. التي لم تزل نفسي تطلبها فلم أجدها رجلاً   واحداً بين  ألف وجدت أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد."

الأمر المتعب لسليمان والخطية التي أسقطته هي النساء، وهو هنا يذكر ما اختبره. ولكن مشكلة سليمان أنه أحاط نفسه بألف امرأة فكيف يجد فيهن من تكون مخلصة له، هذا الخطأ هو خطأه هو. وهو أحاط نفسه برجال يتملقونه. وهو اكتشف أنه يمكنه أن يجد رجلاً مخلصاً وسط 1000رجل أما امرأة واحد بين الألف لم يجد، فهن دائماً في صراع وغيرة ولكن السبب واضح أنه تصرفه هو. عموماً فالنساء الزانيات هن أمر من الموت= فهن يتسببن في هلاك النفس أبدياً وفي خراب الإنسان على الأرض وبكلامهن المعسول ينصبن الشباك للجهال فيسقطوا ويفقدوا حريتهم= يداها قيود الصالح قدام الله ينجو منها= فمن ينجو من هذه الخطية يشكر الله الذي نجاه، فنجاته راجعة لحماية الله وليس لقوته الشخصية. الخاطئ يؤخذ بها= فمن يحفظ نفسه ويرضى الله ينجيه الله منها. ومن يستهتر بوصايا الله تكون هذه الخطية عقوبته. فالانحدار في الخطايا مثل من ينحدر على تل، إذا بدأنا الإستسلام لباقي الخطايا يسهل وقوعنا في هذه الخطية البشعة. أو من يستسلم في حياة الانفصال عن الله ويخرج من حماية الله يسقط في هذه الخطية. وهي تأسر الإنسان كما بقيود، فيفقد حريته الداخلية، حرية مجد أولاد الله. وهذه المرأة الزانية غير صادقة ولا مخلصة= أما امرأة فبين أولئك لم أجد. (راجع أم16:2-19+ 1:5-11+ 24:6-35+ 1:7-27). واحدة فواحدة= هو حاول حصر الخطايا والسقطات والجهالات التي صنعها فوجدها كثيرة، وربما هو حاول حصر كل الخطايا الموجودة في العالم فوجدها كثيرة ولكنه وجد أن أبشع الخطايا هي الزنا، وأن النساء الساقطات اللاتي يغوين الجهلاء هم أفظع شئ ومن يسقط معهم يخرب. التي لم تزل نفسي تطلبها= كان يطلب أن يعرف كل الشرور ويدرس باهتمام ما هو أعظم شر. ولكنه للأسف دفع ثمناً غالياً لأنه أحاط نفسه بنساء شريرات وثنيات ساقطات.

 

آية(29): "انظر هذا وجدت فقط أن الله صنع الإنسان مستقيماً أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة."

لئلا يظن أحد أن الله خلق الإنسان شريراً أو أن المرأة أشر من الرجل أكمل حديثه.. الله صنع الإنسان مستقيماً .. أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة= أي تصرفات شريرة.


 

الإصحاح الثامن

آية(1): "من كالحكيم ومن يفهم تفسير أمر حكمة الإنسان تنير وجهه وصلابة وجهه تتغير."

من كالحكيم = الجامعة يكشف عن أهمية الحكمة في حياة الإنسان. ومن يفهم تفسير أمر= الحكيم يدرك ما وراء الأحداث، والحكمة تهبه تفسيراً لمعاملات الله معه ومع غيره فيصبح نافعاً لكل من حوله. حكمة الإنسان تنير وجهه= يُعرف الحكيم من وجهه وهناك من قال "إن وجه الإنسان هو شباك النفس يرى منه النور الداخلي" ونفهم أن الحكمة هو الأقنوم الثاني (اللوغوس) أي السيد المسيح، فمن يقبل السيد المسيح ساكناً فيه، يعطيه المسيح عذوبة وإتساع قلب ويرفع الفكر فوق كل المتاعب والصغائر فيسلك بحكمة علوية يفهم بها ويتعرف الإنسان بها على خطة الله فَيُدْرِكْ لماذا يسمح بالفرج أحياناً وبالضيق أحياناً فيستنير وجهه بالفرح والرجاء تحت كل الظروف، بل يبعث هذا الرجاء فيمن حوله. وهكذا موسى استنار وجهه حينما نزل من على الجبل. وصلابة وجهه تتغير= صلابة الوجه تأتي من الغيظ والغضب والطبيعة العنيفة والضيق. ومن يملأ سلام المسيح قلبه تتغير طبيعته هذه، بل تكون له النظرة الحانية حتى على الخطاة، وبهذا تتميز الحكمة الروحية عن الحكمة العالمية. ومن يملك الحكمة يكون مالكاً لروح الاتضاع التي بها يخضع لمن هم أعلى منه.

 

آية(2): "أنا أقول احفظ أمر الملك وذاك بسبب يمين الله."

هنا يعطي نموذج لما تعمله الحكمة الروحية، فالحكيم يخضع للملك فلا يناله أذى، الاتضاع يلزم أن يكون مع الجميع، ويجب أن يكون للسلطات المرتبة من الله، فالله ضابط الكل هو الذي سمح بها. حتى وإن كان الحاكم ظالم. أنا أقول أحفظ أمر الملك= هنا دعوة للخضوع للقوانين وأن نلتزم باحترامها (طبعاً لو كانت هذه القوانين ليست ضد وصايا الله) "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" + (رو1:13،2). وذاك بسبب يمين الله= كان هناك عهد بين الملك والله وبين الملك والشعب، والله شاهد على كليهما. الملك يقسم أن لا يخون أمانة الله والشعب يقسم أن لا يخون أمانة الملك. والحكيم يخضع للملك لأنه يؤمن أن يمين الله أي قوته هي التي سمحت بقيامه كملك حتى لو كان ظالماً، فالله هو ضابط الكل، لذلك يخضع الحكيم للملك فهو معين من قبل الرب. وقيل ملكوا شاول أمام الرب (1صم15:11) وراجع (1أي3:11+ 2أي16:23+ 2صم1:5-3+ 2مل17:11+ 1أي24:29) (هذا ما حدث مع داود/ سليمان/ يوآش). ولذلك إن خالف الملك وصايا الله ودعانا أن نترك الله علينا أن نطيعه. وإذا كان احترام الملك وطاعته واجبة، فكم بالأولى طاعة الله ملك الملوك.

 

آية(3): "لا تعجل إلى الذهاب من وجهه لا تقف في أمر شاق لأنه يفعل كل ما شاء."

إذا ثار الملك في وجه أحد، وقال كلاماً لا يرضى من يسمعه فنصيحة سليمان أن لا يثور الشخص في وجه الملك ويخرج من أمام الملك في حالة عصيان وثورة وغضب وذلك لسلامة الشخص= لا تعجل إلى الذهاب من وجهه. لا تقف في أمر شاق (شرير) أي لا تتآمر وتعصى الملك، لأن له سلطان أن يفعل ما يشاء.

 

الآيات (4،5): "حيث تكون كلمة الملك فهناك سلطان ومن يقول له ماذا تفعل. حافظ الوصية لا يشعر بأمر شاق وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم."

الحكيم ينصح كل إنسان أن يفهم أن الملك له سلطان وهو يعطي أوامر علينا أن ننفذها ولا أحد له الحق أن يقول له ماذا تفعل. وحافظ الوصية= أي من يلتزم بأوامر الملك. لا يشعر بأمر شاق= أي يحيا حياة هادئة (رو3:13). وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم= يسلم الحكيم للظلم ويحتمله بالصبر فهو يعرف أن الله يسمح بالظلم لوقت محدود ثم ينهى حكم الظالم. ولكن أحكام الله لها وقت= الوقت والحكم= والحكيم لا يتعجلها ويصبر. وما دمنا نحفظ وصية الرب ونقبل ونحترم أوامر الرؤساء في الرب يلزمنا أن لا نخاف السلطان.

 

آية(6): "لأن لكل أمر وقتاً وحكماً لأن شر الإنسان عظيم عليه."

لأن لكل أمر وقتاً وحكماً= الحكيم يدرك أن الله يتدخل في الوقت الذي يحدده هو فكل شئ محسوب عند الله وفق خطة إلهية وبسماح إلهي. لأن شر الإنسان عظيم عليه جهل الإنسان أن الله له خطة فيثق في الله، وجهل الإنسان بعناية الله الفائقة شر عظيم عليه إذ حينما يقع عليه الظلم سيتصور أن الله تخلى عنه ويصطدم مع الله، وجهل الإنسان بأن الله له وقت مناسب يتدخل فيه (ملء الزمان) سيجعله يشعر أن الله غير عادل وبهذا يخطئ الإنسان ويكون شره عظيماً عليه. وشر الظالم عظيم عليه لأن الله سيحاسبه عما فعله بسلطانه، والحكيم يعرف أن الله لابد وسيحاسبه. الروح القدس يهب الإنسان استنارة فيعرف بها أننا كأبناء لله، موضوع حبه، يهتم بنا وسط الأحداث والمظالم.

 

الآيات (7،8): "لأنه لا يعلم ما سيكون لأنه من يخبره كيف يكون. ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح ولا سلطان على يوم الموت ولا تخلية في الحرب ولا ينجي الشر أصحابه."

لأنه لا يعلم ما سيكون= المستقبل مجهول بأحداثه وظروفه. من يخبره كيف يكون= فلسنا نعرف الشر قبل حدوثه لنتجنبه. ولا نعرف متى سيأتي الموت= ليس لإنسان سلطان على الموت= وهذه موجهة للظالم ليعلم أنه سيموت ربما فجأة فيخشى الله وموجهة للمظلوم فيعلم أن حياته ليست في يد الظالم بل في يد الله "لم يكن لك علىّ سلطان إن لم تكن قد أعطيت من فوق (يو11:19). ولا تخلية في الحرب= هل يقدر الجندي أن يهرب من المعركة أو يستعفى من الخدمة والحرب أمامه، هكذا وُضِعَ على الإنسان أن يكون طرفاً في معركة دائرة بين الله وإبليس، ولكن إبليس له أعوانه من أمثلة الحكام الظالمين وغيرهم من الأشرار الذين يسببون آلاماً لشعب الله، والله يزودنا بأسلحة للحروب الروحية والحكيم يعرف أن الله لابد وسيغلب (2كو3:10-5+ أف10:6-20).بل أحد أسلحة إبليس هو الموت والمسيح غلبه فنقول "أين شوكتك يا موت".

 

آية(9): "كل هذا رأيته إذ وجهت قلبي لكل عمل عمل تحت الشمس وقتما يتسلط إنسان على إنسان لضرر نفسه."

على كل ظالم أن يعلم أنه إذ يمارس أعمال ظلمه فإنما هذا لضرره. فقلب الظالم يتقسى وضميره يموت، وهو يبتعد عن الله، فيفقد الفرح في هذا العالم، بل يفقد حياته الأبدية.

 

الآيات (10-13): "وهكذا رأيت أشراراً يدفنون وضموا والذين عملوا بالحق ذهبوا من مكان القدس ونسوا في المدينة هذا أيضاً باطل. لأن القضاء على العمل الرديء لا يجرى سريعاً فلذلك قد امتلأ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر. الخاطئ وأن عمل شراً مئة مرة وطالت أيامه إلا أني اعلم انه يكون خير للمتقين الله الذين يخافون قدامه. ولا يكون خير للشرير وكالظل لا يطيل أيامه لأنه لا يخشى قدام الله."

الذين عملوا بالحق ذهبوا من مكان القدس ونسوا= هذه تفهم بطريقتين:

1.  الذين عملوا بالحق هم الأشرار الذين كان عملهم أن يحكموا بالحق في مكان القدس أي مكان القضاء (تث17:1 + مز1:82). ولكنهم لم يحكموا بالحق، بل ظلموا المساكين. هؤلاء وإن كان لهم كرامة وهيبة في حياتهم وكرامة في زمنهم، إلا أنهم بعد موتهم نساهم الناس أن تناسوهم بسبب ظلمهم، فهم كرموهم في حياتهم خوفاً من سلطتهم. والآن هم ذهبوا للقبر، وهم أمام الله، فأين كرامتهم إذ نساهم الناس، بل هم في خوف ينتظرون عدل الله.

2.  الذين عملوا بالحق= الذين كانوا يحكمون بالحق طردهم الأشرار من أماكنهم ليتسلطوا هم بالظلم. لأن القضاء على العمل الردئ لا يجري سريعاً= الله يصبر على الظالمين والأشرار، ولا يجري الحكم عليهم سريعاً، لعلهم يتوبون، ولكن كثيرين عوضاً عن التوبة يستهينون بطول أناة الله. ولكن الله وإن أبطأ في القصاص فهو حتماً سيعاقب وبصرامة. وربما يسأل أحد وما ذنب المظلومين خلال هذه الفترة التي فيها يتأنى الله؟ والإجابة إني أعلم أنه يكون خير للمتقين الله فالله قادر أن يحول الشر إلى خير لخائفي الرب، حدث هذا مع أيوب، بل يكون الله مع المظلوم مرافقاً له أثناء فترة تنقيته، فترة الشر هي شر بالمفهوم البشري، لكن بالمفهوم الإلهي "كل الأمور تعمل معاً للخير" ونعود لبداية الإصحاح فالحكيم يفهم تفسير أمرٍ (آية1). وسيفهم لماذا سمح الله بالضيق له. بل سيرافقه الله ويعزيه، فلن تهتز سعادة أولاد الله وسط الضيقة، ولا شئ يفصل شركتهم مع الله، فهم واثقين أنهم في يد الله محفوظين وأن الله سينجيهم فيتهللون وسط الضيقة وتنير وجوههم (آية1) (رو35:8) أما الأشرار فعلي العكس وإن بدوا يانعين لكن أعماقهم مملوءة بؤساً، واللعنة تكون ثمرة طبيعية لأفعالهم، تحل بهم حتماً ما لم يتوبوا (إش10:3،11). وكالظل لا يطيل أيامه= حياته تنتهي بلا منفعة، فالظل لا نفع له، وهي كالظل غير حقيقية ومائلة للزوال، إذا غربت شمس حياتهم سيصيرون لا شيء وبلا نفع كالظل الذي سيختفي، لن يتركوا وراءهم إسماً صالحاً. ونلاحظ الترمومتر الذي به نتعرف على الأبرار والأشرار، فالحكيم يدعو الأبرار متقيا الله وعن الشرير يقول أنه لا يخشى الله. فخوف الله هو الترمومتر.

 

آية(14): "يوجد باطل يجري على الأرض أن يوجد صديقون يصيبهم مثل عمل الأشرار ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصديقين فقلت أن هذا أيضاً باطل."

بعد أن كان النور الإلهي قد أضاء ذهن سليمان، فإكتشف أن الله قد يسمح للشرير بأن يظلم ولكن إلى حين، وأن الله سيحول الشر للخير للمظلوم البار، عاد إلى حكمته الإنسانية فعاد وتساءل، وعاد للحيرة قائلاً أن ما يحدث هو باطل= أي أن يُظلم البار وأن الشرير يجد خيراً.

 

الآيات (15،16): "فمدحت الفرح لأنه ليس للإنسان خير تحت الشمس إلا أن يأكل ويشرب ويفرح وهذا يبقى له في تعبه مدة أيام حياته التي يعطيه الله إياها تحت الشمس. لما وجهت قلبي لأعرف الحكمة وانظر العمل الذي عمل على الأرض وأنه نهاراً وليلاً لا يرى النوم بعينيه."

ما قاله سليمان هنا واجب على كل مؤمن بالله أن لا يفقد فرحه الداخلي، بل يشكر الله على كل الظروف حاسباً أكله وشربه وتعبه عطية الله، واثقاً في حياة أبدية فيها الفرح الحقيقي للأبرار، حيث العدل مكان الظلم والراحة عوضاً عن التعب، ومثل هذه الحياة تمدح= فمدحت الفرح الناشئ عن الإيمان والثقة بالله. ولكن سليمان هنا كان في حيرته لا يقصد هذا. وقوله فمدحت الفرح= يقصد به أنه طالما أن الأبرار لا يكافأون بعدل والأشرار في سعادة. إذن فلينعم الإنسان بأفراحه الزمنية قدر ما يستطيع، وهذا التفسير يتفق مع باقي الإصحاح. فهو إذ عاد لتفسير الأمور في ضوء حكمته الإنسانية تعب وطار النوم من عينيه= إنه نهاراً وليلاً لا يرى النوم بعينيه. والسبب أنه عاد للتفكير البشري لما وجهت قلبي لأعرف الحكمة. والسبب أن الحكمة البشرية عاجزة عن فهم كل أسرار معاملات الله مع البشر وعنايته الفائقة بأولاده. فهذه الأمور لا يجدي فيها التفكير بالعقل البشري بل بروح الصلاة والحكمة الإلهية نعرف إرادة الله فيستضئ الوجه ونسلم لله كل الأمور.

 

آية(17): "رأيت كل عمل الله أن الإنسان لا يستطيع أن يجد العمل الذي عمل تحت الشمس مهما تعب الإنسان في الطلب فلا يجده والحكيم أيضاً وأن قال بمعرفته لا يقدر أن يجده."

لا يجد العمل= أي يفهم كل ما يعمله الله ويوفق بين عدل الله وصلاحه وألام الأبرار. والحكيم أيضاً. وإن قال بمعرفته= أي إن إدّعى الحكيم الحكمة والمعرفة= لا يقدر أن يجده أي لا يستطيع أن يجدها ويفهمها. فأسرار الله أعمق من أن يكتشفها الإنسان بعقله. أما الروح القدس روح الحكمة فيشرح لنا كل شئ (1كو6:2-16).


 

الإصحاح التاسع

الآيات (1-3): "لأن هذا كله جعلته في قلبي وامتحنت هذا كله أن الصديقين والحكماء وأعمالهم في يد  الله الإنسان لا يعلم حباً ولا بغضاً الكل أمامهم. الكل على ما للكل حادثة واحدة للصديق وللشرير للصالح وللطاهر وللنجس للذابح وللذي لا يذبح كالصالح الخاطئ الحالف كالذي يخاف الحلف. هذا اشر كل ما عمل تحت الشمس أن حادثة واحدة للجميع وأيضاً قلب  بني البشر ملأن من الشر والحماقة في قلبهم وهم أحياء وبعد ذلك يذهبون إلى الأموات."

نجد سليمان هنا مازال في بحثه عن آلام الأبرار ونِعَمْ الأشرار، ويقبل أن يسترسل في تفكيره فيصيبه الإحباط، بل يصيب من يقرأ، وضع بإرشاد الروح القدس قاعدة ذهبية أن الكل في يد الله. والله رحوم وحنون ومحب، فمن المؤكد أن أعماله ستكون للخير لكل من يحبه، ومن يدرك حب الله له، هو من يحب الله. وإن لم نفهم حكمة الله وتصرفاته فعلينا أن نثق فيه وهذا هو الإيمان. ولكن سليمان هنا يعرض تفكيره وهو تفكير كل إنسان في ضعف إيمانه يتساءل حين يقع في تجربة، هل الله يحبه أم يبغضه. فوسط مرارة الضيق تعبر بالإنسان أفكار تحطمه، وأحياناً يتصور الإنسان أن الله يبغضه بل ينتقم منه وأنه لا يشعر بآلامه كإنسان فيتساءل لماذا يسمح الله لي بتجربة مؤلمة تكاد تحطم نفسيتي وتفقدني إيماني، إلا أن المؤمن الحقيقي لا يليق به أن يشك في عناية الله به واهتمامه بكل أموره الصغيرة والكبيرة. وما يجب أن نعترف به أنه كما تساءل سليمان هذه التساؤلات وهو في مرحلة تفكيره بعقله البشري، فكل منا معرض لأن يفكر بنفس الأسلوب. والكتاب المقدس يُصَّوِرْ الواقع ويرينا طريقة التفكير البشري وكيف يهتدي الإنسان لما فيه راحته. وبداية إجابة الله على تساؤلات الإنسان هذه، أن يعلم أن كل الأمور هي في يد الله. والإنسان في ضعفه لا يعلم الصالح له= لا يعلم حباً ولا بغضاً أي لا يستطيع أن يحكم من خلال الحوادث الخارجية في حياته، هل الله يحبه أم يبغضه فهل كان الله يبغض المسيح وهو على الصليب، وهل أبغض الله بولس الرسول إذ كان مصاباً بشوكة في الجسد. فالإنسان إذاً يخطئ إذا تصوّر أن الظروف الخارجية هي مقياس لحب الله للإنسان أو لبغضه له. الكل أمامهم= "لكنهم معرضون لجميع الحوادث" بحسب الترجمة اليسوعية. الكل على ما للكل= كل الناس معرضون لكل الحوادث والأحداث، فما يحدث للصديق يحدث للشرير. كل الأحداث سواء ما يعتبره الإنسان شراً أو ما يعتبره خيراً تحدث للجميع. فالأمراض مثلاً تصيب البار وتصيب الشرير. ولكن من يحب الله، يخرج له الله من الآكِل أُكْلاً ومن الجافي حلاوة، ومما يعتبره شراً يخرج له منفعة وخيراً. وما يجعل الإنسان يتساءل ويتشكك، أنهم لا يرون فارق في الأحداث الخارجية التي تحدث للبار والشرير، ولا يعرفون تفسير للأحداث التي تحل بهم، فلا فارق بين للصديق وللشرير. للصالح (البار في أمور حياته) وللطاهر (طقسياً) والنجس (طقسياً) للذابح (من يقدم ذبيحة لله أي من يقدم عبادة لله كإنسان تقي). وغير الذابح (الشرير الذي لا يقدم عبادة لله). الحالف (من يخشى الله ويحلف باسمه بالحق تث13:6) والذي يخاف الحلف= (الشرير ولأنه شرير يخاف أن يحلف). خطأ أن ننظر للأمور الخارجية كمقياس لحب الله لنا. لذلك فأبناء الله ينظرون داخلهم ليروا يد الله تبني ملكوته داخلهم. هكذا يفكر بنو الملكوت. أما الأشرار الحمقي إذ يرون تشابه الظروف الخارجية التي تقع على البار وعلى الشرير يندفعون في شرهم غير مبالين= قلب بني البشر ملآن من الشر= أي لا يخافون من الخطية فهم لا يرون تمييزاً في النواحي المادية بين البار والشرير. والحماقة في قلبهم= الخطية حماقة، والخاطئ مجنون إذ يختار طريق دمار نفسه، هذا ما ينبغي أن يعرفه كل من يختار طريق الشر فهم ينسون أنهم يذهبون إلى الأموات. ولكن سليمان اعتبر أن هؤلاء الأشرار إذ وجدوا أن حادثة واحدة تقع للجميع أبراراً وأشراراً. وأن الظروف الخارجية تتشابه فلم يعتبروا وتقسوا في طريقهم= والحماقة في قلبهم= هو رأى أن هذا هو أشر كل ما عُمِلَ تحت الشمس= أن يختار الأشرار طريق الشر وهم أحياء وينسون أنهم سيموتون ويوضع حد لمتعهم الشريرة وظلمهم ولكن بعد أن عاثوا في الأرض فساداً وخسروا أبديتهم. وهو رأى أنه أشر كل ما عُمِلَ على الأرض لأن الظلم قد يجعل البار يسقط.

 

آية(4): "لأنه من يستثنى لكل الأحياء يوجد رجاء فان الكلب الحي خير من الأسد الميت."

لكل الأحياء يوجد رجاء= المريض له رجاء أن يُشفى طالما هو حي، فنحن الآن في سباق وطالما نحن أحياء فالأمل أن نفوز في السباق هو أمل قائم، والإنسان الحي نترجي توبته أما الميت فقد فقد فرص التوبة. ومهما وصل شر الإنسان ونجاسته فله فرصة للتوبة= فإن الكلب الحي= أي الخاطئ النجس (الكلب من الحيوانات النجسة في العهد القديم، وقد أطلق اليهود على الوثنيون بسبب ذلك لفظ كلاب) خير من أسدٍ ميت. فالكل سيموت= لأنه من يستثني ولأن الكل سيموتون فعلي كل حكيم أن ينتهز فرصة حياته ويقدم توبة، فبعد الموت لن ينفع شئ إلا التوبة، لن تنفع مقتنيات ولا ثروة ولا جاه.

 

الآيات (5،6): "لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون أما الموتى فلا يعلمون شيئاً وليس لهم اجر بعد لأن ذكرهم نسي. ومحبتهم وبغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان ولا نصيب لهم بعد إلى الأبد في كل ما عمل تحت الشمس."

لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون= ومن يعلم أنه سيموت يعمل للحياة الأبدية التي سيذهب إليها، هذه هي المعرفة الفعالة التي تدفع صاحبها للاستعداد لذلك اليوم أما الموتى فلا يعلمون= قد تعني أن من مات ليس لديه فرصة للتوبة ولا عودة للحياة مرة أخرى. وقد تعني أن الخاطئ الذي لا يريد أن يقدم توبة هو في حقيقته ميت "لك اسم أنك حي وأنت ميت" فالإصرار على الخطية هو موت، لذلك قال الأب عن الابن الضال حين تاب "إبني هذا كان ميتاً فعاش". وهذا الخاطئ الميت لا يعلم أنه ستأتي ساعة يفارق فيها هذا العالم بالجسد، لذلك هو لا يستعد بالتوبة. ليس لهم أجر بعد= هو لا يقصد أجر على أعمالهم الروحية، إنما يقصد الأجر على الأعمال المادية فمن مات لن يأخذ معه ثروته، بل كل شئ مادي سينتهي بالنسبة له. وهذا ما قاله بولس الرسول "الأطعمة والجوف يبيدان كلاهما" (1كو13:6+ يو27:6). لأن ذكرهم نُسِىَ صار هو وأملاكه في حكم النسيان، أين ذهبت محبته للعالم، وبغضه وحسده للآخرين. هذا كله ذهب معه، سيذهب معه فقط أعماله الصالحة أو أعماله السيئة. لا نصيب لهم بعد إلى الأبد= ليس للموتى نصيب في كل ما على الأرض= كل ما عمل تحت الشمس.

 

الآيات (7-10): "اذهب كل خبزك بفرح واشرب خمرك بقلب طيب لأن الله منذ زمان قد رضي عملك.  لتكن ثيابك في كل حين بيضاء ولا يعوز رأسك الدهن. التذ عيشاً مع المرأة التي  أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إياها تحت الشمس كل أيام باطلك لأن ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس. كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها."

لنمارس حياتنا بفرح وبقلب صالح. إذهب كل خبزك بفرح= لا تضطرب ولا تفكر بحيرة، لماذا لم يعطني الله هذا أو ذاك، بل إفرح بما أعطاه لك الله وعِشْ لمجد الله. لأن الله منذ زمان قد رضى عن عملك= ودليل أن الله مازال راضياً عليك أنك مازلت حياً حتى هذه اللحظة ولك رجاء في التوبة، وأن الله هو الذي أعطاك هذه الخيرات فاستعملها بروح الشكر (1كو31:10). وروحياً نفهم أن نعيش في الكنيسة نتغذى على جسد المسيح ونشرب خمر الأفراح الروحية التي يعطيها الروح القدس الذي حصلنا عليه بالميرون= ولا يعوز رأسك الدهن= طبعاً سكب الدهن هو عمل الكاهن ولكن مسئولية الفرد هي الإمتلاء من الروح "إضرم موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ" (2تي6:1) وحينما نمتلئ من الروح سيملأنا فرحاً. ولتكن ثيابك بيضاء= كان اليهود يلبسون ثياباً بيضاء في احتفالاتهم وأعيادهم علامة على طهارتهم وعلامة على فرحهم. وهذه دعوة للتوبة، لنخلع ثيابنا القديمة ونلبس ثياب بر المسيح (رؤ4:3 +11:6). إلبسوا المسيح (رو14:13). التذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها لاحظ أن سليمان الذي جرَّب تعدد الزوجات يوصي هنا بزوجة واحدة بعد أن جربّ شر تعدد الزوجات. والإنسان الروحي يرى في حياته العائلية المقدسة صورة حية لعلاقة الحب التي تربط المسيح بكنيسته. والحب العائلي الموجود هنا على الأرض سيمتد إلى السماء. كل أيام باطلك= على الزوجان أن يذكرا أن حياتهما على الأرض قصيرة، لذلك عليهما أن يهتما بالأكثر بما هو للحياة الأبدية. لأن ذلك نصيبك= هو نصيب صالح من الله أن يكون البيت سعيداً وفي محبة، المؤمن يحسب زواجه عطية إلهية. وكل ما تجده يدك لتفعله فإفعله بقوتك جاهد قدر استطاعتك في حياتك المادية وجاهد حتى الدم في حياتك الروحية. فبعد الموت لا عمل ولا جهاد ولا فرصة لأن تعمل مرة ثانية. ويقول ذهبي الفم "تأكد أنه يستحيل أن يبذل الإنسان كل جهده ليخلص ويفعل كل ما في قدرته ويتركه الله" (يو4:9).

 

آية(11): "فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعي ليس للخفيف ولا الحرب للأقوياء ولا الخبز للحكماء ولا الغنى للفهماء ولا النعمة لذوي المعرفة لأنه الوقت والعرض يلاقيانهم كافة."

دعانا سليمان في آية (10) للجهاد في أعمالنا في حياتنا وفي جهادنا الروحي. وهنا ينصح بأن نترك النتيجة في يد الله، فكثيراً ما تكون نتيجة أعمالنا بعكس ما نتوقع، هنا دعوة للإتكال على الله، والثقة في أن ما يسمح به هو للخير، لكن علينا أن نجاهد وأن لا نكف عن الجهاد السعي ليس للخفيف= نتيجة السباق ليست للسريع (ترجمة إنجليزية) فخفيف القدم أي السريع ليس دائماً هو من يفوز في السباق فقد يحدث له ما يعطله مهما كان واثقاً في نفسه. ولا الحرب للأقوياء= فلقد هزم يوناثان جيش الفلسطينيين. ولا الخبز للحكماء= المقصود بالخبز الغني الكثير. ولا النعمة لذوي المعرفة= النعمة هي رضى العظماء. لأنه الوقت والعرض يلاقيانهم كافة= الوقت هو وقت العمل، والعمل لا ينجح إلا في وقته. والعرض هو ما لا ينتظره الإنسان وليس مستعداً له. فلا يضمن أحد نجاح عمله مهما كان قوياً وفهيماً، وهذا يعلمنا أن طرقنا ليست في أيدينا، إنما هي خاضعة لإرادة الله، فلنعمل بقدر إمكاننا وإن نجحنا فلنشكر الله وإن فشلنا فلنخضع لإرادته ونقنع بنصيبنا. وإننا نسلك بالإيمان لا بالعيان والإيمان هو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى. لذلك ليس من المهم أن تكون لدىّ قوة الآن فالله سيعطي في حينه القوة المطلوبة، وهذه هي الحكمة الحقيقية أن الله يعين الضعفاء بل هو قوتهم الخفية ولكن العالم لا يعير هذه القوة أي إلتفات بل يعتبر القوى المرئية. والمؤمن يعلم أنه إن نجح فلأن الله بارك في عمله، وإن فشل فلأن الله غير راضٍ عن هذا الطريق. وهو يعتمد على الله في جهاده الروحي وصراعه ضد الخطية وليس على قوته وبره، وفي جهاده في العالم يعتمد على حكمة الله وعنايته وليس على قوته الشخصية وحكمته، وأي نجاح مادي أو روحي لا ينسبه لإمكانياته هو بل لنعمة الله.

 

آية(12): "لأن الإنسان أيضاً لا يعرف وقته كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهلكة وكالعصافير التي تؤخذ بالشرك كذلك تقتنص بنو البشر في وقت شر إذ يقع عليهم بغتة."

لأن الإنسان أيضاً لا يعرف وقته= أي أن الإنسان لا يعرف وقت مصيبته أو سقوطه أو موته، لا يعرف ما قد يفاجأه به الزمن، فما قد يفرحنا من الأمور قد يكون سبب هلاكنا، فإنه كالسمكة التي قد تفرح بالطعم يُقدم لها فتجد نفسها في شبكة. فلماذا نحزن إذا فشلنا في مشروع ما، أو توقف مشروع كنا ننتظر نجاحه، فلربما قد أوقفه الله بعنايته لأنه يرى بعين رحمته أن فيه شركا لنا، ويحمل استمراره تجربة صعبة تهدد خلاصنا.

 

الآيات (13-15): "هذه الحكمة رأيتها أيضاً تحت الشمس وهي عظيمة عندي. مدينة صغيرة فيها أناس قليلون فجاء عليها ملك عظيم وحاصرها وبنى عليها أبراجاً عظيمة. ووجد فيها رجل مسكين حكيم فنجى هو المدينة بحكمته وما أحد ذكر ذلك الرجل المسكين."

هنا يمتدح سليمان الحكمة التي تفيد صاحبها وتفيد من حوله حتى وإن لم يقدر له الناس حكمته التي أنقذتهم ولم يشكروه عليها. ويسمى هذه الحكمة عظيمة عندي وهنا يضرب مثلاً بمدينة جاء عليها ملك عظيم وحاصرها وأنقذها حكيم مسكين (حدث هذا في 2صم15:20-22). فالحكمة بالنسبة للإنسان كالنور وسط الظلمة. وهذه القصة إثبات أن العالم باطل [1] فقوة الجيش المحاصر لم تنفعه بل هُزِم [2] الرجل الحكيم سبب الانتصار لم يذكره أحد ولم يشكره أحد. ومع هذا فسلاحنا ضد الزمن هو الحكمة الحقيقية.

تأمل: المدينة الصغيرة هي أشبه بإنسان تحاصره المشاكل والضيقات بل الموت في هذا العالم (أو بأسرة تصيبها المشاكل). فإذا تمسك هذا الإنسان بالمسيح ينجيه. فأن نقتني المسيح أقنوم الحكمة فهذا خير من القوة "ليس لنا ذهب ولا فضة ولكن الذي لي فإياه أعطيك" (أع6:2) فالرجل المسكين الحكيم الذي ينجي المدينة بحكمته هو المسيح الذي أخلى ذاته وحمل طبيعتنا، وقدَّم لنا صليبه حتى يعلن أن ضعفه أقوى من القوة، وفقره أغني من كل غني. ومع هذا ليس من يذكر هذا الرجل، إذ تخلى الكل عنه عند الصليب.. صار في عار الصليب خارج المحلة، جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله. إذن لنقتن مسيحنا الحكمة الحقيقية.

 

الآيات (16،17): "فقلت الحكمة خير من القوة أما حكمة المسكين فمحتقرة وكلامه لا يسمع. كلمات الحكماء تسمع في الهدوء اكثر من صراخ المتسلط بين الجهال."

الحكمة خير من القوة= الحكمة هي وجود المسيح في حياتي وهذا يعطيني قوة أكبر من قوة إبليس والخطية. فحكمة المسيح تغلبهما. ولكن العالم لا يفهمها= محتقرة وكلامه لا يسمع= فالعالم لا يفهم غير لغة القوة. كلمات الحكماء تسمع في الهدوء= المسيح كان لا يصيح ولا يسمع أحد صوته (إش2:42). أكثر من صراخ المتسلط بين الجهال= المتسلط هنا هو أكبرهم أو المتكلم في جماعتهم، فالجهال يظنون أنهم يغلبون بكثرة كلامهم وعلو أصواتهم، أما كلمات الحكماء تسمع في هدوء. وأعمال إبليس وخداعاته هي أشبه بصرخات متسلط قوي بين الجهال، والمسيح يسمع صوته في الهدوء بعيداً عن صخب العالم هو أتي ليحطم صرخات العدو العنيفة، واهباً إيانا روحه لكي نغلب بالحكمة الهادئة.

 

آية(18): "الحكمة خير من أدوات الحرب أما خاطئ واحد فيفسد خيرا جزيلاً."

الحكمة خير من أدوات الحرب= أي أكثر فعالية. أما خاطئ واحد فيفسد خيراً جزيلاً= إن تخلى إنسان عن الحكمة وسلك في الشر يفسد كل ما عمله. ويفسد ما حوله (عاخان مثلاً يش1:7-12). وعموماً فالهدم أسهل من البناء، وإسقاط الناس في الخطيئة أهون من تخليصهم منها، لأن الناس لا يعتبرون حكمة الحكماء للأسف بل يسيرون وراء الجهال الذين لهم الصوت العالي الذي يؤثر فيهم بالأكثر. فلنتحد بالمسيح ونبتعد عن الجهال لئلا يفسدوننا أما خاطئ واحد فيفسد خيراً جزيلاً= هذه الآية كنت مقدمة لسلسلة من الخواطر التالية.


 

الإصحاح العاشر

آية(1): "الذباب الميت ينتن ويخمر طيب العطار جهالة قليلة اثقل من الحكمة ومن الكرامة."

الذباب الميت ينتن ويخمر طيب العطار= انتهى الإصحاح السابق بقوله أن "خاطئ واحد يفسد خيراً جزيلاً". وهذا مثال على ذلك. وهذا تحذير من الصداقات الشريرة. فمن يحيا في المسيح وتكون له حكمة روحية، تفوح منه رائحة المسيح "أنتم رائحة المسيح الزكية" ولكن هذه الرائحة الزكية تضيع بسرعة لو تسلل لحياة الشخص بعض الجهالة حتى لو قليلة "إحذروا الثعالب الصغيرة المفسدة الكروم" (نش15:2). والمثال هنا بأن عطار أعد طيباً ثميناً بجهد شاق، ثم سقط فيه بعض الذباب الصغير فينتن ويختمر ويفسد كل التعب وكل المواد التي استخدمها، هكذا كل تهاون مع الجهالة مهما بدت تافهة فهو يحطم ما ناله الإنسان الروحي من حكمة وكرامة روحية خلال جهاد شاق. ينتن= بسبب جراثيمه ويخمر= فخميرة صغيرة من الجهالة يمكنها أن تفسد عجيناً كاملاً من الحكمة. وجاهل واحد قادر أن يفسد عمل حكماء كثيرين. وقيل عن إبليس "بعلزبوب" أي ملك الذباب ومن يتعبد له يصير ذبابة ميتة. جهالة قليلة أثقل من الحكمة= في الإنجليزية تترجم هكذا "هكذا تفعل جهالة قليلة بمن اشتهر بالحكمة والكرامة" وفي اليسوعية "قليل من الحماقة يفسد نفائس الحكمة والمجد".

 

الآيات (2،3): "قلب الحكيم عن يمينه وقلب الجاهل عن يساره. أيضاً إذا مشى الجاهل في الطريق ينقص فهمه ويقول لكل واحد انه جاهل."

قلب الحكيم عن يمينه= اليمين هو الصلاح، فالحكيم يهتم بكل قلبه بأن يسلك بالبر والصلاح فينعم بيمين اله. واليمين يقصد به الاهتمام بالسماويات واليسار يقصد به الارتباك بالزمنيات. ينقص فهمه= الجاهل يعيش في جهله طوال رحلة عمره= في الطريق. لذلك لا تزيده الأيام حكمة بل يفقد مع الزمن حتى الفهم الطبيعي "من له يعطي فيزداد ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه" (مت29:25). وجهله يصير ظاهراً لكل الناس= يقول لكل واحد أنه جاهل وربما تقصد الآية أن الجاهل يتهم كل من يقابله بأنه جاهل وهو وحده الحكيم الذي يعلم.

 

الآيات الآتية فيها نصائح للحاكم ونصائح للمحكوم

 

آية(4): "أن صعدت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك لأن الهدوء يسكن خطايا عظيمة."

روح المتسلط= أي غضب عليك. فلا تترك مكانك= أي لا تستعفِ من مأموريتك وتتخلى عن دورك وخدمتك لشعبك. وكن هادئاً لأن الهدوء يسكن خطايا كثيرة= الأفضل أن نهدأ أمام الرؤساء فلربما هدوءنا يتسبب في ندمهم على خطاياهم وغضبهم الذي سيكتشفون أنه بلا سبب، فيهدأ الملك بهدوئك وتكون لك فرصة أن يسمعك. وهذه النصيحة موجهة لكل مرؤوس مع رئيسه ولكل ابن مع والده. فليخضع الصغير للكبير.

 

آية(5): "يوجد شر رأيته تحت الشمس كسهو صادر من قبل المتسلط."

سهو صادر من قبل المتسلط= هنا نصيحة للحاكم حتى يدقق في كل قرار، فالقرار الخاطئ الصادر عن سهو قد يكون سبب ضرر لآلاف من الناس وهلاكهم "مثل قرار أحشويروش الملك ضد اليهود استجابة لمؤامرة هامان". ومن المؤلم أن نجد رئيساً يستخف بأخطائه ويعتبر أنها سهو ولا يدري كم الظلم الذي سيقع على الأبرياء بسبب قرار خاطئ.

 

آية(6): "الجهالة جعلت في معالي كثيرة والأغنياء يجلسون في السافل."

إنه لأمر رهيب أن يحتل الأردياء أماكن الصدارة (كما عظم أحشويروش هامان الشرير). وهذا مثل من أمثلة أخطاء الحاكم التي قد تكون سهواً أو تكون مجاملة لأحد عبيده الجهلاء، أن يعلى مركز أحد الجهلاء بدون استحقاق. ولكن لأن عبده هذا كان يتملقه. ولكن هذا الخطأ سيسبب بلايا كثيرة لشعب الملك. وقد يسمح الله بهذا التأديب الشعب.

 

آية(7): "قد رأيت عبيداً على الخيل ورؤساء ماشين على الأرض كالعبيد."

شئ رديء أن هناك حكماء يقفون خلف الصفوف ويحتل الأردياء المراكز القيادية.

تأمل: كثيراً ما يسود الظلم والفوضى حياة البشر عبر العصور ولكن لنثق أن الأمور هي في يد الله ضابط الكل يدبرها كلها للخير. فإبليس يعيث في الأرض فساداً ولكن الله دائماً قادر أن يخرج من الجافي حلاوة. ولكن في الحياة الأخرى فوق الشمس لن يوجد سوى النور والعدل والحب والمجد. وإبليس لا يكف عن مهاجمة أولاد الله وبكل الوسائل ليفقدهم هذا المجد المعَّد لهم، فإذ ثار عليك روح المتسلط الذي هو إبليس (قد يكون هذا بأن يسقط الإنسان في خطية أو يثير الدنيا ضده فيشعر بظلم) فماذا نفعل؟ لا تترك مكانك (4)= لا تيأس من رحمة الله القادرة أن تعيدك بالتوبة إلى مكانك لأن الذي ييأس سيغادر مكانه منحرفاً لخطايا أكثر، مندفعاً في طريق الشر فيجلب سخط الله عليه. ومن يهدأ أمام الله سيرحم نفسه من السقوط في خطايا كثيرة.

 

الآيات (8-11): "من يحفر هوة يقع فيها ومن ينقض جدارا تلدغه حية. من يقلع حجارة يوجع بها من يشقق حطباً يكون في خطر منه. أن كل الحديد ولم يسنن هو حده فليزد القوة أما الحكمة فنافعة للإنجاح. أن لدغت الحية بلا رقية فلا منفعة للراقي."

نجد هنا نصائح لكلا الحاكم والمحكوم، وسليمان هنا يحذر المحكوم من أن يثور ضد الحاكم الظالم محاولاً قلب نظام الحكم بثورة وعنف وتدبير المؤامرات فكل تدبير شرير سينقلب على من دبّرهُ. وسليمان ينصح باستخدام اللسان الحلو والحكمة، فلا يكفي للمصلح أن يكون غيوراً، بل عليه أن يكون حكيماً. وفي نفس الوقت فالكلام يعتبر تحذير للحاكم من أن يستمر في ظلمه، فهو إن ظلم شعبه سيسقط هو بشره، فعدل الله يلاحق الجميع حكام ورعية. من يحفر هوة يقع فيها= هذا ما حدث مع هامان، فقد صلب على الصليب الذي أعده لمردخاي. والصليب الذي أعده إبليس للمسيح، حطمه هو نفسه وبدد سلطانه على المؤمنين. ومن ينقض جداراً تلدغه حية= من ينقض جداراً تلدغه حية معششة فيه ومختفية فيه. وهذه توجه لمن يحاول أن يهدم أركان سلامة الملك الذي أقامه الله ويضعه تحت حمايته. وتوجه لكل من يحاول أن يُدمِّر حياة وسلامة أقربائه، ولكل من يهتم بالهدم عوض البناء، فهؤلاء تلدغهم حية الحسد والبغضة ويموت ويهلك أبدياً. من يقلع حجارة يُوجع بها= من يقلع حجارة بيت قريبه تقع عليه وتصيبه. وهذه موجهة لمن يحاول أن يهدم نظام الحكم. ولكل من يحاول تغيير نظام ما بالعنف فسيسقط على رأسه ويكون أول من يتوجع. من يشقق حطباً يكون في خطر منه= شق الحطب قد يشير لمحاولة إغتيال الحاكم (سواء عملياً أو أدبياً) أو تشير لمحاولة إيذاء أي إنسان، فمثل هذا ستؤذيه الشظايا، أو يُؤذيه سلاح الآلة التي يستخدمها إذ ينفلت. وهكذا كل كلام عنيف ضد أحد سيؤذي المتكلم. إن كَلَّ الحديد ولم يسنن هو حَدّه فليزد القوة= الحكمة تعلمنا أن نسنن الآلة التي نستعملها حتى لا نضطر لزيادة القوة عند شق الحطب. فزيادة القوة تعرضنا لأن تنخلع الآلة. الحديدة من الفأس ونصاب بأذى. وهذا يشير لتهذيب لساننا، فاللسان الحلو مع الحاكم أفضل من أعمال الثورة والعنف ضده، بل هذا ينطبق مع أي إنسان، وكما أن سن الحديد سيوفر على الحطاب تعبه، هكذا حكمة الإنسان ولسانه المهذب تسهل عمله. فلنستعمل روح الوداعة والحب في محاولاتنا لأي إصلاح. ثم يحذرنا من أن اللسان الخبيث كلدغات الحية القاتلة، مطالباً إيانا أن تكون لشفاهنا مسحة النعمة حتى لا ننطق بجهالة. إن لدغت الحية بلا رقية فلا منفعة للراقي= إن الثائر كالحية يلدغ، فلنرقِهِ بكلمات الوداعة والحب الحكيم قبل أن يلدغنا، كما فعل يعقوب في مقابلته مع عيسو (تك13:32-21) وكما فعلت أبيجايل مع داود (1صم18:25-35). وفكرة رَقْيْ الحيات يستعملها سكان القرى، حين يجدون أن حية مختبئة في جحر، فيستدعون متخصص يغني ويضرب على المزمار والطبلة فتخرج الحية على أصوات الغناء فيمسكها ويخلع أسنانها لكي لا تضر أحد، وهكذا لو رَقَيْتَ العنيف بكلمات حكمة عذبة تحطم أنياب شره قبلما يقتلك. أما إن تركته يلدغك فلا ينفع الرقي بعد أن يسرى السم في جسمك، والحكمة تعلمنا أن نرقي الحية عوضاً عن أن نهاجمها فتلدغنا، فالرقية هي التي تسكن غضب الثائر وتصرف شره.

 

الآيات (12-15): "كلمات فم الحكيم نعمة وشفتا الجاهل تبتلعانه. ابتداء كلام فمه جهالة وأخر فمه جنون رديء. والجاهل يكثر الكلام لا يعلم إنسان ما يكون وماذا يصير بعده من يخبره. تعب الجهلاء يعييهم لأنه لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة."

عكس الحكيم الذي يتكلم بوداعة، نجد الجاهل الذي يتكلم كثيراً، دون إدراك لعواقب الأمور. فكلمات الحكيم تكشف عما في قلبه من نعمة وحكمة. وكلمات الجاهل تكشف عما في قلبه من فساد. وكلمات النعمة من الحكيم ترضى الناس وتقنعهم وتجذب محبتهم، أما شفتا الجاهل تبتلعانه= أي كلماته الرديئة تجلبان عليه الهلاك، وسيكون كلامه سبباً لمشاكل كثيرة تبتلعه، بل قد تؤدي لهلاكه أبدياً، وهنا على الأرض كلامه سيؤاخذ عليه ويدينه.(مت37:12 + مز8:64+ 1مل23:2). والجاهل ابتداء فمه جهالة وآخر فمه جنون رديء= هو يتقدم من أمر بسيط، ولكن لأنه متهور فهو يندفع ويهيج نفسه بكلامه، فيقول في الآخر كلاماً صعباً متهوراً يقترب من الجنون ويصبح غير قادراً أن يسيطر على كلماته. وهو يكثر الكلام دون إدراك لعواقب الأمور، وهو يتكلم كثيراً في أمور يعلمها وأمور لا يعلمها، بل يتكلم في أمور لا يعلمها أحسن العلماء، بل يتكلم عما سيكون في المستقبل وعن أمور غامضة لا يعرفها أحد= لا يعلم إنسان ما يكون، وماذا سيصير بعده من يخبره= الحقيقة أنه لا يعلم إنسان تماماً كل ما يحدث حوله في عصره وهو حي، ولا يعلم ماذا سيحدث بعد أن يموت. ولو عرف إنسان جهله بالحاضر والمستقبل لصمت، لذلك فالحكماء لا يتكلمون كثيراً. تعب الجهلاء يعييهم= لأن الجاهل يتكلم كثيراً يسقط في الإعياء بسبب تعبه النفسي وشعوره بالفشل والظلم، فهو بنى كثيراً ولكن على الرمال (تكلم كثيراً ولكن على أسس واهية فهو لا يعلم). وهو كمن يجمع مالاً في كيس مثقوب. هو يسعى كثيراً ولكن لأغراض لا طائل تحتها، وهو لا يستطيع أن يكمل عملاً واحداً، وتخور قوته. ويفقد طريقه إلى المدينة= لأنه لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة= هو لا يستطيع أن ينجز عملاً حتى لو كان الذهاب إلى مدينة (يبدو أن القول لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة كانت مثلاً شائعاً) وروحياً فالخاطئ الجاهل يعجز عن معرفة الطريق للمدينة السماوية ويبقى خارجاً عن مدينة الله.

 

الآيات (16،17): "ويل لك أيتها الأرض إذا كان ملكك ولداً ورؤساؤك يأكلون في الصباح. طوبى لك أيتها الأرض إذا كان ملكك ابن شرفاء ورؤساؤك يأكلون في الوقت للقوة لا للسكر."

هذه موجهة للملوك والرؤساء. ملكك ولداً= أي غير ناضج في تصرفاته كأحاز ومنسى، هو قد يكون كبيراً سناً ولكنه ولد في تصرفاته كرحبعام. يأكلون في الصباح= كانت العادة قديماً أن يبدأوا يومهم بالعمل ويأكلون عند الظهر، فالصباح وقت العمل، وللحكام هو وقت الجلوس للقضاء، أما من يبدأ يومه بالأكل تاركاً عمله فهؤلاء يعبدون بطونهم غير مبالين بشعبهم. ابن شرفاء= بفضائله وليس بنسبه. يأكلون في الوقت= أي بعد إنتهاء أعمالهم.

تأمل: الأرض تشير لجسدنا. والجسد الذي لإنسان غير ناضج يعبد بطنه وشهواته يسقط تحت اللعنة "ملعونة الأرض بسببك" فمن يطلب حياة اللهو والتسيب ينبت جسده شوك الخطية والدنس، أما من يهتم بالعمل الجاد ويذكر أنه ابن الله= ابن شرفاء، ويجاهد يتحول جسده إلى جنة الله الحاملة ثمار الروح القدس.

 

الآيات (18،19): "بالكسل الكثير يهبط السقف وبتدلي اليدين يكف البيت. للضحك يعملون وليمة والخمر تفرح العيش أما الفضة فتحصل الكل."

هنا تحذير للملك من الكسل، والاهتمام بالولائم والأكل والشرب وإهمال رعيته، فبهذا ستهدم مملكته. فكما ينهار البيت إذا أهملت صيانته، هكذا تنهار المملكة بسبب عدم عناية رؤسائها. وهكذا كل خادم مهمل تنهار رعيته. والحكام الظالمين ليس فقط يهملون رعيتهم بل هم يظلمونهم بكثرة الضرائب ويقبلون الرشاوي من كل أحد ليقيموا الولائم ويشربون الخمر، للضحك يعملون وليمة= أي يعملوا ولائم ليضحكوا ويلهوا ويشربون ويأكلون. والخمر تفرح العيش= هذا الحاكم يستمر مستغرقاً في لذاته متصوراً أنه بهذا يفرح ولكنه فجأة بسبب إهماله سيجد مملكته وقد إنهارت، ولا يستطيع بعد أن يجد فضة يفعل بها مسراته فقد هبط سقف مملكته وإنهار البيت= لأنه أهمل رعايته. بينما لو كان قد قام بعمله بجدية لوجد الفضة التي يعيش بها ويفرح وتفرح مملكته= أما الفضة فتحصل الكل هذا موجه لكل إنسان ليهتم ببيته وأسرته ويعمل ويجد فيفرح الجميع. وروحياً فكل من يجاهد سيفرح أما الكسول فسينهار بناؤه الروحي.

 

آية(20): "لا تسب الملك ولا في فكرك ولا تسب الغني في مضجعك لأن طير السماء ينقل الصوت وذو الجناح يخبر بالأمر."

ولا في فكرك= كل خطية تبدأ في الفكر، لذا يلزم مطاردتها من البداية. ولا يليق بنا كشعب الله أن نسب أحداً حتى لو في أفكارنا، خاصة أصحاب السلطة. ولندرك أن ما نفعله خفية سيفتضح علانية، وربما عنى بطير السماء= الجواسيس الواشين. لكن إن كنا أمناء في أعماقنا فلن نخاف أحد. ولنعلم أن ما نفكر فيه فلساننا سينبئ به وسينقل هذا للملك. ولا داعي للتذمر على الملك ولا سبه فكل ما نقول سيصل إليه، ولنترك لله إصلاح الأمور إن أراد.


 

الإصحاح الحادي عشر

آية(1): "ارم خبزك على وجه المياه فانك تجده بعد أيام كثيرة."

ارم خبزك على وجه المياه فانك تجده بعد أيام كثيرة= هذه مثل (غل9:6). هذه تشير للسخاء في العطاء. فالعطاء هو كمن يعطي الله، والله لا ينسى كأس ماء بارد، وكل عمل خير نعمله هو محفوظ في يدٍ أمينة. العطاء هو أشبه بسفن نملأها خيرات ونرسلها للآخرين لتعود إلينا محملة بالبركات الإلهية. والخبز يشير إلى الصدقة أو أي خدمة تقدم لله أو للبشر أو أي حب عملي، الخبز هو من يعطي من أعوازه للآخرين (أعوازه هي ماله وصحته ووقته..) فكل ما نقدمه لله نشتري به أصدقاء في الأمجاد الإلهية ونكون كوكيل الظلم.

 

آية(2): "أعط نصيباً لسبعة ولثمانية أيضاً لأنك لست تعلم أي شر يكون على الأرض."

 أعط نصيباً لسبعة ولثمانية أيضاً= هي طريقة عبرية في التعبير، بمعنى إعطِ كل من سألك ، حتى لو كان من سألك سبعة، بل إذا أتى الثامن فإعطه أيضاً. لأنك لا تعلم أي شر يكون على الأرض= لست تعلم أي شر ينتظرك قد يحرمك من كل ما تملكه فلا تجد فرصة لعمل الخير، بل إنه في أيام الشر سيرتد عليك الخير الذي زرعته سابقاً. سيكون لك. وقت الشر رجاء في مراحم الله والإنسان (عب10:6). وقد يشير رقم 7 للحياة الحاضرة ورقم 8 للحياة الأبدية. ويكون المعنى فلنجاهد ونعطي فيما يخص عملنا اليومي وفيما يخص عبادتنا أي جهاد روحي. ومن يفعل هذا لن يصيبه شر.

 

آية(3): "إذا امتلأت السحب مطراً تريقه على الأرض وإذا وقعت الشجرة نحو الجنوب أو نحو الشمال ففي الموضع حيث تقع الشجرة هناك تكون."

وقوع الشجرة يكون لناحية ميل الشجرة، ووقوع الشجرة يعني موت الإنسان، فإن كان ساعة موته مائلاً نحو القداسة سيكون نصيبه مع الله، ولو كان مائلاً للشر سيستمر منفصلاً عن الله، فبعد الووت لا توبة ولا تطهير ولا شئ سيتغير. فالأفضل أن يجدنا الموت حين يأتي مائلين تجاه الله. وهناك من فهم الآية أن الإنسان الروحي يكون بركة في كل موضع يوجد فيه، وهؤلاء يروا أن الإنسان الروحي كالشجرة لأنه مثمر، ويرون أن الجنوب يشير لمن هم في حرارة روحية، والشمال لمن هم في برودة روحية، وهو مثمر لهؤلاء وأولئك.

 

آية(4): "من يرصد الريح لا يزرع ومن يراقب السحب لا يحصد."

من يرصد الريح= الذي يخشى الرياح فلا يزرع ويخشى الأمطار فلا يحصد= يراقب السحب فالإنسان المتخوف يبقي في موضعه بلا عمل. هذه دعوة لنعمل بلا خوف ولا تردد من أي عراقيل أو صعوبات. فهناك من يخشى المستقبل فيكنز ماله. وهناك من يتردد في إعطاء الفقير صدقة لأنه لا يعلم كيف ينفقها. وهناك خادم ييأس من ولد متعب فيكف عن خدمته.

 

آية(5): "كما انك لست تعلم ما هي طريق الريح ولا كيف العظام في بطن الحبلى كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع."

هذه دعوة لأن نمارس عمل المحبة على الدوام دون تخوف متكلين على الله، فما نحن إلا أدوات يستعملها الله، لكنه هو الذي يعمل في القلوب. ونحن لن نعلم طرق الله، لذا علينا أن لا نسأل لماذا خلق الله الفقير فقيراً، والغني غنياً، ولا نسأل كيف ستنتهي حياة إنسان، بل لتمتلئ أحشائنا مراحم ورأفات للجميع، ولنزرع كلمة الله في نفوس كل من يسمع، ولنعمل أعمال رحمة لكل إنسان واثقين أن الله سينميها ولكننا لا نعلم كيف كما أننا لا نعلم كيف العظام تُخْلَقْ وتنمو في بطن الحبلى ولا نعلم ما هي طريق الريح. والله لن يسألنا لماذا كان فلان خاطئاً ولماذا كان فقيراً بل سيسألنا ماذا قدمنا له.

 

آية(6): "في الصباح ازرع زرعك وفي المساء لا ترخ يدك لإنسان لا تعلم أيهما ينمو هذا أو ذاك أو أن يكون كلاهما جيدين سواء."

هي دعوة لعمل الخير دائماً، كل أيام حياتنا. في الصباح= وقت الفرح أو وقت الشباب وفي المساء= وقت آلامك أو وقت شيخوختك. كن مستعداً دائماً لعمل الرحمة، إزرع دائماً في كرم الله والله هو الذي ينمي. لأنك لا تعلم أيهما ينمو هذا أو ذاك= لا نعلم أي عمل هو العمل الذي سيباركه الله وينميه، لذلك لنعمل دائماً. "وبخ انتهر عظ.. في وقت مناسب ووقت غير مناسب أكرز بالكلمة (2تي2:4). ولكن عمل التوبيخ هو للرعاة، أما عمل الجميع فهو المحبة العملية والصادقة والخدمة لكل إنسان.

 

الآيات (7-10): "النور حلو وخير للعينين أن تنظرا الشمس. لأنه أن عاش الإنسان سنين كثيرة فليفرح فيها كلها وليتذكر أيام الظلمة لأنها تكون كثيرة كل ما يأتي باطل. افرح أيها الشاب في حداثتك وليسرك قلبك في أيام شبابك واسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك واعلم انه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة. فانزع الغم من قلبك وابعد الشر عن لحمك لأن الحداثة والشباب باطلان."

هي نصيحة من سليمان بالاستعداد للموت والدينونة، والبدء بهذا الاستعداد في الوقت المناسب وهو وقت الشباب. وأن نقضي شبابنا في جهاد روحي واستعداد. هي ليست دعوة لعمل شاق فيه حرمان. بل دعوة للفرح الروحي الحقيقي، ودعوة للتمتع بالنور الحلو مبكراً فنفرح بنور الله فينا كل سنين حياتنا، يعطي إستنارة للعينين فنرى بعيوننا الروحية بهاء مجد الله. نراه هو شمس البر= النور حلوٌ وخيرٌ للعينين أن تنظرا الشمس. ونراه شريكاً لنا في كل أعمال وأمور حياتنا الزمنية. نرى كل شئ مقدساً فيه لأنه إن عاش الإنسان سنين كثيرة فليفرح فيها كلها= يتصوَّر الشاب أنه في شبابه يجب أن يفرح بالعالم كما يفرح الجميع، ويتصور أن الحياة مع الله كئيبة، ويقول مازال العمر أمامي طويلاً فلأفرح الآن بالعالم وحينما أشيخ أتوب وأرجع إلى الله. وسليمان المختبر يقول أن هذا الفكر الخاطئ، فالحياة مع الله مفرحة فرحاً حقيقياً لا يدركه سوى من إختبره، فيا أيها الشاب إن كنت ستعيش طويلاً فلتفرح فرحاً حقيقياً كل عمرك. وليتذكر أيام الظلمة لأنها تكون كثيرة= أيام الظلمة هي الأيام السوداء التي لابد وستأتي على الإنسان، فالحياة في هذا العالم غير مضمونة، فقد تأتي أيام ضيقات مظلمة، وهذه هي طبيعة هذا العالم. بل هو سينتهي بموت مظلم وأيَّامه كثيرة، بل الموت هو أطول ظلمة. إذا وضعنا هذا أمام أعيننا فمن المؤكد سنخاف ونتوب وبهذا نفرح فرحاً مقدساً. ومن ينسى هذه الحقيقة سيستغرقه العالم ويتكبر ويذهب في سبات عميق واطمئنان غاش بأن أيام حياته ستكون طويلة مفرحة، وتفاجئه الأحداث المؤلمة أو الموت بغتة. كل ما يأتي باطل. فإذا وضعنا هذا في قلوبنا أن نرجع إلى الله، فحينما تأتي الأيام المظلمة لن نكون وحدنا بل سيكون الله معنا مصدر عزاء فنثبت في وسط ضيقاتنا "كحزانى ونحن دائماً فرحون" (2كو10:6 + 2كو7:4-11). ولكن إن أتت الأيام المظلمة وكنا بلا شركة مع المسيح فستكون صعبة جداً. وآية (9) هي سخرية من الشاب الذي يريد أن يحيا حسب العالم، هي بلغة تهكم كما تهكم إيليا على أنبياء البعل قائلاً "إدعوا بصوت عالٍ لأنه إله. لعله مستغرق.. " (1مل27:18+15:22) ومعنى الآية يا من تريد أن تسلك وراء شهوات وملذات قلبك الفاسدة فسيأتي بك هذا إلى الدينونة، أما لو سلكت في خوف الله فسيأتي بك هذا للأفراح الأبدية.

وآية (10) فإنزع الغم من قلبك= هذه دعوة لنزع الفم بإنتزاع روح الشر بالتوبة. وكل الخطايا من القلب (مت19:15). وإبعد الشر عن لحمك= وبعض الخطايا تؤثر تأثيراً واضحاً سريعاً في الجسد مثل السُكْرْ والزنى والغضب والحسد .. وهذه إن نزعها الإنسان من قلبه سيفرح وتتحسن صحة جسده. ويجب علينا أن تكون أعضائنا (لحمنا) آلات بر فنفرح. الحداثة والشباب باطلان= أي أفراح الشباب الوقتية بلا خوف الله آخرها مرارة أما الشباب المقدس فهو جميل وطاهر ومفرح ونافع لبنيان الكنيسة وبناء نفسه أولاً.


 

الإصحاح الثاني عشر

آية(1): "فاذكر خالقك في أيام شبابك قبل أن تأتى أيام الشر أو تجيء السنون إذ تقول ليس لي فيها سرور."

اذكر خالقك في أيام شبابك= جاءت الآية في العبرية REMEMBER  THY   CREATORS     . فكلمة خالق وردت بالجمع. كما قيل في (تك26:1) نعمل الإنسان. فالخالق ثالوث في واحد، آب وابن وروح قدس. أذكر= فالإنسان مستعد أن يذكر أي شئ ولكنه ينسى الله. وربما نذكر أي صنيع حسن فعله معنا إنسان ولكننا ننسى أن الله خلقنا، بل هو خلق العالم لأجلنا، وبعد أن سقطنا فدانا، وأعطانا ابنه وروحه القدوس، وهيأ لنا حياة أبدية. لو تذكرنا الله دائماً لن نخطئ، كما حدث مع يوسف لأنه تذكر أنه أمام الله. في أيام شبابك= الله يستحق الباكورات، ويستحق أن نعطيه أفضل شئ وليس أن نعطيه الفضلات، وهل نقدم الأعرج والأعمى ذبيحة لله، ونقدم للشيطان باكوراتنا أي شبابنا. ونعطي لله شبابنا لنفرح فرح حقيقي العمر كله، فالفرح الحقيقي هو مع الله. أما من يترك موضوع التوبة حتى سن الشيخوخة فهو لن يتذوق حب الله، بل نحن في شيخوختنا يصعب أن نترك عاداتنا الشريرة التي تعودنا عليها. وسليمان يوجه هذه النصيحة للشباب لأن قوتهم الجسدية وإمكانياتهم تعطيهم إطمئنان أن الحال سيبقى كما هو عليه وتخدعهم لذات العالم وخطاياه، وتأتي عليهم أيام الشيخوخة والعجز ويجد الإنسان نفسه مضطراً لترك خطايا محببة إليه .. .. فلنترك خطايانا قبل أن تتركنا خطايانا. وعلينا أن نذكر أن الله هو الذي خلقنا فهو صاحب الأمر ووصايا الله خالقي ملزمة لي فأنا لست حراً تماماً. قبل أن تأتي أيام الشر= أيام المرض والشيخوخة والموت. التي يقول فيها الإنسان ليس لي فيها سرور= في أيام الشيخوخة لا يجد الإنسان لذات سواء جسدية أو عقلية. وهناك شيخوخة روحية لا يجد فيها الإنسان لذة روحية، ولا ينمو فيها نمواً روحياً. وقد تأتي أيام الشر مبكراً (مرض/ موت) فلا تكون هناك فرصة للتوبة.

 

الآيات (2-8): "قبل ما تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم و ترجع السحب بعد المطر. في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت وتتلوى رجال القوة وتبطل الطواحن لأنها قلت وتظلم النواظر من الشبابيك. وتغلق الأبواب في السوق حين ينخفض صوت المطحنة ويقوم لصوت العصفور وتحط كل بنات الغناء. وأيضا يخافون من العالي وفي الطريق أهوال واللوز يزهر والجندب يستثقل والشهوة تبطل لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي والنادبون يطوفون في السوق. قبل ما ينفصم حبل الفضة أو ينسحق كوز الذهب أو تنكسر الجرة على العين أو تنقصف البكرة عند البئر. فيرجع التراب إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها. باطل الأباطيل قال الجامعة الكل باطل."

وصف أيام الشيخوخة:

هنا يصف الجامعة إنحلال الشيخوخة وعاهاتها بأوصاف كان اليهود يستخدمونها أيام سليمان ولم تعد تستخدم الآن. ونرى فيها كيف يفقد الشيخ حيويته، فحتى إن تاب لن يجد فرصة للجهاد والتعب ولا للتمتع بعذوبة الحياة الروحية المبكرة.

قبل ما تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم= إذ يشيخ الإنسان يفقد بصره ولا يعود يتمتع برؤية شئ. والشمس والنور.. كناية عن السرور والحياة في ربيع الحياة حيث لا سُحب تحجز رؤيتها فالإنسان في شيخوخته يشعر أنه فقد بهجة الحياة وجمالها. وروحياً:- فالشيخوخة الروحية تحرم الإنسان من رؤية النور الإلهي شمس البر وشركة الكنيسة القمر وشركة القديسين النجوم. وترجع السحب بعد المطر= هذه إشارة لشتاء الحياة، فالسحب تأتي وراء المطر إشارة لتوالي الآلام على الشيخ العجوز. وروحياً= فالشيخوخة الروحية تشير للسقوط المتكرر.

يتزعزع حفظة البيت وتتلوى رجال القوة= جسد الإنسان ممثل هنا ببيت وحفظة البيت هما اليدان ورجال القوة هما الرجلان (مز10:147). وهذا يشير لضعف الهيكل العظمي وإنهيار الجهاز العصبي. فاليدان تضعف والرجلان مرتعشتان. وروحياً= فالشيخوخة الروحية تصيب صاحبها بحالة إحساس باليأس والضعف أما القوي روحياً ففي رجاء يقول الرب قوتي فلا أتزعزع. فالرب ذراعاه أبدية. والرب يجدد مثل النسر شبابه. وتبطل الطواحن لأنها قلت= تتساقط الأسنان= الطواحن فيعجز الشخص عن التمتع بكثير من الأطعمة. وروحياً= فالشيخوخة الروحية تمنع صاحبها من أن يقول وجدت كلامك حلو فأكلته، فهو بلا أسنان روحية تتمتع بالطعام الروحي وتقتات عليه. تظلم النواظر من الشبابيك= النواظر هما العينان اللتان تضعفان. ونرى موسى القديس وهو صاحب 120سنة لم تفارقه نضارة عينيه. وفي الشيخوخة الروحية تفقد النفس حواسها الداخلية الروحية فلا تستطيع أن تعاين الله، ولا الأذنان يستمعان صوته ولا يستطيع الإنسان أن يتذوق حلاوة الرب ولا أن يتلامس مع محبته وقدرته.

وتغلق الأبواب في السوق= الأبواب ربما هي بقية الحواس وربما هما الشفتين اللتين بهما نكلم الناس ونتعامل معهم. فالعجوز أصبح غير قادر على الكلام والحوار وكأن السوق قد أغلق أمامه، فلم يعد قادراً على البيع أو الشراء، أو الحوار مع الناس. وروحياً. ففي الشيخوخة الروحية ينغلق قلب الإنسان من نحو الله ومن نحو الناس، وينغلق على نفسه يصير كمن دفن وزنته في التراب ولم يذهب للسوق ليتاجر بها.

حين ينخفض صوت المطحنة. ويقوم لصوت العصفور. وتحط كل بنات الغناء= لقد ذهب سمع الإنسان العجوز فلم يعد يسمع صوت المطحنة، وهذه عند طحن الحبوب يكون صوتها عالياً جداً. فكيف يقوم لصوت العصفور وهو لا يسمع صوت المطحنة؟! هذه تشير للتعب العصبي فهو يضطرب ويقلق من أقل صوت يسمعه، أو خبر يسمعه. بل هو صار بسبب فقدان سمعه لا يتلذذ بصوت بنات الغناء أي المغنيات (2صم35:19). وروحياً. فالشيخوخة الروحية تسبب الإضطراب العصبي والقلق وعدم التلذذ بل تفقد الإنسان سلامه الداخلي. ويفقد روح التسبيح= تحط كل بنات الغناء.

يخافون من العالي= يخافون من الدوار وإمكانياتهم الجسدية لا تساعدهم على الصعود. وروحياً. فالشيخوخة الروحية تجعل صاحبها غير قادر على النمو الروحي ويستصعبه.

في الطريق أهوال= يستصعب الشيخ السفر ويتوهم وجود أهوال في الطريق. وروحياً= فمن هو في شيخوخة روحية يستصعب الجهاد الروحي فلا يتمتع بخبرات روحية جديدة. اللوز يزهر= إشارة لإنتشار الشعر الأبيض فتصير الرأس كشجرة اللوز المزهرة. وهو استخدم في تشبيهه شجرة اللوز بالذات لأنها من الأشجار المبكرة في إزهارها والشيب والشيخوخة سريعاً ما سيأتون. وروحياً. يمثل هذا فقدان حيوية الشباب الروحية. والجندب يستثقل= الجندب يتخذ مثلاً لكل صغير (إش22:40). فما عاد الشيخ قادراً أن يحمل أي شئ. وروحياً. يستصعب الإنسان أي تدريب روحي لبناء النفس. والشهوة تبطل= الشيخ لا يشتهي الطعام ولا الملذات الجسدية، وفقد كل رغبة داخلية للبهجة والسرور. وروحياً. يفقد الإنسان كل شهوة وحنين للسماويات والأفراح الروحية ثم يقترب سليمان من الحقيقة المرة أن هذه الشيخوخة تعلن قرب مجيء ساعة الموت.

النادبون= هم محترفو الندب، وكانوا يسيرون وراء الجنازة ليحصلوا على أجرتهم. وها هم منتظرون بفارغ الصبر موت هذا العجوز ليندبوه ويكسبون من وراء موته.

آية (6) صورة الموت. الكوز= هو وعاء الزيت على رأس السراج، أو خزان الزيت الذي يُموِّن السراج بالزيت (الوقود). ومنه ينزل الزيت إلى السراج. والسراج يكنى عن الحياة، وإذا إنطفأ السراج يشير هذا للموت. وفي البيوت يعلق السراج وسط سقف الحجرة. وفي بيوت الأغنياء يكون السراج والكوز من الذهب ويعلقان في سقف الحجرة بحبل من الفضة. فإذا أنفصم الحبل يقع الكوز وينكسر وينطفئ نور السراج وهذا يمثل موت الإنسان، وهناك تشبيه آخر بالجرة التي يأخذون بها الماء من البئر. فكسر الجرة أو كون البكرة تنقصف (والبكرة يعلق بها الحبل الممسك بالجرة فتدلى داخل البئر) فهذا أيضاً يشير للموت فإذ ليس ماء فهذا يعني الموت.

وفي (7) فيها إيمان واضح برجوع الروح إلى الله فالإنسان ليس كالحيوان. هنا إيمان الجامعة قد تبلور وأتضح وظهرت أمامه صورة واضحة. وهذا عكس حالة البحث السابقة (21:3).

آية (8) بعد أن صارت الصورة واضحة لسليمان، فحينما يقول الكل باطل= فهو يقولها بنفس المفهوم الذي قاله بولس "إن كل الأشياء نفاية .. من أجل فضل معرفة المسيح" (في8:3). وسليمان هنا قد توصل للحقيقة الآن مثل بولس. وهو الآن ينظر للأبدية وما بعد الموت من راحة وفرح، وقد وجد أن العالم بكل ما فيه هو لا شئ بالنسبة لهذا الفرح.

 

آية(9): "بقي أن الجامعة كان حكيماً وأيضاً علم الشعب علماً ووزن وبحث وأتقن أمثالاً كثيرة."

هدف سليمان من كتابة السفر هو إجابة السؤال "ما هو الخير لبني البشر حتى إذا فعلوه يعيشوا في سعادة حقيقية". وهنا فسليمان ينصح من يسمعه أن يتقي الله ففي هذا فرحه، وليس في أي شئ آخر. بقى أن الجامعة كان حكيماً= كأنه يقول بعد كل ما قلته تبقى أن أقول أن من يكتب هذا كان حكيماً ليس مثله، وعالماً ليس مثله وقد اختبر كل شئ فمهما اختبرت أيها السامع لن تزيد على ما أقوله. وما أراد أن يقوله أنه ليس في العلم ولا البحث ولا في زيادة الحكمة راحة الإنسان. ومهما حصل الإنسان لن يزيد عن سليمان ومع هذا فقد ظلت الأسئلة حائرة بلا إجابة أمام سليمان، وظل لغز العالم وحكمة الله غير المعلنة في كثير من القضايا سبب تعب له.

 

آية(10): "الجامعة طلب أن يجد كلمات مسرة مكتوبة بالاستقامة كلمات حق."

الجامعة طلب= والله أعطى له حكمة لم تكن لأحد مثله، لأنه طلب "أسألوا تعطوا" فالمهم أن نسأل ونجتهد، فمعنى طلب هنا أنه اجتهد قدر طاقته أن يعرف.

 

آية(11): "كلام الحكماء كالمناسيس وكأوتاد منغرزة أرباب الجماعات قد أعطيت من راع واحد."

المناسيس= هي المناخس للثيران. والثور لا يفرح بالمنساس،ولكن المنساس يحركه للعمل المطلوب. وهكذا كلام الله الذي يقوله الحكماء في تعاليمهم يحرك النفس للتوبة بل يبكتها. أرباب الجماعات= هم الكهنة والرؤساء الذين هم كأوتاد، أي ثابتين والشعب يتلقى منهم الإرشاد والتدابير. هم يستنيرون بكلام الله من الكتاب المقدس وبه يرشدون الشعب. أعطيت من راعٍ واحد= فأقوال الحكماء وإرشاد أرباب الجماعات هو عمل الروح القدس فيهم. فالراعي الواحد هو الله والشعب كله هم الرعية. والله هو راعي الرعاة ومرشد المرشدين وهو مصدر كل حكمة.

ولاحظ أن كلمة الله لها فعل مختلف مع كل واحد حسب حاجته فهي كالمناسيس للخاطئ الفاتر المتراخي لتدفعه للتوبة. وهي كالأوتاد لتدعيم غير الثابت المزعزع. والكلام له قوة تحريك القلب للفاتر، أما غير الثابت المزعزع فيحتاج لنموذج يراه في قديسي كنيسته ورئاساتها (لذلك تقرأ الكنيسة السنكسار). ويأتي الشعب للكنيسة ويرى رئاسته الثابتة ويصلي الشعب والمسيح وسط شعبه هو راعي الرعاة، الراعي غير المنظور يقود الكل. ولكن الشعب يرى رعاته المنظورين كأمثلة تثبته. وهؤلاء الأرباب أو رئاسات الكنيسة هم فم الله لدى الشعب (في تعاليمهم للشعب) وفم الشعب لدى الله (في صلواتهم عن الشعب).

 

آية(12): "وبقي فمن هذا يا ابني تحذر لعمل كتب كثيرة لا نهاية والدرس الكثير تعب للجسد."

وبقى= لم يبقى لي سوى أن أخبرك أنه لعمل كتب كثيرة لا نهاية= الكتب كثيرة، ولكنها مهما كثرت لن تحل مشكلة الإنسان. فالمعلومات الكثيرة لن تحل المشكلة ولا يجب أن نظن هذا. وهي مهما كثر علمها وعددها فهي محدودة جداً. والجامعة هنا لا يدعو للجهل. بل يفهم من قوله أنه علينا أن ندرس ونجاهد ولكن لن يحل مشكلة الإنسان سوى أن يتقي الله لأن الله سيأتي بالكل إلى الدينونة. ومن وقت سليمان حتى الآن كتبت ملايين الكتب ومازال الكثير سيكتب، ومازال الإنسان متعطشاً للمعرفة. ولم يعرف ولن يعرف سوى ما يسمح به الله. وإشباع الإنسان لن يأتي بالمعرفة الكثيرة.. فمن هذا يا ابني تحذَّر. بل الشبع سيأتي بتقوى الله. والروح القدس يعلن لمتقي الله كل شئ (1كو10:2)+(تك17:18) "هل أخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله".

 

الآيات (13،14): "فلنسمع ختام الأمر كله اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي أن كان خيراً أو شراً."

هنا يقدم الجامعة علاج لبطلان الحياة الزمنية، ألا وهو الإلتقاء مع الله خالق العالم ومهييء المجد الأبدي، خلال الطاعة لوصيته بخوف تقوي.

فلنسمع ختام الأمر كله= هو ختام البحث الدقيق للجامعة. وقال فلنسمع ولم يقل اسمعوا فالواعظ عليه أن يسمع لما يقوله هو أيضاً وينفذ ما يقوله. لأن هذا هو الإنسان كله= ليس مهما أن يكون غنياً أو فقيراً، عظيماً أو حقيراً، المهم أن يتقي الله. هذا هو كل عمله وكل بركته وكل واجباته وكل سعادته وكل حياته على الأرض بل في السماء أيضاً. وبهذا يجب أن يكون الإلتصاق بالله خلال التقوي هو أهتمامنا الوحيد. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة= هذا برهان على ضرورة أن تكون التقوى هي إختيارنا، وهذا ما سيحل مشكلة الإنسان. فهو عين الحكمة أن تكون أعيننا إلى يوم الدينونة وليس إلى ملذات العالم.


 

([*]) (2:7) مثلاً.

([†]) آية (9) الإنسان لا يخلق شيئاً جديداً، بل هو يكتشف ما سبق الله وخلقه. هو مكتشف لقوى الطبيعة.

([‡]) ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله

 

الصفحة الرئيسية