الجامعة
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
دعوة من الجامعة إلى الحياة الجامعة
يُعتَبر سليمان الحكيم هو أول من بني بيتًا لله في العالم؛ لكنه عاد فأنحرف إلى العبادة الوثنية بسبب نسائه الأجنبيات وحياة اللهو التي مارسها. وإذ شعر بخطئه عاد إلى الرب إلهه من جديد لينضم إلى الجماعة المقدسة بالتوبة الصادقة. وقد جاء سفر الجامعة يكشف عن توبته العملية ورجوعه إلى الجماعة.
دعى نفسه بالعبرية "كوهيليث Qoheleth " التي تعني "الجامعة"، فقد أدرك حنو الله الذي حمله كما على منكبيه من خلال طريقه ليرده إلى الحياة الجامعة، إلى القطيع الإلهي، إلى كنيسة الله التي يجتمع فيها الله مع شعبه. بمعنى آخر لقد كتب "الجامعة" سفر "الجامعة" لكي يحث كل تائه على العودة إلى الحياة "الجامعة" أو إلى الحياة الكنسية المتهللة، بعدما يكتشف بطلان كل ما هو تحت الشمس (3: 1)، فيرتفع إلى فوقها، أو إلى ما فوق الزمن، ممارسًا الحياة الجديدة السماوية الخالدة.
إن كان سفر الجامعة قد ركز على تأكيد بطلان العالم بكل ملذاته فإنه في نفس الوقت يوضح أن كل ما صنعه الله حسن ورائع، وهو جسور للعبور حتى ينطلق المؤمن إلى خالق العالم نفسه، ويتمتع بالحياة الحقَّة الأبدية.
كُتب هذا السفر إلى كل إنسان ليكتشف حاجته إلى الله كمخلص له ومصدر شبع وسعادة حقَّة عوض إساءة استخدام العالم والارتباك بهمومه.
يقول القدِّيس يوحنا سابا: [ضع أمام عينيك نهاية هذا العالم وتغييره، فتشتعل فيك نار الحياة العتيدة[1]]؛ [كل الذين أغمضوا عيونهم عن شهوات هذا العالم أشرق نور مجد الله في نفوسهم، واقتنوا أجنحة روحية وطاروا وسكنوا في نور الجمال... سكرت نفوسهم كل ساعة بحلاوة الله ولم يعملوا شهوة أخرى خارجة عنه[2]].
-
|
الأصحاح السادس (إفساد عطايا الله) |
|
- الباب الأول الأصحاحات [1-4] |
|
الأصحاح السابع الاستعداد الحكيم للأبدية) |
الأصحاح الأول (شهادة الطبيعة) |
|
الأصحاح الثامن (السلوك الحكيم الهادف) |
الأصحاح الثاني (بطلان مباهج العالم) |
|
الأصحاح التاسع (الحكمة ووليمة العرس) |
الأصحاح الثالث (شهادة العالم) |
|
الأصحاح العاشر (الحذر حتى من الصغائر) |
الأصحاح الرابع (شهادة المجتمع) |
|
الأصحاح الحادي عشر (الجهاد المملوء حبًا) |
- الباب الثاني الأصحاحات [5-12] |
|
الأصحاح الثاني عشر (الجهاد المبكر) |
الأصحاح الخامس (الحب في العبادة والسلوك) |
|
|
يركز سفر الجامعة على تعبير "باطل hebel"، فقد تكرر 37 مرة؛ جاء في مقدمة السفر: "باطل الأباطيل قال الجامعة" (1: 2)؛ وتكررت نفس العبارة في الخاتمة (12: 8). وكأن الكاتب يود أن يؤكد لنا أنه ليس من شيء على الأرض يمكنه أن يهب الإنسان شبعًا حقيقيًا أو سعادة مطلقة. وهو في هذا لا يحمل اتجاهًا تشاؤميًا كما يظن البعض، وإنما يقدم إدراكًا واعيًا لمحدودية الأشياء وعجزها عن تقديم أي نوع من الشبع للإنسان الداخلي الذي هو على صورة خالقه.
في الواقع يمثل هذا السفر عظة غايتها الزهد في أهواء العالم وملذاته خاصة في العبادة لله، إذ لا يليق بنا أن نتعبد له بغية نوال عطايا زمنية أو ملذات أرضية. فالعالم في ذاته حسن، وحياتنا فيه هي هبة إلهية. لكننا نُسيء استخدامه عندما نجعل منه هدفًا في ذاته، أو نظن حياتنا الوقتية كأنها أبدية. وكأن المشكلة ليست في طبيعة العالم وإنما في مفاهيمنا المنحرفة وإرادتنا الشريرة. بهذا يمنح هذا السفر راحة عظيمة للذين يريدون مواجهة حقيقة الحياة في إخلاص وبأمانة.
صعوبة السفر:
يجد الإنسان الروحي في هذا السفر تمهيدًا حقيقيًا للسلوك في الطريق الملوكي، طريق الحب الإلهي دون الارتباك بأمور العالم المفرحة أو المحزنة؛ بل ويجد في العالم لمسات حب لله وعنايته فيزداد تعلقًا بخالقه. غير أن القارئ العادي كما بعض الدارسين يجدون بعض المصاعب، علتها الآتي:
1. الشعور باليأس، إذ يواجه الكاتب الواقع بأمانة ويصوِّره كما يراه. هذا الإخلاص في مواجهة الحياة يكشف له عن معنى خفي من جوانبها المبهمة[3]، فنجده يقول: "الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة" (7: 2)؛ "ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك..." (3: 19)؛ "لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" (1: 18).
يركز على تأكيد حقيقة الموت لا لنتطلع إلى الحياة بمنظار مظلم، وإنما لكي ترتفع أنظارنا وقلوبنا ومشاعرنا إلى ما وراء الموت، فإنه حتى الحكمة الزمنية أو المعرفة البشرية تعجز عن أن تهب سعادة حقة.
2. هو أحد الأسفار الحكمة، لكنه يختلف عنها في غياب نغمة الفرح والتسبيح أو الشكر لله.
3. ركز على الجانب السلبي وإن كان لم يتجاهل الجانب الإيجابي مثل التطلع إلى الحياة بكل شئونها كعطية إلهية (2: 24)، والالتصاق بمخافة الله (12: 13).
يلزمنا أن نضع في اعتبارنا أن هذا السفر يُخاطب كل الناس وليس شعبًا معينًا. هو سفر الشخص الطبيعي بأفكاره وأعماله بعيدًا عن روح الله والإعلان الإلهي (1 كو 2: 14). هذا هو معنى العبارة: "تحت الشمس"، أي جميع بني البشر. لهذا السبب لا يستخدم الكاتب تعبير "يهوه" الخاص بالله الذي يدخل في عهد مع شعبه، إنما يستخدم تعبير "ألوهيم" الخاص بالله كخالق[4]. كأن الكاتب يقتصر على الإعلان الطبيعي، النور الصادر عن الطبيعة، وعلى الحكمة البشرية، لذا يُكرر القول: "أنا ناجيت قلبي" سبع مرات.
كوهيليث Qoheleth:
جاء عنوان السفر: "كلام كوهيليث Qoheleth (الجامعة)" (1: 1). أما كلمة Ecclesiastes (الجامعة) فأُخذت عن الكلمة اليونانية التي تعني "الكنيسة" Ecclesia أو "مجمع" أو "اجتماع"، وهي ترجمة للكلمة العبرية Qoheleth[5].
الكلمة العبرية Qohegeth مشتقة من الفعل qahal معناه "يجتمع"، أو من الفعل qahal معناه "اجتماع". ويترجمها القدِّيس جيروم concionator أو "كارز"[6]. وإذ يصر آخرون على ارتباط الكلمة بالفعل qahal يفضلون ترجمتها بمعنى "إنسان يجمع أقوالاً حكيمة" (راجع 12: 9-10) أو "إنسان يُخاطب جماعة". يرى البعض أن التفسير السليم هو: "إنسان يجمع جماعة بهدف مخاطبتهم"[7]. فقد جمع سليمان الشعب معًا ووجه لهم هذه العظة، كاشفًا لهم عن انزلاقاته.
واضع السفر:
حتى القرن التاسع عشر كان الاعتقاد السائد أن سليمان هو كاتب السفر بأكمله، هذا ما تؤكده بعض العبارات الواردة فيه. يُقدم الواعظ نفسه بوضوح أنه سليمان بكونه "ابن داود الملك في أورشليم" (1: 1)، الذي فاق كل من سبقوه في الغنى والحكمة (1: 16؛ 2: 7، 9). وبالتأكيد أسلوب حياته واهتمامه بالحكمة لهما انعكاساتهما على هذا السفر. كما يمكن القول بأن السفر هو ثمرة عودة سليمان إلى الله بعد انغماسه زمانًا في الملذات الدنيوية وارتباطه بنساء غريبات الجنس وثنيات. فقد سجل لنا في أيامه الأخيرة خبرته الطويلة.
يُمكن اعتبار هذا السفر إما من كتابات سليمان نفسه في أيامه الأخيرة، أو هي كلمات لم ينطق بها كما هي إنما تُلخص خبراته الكاملة بدقة.
هذا وسمة السفر ككل تتفق مع عمل هذا الملك الحكيم كاتب سفر الأمثال[8]. لكن يرفض بعض الدارسين نسبة هذا السفر إلى سليمان الحكيم للأسباب التالية[9]:
1. لم يُذكر اسم سليمان في السفر، خاصة وإن اسم "كوهيليث Qoheleth" غير مألوف على لسان أي ملك.
2. استخدام صيغة الماضي: "كنت ملكًا في أورشليم" (1: 12)، ونحن نعلم أن سليمان بقي في الحكم حتى يوم وفاته. جاء في أسطورة عبرية وردت في الترجوم أن سليمان إذ شاخ نزعه الله عن العرش بسبب ارتباطه بنساء غريبات الجنس، وأقام عوضًا عنه ملاكًا يحمل ذات ملامحه. فهام سليمان الملك الكهل في فلسطين نائحًا وباكيًا على غباوته، وكان يصرخ قائلاً: "أنا كوهيليث (الجامعة أو المبشر) الذي كنت قبلاً أُدعى سليمان، كنت ملكًا على إسرائيل في أورشليم". تُعلل هذه الأسطورة غياب اسم "سليمان" عن السفر، وأيضًا قوله: "كنت ملكًا في أورشليم"، كمن قد توقف عن أن يكون ملكًا، بينما بقيَ على الكرسي حتى وفاته.
هذا والفعل في العبرية "كنت" يمكن أن يعني: "كنت (ولا أزال) ملكًا".
3. أحد الصعاب التي تواجه القائلين بنسبة السفر لسليمان الحكيم هي حديثة عن ملوك سابقين له في أورشليم (1: 16؛ 2: 7)، بينما لم يكن قبله سوى ملك واحد، هو داود. لكن ربما يُشير سليمان الحكيم هنا إلى ملكيصادق وأدوني بازق وغيرهما من الملوك غير العبرانيين.
4. لغة السفر: إذ يرى البعض أن لغته تناسب ما بعد عصر سليمان؛ فإن كان قد كتبه فقد تسلمه كاتب آخر ليضع فيه بروح الله لمسات أخيرة. ويرى بعض الدارسين أن السفر هو دراسة مبنية على أقوال سليمان.
5. يرى بعض الدارسين أن الجو العام للسفر مختلف تمامًا عن الجو الذي يُحيط بسليمان الملك، فعهده كان متسمًا بالرخاء في فلسطين (1 مل 4: 25) بينما يفترض السفر وجود كوارث وطغيان وقهر (4: 1-3؛ 5: 8؛ 7: 10؛ 8: 9؛ 10: 6-7). لو أن سليمان قد علم بهذا الظلم في المملكة كما يذكر الكاتب لكان بالتأكيد قد رد الحق إلى نصابه.
بعض الدارسين الذين ينكرون نسبة السفر لسليمان الحكيم يعتبرونه من أسفار ما بعد السبي، لكنهم يتفقون في أن الشخصية المحورية للسفر هي سليمان الذي استخدمه الكاتب غير المعروف، والذي يُحتمل أن يكون من نسل داود الملوكي. وإن الكاتب لم يخدع أحدًا[10].
يعتقد بعض النقاد أن هذا السفر هو نتاج عدة كُتَّاب، وليس من عمل شخص واحد؛ ويظنون أن السفر يحوي بعض متناقضات أو آراء مختلفة لأكثر من شخص. ولعل سبب هذا أن السفر يتحدث أحيانًا عن الحكمة البشرية وأخرى عن الحكمة الإلهية. فالإنسان الطبيعي يظن باطلاً أنه يشبع بحكمته الخاصة ويفرح بها، بينما ينال الإنسان الروحي شبعًا بالحكمة السماوية. أيضًا أحيانًا يطلب الكاتب من الإنسان التمتع بالحياة، وأحيانًا أخرى يؤكد أن الحياة باطلة. هذا لأنه يسألنا أن نحيا في الله، وأن نزهد فيها خارج دائرة الله. وكأن الكاتب يقول: "هيا بنا إذن لنرى ما هي الحياة بدون الله، ماذا تكون؟ ماذا تنال إن عشت فقط من أجل الأشياء التي في هذا العالم؟ فإن الحياة وقتية وباطلة وبلا معنى، تُسبب إحباطًا وبؤسًا، لكن الله يستطيع أن يُغيِّرها!"[11].
في دراسة هذا السفر يلزم التمييز بين الحق المعلن عنه والوحي الإلهي وبين أفكار الإنسان الطبيعي، فقد سجل لنا بعض أفكار خاطئة للإنسان الطبيعي مثل موت النفس (9: 5-6). إذ لا يمكننا القول بأن هذا من تعليم كلمة الله، إنما هو تسجيل الوحي لأفكار الإنسان الطبيعي[12].
من هذا كله تظهر صعوبة تحديد تاريخ كتابة السفر، فإن كان الكاتب هو سليمان الحكيم في أواخر حياته يكون السفر قد كُتب حوالي عام 940 ق.م.، وإن كان قد سجلته يد أخرى فربما يكون ذلك حوالي سنة 200 ق.م.[13].
مفتاح السفر (الكلمات والعبارات الاسترشادية):
Ø "باطل hebel": تكررت 37 مرّة. تؤكد أن العالم بدون الله هو باطل.
Ø "تحت الشمس": تكررت 29 مرة. يليق بنا إلاَّ نبقى تحت الشمس بل نرتفع فوقها، حيث نتحد بشمس البر فنوجد في ملكوته. هناك لا نحتاج إلى شمس مخلوقة، إذ يكون مسيحنا هو نورنا الأبدي (رؤ 22: 23)، يهبنا الاستنارة والدفء بروحه القدُّوس. في العالم "تحت الشمس" نُعاني من الفراغ والعبودية، أما في العالم "فوق الشمس" فننعم بالشبع والحرية. في العالم الأول يوجد نهار وليل فنُعاني من حرّ النهار كما من ظلمة الليل، أما في العالم الآخر فلا تضربنا شمس بالنهار ولا القمر بالليل (مز 21: 6)، كما لا تجد الظلمة لها موضعًا فينا.
"تحت الشمس" تُشير إلى الإنسان الذي ينحني تحت مرارة التجارب، أما المؤمن الحقيقي فيرفعه روح الله إلى فوق التجارب حتى تعبر من تحته، قائلاً مع مخلصه: "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس".
v لقد كرّس هذا الحكيم السفر كله للتوضيح الكامل لهذا البطلان، ليس لهدف آخر سوى أن نشتاق إلى تلك الحياة حيث ليس فيها بطلان ما تحت الشمس وإنما يكون فيها صدق تحت ذاك الذي خلق الشمس[14].
القدِّيس أغسطينوس
Ø "تحت السماء": تكررت 3 مرات. حينما يكتشف المؤمن الحقيقي بطلان هذا العالم لا يطيق أن يبقى قلبه تحت السماء، متمرغًا في التراب. وإنما يجلس مع المسيح في السمويات (أف 2: 6)، بل ويصير هو نفسه سماء حيث يُقام ملكوت الله داخله (لو 7: 21).
Ø "على الأرض": تكررت 7 مرات. إن كانت الأرض تُشير إلى الجسد، فإنه يليق بالمؤمن إلاَّ يخضع لشهوات الجسد، بل خلال تقدِّيسه بكليته يعيش "على الجسد" أي فوق شهواته الزمنية. إن كان الجسد هو كعشب الحقل لذلك عندما أشبع السيِّد المسيح الجموع أجلسهم على العشب (مت 14: 19)، وكما يقول العلامة أوريجينوس إنهم ما كانوا يستطيعون نوال بركات السيِّد المسيح خلال تلاميذه لو لم يجلسوا أولاً على العشب، أي ترتفع نفوسهم فوق شهوات الجسد[15].
Ø "باطل الأباطيل": 3 مرات.
Ø "قبض الريح": 7 مرات. إذ يكتشف المؤمن أن العالم أشبه بالريح التي لا يمكن الإمساك بها، ويدرك أنه لا يهبه شبعًا حقيقيًا.
Ø "ناجيت قلبي": تكررت 7 مرات. ليس من أحد يجهل بطلان هذا العالم، لكن لكي نتحرر من قيوده ونتحد بالله خالقه يلزمنا أن نُناجي قلوبنا تحت قيادة الروح القدس واهب الحرية الحقيقية، الذي يرفعنا إلى الحياة السماوية في المسيح يسوع ربنا.
سمات السفر:
1. مجال هذا السفر وخطته هو الكشف عن بطلان كل الملذات الدنيوية، مظهرًا أن سعادة الإنسان لا تكمن في الحكمة الطبيعية والمعرفة، ولا في غنى العالم، ولا في الكرامة الباطلة ولا في القوة أو السلطة، ولا في مظاهر التدين الخارجي بل في الله نفسه وفي التعبد له بالروح والحق.
سفر الجامعة ككل هو أشبه بتعليق على كلمات السيِّد المسيح: "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا" (يو 4: 13).
هدف السفر هو الكشف عن مدى تفاهة الحياة خارج دائرة محبة الله ونعمته. يُقدم سليمان الحكيم خبرته؛ فقد جرَّب كل ما هو تحت الشمس ليُشبع قلبه فوجد أنه لن يشبع حتى وإن امتلك العالم كله، فسيبقى القلب متسعًا جدًا ليس ما يملأه.
الخط الرئيسي للسفر هو هكذا:
Ø لا يمكن للتعب (العمل) ولا للغنى ولا للنجاح ولا للرخاء أن يرد للجنس البشري السعادة. الحكمة البشرية حتى بالنسبة للأتقياء لها حدودها؛ لا تقدر أن تكشف عن مقاصد الله العميقة وجوهر معنى وجود الإنسان (1-5: 13).
Ø الممتلكات الأرضية عوض أن تجلب السعادة تصير عائقًا لها وتنصب فخًا يدمِّر الحياة (5: 14، 6: 12).
Ø لا يعرف الإنسان ما هو لصالحه، إما بسبب الجهل أو عدم تفكيره في الحياة، وغالبًا لا يعمل ما هو الأفضل بالنسبة له (7: 1، 11: 10).
Ø الخلاصة أن الحياة التي لا تتمركز في الله تصبح بلا معنى ولا مغزى؛ بدونه ليس من شيء يُشبع؛ وبه تصبح الحياة وكل عطاياه الأخرى الصالحة هبات من عنده (يع 1: 7)، نستخدمها ونتمتع بها إلى أقصى حد. لهذا فمن الحداثة إلى سن الشيخوخة يوجد طريق واحد للسعادة آمن وهو: "اِتَّق الله واحفظ وصاياه" (12: 1-4).
2. هذا السفر في الواقع هو عظة مكتوبة، تحمل براهين كثيرة في شيء من التوسع، وتقدم إجابات عن مواضيع متنوعة، وفي نهايتها نجد تطبيقًا عمليًا. إنها عظة عملية نافعة عن التوبة.
3. هذا السفر ككل هو تفسير للَّّعنة التي سقطنا تحتها بسبب الخطية (تك 3: 7-19).
4. رفضه كل المجهودات البشرية لا يعني إلاَّ الاستعداد لقبول العمل الإلهي الجديد في حياتنا. يُريد الكاتب أن يُهيئنا لمواجهة عواصف هذه الحياة الوقتية، لا بإمكانياتنا الذاتية بل بالإيمان والثقة في الله.
الله لا يُريد أن يُحطم إمكانياتنا البشرية بل أن يُقدسها إن قبلنا عمله فينا، أما إن اتكلنا على ذواتنا في كبرياءٍ فكبرياؤنا هو الذي يُحطم حياتنا ويفسد كل إمكانياتنا.
إلى من يوجَّه هذا السفر؟[16]:
تكشف بعض العبارات مثل (11: 9-10؛ 12: 1-7) أن السفر كله بوجه عام موجّه إلى الشباب؛ وكما هو الحال في سفر الأمثال، نقصد بهم من هم في سن المراهقة حتى الخامسة والثلاثين.
قُدم هذا السفر أصلاً إلى الشعب اليهودي، لكن نظرته جامعية، تضم المسكونة كلها، ولا يهدف نحو شعب واحد معين. لقد كان سليمان الحكيم معروفًا في العالم القديم، وكانت كتاباته تُقرأ في كل الدوائر الثقافية.
توجد عبارات قليلة جدًا تحمل نكهة خفيفة يهودية متميزة، لكنه ككل تنبعث منه رائحة الفكر المسكوني، وينطق بلغة الخبرة البشرية التي يمكن لكل البشر أن يتفهمها.
علاقته بسفريْ الأمثال ونشيد الأناشيد:
1. كُتب سفر نشيد الأناشيد حين كان قلب سليمان الحكيم في قمة انفتاحه على الحب الإلهي، وكُتب سفر الأمثال حين كان الملك في عظمة مجده وحكمته قبل أن يخطئ؛ أما سفر الجامعة فكتبه مؤخرًا حين تقدم في السن كشهادة حيَّة وعملية عن عمق توبته الصادقة. فنجد هنا اختباره الشخصي عبر سنين طويلة، محدثًا إيَّانا بلغة الحكمة والأيام.
2. يرى القدِّيس بفنوتيوس أن هذه الكتب الثلاثة تُطابق أنواع النسك الثلاثة[17]، كما تطابق دعوة الله لأبينا إبراهيم بالتخلي عن كل شيء لاقتنائه هو شخصيًا:
أ. سفر الأمثال يُشير إلى نسك الجسد وزهده عن الملذات والخطايا الجسدية، وهو يطابق الدعوة الموجهة لإبراهيم: "اترك أرضك".
ب. يُشير سفر الجامعة إلى زهد العادات الزمنية بكون العالم كله باطل، وفي هذا يطابق الدعوة: "اترك عشيرتك".
ج. يُشير سفر نشيد الأناشيد إلى تحرر النفس باتحادنا مع العريس السماوي كلمة الله بالتأمل في السمويات، وهي تطابق الدعوة: "اترك بيت أبيك"... لقبول أب سماوي أبدي.
هذه الدرجات الثلاثة التي تُمثلها الأسفار الثلاثة، تحقق دعوة السيِّد المسيح للنفس البشرية: "اِنسي شعبك وبيت أبيك لأن العريس اشتهى حُسنِك، وله تسجدين" (مز 45).
يوضح القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص كيف يرتفع سليمان الحكيم بالنفس المؤمنة خلال هذه الأسفار الثلاثة لتتنقى في طريق الحب الإلهي، حيث ترفض الزمنيات المنظورة، لتتمتع بعريسها السماوي في المقادس الإلهية.
v يُضيف سليمان فلسفة (حكمة) سفر الجامعة إلى ذاك الذي تدرب بما فيه الكفاية على اشتهاء الفضيلة خلال "الأمثال". بعد أن يُندد بتمسك البشر بالمظاهر الخارجية في هذا السفر، وبعدما يعلن أن كل ما هو غير ثابت إنما هو باطل وعابر، وإن كل ما يعبر هو باطل (11: 8).
يرتفع سليمان فوق كل ما يمكن إدراكه بالحواس، وذلك بحركة الحب التي لنفوسنا متجهة نحو الجمال غير المنظور. بهذا يتنقى القلب من كل أمور خارجية ليدخل بالنفس إلى المقدس الإلهي بواسطة نشيد الأناشيد[18].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
3. يرى القدِّيس أمبروسيوس أن هذه الأسفار الثلاثة تُشير إلى أنواع التفسير الثلاثة: التفسير الطبيعي أو التاريخي أو الحرفي، والتفسير الأخلاقي أو السلوكي، والتفسير الرمزي أو الروحي. فسفر الجامعة يُشير إلى النوع الأول، والأمثال الثاني، نشيد الأناشيد الثالث.
v إنك تجد نفس الشيء في سليمان؛ فالأمثال أخلاقي، والجامعة الذي يحتقر كل أباطيل العالم سفر طبيعي، وكتاب نشيد الأناشيد سرّي[19].
القدِّيس أمبروسيوس
اللاهوت في سفر الجامعة[20]:
مادام السفر يهدف إلى رد كل نفس إلى حضن الله لاختبار الحياة الجديدة الخالدة عوض الارتباك بملذات الحياة الحاضرة وآلامها، لهذا جاء هذا السفر يحتوي على مجموعات غير مترابطة تكشف عن علاقتنا بالله والعالم وفهمنا للحياة الحاضرة والإنسان والحكمة.
أولاً: الله في سفر الجامعة[21]:
القراءة السريعة للسفر تدفعنا للقول إن غاية السفر هو الكشف عن بطلان الحياة الزمنية بكونها حياة قصيرة وعابرة تنتهي بالموت، يشترك في هذا الحكيم والجاهل؛ الإنسان والحيوان. لكن من يُقرأ ما وراء السطور يدرك غاية الكاتب الحقيقية وهو ليس نفورنا من هذه الحياة بمباهجها وآلامها وإنما التعلق بالله خالق العالم ومدبر أموره الكبيرة والصغيرة.
ذُكر اِسم الله هنا 41 مرة مستخدمًا تعبير "الوهيم" الخاص بلقبه كخالق... وكأن الكاتب يود أن يوجه أنظار القارئ إلى الله كخالق عوض الانشغال بخليقته، أو ليؤكد أنه الخالق لعالم صالح ونافع أفسده الإنسان بانحراف فكره.
1. الله الخالق:
إن كانت الخليقة مبهجة، تجلب لذة ومتعة، فماذا يكون الخالق الذي جلب لنا الأمور المنظورة وغير المنظورة، خلق من أجلنا العالم الخارجي كما خلقنا نحن أنفسنا؟!
"كما أنك لست تعلم ما هو طريق الريح، ولا كيف العظام في بطن الحبلى، كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع" (11: 5). من أجلي خلق كل العالم حتى الرياح كما خلق عظامي وأنا في الأحشاء. لا أعرف كل أسرار الطبيعة التي أوجدها لحسابي، ولا حتى كيف تكونت عظامي وأنا جنين، إنما أعرف أنه صانع الجميع، فكيف ارتبط بالخليقة لا بخالقها؟! لهذا ينصحني الجامعة: "فاذكر خالقك في أيام شبابك" (12: 1).
2. الله الكلِّي القدرة:
ارتباطي بالله لا يقوم على علاقتي به كمخلوق مدين له، إذ خلقني وخلق كل شيء لأجلي وإنما هو "الخالق القدير". يعجز ذهني عن إدراك قدرته، إذ يقول الجامعة: "رأيت كل عمل الله أن الإنسان لا يستطيع أن يجد العمل الذي عُمل تحت الشمس، مهما تعب الإنسان في الطلب فلا يجده والحكيم أيضًا..." (8: 17).
أمام قدرته الفائقة أشعر بالعجز وعدم إمكانية التعرف على تدابيره لحسابي، إنما أؤمن أنه يصنع كل شيء حسنًا لأجلي: "صنع الكل حسنًا في وقته، وأيضًا جعل الأبدية في قلوبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية" (3: 11).
3. الله ضابط الكل:
في قدرته الفائقة يصنع كل شيء حسنًا في وقته لحسابي، ولا يفلت شيء من يده، فهو ضابط الكل، أعماله كاملة حتى وإن كنا لا ندركها... كضابط الكل يقدر وحده أن يُصلح فساد طبيعتي واعوجاجها: "أُنظر عمل الله لأنه من يقدر على تقويم ما قد عوَّجه؟!" (7: 13). "لأن هذا كله جعلته في قلبي، وامتحنت هذا كله أن الصديقين والحكماء وأعمالهم في يدّ الله" (9: 1).
4. الله كلِّيْ الحكمة:
كضابط الكل في يده حياتنا بكل دقائقها، وبحكمته يدبرها، فهو العارف الماضي (3: 15)، والمستقبل (6: 12)، ويدبر كل الأمور حسنًا (2: 11، 14).
5. الله المعطي:
الله كخالق قدير وأب محب لا يكف عن العطاء، يُقدم لنا الآتي:
Ø يهبنا الحياة (8: 15)، وهو الذي يأخذ الروح (12: 7).
Ø واهب الغنى والسلطة (5: 19).
Ø معطي الفرح (5: 19).
يرى الجامعة أن كل ما في الحياة حتى إمكانية الإنسان أن يأكل ويشرب ويتعب هذا كله من يد الله (2: 24).
6. الله القدُّوس:
الله لا يبخل على الإنسان بشيء، وهو في هذا لا يطلب منه شيئًا بل أن يحمل سمة القداسة، فيكون مقدسًا كما هو قدُّوس. إنه لا يطلب ذبيحة الجهال بل طاعة الحكيم المملوء حبًا.
"احفظ قدمك حين تذهب إلى بيت الله، فالاستماع أقرب من تقديم ذبيحة الجهال، لأنهم لا يبالون بفعل الشر" (5: 1).
"فلنسمع ختام الأمر كله: "اِتَّق الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله" (12: 13).
7. الله المهتم بالإنسان:
في رقة مشاعر الجامعة لم يحتمل دموع المظلومين (4: 1)، فغبَط الأموات لأنهم لا يعاينون الظلم، بل وحسب الذين لم يولدوا أكثر سعادة. هذا لا يعني أن الأمور تسير في العالم بلا ضابط، إنما يهتم الله بالبشر، خاصة الأبرار والحكماء (9: 1). يسمح لهم بالتجارب (1: 13)، لكنه وإن كان لا يُحاكم الأشرار الظالمين سريعًا إلاَّ أنه يُحوّل المتاعب لخير خائفيه (8: 12-13). الله يُنجي الصالح من الأشراك (7: 26).
8. الله الديان:
الله هو الديان، يُدين الصدِّيق والشرير (3: 17). يُدين كل أعمال الشر (11: 9). إنه يدعونا يومًا ما للحساب، فنقدم إجابة عن كل أعمالنا. على ضوء هذه الحقيقة يلزمنا أن نعيش. "لأن الله يُحضر كل عمل إلى الدينونة، على كل خفي، إن كان خيرًا أو شرًا" (12: 14).
ثانيًا: العالم في سفر الجامعة:
"باطل الأباطيل الكل باطل" (1: 2)؛ هذا هو العالم بدون الله؛ أما بالله فحتى الأكل والشرب بل والتعب فيه خير للإنسان (2: 24). يتمتع الصالح في هذا العالم بالحكمة والمعرفة والفرح (2: 26).
ثالثًا: الحياة في سفر الجامعة:
مادام كل ما في الحياة حتى الأكل والشرب وغيرهما هو عطية الله ومن يده، لذا يليق بنا أن نقبل الحياة البسيطة المعتمدة على الله بكونها الحكمة الحقيقية. لنتعب ونجد في تعبنا خيرًا وفرحًا (2: 24).
لنطلب الحكمة لا محبة الغنى، فإن "ولدٌ فقير وحكيم خير من ملك شيخ جاهل" (4: 13).
لنعمل أيضًا بروح الجماعة فإن: "اثنان خير من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة... والخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا" (4: 9، 12).
بالله يصير كل شيء نافعًا، فلا نقف في سلبيةٍ، بل نُجاهد بكل طاقتنا للانتفاع بعطايا الله لنا: "كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك" (9: 10).
يرى الجامعة عطايا الله كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:
1. الحكمة: "رأيت أن للحكمة منفعة أكثر من الجهل، كما أن للنور منفعة أكثر من الظلمة" (2: 13)؛ "الحكمة صالحة مثل الميراث" (7: 11)؛ "الحكمة خير من أدوات الحرب" (9: 18)؛ "الحكمة خير من القوة" (9: 16).
2. السمعة الطيبة: "الصيت خير من الدهن الطيب" (7: 1).
3. طول الأناة: "طول الروح خير من تكبر الروح" (7: 8).
4. الزواج: "التذ عيشًا مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إيَّاها تحت الشمس" (9: 9).
5. المغامرة الروحية والعطاء: "اِرم خبزك على وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة" (11: 1).
6. الانتفاع بنور الشمس: "النور حلو وخير للعينين أن تنظرا الشمس" (11: 7).
7. الانتفاع بالحداثة والشباب: "اِفرح أيها الشاب في حداثتك، وليُسرّك قلبك في أيام شبابك، واِسلك في طرق قلبك..." (11: 9).
أما إن فقدت الحياة معناها باعتزال الله فلا ينتفع الإنسان بشيء، بل يصير كل شيء باطلاً، مثل التعب والجهاد (1: 3-11)؛ الحكمة البشرية والمعرفة الزمنية 1: 13-18)؛ الضحك (2: 2)، الملذات الجسدية (2: 2)، الغنى والكرامة (2: 4-11)، الظلم والأنانية (4: 1-4)، التراخي والكسل (4: 5)، السلطة (4: 13؛ 9: 17)، شكليات العبادة الحرفية (5: 1 الخ...)
رابعًا: الإنسان في سفر الجامعة[22]:
كسائر الكتابات الحكيمة يُعالج سفر الجامعة أولاً وقبل كل شيء الحياة البشرية ومشاكلها.
1. خلق الله الإنسان مستقيمًا (7: 29)، مقدمًا له الكثير لكي يشبع وتفرح أعماقه (5: 18 الخ)، وينعم عليه بالحياة المقدسة. لهذا يوصيه الجامعة أن يخفْ الله ويحفظ وصاياه، قائلاً: "لأن هذا هو الإنسان كله" (12: 13).
2. مع هذا فالإنسان خاطئ (7: 20)، فقد الكرامة التي خلقه الله عليها (3: 11)، وصار يجهل خطة الله نحوه وعمله معه (8: 17)، وصارت الحكمة بعيدة عنه (7: 23)، فهو على حال غير ما يريده الله له (7: 27-29).
3. يوجد الآن "الصدِّيق والشرير"، "الصالح والطالح"، "الطاهر والدنس" (9: 2). هذا أمر نسبي "لأنه لا إنسان صدِّيق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" (7: 20).
4. أما من جهة النظام الاجتماعي فيوجد ملوك (رؤساء) وعبيد (10: 16)، ظالمون ومظلومون [4: 1؛ 5: 7)؛ أغنياء وطبقة كادحة (5: 11). على أي الأحوال الحكمة ليست إرثًا للأغنياء (4: 13؛ 9: 15). العمل (10: 18) والمشاركة (4: 9-12) أمران هامان.
الخضوع في بعض الأحيان هو أفضل من مواجهة الحكام الطغاة (10: 4-7).
بالنسبة للسعادة يقتنع البعض بنصيبهم (15: 18)، غير أن الآخرين يلازمهم التبرم (5: 9)، لأن رغباتهم طموحة جدًا (1: 13؛ 2: 1-3؛ 3: 11)، لهذا يغلبهم الإحساس بالإحباط[23].
5. يُذكرنا السفر بحقيقة ثابتة لا يجب أن ننساها وهي أننا سنموت يومًا ما، وإن كل أحد سيُقدم حسابًا عن أعماله. هذا يحثنا بقوة لاستغلال الفرص الحاضرة (اُنظر 2: 14-16؛ 3: 17-21؛ 5: 15-16؛ 6: 12؛ 8: 7-8؛ 9: 2-6، 12: 1-7)[24].
خامسًا: الحكمة في سفر الجامعة:
تكررت كلمة "حكمة hokma" و"حكيم hakam" 44 مرة في هذا السفر. الحكمة تخص الله وحده، وهو يهبها لبني البشر (2: 26). ولئلاَّ نظن أنها مجرد أمور عقلانية لذلك يقدم لنا أمثلة كيف تُفهم الحكمة العملية (8: 2-6، 10: 1-11؛ 11: 6). وقد جاء تحذير الجامعة النهائي يؤكد أن الحياة ليست معرفة مجردة لكنها عمل (12: 12-14)[25].
وهناك علاقة وثيقة بين الحكمة والسعادة، فالحكمة تنير وجه الإنسان وتغير طبيعته الصلبة والجافة إلى الحب والحنو (8: 1). إنها تُحيي صاحبها (7: 12).
الإطار العام:
1. مقدمة [1-4].
2. موضوع السفر: بطلان العالم [1: 2].
3. البراهين على بطلان العالم
أ. شهادة الطبيعة [1: 3-11].
ب. السعي وراء الحكمة البشرية باطل [1: 12-18].
ج. السعي وراء الملذات الحسِّية باطل [2: 1-3].
د. السعي وراء الغنى والجاه باطل [2: 4-26].
هـ. شهادة العالم [3].
و. شهادة المجتمع [3].
4. التطبيق العملي
أ. الحب العملي أفضل من شكليات العبادة [5].
ب. الحياة السعيدة أفضل من الجمع [6].
ج. الحكمة العملية والحياة الأبدية [7].
د. الحكمة العملية والسلوك الهادف [8].
هـ. الحكمة العملية هبة إلهية [9].
و. الحذر حتى من الصغائر [10].
ز. الجهاد المملوء حبًا [11].
ح. الجهاد المبكر [12: 1-7].
5. الخلاصة: يمكن التغلب على البطلان [12: 8-14].
الباب الأول
براهين بطلان العالم خارج الله
1. شهادة الطبيعة .
2. بطلان مباهج العالم (خبرته الشخصية) .
3. شهادة العالم .
4. شهادة المجتمع .
يوجه الجامعة حديثه إلى كل إنسان مؤكدًا له بطلان العالم وكل ما فيه، لا بنظرة تشاؤمية مُرّة، وإنما بغية استخدام كل ما هو حولنا كعطية إلهية مؤقتة، قُدمت لنا لا لاكتنازها بروح الطمع، ولا لاقتنائها بروح الظلم، وإنما لكي نشترك فيها مع الغير بروح الصداقة والحب. كل ما هو حولنا جميل وحسن إن استخدمناه في وقته حسب خطة الله ومقاصده الإلهية، أما إن فسدت قلوبنا وأفكارنا فيصير الكل باطلاً!
إذ يتحدث الجامعة مع البشرية بوجه عام استخدم براهينه من واقع الطبيعة ذاتها بكونها لغة كل البشر يقرأها الجميع [1]، ثم يُقدم خبرته الشخصية في سعيه وراء مباهج العالم [2]، ويقدم شهادة العالم نفسه موضحًا أنه ليس شيء صالحًا في ذاته بل لكل شيء زمان، وأخيرًا يُقدم شهادة المجتمع حيث احتل الظلم موضع العدل في المجتمعات بصفة عامة [4].
الأصحاح الأول
إذ يوجه الكاتب حديثه إلى كل إنسان تحت الشمس يُقدم براهين لا تقوم على وعود إلهية، يعرفها شعب دون غيره، وإنما يستخدم الطبيعة كلغة جامعية يقرأها الجميع.
1. كاتب السفر [1].
2. موضوع السفر [2-3].
3. شهادة الطبيعة [4-11].
أ. قصر الحياة البشرية [4].
ب. تغيُّر طبيعة كل الكائنات [5-7].
ج. عدم الشبع [8].
د. ليس من جديد في الخليقة [9-10].
هـ. النسيان سمة كل العصور [11].
4. بطلان الحكمة البشرية [12-18].
1. كاتب السفر:
"كلام الجامعة (كوهيليث) ابن داود الملك في أورشليم [1].
أنه سليمان؛ وإن كان لم يعرِّف نفسه بالاسم، لكنه هو ابن داود، الملك في أورشليم، الذي بسبب غناه وحكمته واهتمامه على مستوى العالم في ذلك الحين صارت له فرصة كبيرة لاختبار الحياة الزمنية، وتقديم هذه الخبرة لكل البشرية. ويلاحظ هنا[26]:
أ. أخفى اسمه "سليمان"، والذي يعني "سلامًا"، لأن الخطية قد حطمت سلامه الداخلي، وجلبت المتاعب لنفسه ولمملكته، كما حطمت سلامه مع الله، فلم يعد يستحق هذا الاسم. كأنه يقول: "لا تدعوني رجل سلام بل دعوني مُرًا" (را 1: 20).
ب. دعي نفسه "الجامعة"، لأن الله قد جمعه خلال التوبة إلى قطيعه المقدَّس بعد انحرافه كخروف ضال، الآن يرده عن التيه إلى الكنيسة المقدسة خلال المصالحة مع الله. أو لأنه يُقدم خبرته وحكمته العملية للبشرية، كي يرجع الكل إلى الكنيسة الجامعة. أما استخدامه "التأنيث" [الجامعة]، فربما توبيخًا لنفسه إذ تعلق بنساء غريبات، وبسببهن انحرف إلى العبادة الوثنية.
ج. يذكر أبوّة داود له لتوبيخ نفسه. أنه ابن ذاك القدِّيس العظيم صاحب المزامير قد تاه وانحرف. وربما أيضًا ليبعث في نفسه الرجاء، فقد سقط أبوه داود وقام، وبقيامه من الخطية حث الكثيرين على التوبة.
د. "الملك في أورشليم"، فقد أخطأ في حق الله الذي أقامه ملكًا، ولم يدعه معوزًا شيئًا. ومما يُضاعف خطيته أنه ملك على مدينة الله المقدسة أورشليم.
2. موضوع السفر:
"باطل الأباطيل قال الجامعة.
باطل الأباطيل الكل باطل.
ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟" [2-3].
كلمة "باطل" في العبرية hebel معناها أساسًا "نسمة" (إش 57: 13) أو "بخار"، كأن العالم كله خارج الله يشبه نسمة تخرج من أنف الإنسان أو بخارًا يخرج من فمه في يوم بارد، لا يعود يقتنيه أو ينشغل به، لأنه سرعان ما يتبدد في الهواء.
أنه يعني بكلمة باطل أن العالم زمني عابر وأنه بلا جدوى على المدى الأبدي. هنا لا يُقدم لنا راهب متوحد خبرته وأفكاره، وإنما ملك غني ذو جاه وله خبرات في كل جوانب الحياة في ذلك الوقت... حديث واقعي وعملي.
لقد أكد الكاتب في أكثر من موضع أن كل ما في العالم هو صالح ونافع بكونه عطية الله، لكن إساءة الإنسان استخدامه جعله باطلاً، إذ صار الذهن نفسه باطلاً" (أف 4: 17).
أنه لا يدفعنا إلى روح اليأس، لكنه يُطالبنا ألاَّ تُمتص أفكارنا في الأرضيات والزمنيات، وإلاَّ تكون هدفًا لنا في عبادتنا. بعبارة أخرى، الحياة من جميع جوانبها لا معنى لها ولا فائدة منها، سطحية وفانية، ما لم ترتبط بالله بحق، عندئذ فقط إذ تستند على الله وعلى كلمته تكون ذات قيمة.
v لماذا أنت مقيد بمحبة الأمور الوقتية؟
لماذا تجرى وراء الأمور التي لها المكانة الأخيرة، كأن لها الأولوية مع أنها باطلة وأكذوبة؟ فإنك تُريدها أن تقطن معك وهي عابرة كالظل[27].
القدِّيس أغسطينوس
v يدعو كل ما نراه ونصارع لأجله كحقيقة منظورة "باطلاً".
ما هو باطل ينقصه "الجوهر"، وما ينقصه "الجوهر" لا يحمل قوة![28].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
v "باطل الأباطيل، الكل باطل". لنذهب إلى المقابر، أرني أباك، أرني زوجتك، أين ذاك الذي كان يرتدي ثيابًا مذّهبة؟ ذاك الذي كان يركب المركبة؟ ذاك الذي كانت له جيوش، والذي كانت له منطقة؟ وكان له مذيعون؟ ذاك الذي قتل هؤلاء وألقى بأولئك في السجن؟ الذي كان يميت من يشاء ويعفو عمن يشاء؟ إنني لست أرى إلاَّ عظامًا ودودًا وأنسجة عنكبوت، هذه كلها تراب ووهن وحلم وظل وعلاقة مجردة (واهية) وصورة، بل ولا تصل إلى صورة[29].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
أما غاية تأكيد بطلان هذا العالم فهو تدريب القلب لا على كراهية العالم بل بالأحرى على حب السماء والتمتع بالله الكلمة بكونه الأبدي المشبع للنفس:
v "الكل باطل، قال الجامعة"، كل ما في هذا العالم. لهذا من يرغب في الخلاص فليرتفع فوق العالم، وليطلب "الكلمة" الذي مع الله، هاربًا من هذا العالم، وتاركًا الأرض. فإنه لا يستطيع أحد أن يدرك ما هو موجود دائمًا، ما لم يهرب أولاً من هنا. لهذا السبب أيضًا إذ أراد الرب الاقتراب من الله الآب (وهو واحد معه) قال لتلاميذه: "قوموا، ننطلق من ههنا" (يو 14: 31)[30].
القدِّيس أمبروسيوس
v [على لسان السيِّد المسيح، كلمة الله المشبع للنفس]
أنا أبوك، وأخوك، وعريسك، ومنزلك، وثوبك، ومصدرك، وأساسك.
أنا كل ما تشتاق إليه؛ فلا تعتاز إلى شيء.
سأكون خادمك، فقد جئت لكي أخدِم، لا لكي أُخدَم.
أنا صديقك، عضو لك، رأسك، أخوك، أختك، أمك، وكل شيء بالنسبة لك... فقط كن صديقًا ليّ...
ماذا تطلب بعد؟
لماذا تصدّ ذاك الذي يُحبك؟
لماذا تتعب من أجل هذا العالم؟
لماذا تسحب ماءً بإناء راشح، لأن هكذا هو التعب من أجل الحياة الحاضرة؟
لماذا تغزل صوفًا في النار؟
لماذا تُصارع مع الهواء؟
لماذا تركض باطلاً؟
أليس لكل فن غاية؟ هذا واضح للكل؛ أما أنت فبلا هدف. باطل الأباطيل الكل باطل[31].
v لنصدقه ولنتمسك بالأمور التي ليس فيها ما هو باطل، بل ما هو حق؛ ما يتأسس على صخرة صلدة، وحيث لا توجد شيخوخة ولا انحراف، بل يكون كل شيء مزهرًا ومنتعشًا دون فساد أو قِدَم أو انحلال.
أسألكم أن نحب الله بعاطفة صادقة، ليس خوفًا من الجحيم، وإنما رغبة في الملكوت.
ماذا يمكن مقارنته برؤية المسيح؟ بالتأكيد لا شيء!
أية متعة ننالها من هذه الأمور الصالحة؟... "ما لم ترهَ عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9)[32].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v ليس من صار رفيق الملائكة واستأنس بأسرارهم ولم يرذل رفقة العالم.
v إن تركت مقتنياتك من أجله، تقتنيه في نفسك إلى الأبد[33].
ما أشهى رحيل محبيك إليك أيُها الطبيب، وما أصعب خروج محبي العالم منه، لأن أولئك لميراثهم ينتقلون، وهؤلاء عن الذي لهم يرحلون[34].
v من هو هذا الذي ذاق حلاوة ثمار شجرة الحياة ويُريد أن يجرى نحو ثمار العالم النتنة؟![35].
القدِّيس يوحنا سابا
السؤال الذي أثاره الكثيرون: لماذا يُدعى العالم باطلاً وهو من صُنع الله كلّيْ الصلاح؟ بمعنى آخر: هل يخلق الله الصالح أمرًا بلا نفع؟
يرى الله أن كل ما خلقه "حسن" أو "صالح" (تك 1: 10، 12، 18، 31)؛ لكن الإنسان وقد فسد ذهنه وطبيعته وبصيرته الداخلية أساء النظرة إلى العالم كما أساء استخدامه له، فصار العالم باطلاً. العالم الذي هو من صنع الله صالح، خُلق لأجل الإنسان ليعمل فيه ويبتهج... أما وقد تحطم الإنسان في طبيعته لم يعد يُحقق العالم غايته كخادم له.
v إن كانت (الخليقة) هي أعمال الله، فكيف تكون باطلة؟ إن النزاع في هذا الأمر كبير. ولكن اسمعوا أيها المحبوبين؛ ليست أعمال الله هي التي ندعوها باطلة، حاشا لله! السماء ليست باطلة؛ الأرض ليست باطلة، حاشا! ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب، ولا أجسادنا. كلا! فإن هذه جميعها حسنة جدًا (تك 1: 31).
إذن، ما هو الباطل؟ لنسمع الجامعة نفسه، إذ يقول: "غرست لنفسي كرومًا، اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات، عملت لنفسي برك مياه، وكانت ليّ قنية بقر وغنم، جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا، فرأيت هذه كلها باطلة" (راجع جا 2: 4-8). كما يقول: "باطل الأباطيل الكل باطل" (12: 8). اسمع أيضًا ما يقوله النبي: "يذخر ذخائر ولا يدري من يضُمها" (مز 39: 6). مثل هذا باطل، مبانيك الفاخرة، وغناك الزائد جدًا وقطيع العبيد الذي يتدافع في الميدان العام، مجدك الباطل وأُبهتك، أفكارك المتشامخة، وتفاخرك؛ هذه كلها باطلة، فأنها ليست من يدّ الله إنما هي من عملك. ولماذا هي باطلة؟ لأنه ليس لها غاية نافعة[36].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
يُحدثنا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في مقاله: "لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانا ما لم يُؤذِ الإنسان نفسه" عن مفهوم الصلاح في شيء من التوسع، موضحًا أن العالم بكل ما فيه ليس صالحًا في ذاته ولا شريرًا، إنما استخدام الإنسان له يُحوله إلى الصلاح أو الشر. فمن يستخدم المال في الشر، يكون بالنسبة له شرًا، ومن يسند به إخوته المحتاجين يكون بالنسبة له بركة الخ...
أخيرًا يرى القدِّيس أغسطينوس أنه يليق بالمؤمن أن ينقل ممتلكاته الزمنية إلى الحياة الحقة خلال الصدقة، إذ يقول: [يلزم التمسك بالحياة الحقة، فننقل غنانا إلى موضع الحياة الحقة، فنجد هناك ما قدمناه هنا. أنه (الله) يُتمم هذا التحويل لممتلكاتنا ذاك الذي صنع التحول لنفوسنا[37]]. السيِّد المسيح الذي أجلسنا في السمويات ينقل مالنا إلى السماء!
إن كان الإنسان بفساد طبيعته وذهنه وبصيرته الداخلية جعل العالم باطلاً، لكن يبقى الإنسان في عينيّ الله أثمن من العالم كله! "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!" (مت 16: 26). فقد خلق الله العالم لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل العالم. لهذا يليق بالإنسان في جهاده وتعبه سواء في حياته الخاصة أو الأسرية أو العمل أو في عبادته ألاَّ يحوّل نظره عن حياته الداخلية وشبعها بالله نفسه. لهذا يُحذرنا الجامعة من كل جهاد يفقد الإنسان فيه غايته، قائلاً: "ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟!" [3]. تعبنا في حياتنا اليومية وفي عبادتنا لن يقدر أن يُشبع النفس، ويكفّر عن خطيتها، ويشفي جراحاتها، ويُقدسها، ما لم نتكئ على صدر المخلص بالإيمان العملي ونطلب عمل روحه القدُّوس فينا.
v يُحسب بر الإنسان كلا شيء. عمل البشر، ما هو؟ تعبه كله باطل.
منك يارب، وبنعمتك تصير طبيعتنا صالحة. منك البر؛ فنصير نحن البشر أبرارًا. منك الرحمة والنعمة. فنتحول من التراب إلى صورتك.
أعطِ قوة لإرادتنا فلا نغرق في الخطية[38].
القدِّيس مار أفرام السرياني
مادمنا "تحت الشمس"، نخضع للتجارب ونُعاني من حرارتها (مت 20: 12). ولن ننتفع شيئًا من كل تعبنا، أما إن قبلنا شمس البر فينا فيحملنا فوق كل تجربة شريرة، ولا يقدر لهيب الشهوات أن يمس أعماقنا الداخلية. يحملنا شمس البر بروحه القدُّوس لتنعم النفس بعربون المجد الأبدي، فنقول: "أجلَسنا معه في السمويات" (أف 2: 6).
v يُشير بالتعب هنا [3] إلى حياة الجسد التي لا تطلب منافع في أي عمل صالح. إنها تقول: "ما الفائدة للإنسان؟"، أي ماذا تجتني النفس من كل تعب الحياة، وذلك في حياة الذين يعيشون فقط من أجل الكماليَّات[39].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
3. شهادة الطبيعة:
يُقدم الجامعة أمثلة واقعية من الطبيعة تؤكد قصر الحياة الزمنية، وطبيعتها المتغيرة، وعجزها عن إشباع القلب، أنه ليس من أمر جديد بحق في الحياة بالرغم من التقدم والتطور، وأخيرًا فإن ما يناله الإنسان حتى من كرامة أو شهوة يُمحيه الزمن بالنسيان.
أ. قصر الحياة البشرية:
"دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد" [4].
يُظهر الجامعة أن فترة استمتاعنا بالأمور الأرضية قصيرة للغاية. فأنه إن كانت الأرض قد خُلقت لأجل الإنسان ولراحته، لكن يعيش الإنسان في جيل ينتهي معه ليحل محله جيل آخر، والأرض باقية حتى انقضاء الدهر.
v يبقى المائت مائتًا سواء كُرِّم أو لم يكرَّم... يقول الجامعة الحكيم: "الأرض قائمة إلى الأبد"، تخدم كل جيل، الجيل الأول فالتالي الذي يولد بعده عليها؛ أما البشر... فأنهم يأتون إلى الحياة بإرادة خالقهم دون أن يعرفوها، ويؤخذون منها قبلما يشتهون ذلك. ومع هذا بالرغم من هذا البطلان الشديد يظنون أنهم سادة الأرض[40].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
ب. تغيُّر طبيعة كل الكائنات:
كل ما في العالم يتغير؛ فالشمس تشرق وتغرب ثم تعود فتشرق... وهكذا لا تتوقف الحركة. يتغير وضع الأرض بالنسبة للشمس فيحدث الشروق والغروب، الأمر الذي يتكرر يوميًا.
هكذا أيضًا الرياح تتحرك في مدارات معينة؛ وأيضًا المياه تتحرك إذ تتبخر فتصير سُحبا، ثم مطرًا، فأنهارًا وتعود إلى البحار والمحيطات لتتبخر من جديد!
تطلعنا إلى الطبيعة وما تحويه من تغيرات تمس كل الكائنات يكشف لنا عن طبيعة العالم أنه غير مستقر بل هو دائم التغيُّر، وبالتالي لن يبقى إلى الأبد. وكأنه لا يليق بالإنسان الذي يحمل في داخله شوقًا طبيعيًا نحو الخلود أن يرتبط بما هو متغير وفانٍ.
وربما أراد الكاتب أن يوضح بأن الإنسان الذي من أجله تتحرك الطبيعة أمامه، الكائنات كالكواكب والرياح والسحب، وهو في عجز؛ ماذا في يده؟!
ولعله أيضًا أراد أن يعلن بأن الطبيعة نفسها تتغير فالشروق يتبعه غروب فشروق الخ... بينما يعجز الإنسان عن التحرك، يولد ثم يموت ولا يقوم بعد على ذات الأرض! ما أعظم الإنسان الذي لأجله وُجد هذا الكون بكل قدراته وقوانينه المعروفة والخفية، وما أضعفه فأنه يصعب عليه أن يُغيّر حتى طبيعته الداخلية؟! عظيم هو الإنسان بالله الذي يهبه كل شيء، وضعيف للغاية في ذاته وحده!
v نرى في الشمس رمزًا لشروق طبيعتنا وغروبها. يوجد طريق واحد للجميع، توجد دائرة واحدة للكل في رحلة الحياة. بالميلاد نشرق، ثم ننحدر ثانية إلى مكاننا الطبيعي. وعندما نبلغ إلى غروب الحياة، ينحدر نورنا إلى أسفل الأرض... ما هو من الأرض يذوب بالكامل في عنصرها، وتستمر الدائرة في طريقها مرة ومرات[41].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
ج. عدم الشبع:
"كل الكلام يقصر.
لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل.
العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع" [8].
هل يمكننا أن نتوقع الشبع لنفس على صورة الله بأمور زمنية فانية ومملوءة تعبًا؟! فإن الطبيعة بكل إمكانياتها لا تقدر أن تُشبع حتى الحواس من نظر أو سمع أو شم، فكيف يمكنها أن تُشبع الحياة الداخلية؟!
v نستيقظ كل يوم لنأكل ونشرب، ومع هذا لا يشبع أحد حتى لا يجوع أو يعطش بعد قليل.
نطلب الربح كل يوم، وليس للطمع حدود!
"العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع". من يحب الفضة لا تشبعه الفضة.
ليس للتعب حدود، ولا منفعة في الغنى[42].
القدِّيس أمبروسيوس
د. ليس من جديد في الخليقة:
مع ما ناله الجامعة من غنى وملذات متزايدة وشهرة ومجد، أدرك أنه ليس من جديد تحت الشمس. حقًا، تتطور الظروف الخارجية وإمكانيات الإنسان، لكن تبقى طبيعته وأيضًا أحاسيسه ودوافعه كما هي منذ خُلق الإنسان الأول. فما كان يثير غريزة الشاب في القرن الماضي قد يأنف منه الشاب المعاصر لكن تبقى طبيعة الغرائز في حياة الشاب كما هي عبر العصور، وإن اختلف شكل المثير. كل ما هو تحت الشمس لم يتغير، أما الجديد فهو ما فوق الشمس، أي التمتع بالحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع شمس البر، فنسمعه يقول: "ها أنا أصنع كل شيء جديدًا" (رو 21: 5). نقول مع الرسول بولس: "إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17).
كثيرًا ما يشعر الإنسان بالحاجة إلى التجديد... يطلب ما هو جديد لمجرد أنه جديد، ويرفض ما هو قديم لمجرد قدمه. هذا الشعور ينبع عن حاجة داخلية تمس كيان طبيعته، لكنه عوض تجديد طبيعته بروح الله القدُّوس يطلب تجديدًا أو تغييرًا خارجيًا، كالموديلات الجديدة، والنظريات الجديدة، والتعبيرات الجديدة، فتجد الإنسان المعاصر يريد لو أمكن أن يجدد كل ما هو حوله، ليس فقط عمله أو بيته أو مدينته أو سيارته بل وأحيانًا الزوج أو الزوجة... يشعر بشيء من الملل فيطلب التجديد!
النفس التي ترتبط بالسيِّد المسيح عريسًا لها يقودها الروح القدس إلى التجديد المستمر في الفكر الداخلي، فلا تشعر بملل أو ضجر، بل تحيا متهللة بالروح كما في السماء، لا تمسها الشيخوخة ولا يصيبها قِدَم.
v بكون الله كاملاً صار إنسانا كاملاً، ودخل بكل ما هو جديد إلى الكمال؛ هذا هو الأمر الجديد الوحيد تحت الشمس، خلاله أعلن غنى قدرة الله الفائقة![43].
الأب يوحنا الدمشقي
هـ. النسيان سمة كل العصور:
"ليس ذِكر للأولين، والآخِرُون أيضًا الذين سيكونون لا يكون لهم ذِكر عند الذين يكونون بعدهم" [11].
يعيش الإنسان مشتاقًا أن يخلد ذكراه أو ذكرى أسرته، لكن العالم ينسى الأولين، أما نحن الآخرون فستنسانا الأجيال القادمة. إذن ما هو نفع الإنسان إن ركّز تعبه في اقتناء غنى العالم أو مجده؟ الغنى يزول، والمجد يُنسى! حتى مجرد الذكرى فالزمن كفيل أن يُحطمها.
4. بطلان الحكمة البشرية [12-18]:
قدم الجامعة براهين من واقع الطبيعة عن بطلان العالم من جهة زواله، وعدم استقراره، وعجزه عن إشباع الإنسان الداخلي أو تجديد الطبيعة الإنسانية الفاسدة، موضحًا أن الزمن يُفقد الإنسان حتى شهرته أو مجده الذي بذل كل الجهد لاقتنائه. الآن وهو ملك عظيم لا يعوزه شيء يسعى وراء الحكمة البشرية، فاحصًا بالحكمة ما يدور في العالم لتكون له معرفة وعلم... إذا به يصل إلى خبرة سلبية غير مُشبعة.
أ. "أنا الجامعة كنت ملكًا على إسرائيل في أورشليم.
وجّهتُ قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عُمل تحت السموات" [12-13].
وجه قلبه للسؤال والتفتيش بالحكمة، عوض رفع القلب إلى الله يطلب الحكمة السماوية (يع 1: 5). كان يلزمه الدخول في حوار مع الله الذي وحده يهب الحكمة السماوية البنَّاءة، عوض الحوار مع نفسه خارج دائرة الله، لينال حكمة بشرية عاجزة عن إشباع نفسه... "لأن في كثرة الحكمة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" [18].
حكمة الله تكشف عن ضعفاتنا، لكنها تهبنا رجاءً، وتقدم لنا إمكانيات للعمل، أما الحكمة الإنسانية، فأنها وإن أظهرت الضعفات لكنها تدخل بنا إلى الغم واليأس: من يُجدد طبيعتي التي اكتشفت فسادها؟ من يقدر أن يُصلح ظروفي الداخلية والخارجية؟ من يُحرك العالم لبنياني؟ يقول الجامعة: "الأعوج لا يمكن أن يقوَّم، والنقص لا يمكن أن يُجبر" [15]... شعور مرّ بالعجز الكامل عن الإصلاح.
v لا يقدر الإنسان العنيد أن يصير فاضلاً (بحكمته)، ولا الفاسد أن يصير مُعتبرًا... يمكن أيضًا أن نفهم العبارة [15] هكذا: يوجد في هذا العالم شر عظيم هكذا، حتى أنه من الصعب العودة إلى الحالة الأصلية من الإصلاح. إنه ليس بالأمر السهل العودة إلى ما كان علية (الإنسان) في خلقته الأولى من كمال ونظام، إنما بالندامة يمكن إعادة الاستقامة إلى كل شيء، لكن يبقى الشيطان مقاومًا في خطئه[44].
القدِّيس جيروم
هنا يليق بنا التمييز بين الالتجاء إلى الحكمة البشرية وحدها، والاتكال على الخبرة الإنسانية المجردة، وبين تقدِّيس الفكر الإنساني والخبرات البشرية بعمل الله. لهذا لا نعجب إن رأينا القدِّيس أكليمنضس الإسكندري يؤمن بأنه لا عداوة بين الإيمان والفلسفة، فالأخيرة ليست عملاً من أعمال الظلمة كما يظن البعض، إنما هي تحمل حقًا جزئيًا، يحتاج إلى الكمال والتنقية من كل ما دخل إليه من شوائب خلال عمل الإيمان[45]. أما الآباء الذين هاجموا الحكمة الإنسانية إنما هاجموا الاتكال عليها خارج دائرة الله.
v في ظني كلّ إنسان عاقل يُفكر بأن العلم هو الأمر الرئيسي من بين كل ما هو حسن... علينا أن نحتفظ بما يمكنه أن يساعدنا على التأمل في الحق، متجنبين كل ما يؤدي إلى الشر والخطأ والهلاك[46].
v من الضروري أن نستعمل التمييز في التربية بطريقة نختار فيها العلم المفيد ونتجنب كل ما هو ضرر وشؤم[47].
v علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوي لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان... فإذا كان هناك موافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلاَّ فالمقارنة في الحالة العكسية من شأنها أن تثبت اعتقاداتنا الصحيحة[48].
القدِّيس باسيليوس الكبير
لنطلب الحكمة التي تمتزج بالاتضاع والتي تتفق مع روح الإيمان، أما الحكمة النابعة عن كبرياء الإنسان واعتداده بذاته واعتزاله خالقه فهي عائق... يدعوها الآباء "حكمة هذا العالم".
v ليس من هو حكيم بالمعرفة إلاَّ الذي رفع عنه حكمة هذا العالم[49].
v حقِّر حكمتك وأرذلها، لتحل فيك حكمة الرب.
القدِّيس يوحنا سابا
ب. إن كان الله قد منح الإنسان اشتياقًا لطلب الحكمة وبحث كل الأشياء، فإن هذه الحكمة قد كشفت للجامعة أن الحياة التي قدمها له الله هي عناء رديء [13]؛ إذ يتساءل الكثيرون: لماذا أوجدنا الله في عالم مملوء شقاءً؟
لم يخلقنا الله لنعيش في عالم الشقاء والعناء، لكن إساءة استخدام العالم وإساءة النظرة إليه أفسدت حياتنا وشوهت صورة العالم في أعيننا.
"رأيت كل الأعمال التي عُملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض (انقباض) الريح" [14].
ماذا يعني "قبض الريح"؟ يُترجمها البعض "يُصارع مع الريح" أو "يقتات بالريح"، أي أن التقوُّت بالطعام ليس بذي قيمة كالريح، أو أن النفس في جوعها تمسك بكل ما هو حولها في العالم لتأكله، فإذا بها تأكل ريحًا، هذا يُشير إلى فقدان هدف الأنشطة البشرية وعُقْمها وعجزها عن تقديم شبعًا حقيقيًا داخل الإنسان أو إصلاحًا وعلاجًا داخليًا. ويرى القدِّيس أغسطينوس[50] أن انقباض الريح يُشير إلى الكبرياء الباطل الذي يسقط فيه الإنسان بطلبه الأمور الوقتية.
هذا ما بلغ إليه الجامعة خلال الحكمة والمعرفة التي نالها كملك إسرائيل، وقد اعتادت الشعوب المجاورة أن تقول: "هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن" (تث 4: 6). وقد عُرف سليمان بالحكمة، إذ يقول: "أنا ناجيت قلبي قائلاً: ها أنا قد عظُمت ازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلّي على أورشليم، وقد رأى قلبي كثيرًا من الحكمة والمعرفة" [16].
ج. يُقدم لنا الجامعة خبرته وهو يسعى وراء الحكمة والعلم والمعرفة، أعظم ما في العالم، "لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا" [18]. هنا لا يُهاجم الحكمة أو العلم إنما يعلن عن عجزهما عن تحقيق السعادة والفرح للإنسان. فبالحكمة والعلم كما سبق فقلنا يكتشف الإنسان حاجته إلى أمور كثيرة يعجز عن بلوغها فيمتلئ حزنًا. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [كلما اشتقت إلى الكثير ولا أجده هنا، أما يزداد بالأكثر حزني لأجله حتى يتحقق؟ أما أبكي بالأكثر حتى يتم ما أطلبه؟![51]]. كما يقول: [بنواله هذه المعرفة يقتني حزنًا أيضًا. وذلك لعجزه عن تحقيق الرغبة في بلوغ وطنه اللائق، وخالقه، وإلهه المبارك[52]]. ويقول القديس غريغوريوس النزيانزي: [يقول سليمان: قلت أكون حكيمًا، لكن (الحكمة) كانت بعيدة عني كل البعد. بالحق من يزداد معرفة يزداد غمًا. فإن الفرح الذي ينبع عما نكتشفه ليس بأعظم من الألم بسبب ما (لا نناله بل) يهرب منا؛ إنه ألم أتخيله كذاك الذي يشعر به الذين يُسحبون من المياه وهم ظمأى، أو الذين يعجزون عن بلوغ ما يظنونه ممسكين به، أو كمن يُترك فجأة في ظلمة بسبب انبعاث نور مبرق سريع[53]].
هذا هو عمل الحكمة أعظم ما نقتنيه هنا، فماذا تكون بقية أمور العالم؟ إننا في حاجة إلى "حكمة الله" الذي وحده يقدر أن يشبع النفس، لا إلى الحكمة الزمنية الأرضية.
"نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرّ، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1 كو 2: 6-7).
"ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله، وبرًا وقداسةً وفداءً" (1 كو 1: 30).
إذن لنقتني مسيحنا في داخلنا، هو الحكمة الحق، وهو وحده القادر أن يُخلص نفوسنا ويشبعها وينميها ويمجّدها!
الأصحاح الثاني
في الأصحاح الأول يوضح الجامعة أنه لا يمكن للإنسان أن يشبع حتى بالمعرفة والحكمة البشرية. الآن يعلن أنه قد اختبر مباهج الحواس فلمْ يحظَ بالسعادة الحقيقية والشعور بالاكتفاء؛ كما وجَّه أيضًا قلبه نحو الغنى والجاه، فإذا به يجدهما: "باطل الأباطيل وانقباض الريح". شعر أن قلبه محتاج إلى التحرر من هذا كله!
1. بطلان السعي وراء الملذات [1-3].
2. بطلان السعي وراء الثروات [4-11].
3. بطلان السعي وراء الحكمة البشرية [12-19].
4. بطلان السعي وراء التعب [20-23].
5. التمتع بملذات الحياة العادية المعطاة من الله [24-26].
1. بطلان السعي وراء الملذات:
حاول الجامعة "كوهيليث" أن يجد ضالته في اللذة المسعورة أو الإثارة الحسِّية، فانصرف إلى المباهج الجسدانية كمصدر يمكن أن يمنحه الشبع؛ فراح يغترف من ملذات الطعام الحسِّية والتي يُرمز إليها بالخمر، فكانت تعطيه لذة وقتية زائلة، وليس شبعًا دائمًا.
"قلت أنا في قلبي:
هلُمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا (فتستمتع بالسعادة).
وإذا هذا أيضًا باطل.
للضحك قلت: مجنون!
وللفرح: ماذا ينفع؟!" [1-2].
ناجَى سليمان قلبه عوض أن يناقش الأمر مع الله بروح الصلاة والتقوى، قائلاً: جرِّب الضحك والأكل والشرب (الخمر) واطرد الهم وتمتع بالسعادة؛ وذلك كما قال الغني الغبى: "وأقول لنفسى: يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة؛ استريحي وكُليِ واشربي وافرحي" (لو 12: 19).
كثيرون يظنون أن السعادة تكمن في حياة اللهو والحفلات والأفراح الزمنية، بما تحويه من أكل وشرب وتسلية وضحك... هؤلاء لا يميزون بين الفرح الداخلي الذي يهب بشاشة دائمة وسلامًا حقيقيًا وبين ضحكات اللهو التي تنبع عن فراغ داخلي. الفرح الداخلي هو غذاء للنفس يقوتها ويُنمّيها فتتسع لتحمل في داخلها ملكوت الله المفرح، أما الفرح الزمني خارج دائرة الله فيُخدِّر الإنسان، ولا يُشبع أعماقه بل يزيده حزنًا... لذا يدعوه الحكيم مجنونًا! كثيرون يلجأون إلى المخدرات وأصدقاء السوء للهروب من مشاكلهم، فإذا بهم يرتمون في مشاكل أخطر تمس كيانهم الداخلي.
قال للضحك: "مجنون"، لأنه لا يقدر أن يحوّل قلبه إلى السعادة الحقيقية، إنما يقدم تغطية مؤقتة للحزن الداخلي والمرارة الخفية. ولعله يدعوه هكذا لأنه يحثه على الابتعاد عن الله الذي هو "الفرح الحقيقي"، إذ قيل: "يحملون الدّف والعود ويطربون بصوت المزمار؛ يقضون أيامهم بالخير، في لحظة يهبطون إلى الهاوية؛ فيقولون لله: ابعد عنا؛ وبمعرفة طرقك لا نُسر" (أى 21: 12-14).
يقول للفرح الظاهري: ماذا ينفع؟ إذ يدرك أن الضحك لا يُصلح القلب ولا ينزع عنه كآبته. لذا قيل: "يغني أغاني لقلب كئيب (مهموم)" (أم 25: 20)... كان يليق به عوض اللهو أن يلجأ إلى دموع التوبة، التي تهب فرحًا داخليًا وبشاشة صادقة، لأن الخطية تُحطم القلب وتملأه كآبة مُرة!
مع الضحك أو اللهو التجأ سليمان إلى شرب الخمر، وقد ظن أنه قادر أن يعلل جسده بالخمر بينما يلهج قلبه بالحكمة [3]، أي يشربها لكي تصير له خبرة ولكي يتحقق إن كان يمكن للخمر أن تُشبع حياته، لكنه وجد في ذلك حماقة، لأن "الخمر مستهزئة، المسكر عجَّاج raging، ومن يترنح بهما فليس بحكيم" (أم 20: 1). إنه بهذا يشبه من أراد أن يعبد الله والمال في آن واحد.
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن خطورة السعي وراء الملذات، قائلاً: [الحيوانات أرضية تجنح إلى الأرض... رأسها منحنِ نحو الأرض، وهي تنظر إلى بطنها تفتش عن الأشياء التي تلذّ لها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العلى، فإذا كنت تتلطخ بشهوات الجسد، وتتعبد للذَّات الجوف، وللذَّات السفلى، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها. إنيّ أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك، "اطلبوا ما فوق حيث المسيح" (كو 3: 1). ارتفع فوق أعراض الدنيا الزائلة، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، وأجعله قانونًا لحياتك. فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنيك هم الأبكار، الذين كُتبت أسماؤهم في السموات[54]].
مرة أخرى يقول: [حرص الفلاسفة والمفكرون على البحث عن غاية الإنسان على هذه الأرض. لكنهم اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، وتضاربت آراؤهم وتعددت مذاهبهم. فزعم البعض منهم أن غاية الإنسان هي العلم؛ بينما قال آخرون إنها العمل. قال البعض إن غاية الإنسان هي احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل، وتعزيز الروح واعتبارها القوة العظمى في الإنسان، بينما قال آخرون إن غاية الإنسان في هذه الحياة إنما هي التمتع باللذّات وطيِّبات الحياة. أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي نصبو للوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة، ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة[55]].
2. بطلان السعي وراء الثروات:
زوَّد الجامعة نفسه بالمباهج العالمية والمباني الفخمة والعبيد والفضة والذهب والأمور الخاصة بالملوك دون سواهم، لكن لم يكن ذلك من قِبَلْ النكوص إلى الطفولة غير الملتزمة أو الهروب إليها، كما كان يفعل اليونانيون منغمسين في الملذات والانشغال بالمظاهر هربًا من المسئولية. وكما جاء في سفر الحكمة: "لأنهم قالوا في أنفسهم مفتكرين افتكارًا غير مستقيم، إن عمرنا هو يسير محزن... فهلم إذًا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية مادام زمان شيبوبة، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع..." (حك 2: 1، 6، 7).
وإنما كانت هكذا عادة اليهود للتعبير عن القوة وذلك بإقامة ولائم ومباني فاخرة، وباختصار أن يصير سيدًا للفنون[56].
أ. اِنغمس كثيرًا في التشييد والبناء، في المدن كما في القرى، إذ يقول: "بنيت لنفسي بيوتًا" [4]. قيل عنه: "وهذا هو سبب التسخير الذي جعله الملك سليمان لبناء بيت الرب وبيته والقلعة وسور أورشليم، وحاصور ومجدو وجازر... وجميع مدن المخازن التي كانت لسليمان ومُدن المركبات ومدن الفرسان، ومرغوب سليمان الذي رغب أن يبنيه في أورشليم وفي لبنان وفي كل أرض سلطته" (1 مل 9: 15-19). لقد شيَّد مبانٍ كثيرة لكنه بدأ ببناء بين الرب، وليس كأولئك الذين قيل لهم: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!" (حج 1: 3)... هذا وقد وظّف أيضًا العديد من فقراء العاملين لنفعهم. هذا هو الجانب الطيب من ناحية سليمان في اهتمامه بالتشييد والبناء، لكن ربما ما أفسده عمله إلى حين ظنه بأن هذه المشاريع تقدر أن تُشبع نفسه وتروي رغبته في المجد الزمني، إذ يقول: " فعظمتُ عملي" [4].
بناء البيوت ليس خطية، لكن الخطية هي أن ننشغل ببناء بيوت لراحة أجسادنا دون أن نقدم بيتًا للرب في أعماقنا. ليستريح الرب في قلوبنا فيعطي راحة لأجسادنا أيضًا، ويلهب قلوبنا بنار الحب فتشتاق أن نرحل لنسكن معه ونستريح في أحضانه الإلهية عوض الانشغال بالعظمة الزمنية والمجد الباطل. ليسكن الرب في قلبنا كبيت خاص به، فنسكن نحن في سمواته كبيتنا الأبدي الخاص بنا، ولا يستطيع العالم كله أن يجتذبنا إليه.
v من يهرب من المجد الباطل بمعرفةٍ، يتذوق في نفسه (رجاء) الدهر الآتي[57].
v ما أن يختار الإنسان التحرر من القنية حتى ينشغل فكره بالرحيل عن العالم؛ فيجعل حياة ما بعد القيامة لهجِهِ الدائم، ويسعى نحو الاستعداد الدائم (للرحيل)، الأمر الذي هو نافع له، يبدأ يحتقر كل ما يجلب كرامة (زمنية) أو راحة جسدية، ويتغلغل هذا في أفكاره، وينتعش ذهنه دائمًا بالتفكير في احتقار العالم[58].
مار إسحق السرياني
يحثنا الآباء على بناء بيت الرب الداخلي وهيكله ومذبحه في قلوبنا:
v أهلني يا ربي يسوع المسيح أن أُساهم في بناء بيتك!...
أما مسكن الرب الذي يُريدنا أن نقيمه فهو القداسة... بهذا يقدر كل إنسان أن يقيم لله خيمة داخل قلبه.
v ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تُقدم ذبائح الصلاة ومحرقاب الرحمة، فتُذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتُقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات...
لتعرف النفس كيف تُقيم داخل قدس أقداس قلبها منارة تضيء بغير انقطاع[59]!
العلامة أوريجينوس
ب. اهتم بزراعة بساتين: "غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر" [4-5].
قدم الله للإنسان الأول جنة عدن يعمل فيها، تحوي أشجارًا من كل ثمر، وتضم أيضًا شجرة الحياة... هكذا يود الله أن يشبع الجسد بكل ثمر زمني ويشبع النفس بشجرة الحياة الخالدة، لكن الإنسان اهتم بما يشبع جسده دون نفسه. لذا جاء السيِّد المسيح إلى أرضنا، وعُلق جسده على الشجرة، لعلنا نمد أيدينا ونقتطف منها ثمر الحياة. ليغرس الصليب في نفوسنا ونجني ثمر الروح القدس فينا فتتقدس نظرتنا إلى كل ثمر، ويشبع الإنسان بجسده وروحه.
يغرس مسيحنا صليبه في قلوبنا فيقيم منه فردوسًا مفرحًا، يحمل ثمر الروح القدس المبهج للسمائيين والأرضيين!
ج. أنشأ قنوات كثيرة للسقي: "عملت لنفسي برك مياه لتسقي بها المغارس المنبتة الشجر" [6].
نحن نحتاج إلى ينبوع المياه الحيَّة، أي إلى روح الله القدُّوس، الذي يسقي برِّيتنا الداخلية ويقيم منها جنة مقدسة.
د. اقتنى عبيدًا وجواري اَنجبن له ولدان بيت لخدمته [7].
هـ. اقتنى بقرًا وفضة وذهبًا وخصوصيات الملوك [7-8]. صار واسع الثراء، فقد قيل عنه: "وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة" (1 مل 10: 27).
ماذا تعني "خصوصيات الملك"؟ ما يخص الملوك أو ما ينفرد به الملوك عن سائر الأشراف والعظماء من ممتلكات أو قنية معينة.
تعبير "خصوصيات peculiar treasure" في العبرية s’qulia يعني أساسًا "قنية property"، لكنه صار مستخدمًا عمومًا للدلالة على القنية ذات القيمة العالية. دُعي شعب الله "شعب اقتناء" (خر 19: 5)، بكونه شعبًا اختاره الله ليكون نصيبه، وهو ثمين في عينيه للغاية.
اقتنى سليمان ما يخص الملوك كأمر ثمين... أما أنت فيُقدّم لك ملك الملوك ذاته لكي تقتنيه وهو يقتنيك، تصير نصيبه وهو نصيبك، فتقول: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ". هذا ما يشبع أعماقك الداخلية التي خلقها الله على صورته، فلا يشبعها أحد غيره!
هذا وقد أوضح الجامعة في أكثر من موضع أن الغنى والمقتنيات ليست بالأمر الشرير، إنما يكمن الشر في فساد إرادتنا وسوء نظرتنا لها، وأيضًا انحراف هدفنا:
v كن يقظًا في استعمال ثرواتك لئلاَّ تبقى عطية الله لك بلا فائدة بين يديك.
هل عندك ذهب وفضة؟ إن أحسنت التصرف بهما كانا لك خيرًا. وإن كنت شريرًا فستُسئ التصرف بهما.
الذهب والفضة هما شرّ للأشرار، وخير للأبرار، لا لأن الذهب والفضة يجعلان الناس أبرارًا، بل، لأن الناس الأبرار يستعملونهما للخير...
أي نفع لك مما في حوزتك، حين لا تملك ذاك الذي أعطاك كل شيء؟!...
أتريد أن تحتفظ بثروتك؟ دبرها كما تُريد، إن وجدت لها حارسًا أفضل من المسيح فسلِّمه إيَّاها...
المسيح هو معك لكي يأخذ مالك ويحفظه لك؛ لن يخونك، بل سيحمل كنزك بأمانة[60].
القدِّيس أغسطينوس
في القرن الثاني كتب القدِّيس أكليمنضس الإسكندري كتابًا تحت عنوان: "من هو الغني الذي يخلص؟" يوضح فيه نظرة المسيحية إلى الغنى؛ جاء فيه:
[لا نلقي بالغني أرضًا، هذا الذي يُفيد إخوتنا...
لا يبدد الإنسان غناه،
بل بالحري يليق به أن يُحطم شهواته الداخلية التي تتعارض مع الاستخدام الصالح للغنى. فإذ يصير الإنسان فاضلاً وصالحًا يمكنه أن يستخدم هذا الغنى بطريقة صالحة.
إذن لنفهم ترك ممتلكاتنا (مر 10: 17-31) وبيعها أنه ترك وبيع لشهوات نفوسنا[61]].
و. قدم لنفسه دون جدوى كل جوٍ إباحي من مغنيين ومغنيات وسيدة وسيدات [8]... لم يحرم جسده أو قلبه من الملذات المادية أو غير المادية.
مع ما تمتع به من ثروات وملذات نال مجدًا زمنيًا وبقيت معه حكمته البشرية، إذ يقول: "فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم وبقيت أيضًا حكمتي معي" [9].
أما الخبرة التي نالها من هذا كله فهي: "مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما، لم أمنع قلبي من كل فرح... ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" [10-11].
الله يُريد راحتنا وفرحنا، لكن إنهماكنا بملذات العالم وغناه كثيرًا ما يسحب قلبنا عن الراحة التي في المسيح يسوع، وتنعم شركة الأمجاد السماوية.
v عقل الإنسان الذي يهرب من راحة هذا الدهر يمعن النظر في الدهر الآتي. من تأسره القنية هو عبد لها[62].
v طوبى للإنسان الذي يُصم أذنيه عن كل المباهج التي تفصله عن خالقه، لأنه يأكل فقط طعامًا شهيًا واحدًا من مائدة العليّ، ذاك الذي تقتات منه قوات السمائيين.
طوبى لمن اتخذ من الخبز الحيّ النازل من السماء طعامًا له، ذلك الخبز الذي يُنير العالم، الذي يسند عصور العالم الجديد.
طوبى لمن كان في شرابه يرى نبع الحياة المروي، يتدفق من حضن الآب برحمته؛ فإنه حينما يشرب منه تُثبَّت عيناه عليه، ويفرح قلبه، ويزدهر من جديد، ويمتلئ فرحًا وحبورًا. من يعاين ربه في طعامه يرضى به ويتمتع بالشركة معه وحده، ولا تكون له شركة مع غير المستحقين لئلاَّ يُحرم من بهائه...
الإنسان الذي له أصدقاء بقصد ملء بطنه يشبه ذئبًا يقتات على الجيف!
يا لهول جشعك أيها الأحمق، لأنك تود أن تملأ بطنك بكل شهوة!
هذه التحذيرات كافية بالنسبة للقادرين علىالسيطرة على بطونهم[63].
v من ينشغل باهتمامات كثيرة هو عبد لكثيرين،
أما الذي يهجرها جميعًا ويهتم فقط بنفسه، فهو صديق لله![64]
v يارب، احسبني مستحقًا أن أبغض حياتي (الزمنية) لأجل الحياة التي فيك![65]
مار اسحق السرياني
يُقدم لنا آباء الكنيسة خبرتهم الروحية بخصوص التمتع بالملذات الجسدية تتلخص في ضرورة الالتزام بالطريق الوسط أو المعتدل، ويسمونه الطريق الملوكي.
v لا تملأ بطنك كثيرًا لئلاَّ يعذبك الزنا،
ولا تضعف جسدك لئلاَّ يفرح بك مبغضوك.
امسك رتبة معتدلة، وها أنت تسلك الطريق الملوكي، وبغير خوف يكون سيرك[66].
القدِّيس يوحنا سابا
يُلخص الجامعة خبرته مع الملذات العالمية، قائلاً: "فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس" [11].
v يقول الجامعة: "باطل الأباطيل، الكل باطل". لكن إن كانت الخليقة كلها صالحة بكونها من صنع يدي الخالق الصالح، فكيف يمكن أن يكون الكل باطلاً؟ إن كانت الأرض باطلة، فهل السموات أيضًا باطلة؟... وأيضًا الملائكة والعروش والسلاطين والقوات وباقي الطغمات؟ كلاَّ! إن كانت الأشياء التي هي صالحة في ذاتها بكونها خليقة الخالق الصالح قد دُعيت باطلة، إنما بمقارنتها بما هو أسمى منها وأعظم. فمثلاً إذا قورن السراج بالمصباح حُسب أقل منه، أما إذا قورن المصباح بالنجم فلا يعطي ضوءًا على الإطلاق. وإذا سطع نجم فإنه أمام القمر يبهت، والقمر أمام الشمس يبدو غير ساطع، وإذا قورنت الشمس بالمسيح حُسبت ظلامًا. هكذا يقول الله: "أهيه (أنا هو) الذي أهيه"، إذا قورنت كل المخلوقات به حسبت غير موجودة[67].
القدِّيس جيروم
يختم الكاتب حديثه عن الملذات الحسِّية بقوله: "ولا منفعة تحت الشمس" [11]. كأنه يقول: من يحملني إلى ما فوق الشمس؟ من يرفعني إلى ما فوق الزمن؟ إنيّ محتاج إلى السيِّد المسيح، شمس البر، وحكمة الله.
بهذا ينتقل من الملذات الحسِّية غير المشبعة إلى الحديث عن الحكمة الزمنية التي وإن كانت أفضل من الجهالة أو الحماقة، لكنها لا تقدر أن تُشبع النفس كحكمة الله!
3. بطلان السعي وراء الحكمة البشرية:
يعقد الكاتب مقارنة بين الحكمة والجهل، مقدمًا خبرته التالية:
أ. "رأيت أن للحكمة منفعة أكثر من الجهل، كما أن للنور منفعة أكثر من الظلمة" [13]. لا يتجاهل الجامعة الحكمة الطبيعية ولا الحكمة الصادرة عن الخبرات البشرية، مشبهًا الحكمة بالنور والجهل بالظلمة. الحكمة نافعة لكنها غير مشبعة، أما السيِّد المسيح فهو حكمة الله السماوي نافع ومشبع، أنه النور الذي يُضيء لكل إنسان آت إلى العالم، مبددًا ظلمة فسادنا، ومقدمًا نفسه لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداءً (1 كو 1: 30).
يرى القدِّيس يوحنا الذهبى الفم أن الحكمة نافعة حتى بالنسبة للإنسان الفقير، لأنها تهبه النور فلا يعيش في الظلام، أما الجهالة فتحطم الغني الذي بطمعه وحبه للمال يعيش في الظلمة التي لا تسمح له برؤية الأمور كما ينبغي. من يقف في مكان مظلم لا يرى ما حوله، حتى وإن كان وعاءً من الذهب أو حجرًا كريمًا أو ثيابًا غالية... إنما يُحسب هذه كلها كلا شيء، لا يُقدّر قيمتها، ولا ينظر جمالها، هكذا لا يدرك الطماع قيمة الأمور الجديرة باهتمامنا[68].
لننعم بالسيِّد المسيح "الحكمة" الحقَّة فنستنير بروحه القدُّوس واهب الحب والفرح والسلام... ولنترك الجهالة لئلاَّ نهتم بالتراب ولا نبالي بالسماء! الجهالة ظلمة تُفسد نظرتنا نحو الله وملكوته بل ونحو أنفسها وإخوتنا كما نحو العالم وكل ما فيه!
v شتّان ما يفصل بين الحكمة والحماقة؛ إنهما يختلفان كاختلاف النهار والليل.
الذي يختار الفضيلة يشبه من يرى الأمور كلها بمنتهى الوضوح، كمن ينظر إلى فوق، ويسلك سبله في سطوع النور. أما ذاك الذي من جهة أخرى قد انخرط في الشر فيشبه شخصًا يتجوّل بلا هدف في ليلة غير قمرية، يسلك كأعمى، محروم من رؤية الأشياء، كمن هو في الظلام. وحينما أتأمل في نهاية تلك النماذج من الحياة لا أجد نفعًا في الأخير. وإذ أرافق الأحمق، أتلقى أجرة الحماقة، لأنه ما هو نفع تلك الأفكار، وما فائدة هذا الكم من الكلمات التي ينطق بها الأحمق، فإنها - إن جاز التعبير - نابعة عن فيض الحماقة؟!
أيضًا لا يوجد شيء مشترك بين الحكيم والأحمق، لا فيما يخص ذكرى الإنسان أو مجازاة الله لهما... الحكيم لا يُشارك الأحمق نهايته مطلقًا. لهذا كرهت حياتي كلها، تلك التي استهلكتها الأباطيل، والتي قضيتها بذهن مثقل بالهموم الأرضية[69].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن أهمية الحكمة البشرية والفلسفة والعلوم دون مبالغة أو تجاهل للحكمة الإلهية:
v في ظني أن كل إنسان عاقل يفكر بأن العلم هو الأمر الرئيسي بين كل ما هو حسن وفي منال عقولنا. ولا أقول بأن علومنا هي وحدها عالية ونبيلة، لأنها تحتقر أناقة الخارج لتتعلق بجمال الأفكار، وإنما أيضًا العلم الذي من الخارج، الذي يرفضه كثير من المسيحيين القليلي التقدير ويعتبرونه خادعًا وخطرًا يبعدنا عن الله... فمن هذا علينا أن نحتفظ بما يمكنه أن يُساعدنا على التأمل في الحق، متجنبين كل ما يؤدي إلى الشر والخطأ والهلاك.
v علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوي لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان... فإذا كان هناك من موافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلاَّ فالمقارنة في الحالة العكسية من شأنها أن تثبت اعتقاداتنا الصحيحة.
v يهمنا جدًا ألاَّ ننكب بجهل على العلوم، وإنما أن نعرف ما هو الأفيد منها... وخوفًا من أن نتعلق بها وننسى علم الله منغمسين في أبحاث باطلة، يبين ضرورة التمييز في التربية بطريقة نختار فيها العلم المفيد ونتجنب كل ما هو ضار وشؤم[70].
القدِّيس باسيليوس الكبير
ب. يربط الجامعة بين الحكمة والبر، وبين الجهالة والشر، إذ يقول: "الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام" [14]. الإنسان الروحي هو الحكيم الذي يركز عينيه على السيِّد المسيح بكونه رأس الكنيسة، يتطلع إليه في كل أموره الزمنية والروحية، لأن العينين تُشيران إلى التطلع إلى الحياة الزمنية (العين اليسرى) والأبدية (العين اليمنى). يرى الإنسان الروحي الحكيم أن السيِّد المسيح هو مركز حياته الحاضرة والأبدية، أما الجاهل فيسلك في الظلمة، أي في دائرة الخطية خارج المسيح شمس البر.
v "الحكيم عيناه في رأسه"؛ في أي رأس؟ كل إنسان - حتى البليد والأحمق - عيناه في رأسه الجسدية، أما الحكيم فله عينان (هاتان اللتان تحدثت عنهما توًا، واللتان استنارتا بوصايا الرب) في رأسه، أي في المسيح، لأن "المسيح رأس الرجل" كما يقول الرسول.
المسيح هو العامل في فكرنا[71].
العلامة أوريجينوس
الحكيم عيناه في رأسه، أي في السيِّد المسيح السماوي، لهذا يرتفع قلبه أيضًا إلى السماء ويبلغ القمة، ولا يبقى في وحل هذا العالم وترابه. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يكون القلب بالأكثر فوق القمة، لأن عينيّ الحكيم في رأسه[72]].
ويرى مار اسحق السرياني أن هذا يتحقق بالتمتع بالحكمة المكنوزة في كلمات الكتاب المقدس، فإنه إذ يكون الحكيم دائم التطلع في المسيح الرأس، أي في الكلمة السماوي، يرتفع قلبه إلى معاينة السمويات.
v حينما تنغمس أفكار إنسان ما بالكامل في بهجة السعي وراء الحكمة المكنوزة في كلمات الكتاب المقدس بإرادته التي تُكتسب خلال الاستنارة منها، يضع العالم خلف ظهره وينسى كل ما فيه، ويمحو من نفسه كل ذكريات تجسّم له العالم. بل أنه كثيرًا ما يبدأ في تناسي الأفكار العادية النابعة عن خواطر الطبيعة البشرية، وتبقى نفسه في حالة دهش (رؤيا إلهية ecstasy) بسبب ما تتفاعل فيه من خواطر جديدة تنشأ عن بحر أسرار الكتاب المقدس[73].
مار اسحق السرياني
ج. بالنسبة للحكمة البشرية فإنها عاجزة عن أن ترفع الإنسان إلى التمتع بالحياة الأبدية، أو تجدد طبيعته الفاسدة، فمع نفعها لا تختلف عن الجهالة، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا تحملنا الحكمة الزمنية إلى ما فوق الزمن، لذلك كما يخضع الجاهل للموت هكذا تنتهي حياة الحكيم بالموت.
"وعرفت أنا أيضًا أن حادثة واحدة تحدث لكليهما؛
فقلت في قلبي:
كما يحدث للجاهل كذلك يحدث ليّ أنا.
فلماذا أنا أوفر حكمة؟
فقلت في قلبي:
هذا أيضًا باطل...
كيف يموت الحكيم كالجاهل؟!" [14-16].
إن كانت الحكمة الزمنية نافعة كالنور لكنها عاجزة، لا تقدر أن تواجه الموت أو تتحداه! بالحكمة البشرية والعلم تقدم الإنسان وأشبع الكثير من احتياجاته وإن كان قد ازداد عطشه بالأكثر إلى تطلعات جديدة، أما ما يعجز عنه العلم فهو الغلبة على الموت. بالمسيح يسوع وحده، حكمة الله، أستطيع مواجهة الموت، مترنمًا:
"آخر عدو يبطل هو الموت...
أُبتلع الموت إلى غلبة.
أين شوكتك يا موت؟
أين غلبتك ياهاوية؟...
شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح!" (1 كو 15: 26، 54-57).
ب. تعطي الحكمة الزمنية للإنسان مجدًا زمنيًا وشهرة قد تبلغ أقاصي الأرض، فيظن الإنسان نفسه مخلدًا على الأرض، أو أن اسمه لن يُمحى من بين بني البشر... لكن تعبر الأيام ويُنسى الحكيم كالجاهل تمامًا. "لأنه ليس ذِكر للحكيم ولا للجاهل إلى الأبد. كما منذ زمان كذا الأيام الآتية الكل يُنسى" [16]. نتطلع إلى الزمان الماضي كأمر قد أنتهى، وها هي الأيام القادمة ستتطلع إلى عصرنا كزمان قديم قد نُسيَ!
من يربط نفسه بعجلة الزمن الذي يدور معها إلى أعلى وإلى أسفل، ويبقى في تغير مستمر، ثم ينتهي ذكره مع الزمن، أما من يربط حياته بحياة المسيح الأبدي فتصير حياته مصاعد دائمة، وينعم بقوة فوق قوة، ونعمة عوضًا عن نعمة، وتزيده الأيام بهاءً، ويتجلى مجده في يوم الرب العظيم، ولا يُنسى قط!
ج. ربما لا يُبالي الحكيم بحياته ولا بذكراه، حاسبًا أن ما يجمعه بخبرته ومهارته وحكمته يبقى لورثته... لكنه لا يعرف ماذا يفعلون بما اقتناه هو بجهاده وتعبه. لذا يقول: "فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث اتركه للإنسان الذي يكون بعدى. ومن يعلم هل يكون حكيمًا أم جاهلاً؟! ويستولى على كل تعبي الذي تعبت فيه، وأظهرت فيه حكمتي تحت الشمس. هذا أيضًا باطل: [18-19].
لا يعلم الحكيم ماذا يفعل ورثته بما اقتناه، أما من يرتبط بالحكمة السماوية فهو يورثهم البركة التي لا تضيع. ماذا ورَّث زكريا الكاهن واليصابات القدِّيس يوحنا المعمدان؟ صلواتهما الدائمة المقدسة وبرِّهما في الرب... فكانت حياتهما سندًا له وهو في البرية محروم من رعايتهما المنظورة!
قدمت لنا الأجيال السابقة وديعة التقليد الحيّ، أي الإيمان العملي بالثالوث القدُّوس، وخبرة الحياة الإنجيلية الصادقة ميراثًا لنا نعيشه تحت كل الظروف، كنزًا لا يُقدر بثمن! ونحن أيضًا يلزمنا أن نعيش ذات التقليد الحيّ الإنجيلي لنسلمه ميراثًا للأجيال القادمة، سرّ بركة للكثيرين! قد تضيع مشاريع الكنيسة أو ممتلكاتها الزمنية لكن إيمانها هو رصيدها الحيّ، الميراث العملي الذي تتلقَّفه الأجيال ميراثًا لها!
إذ لا يعرف الإنسان ما سيحل به في المستقبل أو ما سيفعله ورثته بتعبه، يعيش أيامه في غم وأحزان، وفي الليل لا يستريح قلبه [23]، أما من انشغل باللؤلؤة الكثيرة الثمن، بالسيِّد المسيح نفسه، فلا يخشى المستقبل كأنه مجهول! الأول يدخل لا شعوريًا إلى حالة من اليأس فيقول: "فكرهت الحياة... فكرهت كل تعب" [17-18]، أما الثاني فبرجاء مفرح يقول: "ليّ الحياة هي المسيح والموت هو ربح".
4. بطلان السعي وراء التعب:
يكره الحكيم الحياة بل ويكره التعب [17-18]، إذ يراه بلا قيمة... يتعب ليجمع ثمارًا تقع في قبضة آخر، ربما يكون أحمقًا ولا مبالٍ أو في يد إنسان لا يفعل ما يستحق أن ينال تلك الثروة...
"فانثنيت على قلبي يائسًا من كل التعب الذي تعبت فيه تحت الشمس" [20].
من يرتبط بالحكمة الزمنية يُعاني من اليأس والبؤس، أما من يرتبط بالحكمة الإلهية فينعم بالرجاء السماوي المفرح.
v الإنسان الصالح الذي ينال حكمة من الله يتمتع أيضًا بفرح سماوي، ومن جهة أخرى فإن الإنسان الشرير المضروب بالأمراض التي يسمح بها الله له، والمنغمس في مرض الشهوة، هذا الذي يتعب لأجل المزيد، سرعان ما يخزيه من كرَّمه الله... إذ يفضل الشرير العطايا غير النافعة ويسعى وراء الخداع والبُطل بنفسه البائسة[74].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
الإنسان الحكيم لا ينشغل بما يحيط بنفسه (اهتمامات الجسد) ولا بما يخصه من صحة وجمال ولذة، إنما يهتم بنفسه ذاتها فهي أفضل من كل شيء. يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [انتبه لنفسك (تث 15: 9) فهي الكنز الثمين والخير الأعظم، وهي تستحق أن توليها أشدّ الاهتمام... فلا تهتم بالجسد ولا بما هو مرتبط بالجسد كالصحة والجمال، واللذة والعمر المديد. وكذلك لا تُعير اهتمامًا كبيرًا بالغنى والمجد والسلطان، وكل ما هو مرتبط بالحياة الأرضية. لكن اهتم بنفسك فوق كل شيء... زيّنها بالفضائل، نَقّها من الخطية، وجمّلها بزينة الفضيلة التي هي أجمل زينة[75]].
5. تمتع بملذات الحياة العادية المعطاة من الله:
لئلاَّ يُظن أن الكاتب يدفعنا نحو اليأس أو يشوّه صورة العالم والجسد اللذين خلقهما الله من أجلنا، إنه يُقدم لنا نصيحة عملية وهي أن نقبل الظروف التي نعيش فيها وأن نتمتع بالحياة قدر المستطاع، متطلعين إلى كل شيء حتى الأكل والشرب والقدرة على العمل والتعب كعطية إلهية، بكون الله قد وهبنا هذه الحياة وهو الذي خطط لها كما هي عليه.
"ليس للإنسان خير من أن يأكل ويشرب ويُرى (يذيق) نفسه خيرًا في تعبه
ورأيت هذا أيضًا أنه من يدّ الله" [24].
إنه لا يقول لنأكل ونشرب فإننا غدًا نموت كما قال الرواقيون محبو اللذات، وإنما لنأكل ونشرب ونعمل شاكرين الله الذي يهبنا كل شيء حتى إمكانية الأكل والشرب والعمل.
إنه لا يدفعنا إلى "التهرب escapism"، أي الهروب من المسئوليات ومن المتاعب الواقعية بالاستغراق في الملذات وحياة اللهو والخيال كإدمان المخدرات، وإنما يحثنا على ممارسة الحياة الواقعية شاكرين الله.
يرى القدِّيس أغسطينوس[76] أن الجامعة يدعونا إلى شركة مائدة الأفخارستيا التي أسسها السيِّد المسيح بجسده ودمه المبذولين، بكونه وسيط العهد الجديد والكاهن على رتبة ملكى صادق، فنأكل ونشرب بروح الشكر.
يمكننا القول بأن الجامعة في هذا الأصحاح وهو يؤكد بطلان الملذات الزمنية يدعونا إلى الخروج من العالم، لا خروجًا بالجسد، وإنما بالقلب، لكي لا نرتبك بهمومه ولا نُمتص بملذاته، إنما نرحل إلى الدهر الآتي بشكر وفرح.
v ما من أحد يقترب إلى الله، سوى الذي فصل نفسه عن العالم، لكنني لا أقصد بالانفصال الرحيل عن الجسد بل الرحيل عن (الارتباك) بشئون العالم[77].
v مبارك الذي لم يفقد سيرته في هذا العالم الباطل، وعلى هذا البحر العظيم!
طوبى للإنسان الذي لم تتحطم سفينته، والذي بلغ الميناء بفرح[78].
مار اسحق السرياني
دعوته لنا بالتمتع بالمسرات الخاصة بالحياة العادية المعطاة من الله تؤكد نظرة الجامعة إلى الخليقة أنها صالحة، وإن بطلانها يتوقف على سوء نظرتنا أو سوء استخدامنا لها.
v الثروة الجامدة لا تفيد، ولكنها تصبح خصبة ومثمرة إذا ما نُظِّم استعمالها[79].
v الخلائق ليست رديئة من طبعها، فلو كانت رديئة لما خلقها الله، إذ أن كل خليقة الله حسنة كما قال الرسول بولس (1 تي 4: 4)، ثم أن وصيته لا تأمر بأن نرذل الخيرات ونهرب منها، بل أن نحسن تدبيرها، ولا يُدان أحد لامتلاكه أموالاً، بل لافتخاره بها، أو لأجل سوء استعماله لها[80].
القدِّيس باسيليوس الكبير
حديث الجامعة هنا بمثابة دعوة إلى حياة العمل بفرح، إذ يقول:
"ليس للإنسان خير من أن... يرى نفسه خيرًا في تعبه؛
رأيت هذا أيضًا أنه من يد الله" [24].
إن كنا نشكر الله على ما وهبنا من طعام وشراب، فإننا نشكره لأنه وهبنا أن نتعب عاملين بلذة وفرح، نعمل ليس فقط في الحياة التعبدية، وإنما في حياتنا اليومية العادية. وللقدِّيس باسيليوس الكبير أحاديث شيِّقة عن "العمل" حتى بالنسبة للرهبان[81].
v بما أن ربنا يسوع المسيح قال: "الفاعل مستحق أجرته" (مت 10: 10)؛ وليس كل واحدٍ على الاطلاق وكيفما اتفق، وأمر الرسول أن نتعب ونعمل بأيدينا ما هو صالح لكي يكون لنا ما نُشرك به المحتاج (أف 4: 28)، فيتضح من ثمّ أنه يجب علينا أن نعمل باجتهاد، لأنه لا يسوغ لنا أن نتّخذ العبادة حجة للبطالة والهرب من النَّصَب...
وبما أن البعض يستنكف من العمل بحجة الصلوات وترنم المزامير، فعلى مثل هؤلاء أن يعلموا أن لكل شيء وقتًا خاصًا به كما قال الجامعة: "لكل أمر أوان" (3: 1).
v إن النهي عن الاهتمام الزائد بحاجات جسدنا لا ينفي الاهتمام والعمل مطلقًا. فقد بقي علينا "أن نعمل لنفُسنا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو 6: 27). وسيقول لنا الرب في يوم الدين: "جُعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني" (مت 25: 35...) وبعكس ذلك سيُعاقب الذين لم يعملوا ولم يتعبوا ليساعدوا الضعفاء وليخدموا القريب (أع 20: 4)، ويرسلهم إلى العذاب (مت 25: 21). فالعمل إذن انطلاقًا من هذا المفهوم ينظِّم بأحسن طريقة العلاقات المجتمعية، ويضفي عليها جوًا من التعاضد والانسجام[82].
v يلزم على كل أحد أن ينتبه لعمله الخصوصي ويهتم به برغبة ويتممه من دون ملامة بغيرة ونشاط وعناية وسهر لئلاَّ يستحق اللعنة، إذ قيل: "ملعون من عمِل عمل الرب باسترخاء" (إر 48: 10)...
خير لنا أن نباشر عملاً واحدًا بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمال كثيرة بدون إتقان. لأن التشتت بين أشغال كثيرة والتنقّل بين الأمور بحيث لا يُقضى منها شيء دليل على خفة متأصّلة في الطبع أو مدعاةً لتولّد تلك الخفة[83].
القدِّيس باسيليوس الكبير
الأصحاح الثالث
قدم لنا الجامعة البراهين على بطلان العالم بشهادة الطبيعة نفسها (1: 3-11)، وبطلان الحكمة البشرية (1: 12-18)، وأيضًا بطلان الملذات الحسِّية والغنى والجاه (2)، الآن يُقدم برهانًا آخر وهو شهادة العالم نفسه على بطلانه بتوضيحه أن "لكل شيء زمان". لا يوجد شيء ما صالح بطريقة مطلقة، إنما إن قُدم في وقت مناسب وفي حدود معينة. ولما كان لكل شيء زمانه، أي يخضع للزمن، فإنه إذ ينحل الزمن، ولا يكون هناك وقت، ينتهي كل شيء وينحل مع الزمن.
1. لكل شيء زمان [1-10].
2. خطة الله الأبدية (فوق الزمن) [11-15].
3. ظلم الإنسان يفسد العالم [16-22].
1. لكل شيء زمان:
"لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت" [1].
حياتنا بكل ظروفها وأوضاعها تسير حسب جدول منظم، يحقق مقاصد الله في الوقت المناسب. وعلينا أن نؤدي واجباتنا بأمانة، وإن نتهيأ للمستقبل، لنرى خطة الله من جهتنا. بخطة إلهية خلق الله العالم من أجلنا، وفي الوقت المناسب أرسل الآباء والأنبياء وأعطانا الناموس، وفي الزمن المحدد تحقق الخلاص بالصليب، وبحكمة سماوية يهتم الله بكل صغيرة وكبيرة في حياتك، حتى عدد شعر رأسك لا يفلت من رعايته.
بمعنى آخر تاريخ العالم كله وتاريخ حياتك أنت على وجه الخصوص بكل دقائقها هي حلقات من الأحداث التي يُنسقها الله... عليك أن تعيش بروح الأمانة، تعمل بكل طاقاتك، وتحيا بفرح وسرور واثقًا في الله مدبّر حياتك، فإنك بذاتك لا تقدر أن تفعل شيئًا مهما كانت رغبتك ومهما تكن إمكانياتك... فإن "لكل أمر أوان، ولكل غرض تحت السماء وقت" [1].
أ. يوضح العلامة أوريجينوس كيف أن للناموس وقت ولعهد النعمة وقت، قائلاً:
["لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت". يوجد وقت لجمع اللآلئ الحسنة، ووقت آخر بعد جمعها لاكتشاف اللؤلؤة الكبيرة الثمن، حين يليق بالإنسان أن يذهب ليبيع كل ما يملك ليشتري تلك اللؤلؤة. لأنه كما أن إنسانًا يُريد أن يصير حكيمًا بكلمات الحق يلزمه أولاً أن يتعلم المبادئ ثم يعبر بعد ذلك خلال التعليم الابتدائي الذي يقدّره كل التقدير لكن لا يظل قابعًا عند هذا الحد، إنما يوقّره في مستهل الأمر ثم يطلب الكمال. إنه يقر بالجميل من نحو ما تلقنه في بادئ الأمر، لأنه أفاده كثيرًا! هكذا يفهم الناموس والأنبياء بإتقان كامل أنه تعليم ابتدائي لإدراك الإنجيل كاملاً وإدراك معنى كل كلمات المسيح وأعماله[84].
العلامة أوريجينوس
ب. هُوجِم القدِّيس غريغوريوس النزينزي لأنه طلب أن يكون الحديث عن الله مع الغير بحكمة وبطريقة مناسبة وفي الوقت المناسب. وقد دافع عن نفسه، قائلاً: [إنني لا أمنع تذكر الله الدائم وإنما فقط الحديث عن الله، ليس لأن هذا فيه خطأ في ذاته، ولكن حينما يُقدم بطريقة غير معقولة؛ وإنني لا أمنع كل تعليم بل أطلب الاعتدال فيه. وذلك مثل العسل، إذا ما أكثر المرء من تناوله بنهم يسبب قيئًا مع أنه عسل. يقول سليمان: "لكل شيء زمان"، وفي اعتقادي أن ما هو صالح لا يعود صالحًا إن أُستخدم بطريقة غير صالحة. وذلك كمن يقطف زهرة في غير فصل الشتاء، وكما أن ثوب الرجل لا يصلح لامرأة والعكس أيضًا صحيح. كما لا تليق الألعاب الرياضية في موضع نوح، ولا الدموع في موضع طرب، فإننا جميعًا لا نقبل الشيء في غير زمانه، بينما نوقّره إن اُستخدم في الوقت المناسب. أليس الأمر هكذا يا أصدقائي وإخوتي؟[85]].
ج. دافع القدِّيس غريغوريوس عن البابا أثناسيوس الرسولي الذي اختفى وقت الضيق، حين حاول الأريوسيون قتله، وظهر في الوقت المناسب، قائلاً: [استحسن مشورة سليمان الحكيمة أن لكل شيء زمان. لهذا اختفى فترة، هاربًا في زمن الحرب، ليظهر في زمن السلم الذي سرعان ما حلّ بعد ذلك[86]]. كما دافع عن هروبه هو حيث أُتهم بالهزيمة إذ يقول: [لكل شيء زمان: هناك وقت للهزيمة (للهروب)، وكما أظن لكل غرض أوان. من الأفضل أن نُهزم بكرامة من أن نكسب ونغلب بنصر خطير غير قانوني[87]].
يُقدم سليمان الحكيم عده أمثلة لتأكيد أن لكل شيء زمان:
أ. "للولادة وقت وللموت وقت" [2]: الله في محبته لنا حدد موعد ولادتنا وأيضًا وقت رحيلنا من هذا العالم؛ هذا لا يعني أننا لا نهتم بحياتنا الجسدية بحجة أن الله قد عيَّن ساعة رحيلنا، وإن اهتمامنا لن يُجدي شيئًا. فقد طلب السيِّد المسيح من تلاميذه أن يهربوا متى اضطهدوا، ليس خوفًا من الموت، وإنما لأجل سلامهم. وقد هاجم الأريوسيون البابا أثناسيوس بسبب هروبه منهم حينما حاولوا قتله. وفي دفاعه قال: [لقد قال الأب إسحق لابنه عيسو: " إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي" (تك 27: 2). أما ربنا فبكونه الله كلمة الآب، عرف الوقت الذي يعينه هو للجميع، وكان عالمًا بزمان آلامه الذي حدده هو شخصيًا لجسده، ومع هذا فلأنه صار إنسانًا لأجلنا اختفي حينما طلبوا (قتله) قبل حلول الزمن المحدد، وذلك كما نفعل نحن. وحينما كان يُضطهد كان يهرب متجنبًا مخططات أعدائه، وكان يجتاز في وسطهم[88]].
إن كان الرب قد حدد موعد ميلادنا وموعد موتنا، مع هذا يضع على عاتقنا مسئولية الاهتمام بحياتنا الزمنية وصحة جسدنا وسلامته، فإنه أيضًا يُحدد موعد موت إنساننا العتيق وميلاد إنساننا الجديد حيث يتم الأمران معًا في وقت واحد في المعمودية (رؤ 6: 4-6)، ونحن أيضًا ملتزمون بالعمل بروح الله، مجتهدين ألاَّ نعيش حسب أعمال الإنسان العتيق بل حسب الإنسان الجديد.
v في اللحظة عينها قد مُتم ووُلدتم؛ وقد صار ماء الخلاص هذا في الحال هو قبركم وأُمكم، وما تحدث عنه سليمان بالنسبة للآخرين صار يُناسبكم أنتم أيضًا؛ إذ يقول: "للحَبَل وقت وللموت وقت". أما بالنسبة لكم فيحدث غير ذلك، إذ يكون للوت وقت يعقبه زمن للولادة، ويحدث الاثنان معًا إذ يسير ميلادكم (الروحي) جنبًا إلى جنب مع موتكم[89].
القدِّيس كيرلس الأورشليمي
مادام للميلاد وقت فلنستعد للرحيل، لأننا لا نعرف الوقت الذي يُحدده لنا الله هكذا نعيش في عالم لا استقرار فيه، لا نضمن حياتنا ولو إلى لحظة واحدة قادمة.
v أنت مولود ولهذا تموت: إن هربت من الموت أو تحاشيته أو دفعته عنك فلا يسعك أن ترجئه أو تمنعه عنك. إنه لآت حتمًا، ولو أبيت؛ وفي ساعة لا تعلمها...
طالما أنك لا تستطيع ها هنا أن تتمنى عدم الموت، فاخترْ أن تكون مع الأحياء لئلاَّ تموت إلى الأبد...
يا من تعمل ما بوسعك لترجئ الموت قليلاً، أعمل شيئًا لئلاَّ تموت إلى الأبد[90]...
القدِّيس أغسطينوس
ب. "للغرس وقت ولقلع المغروس وقت" [2]: لغرس الأشجار وقت معين ولاقتلاعها وقت خاص؛ هكذا أيضًا يغرس الله أممًا معينة ويسمح لها بالسلطة والقوة، ويسمح أيضًا باقتلاعها. فقد قامت أممٌ لم يكن ممكنًا أن يظن أحد أنها تنحدر، لكن في لحظات سمح الله بانهيارها، حتى يدرك الإنسان بطلان العالم كله.
يدرك المؤمن أن لغرس الأفكار المقدَّسة وقت ولاقتلاع الأفكار الشريرة غير اللائقة وقت، حيث يتعلم حياة الصلاة الدائمة والطلبة والمثابرة والاتكال على نعمة الله المجانية منتظرًا تقديس أفكاره وتنقيتها بروح الله القدُّوس.
لنُغرس كزيتونة في بيت الرب ولنقتلع من حقل هذا العالم الزائل!
ج. "للقتل وقت وللشفاء وقت" [3]: ربما عنى بذلك قتل الإنسان العتيق وشفاء الإنسان الجديد، الأمر الذي يتحقق في مياه المعمودية (رو 6: 4-6).
ولعله يقصد أن الحاجة تستلزم أحيانًا الحزم الشديد في القضاء، حيث يصدر أحيانًا الحكم بالإعدام لبُنيان الجامعة وإنقاذها ممن يمثلون خطرًا شديدًا عليها، وقد يحتاج الأمر إلى العفو والترفق.
يلاحظ هنا أنه يبدأ بالقتل ثم يليه الشفاء ليُظهر أن الحزم لا يحمل روح الانتقام والغيظ، وإنما لأجل البنيان والشفاء.
لا نخف من بطلان العالم فإننا وإن كنا نراه قتلاً لحياتنا الزمنية لكنه يحمل شفاء لحياتنا الأبدية. لنمت كي نحيا في الرب إلى الأبد!
د. "للهدم وقت وللبناء وقت" [3]: يلزم ألاَّ نقف عند الجانب السلبي: هدم الإنسان العتيق بأعماله وأفكاره، وإنما نمتد إلى الجانب الإيجابي وهو بناء الإنسان الجديد الداخلي وفضائله. فلا يكفي مثلاً هدم الكراهية وإنما يلزم قيام المحبة.
يبدأ بالهدم لأننا لا نستطيع إقامة بناء شامخ ما لم نحفر الأساسات، وكما يقول القدِّيس أغسطينوس إننا بالاتضاع نهدم كبرياء تشامخنا، ونقيم أساسات بناء الروح الذي يرتفع إلى السموات!
يقول أيضًا: [دواء مرضك تواضع المسيح... لا ترتفع بل اتضع إذا شئت أن تُشفي. وإذا شئت أن تبلغ إلى سمو الله فابحث عنه أولاً في تواضعه... حين تأخذ تواضعه فترتفع معه... اُنظر إلى الشجرة كيف يبدأ النمو من أسفلها ثم ترتفع في الجو. جذورها في الأرض وفروعها إلى السماء. وهل تستطيع الشجرة أن ترتفع في الجو إذا لم تعتمد على جذورها في الأرض؟ إن شئت أن تبلغ السموات، بمعزل عن التواضع والمحبة، فلا أصل لك. حينذاك تطلب الهلاك لا النمو[91]...].
لقد حان وقت الهدم، لأن خالق العالم كله يعلن: السماء والأرض تزولان (مت 5: 8)، ويحل وقت البناء حيث توجد سماء جديدة وأرض جديدة (رؤ 21: 1) ومدينة جديدة (رؤ 21: 2).
هـ. "للبكاء وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت" [4]: إذ نمارس البكاء على نفوسنا بصلبنا مع ربنا يسوع المسيح، والنوح على خطايانا، نتمتع بفرح القيامة وبهجة (ضحك) السمائيين، ورقصات النفس، متهللين بعمل المسيح القائم من الأموات فينا. يقول المرتل: "في المساء يحل البكاء، وفي الصباح السرور (الترنم)" (مز 30: 5).
للبكاء وقت، فإننا مادمنا في هذا العالم - وادي الدموع - يليق بنا أن نقدم توبة دائمة عن خطايانا وضعفاتنا اليومية، حتى متى جاء يوم الرب لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع (رؤ 21: 4).
v إذا بكيت هنا تنال راحة مع كل تعزية، وهناك إذا بكيت تذهب إلى العذاب...
v إِبكِ هنا قليلاً، لئلاَّ تبكي هناك الدهر في الظلمة الخارجية...
v إبكِ إذا صليت، لتجد نياحًا...
v بالدموع، حنة أخذت من الله صموئيل النبي[92]...
مار إفرام السرياني
v طوبى للباكين من أجل الحق، لأنه من خلال دموعهم يرون باستمرار وجه الله.
v من يرى نفسه ميتًا بالخطايا، لا يحتاج أن يتعلم كيف يبكى.
v توجد دموع تحرق وتلهب، وأخرى تبهج وتزهر[93]...
مار إسحق السرياني
و. "لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت" [5]: تفريق الحجارة أو دحرجتها على الأرض (حسب الترجمة السبعينية) تُشير إلى قبول الأمم الوثنية، وكما يقول القدِّيس جيروم: [أقام الله من حجارة الأمم الصلدة أولادًا لإبراهيم، فصاروا حجارة مقدسة تدور على الأرض (زك 9: 16 ( LXX)[94]]. إن كان الوقت قد حان لقبول الأمم الوثنية الإيمان والشهادة للسيِّد المسيح على الأرض... فسيأتي الوقت التي تتجمع كل الحجارة الحيَّة ليُعلن هيكل الله السماوي الذي قيل عنه: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مُركَّبًا معًا، ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب" (أف 2: 20-21). "من يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي" (رؤ 3: 12). بالإيمان بدأ البناء الروحي لهيكل الرب بحجارة حيَّة لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 5)، ويتحقق كمال البناء بإعلانه في يوم الرب بناءً سماويًا باقيًا إلى الأبد. بمعنى آخر لينهدم العالم فإنه بهدمه لا ينهدم بناؤنا الداخلي بل يُعلن في أعظم قوة بمجيء الرب على السحاب ودخولنا إلى مجده السماوي.
يُشير تفريق الحجارة وتجميعها إلى هدم مبنى قديم وإحلاله بآخر جديد... فإن كان العالم ببطلانه ينهار، لا نضطرب فإننا ننعم بعالم جديد، المدينة الباقية التي لها الأساسات التي صانعها وباركها الله (عب 11: 1).
تفريق الحجارة أيضًا يُشير إلى ردم الحقول بإلقاء الحجارة فيها تطمرها (2 مل 3: 19، 25)، وجمعها يُشير إلى إصلاح الحقول وجعلها صالحة للزراعة.
ربما يعني هنا هدم مبنى العهد القديم ليحل محله كنيسة العهد الجديد، وهدم حقل الشعب القديم ليقوم حقل العهد الجديد الممتد إلى أقاصي المسكونة... لكن لن تبقى الكنيسة محصورة بهذا العالم الزمني إنما تترقب انهيار العالم المادي وزوال ما هو منظور لننعم بما هو سماوي ونتمتع بالله غير المنظور... عندئذ نراه وجهًا لوجه.
تُجمع الحجارة أيضًا لعمل نصب تذكاري إشارة إلى إقامة عهدٍ بين فريقين، أو كتذكار لأحداث جسام، كالعمود الذي نصبه يعقوب (تك 28: 18؛ 31: 52)، وأكوام الحجارة فوق عخان وأبشالوم، أو لإقامة أقواس نصر علامة الغلبة، وتفريق الحجارة يُشير إلى نقض العهد أو إزالة أقواس نصر تذكارية.
إن كانت بالخطية تتفرق حجارة عهدنا مع الله وتنهدم أقواس النصر ضد عدو الخير، فلنسرع ونجمع الحجارة بروح الله ونجدد العهد في استحقاقات الدم، ونقيم أقواس النصر سريعًا، لأن الوقت مُقصّر والأيام شريرة، والعالم ينتهي ويزول.
ز. "للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت" [5]. في الأمثلة السابقة غالبًا ما يبدأ بالحديث المؤلم يليه الحديث المفرح، يبدأ بالولادة يليها الموت (بكون يوم الرحيل أعذب من يوم الولادة)، يبدأ بالقتل ويليه بالشفاء؛ الهدم يليه البناء، البكاء يليه الضحك، النوح يليه الرقص، تفريق الحجارة يليه جمعها، فلماذا يبدأ هنا بالمعانقة يليها الانفصال؟ هل الانفصال أفضل وأعذب؟ يرى بعض الآباء هنا إشارة إلى سمو الحياة البتولية، فقد قدّس العهد القديم الزواج وحث عليه كمعانقة حب... وكان الكل يترقب مجيء المسيَّا مولود المرأة لعله يأتي من نسله حسب الجسد؛ وقد جاء العهد الجديد الذي وإن قدّس الزواج لكنه يحث بالأكثر على البتولية بكونها انفصال عن المعانقة ليكرس المؤمن كل طاقاته للعبادة وللشهادة لملكوت الله المفرح. إنها دعوة ليست للجميع، وإنما من يقبل فليقبل. يقول الرسول بولس: "لأنيّ أُريد أن يكون جميع الناس كما أنا؛ لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله؛ الواحد هكذا والآخر هكذا... فأُريد أن تكونوا بلا هم؛ غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يُرضي امرأته " (1 كو 7: 7، 32).
v كيف أشرح الاستحقاق العظيم والكرامة العالية التي للمؤمنين والبتولية المقدسة في نظر الله؛ فقد حان الوقت للإمساك عن المعانقة. حين يوجد حشد عظيم من كل الأمم يملأ عدد القدِّيسين، هل توجد حاجة لممارسة متعة الجسد الأرضية لإعطاء نسل؟![95].
v قديمًا كان وقت للعناق، وأخيرًا فإنه وقت للإمساك عن العناق[96].
v بالنسبة لمسيحيّ عصرنا وقد تحرروا من رباط الزواج، إذ توفرت لديهم قوة الامتناع عن أية علاقات جسدية يرون أنه قد جاء الوقت الذي كتب عنه "للإمساك عن العناق وقت" وأنه ليس زمن المعانقة، ألا يختارون بالحري أن يحافظوا على بتوليتهم أو ترملهم؟![97].
القدِّيس أغسطينوس
هذا عن المفهوم الرمزي أما التفسير الحرفي فيعني أن الذين يتعانقون، أي أن المتزوجين ستنحل حياتهم الزوجية حتمًا في هذا العالم بوفاة أحد الطرفين، فيصير من تزوج كمن لم يتزوج... هذه طبيعة العالم الباطل، كما يقول الرسول إن الذين يستعملونه كمن لا يستعملونه، والذي يتزوجون كمن لم يتزوجوا.
ح. "للكسب (للبحث) وقت وللخسارة وقت" [6]: إن نال إنسان ما بركات زمنية يشكر، وإن فقدها يبارك الله الذي أعطى وأخذ، قائلاً مع أيوب البار: "الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركًا " (أي 1: 21).
ربما يُشير الكسب إلى العهد القديم حيث الوعود بالبركات الزمنية الكثيرة (تث 28)، والخسارة إلى العهد الجديد حيث يتهلل المؤمنون بالصليب ويفرحون بالتخلي بإرادتهم عما لديهم، حاسبين كل شيء نفاية لكي يربحوا المسيح (في 3: 8).
إن كان مجيئنا إلى العالم هو مكسب كعطية إلهية، فإن خروجنا منه خسارة لنربح ما هو أعظم: السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ 21: 1)!
ط. "للصيانة وقت وللطرح وقت" [6]: يوجد وقت يُحتفظ بالشيء ويحاول الإنسان صيانته، لكن متى شعر أن إصلاحه يكلفه الكثير يطرحه ويتخلص منه ليقتني ما هو أحدث منه. هكذا نقتني نحن حياتنا الزمنية ونصونها بروح الله القدُّوس الذي يجددها ويقدسها، لكنه في الوقت المناسب تُطرح حياتنا الزمنية لنقتني حياة أسمى وأبقى!
هكذا أيضًا عاش الإنسان قديمًا تحت ظلال الناموس ورموزه، يحفظه حرفيًا كمن يصون لآلئ، أما وقد جاء السيِّد المسيح اللؤلؤة الكثيرة الثمن فإنه يطرح حرفية الناموس ويترك الظلال ليحيا في كمال الحق، مقتنيًا الحياة الجديدة في المسيح يسوع ربنا.
ك. "للتمزيق وقت وللتخييط وقت" [7]: ربما يُشير التمزيق إلى شدة الحزن، حيث اعتاد القدماء تمزيق ثيابهم عند حدوث كوارث قاسية، كما فعل رأوبين حينما رجع ولم يجد يوسف في البئر (تك 37: 29). وكما فعل أيوب عندما اشتدت به التجربة (أي 1: 20). ويُشير التخييط إلى الفرح وعودة السلام، ففي الأفراح يهتم كل أعضاء الأسرة بتخييط ملابس جديدة تليق بالفرح.
يُشير التمزيق أيضًا إلى انفصالنا عن العادات الشريرة، والتخييط إلى ارتباطنا بالحياة الفاضلة المقدسة في الرب. يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [اعتقد أن معنى القول: "للتمزيق وقت وللخياطة وقت" أنه ينبغي أن ننفصل تمامًا عن كل ما ارتبطنا به في شرورنا وإن نلتصق بما هو خير[98]].
ربما يُشير التمزيق إلى اعتزالنا الأشرار المعثرين، والخياطة إلى شركة السمائيين والقدِّيسين في المسيح يسوع رأس الجميع.
ل. "للسكوت (الصمت) وقت وللتكلم وقت" [7]: يبدأ بالسكوت حيث لا يليق النطق بكلمة إلاَّ بعد الصمت والتفكير الجاد.
يُشير السكوت إلى حياة التأمل الخفية، ويُشير التكلم إلى الشهادة للمخلص أمام الغير وخدمتهم، فإنه لا يكفي الصمت المقدس إنما يلزم التكلم أيضًا بكلمة الرب البنَّاءة.
v يذكر الجامعة أولاً الوقت اللازم للصمت، ثم يسمح بعد ذلك بوقت للكلام.
فمتى وما هي الموضوعات التي يكون فيها الصمت أفضل؟
يقول المهتمون بالسلوكيات إن الصمت دائمًا هو أفضل من الكلام. ويميز بولس الأوقات اللازمة للكلام وتلك اللازمة للصمت. أحيانًا يوصي بالصمت وأحيانًا أخرى بالكلام.
إذ يأتي وقت الكلام يقول: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم" (أف 4: 29).
ويوصي بالصمت قائلاً: "لتصمت نساؤكم في الكنائس... ولكن إن كُنَّ يردن أن يتعلَّمن شيئًا فليسألن رجالهن في البيت" (1 كو 14: 34-35).
يكشف لنا عن الوقت الملائم للكلام، قائلاً: "لا تكذبوا بعضكم على بعض" (كو 3: 9...) "تكلموا بالصدق كل واحِد مع قريبه" (أف 4: 25)[99].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
v حينما يتطرق العقل إلى أمور تفوقه يكون وقت للصمت العميق، إذ بالأحرى يلزمه أن يحتفظ بالإعجاب أو الدهشة بتلك القوة غير المدركة ولا مفحوصة في أعماق ضمائرنا. وإذ يدرك أن هؤلاء الرجال العظماء يتحدثون لا عن (طبيعة) الله بل عن أعماله يقول: "من يتكلم بجبروت الرب؟!"، "أُحدِّث بجميع عجائبك"، "دور إلى دور يسبح أعمالك" (مز 106: 2؛ 9: 1؛ 145: 4)... هكذا يكون الحديث عن (أعمال) الله؛ أما عن التطرق إلى جوهره فيكون وقت للصمت[100].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
يلزمنا أن نصمت لنتأمل في الله وننعم بإشراقاته علينا، عندئذ ننطلق بكلمات النعمة، ونشهد لعمله في حياتنا ونعمته الغنيَّة وانفتاح باب ملكوته لكل بشر. هذا ويليق بنا ألا نتحدث كثيرًا فيما يفوق العقل من أمور إلهية لا يُعبَّر عنها.
يوصينا الآباء خلال الفكر الإنجيلي أن نحفظ السكون ونهرب من كثرة الكلام الباطل، الذي يُفقد النفس هدوءها وشركتها مع الله.
كما يُحذرنا الآباء من الكلام الباطل المفسد لسلام النفس. هكذا يحذوننا من الصمت الباطل أيضًا، الذي لا يصاحبه صلاة وشركة مع الله وسهر من أجل الملكوت.
يقول القدِّيس يوحنا الذهبى الفم بأنه يوجد كلام صالح وكلام بطّال، كما يوجد صمت صالح وصمت بطال... يلزمنا أن نعرف متى نصمت ومتى نتكلم، وكيف نصمت وبماذا نتكلم.
v كلما أكثر الإنسان من الهرب من الثرثرة بلسانه استنار ذهنه بالأكثر، فيستطيع أن يفرز الأفكار العميقة ويُقيِّمها، لأن العقل يرتبك بالثرثرة[101].
مار إسحق السرياني
v إن كنا سنعطي حسابًا عن كل كلمة بطَّالة، فلنتوخَّ الحذر لكي لا ننطق بها، أيضًا لنحذر الصمت البطال!
لكن يوجد صمت فعَّال، كصمت سوسنة التي فعلت بصمتها أكثر مما لو تكلمت. لأن بصمتها أمام الناس، تكلمت مع الله، ولم تجد دليلاً على عفتها أقوى من الصمت. نطق ضميرها عندما لم تجد كلمة تتفوه بها، ولم تطلب حكمًا من الناس، إذ كان لها شهادة الرب. لهذا اشتاقت أن يُبرِّأها الله نفسه، وهي تعلم أنه لا يمكن أن يُخدع بأية وسيلة.
كان الرب نفسه أيضًا يعمل في صمت ليتمم خلاص البشر.
سأل داود ألاَّ تنشغل نفسه بالصمت الجامد بل بالسهر والتدقيق[102].
القدِّيس أمبروسيوس
v مع ذلك يوجد وقت للكلام عن تلك الأمور التي بها نتقدم في الفضيلة في حياتنا[103].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
م. "للحب وقت وللبغضة وقت" [8]: في وداعة الحب كانت القدِّيسة دميانة تخضع لوالدها مرقس والي البرلس، وإذ أنكر الإيمان ففي حزم أشبه بالبغضة قالت له أنه إن لم يرجع إلى الإيمان بالتوبة لن تحسبه والدها، ولا هي ابنته.
لنُحب الكل في الرب، ولنكن حازمين فنبدو كمبغِضين لأجل خلاصنا وخلاصهم.
ن. "للحرب وقت وللصلح وقت" [8]؛ يحتاج الأمر أحيانًا إلى الحزم الذي يُشبه حربًا، عندئذ يلزمنا أن نعرف كيف نُصالح ونضمد الجراحات، لهذا ذَكر الصلح بعد الحرب، حتى لا نتوقف عند الحزم والشدة ما استطعنا. حتى إن أدبت الكنيسة الهراطقة فهي تترقب بشوق رجوعهم إلى الحق ومصالحتهم.
لعل أروع مثل في هذا هو القدِّيس كيرلس الكبير الذي للأسف يُهاجمه بعض الدارسين كقائد عنيف ضد نسطور؛ نقرأ في إحدى رسائله لنسطور أنه لا يوجد من يحبه مثله.
2. خطة الله الأبدية (فوق الزمن):
واضح من الأمثلة السابقة الآتي:
أ. إن لكل شيء زمان... وكأنه ليس شيء صالحًا بذاته، إنما حسب استخدامنا له بالقدر اللائق وفي الوقت اللائق به.
v الأمور التي نستخدمها في ظروف معينة وأوقات مناسبة فتقدسنا... هي أمور ليست صالحة ولا شريرة، وذلك مثل الزواج والزراعة والثروة والاعتزال في الصحراء والأسهار وقراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه والصوم... فإن هذه الأمور أو بعضها أمرنا أسلافنا أن ننفذها بتبصر، وإن نهتم بالدافع لها ومكان التنفيذ والوسيلة والزمن. لأننا متى نفذناها بطريقة مناسبة تصير صالحة وملائمة، وإن استخدمناها بانحراف تصير شريرة ومؤذية... فالصوم يعتبر شرًا بالنسبة للذين يترقبون به مديح الناس[104]...
الأب ثيوناس
ب. إن لكل شيء زمان... فليس شيء ما يبقى أبديًا!
ج. إن لكل شيء زمان، يعجز الإنسان عن إدراك مقاصد الله وتدابيره الفائقة وتغييرها.
د. تُشير الأمثلة السابقة إلى عمل الله معنا، فقد جاء الزمن الجديد الذي فيه انتقلنا من عهد الناموس إلى عهد النعمة، من مرحلة الطفولة الروحية إلى النضوج، من الظل والحرف إلى الحق والروح، من وقت المكاسب الزمنية إلى الخسارة المفرحة من أجل من قدَّم حياته مبذولة لأجلنا، من أوان الخصومة والعداوة مع الله إلى المصالحة معه كأهل بيته!
هـ. الله الذي خلق الزمن ولا يخضع له، من أجل تدبير خلاصنا خضع بإرادته للزمن، إذ أخذ طبيعتنا وقبل الموت في جسده عنا.
و. إن كان الله كخالق محب للبشر "صنع الكل حسنًا في وقته" [11]. وكل ما خلقه صالح وبتدبير حسن، إلاَّ أنه يرفعنا إلى ما فوق الزمن... خضع للزمن لكي يرفعنا نحن إلى ما فوق الزمن، فقد "جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يُدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية" [11].
لفظة "الأبدية" هنا هي من أكثر الكلمات التي ثار حولها جدل في سفر الجامعة. اقترح البعض أنها "الكون" والبعض "سرّ" أو "نسيان"، والبعض حسبها مشتقة عن الأصل الأوجاريتي Ugaritie "glm" تعني "يصير مظلمًا"، قائلين بأن الله صنع كل شيء جميلاً وملائمًا لكن الإنسان عاجز عن إدراك أسرار خطة الله وحكمته لأن الظلام قد خيَّم على فكره وفي قلبه.
ز. لئلاَّ يظن أحد أن ارتفاع القلب إلى السموات أو إلى الأبدية يدفعنا إلى الغم أو الاستهتار بالحياة الزمنية، يعود فيؤكد أن كل ما نناله أو نمارسه بحكمة إنما هو هبة إلهية: "عرفت أنه ليس لهم خير إلاَّ أن يفرحوا ويفعلوا خيرًا في حياتهم؛ وأيضًا أن يأكل كل إنسان ويشرب ويرى خيرًا من تعبه فهو عطية الله" [12-13].
لا يمكن اتهام الجامعة بأية اتجاهات مادية أو مُتَعيَّة hedonistic، أي أن المتعة أو اللذة هي الخير الأوحد في الحياة الدنيا، إنما كما سبق فقلنا يحمل اتجاهًا تسبيحيًا خلاله يشعر المؤمن أن كل ما بين يديه هو هبة الله، حتى الأكل والشرب، فيجد متعة في الحياة لأنها تحمل بصمات حب الله الفائق. يشعر أن الظروف التي يعيشها والإمكانيات التي بين يديه هي أفضل ما تناسبه في هذه الحياة كتهيئة للحياة الأبدية، فيمارس حياته بروح التسبيح والفرح.
ح. "لكل شيء زمان" كان الله يتعامل مع رجال العهد القديم كأطفال في الإيمان يحثهم على القداسة بالبركات الزمنية، بينما مع رجال العهد الجديد يحثهم كرجال على القداسة بحمل الصليب وشركة الآلام معه؛ مع هذا ففي معاملاته وعهوده وحبه لم يتغير. نحن نتغير ونُغير وضعنا بالنسبة له، لذا قيل: "قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد؛ لا شيء يُزاد عليه ولا شيء يُنقص منه" [14].
ولئلاَّ يظن أن معاملات الله مع كنيسة العهد الجديد هي على حساب رجال العهد القديم يقول: "الله يطلب ما قد مضى" [15].
3. ظلم الإنسان يُفسد العالم:
إن كان لكل شيء زمان [1]، وإن الله الصالح قد صنع كل شيء حسنًا أو جميلاً في وقته [11]، فإن ما حلَّ بالعالم من فساد ليس هو عن طبيعة العالم ذاته، وإنما خلال ظلم الإنسان وجوره لأخيه الإنسان.
أية شهادة عن بطلان العالم مثل احتلال الظلم موضع الحق، والجور موضع العدل [16]؟ ينتشر الفساد في عمق ساحات العدل! لكن الجامعة يؤمن بقضاء الله العادل. فساد العالم لا يعني أن الأمور تسير بطريقة اعتباطية بلا ضابط، إنما ينتظر الله الوقت المناسب ليدين الصدِّيق والشرير [17]. "لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقتًا هناك" [17]. بمعنى آخر إن كان الإنسان بفساده أساء إلى العالم إذ لم يضع كل شيء في زمانه المناسب وفي نصابه، فاحتل الظلم موضع العدل... مع هذا فإن الله يتدخل ليُصلح الموقف، لكن أيضًا في حينه.
يظن الإنسان الطبيعي أن الإنسان كالبهيمة يخضعان للموت بلا تمييز بينهما، فهل تصعد روح الإنسان إلى فوق وتنزل روح البهيمة إلى أسفل تحت الأرض؟
إن كان الموت يحل بالصدِّيق والشرير، بالإنسان والحيوان، لكن البار وقد التصق بخالقه لا يخشى الموت الذي هو آخر باب يفصله عن إلهه.
الأصحاح الرابع
إذ أكد الحكيم أن "لكل شيء زمان" [1]، حتى دينونة الصالح والطالح لها زمانها الخاص، فإن وجود الظلم في العالم لهو دليل على بطلان هذه الحياة، وإن كان وجود هذا الظلم لا يعني أن الحياة تسير اعتباطًا بلا ضابط إلهي أو بلا عناية إلهية.
لقد كشف الكاتب عن رقة مشاعره نحو دموع المظلومين، مشتهيًا الموت عن رؤيته للظلم، وفي نفس الوقت حذر من الأنانية كباعث جوهري للظلم، وكشف عن بركات الصداقة الحقة والمشاركة مقابل مخاطر الأنانية.
1. الظلم والتجرد من الإنسانية [1-3].
2. حماقة السعي وراء الراحة [4-6].
3. بين الأنانية والصداقة [7-12].
4. حماقة السعي وراء المجد الباطل [13-16].
1. الظلم والتجرد من الإنسانية:
يعلن الجامعة أن القهر هو سمة كل أعمال الإنسان [1]؛ ويظهر المقهورون عاجزين عن التصرف، فيمزق صراخهم قلب الجامعة. كان سليمان رقيق المشاعر جدًا فلم يحتمل دموع المظلومين، حاسبًا الأموات أكثر غبطة من الأحياء الذين يرون الظلم سائدًا في العالم، والسقط الذي لا يولد بل يموت كجنين في أحشاء أمه هو أكثر غبطة من الكل، لأنه "لم يَر العمل الرديء الذي عُمل تحت الشمس" [3].
لم يكن الجامعة متشائمًا في اشتهائه الموت، وإنما كان رقيقًا كل الرقة، لا يحتمل معاينة المظلومين، متشبهًا بسيِّده القائل: "حوِّلي عني عيناكِ فإنهما غلبتاني" (نش 6: 5)... وربما خشيَ الجامعة نفسه لئلاَّ يُشارك الكل الظلم ويكون ساقطًا فريسة له.
يعبِّر القدِّيس أمبروسيوس عن مشاعر الجامعة الذي اشتهى الموت عن معاينة الظلم، قائلاً: [يؤكد الجامعة أن المولود ميتًا أفضل من المتقدم في العمر، لأنه لم يَر الشرور التي حلَّت في هذا العالم. إنه لم يأتِ إلى تلك الظلمة، ولم يمشِ في بطلان العالم، لذا فإن من لم يأتِ إلى تلك الحياة هو في أكثر راحة من الذي جاء إليها. حقًا، ما هو خير الإنسان في هذه الحياة؟ إنه يحيا في ظلام ولا يشبع في رغباته، وإذا ما أُتخم بالغنى يفتقد الراحة، إذ يلتزم بحراسة ما اقتناه من ممتلكات بسبب طمعه الشرير. لأنه اقتنى تلك القنية بشراهته وطمعه، فإنه يرى أنها لا تهبه خيرًا. ما أقسى أن يحرس الإنسان مقتنياته ويتعذب ولا يستفيد بوفرتها[105]].
إن كان الجامعة يمتدح من مات في أحشاء أمه حتى لا يُعاين الظلم أو لئلاَّ يُشارك الناس ظلمهم وطمعهم وجشعهم، أليس بالأولى نطوّب من يموت بإرادته الحرة مع مسيحه المصلوب حبًا لله والناس. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [من ذا الذي يُمتدح بأكثر استحقاق من ذلك الذي يموت بكامل حرية إرادته من أجل دينه (إيمانه)[106]؟!].
2. حماقة السعي وراء الراحة:
ينتقد الجامعة الذين يركنون إلى التكاسل وطلب الراحة، إما لأنهم يشعرون بالظلم الذي حولهم فيُصابون بحالة من الإحباط، متسائلين: بماذا اِنتفع هؤلاء الذين اِقتنوا غنى وفيرًا؟ أو لأنهم في ممارستهم للظلم يطلبون أن يغتنوا على حساب اخوتهم، فيسعون إلى طلب الراحة في استرخاء ليجنوا ثمر تعب الغير. على أي الأحوال يطلب الجامعة من المؤمنين حياة الاعتدال دون تطرف نحو التراخي والكسل أو المبالغة في طلب الغنى والاقتناء.
"ورأيت كل التعب وكل فلاح (نجاح) عمل أنه حسد الإنسان من قريبه، وهذا أيضًا باطل وقبض الريح" [4].
ما يظنه الإنسان نجاحًا في عمله حين يجمع ويكنز مقارنًا نفسه بغيره، حاسدًا قريبه الذي يقتني أكثر منه هو باطل وانقباض الريح... إذ يفسد طبيعة الإنسان الداخلية، حيث يدفعها إلى ممارسة الظلم والقهر عوض الحب والرحمة. يقول القدِّيس غريغوريوس صانع العجايب: [قد أصبح واضحًا ليّ أيضًا كم هو خطير الحسد الذي يُصيب إنسانا من جهة قريبه كلدغة روح شرير، ورأيت أن من يقع فريسة له، ويمتلئ به صدره، لا يسعه إلاَّ أن يأكل قلبه ويمزقه! وتتهاوى نفسه، ويبلى جسده، إذ لا يجد تعزية في خيرات الآخرين[107]].
يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [ما من شهوة أشد سوءًا وضررًا من الحسد. فهو لا يؤذي القريب بقدر ما يؤذي الإنسان الحاسد نفسه. فالحسد سوسة تنخر في أعماق قلب الإنسان، وتعمل فيه كما يعمل الصدأ بالحديد. هو كآبة نفس وحزن يصيب الإنسان لدى مشاهدة السعادة التي يتمتع بها الغير... وأشدّ ما في الحسد أنه داء يُطوى في الكتمان. ترى الحاسد خافض البصر، كالح الوجه، يشتكي باستمرار من عذاب داخلي مما يذبل وجهه ويضني جسده، فيهزل ويضعف. فهو يستحي أن يقول: "إنيّ حاسد" أشعر بالمرارة والحزن للخير الذي حصل عليه إنسان غيري، وإنيّ أتعذب لسعادة أصدقائي، ولا أطيق نجاح أترابي. إنيّ أرى أن سعادة الآخرين هي سيف يمزق أحشائي ويطعنني في الصميم...
الحاسد، علاوة على ما ذكرنا، يُفقد الإحساس والشعور الصحيح بالقيَم... عنده تصبح الفضيلة رذيلة، والخير شرًا. وهكذا الرجل الشجاع يعتبره الحاسد متهورًا، والعاقل بليدًا، والبار مجرمًا، والحكيم مرائيًا، والكريم مسرفًا ومبذِّرًا، والحريض بخيلاً. إن كل الفضائل تصبح عند الحاسد رذائل[108]].
"الكسلان يأكل لحمه وهو طاوٍ يديه" [5].
الكسلان إما هربًا من ظلم الآخرين أو يقصد الانتفاع بتعب الغير دون مشاركتهم العمل لا ينتفع شيئًا. إنه يطوي يديه عن العمل، فيخسر كل شيء ولا يجد حتى ما يأكله... فيأكل لحمه. وهو تعبير مجازي يعني الموت جوعًا أو يعني أن الكسلان يدخل في حالة فراغ داخلي، عوض التفكير في العمل الإيجابي يرتبك بأفكار كثيرة مُبالغ فيها، تحطم نفسيته وتفقده صحته حتى الجسدية.
v ليس من حاجة أن أصف لكم جسامة شرّ البطالة، في حين أن الرسول أوصى صراحة "إن كان أحد لا يُريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تس 3: 10). فكما أن القوت اليومي ضروري لكل إنسان كذلك الكدّ بحسب طاقته ضروري له. لم يكتب سليمان عبثًا في مديح المرأة النشيطة: "لا تأكل خبز الكسل" (أم 31: 27)، كما قال الرسول أيضًا عن نفسه: "ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحد بل كنا نشتغل بتعب وكدٍّ ليلاً ونهارًا" (2 تس 3: 8)، مع أنه كان له السلطان ككارز بالإنجيل أن يعيش من الإنجيل (1 كو 9: 14)، بل أن الرب (في حديثه) قد جمع بين الكسل والشر، إذ قال: "أيها العبد الشرير والكسلان" (مت 25: 26). على أن سليمان الحكيم لم يثنِ فقط على العامل كما ذكرنا (أم 31: 27) بل وبّخ الكسلان إذ شبهه بأدنى الحيوانات (الحشرات) قائلاً: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان" (أم 6: 6). لذا يجب علينا أن نخشى من أن نوبَّخ نحن كذلك في يوم الدينونة، لأن الذي أعطانا القدرة على العمل يطلب منا أعمالاً تناسب قدرتنا هذه، فإنه قال: "من يُودعونه كثيرًا يطالبونه بالأكثر" (لو 12: 48).
وبما أن البعض يستنكف من العمل بحجة الصلوات والتسبيح بالمزامير، فعلى مثل هؤلاء أن يعلموا أن لكل شيء وقتًا خاصًا به كما قال الجامعة: "لكل أمر أوان" (3: 1)[109].
القدِّيس باسيليوس الكبير
"حفنة راحة خير من حفنتيّ تعب وقبض الريح" [6].
خير للإنسان أن يعمل لينعم بحفنة مع راحة قلبه وسلام نفسه عن أن يُغامر بعنف في حسد وغيره بقصد الاكتناز ووفرة الغنى، فينال بالفعل ضِعفين من الإنتاج لكن مع قلق واضطراب، فأنه إنما في الواقع يجتني القلق الذي يُحطمه، أي يجتني قبض الريح. يقول القدِّيس بولس كلمته الأخيرة في هذا: "قد تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه... قد تدربت أن أشبع وإن أجوع وإن اَستفضل وإن أنقص؛ أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 11-13).
في مناظرات القدِّيس يوحنا كاسيان يرى الأب إبراهيم أن كلمات سليمان الحكيم هنا تفسر أفضلية العمل الهادئ في البرية، مع شيء من الراحة الداخلية والأمان عن الاهتمام بخدمة الآخرين مع الانهماك معهم في أمورهم المادية، إذ يقول: [من الأفضل لنا أن نُثابر على الدوام في هدفنا مقتنين ربحًا معتدلاً في البرية حيث لا يوجد فيها اهتمامات عالمية وارتباطات تُشتت الفكر ولا كبرياء ولا مجد باطل وتكون الاهتمامات بالضروريات اليومية أقل... هذا خير من أن نطلب ربحًا عظيمًا خلال التحدث مع الآخرين حديثًا قيِّما للغاية، لكننا ننهمك في مطالب الحياة العلمانية المملوءة بالارتباطات اليومية. لأن سليمان يقول: "حفنة راحة خير من حفنتي تعب وقبض الريح" في هذه الحبائل يسقط الضعفاء... إذ بينما هم غير مبالين بخلاصهم، وفيما هم محتاجون إلى تعليم الآخرين وإرشاداتهم، ينخدعون بحيل الشيطان تحت ستار تتويب الآخرين وإرشادهم[110]].
3. بين الأنانية والصداقة:
يكشف الجامعة عن حماقة الظالمين من جوانب كثيرة، فالظالم في حبه للاقتناء والاكتناز يحسد قريبه على ما لديه، فيفقد سلامه الداخلي... يبقى في حالة جوع دائم مهما نال من غنى [4]. وقد يدفعه الظلم إلى الرخاوة والكسل ليجتني ثمار قريبه ظلمًا، وبينما هو في تراخٍ وكسل إذا به يأكل لحم نفسه، فلا ينعم براحة صادقة [5]. وقد يسلك في تطرف آخر وهو العمل بغير حدود ليقتني أضعافًا مضاعفة، فإذا به يجني تعبًا وقبض الريح [6]. أخيرًا قد تدفعه أنانيته إلى حالة بؤس شديد حين ينفضّ عن صحبة الآخرين، مضحيًا بكل صداقة وحب للمشاركة من أجل اكتناز الثروة، عبّر عنها الجامعة قائلاً:
"ثم عُدت ورأيت باطلاً تحت الشمس،
يوجد واحد ولا ثاني له، وليس له ابن ولا أخ ولا نهاية لكل تعبه، ولا تشبع عينه من الغنى" [7-8].
يعطي مثلاً: إنسان منعزل في أنانية حتى عن إخوته وعن أبنائه، وكأنه بلا اخوة وبلا أبناء. إنه يجمع الكثير لكنه يحرم نفسه كما يحرم أقرب من له من الالتقاء في دائرة الحب، ولا يدري ما هي نهاية ما يجمعه!
كم شعرت بمرارة وأنا في الولايات المتحدة إذ عرفت أن إنسانًا وابنه التجأ إلى المحاكم، كل يدَّعي ملكيته لمشروع اشتركا فيه وجلب عائدًا وفيرًا... محبة المال تحطم حتى الأبوة والبنوة! هل يمكن للمال أن يشبع قلب إنسان يعزل نفسه عن الجميع حتى عن ابنه؟!
v من يُترك وحيدًا في عزلة قاسية، بلا أخ ولا ابن، لكنه يمتلك قنية واسعة الثراء يعيش في نهم جشع، ويرفض أن يبذل نفسه في أي عمل صالح!
أخطر نكبات الإنسان الذي يملك ثروة باطلة (في طمع) هو افتقاده إلى صديق يعينه، ويُدخل السرور إلى قلبه. أما الذين يعيشون معًا فإنهم يضاعفون ما يقع في أيديهم من ثروة طيبة، وتقلل عشرتهم من ضغط عواصف الأحداث البغيضة. فإنهم في النهار يتميزون بثقتهم القوية في بعضهم البعض، وفي الليل يتَّسمون بالبشاشة والصبر. أما من يسلك حياة العزلة فيمتلئ فزعًا...
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
إن كان الظلم يدفع الإنسان إلى العزلة فلا يطيق الشركة الحقَّة لسبب أو آخر، لهذا يحثنا الجامعة على ممارسة حياة الشركة والعمل الجماعة team work والصداقة العملية الفعّالة، فيقول:
"اثنان خير من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة.
لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه.
وويل لمن هو وحده إن وقع إذ ليس ثانٍ ليقيمه" [9-10].
اعتمادًا على هذه العبارات كان القدِّيس باخوميوس يُحتم ألاَّ يسكن راهب بمفرده في قلاية.
الصداقة العاملة لها فاعليتها، لازمة في الحياة الإيمانية، وكما يقول المثل اليهودي في التلمود: "إما الصحبة أو الموت"[111].
v أتوق دائمًا إلى إقامة علاقات حميمة مع الصالحين، وكثيرًا ما أندفع إلى حبهم. فنحن نقرأ: "اثنان خير من واحد... إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه" [9][112].
القدِّيس جيروم
v محب القدِّيسين هو رفيق الملائكة[113].
v ليكن حديثك مع محبي الله لتأخذ نفسك شبه طهارتهم[114].
القدِّيس يوحنا سابا
يروي لنا تاريخ الكنيسة عن أمثلة رائعة من الصداقات وما قدمته من بركات روحية في حياة القدِّيسين. نذكر على سبيل المثال الصداقة التي قامت بين القدِّيس باسيليوس الكبير والقدِّيس غريغوريوس النزنيزي، يقول الأخير: [إنيّ أتنشَّقك أكثر مما أتنشَّق الهواء، وأنا سواء كنت حاضرًا أم غائبًا، لا أعيش إلاَّ الوقت الذي أنت فيه معي]. كما يقول: [لما حصل التعارف بيننا واتضحت رغبتنا المشتركة في درس الفلسفة الحقيقية، أصبح كل واحدٍ منا للآخر كل شيء. كان لنا سقف بيت واحد وطاولة واحدة ندرس عليها، وعواطف مشتركة. إن أعيننا كانت تحلق نحو هدف واحد، وعاطفتنا لم تكن إلاَّ لتزيد وتترسخ يومًا بعد يوم. إن الشهوات الجسدية تزول ولكن المحبة التي تمتُّ إلى الله بصلةٍ هي ثابتة لأن موضعها ثابت، وبقدر ما تتضح جمالاتها وتُكشف بقدر ما تربط من جمعتهم برباط المحبة نفسها[115]].
ويقدم لنا القدِّيس باسيليوس خبرته في هذه الصداقة، قائلاً:
[إن الإنسان في العيشة الاجتماعية لا يتمتع بموهبته الخصوصية فقط، بل يضاعفها بإشراك الآخرين فيها ويجتني ثمرًا من مواهبهم كما يجتني من موهبته[116]].
[ولكن الإنسان الذي يخفي في ذاته ما منحه الله من النعم والمواهب ولا يشرك سواه في فوائدها يُدان كمن دفن وزنته[117]].
يرى بعض الآباء في قول الجامعة: "اثنان خير من واحد" تأكيد لضرورة وجود أب روحي يسند المؤمن لئلا ينحرف حسب هواه الذاتي.
v كثيرون يبغون البتولية وهم لا يزالوا صغارًا وقليلي الفهم، هؤلاء يلزمهم أن ينشغلوا قبل كل شيء بالبحث عن مرشد مناسب ومعلم لهذا الطريق، لئلا في جهلهم الراهن ينحرفون عن الطريق الصحيح فيسقطون في طريق أخرى وعْرة المسالك من عندياتهم. "اثنان خير من واحد"، هكذا يقول الحكيم، فإنه من السهل أن يُهزم واحد على يديْ الخصم الذي ينصب فخاخه في الطريق المؤدي إلى الله؛ وحقًا "ويل لمن هو وحده إن وقع إذ ليس ثانٍ ليقيمه"[118].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
من جانب آخر يليق بكل إنسان منا أن يهتم بأن يقيم أخاه بروح الوداعة والحب كقول الجامعة: "إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه" [9].
v بممارستك عمل الجامعة ضع أمام عينيك أن توجّه حياتك حسنًا، وإن تصلي من أجل الحمقى لينالوا فهمًا، ويعرفوا أن يتوقفوا عن الأعمال الشريرة[119].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
يقدم لنا الجامعة أمثلة لتأكيد أهمية الصداقة والمشاركة الروحية للبنيان:
المثل الأول: "إن اضطجع اثنان يكون لهما دفء؛ أما الواحد فكيف يدفأ؟!"
يقصد بالمضطجعين معًا ليدفئا المسافرين في مناطق صحراوية قارصة البرد ليلاً وليس لهما أغطية كافية، وربما يقصد الحياة الزوجية الصالحة التي تهب دفئًا أُسريًا وشبعًا داخل النفس في الرب.
المثل الثاني: "وإن غلب أحد على الواحد يقف مقابله الاثنان، والخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا" [12]. بمعنى إن كانت الصداقة والمشاركة مع آخر تُعطي الإنسان قوة، إن هاجمه واحد يقف الاثنان ضده، فماذا إن كانت الصحبة بين ثلاثة، فالخيوط المجدولة من ثلاثة يحتمل أكثر من المجدول من اثنين.
ما هو هذا الخيط المثلوث إلاَّ وحدة الجماعة الكنسية حيث يحل السيِّد المسيح في وسطهم كوعده: "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم؟!" ويرى القدِّيس جيروم أنه يمثل الارتباط بين الإيمان والرجاء والمحبة، قائلاً: [كلمات الرسول عن الإيمان والرجاء والمحبة تشبه الخيط المثلوث الذي لا يسهل قطعه. نحن نؤمن ونترجَّى، وخلال إيماننا ورجائنا نرتبط ببعضنا بعضًا برباط الحب[120]].
4. حماقة السعي وراء المجد الباطل:
إذ قدم الجامعة شهادة الجامعة عن بطلان العالم حيث يسود الظلم البشرية ويحتل موضع العدل، وبسببه في حماقة يسعى البعض إلى الراحة على حساب الآخرين، وقد التهبت قلوبهم حسدًا وغيرة، كما تقوقع البعض حول الأنا في أنانية عوض العمل المشترك team work بروح المشاركة والحب، فإن كثيرين أيضًا يفسدون تعبهم بالبحث عن المجد الباطل والكرامة الزمنية مهما يكن الثمن، غير أن هذه الكرامة تعتمد على تقلبات الناس ومن ثم تكون بلا أمان... قد يخرج سجينًا إلى العرش وينحدر ملكًا إلى السجن.
عظمة الإنسان الحقيقية ليست في كثرة الأيام ولا في مركزه أو إمكانياته، وإنما في الحكمة الساكنة فيه: "ولدٌ فقير وحكيم خير من ملك شيخ جاهل، الذي لا يعرف أن يُحذَّر بعد" [13]... إنه ملك كثير الأيام وله كل الإمكانيات لكن بافتقاره إلى الحكمة يفتقر إلى حياة الحذر.
يؤكد عدم دوام الحال، فقد يخرج إنسان من السجن إلى العرش - مثل يوسف - وقد يُطرد الملك من عرشه [14]. يقتني الأول حب البشر بينما يبُغض الثاني. ربما قصد بالخارج من السجن نفسه، فقد وُلد من أحشاء أمه عريانًا كمن في سجن ليجد نفسه يحتل العرش بغير جهاد أو مهارة أو إمكانيات خاصة به أو أي امتياز شخصي خاص به.
يُشير الخارج من السجن إلى المُلك إلى رجال العهد الجديد الذي يتحررون من سجن حرفية الناموس، والملك المخلوع هم اليهود الذين بين أيديهم الشريعة والنبوات والمواعيد الإلهية لكنهم جحدوا الإيمان بالمخلص. بالحرفية فقد قادة اليهود المُلك، وبالإيمان صار المؤمنون ملوكًا وكهنة (رؤ 1: 6) في حياة المعمودية.
إذ يفقد القائد اليهودي الحرفي في العبادة مُلكه الروحي يتركه الشعب الملتفّ حوله ليتمتع بعمل الإيمان بالمسيح واهب المُلك، وأيضًا لا يفرح به المؤمنون الحقيقيون [16].
يرى العلامة أوريجانوس أن الخارج من السجن إلى المُلك هو الشهيد الذي ينطلق إلى ملك الملوك لينعم بعرش دائم لا يُنزع منه، إذ يقول: ["من السجن خرج إلى المُلك". هكذا اقتنعت أن أموت من أجل الحق، محتقرًا في الحال ما يُدعى موتًا. احضروا الوحوش الضارية، احضروا الصلبان، قدموا النيران، تعالوا بالمُعَذِّيين. إنني أعرف أنني إذ أموت أخرج من جسدي وأستريح مع المسيح[121]].
هكذا إذ استخدم الجامعة شهادة المجتمع في العالم وما يحمله من ظلم بسبب أنانية بعض الأغنياء وأصحاب السلطة يدعو الكل إلى روح الحب والمشاركة بعيدًا عن طلب المجد الباطل.
التطبيق العملي
[5-12]
5. الحب في العبادة والسلوك.
6. إفساد عطايا الله.
7. الاستعداد الحكيم للأبدية.
8. السلوك الحكيم الهادف.
9. وليمة الحكمة هبة إلهية.
10. الحذر من الصغائر.
11. الجهاد المملوء حبًا.
12. الجهاد المبكر.
قدَّم سليمان الحكيم براهين واقعية عن بطلان العالم وملذاته مع تأكيد صلاحه كخليقة الله الموهوبة لنا من قِبلْ حبه:
1. الطبيعة نفسها تشهد ببطلانه [1]،
2. خبرات سليمان الشخصية تؤكد ذلك [2]،
3. أيضًا العالم يؤكد خضوعه للزمن المتغير [3]،
4. المجتمع بما يحتويه من مظالم ينطق بذات الحقيقة [4].
والآن، ما هو دورنا العملي في حياة متغيرة وزائلة هكذا؟
1. لنسلك بروح الحب والاستماع للخالق في عبادتنا وفي سلوكنا [5].
2. لنستخدم عطايا الله كما يليق دون إفسادها [6].
3. لنتطلع إلى ما وراء الموت ونتهيأ للأبدية [7].
4. لنسلك في حياتنا بحكمة وبهدف واضح [8-9].
5. في سلوكنا نحذر خاصة من الصغائر [10].
6. لنجاهد بحب مبكرين [11-12].
الحب في العبادة والسلوك
مادام العالم متغيّر يليق بنا ألا نرتبط به قلبيًّا لئلا ننحدر معه، إنما نستخدمه بفرح. ليكن ارتباطنا بخالقه "الحب الحقيقي" فنحمل سمة الحب كأيقونة حيَّة للخالق، ونترجم هذا الحب عمليًّا في عبادتنا كما في سلوكنا مع الغير، وفي نظرتنا للخيرات الزمنية كعطايا إلهية.
بالحب نتعبد لله لا في شكليات حرفية قاتلة وإنما بروح الطاعة الصادقة القلبية، فإن الاستماع أفضل من ذبيحة الجهال. به تتحول صلواتنا إلى لهيب نار متقد لا إلى كثرة كلمات جافة، وبه نعرف كيف ننذر حياتنا كلها كذبيحة تسبيح ونوفي نذرنا بالرب نفسه... هكذا تنشلنا العبادة الروحية من الانشغال بالعالم الباطل... أما إذا صارت العبادة باطلة فكم يكون العالم الباطل؟!
بالحب نعرف كيف نسلك بالرحمة لا الظلم، وبحب العطاء لا بالطمع والجشع.
وبالحب نفرح بخيرات الله وعطاياه ونشكره حتى على بركة الطعام والشراب والعمل!
1. عبادة قلبية صادقة [1-7].
2. سلوك محبة خالصة [8-17].
3. فرح وشكر بعطايا الله [18-20].
1. عبادة قلبية صادقة:
إن كان العالم خارج الله باطلاً وقبض الريح فبالأولى العبادة الشكلية خارج دائرة الروح تكون باطلة وقبض الريح. هذا يبدأ الجامعة تطبيق نظرتنا الصادقة للحياة على العبادة سواء الجماعية أو الخاصة.
أ. دعوة للدخول إلى بيت الله:
"احفظ قدمك حين تذهب إلى بيت الله،
فالاستماع أقرب من تقديم ذبيحة الجهال،
لأنهم لا يبالون بفعل الشر" [1].
خلق الله العالم صالحًا لتكون الأرض كلها أشبه ببيت الله فيه يلتقي كل بشر مع محبوبه الخالق القدُّوس بروح الحب والتسبيح والفرح. لكن إذ دخلت الخطية إلى العالم صار العالم باطلاً، وأنبتت الأرض شوكًا وحسكًا، وشعر الإنسان بجفاف نحو خالقه الصالح. لكن الله في حبه للإنسان سمح له بإقامة بيت له بكونه أيقونة السماء الخالدة، يلجأ إليه المؤمنون وهم بعد في هذا العالم، فيحمل روح الله قلوبهم وأفكارهم وإرادتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم إلى ما فوق العالم المنظور وإلى ما فوق الزمن... لهذا لا نعجب إن بدأ الجامعة نصائحه للإنسان بعد تأكيده بطلان العالم بالذهاب إلى بيت الله، بمعنى آخر يقول الجامعة: أهرب من العالم الزائل إلى خالقه الأبدي بالدخول إلى بيته المقدس واللقاء معه خلال دائرة الحب والطاعة.
لقد عرف المرتل كيف يلجأ إلى مقادس الله في وقت الضيق ليختبر مراحم الله وغنى نعمته:
"إنما خير ورحمة يتبعاني كل أيام حياتي وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام" (مز 23: 6).
"وإن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام عليَّ قتال ففي هذا أنا اَطمئن؛ واحدة سألت من الرب وإيَّاها اَلتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر نعيم الرب وأتفرس في هيكله المقدس" (مز27: 3-4).
"لأنك كنت ملجأ ليّ... لأسكنّ في مسكنك إلى الدهور، اَحتمي بستر جناحيك" (مز 61: 3- 4).
"كنت مصابًا اليوم كله... حتى دخلتُ مقادس الله" (مز 73: 14، 17).
هكذا إذا ما شعر المرتل بالمتاعب الخارجية أو الداخلية يجد له ملجأ في بيت الرب، حيث يلتقي بالله نفسه مخلصه. يرفعه إلى نعمه، ويهبه خبرة جمال الحياة السماوية فلا يعود ينشغل بما حمله إليه الزمن من مضايقات. في بيت الرب يجد الله الملك جالسًا على العرش فلا يخاف إن حاربه جيش أو قام عليه قتال!
غير أن دخول بيت الرب والسكنى فيه يتطلب نقاوة القلب وقداسته، فيسكن المؤمن مع الله القدُّوس في مقدسه وتكون له شركة معه... لهذا يقول: "أحفظ قدمك" [1].
ب. ماذا يعني حفظ القدم عند الذهاب إلى بيت الرب إلاَّ ما يقوله الحكيم: "الذي ينتبه إلى خطواته" (أم 14: 15)، وأيضًا: "مهِّد سبيل رجلك فتثبت كل طرقك، لا تمل يمنه ولا يسْرة، باعد رجلك عن الشر" (أم 4: 26). كأنه يقول: أنك تسلك الطريق الملوكي، لتدخل إلى عرش ملك الملوك، أحذر لئلاّ تنحرف بضربة يمينية، أي بالبر الذاتي، أو بضربة شمالية أي بالسقوط في الشر. لتدخل بقلبك إلى بيت الرب قبل جسدك... لا تسرع بخطوات قدميك الجسديتين إنما ادخل بأعماقك مقودًا بروح الله القدُّوس.
يرى البعض في هذه الوصية: "احفظ قدمك" إشارة إلى أمر الله لموسى النبي ويشوع بين نون أن يخلعا حذاءهما من رجليهما (خر 3: 5؛ يش 5: 15)، وكما يقول العلامة أوريجانوس[122] إنها دعوة لخلع الحذاء المصنوع من جلد الحيوانات الميتة. نخلع عنا ما يمس الحياة الميتة، أو أعمال الإنسان العتيق لنحيا بروح الله في جدة الحياة. أيضًا تُصنع من جلد الطبول التي تعطي صوتًا عاليًا بلا عمل، وكأن خلع الجلد دعوة إلى رفض المجد الباطل وحب الظهور...
لندخل بيت الرب بقلوبنا بعد خلع حذائها منها، لكي ننعم بأعمال الإنسان الجديد، فلا نسلك في الحياة الشريرة ولا نطلب برًا ذاتيًا، إنما نسمع لصوت الله ونطيعه بإرادة مقدسة خالصة، فإن الاستماع لله أفضل من ذبائح الجهال!
ج. الاستماع أفضل من ذبيحة الجهال: احفظ قلبك أو إنسانك الداخلي بالطاعة، بكونه العين التي تعاين الله بالإيمان، والقدم التي بها تسير نحوه وتنعم بسكناك معه وهو معك.
إن كانت الحياة متغيرة وزائلة وتحتاج إلى تحفظ وحذر حتى لا تسقط في فخاخ الارتباك بها والإغراء باكتناز خيراتها الزمنية، فبالأولى إذ تتجه بقلبك نحو بيت الله تتعرف على الطريق الملوكي، طريق طاعة المسيح، فإن السلوك به وفيه هو أعظم من تقديم عطايا مادية لبيت الرب. اقبل السيد المسيح نفسه طريقًا ملوكيًا، فتحمل بره وطاعته، مقدمًا قلبك ذبيحة حب عملي... فإن الله يطلب قلبك لا مالك! وإذ تعطيه قلبك المبذول بالحب العملي باتحادك مع المسيح المطيع (عب 5: 5) تقدم كل حياتك بكبائرها وصغائرها.
يُطالبنا بالاستماع، فبيت الله هو بيت الكلمة الإلهي، نستمع إليه لنحفظه فينا بروحه القدُّوس. أول كلمة في الوصايا العشرة هي "اسمع"... إذ يُريدنا الله أن ندخل بيته لننصت وتُحفظ بالقلب والسلوك العملي، لأن الاستماع إنما يعني الطاعة العملية.
الله كما نتعرف عليه في الكتاب المقدس وخبرة الكنيسة عبر العصور "سامع الصلوات"، يميل بأذنه إلينا نحن أطفاله ليسمع همسات شفاهنا وتنهدات قلوبنا الخفية، ونحن في حبنا له نقابل استماعه إلينا باستماعنا إليه... نشاركه سمة "الاستماع". بحبه ينزل إلينا ليسمعنا، وبحبه أيضًا يهبنا روح الطاعة فنسمع نحن له!
كأن الاستماع (الطاعة) ليس نوعًا من الإذلال كما يظن البعض في كبرياء قلوبهم، إنما هي سمة المؤمن الحقيقي في شركته مع الله السامع لأصواتنا... نسمع له في وصيته كما في بيته، في صلواتنا الخفية وفي معاملاتنا مع قريبنا... نحمل سمة الاستماع كطبيعة مقدسة في الرب ترافقنا في مخدعنا وفي كنيستنا وفي بيوتنا وفي عملنا حتى في الطريق أيضًا، نشتاق أن نسمع لكل أحد ونطيعه لكن في الرب!
أخيرًا فإنه بالاستماع يدعونا إلى الحكمة السماوية وسلوك في برّ الله؛ ترتبط الحكمة بالبر كما يرتبط الجهل بالشر، إذ يقول: "ذبيحة الجهال الذين لا يبالون بفعل الشر". فالجاهل ليس فقط يخطئ وإنما وهو يخطئ لا يبالي، أما الحكيم فإن أخطأ لا يطيق تصرفاته الخاطئة، بل يشتكي نفسه لله بالتوبة، مطالبًا إيَّاه أن يهبه سمة "الاستماع" أو "الطاعة" عمليًا.
يرفض الله ذبيحة الجهال لأنهم وهم يمارسون شكليات العبادة يرفضون الاستماع الداخلي لوصايا الله، فيملك الشر على قلبهم وفكرهم ولا يبالون به.
v الذي يسمع ويطيع يحل عليه السلام المقدس[123].
القدِّيس يوحنا سابا
نستطيع أن نلمس كيف خشي آباؤنا من السقوط تحت حرفية الشكليات مما قاله القدِّيس يوحنا سابا: [يا رجل الله، حتى متى السواد فقط (الزيّ الرهباني) يعزي نفسك. كن كُلَّك لهيبًا، واحرق الذين حولك لترى جمال المخفي داخلك[124]]. ويقول القدِّيس مار إفرام السرياني: [إن زيّ الديانة الحسنة موضوع عليّ، وليس فيّ قوتها[125]]. [أقف في الكنيسة في المقدمة، وأنا لست أهلاً أن أكون أخيرًا فيها[126]]. [اعتزلت العالم، وأنا غائص فيه لعنقي بقلبي وفكري[127]].
د. عدم الإكثار في الكلمات باطلاً أثناء الصلاة: "لتكن كلماتك قليلة" [2]، فالله يطلب العمل والإخلاص لا كثرة الكلام باطلاً" (مت 6: 7). "لأن الحُلم يأتي من كثرة الشغل، وقول الجهل من كثرة الكلام" [3].
لتكن صلواتنا هادئة، ننطق بها بغير تسرع، ننطق بها بلساننا كما بحياتنا العملية، فيصرخ كياننا كله بلغة الحب العملي التي ينصت إليها الله وتفرح لها السماء كلها. ربما لهذا السبب يقول: "لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله؛ الله في السموات وأنت على الأرض" [2]. كأنه يقول: دع حياتك التي تتسم بالسماوية أن تنطق وتصلي، فترتفع كلمات الصلاة معها إلى العرش الإلهي.
وربما أراد الجامعة من المتعبد أن يتسرع في الكلمات لينهي صلاته إنما بين الحين والآخر يرفع فكره وقلبه ومشاعره نحو الله، يعبّر بالتأمل الداخلي عن عمق التصاقه به، كما يترك بهذا، المجال لنعمة الله تعمل فيه أثناء الصلاة... يتكلم بالروح ويستمع لصوت الرب ويرى بالروح. تتحول الصلاة إلى ديالوج حب متبادل يشترك فيه الإنسان لا بلسانه وحده بل وبكل كيانه الداخلي.
يقول: "لأن الله في السموات وأنت على الأرض"... انتظر في صلواتك أن يعلن لك السماوي عن سمواته، ويعلمك لغة السماء، ويهبك شركة التسبيح مع السمائيين.
v أصغ إلى مشورة الجامعة: لا تلفظ كلمة أمام الله؛ إذ يقول إن الله في السماء وأنت على الأرض [2]. أعتقد أنه يُظهر بتلك المسافة التي تفصل بين السماء والأرض بالرغم من حميمية اتصالهما المتبادل، طبيعة الله التي تفوق دائرة فكر الإنسان بلا قياس. كما تبعد النجوم عن متناول الأصابع، هكذا وبقدر متعاظم أكثر بكثير تسمو تلك الطبيعة التي فوق كل أفكار البشر على أفكارنا الأرضية[128].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
v سكِّت لسانك ليتكلم قلبك، سكِّت قلبك ليتكلم فيك الروح.
القدِّيس يوحنا سابا
يدعونا الجامعة ألا نكثر الكلام في الصلاة، ربما لكي لا ننطق بكلمات غير مفهومة، كقول الرسول بولس: "أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضًا، أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضًا" (1 كو 14: 15). حينما نصلي أو نسبح الله يلزمنا أن ننطق بروية وخشوع، مدركين أننا نتحدث مع السماوي...
لا يهاجم الجامعة الصلوات الطويلة مادامت تُقدم بفهم وحكمة وتقوى، فقد كان السيِّد المسيح يقضي أحيانًا الليل كله في الصلاة (لو 6: 12)، ويسألنا الرسول أن نصلي بلا انقطاع (1 تس 5: 17)، وإن نصلي في كل حين (كو 1: 3). وقيل عن القدِّيس أرسانيوس أنه كان يُستغرق في الصلاة من غروب الشمس حتى شروقها، يقضي الليل كله في عذوبة الحديث مع الله.
v صلِّ ولا تملّ، صلّ باستمرار صلاة إيمان ورجاء ومحبة...
ولكن لا تكن صلاتك في كثرة الكلام. إن ربنا هو أول من اِختصر الخطب الطويلة كيلا تظهر في صلاتك الطويلة إلى الله بمظهر من راح يلقّنه درسًا.
حاجتك في الصلاة إلى تقوى لا إلى ثرثرة.
إذا صليت فلا تكن ثرثارًا كالوثنيين الذين يظنون أنهم بكثرة كلامهم يُستجاب لهم (مت 6: 7)، فلا تكن مثلهم لأن أباك عالم بما تحتاج إليه من قبل أن تسأله...
لن تنقطع عن الصلاة إذا طلبت باستمرار حياة السعادة...
يُقال إن في مصر إخوة يرفعون باستمرار ابتهالات قصيرة تتلى بسرعة، حفاظًا على انتباه (تركيز الذهن) ضروري لكل من يصلي[129].
القدِّيس أغسطينوس
يقتبس الجامعة مثلاً يؤكد أهمية العمل عن كثرة الكلام: "فإن الحُلم من كثرة الشغل، وقول الجهل من كثرة الكلام" [3]. فالعمل المتواصل الجاد يُولِّد أحلامًا سعيدة، أو يحقق أحلام الإنسان ورغباته، أما لغو الكلام الكثير فيحوّل حياة الإنسان إلى الجهالة، كلماته هي "قول الجهل". كثرة الشغل تجعل الإنسان حكيمًا وواقعيًا حتى في أحلامه، وكثرة الكلام تكشف عن فراغ وجهالة!
هـ. الجدِّية والإخلاص في النذور:
"إذا نذرت نذرًا لله فلا تتأخر عن الوفاء به،
لأنه لا يُسر بالجهال...
أن لا تنذر خيرٌ من أن تنذر ولا تفي.
لا تدع فمك يجعل جسدك يخطئ" [4-6].
في دراستنا لسفريّ العدد (أصحاح 30) واللاويين (أصحاح 27) تحدثنا عن النذور في الشريعة الموسوية. النذر هو وعد بتكريس شيء ما لله، يلتزم المرء بالوفاء به؛ وهو يشير إلى شوق داخلي ورغبة أكيدة لا لتكريس أشياء بل تكريس القلب نفسه لله، لمجد اسمه وانتشار ملكوته. يليق بالمؤمن أن يلتزم بما نطق به ولا ينقض كلامه (لا 30: 2؛ قض 11: 35)، كما لا يليق عدم تأجيله إلى الغد.
يدعو الجامعة الذين لا يوفون النذور أو يؤجلون الإيفاء "الجهال"، لأنهم ينطقون بجهالة في غير ترٍِ، ويُحسب هذا نوعًا من الاستخفاف بالله. وكان الأفضل ألا ينذروا من أن ينذروا ولا يفوا، حتى لا يُحسبوا ناكثين للوعد.
إنهم ينطقون بفمهم فيخطئ جسدهم. هنا الجسد يعني الإنسان بكليته، فقد نذر حنانيا وسفيرة أن يقدما كل ثمن حقلهما... لكنهما اختلسا من الثمن، وحُسبا كاذبين على الروح القدس (أع 5: 1-11). وتسرع يفتاح في نذره للرب بأن يقدم من يخرج من أبواب بيته للقائه محرقة... فقدم ابنته الوحيدة العذراء محرقة (قض 11: 30، 34). ووعد هيرودس بعجلة أن يعطي هيروديا طلبتها ولو إلى نصف المملكة فقطع رأس القدِّيس يوحنا المعمدان!
لا نتسرع في وعودنا ونذورنا مع الله والناس!
يرى الأب إسحق في مناظراته مع القدِّيس يوحنا كاسيان أن النذر هو "الصلاة" قائلاً هكذا: [إذا صليت صلاة للرب لا تؤجل الوفاء بها. ونحن نصلي حينما ننبذ هذا العالم، ونعد بأننا نموت عن كل الأفعال العالمية وعن حياة هذا العالم، ونخدم الرب بكل مقاصد القلب[130]].
صلواتنا هي نذور أو تعهدات... فيها نعلن جحدنا لملذات العالم وقبول ملكوت الله فينا، فيها نرفض أبوة إبليس المهلكة ونقبل أبوة الله لنا... لنحقق هذا لا بالكلمات فقط وإنما في حياتنا العملية بروح الله القدُّوس العامل فينا، فنقول بقوة مع الرسول: "لسنا من ليلٍ ولا ظلمة" (1 تس 5: 5).
في دراستنا لسفر المزامير لاحظنا المرتل يعلن إيفاءه النذور، وذلك بالتسبيح لله، فإنه ليس من نذر يُفرح قلب الله مثل تسبيحنا له وشكرنا إيَّاه وسط ضيقاتنا ومتاعبنا! بهذا النذر نعلن أن إلهنا السماوي وحده قادر أن يدخل بنا إلى الحياة الملائكية المفرحة ويعبر بنا فوق هموم العالم ومشاغله!
يكمل الجامعة حديثه عن الالتزام بإيفاء النذر قائلاً:
"لا تقل قدام الملاك إنه سهو" [6].
يقصد بالملاك هنا الكاهن (رؤ 2: 1)، فإنه لا يليق بالمؤمن أن يتصنع الأعذار أمام وكلاء الله، مدعيًا أن ما نطق به لا يقصده، أو لم يكن يعرف حقيقة قدراته أو إمكانياته. فإن الله يغضب على المتسرعين في كلماتهم ونذورهم [6].
يقدم الكاتب علّة هذا الداء وعلاجه، قائلاً:
"لأن ذلك من كثرة الأحلام والأباطيل وكثرة الكلام،
ولكن اِخْشَ الله" [7].
يقول القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب: [كما أن حشد الأحلام أمر باطل، أيضًا كثرة الكلام. أما مخافة الله فهي خلاص الإنسان وإن كان يصعب اقتنائها[131]].
ثلاثة أمور تفسد تعهدات فمنا مع الله: كثرة الأحلام، أي الانشغال بالأوهام دون السلوك الواقعي العملي؛ والأباطيل أي الانشغال بأمور الحياة الباطلة، وكثرة الكلام. بمعنى آخر لكي تكون تعهداتنا مقدسة وواقعية يلزمنا أن نهرب من الأفكار (الأحلام) الباطلة، ومن الأعمال الباطلة، ومن الكلمات الباطلة وذلك بأن نضع مخافة الله نصب أعيننا عندما نفكر أو نعمل أو نتكلم. لنخف الله فيملك على أفكارنا وسلوكنا وكلماتنا... ونكون بكليتنا شهود حق لعمله فينا!
2. سلوك محبة خالصة:
طالبنا بالعبادة الروحية الحقة في مواجهة بطلان العالم، محذرًا إيَّانا من الشكليات الحرفية الجافة، مقدمًا لنا مخافة الله علاجًا لضعفنا في العبادة. الآن يربط العبادة الروحية بالسلوك العملي المملوء محبة خالصة، مقدمًا لنا أيضًا مخافة الله سندًا لنا كي لا نخشى الظالمين، إذ يقول:
أ. إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل فلا ترتع من الأمر،
لأن فوق العالي عاليًا يُلاحظ والأعلى فوقهما" [8].
ليتنا لا نرتع من الأمر إذ نرى الظلم قد ساد على الأرض، فإنه يوجد في مقابل ذلك منظر معزي في السماء. الله الذي هو أعلى من كل عرش، وفوق كل سلطان يحقق حتمًا عنايته بالمظلومين وعدله في الوقت المناسب. إن كان الظالمون متعالين فمجد الله فوق السموات (مز 113).
لعل الجامعة قد خشي لئلا يرتع المؤمن من منظر الظلم الذي يسود الأرض فيخضع هو أيضًا للباطل، ويسلك بروح الظلم والقهر، بحجة أن العالم كله يسلك هكذا. بالحرى يلزمه أن يلجأ إلى العالي أي إلى القضاء أو الحكام، فإن لم يجد من ينصف الفقير والمظلوم على الأرض يتدخل السماوي نفسه الأعلى من الكل.
ب. إن كان الفقير قد صار كالأرض لا نحتقره، فإنه يحتاج الكل إليه، حتى الملك يحتاج إلى خدمة الحقل وثماره: "منفعة الأرض للكلِ؛ الملك مخدوم من الحقل" [9]. كل الخليقة الحيَّة تحتاج إلى الأرض... منها تأكل البهائم، ومنها يأكل الملك... فلماذا نحتقرها؟!
لنعطِ حبًا لإخوتنا الفقراء ولا نحتقرهم، حتى إن صاروا في نظر الكثيرين أرضًا يطئون عليها بأقدامهم، فبحبنا لهم وخدمتنا لهم نُخدم نحن ويرتفع قلبنا إلى السماء عينها!
ج. لنحب الإخوة الفقراء والمظلومين حتى وإن صاروا أرضًا، لأنهم يخدموننا في يوم الرب العظيم حيث نسمع: "الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبيّ فعلت" (مت 25: 40). نقدم لهم فضتنا ومقتنياتنا أو بالأحرى حبنا، فننتفع أبديًا، أما إن اكتنزنا ممتلكاتنا فلا تشبع نفوسنا [10]، ولا ننتفع بها [11]، لا تهبنا راحة [12]، بل قد تضرنا [13]... وهي زائلة... فإنها تتركنا [14] أو نحن نتركها بغير إرادتنا [15-16].
أولاً: حب الفضة غير مشبع:
"من يحب الفضة لا يشبع من الفضة،
ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل" [10].
من يلتصق بالرب خلال التقوى ينتفع كثيرًا: "إن التقوى مع القناعة تجارة عظيمة" (1 تي 6: 6)، وكما يقول الرسول: "في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع..." (في 4: 18). أما من يلتصق بمحبة الغنى والثروات فيُوسع نفسه كالهاوية (حب 2: 5)، لا يستطيع العالم كله أن يشبعها. إنها كالعلوقة - وهي دودة تكثر في المستنقعات وتتعلق بالحيوانات، تشرب من المستنقعات وتمتص دماء الحيوانات ملتصقة بها جدًا - تقول "هات هات" (أم 30: 15).
v الذي يحب الِغنى يحلم بالذهب عند النوم، والذي يحب التجرد يُسرع (الذهب) إليه...
v أبناء الملكوت يدوسون الذهب مثل التراب، وأنت الآن افرح ولا تحمله...
v يا رب من يقتنيك خبز اليوم لا يحتاج لأنه غنى أكثر من أغنياء العالم جميعه[132].
القدِّيس يعقوب السروجي
ثانيًا: لا منفعة لوفرة الغنى:
"إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها،
وأي منفعة لصاحبها إلا رؤيتها بعينيه؟! [11].
إذ يزداد الإنسان غنى تزداد مسئولياته، فماذا ينتفع إن بقى قلبه شرهًا إلى محبة المال بينما العاملون معه يأكلون ببهجة وسرور؟! بمعنى آخر بينما يحترق قلب الغني بشهوة الغنى وبروح الطمع إذا بالذين يعيشون من خيراته أكثر منه سعادة... قد يربحون نفوسهم وينعمون بالغنى الأبدي أما هو فيخسر نفسه؟! لنعطهم حبنا فننتفع نحن أيضًا، وتصير محبتنا لهم هي غنانا الأبدي.
v كن بلا جشع ولا تكن بلا رحمة. إن كنتَ سيِّدَ الذهب، لا خادمًا له، تستعمله استعمالاً حسنًا... الجشع يجعلك عبدًا، والمحبة تصيِّرك حرًا[133].
القدِّيس أغسطينوس
ثالثًا: حب الغنى يفقدنا الراحة:
إذ قارن بين الغني الذي لا يشبع قلبه بوفرة خيراته والعاملين عنده، وجد أن العاملين يأكلون من الخيرات بأجرتهم بينما قد يحرم الغني نفسه من الخيرات بسبب بخله وحبه للاقتناء، أو قد ينعم العاملون بالتمتع بالأكل أو الطعام السماوي خلال حياتهم التقوية بينما يُحرم الغني البخيل من المائدة السماوية... قد يقول قائل: لكن العاملين يشقون ويتعبون أما الغني ففي راحة يجني ثمر تعبهم. يعلق الجامعة على ذلك بالقول وإن كان العاملون الفقراء يتعبون جسديًا لكنهم ينعمون بلذة عند نومهم بغض النظر عن نوع الطعام الذي يأكلونه أو كميته، أما الغني الجشع فلا يستريح قلبه بالليل... يطير النوم من عينيه مفكرًا كيف يضاعف ثروته... لذلك قيل بحق: "لكنه يعطي حبيبه نومًا" (مز 127: 2).
"نوم المشتغل حلو إن أكل قليلاً أو كثيرًا،
ووفر الغني لا يريحه حتى ينام" [12].
يكسب العامل رزقه بالتعب لكنه ينام نومًا عميقًا وبلذة، أما الانشغال بمضاعفة الثروات فتُسبب الهموم والقلق...
v الفقير حتى إن كان عبدًا وعاجزًا عن أن يملأ بطنه تمامًا، إلا أنه على الأقل يستمتع بانتعاشة النوم، لكن شهوة الغني يُصاحبها دائمًا الأرق والليالي العديمة النوم وتوتر الفكر. أي شيء أكثر سخفًا من ذلك؟!...
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
v يرى الجامعة إن الثروات تسبب لمقتنيها المتاعب، لأن فقدانها يُسبب له قلقًا وتوترًا شديدًا. إنها بحق في حكم المفقودة، لأنها تتُرك هنا، ولا فائدة منها للميت[134].
القدِّيس أمبروسيوس
إن كان التعب الجسماني بسبب ضروريات الجسد يعطي لذة للجسم عند الليل، فكم بالأحرى ينعم المجاهد روحيًا باللذة الحقيقية عندما يتعب من أجل خلاص نفسه؟! إنه بحق ينام نوم الموت في عذوبة وحلاوة، لأنه يستريح من تعبه وأعماله تتبعه (رؤ 14: 13).
v كما أن حزم الفرح تتبع الذين يزرعون بالدموع، هكذا يتبع الفرح الذين عانوا صعوبات لأجل الله. الخبز المُقتنى بعرق كثير يبدو حلوًا للزراع، وحلوة هي أعمال البر للقلب الذي نال معرفة المسيح[135].
مار اسحق السرياني
إذ يُحذرنا خلال السفر كله من الاكتناز أو الجشع، فإنه يود أن يؤكد أنه لا يليق أيضًا أن نعيش في تراخٍ وخمول، إنما أن نعمل ونجاهد في حياتنا اليومية كما في عبادتنا فإن "نوم المشتغل حلو" [12].
رابعًا: حب الغنى أو الاكتناز مضر:
"يوجد شر خبيث رأيته تحت الشمس.
ثروة مصونة لصاحبها لضرره" [13].
الشر الذي رآه الحكيم تحت الشمس هو أن يتفرغ إنسان غني ليصون ثروته، فإذا بها تضره، وكما يقول في موضع آخر: "هكذا طُرق كل مولع بكسب؛ يأخذ نفس مقتنيه" (أم 1: 19). لا تكمن المشكلة في الغنى وإنما في الولع بالكسب، فقد وُجد أغنياء كثيرون اقتنوا نفوسهم بعدم ارتباكهم بالثروة.
v إبراهيم كان غنيًا وهو أول الجالسين في المتكأ بالملكوت.
v ولا أيضًا يوسف مال لمَّا وجد الغنى، ولم يعطله الغنى عن حب الله...
كان سهلاً على يوسف أن يسير في الطريق المرتفعة الكاملة حين كان غنيًا.
v الغنى خلقة حسنة، يُدنسها الجاهل.
v عسير على الغني أن يدخل الحياة من أجل غناه لأنه يحبه ولا يهتم بالملكوت[136].
القدِّيس يعقوب السروجي
خامسًا: الغنى زائل يتركنا أو نحن نتركه:
بذات الجهد الذي يبذله الغني ليزداد غنى يتعرض لفقدان كل ما يملكه خلال مشروع خاسر... كم من أغنياء فقدوا كل ما يملكونه في لحظات عندما تصاب الأسواق المالية بكساد مفاجئ عالمي؟! وكم تحطمت شركات عالمية وأفلست لأن شركة ما قد أشهرت إفلاسها؟!
مهما عظم اهتمام الغني بثروته، فجأة يجدها كالطائر قد فلتت من بين يديه، وكما يقول الحكيم: "لا تتعب لكي تصير غنيًا؛ كف عن فطنتك. هل تطير عينيك نحوه وليس هو؟! لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة، كالنسر يطير نحو السماء" (أم 23: 4-5).
قد يبذل الغني كل جهده ليترك لابنه ميراثًا ضخمًا فإذا به يترك له ثروة مثقلة بالديون:
"فهلكت تلك الثروة بأمر سِيئ ثم ولد ابنًا وما بيده شيء" [14].
إن لم يفقد ثروته بل يترك ميراثًا عظيمًا لابنه، فإنه هو نفسه سيتركها: "كما خرج من بطن أمه عريانًا يرجع ذاهبًا كما جاء، ولا يأخذ شيئًا من تعبه، فيذهب به في يده" [15].
v من هذا العالم الذي أحببتَهُ لن تحمل معك شيئًا، سوى الرذيلة، التي أحببتها[137].
القدِّيس أغسطينوس
أخيرًا يقدم سليمان الحكيم صورة مُرّة لبعض الأغنياء الجشعين المحبين للمال، فإنهم وهم يملكون الكثير يأكلون كل أيام حياتهم في الظلام بغية توفير استهلاك الوقود! "أيضًا يأكل كل أيامه في الظلام ويغتم كثيرًا مع حزن وغيظ" [17].
3. فرح وشكر بعطايا الله:
إن كان المحب للغنى والاكتناز يعيش كما في الظلمة، يخشى لئلا يستهلك كثيرًا من الوقود... يعيش في حزن وغيظ، إذ لا يشعر بعناية الله به واهتمامه به، مهما نال فهو متذمر، فإن المؤمن الحقيقي على العكس يمارس حياته اليومية، مستخدمًا كل ما بين يديه بفرح، شاكرًا الله على عطاياه.
لقد قدم الكاتب ذات النصيحة في نهاية الأصحاح الثاني بعدما أكّد بخبرته الشخصية أن الملذات الحسِّية تعجز عن أن تشبع قلبه (2: 24-26).
تتلخص نصيحته في الآتي:
أ. أن يأكل الإنسان ويشرب ويمارس عمله كعطايا إلهية [18].
ب. أن يحسب الغنى والمال أيضًا هبات إلهية [19].
ج. أن يمارس حياته اليومية بفرح في الرب [19]، فإن "الله ملهيه بفرح قلبه" [20]، أو كما يترجمها البعض: "لأن الله يعطيه سؤل قلبه فرحًا".
v إنها عطية الله أن يجني الإنسان ثمار تعبه بالفرح... مثل هذا الإنسان لا يُعاني من الانزعاج، ولا يُستعبد كل حياته للأفكار الشريرة، بل يقيس حياته بأعمال الخير، إذ أن قلبه صالح في كل شيء، يتهلل فرحًا بعطية الله[138].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
"لأن الله ملهيه بفرح قلبه" [20]، بمعنى أن الله يتطلع إلى الإنسان المؤمن كطفله المحبوب لديه الذي يلهيه بالحكمة السماوية وعربون المجد الأبدي والتعرف على بعض الأسرار كمن يودُّ أن يفرح قلبه. يقول الإنجيلي: "تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (لو 10: 21). هذه هي هبة الله لنا نحن أطفاله التي يُحرم منها حكماء هذا الدهر. هذه الهبة تفرح قلبنا أكثر من كل غنى العالم وثرواته!
الأصحاح السادس
في الأصحاح السابق قدم لنا الجامعة تطبيقات عملية على بطلان العالم تقوم على أساس الحب لله والناس في عبادتنا كما في سلوكنا العملي؛ نحتمي في بيت الله بالعبادة الروحية التي تسر الله، ونواجه ظلم البشر باتساع قلبنا للمقهورين وسخائنا على المحتاجين... وأخيرًا سألنا أن نستخدم عطايا الله الزمنية بفرح، فإن الله يطلب بهجة قلبنا وفرحنا. في هذا الأصحاح يعالج مشكلة البخل وحب الاكتناز مؤكدًا أن الجشع هو الذي يفسد عطايا الله.
الإنسان الروحي يتلمس محبة الله في كل شيء، ويشعر أنه مدين له حتى بأكله وشربه وتعبه أو قدرته على الجهاد أما الإنسان الطبيعي فيُفسد عطايا الله الصالحة. إنه يهتم أن يكنز دون مراعاة ما هو لبنيانه أو لبنيان أولاده أو نفع الكنيسة أو العالم، لا يشعر هو بالشبع ولا ينفع الآخرين. يقدم الجامعة الأمثلة التالية:
1. ثروة يتمتع بها غريب [1-2].
2. ثروة يفسدها الشعور بالعوز [3-6].
3. الاكتفاء بعطايا الله [7-12].
1. ثروة يتمتع بها غريب:
يُظهر الحكيم هنا مقدار ما يلحق الإنسان من شر إن أساء استخدام عطايا الله من مالٍ وغنى. يبدأ حديثه بالقول: "يوجد شر قد رأيته تحت الشمس وهو كثير بين الناس" [1]. لعل سليمان كملك مشهور جاء إليه الكثيرون يسمعون حكمته قد رأى شرًا ينتشر بين شعبه وبين الغرباء القادمين من أقاصي المسكونة، رآه كمرض أو وباء حلَّ في قلوب الكثيرين وهو داء البخل، يدعوه "مصيبة رديئة" [2].
شاهد إنسانا "أعطاه الله غنى ومالاً وكرامة وليس لنفسه عوز من كل ما يشتهيه، ولم يعطه الله استطاعة على أن يأكل منه بل يأكله إنسان غريب" [1-2].
أولاً: يؤكد الكاتب أن ما بين يديّ هذا الغني من مال وكرامة هو عطية الله، سواء ناله الإنسان عن ميراث والديه أو ربحه عن جهاده وتعبه... وكان يليق به أن يشكر الله ويسبحه، طالبًا منه الحكمة والمشورة الإلهية لكي يحسن تدبير حياته.
ثانيًا: ليس لدى هذا الغني عذر فقد أغدقت عليه العناية الإلهية بالبركات ولم يعد معوزًا شيئًا مما يشتهيه قلبه، وكما يقول المرتل: "بذخائرك تملأ بطونهم... أما أنا فبالبر أنظر وجهك؛ أشبع إذا استيقظت بشبهك" (مز 17: 14-15). الله في محبته، كثيرًا ما يعطي الشرير سؤل قلبه: خيرات زمنية، ويسحب قلب المؤمن إليه ليحمل شبهه وصورته!
ثالثًا: لم يتمتع هذا الغني بما ناله، تاركًا ما لديه لغريب؛ ربما يقصد أن غريبًا ما يغتصب ممتلكاته التي يحرم نفسه وأولاده من التمتع بها أو أنه يموت دون أن يتمتع بغناه ولا يكون له ابن (أو ابنة) يرثه بل يستولى غريب على ما جمعه... كل ما جمعه تمتع به غريب!
اختلط أفرايم بالشعوب الوثنية وفسدت حياته فقيل: "أكل الغرباء ثروته" (هو 7: 9)، ويتحدث الحكيم مع الإنسان الذي يسقط مع امرأة أجنبية (وثنية) تقطر شفتاها عسلاً: "تكون أتعابك في بيت غريب" (أم 5: 10). هكذا الخطية بكل صورها، خاصة الجشع والزنا، أو محبة المال والملذات الجسدية، تدفع بالإنسان إلى السبي، فيسلبه عدو الخير كل ما يحمله من عطايا إلهية؛ يفقده ثروته حتى إنسانيته، ويجرده من كل تعقل وحكمة!
الخطية خاطئة جدًا، فمها يقطر عسلاً وكلماتها أنعم من الزيت لكنها كالسيف ذي الحدِّين تقطع الأعماق لتسلب الإنسان حتى نفسه! ويستولى عدو الخير على كل ثروته!
2. ثروة يفسدها الشعور بالعوز:
يقدم مثلاً آخر مضاد للأول: إنسان ينجب مائة أو كما يقول المرتل عن بعض الأشرار "يشبعون أولادًا" (مز 17: 14)، ويعيش زمانًا طويلاً، وبسبب جشعه يشعر بالعوز وعدم الاكتفاء، إذ تبقى نفسه في حالة فراغ، فإنه حتى وإن ظن أنه "ليس له دفن" [3]، أي لن يموت، فالسقط خير منه، لأنه لن ينعم بعذوبة الحياة، بل يعيش كما في الظلمة بسبب شعوره الشديد بالحاجة إلى الاكتناز. إنه يشبه شجرة تحمل ثمارًا كثيرة جدًا، لكنها لا تُقدم ثمرها للأكل بل تبقيه عليها حتى يفسد ويسقط على الأرض فيُجمّع الحشرات.
ربما قصد بقوله "ليس له أيضًا دفن"، أي عند موته "يُدفن دفن الحمار" (إر 22: 19)؛ فمع أن له مئة من البنين وعاش لسنوات طويلة يجمع الأموال لكن أولاده بسبب حرمانه إيَّاهم من التمتع بالخيرات كل هذا الزمان لا يبالون بكرامته، ولا يهتمون بدفنه إنما بالبحث عن ثروته التي خلفها لهم وتقسيمها... أذكر أسرة اختلف أفرادها على الميراث فيما بينهم والجثمان لا يزال في حجرة مغلقة لم يدفن بعد! كانوا يتشاجرون عوض بكائهم على أبيهم!
يقول الحكيم عنه: "إن السقط خيرٌ منه" [3]. إنه يسلم بأن حالة السقط محزنة للغاية، "لأنه في الباطل يجيء" [4]، لأنه باطلاً فرح الزوجان بالحمل واحتملت الأم الكثير تنتظر مولودها الجديد، كما تهيأ الوالد فكريًا وماديًا لحدث سعيد... فخابت آمالهما وتحطمت نفسيتهما وضاعت مجهوداتهما باطلاً. "وفي الظلام يذهب" إذ يكاد لا يشعر به أحد، قبل أن يُحتفل بميلاده يُدفن دون تكريم! "واسمه يُغطى بالظلام" فإن كان الوالدان قد أعدا له اسمًا لا يتحقق بل يتوارى معه في الظلام قبل أن يناديه أحد به: "وأيضًا لم يَر الشمس ولم يعلم" [5]، أي لم ينظر الشمس ويتمتع بالنور إنما خرج من ظلام الرحم إلى ظلام القبر ولم يعلم به أحد ولا تعرّف هو حتى على والديه.
هذه هي الصورة التي قدمها الحكيم عن السقط، ومع هذا يقول في مقارنته بالبخيل: "فهذا له راحة أكثر من ذاك، وإن عاش ألف سنة مضاعفة ولم يَر خيرًا، أليس إلى موضع واحد يذهب الجميع" [5-6]. السقط المحروم من نور الحياة ومن كل ذكرى ومن كل معرفة... الذي لا كيان اجتماعي له هو أفضل من بخيل يعيش آلاف السنوات يكنز مالاً ولا يرى في حياته خيرًا، كما لا يبعث في حياة الآخرين سعادة أو فرحًا... فإنه بعد شقاء كل هذه السنوات يلتقي مع السقط في ذات الموضع "القبر"! البخيل بإرادته الشريرة صار كالسقط، من الباطل يجيء وإلى الظلام يذهب... إذ باطلاً يترجى أحد منه خيرًا؛ تحرمه محبة المال من رؤية شمس البر وتفقده قدرته على التعقل والمعرفة الروحية الصادقة! ما أخطر محبة المال، فإنها تجعل من حياة الإنسان جحيمًا وظلمة أمرّ من ظلمة القبر... وأخيرًا يخرج من العالم عريانًا لا ينال شيئًا من كل ما جمعه.
v لا يقدر الجمل أن يعبر من ثقب إبرة، ولا الغني أن يدخل الملكوت العالي...
v لا يثبت الغنى والذهب عند قانيه، لماذا يقتني الإنسان الغنى والذهب الذي ليس له؟!
v أنظر الأغنياء الذين اقتنوا على الأرض أسماءً وعظمة، إنهم سقطوا وبطلت تدابيرهم وأسماؤهم.
v إن النفس هي أعظم من المقتنيات والأماكن.
v يا ربي أنت غنى مقتنيك وخزانته وكنزه؛ طوبى لمن لا يقتني شيئًا غيرك[139]!.
القدِّيس يعقوب السروجي
3. الاكتفاء بعطايا الله:
بعد أن كشف الحكيم عن خطورة الجشع ومحبة المال صار كعادته يؤكد أن ما وهبنا إيَّاه الله من مال إنما لكي نستخدمه لا لكي يستخدمنا ويستعبدنا.
"كل تعب الإنسان لفمه ومع ذلك فالنفس لا تمتلئ" [7]. ما وهبنا الله من مال أو غنى إنما لكي نأكل فنُشبع احتياجات جسدنا، أما نفوسنا فلا يملأها الطعام ولا حب القنية بل الله نفسه! فالبخيل قد يحرم فمه من الأكل ليجمع مالاً فلا ينتفع به جسده ولا أيضًا نفسه. وربما يقصد أنه مهما جمع الإنسان الغني فإنه لا يحتاج إلا أن يسد احتياجات جسده دون فارق بين طعام زهيد الثمن أو فاخر... إذن ليملأ فمه وأفواه اخوته بما لديه من غنى!
ليملأ الغني فمه بالطعام وليدرك أن نفسه لن تشبع مطلقًا مهما كنزت، لأن من يحب الفضة لا يشبع من الفضة (5: 10)... فمه محتاج إلى طعام ونفسه تحتاج إلى حب الله والقريب.
ربما يقصد بقوله: "كل تعب الإنسان لفمه" [7] أن ما يجمعه الغني إنما بهدف سدّ فمه الداخلي القائل: "هات هات"... لكن يبقي فمه فارغًا ونفسه لا تمتلئ!
أخيرًا لماذا يتعب الغنى باطلاً فيجمع الأموال دون إشباع لنفسه؟! فإنه يستويّ الحكيم مع الجاهل في تركهما كل ما يملكانه هنا، وأيضًا الغني مع الفقير... إنما يبقى شيء واحد هو حكمة الإنسان الصادقة في السلوك مع الأحياء (بني البشر) بروح الحب الخالص.
"لأنه ماذا يبقى للحكيم أكثر من الجاهل؟
ماذا للفقير العارف السلوك أمام الأحياء؟".
الفقير الحكيم يعيش سعيدًا مكتفيا بما لديه من قوت وكسوة (1 تي 6: 8)، ويحمل معه الحب إلى أبديته بينما يفقد من يظن نفسه حكيمًا وغنيًا سعادته هنا ومجده الأبدي.
نصيحة الجامعة للكل أن يسلكوا بروح الشكر حاسبين أن ما لديهم - قليلاً كان أو كثيرًا - أفضل من انتظارهم بروح الجشع ما يشتهونه ويحملون به من غنى وجاه:
"رؤية العيون خير من شهوة النفس" [9]. الإنسان الذي يشعر بالشبع، مكتفيًا بما لديه أو بما هو حاضر أمامه، يراه بعينيه، خير من ذاك الذي تجول نفسه في طمع، يشتهي الأمور التي قد لا يستطيع نوالها.
v تأكد أن الأحمق من بين الجميع هو ذاك الذي لا يجد شبعًا في أيَّة شهوة (طالبًا المزيد)؛ أما الحكيم فلا يُوجد أسيرًا لتلك الشهوات[140].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
إطلاق الإنسان العنان لشهواته، بما فيها شهوة الاقتناء، هو "أيضًا باطل وقبض (مضايقة) الريح" [9]، لأنه كلما نال شيئًا يزداد بالأكثر لهيب الشهوة ليطلب المزيد فيدخل في مضايقة الروح! لهذا يليق بالمؤمن أن يدرك أن ما بين يديه قد سبق فدبره له الله بكونه أباه السماوي الذي يحبه، وأنه كلّي القدرة والحكمة... يعرف أن يعطيه ما يناسبه. وإن أراد مخاصمته فهل يقدر على ذلك وهو أقوى منه وأكثر منه حكمة وحبًا؟ هل يقدر أن يُغيِّر خطة الله أبيه من جهته ويعدِّل أحكامه؟!
يقول الجامعة: "الذي كان فَقَدْ دُعي باسم منذ زمان" [10]، أي أن الأزلي الذي كان سبق فدعاه باسمه كإنسان. يعجز الإنسان عن مقاومة خالقه القوي... "ولا يستطيع أن يخاصم من هو أقوى منه" [10]، أي لا يقدر الإنسان أن يقاوم إنسانًا أقوى، فهل يقاوم خالق البشرية؟!
يختم الجامعة حديثه بالنتيجة النهائية أن ما يجمعه الإنسان لن يزيده سعادة، لأنه لا يعرف ما هو لخيره [12]، خاصة وإن حياته التي يقضيها على الأرض مهما طالت فهي كالظل [12]، كما لا يعرف ما سيحدث بعد موته من جهة عائلته ونسله [12].
الأصحاح السابع
في الأصحاح السادس يحدثنا الجامعة عن خطورة البُخل مطالبًا إيَّانا أن نسلك باعتدال، نفرح بعطايا الله حتى المادية ونستخدمها، ولا نتذمر على الله أو نخاصمه لأنه يدبر كل أمورنا حسنًا ويهبنا بالقدر الذي فيه خيرنا. وفي الأصحاح السابع يقدم لنا مجموعة نصائح في شكل قطع شعرية، غايتها السلوك بروح الحكمة بعيدًا عن اللهو والترف.
في الأصحاح السابق يُطالبنا أن نهرب من البخل، وهنا يطالبنا الهروب من الحياة المستهترة.
في الأصحاح السابق يُطالبنا أن نستخدم العالم بفرح، وهنا يطالبنا أن نبحث عما وراء الحياة الزمنية.
1. الصيت أفضل من الترف [1].
2. الحكمة (الرزانة) أفضل من البطش [2-7].
3. الحذر خير من الاندفاع [8-10].
4. الحكمة أفضل من الميراث [11-12].
5. الشك أفضل من التذمر [13-15].
6. الاعتدال أفضل من الإفراط [16-22].
7. اطلب الحكمة خارج المتملقين [23-29].
1. الصيت أفضل من الترف:
"الصيت خير من الدهن الطيب
ويوم الممات خير من يوم الولادة" [1].
اقتناء اسم أو صيت حسن أو شهرة طيبة أفضل من اقتناء ثروة عظيمة أو طيب ثمين. فالإنسان الجاهل إما أن يكنز ويجمع فلا ينتفع هو أو بنوه أو قريبه بما لديه وإما أنه يبدد أمواله في عيش مسرف، فيعيش في حياة اللهو والاستهتار. أما الحكيم ففي اعتدال يعرف كيف يستخدم العالم الباطل دون أن يستعبده العالم. يستخدمه دون أن يطلق لنفسه العنان في محبة المال أو في محبة الملذات، إنه يهتم بيوم مماته ليترك شهادة حقة على الأرض رائحتها أفضل وأبقى من الطيب الكثير الثمن.
إن كان الدهن هنا يُشير إلى الخيرات الزمنية، فإن الصيت لا يعني حب شهوة أو طلب المجد الباطل وإنما ترك شهادة حيَّة لحياة تقوية، كما حدث مع المرأة التي سكبت الطيب على رأس السيِّد المسيح، إذ قال: "الحق أقول لكم حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها" (مت 26: 13). هذا هو الصيت الذي نقتنيه حين نسكب حياتنا مبذولة كقارورة طيب كثير الثمن.
يهتم الحكيم بيوم الممات لا يوم الولادة، فلا ينشغل بأموره الزمنية كمن يبقى في العالم إلى الأبد، إنما يرتفع بفكره إلى ما بعد الموت، مقدمًا حياته قارورة طيب مبذولة، تفوح رائحتها على الأرض وفي السماء.
تفكيرنا في يوم الولادة هو نكوص إلى الطفولة غير الناضجة. وعيش في أحلام الماضي، أما تفكيرنا في يوم الممات فهو تقدم نحو شركة أعمق مع السيِّد المسيح الذي يلهب أعماقنا نحو السمويات، فنحتمل الموت معه كل يوم بفرح (1 كو 15: 13).
الإنسان الطبيعي يفرح بيوم ميلاده ويحتفل به كعيد سنوي، ويخشى مجيء يوم موته ويبذل كل الجهد ليؤجله ما استطاع، أما الإنسان الروحي فيرى في يوم ميلاده عطية إلهية، فيشكر الخالق الذي أوجده في العالم كي يعبر به خلال يوم موته إلى ميلاد جديد، فيه يلتقي معه وجهًا لوجه. يوم ميلادنا دخل بنا إلى الآلام التي نقبلها بشكر من أجل الرب، أما يوم الممات فيدخل بنا إلى كمال حرية مجد أولاد الله.
2. الحكمة (الرزانة) أفضل من البطش:
"الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة،
لأن ذاك نهاية كل إنسان والحيّ يضعه في قلبه" [2].
في أكثر من موضع يحثّنا الجامعة على الفرح ونزع الغم من القلب (11: 9-10)، فإن الله يقيم ملكوته، ملكوت الفرح، في داخلنا. هنا يتحدث عن التوبة والإعداد للأبدية. في بيت النوح نرى نهاية العالم كما نرى السماء المفتوحة فنشتاق للعبور. غاية صلوات الجنازات تعزية أحباء الراقد وفتح أبواب السماء أمام قلوبهم لتتهلل نفوسهم. حزن التوبة الباعثة للسلام الداخلي خير من ضحك المستهترين، وكآبة الوجه في المخدع – لا في لقائنا مع الغير – حيث الندم على الخطايا يفرح القلب ويصلحه!
إدراكنا لحقيقة الموت كأمر حتمي يعطينا تقديرًا صادقًا واقعيًا لحياتنا الزمنية ويفتح أمامنا باب الرجاء في السمويات، كما يسندنا في جهادنا الروحي... حيث ندرك قصر مدة غربتنا، والتزامنا بالسلوك الحكيم الرزين عوض الترف الزائد والطيش.
v قال شيخ: جاهل من يوجد في فكره ذِكر شيء من العالم ما خلا الميراث الذي يناله فقط، أعني القبر[141].
v "الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة" [2].
في (البيت) الأول نجني استحقاقات العمل الصالح، وفي الثاني السقوط في الخطية.
في إحداهما نترجى المجازاة (الأبدية). وفي الثاني ننال المكافأة فعلاً (الترف).
تعاطف مع الحزانى كأنك حزين أيضًا معهم[142]!
v إذا أراد أحد أن يرتفع، يلزمه ألا يطلب مباهج العالم أو المسرات أو الملذات، بل كل ما هو ممتلئ ألمًا وحزنًا، فإن الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة.
حقًا ما كان آدم لينحدر من الفردوس إلى أسفل ما لم ينخدع باللذة[143]!
v بواسطة هذا الأخير (الذهاب إلى بيت الوليمة) تلتهب النفس. فإن كنا نستطيع مجاراة حياة الترف ننزلق في الانغماس في اللذة، وإن لم نستطع نحزن. أما في بيت النوح فالأمر على خلاف ذلك؛ فإن كنا لا نقدر أن نكون مترفين لا نتألم لذلك، وإن أمكننا ذلك فإننا نحجم عن حياة الترف.
إن الأديرة هي بحق بيوت للنوح حيث المسوح والرماد، هناك الوحدة لا الضحك ولا ضغطات الهموم الزمنية. هناك الصوم والرقاد على الأرض، لا يوجد فيها الأكل الدسم ذو الرائحة الكريهة، لا يوجد سفك دماء أو هياج أو انزعاج أو ازدحام[144].
v ثبِّت أمر رحيلك في قلبك يا إنسان، وذلك بدوام قولك: "هوذا الرسول قادم على الأبواب، هذا الذي يأتي من أجلي، فلماذا أنا كسلان؟ إن رحيلي سيكون إلى الأبد، وبلا عودة!
اقضِ الليل في هذا التفكير، ولتبتهج به طوال النهار، حتى حينما يأزف موعد الرحيل تستقبله بحفاوة وحبور، قائلاً: [تعال في سلام، فإنني أعرف أنك قادم، ولم أُهمل في أمر ينفعني في هذا الطريق[145]].
v لا يمكن إقناع الجسد بالعيش طويلاً في حالة وحدة طالما أنه محاط بأسباب المسرات العالمية والرخاوة. ولا يمكن للعقل أن يكف عنها (عن المسرات والرخاوة) حتى يتغرب الجسد عن كل ما يُصنع برخاوة. لأنه حينما يعاين الجسد مشاهد الترف والأمور الزمنية، وحينما يطالع كل ساعة أسباب الاسترخاء، تشتعل فيه رغبة جامحة نحوها[146].
"الحزن خير من الضحك،
لأنه بكآبة الوجه يُصلح القلب" [3].
يليق بنا ونحن بعد في هذا العالم نشعر بضعفنا أن نمارس حزن التوبة يوميًا، لا ضحك المستهترين والجُهال، فإن دموع التوبة تُصلح قلوبنا.
لا يُفهم من هذا أن يعيش المؤمن بائسًا كئيب الوجه أمام الغير، وإنما يمارس توبته في مخدعه، في حياته الخاصة، دون أن يُحطم الآخرين بغمه!
الإنسان الروحي يحزن على خطيته ولا يفقد سلامه، لذا يكسب الآخرين بشاشته النابعة عن فرح داخلي مع الجدية.
"سَمعُ الانتهار من الحكيم خير للإنسان من سمع غناء الجهال.
لأنه كصوت الشوك تحت القدر هكذا ضحك الجهال.
هذا أيضًا باطل" [5-6].
الإنسان الجاد في حياته يفرح بانتهار حكيم مخلص، ولا يُسر بغناء الجهال، أي تملقهم له بكلمات معسولة، فإنها كالشوك تحت القدر، يعطي أصواتًا لكنه يحترق فيصير رمادًا نود الخلاص منه.
الإنسان الحكيم، المهتم بخلاص نفسه وبنيانها ونموها الدائم لا يقبل نصائح الحكيم فحسب، وإنما يخضع برضا لتأديباته وانتهاره فإن "توبيخات الأدب طريق الحياة" (أم 6: 23)؛ أما الإنسان الأحمق فلا يُبالي بأبديته، لذا يُسر بحياة اللهو والترف ويتجاوب مع ضحك الجهال علامة فراغ قلبه. يقول الحكيم: "عاقبة هذا الفرح حزن" (أم 14: 13). ويقول السيِّد المسيح: "طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون... ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لو6: 21، 25).
"لأن الظلم يحمّق الحكيم،
والعطية تفسد القلب" [7].
إن كنا بفرح نقبل انتهار حكيم مخلص يهتم بخلاص نفوسنا، فإنه من جانبنا يلزمنا ألا نقسو على الغير تحت ستار "انتهار الحكيم"، لأن كثرة الظلم يمكن أن تحمّق الحكيم، أي تدفعه إلى الانحراف. لهذا يقول المرتل: "لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصديقين لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم" (مز 125: 3).
كما أن الظلم قد يُحطم الصديقين فالتطرف الآخر "العطية تفسد القلب" [7]، ريما تعني هنا العطاء ببذخ بغير حكمة، أو الرشوة فإنها تدفع النفس إلى الانحراف.
v خير أن تتلقى توبيخًا من حكيم عن أن تسمع جوقة كاملة من التعساء في أغانيهم، لأن ضحك الجهال يشبه قرقعة أشواك كثيرة تحترق في نار متقدة[147].
3. الحذر خير من الاندفاع:
من بين النصائح التي يُقدمها الجامعة لكي تسند الإنسان في تهيئة نفسه للأبدية الآتي:
"نهاية أمر خير من بدايته" [8]. بعين الإيمان نصبر إلى المنتهى فنخلص. لا نقف عند جهادنا في الماضي ولا نيأس لعجزنا في الحاضر، لكن يلزمنا أن نعمل بروح الله، واثقين أنه حتمًا يهبنا النصرة مادمنا بين يديه، نتكل عليه. لقد بدى موسى النبي كأنه فاشل في خدمته حتى بعدما دعاه الله وأرسله إلى فرعون... لكنه في النهاية حقق نجاحًا غير متوقع. والقدِّيس مرقس أيضًا ترك الخدمة ورجع إلى أورشليم (أع 13: 13)، لكنه عاد فكرز في بلاد كثيرة وأثمر جدًا... وعلى العكس يعلن الرسول بولس حزنه على الذين بدءوا بالروح وكملوا بالجسد.
"طول الروح خير من تكبر الروح" [8]. وكأن طول الروح أو طول الأناة يرتبط بالاتضاع ويضاد روح العجرفة والكبرياء أو الانفعال سواء داخل القلب أو ظاهريًا. فإنه بالكبرياء نفقد سلامنا الداخلي وميراثنا الأبدي.
v الصبر (طول الأناة) هو والد (والدة) التعزية، وهو قوة خاصة تنشأ عن اتساع القلب على الدوام، من الصعب أن يجد الإنسان تلك القوة في ضيقاته ما لم يُعط من الله. هذه العطية ينالها بصلواته المستمرة الجادة وسكب الدموع[148].
v لا شفاء لوجع المتكبر، لأنه كلما تعالى بأفكاره تبتعد معرفة الله عن نفسه، وإلى عمق الظلمة يهبط!
v تنبع الكبرياء عن حب المال، وعن ما ينشأ عنه من تصرفات...
يا للجنون! ألا يدري هذا الإنسان المتكبر أن مجده يزول ويتبخر كالحلم، وإن العظمة والسلطان ليست هي إلاَّ سراب خدّاع[149]؟!
"لا تُسرع بروحك إلى الغضب،
لأن الغضب يستقر في حض الجهال" [9].
يليق بنا أن نكون حذرين فلا نتسرع بالغضب على الآخرين، لأن الغضب يستقر في حضن الجُهال، بمعنى أنه وليد الجهل والحماقة، يجد راحته فيه كما يستقر الرضيع في حضن أمه.
v يجب أن يُستأصل سم الغضب المميت من أعماق نفوسنا. فطالما بقي في قلوبنا وأعمى بظلمته المؤذية يشوع بن نون الروح (القلب)، لا نستطيع الحصول على الإفراز (التمييز) والحكم السليم. ولا نستطيع أن ننال النظرة الداخلية الصادقة أو المشورة الكاملة، ولا أن نكون شركاء للحياة أو نحتفظ بالبر، أو حتى أن يكون لنا المقدرة على النور الروحي الحقيقي، "تعكرت من الغضب عيناي" (مز 6: 7). "ولا نستطيع أن نصير شركاء في الحكمة، ولو وُجد حكم جماعي بأننا حكماء، لأن الغضب يستقر في حضن الجهَّال" [10]، ولا نستطيع أن ننال الحياة غير المائتة... "لأن الغضب يهلك حتى الحكم" (أم 15: 1). ولا نقدر أن نحصل على القوة الضابطة للبر حتى لو ظن البشر فينا أننا كاملون وقدِّيسون، "لأن غضب الإنسان لا يصنع برّ الله" (يع 1: 20)... كما لا نستطيع نوال حتى الكرامة والتقدير اللذين في العالم، ولو حسبوا أننا نبلاء وذوي شرف، "لأن الرجل الغضوب، يُحتقر" (أم 11: 25)... ولا نستطيع التحرر من أي اضطراب ولو لم يسبب لنا أحد اضطرابًا... لأن "الرجل الغضوب يهيِّج الخصام، والسخوط كثير المعاصي"[150].
نتعلم من أحداث الماضي نعمة الله الغنية عبر الأزمان، لكن يلزمنا ألاَّ نلوم الحاضر كأن الله قد تغيّر، إنما نلوم أنفسنا على ضعفاتها، واثقين أن الله الذي عمل معنا في الماضي قادر أن يعمل أيضًا في الحاضر.
"لا تقل: لماذا كانت الأيام الأولى خيرًا من هذه؟
لأنه ليس عن حكمة تسأل عن هذا" [10].
لنشكر الله على معاملاته معنا في الماضي، ولنطلبه أن يعمل أيضًا في الحاضر، شاعرين أن وجودنا الحاضر هو عطية إلهية وبركة وفرصة لنوال بركات أفضل.
الإنسان الروحي يشعر أن اللحظة التي يعيشها الآن هي أمتع لحظات عمره وأسعدها في الرب، مدركًا أنها قد وُهبت له لتوبته ونموه الروحي لا لينشغل بالماضي ويحزن عليه كأمر مفقود، أو كسعادة زالت عنه!
4. الحكمة أفضل من الميراث:
بعد أن قدم لنا نصائح عملية لنعيشها كي نحيا سعداء في هذه الحياة الزائلة وكمن يتأهل للحياة الأخرى... الآن يسألنا أن نطلب الحكمة ونقتنيها، ولعله يقصد بالحكمة أيضًا الأقنوم الثاني: كلمة الله وحكمته.
"الحكمة صالحة مثل الميراث،
بل أفضل لناظري الشمس" [11].
يترجمها البعض: "الحكمة صالحة مع الميراث"، فهي صالحة ليس فقط بالنسبة للفقراء، حيث تهبهم القناعة والشكر فيستريحون، وإنما صالحة أيضًا بالنسبة للأغنياء، تعلمهم كيف يستخدمون أموالهم ويديرونها ويصنعون بها أصدقاء يقبلونهم في المظال الأبدية (لو 16: 9). بالحكمة ننتفع بالمال ونربح به الآخرين كما نربح نفوسنا.
بالحكمة أيضًا ندرك أن الله هو ميراثنا الأبدي، ونحن نصيبه.
بالحكمة نلتقي بالسيِّد المسيح شمس البّر فتستنير عيون قلوبنا، فترى أجسادنا الشمس المادية وترى قلوبنا شمس البّر... استنارتنا الداخلية أفضل من الاستنارة الخارجية!
"لأن الذي في ظل الحكمة هو في ظل الفضة،
وفضل المعرفة هو أن الحكمة تُحييّ أصحابها" [12].
إن كان الإنسان يحتمي في الفضة كظل يقيه من متاعب كثيرة، يلجأ إليها ليشتري طعامه وشرابه وملبسه وأيضًا دواءه... فإنه بالحقيقة يحتاج إلى الحكمة كظل صخرة عظيمة في أرض معيبة (إش 32: 2)، إنها كسور وسياج يحمي حقل النفس من إغارة الأعداء. أما ما هو أعظم فإن الفضة لا تُحييّ أصحابها بل قد تقتلهم إن أساؤا استخدامها، أما الحكمة الإلهية فتُقدم لنا الحياة. لذلك فإن "قنية الحكمة كم هي خير من الذهب، وقنية الفهم تُختار على الفضة" (أم 16: 16).
v لأن حياة الإنسان لا يقوم امتيازها على اقتناء غنى زائل بل على اقتناء الحكمة. إنها أعظم كل الخيرات التي تُقتنى من الله، وإذ نسكن فيه لا نخطئ[151].
v الحكمة تُعين أكثر من فريق من أقوى رجال المدينة، وهي غالبًا ما تغفر بالحق للذي يخفقون في أداء الواجب[152].
v لأنه كما يقول الجامعة: "الحكمة دفاع (ظل) كما أن المال دفاع" [12]. يليق بنا ألا نتسرع فنظن أن هذه العبارة تُناقض قول الرب: "الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات؛ وأقول لكم أيضًا إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" (مت 19: 23-24)، لأنه لو كان الأمر كذلك لكان خلاص زكا العشار الموصوف في الكتاب المقدس كرجلٍ ذي ثروة عظيمة، يُناقض إعلان الرب[153]!
5. الشكر أفضل من التذمر:
يوجز الكاتب فلسفته في الحياة طالما أن حياتنا هي في يدّ الله ضابط الكل، الأب والحكيم والقدير، لذا فلنشكره في أيام الفرح، ولنلتمس حكمته في يوم التأديب... ففي محبته يهبنا بركات فنشكره وتأديبات ننتفع بها، لبنياننا يسمح بهذه وتلك.
"صانع السلام وخالق الشر (الضيق)؛ أنا الرب صانع كل هذه" (إش 45: 7).
"اُنظر عمل الله: لأنه من يقدر على تقديم ما قد عوَّجه؟!
في يوم الخير كن بخيرِ، وفي يوم الشر اعتبر.
إن الله جعل هذا مع ذاك لكيلا يجد الإنسان شيئًا بعده" [13-14].
يُطالب الجامعة الإنسان أن ينظر عمل الله، قبل أن يعترض أو يتذمر. فإنه لا يستطيع المال ولا الأصدقاء ولا المواهب على تغيير طبيعتنا وإصلاح اعوجاجها وفسادها، لكن الله وحده بحكمته بكونه المخلِّص يعرف كيف يروِّضنا تارة بالبركات الزمنية وأخرى بالتأديبات... وفي كلا الحالتين هو العامل فينا. أنه يجعل هذا مع ذاك، أي يخلط أيام الفرج بالضيق حتى ليستحيل على الإنسان أن يكتشف (يجد) ما سيحدث له بالغد، فيكون دومًا مستعدًا باتكاله على الله مخلصه. بمعنى آخر، من صالحنا أن نقبل حكمة الله القادرة على إصلاح طبيعتنا دون أن نتذمر على الأحداث التي تحل بنا.
أخيرًا يقدم الجامعة خبرته الشخصية في هذا الأمر، فإنه في أيام بُطله، أي في الأيام التي انحرف فيها عن الله لم يكن يدرك لماذا لا يخلص الأبرار من الضيقات بينما يتأنى الله كثيرًا على الأشرار، حتى يبدو كأنه ليس من عدالة وإنصاف.
"قد رأيت الكل في أيام بُطلي.
قد يكون بار يبيد في بره،
وقد يكون شرير يطول في شره" [15].
قد يموت البار في سن مبكرة ربما لأن الله قد رآه ثمرة ناضجة، قد حان وقت اقتطافها، إن بقيت على الشجرة تفسد. كثيرون يأخذهم الرب في وقت مبكر لحمايتهم من شر قادم، إذ يُضم الصدِّيق من وجه الشر. وقد يسمح الله للأشرار أن يحيون ويشيخون ويتجبّرون قوة، معطيًا إيّاهم الفرصة للتوبة أو لتكميل كأس شرهم.
6. الاعتدال أفضل من الإفراط:
إذ يدعونا الجامعة إلى الحكمة، إنما يدعونا إلى الطريق الملوكي المعتدل، دون تطرف أو انحراف يمينًا أو يسارًا، فالطريق المعتدل هو الطريق الآمن الذي يدخل بنا إلى الأبدية.
"لا تكن بارًا كثيرًا،
ولا تكن حكيمًا بزيادة.
لماذا تخرب نفسك؟
لا تكن شريرًا كثيرًا ولا تكن جاهلاً.
لماذا تموت في غير وقتك؟" [16-17].
ماذا يعني بقوله: "لا تكن بارًا كثيرًا"؟ لا تكن مفرطًا أو متطرفًا، بل اُسلك في البِر برويَّة وحكمة وتمييز. نذكر على سبيل المثال:
أ. الصوم تدريب روحي تقوي، لكن لم يمتنع عن الأطعمة كأمر دنس أو نجس يسقط في بدعة وضلال (1 تي 4: 3-4). وأيضًا من يُبالغ في صومه فيفقد قـدرته على
العمل والعبادة يكون قد أساء التصرف.
v يجب علينا أن نضع نقاوة نفوسنا في كفة، وقوتنا الجسمية في كفة أخرى، ونزنهما بحُكم ضميرنا العادل، حتى لا نميل منحرفين إلى كفة على حساب الأخرى، أي إلى حزم غير لائق أو استرخاء مُفرط[154].
ب. قراءة الكتاب المقدس ضرورية، لكن الانهماك فيها لمدد طويلة في ليالي الامتحانات يحمل هروبًا من المسئولية وليس برًا.
ج. البتولية طريق مقدس لمن لهم هذه الموهبة... لكن من يسلك هذا الطريق وفي تطرف ينظر إلى الزواج كدنس أو كأمر محتقر يجلب خطرًا على نفسه.
v لا تكن بارًا بإفراط بل بالأحرى اعطِ مكانًا للإيمان في فكرك.
v كان الرسول (بولس) في نهاية نقاشه عن الزواج والبتولية حريصًا أن يُظهر تمييزًا بينهما دون الانحراف يمينًا أو يسارًا، متبعًا الطريق الملوكي، محققًا الوصية: "لا تكن بارًا كثيرًا"[155].
القدِّيس جيروم
يرى الأب ثيوناس في مناظراته مع القدِّيس يوحنا كاسيان[156] وأيضًا القدِّيس أغسطينوس[157] أن العبارة "لا تكن بارًا كثيرًا" تُشير إلى الذين يبالغون في مظاهر التديُّن وأعمال البر لأجل مديح الناس... مثل هؤلاء يظهرون كحكماء بينما هم يخربون أنفسهم بحب المجد الباطل.
يعرف عدو الخير كيف يُخرب النفوس، فيحطم البعض بالبخل تحت ستار الحكمة والتدبير والانضباط، وآخرين بالتبذير تحت ستار السخاء والبساطة، والبعض بالمبالغة في الصوم وبقية أنواع العبادة طلبًا للمجد الباطل؛ والبعض بالانشغال المستمر في الخدمة على حساب علاقته الخاصة مع الله تحت ستار الشهادة للسيِّد المسيح، وآخرين بالانعزال في حجراتهم مع غلق قلوبهم عن إخوتهم تحت ستار العبادة الشخصية الخ... أنه يعرف كيف يحث الإنسان بطريق أو آخر كي لا ينحرف عن الحياة الملوكية المعتدلة المقدسة في الرب.
أما نصيحته للأشرار فهي عدم استغلال طول أناة الله الذي يسمح أحيانًا أن تطول أيام الشرير [15]. فإنه لا يليق بهم الاستمرار في الشر بل تقديم توبة، ففي هذا جهالة وقتل للنفس والجسد أيضًا... "لا تكن جاهلاً؛ لماذا تموت في غير وقتك؟ [17].
إنه يدعونا إلى حياة الحكمة والاعتدال دون تراخٍ في حياة الفضيلة والجهاد، فإننا بهذا نخرج من الانحرافيين: البر بزيادة والاستمرار في الشر. إذ يقول: "حسن أن تتمسك بهذا أيضًا أن لا ترخي عن ذاك؛ أن مُتَّقي الله يخرج منهما كليهما" [18].
أ. استخدام روح الوداعة الحكيمة لا التسلط: فإن كثيرين ممن يظنون في أنفسهم أنهم أبرار وحكماء يبحثون عن المراكز في العالم أو في الكنيسة لعلهم خلال السلطة يقدرون أن يصلحوا من حال الآخرين، لهذا يدعونا الحكيم ألا نطلب السلطة بل نسلك بالحب الحكيم فإن "الحكمة تقوّي الحكيم أكثر من عشرة مسلَّطين الذين هم في المدينة" [19].
v لا يسكن الله في محب الرئاسة، ولا تسكن أنت معه[158].
ب. الاعتراف بالخطية: الحكيم المعتدل لا يتطلع إلى نفسه كمن هو بلا خطية، فيحكم ويدين الآخرين بروح السلطة والانتهار، وإنما يشعر بضعفهم لأنه يُشاركهم ذات الضعفات. ليس إنسان ولو كان صِدّيقًا بلا خطية مادام في الجسد ويعيش على الأرض. "لأنه لا إنسان صدِّيق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" [20]. يقول الرسول يوحنا: "فإن قلنا أنه ليس لنا خطية نُضلّ أنفسنا" (1 يو 1: 8). هكذا يليق بالجميع - كهنة ومعلمين وشعبًا - أن يعترفوا بحاجتهم إلى الله مخلص العالم.
v الإنسان المدرِك لخطاياه أعظم من الذي ينتفع بالعالم أجمع، وذلك يظهر على محياه. والذي يتنهد على نفسه ساعة واحدة أعظم من الذي يُقيم الموتى بصلاته، بينما يعيش وسط الناس[159].
v مَنْ مِنَ الناس حتى وإن كان رئيسًا للأبرار القدِّيسين نظن أنه في وقت ما يقدر - وهو مقيد بسلاسل هذه الحياة - أن يصل إلى هذا الصلاح الرئيسي دون أن يتوقف عن التأمل المقدس؟! أما ينجذب – ولو إلى وقت قصير – عن ذاك الذي هو وحده صالح بواسطة أفكار أرضية؟!...
مَنْ منا حتى في اللحظة التي يرفع فيها نفسه للصلاة لله يسموّ، لا يسقط قط في التشتيت؟!...
لذلك يحزن جميع القدِّيسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة، يصرخون متضرعين: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك فإنه لن يتبرر قدامك حيّ " (مز 143: 2)؛ "من يقول إنيّ زكيت قلبي تطهرت من خطيتي" (مز 20: 9)... "السهوات من يشعر بها؟!" (مز 19: 20). هكذا أدركوا أن برّ الإنسان عليل وغير كامل ويحتاج دائمًا إلى رحمة الله حتى أن أحدهم بعد رؤيته الساروفيم في الأعالي وكشفه المكنونات السمائية، قال "ويل ليّ لأنيّ إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إش 6: 5)...
ها أنت ترى إذن كيف يعترف جميع القدِّيسين بصدق أن جميع الناس كما هم أيضًا خطاة، ومع ذلك لا ييئسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهير كامل بنعمة الله ورحمته.
v لا يوجد أحد - مهما كان مقدسًا - في هذه الحياة بلا خطية. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة... إذ نقول: "واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" (مت 6: 12)[160].
ج. عدم الانشغال بكلمات الغير ضدك: الذي يسلك ببرّ المسيح لا يبالي بكلمات الآخرين، وإلاَّ انحرف إلى صنع البرّ بزيادة... فإن من يميل بأذنه إلى كلمات الناس يجد حتى الذين تحت سلطانه، حتى الذين يقدم لهم احتياجاتهم يسبُّونه. بمعنى آخر، فلننشغل بأبديتنا في عبادتنا وتعليمنا للغير وسلوكنا اليومي ولا نبالي بمديح الناس أو ذمهم، ليس لأنهم أشرار، ولكن لأننا نحن أنفسنا في ضعفنا نخطئ في حق الغير، حتى بالنسبة للذين يحسنون إلينا.
"أيضًا لا تضع قلبك على كل الكلام الذي يُقال لئلاَّ تسمع عبدك يسبك،
لأن قلبك أيضًا يعلم أنك أنت كذلك مرارًا كثيرة سببت آخرين" [21- 22].
7. اطلب الحكمة خارج المتملقين:
لئلا يُفهم من حديثه: "لا تكن حكيمًا بزيادة" [16] أن نتراخى في طلب الحكمة، لهذا يعلن الجامعة شوقه الصادق نحو الحكمة، وجهاده لبلوغها حتى يتخلص من الجهالة المرتبطة بالشر.
"كل هذا امتحنته بالحكمة.
قلت أكون حكيمًا.
أما هي فبعيدة عني.
بعيد ما كان بعيدًا والعميق العمق من يجده؟!
دُرْتُ أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلاً،
ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون" [23-25].
لقد وضع كل عزمه أن يبلغ الحكمة كطريق للبر، بكل قلبه ومشاعره وأحاسيسه، صار يدرس ويبحث ويصلي ويطلب... هكذا يمتزج القلب مع الفكر، والدراسة مع الصلاة...، يعمل بكل كيانه وإمكانياته لينل السماوية التي هي بعيدة كل البعد، عميقة كل العمق... يهبها الله لطالبيه.
v هكذا سليمان الذي كان أحكم كل البشر في أيامه أو في الأيام السابقة له، وهبه الله اتساع قلب وفيضًا من التأمل أغزر من رمل البحر، فإن هذا أيضًا كلما دخل إلى أعماق (الحكمة) زادت حيرته، وقد أعلن اكتشافه عن الحكمة كم هي بعيدة عنه جدًا[161].
v إلى أي مدى يسعى الإنسان وراء الحكمة؟ وأين يتم بلوغ كمالها؟
حقا لا يمكن بلوغ حدود هذه الرحلة، حتى أن القدِّيسين يوجدون معتازين لكمال الحكمة، لأنه ما من نهاية لرحلة الحكمة.
ترتفع الحكمة هكذا حتى تهب من يتبعها الاتحاد مع الله. وهذه هي العلاقة أن بصيرة الحكمة بلا حدود، وإن الحكمة هي الله نفسه[162].
قدر ما يسعى سليمان الحكيم في طلب الحكمة التي ترتبط بالبر، فإنه يسعى أيضًا للخلاص من الجهالة المرتبطة بالشر، خاصة الارتباط بنساء شريرات يرتكب معهن الخطية... فقد وجد في المرأة الزانية الآتي:
أ. أمرّ من الموت [26]، أنها تسبب هلاك النفس أبديًا.
ب. خادعة، يدعوها "شباك"، تنصب بكلمات معسولة رقيقة الفخاخ [26].
ج. عنيفة، تأسر الإنسان كما بقيود [26]، فيفقد الإنسان حريته الداخلية، حرية مجد أولاد الله.
د. غير صادقة ولا مخلصة، إذ يقول الجامعة: "رجلاً واحدًا بين ألف وجدت؛ أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد" [28]. اكتشف الحكيم أنه بين الحشد المرافق له والذي لا يعرف إلاَّ النفاق والمداهنة مع حياة اللهو والترف، بالكاد يجد رجلاً صريحًا وصادقًا في حبه بين ألف رجل، أما بين النساء الغريبات الفاسدات فلم يجد بينهن واحدة صادقة.
v من الأفضل أن نتبرأ من تلك المرأة ونهرب من أمامها، التي هي فخ صياد، وقلبها مصيدة، في يديها قيود. أما البار أمام الله فينجو منها، بينما يسقط الخاطئ في شباكها[163].
القدِّيس كيرلس الكبير
لئلا يظن أحد أن الله خلق الإنسان شريرًا أو أن المرأة أشر من الرجل أكمل الحكيم حديثه: "اُنظر، هذا وجدت فقط أن الله صنع الإنسان مستقيمًا. أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" [29]. الإنسان - رجلاً كان أو امرأة - أفسد حياته باختراعاته الكثيرة أي بتصرفاته الشريرة وإرادته الفاسدة.
v يقول أنه أوجد الإنسان مستقيمًا. تأمل قوة هذه الكلمات، فكلمة إنسان تعني الذكر والأنثى... لنقرأ بداية سفر التكوين فنجد "آدم" أي الإنسان، يُقصد به كلا من الرجل والمرأة (إذ كانت حواء في آدم)، وقد خلقه الله مستقيمًا وصالحًا؛ لكننا إذ أخطأنا سقطنا إلى حالة رديئة، وغادرنا الفردوس الذي صنُع صالحًا[164]...
القدِّيس جيروم
v واحدة هي الفضيلة عند الرجل والمرأة، ما أن خلقهم أُحيط بشرف متساوٍ. اسمعوا سفر التكوين: "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم" (1: 27). فبما أن طبيعتهم واحدة ولهم نفس الأفعال، فمكافآتهم يجب أن تكون أيضًا واحدة[165].
القدِّيس باسيليوس الكبير
v (على لسان الشهيدة جوليتا)
إننا من نفس طينة الرجال... ومثلهم خُلقنا على صورة الله. نعم، إن المرأة قادرة على العمل بالفضيلة كالرجال. هكذا أراد الخالق. وما نحن في كل شيء سوى شريكات لهم. إن الله لم يأخذ فقط من لحم آدم ليصنع حواء، وإنما هي "عظم من عظامه" (تك 2: 23). لذا نحن مدينات لله الأزلي بالإكرام في صمودنا، في قوتنا وفي صبرنا بنفس المقدار مع الرجال[166].
القدِّيس باسيليوس الكبير
v يقول الروح القدس: "الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" [29]. هكذا يتضح أن البشر منذ البدء اكتشفوا الشر وصارعوا معه وتخيلوه في أنفسهم، استحقوا جزاء الموت الذي هُددوا به. ومنذ ذلك الحين لم يعودوا إلى ما كانوا عليه، وإنما فسدوا باختراعاتهم[167].
البابا أثناسيوس الرسولي
v خُلقنا صالحين بواسطة (الله) الصالح، لأن "الله خلق الإنسان مستقيمًا" لكننا بإرادتنا الحرة صرنا أشرارًا. كانت لنا قدرة أن نصير أشرارًا، وقد كنا صالحين، وسوف تتوفر لنا القوة أن نصير صالحين ونحن أشرار[168].
v هكذا كما هو مكتوب: "الله صنع الإنسان مستقيمًا" [29]، ومن ثم بإرادة صالحة، لأنه لو لم تكن له إرادة صالحة ما كان يُحسب مستقيمًا. إذن الإرادة الصالحة هي من صنع الله، لأن الله خلقه بها. أما الإرادة الشريرة الأولى التي سبقت كل أعمال الإنسان الشريرة فهي بالأحرى نوعًا من السقوط بعيدًا عن عمل الله[169]...
القدِّيس أغسطينوس
v يقول الحكيم سليمان: "الله صنع الإنسان مستقيمًا"، أي ليتمتع بمعرفة الصلاح فقط، أما هم فطلبوا خيالات كثيرة" أنهم - كما قيل - قد أرادوا معرفة الخير والشر"[170].
الأب شيرمون
v لأننا نخطئ بإرادتنا الحرة يقول النبي بصراحة في موضع معين: مع أنني زرعت لكم كرمة مثمرة... كيف تحولتم إلى المرارة وصرتم كرمة غريبة؟ كان النبت صالحًا، أما الثمر الناتج عن الإرادة الشريرة. لهذا لا يُلام الكرَّام إنما تُحرق الكرمة بالنار، لأنها غُرست صالحة لكنها حملت ثمار الشر بإرادتها[171].
القدِّيس كيرلس الأورشليمي
v يلزمنا ألا ننسب الانحراف في تيهان قلب إلى الطبيعة البشرية أو خالقها. فإنه بالحق يقول الكتاب المقدس: "الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" فاختلاف الأفكار يتوقف علينا نحن، لأن الفكر الصالح يقترب من الذين يعرفونه، والإنسان العاقل يجده (أم 19: 7). فأي أمر يخضع لتمييزنا وعملنا يمكننا أن نصل إليه، فإذا لم نبلغه يرجع هذا إلى كسلنا وإهمالنا لا إلى خطأ في طبيعتنا[172].
الأب سيرينيوس
الأصحاح الثامن
السلوك الحكيم الهادف
يكمل الجامعة حديثه عن ضرورة السلوك الحكيم الهادف في هذه الحياة الزمنية المتغيرة، مهما تكن الظروف.
1. الحكمة في حياة الإنسان [1].
2.الحكمة وطاعة الرؤساء [2-5].
3. الحكمة في الظروف المفاجئة [6-8].
4.الحكمة والحكم القهري [9-10].
5. الحكمة ورفاهية الأشرار [11-14].
6. التأمل في عمل الله وعطاياه [ 15-17].
1. الحكمة في حياة الإنسان:
"مَنْ كالحكيم؟
ومن يفهم تفسير أمرٍ؟
حكمة الإنسان تُنير وجهه وصلابة وجهه تتغير" [1].
كثيرون يصابون بنوع من الإحباط أو الاستهتار عندما يتأملون بطلان العالم وما يسوده من ظلم وقهر، خاصة ممن ائتمنوا على العدالة، سوى على المستوى الديني أو المدني، لهذا بدأ الجامعة يكشف عن أهمية الحكمة في حياة الإنسان، بغض النظر عما يدور حوله.
أ. الحكمة تجعل الإنسان متقدمًا على أقربائه، تُصيِّره أكثر امتيازًا منهم: "مَنْ كالحكيم؟" الحكمة السماوية كما سبق فرأينا بلا حدود، بعيدة كل البعد، أي مرتفعة كل الارتفاع، عميقة كل العمق (7: 24)، ترفع الإنسان إلى الله لتهبه حياة الشركة والاتحاد معه. ليس من إنسان متعلم أو شريف أو ثرى يمكنه أن يقارن بذاك الذي ينعم بالحكمة الإلهية!
إذ تحدث سليمان الحكيم في سفر الأمثال عن الحكمة ككائن حيّ (أم 9: 1-6)، إنما يعني بها شخص السيِّد المسيح "حكمة الآب"، فالحكيم هو ذاك الذي يقبل السيِّد المسيح ساكنًا فيه، أو يقبله رأسًا له، ويكون هو عضوًا في الكنيسة، جسد المسيح.
اتحادنا مع السيِّد المسيح يُعطي القلب عذوبة واتساعًا ويرفع الفكر فوق كل المتاعب والصغائر ليسلك بروح المسيح في اتزان وحكمة علوية.
ب. الحكمة تجعل الإنسان نافعًا لإخوته، متفانٍ في خدمته لهم، فإنه من مثله "يفهم تفسير أمر"، أي يدرك ما وراء الأحداث ويُتابع مقاصد الأمور على مستوى فائق... مشورته لهم حكيمة وصائبة. فالحكمة تهبه تفسيرًا لمعاملات معه كما مع غيره، فيسلك ويرشد الغير حسب إرادة الله الصالحة.
ج. بالحكمة يتعرف الإنسان على خطة الله ويُدرك لماذا يُسمح بالفرج كما بالضيق، فيستنير وجهه بالفرح والرجاء تحت كل الظروف، بل ويبعث هذا الرجاء المفرح في حياة أصدقائه، فتظهر صورته جميلة وبهية في أعينهم. هكذا تجعل الحكمة وجهه منيرًا، كما حدث مع موسى النبي حينما نزل من أعلى الجبل. إنها تكرِّمه وتضفي إشراقًا على حديثه كله. تجعله جديرًا باهتمام الآخرين وتوقيرهم، محبوبًا لديهم، تغيِّر صلابة وجهه وحديثه وحزم ملامحه إلى ملامح مُشرقة باشَّة.
و. الحكمة (السيِّد المسيح) تُصلح من طبيعة الإنسان العنيفة إذ "صلابة وجهه تتغير"... تهبه استنارة وحنوًا!
v كلما اقترب قلب الإنسان من الحكمة نال من الله فرحًا أعظم. بهذا يستطيع المرء أن يُميز بين الحكمة الروحية والحكمة العالمية. ويوقن الإنسان في نفسه أن الحكمة الروحية تُسبب صمتًا يستقر في أعماقه، أما الحكمة العالمية فتُسبب فيضًا من الانزلاق في الخطأ.
حينما تكتشف الحكمة الروحية تمتلئ اتضاعًا ورِقَّةً وسلامًا يسود على أفكارنا، فتهدأ أعضاؤك ولا تزعجك الشهوات الرديئة والشَّره. أما إذا تملَّكتك الحكمة الأخرى، فيحوز عليك الفكر المتغطرس والأفكار المنحرفة التي لا يُنطق بها والذهن المشتت والحواس المخزية الملتهبة[173]!
v ما أعذب المعرفة التي تُكتسب من الخبرة الواقعية والتداريب الدءوبة. وما أعظم القوة التي تمنحها للإنسان الذي يجدها داخله خلال الخبرات الكثيرة؛ نفس الأمر يشعر به من يتيقنوا منها ويذكرون مقدار ما توفره لهم من عون، فيعلمون ضعف طبيعتهم ويدركون مقدار المعونة الإلهية الممنوحة لهم التي قد يحجبها الله في البداية وهم في وسط التجارب[174].
v المعرفة الخاصة بالله هي ملكة كل الاشتياقات، ليس ما هو أعذب منها في كل الأرض بالنسبة للقلب الذي ينالها[175].
v متى يدرك الإنسان أنه نال حكمة من الروح؟ من المعرفة التي تُعلِّمه سبُل الاتضاع في أعماقه الخفية وفي حواسه، وتكشف له في ذهنه كيف يُنال الاتضاع[176].
مار إسحق السرياني
يقارن القدِّيس يوحنا ذهبي الفم بين الجمال الذي تعكسه الحكمة على ملامح المرأة والاهتمام بالزينة الخارجية، قائلاً: [إن كانت حكمة إنسان تنير وجهه، فكم بالأحرى فضيلة المرأة تُنير محيَّاها؟! وإن كنت تحسب هذه زينة عظيمة فاخبرني ما هو قيمة اللآلئ في ذلك اليوم (الأخير)[177]؟].
2. الحكمة وطاعة الرؤساء:
مادامت الحكمة هي التقاء مع الله نفسه، "الحكمة" الحقيقية، فيستنير وجه المؤمن، ويحمل في داخله عذوبة فائقة بروح الاتضاع... فإنه يجب ترجمة هذا الاتضاع الداخلي عمليًا في سلوكنا مع الجميع، خاصة بالخضوع للسلطات بروح الطاعة دون تذمر. يرى الكاتب أن الله ضابط الكل قد سمح بقيام أصحاب السلطة، حتى وإن كانوا ظالمين، فبحكمة نخضع لهم في الرب. يقوم هذا الخضوع على مبدأين: إيماننا بعناية الله الفائقة لنا، وتمتعنا بحياة هادئة سالمة.
أ. "أنا أقول احفظ أمر الملك وذاك بسبب يمين الله" [2].
هنا دعوة للخضوع للقوانين والالتزام باحترامها، أما حدود هذه الطاعة فهي "يمين (قَسَمْ) الرب"، أي دون مخالفتنا بالتزاماتنا نحو الله أو عهدنا معه، إذ هي فوق كل التزام. وكما يقول السيِّد المسيح: "أعطِ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
بنفس الروح يقول القدِّيس بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة؛ لأنه ليس سلطان إلاَّ من الله، والسلاطين الكائنة هي مُرتبة من الله. حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" (رو 3: 1-2).
ب. يلزم ألا نثور ضده أو نقاومه أو نرفض خدمته لأن تصرفاته لا يقبلها عقلنا أو تسيء إلينا. فبحكمة يلزمنا ألا نتسرع فنتركه ونخرج من أمامه، وذلك لأجل سلامنا، متجنبين غضبه وثورته. لننتظر، فإن الله لا يترك الظلم يسود بل يتدخل في الوقت المناسب. يقول الجامعة: "لا تعْجَل إلى الذهاب من وجهه" [3]. فقد تسرع الشعب عندما جاوبهم رحبعام بن سليمان بغلظة وفظاظة، وتعجلوا إلى الذهاب من وجهه، بل صرخوا في الحال: "إلى خيامك يا إسرائيل" (1 مل 12: 16)، وانقسمت المملكة إلى قرون طويلة!
ج. ينبغي ألا نُصرّ على الخطأ حينما نكتشفه: "لا تقف في أمر شاق (شرير)، لأنه يفعل كل ما شاء" [3]. متى فكرنا خطأ ضد صاحب سلطان، يلزمنا أن نتراجع ولا نمضي في الخطأ.
د. مادمنا نحفظ الوصية، ونسلك بروح الطاعة والحكمة لا نخف مما لكلمة أصحاب السلطة من سلطان...
"حيث تكون كلمة الملك فهناك سلطان.
ومن يقول له: ماذا تفعل؟
حافظ الوصية لا يشعر بأمر شاق،
وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم" [4-5].
لا ينكر الجامعة ما لصاحب السلطة من إمكانية، فإنه لا يحتمل أن يرى أحدًا يعصي كلمته، وكما يقول الحكيم: "كزمجرة الأسد حنق الملك" (أم 19: 12)... ليس من يقول له: ماذا تفعل؟ ومع هذا فلا خطورة من ذلك، مادامت قلوبنا نقية تحفظ القوانين وتطيعها برضى، وعقولنا مملوءة حكمة، تعرف كيف تتصرف في الوقت المناسب.
3. الحكمة في الظروف الطارئة:
مادمنا نحفظ وصية الرب ونقبل كلمة الرؤساء في الرب يلزمنا ألا نخف السلطان، بل ولا نضطرب لما قد يحل غدًا، ولا حتى من مواجهة الموت، إنما نخاف شيئًا واحدًا وهو أن نخطئ، لأنه "لا يُنجي الشر أصحابه".
أ. "لأن لكل أمر وقتًا وحكمًا،
لأن شر الإنسان عظيم عليه".
يليق بالإنسان الحكيم أن يدرك أن لكل أمر لدى الله وقتًا مناسبًا، ليس شيء يحدث اعتباطًا، وإنما بحكمة الله ضابط الكل. كل شيء محسوب لدى الله ومقدَّر زمانه بخطة إلهية أو بسماح إلهي، لكن الإنسان في جهله لخطة الله وأحكامه وعدم ثقته الكاملة في عنايته الفائقة يسقط في شر عظيم.
يحتاج الإنسان إلى استنارة بصيرته الداخلية بروح الله فلا يظن أن حدثًا معينًا يحل به بلا هدف... إنما يتكئ على صدر خالقه، يشكره على الأحداث المفرحة، وينتفع من تأديباته، مدركًا أن كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبونه (رو 8: 28). ما كان يمكن ليوسف أن يتسلم المجد في قصر فرعون ما لم يتدرب أولاً في مدرسة الحياة، مدركًا أن اخوته قد صنعوا به شرًا، لكن بسماح إلهي، محولاً شرهم إلى الخير (تك 50: 20).
شرنا العظيم يحل بنا لا بسبب الظروف التي تحيط بنا مهما بدت قاسية، وإنما بسبب الغشاوة التي على بصيرتنا الداخلية. عمل الروح القدس أن يهبنا الاستنارة، فندرك أننا أبناء الله موضوع حبه، يهتم حتى بعدد شعور رؤوسنا، يمسك بأيدينا وسط الأحداث في طريق الصليب الضيق ليدخل بنا إلى رحب القيامة وبهجتها.
ب. "لأنه لا يعلم ما سيكون،
لأنه من يخبره كيف يكون؟
ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح،
ولا سلطان على يوم الموت،
ولا تخلية في الحرب،
ولا يُنجي الشر أصحابه " [7-8].
كلنا نجهل المستقبل بأحداثه وظروفه وأوقاته، فلا يستطيع أحد أن يُنبئنا بما سيحل بنا لنستعد للطوارئ. لسنا نعرف الشر قبل حدوثه فنتجنبه أو نحترس منه... إنما نعرف شيئًا واحدًا به نواجه المستقبل بكل أحداثه ومفاجأته: "لا يُنجي الشر صاحبه" [8].
نحن نواجه أمورًا ثلاثة:
Ö مستقبل مجهول بأحداثه التي قد تبدو مفاجئة وغير متوقعة.
Ö عجز عن الإمساك بأرواحنا متى طُلبت، أي لا نقدر أن نؤجل ساعة رحيلنا من هذا العالم، حيث يُغلق باب التوبة إلى الأبد.
Ö لا نستطيع التخلي عن الحرب [8]، أي عن الدخول في المعركة التي تقوم بين الله وإبليس، سواء دخلنا تحت حماية الله أو قبلنا التبعية لعدو الخير.
هذه الأمور الثلاثة تتحول لخيرنا إن تسلمنا ببرِّ المسيح واهب السلام والنصرة والمجد؛ إن حسبنا أننا لا نقدر أن نعيش في عالم شرير ما لم نسلك بالدهاء والخبث والشر كحكمة بشرية وخبرة نقتنيها عبر الزمن، فإن الشر لن يُنجينا هنا على الأرض ولا في لقائنا مع الديان العادل في يوم الرب العظيم.
4. الحكمة والحكم القهرى:
ربما يسأل إنسان: كيف أطيع أصحاب السلطة إن كانوا ظالمين ومحبين للتسلط؟ يقول الجامعة:
"كل هذا رأيته إذ وجهت قلبي لكل عمل تحت الشمس،
وفيما يتسلط إنسان على إنسان لضرر نفسه" [9].
حقًا يصعب على الإنسان أن يرى شخصًا طاغيًا محبًا للتسلط وقهر الآخرين، ومن المحزن أن يرى بعض القادة على المستوى الديني أو العالمي، عوض تحقيق العدالة يستغلون مراكزهم لمجدهم الذاتي أو لغناهم؛ لكن ليعلم هؤلاء أنهم بهذا يمارسون ما هو لضررهم.
إذ نرى طغاة لا ندينهم بل نشفق عليهم ونصلي لأجلهم كي يهبهم الله روح الحب الباذل والاتضاع فلا يُعثرون أحدًا ولا هم يهلكون.
هذا ويليق بالظالمين أن يدركوا أنهم وإن نالوا شيئًا بظلمهم سواء غنى أو كرامة فإنهم يُدفَنون ويُنسى ذكراهم. يقول الجامعة: "وهكذا رأيت أشرارًا يدفنون" [10]، أي تُلقى أجسادهم في التراب ومعهم كرامتهم. يُكمل الجامعة حديثه عنهم، قائلاً: "وضموا الذين يذهبون ويخرجون من مكان القدس وينالون كرامة ويُنسون في المدينة. هذا أيضًا باطل" (10 N IV و Vulgate). حقًا كقادة يدخلون المقادس ويخرجون منها في عظمة، وقد دُعي مكان القضاء في العهد القديم "مقدسًا" لأن "القضاء لله" (تث 1: 17)، كما قيل إن الله "في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1) الخ... تحت ستار هذه العظمة يرتكبون الجور ويستمرون فيه، لكن أجسادهم تصير ترابًا وذكراهم تُدفن معها... تنساهم المدينة المقدسة، ولا يكون لهم موضع في أورشليم العليا، التي لا يدخلها دنس أو نجس أو من يصنع كذبًا وجورًا.
في تهورهم يسرعون بالقضاء الظالم، والله في طول أناته يصبر عليهم ويتركهم في مراكزهم إلى حين لعلهم يتوبون، وإلاَّ دُفنت سيرتهم مع أجسادهم، وفقدوا الزمنيات والأبديات.
5. الحكمة ورفاهية الأشرار:
يصبر الله على الظالمين بل وعلى كل الأشرار، ولا يجري الحكم سريعًا... لكن كثيرين عوض التوبة يستهينون بطول أناة الله. وكما يقول الرسول بولس: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة؛ ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دنونة الله العادلة، الذي سيُجازي كل واحد حسب عمله" (رو 2: 4-6). هذا ما عبَّر عنه الجامعة، قائلاً:
"لأن القضاء على العمل الرديء لا يُجرى سريعًا،
فلذلك امتلأ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر" [11].
الله يبطئ قليلاً في القصاص، لكنه حتمًا يتحقق وفي صرامة، خاصة وإن البعض يُسيء فهم طول أناة الله ويملئون كأس شرهم.
ربما يسأل أحد: وما ذنب المظلومين؟
يُجيب الجامعة: وإن تزايد الشر، فإنه يتحول إلى خير خائفي الرب.
"الخاطئ وإن عمل شرًا مئة مرة، وطالت أيامه،
إلاَّ إنيّ أعلم أنه يكونُ خيرُ للمتَّقين الله، الذين يخافون قدامه.
ولا يكون خير للشرير وكالظل لا يطيل أيامه لأنه لا يخشى قدام الله" [12-13].
قد يعترض البعض قائلاً إن طول أناة الله قد بلغت حدًا فوق ما ننتظره، وقد طالت أيام الشرير ليرتكب الشر لا مرة ولا مرتين ولا عشرة مرات بل مائة مرة؛ لكن ليدرك هؤلاء أن شعب الله أو خائفيه الحقيقيين وإن وقع عليهم القهر مئات المرات فهو شعب مغبوط. إنهم خائفوا الرب، لذا يُرافقهم في أحلك الظروف، لا يمكن لسعادتهم أن يهزها شيء، ولا لشركتهم مع الله أن يقطعها أمر ما، حتى في وسط متاعبهم يكونون مملوءين سلامًا داخليًا، لأنهم محفظون من الله أبيهم الذي ينقذهم من الضيق ويمجدهم.
أما الأشرار فعلى العكس وإن بدوا كالعشب يانعين لكنهم في أعماقهم مملئون بؤسًا، لا يجد الخير موضعًا فيهم، ولا يعرفهم التطويب. قد يعيشوا في رفاهية ردحًا من الزمن، لكن اللعنة كثمرة طبيعية لأفعالهم تحل بهم حتمًا ما لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله في خوف ورعدة. وكما قيل: "قولوا للصدِّيق خير، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم. ويلٌ للشرير شر، لأن مجازاة يديه تُعمل به" (إش 3: 10-11).
مهما طالت أيام الشرير فهي كالظل، تنتهي بلا منفعة. قد نظن أنها طويلة، لكنها في عينيّ الله كالظل السريع الزوال.
الترمومتر الذي به يتعرف الحكيم على الأبرار والأشرار ويميز بينهم هو "مخافة الله" فيدعو الأبرار "مُتَّقيّ الله"، ويقول عن الأشرار أنهم "لا يخشون قدام الله". أما من جهة المظهر الخارجي أو البركات الزمنية أو الموت فقد يسقط الصديقون في ضيقات ومتاعب يستحقها الأشرار وقد يتمتع الأشرار ببركات زمنية يستحقها الأبرار. هذا ما يكشف عن بطلان العالم [14] دون اتهام الله بالظلم إذ ينتظر ليكافئ الكل ويجازيهم في الوقت المناسب.
ما يحل بالعالم من ظلم يكشف عن بطلان العالم، لكنه لا يفقد المؤمن فرحه الداخلي، بل يشكر الله تحت كل الظروف حاسبًا أكله وشربه وتعبه عطية الله المؤقتة [15]. هذا ما يكرره الحكيم في أكثر من موضع (2: 24؛ 5: 18).
يُركز الحكيم على تمتع المؤمن بالفرح بكونه غذاء النفس: "فمدحتُ الفرح"، حاسبًا إيَّاه عطية إلهية... أما سرّ فرحه فهو تأمله في عمل الله على الأرض وتلامسه مع عجائبه التي نزعت عن عينيه النوم، ليبقى متهللاً نهارًا وليلاً بالله العامل في حياته وفي حياة الآخرين... وإن كانت حكمته الشخصية تحُول عن أن يتعرف على كل أسرار معاملات الله معه وعنايته الفائقة بأولاده.
يقول: "لما وجهت قلبي لأعرف الحكمة وأنظر العمل الذي عُمل على الأرض، وأنه نهارًا وليلاً لا يرى النوم بعينيه" [16].
قصد الحكيم نفسه أنه في بحثه في عناية الله لم يَرى النوم... لكنه كما يقول: "الحكيم أيضًا وإن قال بمعرفته لا يقدر أن يجده" [17]... تعجز حكمته عن أن تجد أو تكتشف خطة الله ومقاصده العجيبة الفائقة للعقل!
لنسلك بالحكمة الإلهية فتستنير أعين قلوبنا وتشرق نعمته على ملامحنا، وبفرحٍ نسلك بروح الطاعة والخضوع، وإن وُجد ظلم نؤمن بالله أبينا الذي يُخرج من الحفرة حياتنا، ويُحوّل المتاعب لخيرنا. هو يتمهل على الأشرار لعلهم يرجعون إليه وإلاَّ صارت حياتهم كظل بلا قيمة... ما أعجب عملك يا رب! هب ليّ فهمًا واستنارة لكي أدرك بروحك القدُّوس خطتك من جهتي!
الأصحاح التاسع
إذ سبق فكشف عن فاعلية الحكمة في حياة الإنسان الداخلية، وسلوكه وفي مواجهة الأشرار بالثقة في معاملات الله وعنايته الفائقة، الآن يؤكد أن هذه الحكمة الإلهية هي هبة إلهية، يُقدمها لمؤمنيه المجاهدين، مهيئًا إيَّاهم لوليمة العرس الأبدي.
1. عجز الإنسان عن معرفة مقاصد الله [1-3].
2. الله يُقدم فرص التوبة [4-6].
3. لنعمل للعرس الأبدي [7-10].
4. لا نفع للعمل بدون النعمة [11].
5. كن مستعدًا بالحكمة [12-18].
1. عجز الإنسان عن معرفة مقاصد الله:
"لأن هذا كله جعلته في قلبي، وامتحنت هذا كله أن الصديقين والحكماء وأعمالهم في يد الله.
الإنسان لا يعلم حبًا ولا بُغضًا. الكل أمامهم" [1].
v المعنى هو أنني قد سلمت قلبي للتأمل، مشتاقًا أن أعرف من يحبه الرب ومن يبغضه. ووجدت بالحقيقة أن أعمال الأبرار هي في يدّ الله، أما كونهم محبوبين أم مبغضين من الله فهم يتأرجحون غير موقنين من ذلك[178].
القدِّيس جيروم
غموض النص يثير تساؤلات كثيرة، منها كيف لا يدرك المؤمن إن كان محبوبًا من الله أم لا؟ وهل يبغض الله أحدًا؟
إن ما يؤكده الجامعة هو أن جميع الصديقين والحكماء بكل أعمالهم هم في يدّ الله، سواء كانت أيامهم مملوءة فرحًا أم حزنًا ومتاعب... لا يليق بالمؤمن الحقيقي أن يشك في عناية الله به واهتمامه بكل أموره الصغيرة والكبيرة. لكن الإنسان في ضعفه يقف متذبذبًا، متسائلاً: هل الله يحبه أم يبغضه؟ وسط مرارة الضيق تعبر به أفكار لتحطمه أن الله ينتقم منه أو يبغضه أو أنه لا يشعر بضعفاته. لهذه كثيرًا ما يتساءل: لماذا يسمح الله ليّ بتجارب قاسية تكاد تحطم نفسيتي وتفقدني إيماني؟
لعله مما يشكك البعض، أنهم يرون أنه لا فارق بين ما يحلّ بالبار والشرير، الصالح والطالح، الطاهر والنجس، الذابح (يقدم ذبيحة لله) وغير الذابح، الذي يقسم (باطلاً) ومن يخشى الحلف... حتى أنهم في دهشتهم وارتباكهم يصيرون كمن هم في حالة جنون [2-3]، لا يعرفون تفسير الأحداث التي تحل بهم وبمن هم حولهم.
بالحقيقة وإن كانت حياة الأبرار وكل أعمالهم في يدّ الله، لكنه بالنسبة للإنسان الطبيعي يصعب عليه إدراك ذلك بسبب تشابه الظروف الخارجية بالنسبة للأبرار والأشرار، الحكماء والجهلاء، فإنه من الخطر أن نقيس حب الله لنا بالظروف الخارجية.
ليتنا لا ننشغل بالأحداث الخارجية بل نتطلع إلى أعماقنا لنرى يد الله العاملة لتقيم ملكوته فينا، ونراه يقيم أيقونة سمواته فينا فنتهلل ونفرح، ويتهلل هو أيضًا بنا إذ يرانا أطفاله المدركين حكمته والمتمتعين، كقول الإنجيلي: "تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب... لأنك أخفيت هذه عن الحكماء وأعلنتها للأطفال" (مت 11: 25). أنه يفرح بالأطفال الذين يتهيئون بإعلانه السماوي للعرس الأبدي وحكمته.
v يا للحسرة على وهن الطبيعة البشرية وزوالها؟، إلاَّ أن إيماننا بالمسيح يرفعنا إلى السماء ويعدنا بأبدية نفوسنا. أما بالنسبة للأحوال المادية في الحياة فهي ذاتها التي لنا وللبهائم أيضًا[179].
القدِّيس جيروم
2. الله يقدم لنا فرص التوبة:
مما يحزن قلب الجامعة أن الله يعطي للإنسان فرصًا للتوبة في هذه الحياة، لكي يرجع إلى نفسه ويتأمل في معاملات الله معه عوض الارتباك بالأحداث الخارجية التي تُحطم نفسيته، لكنه عوض الانتفاع بها يمتلئ قلبه شرًا وحماقة حتى يُباغته الموت.
يقارن سليمان الحكيم بين الأحياء والأموات، موضحًا الآتي:
أ. الإنسان الحيّ نترجى توبته، أما الميت ففقد فرصة التوبة: "لأنه من يُستثنى؛ لكل الأحياء يوجد رجاء، فإن الكلب الحيّ خير من الأسد الميت" [4]. إذا بلغ الإنسان النجاسة حتى دُعي "كلبًا"، حيث كانت الكلاب في العهد القديم من الحيوانات الدنسة المكروهة لديهم جدًا، حتى دعوا الأمم الوثنية هكذا، فهو أفضل من أسدٍ ميت.
قد ينظر الإنسان إلى نفسه ككلب بسبب كثرة ضعفاته وسقطاته، لكنه بروح الاتضاع يقتني الحياة الجديدة ويصير أفضل ممن يعتد ببره الذاتي حاسبًا نفسه كأسد، لأنه بالكبرياء صار ميتًا!
v كثير من الأبرار سقطوا من برّهم، وحلّ خطاة كثيرون مكانهم، لذلك لا يليق بالبار أن يتشامخ، لأنه لا يزال في الجسد، كما لا يليق بالخاطي أن ييأس لأن الله قريب منه إن كان يطلبه، وهو مستعد أن يقبله إن غيّر طريقة حياته والتفت إلى (الرب)[180].
مار إسحق السرياني
الإنسان قليل المواهب أن ظن في نفسه أن لا دور له في الحياة ولا سلطان له أو قوة أشبه بكلب مُحتقر (في نظر اليهود)، فإنه إذ يتحد بالمسيح الحيّ القائم من الأموات يصير أفضل ممن له مواهب كثيرة وإمكانيات، ومجد زمني ومهابة كالأسد، لكنه باعتزاله مخلصه يفقد حياته ويُحسب ميتًا! حياتنا في المسيح، وقيامتنا به أفضل من كل إمكانية أو عظمة!
ب. الحيّ الصادق مع نفسه يستعد ليوم رحيله:
"لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون.
أما الموتى فلا يعلمون شيئًا،
وليس لهم أجر بعد لأن ذكرهم نُسي" [5].
كل بشر يدرك هذه الحقيقة أنه حتمًا سيموت... لكن الحيّ الحريص على خلاص نفسه والمهتم بأبديته يتمتع بالمعرفة الفعّالة، التي تدفعه إلى الاستعداد لذلك اليوم، أما من مات دون توبة فلم تعد بعد له معرفة، لأنه قد مات فعلاً ولا عودة له للحياة هنا كي يُجاهد فينال أجرًا، إنما صار هو وكل أعماله في حكم النسيان. أين ذهبت محبته للعالم؟ أين بغضه للآخرين وحسده لهم؟ هذا كله قد هلك معه، ولا نَصيب له ولا لأعماله في الحياة الأبدية [6].
3. لنعمل للعرس الأبدي:
إن كان الموت يغلق باب التوبة تمامًا، ويفقد الإنسان كل ما جمعه في هذه الحياة مادام خارج دائرة الرب، لهذا يليق بنا أن نعمل مادمنا أحياء؛ نعمل بروح الحكمة الإلهية
لنتهيأ للعرس الأبدي. وقد قدم الجامعة النصائح التالية:
أ. لنمارس حياتنا بفرح، بقلب صالح:
"اِذهب كُل خبزك بفرح،
واِشرب خمرك بقلب طيب،
لأن الله منذ زمان قد رضيَ عن عملك" [7].
كثيرًا ما يكرر الجامعة التزامنا باستخدام عطايا الله حتى الزمنية بفرح روحي، وبروح الشكر لله... لنأكل ونشرب ونعمل بروح الاعتدال. "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31).
حياة الفرح هنا وسط الآلام تهيئ النفس للفرح الأبدي حيث لا ضيق ولا ألم بل فرح دائم ووليمة عرس لا تنقطع.
ب. لننعم بالوليمة السماوية:
يقدم لنا العريس جسده خبزًا يفرح النفس ودمه خمرًا يبهجها... وخلال هذا السرِّ العجيب يثبت فينا ونحن فيه فنُحسب موضع سرور الآب، ويرضى عن كل أعمالنا.
v يقول سليمان مشيرًا إلى تلك النعمة، في سفر الجامعة: "تعال كُل خبزك بفرح"، بالطبع الخبز الروحي "تعال" هي دعوة مفرحة إلى الخلاص والبركة.
"واشرب خمرك بقلب طيب (بنفس مسرورة)"، أي الخمر الروحية.
"واسكب الدهن على رأسك". ها أنت ترى كيف يُشير إلى المسحة السرية.
"ولتكن ثيابك بيضاء في كل حين، لأن الله قد رضيَ عن أعمالك" [7-8]. أما الآن، وقد خلعت ثيابك القديمة ولبست البياض الروحي، يجب عليك أن تظل دائمًا ثيابك بيضاء. لا أُريد القول أنه يجب أن تلبس دائمًا ثيابًا بيضاء، بل يجب أن تكون مرتديًا النقاوة الحقة والبهاء الروحي. لكي يمكنك القول مع الطوباوي إشعياء: "تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البهجة" (61: 10)[181].
القدِّيس كيرلس الأورشليمي
والعجيب إذ يقدم لنا السيِّد المسيح جسده ودمه المبذولين طعامًا مفرحًا يهيئنا للعرس الأبدي باتحادنا معه يدعوهما "خبزك" و "خمرك". لقد صار في ملكيتنا، فيُحسـبان
خبزنا وخمرنا، بل وفي علاقة شخصية حميمة بكونه خبزي وخمري أنا!
كلما تمتعنا بخدمة الأفخارستيا (القداس الالهي) ندرك أننا إنما ننال عربون العرس الأبدي والوليمة السماوية، نشعر بتهليل قلبي داخلي وشوق الله ورضاه عنا في المسيح يسوع عريس نفوسنا. نلبس مسيحنا كثوب برّ ينزع عُرينا ويزيل تقصيرنا، وننعم ببهائه علينا.
لنهتم أن نرتدي ثوب العرس هنا فلا نُحرم من وليمة العرس والاتحاد مع عريسنا.
v كثيرًا ما امتدحت العذارى والأرامل والمتزوجات اللواتي حفظن ثيابهن دائمًا بيضاء، اللواتي يتبعن الحمل أينما ذهب[182].
v أُخبرنا أن العريس يأكل وسط السوسن، أي بين الذين لم يلطخوا ثيابهم، لأنهم بقوا عذارى (روحيًا)، واصغوا إلى قول الجامعة: "لتكن ثيابك في كل حين بيضاء"[183].
v الذي ليس عليه ثوب العُرس ولم يحفظ تلك الوصية: "لتكن ثيابك في كل حين بيضاء" هو مغلول اليدين والقدمين، فلا يعرف كيف يتكئ عند المائدة أو يجلس على عرشٍ أو يقف على يمين الله، بل يُطرح في جهنم حيث العويل وصرير الأسنان[184].
القدِّيس جيروم
ج. الدفء العائلي عربون الحب السماوي:
الإنسان الروحي يرى في حياته العائلية المقدسة صورة حيَّة للعائلة السماوية، ما يمارسه من حب عائلي يمتد في السماء كحب أبدي...
"اِلتَذّ عيشًا مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إيَّاها تحت الشمس كل أيام باطلك،
لأن ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس" [9].
يليق بالمؤمن المتزوج أن يمارس حياته الزوجية بحب مخلص، حاسبًا زواجه عطية إلهية... حقًا إن الحياة التي يعيشها قليلة وزائلة حتى أن الذين يتزوجون كأنهم لا يتزوجون، لكنها عطية الله يعيشها الإنسان ليسمع الصوت القائل: "كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير" (مت 25: 21، 23؛ لو 19: 17)... حياته القصيرة هي نصيبه من عند الرب، تحمل متاعب كثيرة لأنها حياة "تحت الشمس"، لكن أمانته فيها ترفعه إلى حياة عُرس دائم فوق الشمس، لا يجد فيها تعبًا.
د. العمل بجدية في غير رخاوة:
"كلّ ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك، لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" [10].
مادمنا لم نرحل بعد إلى القبر (ربما قصد بالهاوية القبر) يليق بنا أن نجاهد بجدية بكل قوتنا لكي ننعم بالمعرفة الروحية والحكمة السماوية، ونتأهل للعرس السماوي. لنحمل الصليب هنا فننعم بوليمة القيامة الدائمة.
v طريق الرب صليب يومي، ما من أحد يصعد إلى السماء في يُسرٍ (راحة)، لأننا نعلم إلى أين يقود طريق الراحة وإلى أين ينتهي[185].
مار إسحق السرياني
v النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيِّدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا، يسكب عليها غناه بفيض وغزارة فوق كل طلبته[186].
v تأكد أنه يستحيل أن يبذل إنسان كل جهده ليخلص، ويفعل كل ما في قدرته، ويتركه الله[187].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v إن كنت تحزن (مجاهدًا) في طلبه فإنك ستبتهج بوجوده[188]!
v من ينشط ويطلب يجد، ومن يكسل يثبت في العمى، في الظلمة الخارجية مع أهل الشمال أمثاله[189].
v اعمل باجتهاد وأنت ترى شجرة الحياة قد أينعت في وسط فردوسك[190].
القدِّيس يوحنا سابا
4. لا نفع للعمل بدون النعمة:
إذ يدعونا الجامعة للجهاد اليومي للتهيئة للعرس الأبدي يؤكد أنه لا نفع لجهادنا ما لم يعمل الله فينا.
"فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعي ليس للخفيف، ولا الحرب للأقوياء، ولا الخبز للحكماء، ولا الغنى للفهماء، ولا النعمة لذوي المعرفة، لأنه الوقت والعرَض يلقيانهم كافة" [11].
هكذا إن نال إنسان نجاحًا في ركوضه يتكل على الله لا على خفة جسده، وفي صراعه ضد الخطية يعتمد على نعمة الله لا على قوته وبره، وفي نجاحه في حياته العملية لا ينال خبزه بحكمته البشرية بل بعناية الله به، وما يتمتع به من غنى لا يستند على فهمه الخاص بل على بركة الرب، وما لديه من نعمة في أعين الناس لا يرجع إلى معرفته وعلمه... فقد هرب جيش بأكمله أمام يوناثان وغلامه (1 صم 14: 12-15). كما قيل: "رجل واحد منكم يطرد ألفًا لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم" (يش 23: 10). الله هو سرّ نجاحنا وغلبتنا وشبعنا وغنانا وحكمتنا.
v مهما سارعتم في الركض، ومهما أكثرتم من الصراع، فإنكم تحتاجون إلى من يهبكم الإكليل. وإن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يسهر حراسها. وهو يقول إنني أعلم أن السباق ليس لرشيق الحركة، ولا المعركة للقوي، ولا النصرة للمقاتلين، ولا مواني الأمان للجنود الباسلين، بل لله النصرة، وله بلوغ بر الأمان[191].
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
v الإنسان الذي يرتاب أن الله معينة في العمل الصالح يكون كمن يهرب من ظله، وهو يُكابد في زمن الرفاهية والغنى ويُجرب في وقت الراحة، ويحل به الضيق! أما من يضع ثقته في الله فهو ثابت القلب، ويُعلن استحقاقه لكل البشر، ويصير مدحه أمام وجه أعدائه[192].
v لا يستطيع إنسان أن ينال معرفة روحية ما لم يتغير ويصير كطفل صغير[193].
مار إسحق السرياني
v لا نقدر أن نجري في طريق الله ما لم نُحمل على أجنحة الروح[194].
v ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[195].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
إذ يدعونا الجامعة إلى الجهاد المتكئ على نعمة الله المجانية، يؤكد لنا ضرورة استعدادنا في أية لحظة، لأننا لا نعرف الأوقات والأزمنة، إذ يقول: "الوقت والعرَض يلقيانهم كافة" أو "الآونة والأحداث تفاجئهم بغتة" [11].
5. كن مستعدًا بالحكمة:
لا يعرف الإنسان ما قد يفاجئه به الزمن، فإنه كالسمكة التي قد تفرح بطعام يُقدم لها فتجد نفسها في شبكة، وكالعصفور الذي يجد نفسه مُقتنصًا في فخ [12]. إننا لا نعرف ما ينتظرنا من متاعب وما يقدمه لنا اليوم... قد تُطلب نفوسنا، وقد تحمل تجربة ما، وقد ننعم بالفرج!
سلاحنا أمام الزمن بكل ما يحمله من مسرات ومتاعب هو الحكمة الحقيقية: "هذه الحكمة رأيتها أيضًا تحت الشمس وهي عظيمة عندي" [13]. يقصد هنا الحكمة التي تُمكّن إنسانًا محبًا لوطنه وللبشرية - على حساب راحته الشخصية - فيُنجي مدينته من خطر داهم، من جيش يُحاصرها... وفي هذا لا يطلب كلمة مديح!
"مدينة صغيرة فيها الناس قليلون، فجاء عليها ملك عظيم وحاصرها وبنى عليها أبراجًا عظيمة.
ووُجد فيها رجل مسكين حكيم، فنجى هو المدينة بحكمته.
وما أحد ذكر ذلك الرجل المسكين" [14-15].
ما هذه المدينة إلاَّ الإنسان الذي يحمل طاقات وإمكانيات للنفس والجسد، من عواطف وأحاسيس وعقل ومواهب الخ... أنه أشبه بمدينة صغيرة فيها الناس قليلون، وإبليس هو أشبه بملك عظيم يُحاصرها، فمع ما لإبليس من إمكانيات جبَّارة لكنه يطمع في الإنسان، يريد أن يغتصبه من يدّ الله ليضمه إلى مملكته، ويُسخّره لحسابه، يهينه ويعذبه كمن ينتقم منه. يبني عليه أبراجًا لتخريبه، إذ يود أن يؤسس مملكته فيه، ويجعل منه أرض معركة ضد الخير... أمام هذا الجبروت يخاف الإنسان ويرتجف، تارة من أجل مكسب مادي، وأخرى لأجل الكبرياء، وثالثة كنوع من الاستسلام الخ... أما الرجل المسكين الحكيم الذي يُنجي المدينة بحكمته فهو السيِّد المسيح الذي أخلى ذاته وحمل طبيعتنا، وقدَّم لنا صليبه حتى يُعلن أن ضعفه أقوى من القوة، وفقره أغنى من كل غنى! ومع هذا ليس من يذكي هذا الرجل، إذ تخلى الكل عنه عند الصليب... صار في عار الصليب خارج المحلة! جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله.
إذن لنقتن مسيحنا "الحكمة" الحقيقية، إذ قيل: "فقلت الحكمة خير من القوة". إبليس قوي، والخطية خاطئة جدًا، لكن حكمة المسيح تغلبهما. غير أنه يجب أن نميز بين الحكمة السماوية البنّاءة وبين الارتباك بفلسفات العالم إن تعارضت مع الحياة الإيمانية، يقول القدِّيس باسيليوس الكبير:
[لقد أضعت وقتًا وافرًا في الباطل، وقضيت معظم صباي في العمل الفارغ الذي عكفت عليه أتلقّن تعليم حكمة حمَّقها الله (1 كو 1: 20) إلى أن آتي يوم، وكأنيّ أفقت فيه من سبات عميق، فنظرت إلى نور الحقيقة الساطع في الإنجيل ورأيت بطلان حكمة عظماء هذا الدهر، الآيلين إلى الزوال (1 كو 2: 6). ومن ثم بكيتُ حياتي التعسة[196]].
إن كان إبليس بأعمال شره وبالموت هو أشبه بصرخات شخص قوي متسلط بين الجهال لكن هدوء المسيح الحكيم أعظم... جاء لا يصيح ولا يسمع أحد صوته، فإذا به يُحطم صرخات العدو العنيفة، واهبًا إيَّانا ذات روحه لكي نغلب بالحكمة الهادئة.
"كلمات الحكماء تُسمع في الهدوء أكثر من صراخ المتسلط بين الجهال، الحكمة خير من أدوات الحرب" [17-18].
لنتحد بالسيِّد المسيح واهب النصرة ضد إبليس المتسلط، ولنخفف أيضًا من صداقة الأشرار لئلاَّ يُفسدوا شركتنا مع السيِّد المسيح. "أمَّا خاطئ واحد فيُفسد خيرًا جزيلاً" [18].
الأصحاح العاشر
في الأصحاح التاسع يحدثنا الجامعة عن غنى عمل الله في حياتنا، ويدعونا إلى الارتباط بالحكمة الإلهية التي هي أعظم من القوة، وفي نفس الوقت يحذرنا من الصداقات الشريرة، لئلاَّ نفقد الحكمة الحقيقية، فتتسلل إلينا الخطية ونخسر كل عمل روحي، فإن إنسانًا واحدًا يفسد خيرًا جزيلاً (9: 19). وفي الأصحاح العاشر يُحذرنا حتى من الصغائر:
1. تحذير من الجهالة القليلة [1-3].
2. تحذير من مواجهة الظلم بالعنف [4-10].
3. تحذير من اللسان الخبيث [11-15].
4. تحذير من عدم النضوج [16-17].
5. تحذير من الكسل [18-19].
6. تحذير من سب الآخرين [20].
1. تحذير من الجهالة القليلة:
"الذباب الميت ينتن ويخمّر طيب العطار.
جهالة قليلة أثقل من الحكمة ومن الكرامة" [1].
يبذل العطار كل الجهد ليقدم طيبًا ثمينًا، لكن إن سقط فيه ذباب صغير ينتن ويختمر ويفسد كل التعب والمواد التي استخدمها، هكذا كل تهاون مع الجهالة مهما بدت تافهة يُحطم ما ناله الإنسان الروحي من حكمة وكرامة روحية خلال جهاد شاق.
v إذ يضطرب البائس بسبب الذباب يصير هو نفسه ذبابة، ملكًا للشيطان. قيل إن "بعلزبوب" في الحقيقة تعني "أمير الذباب" أو "ملك الذباب" [من يتعبد له يصير ذبابة[197]].
القدِّيس أغسطينوس
v أحذرْ توافه الأمور لئلا تقع في عظائمها. لا تتكاسل في عملك، لئلا تخزى حينما تتواجد وسط رفقائك[198].
مار إسحق السرياني
الحياة في المسيح يسوع ربنا، أو الحياة الروحية الحكيمة هي عطر يفيح ليملأ البيت كله برائحة المسيح الذكية، غير أن الاستهانة بما نظنه صغائر تافهة يفسد حياتنا، ويجعلنا أشبه بالذباب، لهذا يكشف لنا الجامعة عن خط دفاع روحي، قائلاً:
"قلب الحكيم عن يمينه،
وقلب الجاهل عن يساره" [2].
الأول يضع قلبه في الصلاح أو في ملكوت الله لينعم بيمين الله، أما الثاني فتُمتص كل طاقاته في الشر، في ملكوت الظلمة، فيكون نصيبه من أهل اليسار. بمعنى آخر يُقصد باليمين الاهتمام بالسماويات بينما يُقصد باليسار الارتباك بالزمنيات.
"أيضًا إذا مشى الجاهل في الطريق ينقص فهمه،
ويقول لكل واحدٍ إنه جاهل" [3].
يمارس الجاهل جهله عمليًا طول الطريق، وفي كل فرصة، وأينما وُجد، دون رادع... وبغير مناسبة "يقول لكل واحدٍ إنه جاهل"، معلنًا جهله دون خجل أو حياء... كأن الجهل يصير طبيعته التي لا يقدر أن يخفيها.
الجاهل بلا حكمة سماوية، لا تزيده الأيام حكمة بل يفقد مع الزمن حتى الفهم الطبيعي، "لأن كل من له يُعطى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه" (مت 25: 29).
2. تحذير من مواجهة الظلم بالعنف:
يرى البعض أن سليمان الحكيم هنا يرشد الرعية للسلوك بروح الخضوع لأصحاب السلطة، ربما لأن بعض الأغنياء قد ثاروا عليه بسبب تزايد الضرائب لكثرة مشروعاته، وقد هددوا بالعصيان والتمرد.
أ. لا يليق التشاحن مع الرؤساء:
"إن صعدت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك،
لأن الهدوء يُسكَن خطايا كثيرة" [4].
إن غضب عليك الوالي أو الملك بسبب وشاية بلغته لا تترك مكانك، أي لا تتخلى عن دورك الوطني. كن هادئًا. ولا تثر ضده بل انتظر في هدوء، تمارس العمل الإيجابي فتكسبه لك ولغيرك!
يعتبر سليمان الحكيم أنه أمر شديد يحدث تحت الشمس أن يحتل الأردياء بعض المراكز القيادية بينما يُترك الحكماء والفهماء والمخلصون في الخلف. يحتل بعض الجهال المراكز العليا والمناصب الرفيعة بينما يُترك الحكماء في مراكز وضيعة. رأى عبيدًا يركبون الخيل ورؤساء يسيرون على الأقدام كالعبيد [7]، بمعنى أن عديمي العلم والخبرة احتلوا مراكز قيادية، يسيرون في مظاهر العظمة والأُبهة، بينما ذوو الكفاءات النادرة محتقرين.
هذا كله رآه سليمان الحكيم "تحت الشمس" [5]، حيث كثيرًا ما يسود الظلم والفوضى حياة البشر عبر العصور، أما في الحياة الأخرى حيث لا حاجة للشمس (رؤ 21: 23) فيسود العدل والحب والقداسة!
يرى القدِّيس جيروم أن روح المتسلط هنا [4] تُشير إلى إبليس الذي لا يكف عن مهاجمة أولاد الله، هؤلاء الذين بروح السيِّد المسيح الهادئ يحطمون خططه وشباكه، ويغلقون أبواب قلوبهم في وجهه، محطمين تسلطه وعنفه.
v لماذا توصد أبواب قلبك في وجه العريس؟ افتحها للمسيح واغلقها أمام الشيطان كالقول: "إذا ثار عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك"[199].
القدِّيس جيروم
كما يتحدث عن روح المتسلط كرمز للخطية التي يجب مواجهتها بروح المسيح الهادئ.
v لنعد أولاً إلى النص المُقتبس: "إذا ثار عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك". هذه العبارة يليها الكلمات التالية: "فإن هدوءك يهدئ من خطايا عظيمة، بمعنى إذا وجدَت الحيَّة طريقها إلى أفكارك يلزمك أن تحفظ قلبك بكل اجتهاد، مرنمًا مع داود: "من الخطايا المستترة طهرني، احفظ عبدك من الآثام المُسلَّم بارتكابها"، وهكذا لا تنزلق إلى التعدي الشديد أي السقوط في الخطية بالفعل[200].
القدِّيس جيروم
ب. لا تخف من الظلم:
يقدم سليمان الحكيم نصيحة مشتركة للظالمين من أصحاب السلطان وللرعية، مطالبًا الظالم أن يكف عن ظلمه لأن ما يمارسونه ضد الغير إنما يحل به، ويُهدئ من روع المظلومين الذين يجب أن يلتزموا حدودهم ليس استسلامًا وضعفًا، وإنما إيمانًا بعدل الله الذي يسمح لمن يملأ كأسًا لإخوته يشرب هو منها: "من يحفر هُوّة يقع فيها؛ ومن ينقض جدارًا تلدغه حيَّة" [8].
أعدَّ هامان صليبًا لمردخاي فصُلب هو عليه (أس 7: 10)، واخترع Guillotine "المقصلة" التي حملت اسمه فأُعدم بها... أما ما هو أعظم، فإن الصليب الذي ظن به إبليس أنه يُحطم السيِّد المسيح ويمحو اسمه، إذا به يُحطِّم قوى الشيطان ويبدد سلطانه على المؤمنين.
من ينقض جدارًا يحتمي به مؤمن، يُلدغ بحية مختفية فيه، إذ غالبًا ما تأوي الحيات في الخِرَبْ القديمة أو شق قديم. بمعنى آخر من يهتم بهدم أسوار الآخرين عوض العمل البنّاء في حياته أو في حياة الغير، تلدغه حيَّة الحسد والبغضة فيموت ويهلك أبديًا.
v من يُبدد أمان الآخرين يسقط بلدغة الحيَّة[201].
القدِّيس غريغوريوس الصانع العجائب
يُكمل الجامعة حديثه قائلاً:
"من يقلع حجارة يُوجع بها،
من يشقق حطبًا يكون في خطر منه.
إن كَلَّ الحديد ولم يُسنن هو حدَّه فليزد القوة" [9-10].
من يقلع حجارة بقصد إسقاط مبنى يسقط حجرًا على رأسه ويتألم، عندئذ يندم على ما فعله، متمنيًا لو أنه ترك الحجارة في المبنى دون خَلْعِها من المبنى. لعله بهذا يقصد أن الذي يقاوم أصحاب السلطة بقصد الإصلاح وذلك بالنقد اللاذع، فإنه وهو يزعزع الآخرين يخسر هو الكثير.
وأيضًا من يُشقق حطبًا بآلة حديدية غير حادة، فإنه يضطر إلى الضرب بقوة فيتعرَّض لأن تطير رأس الآلة وتصيبه.
في كل الأمثلة السابقة يؤكد الجامعة أن إصلاح الرؤساء لا يتحقق بالعنف والنقد اللاذع وإنما بروح الوداعة والحب مع الاتكال على عمل الله والإيمان بعدالته... هذه هي الحكمة التي يقول عنها: "أما الحكمة فنافعة للإنجاح" [10]، أي بالحكمة الهادئة ينجح إرشادنا لأصحاب السلطة ولحياتنا نحن. تُحطم الحكمة كبرياء الظالم وتهب ممارسيها إمكانية العمل بروح الطاعة المخلصة.
3. تحذير من اللسان الخبيث:
إذ طالب أصحاب السلطة والمرؤوسين بروح الحكمة الهادئة التي تعطى نجاحًا للطرفين، يُترجم الجامعة هذه الحكمة عمليًا بالتحذير من اللسان الخبيث كما من لدغات الحيَّة القاتلة، مطالبًا إيَّانا أن تكون لشفاهنا مِسْحة النعمة حتى لا ننطق بجهالة.
"إن لدغت الحيَّة بلا رِقية فلا منفعة للراقي (فذو اللسان الخبيث لا يفعل خيرًا منها)" [11].
إن كان الثائر كالحيَّة يلدغ فلنَرْقِه بالوداعة والحب الحكيم قبل أن يلدغنا، كما فعل يعقوب حين قدم بروح الاتضاع هدية لعيسو (تك 32: 13-21)، وكما فعلت أبيجايل مع داود في ثورته ضد نابال رجلها (1 صم 25: 18-35).
يواجه الحكيم ثورة الآخرين بروح الوداعة والنعمة، أما الجاهل فيدفعه فمه إلى الجهالة والجنون... يكثر الكلام دون إدراك لعواقب الأمور [14] فيسقط في الإعياء، أي تخور قوته، ويفقد قدرته على معرفة الطريق الذي يدخل به إلى المدينة. بمعنى آخر الكلمات العنيفة تفقد الإنسان الحكمة حتى الطبيعية والقوة والمعرفة، ويبقى كمن هو خارج مدينة الله!
إلى يومنا هذا اعتاد بعض سكان القرى أن يدعو أحد المتخصصين في إخراج الحيَّات من جحورها، فإنهم إذا ما رأوا حيَّة تدخل جحرًا يستدعونه، فيُغنى ويضرب على المزمار أو الطبلة حتى تخرج الحيَّة وترقص على نغمات الغناء ثم يقوم بخلع أسنانها... عندئذ تعجز عن أن تلدغ طفلاً صغيرًا (مز 58: 4-5). هكذا إن رَقَيْتَ العنيف بكل الحكمة المملوءة عذوبة، بروح الخضوع الصادق في الرب، تُحطم أنياب شرّه قبلما يقتلك. أما إن تركته يلدغك فلا ينفع الرقي بعد أن يسري سمه في جسمك.
يرى الأب موسى في مناظراته مع القدِّيس يوحنا كاسيان أن الرقي هنا هو الاعتراف بالخطايا وكشفها، فإنه يحطم قوة إبليس الحيَّة وينزع عنا سم الخطية القاتل. يقول: [إن لدغة الحيَّة بدون وجود راقٍ خطيرة، أي أن الخطورة في ألا يُكشف أي اقتراح أو تفكير نابع عن الشيطان أمام الراقي بالاعتراف. إنني أقصد بالراقي جماعة الروحانيين الذين يعرفون كيف يعالجون الجراحات بكلمات الكتاب المقدس، ويجذبون سم الأفعى المميت من القلب[202]].
v إذا لدغت الحيَّة – الشيطان - إنسانًا ما سرًا فإنها تُصيب ذلك الشخص بسُم الخطية. وإذا ظل المُصاب صامتًا ولم يتب ولم يرد أن يعترف بجرحه لأخيه ولسيِّده، فإن أخاه وسيِّده اللذين لديهما علاجه لا يقدران أن يساعداه جيدًا، لأنه إن كان المريض يخجل من الاعتراف بجرحه للطبيب فإن الدواء لا يبرئه[203]...
القدِّيس جيروم
يقارن سليمان الحكيم بين كلمات الحكيم وكلمات الجاهل هكذا:
أ. كلمات الحكيم تكشف عمَّا في قلبه من نعمة الحب والهدوء والحكمة، أما كلمات الجاهل فتكشف عن فساد قلبه، لذا تعرضه للهزء والسخرية بل والهلاك: "كلمات فم الحكيم نعمة، وشفتا الجاهل تبتلعانه" [12]. يقول السيِّد المسيح: "لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان" (مت 12: 37)، ويقول المرتل: "ويُوقعون ألسنتهم على أنفسهم" (مز 64: 8). وكما قال سليمان عن أدونيا الذي طلب امرأة أبيه زوجة له: "قد تكلم أدونيا بهذا الكلام ضد نفسه" (1 مل 2: 32).
ب. يبدأ الجاهل كلماته بالكشف عن جهالة قلبه بكونه ينبوعه الشرير، وكنزه الفاسد الذي يُخْرِجُ حماقة، يتفجر هذا الينبوع تدريجيًا خلال تهور الجاهل في كلماته حتى يخرج مقذوفات نارية وتحوله إلى حالة تقترب من الجنون، فلا يقدر أحد أن يضبط لسانه أو يسيطر على كلماته: "ابتداء كلام فمه جهالة، وآخر فمه جنون رديء" [13].
ج. يُكرر الجاهل كلماته البطالة، ويظن أنه بهذا يغلب، لكنه في الواقع يخسر الموقعة أثناء حياته وحتى بعد مماته، إذ تبقى آثار كلماته الشريرة تلاحقه حتى بعد الموت. "والجاهل يكثر الكلام؛ لا يعلم إنسان ما يكون، وماذا يصير بعده ومن يخبره" [14].
د. إذ يتكلم الجاهل بثورة ودون توقف لا يخسر المعركة فقط - أي يفقد حقه - وإنما يسقط في الإعياء بسبب تعبه النفسي وشعوره بالفشل والظلم: "تعب الجهلاء يعيبهم" [15].
هـ. يختم الجامعة حديثه هنا بقوله عن الجاهل المتكبر في حماقته: "لأنه لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة" [15]، أي يفقد قدرته حتى عن إدراك كيف يدخل المدينة، وهو أمر لا يجهله إنسان. ويقول الأب إبراهيم في مناظرته مع القدِّيس يوحنا كاسيان: [وهكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وُجهت إليها نظراتنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها أنها أورشليم... بمعنى أنها أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا (غلا 4: 26)[204].
4. تحذير من عدم النضوج:
"ويل لكِ أيتها الأرض إذا كان ملكك ولدًا ورؤساؤك يأكلون في الصباح.
طوبى لكِ أيتها الأرض إذا كان ملكك ابن شرفاء،
ورؤساؤك يأكلون في الوقت للقوة لا للسكر" [16-17].
لنحذر لئلا يكون ملكنا "إنساننا الداخلي" ولدًا، أي غير ناضج في الحكمة السماوية، ويهتم بالملذات الزمنية كالأكل في الصباح عوض العمل الجاد، وينسى أنه شريف (ابن لله وهيكل للروح القدس)، وأن يستخدم العالم للعمل بقوة لا للذة والسكر بالزمنيات.
ما هي هذه الأرض إلاَّ جسدنا الذي يسقط تحت الويل واللعنة إن سكنته نفس غير حكيمة ولا ناضجة، تطلب حياة اللهو والتسيب، فينبت لنا جسدنا شوك الخطية وحسك الدنس، ولا يصلح لشيء... يُريد أن يأكل ويشرب ويلهو بلا نظام أو هدف. وهو بعينه إن تقدس مع النفس التي تتمتع بكرامة المسيح، وتُحسب ملكة (رؤ 1: 6)، تعرف كيف تُجاهد، تحول الجسد إلى جنة الله الحاملة ثمر الروح.
يرى القدِّيس أغسطينوس أن الأرض الأولى تُشير إلى مدينة إبليس والأخرى مدينة الله، إذ يقول:
[أظن أن الأجْدَر بنا اقتباس ما في هذا السفر مما له علاقة بالمدينتين، واحدة للشيطان والأخرى مدينة المسيح، وما يخص ملكيهما: "الشيطان والمسيح".]
يقول الجامعة: "ويل لكِ أيتها الأرض إذا كان ملكك ولدًا، ورؤساؤك يأكلون في الصباح"، "طوبى لكِ أيتها الأرض إذا كان ملكك ابن شرفاء، ورؤساؤك يأكلون في الوقت لنوال القوة لا للسكر (الفوضى)".
يدعو الشيطان ولدًا بسبب حماقته وكبريائه واندفاعه وغياب حنكته في التدبير وباقي الرذائل التي يشتهر بها هذا السن؛ لكن المسيح هو ابن الشرفاء – الأحرار - أي البطاركة (الآباء) القدِّيسين الذين ينتمون إلى المدينة الحرة، إذ وُلد منهم حسب الجسد. يأكل رؤساء المدن الأخرى في الصباح، أي قبل الموعد المناسب، لأنهم لا يتوقعون السرور الذي يحل في موعده الحقيقي وحده، أي في الدهر الآتي، مشتهين أن يصيروا سعداء بسرعة وذلك بصَيْت هذا العالم الحاضر، أما رؤساء مدينة المسيح فبصبر ينتظرون زمان البركة التي لا تضمحل[205].
القدِّيس أغسطينوس
5. تحذير من الكسل:
"بالكسل الكثير يهبط (يتفكك) السقف، وبتدلّي اليدين يكف البيت، للضحك يعملون وليمة،
والخمر تفرح العيش (الأحياء)،
أما الفضة فتحصل الكل" [18-19].
بالكسل والإهمال يميل الإنسان إلى الراحة غير مهتم حتى بعناية بيته، فقد يحل الاتلاف بالسقف وينخر السوس أخشابه، ويبقى الإنسان في كسله حتى يهبط السقف ولا يجد له مأوى. ويُشير السقف إلى البناء الروحي الحيّ، إذ صعد بطرس على السطح يُصلي فرأي رؤيا سماوية (أع 10: 9-16). بالكسل ننحدر من السطح حيث الرؤيا السماوية إلى الانشغال بالتراب.
يحثنا مار اسحق السرياني على ترك الكسل والجهاد في السهر، قائلاً: [النفس التي تمارس أعمال السهر وتتفوق فيها لها في إرادتها عينا الشاروبيم، بهما ترى في كل الأوقات الرؤى السماوية وتدنو إليها[206]].
بالكسل تفقد اليدان قدرتهما على العمل فتتدليا في رخاوة.
بالكسل يكف البيت أي يتشقق وينهار... إنه منظر مؤلم أن يرى الإنسان سقف بيته ينهار فيقف مكتوف الأيدي، لا يتحرك لإصلاحه، حتى ينهار البيت كله!
بالمفهوم الروحي بالكسل يفقد الإنسان الرؤيا الروحية السماوية لأن سقف نفسه يتفكك، وتعجز يداه عن العمل الروحي، وينهار إنسانه الداخلي.
بينما يُفقد الكسل الإنسان قدرته على العمل الجاد البنّاء، وحتى ليشعر أن كل ما فيه منهار، وأنه في حالة عجز تام، إذا به في حياة اللهو نشيط للغاية. يُقم ولائم للضحك ويقضي حياته في السكر، قائلاً بأن لديه فضة كثيرة، يستطيع أن يحصل بها على كل ما يشتهيه. بهذا لا يستطيع أن يختبر كلمات معلمنا بطرس الرسول: "سيروا زمان غربتكم بخوف، عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تُفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1 بط 1: 18-19).
6. تحذير من سبّ الآخرين:
"لا تسب الملك ولا في فكرك.
ولا تسب الغنى في مضجعك.
لأن طير السماء ينقل الصوت وذو الجناح يخبر بالأمر" [20].
كل خطية تبدأ في الفكر، لذا يلزم مطاردتها في البداية... فلا يليق بنا كمخلصين لله أن نسبّ أحدًا، خاصة أصحاب السلطة... ولندرك أن ما نفعله خفية يفتضح علانية. ربما عني بطير السماء الجواسيس والواشين! لنكن أمناء في أعماقنا فلا نخاف أحدًا. وكما يقول الرسول بولس: "أفتُريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه" (رو 13: 3).
ليكن داخلنا مثل خارجنا نقيًا، لا يهين أحدًا، فنمتلئ من سلام الله الفائق.
بهذا إذ يدعونا سليمان الحكيم للحكمة الصادقة يُحذرنا من الجانب السلبي من السقوط فيما ندعوه صغائر أو خطايا تافهة، ويحثنا ألا نواجه ظلم المسئولين بالعنف واثقين في عمل الله معنا ومعهم ورعايته واهتمامه بنا، كما حذرنا من اللسان الخبيث كما من الجنون، وطالبنا ألا نعيش كملوك أولاد بل كملوك أشراف وحكماء في الرب، ويسألنا ألاَّ نسلك في رخاوة وكسل، وأخيرًا ألا نسب أحدًا حتى في قلوبنا الخفية.
سبق فأعلن سليمان الحكيم أهمية الحكمة السماوية في مواجهة بطلان العالم، حتى يمكننا أن لا نخاف من مفاجآت الزمن، ولا نرهب الموت، بل نرتفع نحو الأبدية... هذه الحكمة تستلزم الحذر الشديد مع الجهاد المستمر، خاصة في عمل المحبة. هذا ما يعلنه هذا الأصحاح لنقول مع الرسول "لا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكلّ" (غلا 6: 9).
1. لا نكلّ في المحبة العملية [1-6].
2. دعوة عمل للشباب [7-10].
1. لا نكلّ في المحبة العملية:
يقدم لنا الحكيم أمثلة ليكشف عن ضرورة الجهاد المستمر في عمل المحبة:
أ. "ارمٍ خبزك على وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة" [1].
يُشير هذا المثل إلى السخاء في العطاء، فإن كانت المياه تُشير إلى الأمم الكثيرة (رؤ 16: 5)، فإنه يليق بالإنسان أن يلقي لا بكلمات طيبة فحسب وإنما بخبزه أي من أعوازه للكثيرين دون ترقب لمجازاة سريعة، إنما بعد أيام كثيرة. قد يبدو أن العمل في الظاهر بلا حكمة إذ هو إلقاء الخبز على وجه المياه، ليُشاركك الكثيرون أعوازك، لكنه يسبح ويرتد إليك في الوقت المناسب.
لعل إلقاء الخبز هنا يُشير إلى أن الصدقة أو الحب العملي أشبه بالسفينة التي تبحر على وجه المياه لتحمل ما لدينا إلى الميناء السماوي في أمان.
v إنه يُعتقد بأنه من الأفضل كثيرًا أن نكون كرماء حتى مع غير المستحقين من أجل المستحقين (أي لئلا نظلم إنسانًا مستحق العطاء ونحن نظنه غير مستحق). يبدو أن هذا هو واجبنا أن نطرح خبزنا على وجه المياه، لأنه لن ينجرف بعيدًا أو يضيع أمام عينيْ الفاحص العادل بل يصل إليه ويجمعه لنا نصيبًا نناله في حينه، حتى وإن كنا مرتابين في حدوث ذلك الأمر[207].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
ويُشير أيضًا إلى حياة التوبة الصادقة حيث يدخل بنا الله إلى "أنهار ماء في طريق مستقيمة" (إر 31: 9). حينما تصير دموع التوبة هي خبزنا اليومي، تسير نفوسنا على وجه الماء في أمان... وتنطلق بنا من وادي الدموع إلى الحياة السماوية المفرحة.
v اِلقِ خبزك على وجه المياه، فتجد خبز السماء حيث تكون مياه النعمة... إذ تفيض من البطن أنهار ماء حيّ (يو 7: 38)... وتقتات على طعام سري.
حيث تكون مياه الدموع وراحة التوبة تقتات على الخبز الحيّ؛ إذ مكتوب: "بالبكاء يأتون وبالتضرعات اقتادهم" (إر 31: 9).
طوبى لمن كانت الدموع خبزهم فإنهم يتأهلون للفرح... "طوبى لكم أيها الباكون" (لو 6: 21)[208].
القدِّيس أمبروسيوس
يشير هذا المثل أيضًا إلى حياة المغامرة في الجهاد، فيلقي الإنسان بخبزه المحتاج إليه على وجه المياه مطمئنًا أن الله يرده إليه في الوقت المناسب، وكما يقول الرسول: "لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة" (عب 6: 10).
ب. "أعطِ نصيبًا لسبعة ولثمانية أيضًا، لأنك لست تعلم أي شر يكون على الأرض" [2].
يرى البعض أن هذا المثل يُشير إلى العطاء المستمر، فإن التقيت بسبعة فقراء اِعطهم بسخاء، وإن جاءك بعدهم ثمانية لا تعتذر بأنك قد فعلت الخير بل استمر في العطاء، لأنك لا تعلم ما سيحل بك... هم في عوز الآن، ربما تكون أنت في عوزٍ غدًا. لنعمل الخير مثل الله الذي يعطي بسخاء ولا يُعيِّر.
رقم 7 يُشير إلى الحياة الحاضرة، ورقم 8 يُشير إلى الحياة الأخرى، ما بعد الموت. لنُجاهد كل أيام غربتنا فننال بركات زمنية وأخرى سماوية؛ أو نجاهد بالحب فيما يخص الأمور الزمنية وأيضًا فيما يخص الأمور الروحية، أي نعطي حبًا عمليًا بالسخاء في البذل وبالشهادة لخلاص اخوتنا والاهتمام بأبديتهم... بهذا تُحفظ من الشر.
يحدثنا القدِّيس باسيليوس الكبير عن ضرورة الالتزام بالجدية في العمل اليومي الذي يخص حياتنا الزمنية وأن نكون أمناء فيما يخص جهادنا الروحي، قائلاً:
[إن النهي عن الاهتمام الزائد بحاجات جسدنا لا ينفي الاهتمام والعمل مطلقًا. فقد بقي علينا "أن نعمل لنفسنا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو 6: 27)، لا لحاجتنا الجسدية فقط، بل لنُسعف القريب أيضًا (أف 4: 28)[209]...].
ويرى البعض أن رقم 7 يُشير إلى العهد القديم حيث الوعود الخاصة بالبركات الزمنية، ورقم 8 يُشير إلى العهد الجديد حيث الوعود الخاصة بالبركات الأخروية... إذن لنكن أمناء في تنفيذ وصية الحب والجهاد فيها فنحقق وصية العهدين وننعم بكلمة الله التي تسندنا من كل شر.
v قيل في الجامعة بالاشارة إلى العهدين: "اِعطِ نصيبًا مما لك لسبعة، بل ولثمانية"[210].
القدِّيس أغسطينوس
v قيل بحق: "أعطِ نصيبًا مما لك لسبعة كما لثمانة أيضًا"، لأن الذين اقتاتوا على الناموس وتُوّجوا بالنعمة ينالون نصيبًا بالنعمة خلال أي من الرقمين[211].
القدِّيس أمبروسيوس
v للفُلك حجراته، وللكنيسة منازل (جمع منزلة) كثيرة، وقد خلص ثمانية أنفس في فُلك نوح، أما الجامعة فينصحنا: "أعطِ نصيبًا مما لك لسبعة، بل لثمانية "، أي آمن بكلا العهدين[212].
القدِّيس جيروم
v التوقير المُعطى لرقم 7 يجعلنا أيضًا نوقِّر يوم البنطقستي (الخمسين)، لأن السبعة إذا ما ضربت في سبعة تعطي رقم 50 إلاَّ يومًا واحدًا الذي نستعيره من الدهر الآتي، أي الثامن أو الأول، أو بالأحرى الذي لا يزول؛ لأن سبتية نفوسنا الآن تتوقف هناك، حيث نُعطى نصيبًا لسبعة بل لثمانية[213].
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
ج. "إذا امتلأت السحب مطرًا تريقه على الأرض" [3].
المؤمن كالسحابة التي تفيض بالحب كالمطر الذي يحوّل البراري إلى جنات مثمرة.
v اِعطِ بسخاء، اِعطِ نصيبًا مما لديك لكثيرين، حتى للذين لا يعرف ما يخبئه له اليوم الآتي. فالسُحب لا تحجز ما في داخلها من فيض المطر، بل تنهمر بما فيها على وجه الأرض، والشجرة لا تبقى في مكانها إلى الأبد، حتى وإن حافظ عليها الناس، فقد يسقطها الريح في زمان ما[214].
القدِّيس غريغوريوس صانع العجائب
د. "وإذا وقعت الشجرة نحو الجنوب أو نحو الشمال ففي الموضع حيث تقع الشجرة هناك تكون" [3].
في الكتاب المقدس الريح الشمالية تُشير إلى البرود الروحي، والريح الجنوبية القادمة من المناطق الاستوائية تُشير إلى الحرارة الروحية. فالإنسان الروحي الحقيقي يكون كالشجرة المثمرة أينما وُجد، إن كان في الجنوب أو في الشمال، أي في ظروف تلهب القلب روحيًا أو بين الباردين روحيًا، فإنه تحت كل الظروف لا يتوقف عن الجهاد لبنيان كل من هم حوله. أينما حلّ يشعر أن الله قد جاء به ليقدم خيرًا بغض النظر عن أحوال وسمات الذين حوله.
هـ. "من يرصد الريح لا يزرع ومن يُراقب السُحب لا يحصد" [4].
الإنسان المتخوف يبقى في موضعه بلا عمل، يخشى الرياح فلا يزرع، ويخشى الأمطار فلا يحصد، وكأن الكاتب يُحثنا على العمل بلا تردد ولا تخوف من وجود عراقيل وصعوبات.
في مصر يُعتبر شهر أمشير وهو شهر الرياح والعواصف هو شهر الزراعة للأشجار (نقل الشتلة وغرسها)...
كثيرون يتسترون بالحكمة عندما يتخوفون من ممارسة عمل الخير ويُحجمون عنه. لهذا يقول مار اسحق السرياني: [لا تدع كثرة الحكمة تصير حجر عثرة لنفسك، وفخًا في طريقك، بل أن الثقة بالله بثبات تصنع لك بداية الطريق المملوء دمًا (طريق الجهاد الروحي ضد الخطية)، لئلا تُوجد معتازًا على الدوام وعاريًا من معرفة الله، لأن الخائف الذي يُراقب الريح لا يزرع أبدًا[215]].
و. "كما أنك لست تعلم ما هي طريق الريح ولا كيف العظام في بطن الحبلى،
كذلك لا نعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع" [5].
لنمارس عمل المحبة على الدوام دون تخوف، متكلين على الله الذي يعمل في الطبيعة لحسابنا، والذي يعمل في حياتنا؛ فهو الذي وضع قوانين الرياح بدقة عجيبة، وهو الذي يخلق عظام الإنسان وهو في أحشاء أمه. إننا لا نعرف بدقة حركة الريح ولا كيف تُخلق العظام، لكننا نتمتع بأعمال الله العجيبة التي لا تُدرك.
بمعنى آخر يُطالبنا الحكيم أن نمارس الحب العملي مع إخوتنا بدون حسابات بشرية، واثقين في وعوده لنا أنه يرد لنا حبنا لإخوتنا بحبه الفائق بطرق تفوق خططنا وإدراكنا.
ز. لنُجاهد في طريق الحب العملي كل أيام حياتنا:
"في الصباح ازرع زرعك،
وفي المساء لا ترخِ يدك،
لأنك لا تعلم أيهما ينمو، هذا أو ذاك أو أن يكون كلاهما جيدين سواء" [7].
لتزرع عمل الحب وقت الفرح (الصباح) وأيضًا وسط الآلام (المساء)، فإنك قد تكسب نفسًا بالكشف عن حبك الصادق لها إما وسط فرحها أو متاعبها أو في كليهما.
لتُجاهد في أعمال المحبة في صباح عمرك، أي منذ طفولتك وصبوّتك وشبابك، وأيضًا في المساء حيث الشيخوخة... كلما سنحت لك الفرصة اعمل ولا ترخِ يدك محتجًّا أنك لازلت شابًا، لئلاَّ تقول في شيخوختك أنه قد ضاع وقت العمل.
لنُبكر مقدمين بكر أوقاتنا لعمل الرب، ولنبقى عاملين حتى نهاية زماننا، فإننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، إن عشنا وإن متنا فللرب نحن.
إن كان مسيحنا من أجل محبته لنا صُلب وتألم ومات ليُقيمنا معه، يليق بنا نحن أيضًا أن نُجاهد بالحب معه وفيه، نُصلب معه لنقوم معه.
v إن كان الرب يوم الجمعة صعد إلى الصليب، ويوم السبت استراح، ويوم الأحد قام من بين الأموات، هكذا العقل إن لم يصعد على الصليب ويذوق الخل والمرّ ثم يدخل إلى الراحة من الأوجاع لا يستحق القيامة من سقطته[216].
v كما أن الأرض المفلَّحة تأتي بالزرع، هكذا الشبوبية لأجل حرارة حركاتها الحادة تُحب العمل الدائم لئلا بدل الزرع الصالح تُخرج الشوك والحسك... (البطالة رديئة جدًا)[217]...
القدِّيس يوحنا سابا
v يجب أن نموت عن الخطية ونُصلب مع المسيح، واضعين فيه كل حبنا. هذا أمر صعب. ولكن ما السهل في نظام الخير؟ لا تُكتسب الانتصارات في كثرة النوم، ولا تُجنى أكاليل الظفر في الملذات وصوت الأبواق... إن من يُجاهد ينتصر، وبالأتعاب نحصل على المجد[218].
القدِّيس باسيليوس الكبير
2. دعوة عمل للشباب:
ينبغي علينا ليس فقط أن نُجاهد بروح الحب، وإنما أن نبكر في جهادنا، فنبدأ حياتنا مع الله في شبابنا، وقد كشف الجامعة عن دوافع الشركة مع الله في سن مبكر:
أ. "النور حلو، وخير للعينين أن تنظرا الشمس" [7].
إنها ليست دعوة عمل شاق فيه حرمان، بل دعوة تمتع بالنور العلوي، الذي يُعطي استنارة للعينين فيتطلع إنساننا الداخلي بهاء مجد الله ويدرك سماواته المفرحة... نراه شمس البر.
v مدينة الإنسان الطاهر النفس هي في أعماقه، والشمس التي تسطع فيه هي نور الروح القدس[219].
v اهرب من شهوات العالم ليلاقيك النور النابع من الآب، ويوصي بك ملائكته الخادمين لأسراره فيحرروك من قيودك، وتمشي مقتفيًا خطواته إلى (حضن) الآب[220].
v الإيمان بالمسيح نور مُحيي وعقلِي[221].
مار إسحق السرياني
v طوبى لمن استحق الدخول إلى هناك (بلد الروحانيين)، حيث تنظر النفس وجه ربها، وتذوق حلاوة إلهها وتبتهج، وتستنشق رائحته الطاهرة، وتنحبس في عمق عظمته، وتستضيء بشعاع حُسنه، وتلتصق به، ولا تُريد الخروج من هناك.
هذا هو الاختطاف الذي يسميه آباؤنا نظر مجد الله. هذا هو عربون العالم الجديد[222].
v أنت يا ربي شمس المتعقلين، ومنك يستضيئون بغير انقطاع[223].
v طوبى للذي يشخص إليك دائمًا في داخله، فإن قلبه يضيء لنظر الخفايا[224].
v لا نقدر أن نعاين الشمس بدون الجو الصافي والعيون السليمة من المرض، هكذا لا نقدر أن نعاين شمس البر وهو في سماء القلب بدون الإيمان والمحبة والصبر[225].
القدِّيس يوحنا سابا
السيِّد المسيح هو نور العالم، ينير العينين، ينير العين اليمنى فتتطلع إلى الأبديات والروحيات من خلاله، وينير اليسرى فتتطلع إلى الزمنيات أيضًا من خلاله، فيرى المؤمن السيِّد المسيح متجليًا في حياته وتطلعاته الأبدية والزمنية، أو في عبادته وعمله اليومي... يرى كل شيء مقدسًا فيه.
ب. دعوة للفرح:
"لأنه إن عاش الإنسان سنين كثيرة فليفرح فيها كلها...
افرح أيها الشاب في حداثتك،
وليسرك قلبك في أيام شبابك..." [8-9].
يكره الشاب الحيّ الغم، والله في حبه للإنسان يُريد له حياة الفرح الداخلي كطعام تقتات به النفس ويتجدد شبابها. تفرح في الأعماق وتُترجم فرحها خلال السلوك العملي، فيما يراه القلب. (الحياة الداخلية) وما تنظره العينان (السلوك الخارجي).
v فضيلتان جميلتان هما المحبة والفرح.
المحبة تقتل حركات العقل الفاسدة وتُميتُها (كالغضب والحسد الخ)...
والفرح يوقظ ويحيي الحركات النورانية.
الجسد والنفس كلاهما يتنعمان في الرب بالمحبة والفرح[226].
القدِّيس يوحنا سابا
يرى أنبا أنطونيوس أن الفرح هو طعام النفس عليه تقتات لكي تنمو، ويرى القدِّيس باسيليوس الكبير أن الكآبة أو الحرمان من الفرح فيه تحطيم للإنسان الداخلي، إذ يقول: [إن الكآبة هي سُكرْ، لأنها تطفئ نور العقل وتطمُسْ النور فيه[227]].
يُطالبنا الحكيم أن نفرح كل أيام حياتنا [8]... فهل لا يمّر بنا حزن؟ في المسيح يسوع نتمتع بفرح الروح (غلا 5: 22) الذي لا يقدر العالم ان ينزعه من أعماقنا.
مما يزيد فرحنا أننا نتذكر أيام الظلمة الكثيرة [8]، نذكر كيف انتشلنا مسيحنا إلى النور، ونزع عنا ثقل خطايانا... نذكر ضعفنا فننسحق، ونذكر عمله الخلاصي فتتهلل نفوسنا.
لنفرح أيضًا لأنه إن دخلنا إلى الآلام إنما تهبنا الأمجاد في الرب، إذ يقول "على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة" [9].
ج. يؤكد الجامعة ارتباط الغم بالشر:
لنترك الشر نهرب من الغم، لنرتبط ببرّ المسيح ننعم بفرح روحه القدُّوس، إذ يقول "فانزع الغم من قلبك وابعد الشر عن لحمك" [10].
v الفرح الذي في الله أقوى من هذا الزمان الحاضر، من يجده ليس فقط لا يهتم بالشهوات (الشريرة) بل ولن يُفكر حتى في حياته الخاصة، ولا في أمر آخر، إن كان قد حُسب بالحق مستحقًا لذلك الفرح[228].
مار إسحق السرياني
v ابعد الحزن عن جسدك والغم عن أفكارك، عدا ما تسببه خطيتك إذ تجعلك في حزن دائم[229].
مار إفرام السرياني
قدم لنا سليمان الحكيم صورة حيَّة للجهاد بقوة الروح في حكمة ومحبة عملية، وقد كشف عن عذوبة هذا الجهاد وبهجته في حياة الإنسان لكي يبدأه في شبابه دون تأخير. الآن يختم عمله بِحثّ الشباب على الجهاد الروحي، معززًا ببراهين يستنتجها من متاعب الشيخوخة.
1. اذكر خالقك في أيام شبابك [1].
2. ضعف الشيخوخة ومتاعبها [2-8].
3. إمكانية التغلُّب على البطلان [9-14].
1. اذكر خالقك في أيام شبابك:
إن كان العالم قد صار باطلاً بسبب فساد الإنسان وحياته، فإنه يليق بالإنسان أن يرتبط بالله منذ شبابه حتى لا تخدعه الأباطيل ولا يرتبك بهمومه... وقد سبق فتحدث عن البواعث التي تدفع الشاب للتمتع بالشركة مع الله (11: 7-10)، خاصة حياة الفرح الحقيقي. ربما يقول شاب: لماذا لا انتظر حتى الشيخوخة؟ فيجيبه الجامعة، قائلاً:
"قبل أن تأتي أيام الشر،
أو تجيء السنون إذ تقول ليس ليّ فيها سرور" [1].
قد تحل أيام الشر مبكرًا، كأن يفقد الإنسان وعيه فيخسر إمكانية التوبة والرجوع إلى الله، وقد يُباغته الموت المبكر فجأة؛ أو قد تحل سنون الشيخوخة فيفقد الإنسان عذوبة الحياة... إنه يدعونا للرجوع الفوري إلى الله لنختبر حلاوة العشرة معه.
يقول المرتل: "اللهم قد علمتني منذ صباي، وإلى الآن أُخبر بعجائبك، وأيضًا إلى الشيخوخة والشيب يا الله لا تتركني حتى أُخبر بذراعك الجيل المقبل وبقوتك كل آتٍ" (مز 71: 17-18).
2. ضعف الشيخوخة ومتاعبها[230]:
يصف الجامعة انحلال الشيخوخة وعاهاتها بتعايير وصفية يصعب إدراكها الآن،
لأنها لم تعد تستخدم، لكنها بوجه عام تكشف عن انزعاج الحكيم سليمان من أيام الشيخوخة. قدم هذا الوصف ليوضح أن الإنسان يفقد الكثير من حيويته في شيخوخته، فأنه وإن تاب لا يحمل إمكانية عمل الشاب وجهاده وتمتعه بعذوبة الحياة الروحية المبكرة.
أ. "تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم" [2]. إذ يكاد الإنسان في شيخوخته أن يفقد بصره فيظن النور ظلامًا، ويبدو له كأن الكواكب قد أسدل عليها السحاب الستار.
ربما يقصد هنا بالشمس والنور... أن الإنسان في شيخوخته يشعر أنه فقد بهجة الحياة وجمالها، فصارت له الشمس ظلامًا...
إذا ما أُصيب إنسان بشيخوخة روحية لا تُعاين بصيرته شمس البر، ولا يشرق عليه النور الإلهي، ولا يتلمس مفهوم الكنيسة الحق كقمر يستنير بالمسيح، ولا ينتفع بالشركة مع القدِّيسين بكونهم كواكب منيرة.
ب. "وترجع السحب بعد المطر" [2]. تُشير السحب هنا إلى كثرة التجارب التي تحل بالإنسان في شيخوخته من آلام وأمراض. أنها كالسحاب الذي يهطل مطرًا ليعود مرة أخرى فثالثة الخ...
من يصاب بشيخوخة روحية يشعر بجفاف يُسبب له سقطات متوالية.
ج. "في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت وتتلوى رجال القوة" [3]. يُشير ذلك إلى ضعف الهيكل العظمى واِنهيار الجهاز العصبي، فلا يقوى الشيخ على مواجهة المتاعب الصحية الجسدية والنفسية.
في الشيخوخة الروحية حيث يُحرم الإنسان من قيادة روح الله المجدد مثل النسر شبابنا، يدخل الإنسان إلى اليأس، فيصير منها القوى، أشبه ببيت بلا حراسة أو جيش بلا قوة! ينهار أمام التجارب وعواصفها!
د. "وتبطل الطواحن لأنها قلَّت" [3]. تتساقط الأسنان التي تقوم بمضغ الطعام وطحنه، فيعجز حتى عن التمتع بكثير من أنواع الأطعمة.
في الشيخوخة الروحية لا يختبر الإنسان كلمات المرتل: "وجدت كلامك حلو فأكلته"، لأنه بلا أسنان روحية تقدر أن تتمتع بالطعام الروحي وتقتات عليه.
هـ. "وتظلُم النواظر من الشبابيك" [3]. أي تضعف حواس الجسد، فلا يتجاوب الشيخ مع ما يحوط به.
في الشيخوخة الروحية تفقد الحواس الداخلية قدسيتها وتظلم، فلا تُعاين السمويات، ولا تشتم رائحة المسيح الذكية، ولا تعرف كيف تنطق مع السمائيين بالتسابيح العلوية...
و. "وتغلق الأبواب في السوق" [4]. يعجز الشيوخ عن الخروج من منازلهم حتى لشراء طعامهم الرئيسي الضروري، وكأن أبواب السوق قد أغلقت أمام وجوههم.
في الشيخوخة الروحية يكمن الإنسان في "الأنا"، ليجد أبواب السماء مغلقة أمامه بسبب انغلاق قلبه من نحو الله والناس. يصير كمن دفن وزنته في التراب ولم يتاجر بها.
ز. "ويقوم لصوت العصفور" [4]. بسبب تعبهم العصبي وقلة الحركة طوال اليوم لا يحتملون صوت عصفور فيقومون من نومهم، علامة فقدانهم الراحة الداخلية في الرب تحت أعذار واهية كزقزقة عصفور.
ح. "وتُحط كل بنات الغناء" [4]. لا يشاركون الغير أفراحهم بسبب تعبهم، إشارة إلى الحرمان من شركة التسبيح والفرح مع السمائيين.
ط. "وأيضًا يخافون من العالي" [5]. لا يسكنون الأدوار العليا لئلا يسقطون أثناء صعودهم أو نزولهم، إشارة إلى الاستكانة الروحية، وعدم الرغبة في النمو الروحي ورفع القلب الدائم إلى الأبد.
ى. "وفي الطريق أهوال" [5]. يعيشون في خمول، لا يريدون الحركة، إشارة إلى عدم الرغبة في الجهاد الروحي والتمتع بخبرات روحية جديدة.
ك. "اللوز يزهر" [5]. إشارة إلى الشعر الأبيض الذي يملأ الرأس فتصير كشجرة اللوز المزهرة. تمثل فقدان حيوية الشباب الروحية.
ل. "والجندب يستثقل" [5]. لا يقدرون على حمل أخف أنواع الأطعمة كالجندب، وهو طعام خفيف جدًا، سهل الهضم. يُشير إلى استثقال أي تدريب روحي لبناء النفس.
م. "والشهوة تبطل" [5]. فقدان كل رغبة داخلية للبهجة والسرور، إشارة إلى فقدان الإنسان بهجته الروحية وسلامه الداخلي وحنينه إلى السمويات.
ن. يشبه الشيخ وهو يترقب الموت ليدخل بيته الأبدي [5]: حبل الفضة الذي ينفصم، هذا الذي يربط النفس بالجسد، أو كوز الذهب الذي ينسحق، أو جرة ماء تنكسر، أو بكرة بئر تتحطم، أي يتحول إلى حطام بلا نفع، إنه اقتراب إلى العودة إلى التراب. وفي الشيخوخة الروحية يشعر الإنسان أن حياته بلا نفع، هي أقرب إلى التراب منها إلى السماء!
3. إمكانية التغلب على البطلان:
لم يرد الجامعة أن يسدل الستار على صورة الشيخوخة المؤلمة، وإنما قدم علاجًا للغلبة على بطلان الحياة الزمنية، وهو الالتقاء مع الله خالق العالم ومهيِّء المجد الأبدي، خلال الطاعة لوصيته بخوف تقويّ.
" فلنسمع ختام الأمر كله:
اِتَّقِ الله،
واحفظ وصاياه،
لأن هذا هو الإنسان كله.
لأن الله يُحضر كل عمل إلى الدينونة،
على كل خفي إن كان خيرًا أو شرًا" [13-14].
علاج الأمر هو الالتصاق بالله خلال التقوى أو برّ المسيح الواهب المخافة الممتزجة بالحب، فنكسب حياتنا فيه، وننعم بحفظ وصيته، منتظرين يوم الدينونة كبدء حياة أبدية مجيدة عوض الحياة الباطلة الزائلة.
كأن وصيته الأخيرة هي: خف الله، واحفظ وصاياه!
v بدء حياة الإنسان الحقيقية هي مخافة الله، لكن مخافة الله لا يمكن أن تحل في نفس تتشتت وراء الأمور الخارجية[231].
v مخافة الله هي بدء الفضيلة، ويقال أنها وليدة الإيمان. أنها تُزرع في القلب حين يسحب الإنسان فكره عن تشتيت العالم كي يحصره في عمق التأمل وفي الأمور العتيدة[232].
v الذين يخافون الله أيها الأحباء يواظبون بفرح على حفظ الوصايا، حتى إن تتطلب الأمر جهادًا وتعبًا، ويُعرِّضون أنفسهم للمخاطر في سبيل مسعاهم هذا. وقد حصر واهب الحياة كمال الوصايا وصُلْبها وركَّزها في اثنتين تحتضنان الجميع: محبة الله محبة مماثلة لها، هي محبة أيقونته[233].
v تفوق وصايا الله كل كنوز العالم. الذي يقتنيها داخليًا يجد الرب فيها. ومن يذهب إلى مخدعه دائمًا وهو متفكر في الله، يقتنيه (الله) كياوره الخاص؛ ومن يتوق إلى إتمام إرادة الله تصير ملائكة السماء مرشدين له[234].
v ما من إنسان تستمر الخطية فيه، طالما أنه يسلك في طريق واضع الناموس (الله) ويمارس وصاياه. لهذا السبب وعد ربنا في الأناجيل أنه يمكث مع من يحفظ وصاياه[235].
مار اسحق السرياني
v اقتنِ لك أيها التلميذ حب تنفيذ الوصية حتى تتأهل لقبول المحبة الإلهية[236].
v هل تشتهى أن ترى شعاع الثالوث القدُّوس في نفسك؟ احفظ وصايا المسيح[237].
v إن لم يبصر الإنسان الشمس لا ينعم بنورها، هكذا إن لم يقتن الإنسان حفظ وصايا ربنا لا يتنعم بنوره[238].
v واحد هو باب السماء وباب القلب؛ إن حفظنا قلبنا بحفظ وصايا المسيح ينفتح لنا باب السماء، لأن الساكن فينا هو الساكن في السماء[239].
القدِّيس يوحنا سابا
[1] Treatise 6.
[2] Epistle 43.
[3] Fr. T. Y. Malaty: Introduction to the Psalms, 1991, p..
[4] Nelson: A New Catholic Commentary on Holy Scripture, 1969 , p.513.
[5] The Collegeville Bible Commentary, 1989, p.812.
[6] PL 23:104.
[7] Merrill F. Unger: Survey of the Bible , 1974, p.179.
[8] John Howard Raven: Old Testament Introduction, 1910, p. 305-306.
[9] Ibid, 306 -308.
[10] Unger, p. 179-180.
[11] Scripture Union: The Bible in Outline, 1989,107.
[12] cf. Interpreter’s Concise Commentary, The Book of Ecclesiastes, Harvey H. Guthrie, p.
[13] Scripture Union: The Bible in Outline, 1989, 107.
[14] City og God 20:3.
[15] See our book: St Matthew...
[16] Baker’sPictorial Introduction to the Bible, 1967, p.161.
[17] Cassian: Conf. 3:6.
[18] Commentary on the Song of Songs , hom.1.
[19] Isaac, or the Soul, 4:23.(Fathers of the Chutch).
[20] Edward p. Blair: The Illustrated Bible Handbook, 1975,p.155.
[21] A New Catholic..., p. 513.
[22] Nelson: New Catholic Commentary..., p.523.
[23] Ibid.
[24] Scripture Union: The Bible in Outline, 1989, 110.
[25] Scripture Union: The Bible in Outline, 1989, 110.
[26] Matthew Henry: Ecclesiastes,1.
[27] On Ps.4.
[28] Commentary on the Song of Songs, hom.4.
[29] Homilies on Matthew, 76:5.
[30] Flight from the World, 1:4 (Fathers of the Church).
[31] In Matt. hom. 77 (PG 58:700 B-D)
[32] Hom. on Timothy, hom. 15.
[33] Epistle 17.
[34] Epistle 21.
[35] Epistle 33.
[36] Mom. on Eph. 12.
[37] Sermons on New Testament Lessons, 11:11.
[38] On admonition amd Repentance, 7.
[39] The Commentary on Ecclesiastes, homily 1, PG 44:624 B-625 D).
[40] On Virginity, 4.
[41] The Commintary on Ecclesiastes, homily 1, PG 44:624 B-625 D).
[42] Death as a Good, 7:28 (Fathers of the Church).
[43] Exposition of the Orthodox Faith, 3:1.
[44] Commentary on Ecclesiastes
[45] Fr. T. Y. Malaty: The Early Fathers of the School of Alexandria, Alexandria, 1980, p.72ff. (in Arabic).
[46] Hom. in princ. prov. 6. PF 31:397 B [see The Pauline Bookstore, Beirut: St. Basil the Great (in Arabic).]
[47] Hom. 22, ad adolesc. 2 PG. 31:566-570.
[48] Durheim E., Education et Sociologie, P. U. F., Paris 1966, intr. p. 1 et 2.
[49] Epistle 43.
[50] Our Lord’s Sermon on the Mount, 1:1:3.
[51] On Ps. 39.
[52] On the Trinity, 4 Preface
[53] In Defense of his Flight to Pontus, 75.
[54] Hom. 3:3.
[55] Hom. on Ps. 48:1; Fr. Elias Kweter: St. Basil The Great, Pauline Bookstore, Beirut 1989, p. 312 (in Arabic).
[56] The Collegeville Bible Commentary, p. 816.
[57] Ascetic Homilies, 4.
[58] Ibid 74.
[59] In Exod. Hom. 13:9
[60] Fr. Yohanna El-Helou: Philosopher’s Meditation on the Spiritual life, p. 263-265 (in Arabic).
[61] Chapter 14.
[62] Ascetic homilies, 4.
[63] Ibid 15.
[64] Ibid 21.
[65] Ibid 62.
[66] Epistle 18.
[67] Epistle 48:14.
[68] Hom. on Matt. 83:3.
[69] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[70] Fr. Elias Kweter: St. Basil The Great, Pauline Book store , Beirut 1989, p. 136, 137(in Arabic).
[71] Dialogue with Hiraclides, 160-2.
[72] The Prayer of Job. and David, 4:7:28.)Fathers of the Church).
[73] Ascetic Homilies 1:18.
[74] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[75] Hom. 3:3; Fr. Elias, p. 315.
[76] City of God 17:20.
[77] Ascetic Hom. 1:5.
[78] Ibid 48.
[79] Hom. in illud Lucae. 5 PG 31:233.
[80] P.G. 31:1145 C.
[81] Fr. Elias Kweter, p. 301.
[82] The brief Canons, 207.
[83] The detailed Canons, Question 41.
[84] Comm. on Matt. 2:2:10.
[85] The Theological Orations , 1:5.
[86] On the Great Athanasius, 21.
[87] In Defense of his Flight to Pontus. 103.
[88] Defense of his Flight, 15.
[89] Cat. Lect. 20:4.
[90] Fr. Yohanna El-Helou: Philosopher’s Meditation on the Spiritual life, p. 36,37(in Arabic)
[91] Ibid 86, 87.
[92] Fr. Augustinius El-Baramousy: St. Ephram The Syrian, 1988, p. 124 (in Arabic).
[93] Fr. Augustinius El-Baramousy: Mar Isaac The Syrian, 1989, p. 106 (in Arabic).
[94] Letter 22:19.
[95] The Literal meaning of Genesis, 7, 12. (ACW)
[96] On Marriage and Concupiscence, 14.
[97] On the good of marriage, 15.
[98] The Commentary on Ecclesiastes, sermon 7, PG 44: 724B - 732D).
[99] Ibid.
[100] Ibid.
[101] Ascetic Hom. 15.
[102] Duties of the Clergy, 1:3:9.
[103] The Commentary on Ecclesiastes, sermon 7, PG 44:724 B – 732 D).
[104] Cassian, Conf., 21:13.
[105] Death as a Good, 2:4. (Fathers of the Church)
[106] Exhortation to Martyrdom. 22.
[107] A Metphrase of the Book of Ecclesiastes.
[108] Hom. 11; Fr. Elias Kweter: St. Basil The Great, Pauline Bookstore, Beirut 1989, p. 307-8 (in Arabic).
[109] The detailed Canons, Question 37.
[110] Cassian, Comf. 24:13
[111] Telmud: Tannith 23a.
[112] Letter 76:1.
[113] Epistle 7.
[114] Epistle 40.
[115] Fr. Elias Kweter: St. Basil The Great, Pauline Bookstore, Beirut 1989, p. 17 (in Arabic).
[116] PG 31:928 C.
[117] Ibid.
[118] On Virginity, 23.
[119] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[120] Letter 82:11.
[121] Dialogue with Heraclides, 166.
[122] See our Comm. on Exodus, ch. 3 (in Arabic).
[123] Epistle 5.
[124] Epistle 14.
[125] Fr. Augustinius El-Baramousy: St. Ephram The Syrian, 1988, p. 195 (in Arabic).
[126] Ibid 160.
[127] Ibid 161.
[128] Against Eunomius, lib. 12, PG 45:940 A-941 D.
[129] Fr. Yohanna El-Helou: Philosopher’s Miditation on the Spiritual life , p. 198-9 (in Arabic).
[130] Cassian, Conf., 9:12.
[131] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[132] Fr. Augustinius El-Baramousy: St. Yacob El-Serougi, p. 117-8 (in Arabic)
[133] Fr. Yohanna El-Hilou: Philosopher’s Miditation on the Spiritual life, p. 351(in Arabic).
[134] The Prayer of Job and David. 2:4:12. (Fathers of the Church).
[135] Ascetic Hom. 4.
[136] Fr. Augustinius El-Baramousy: St. Yacob El-Serouge, p. 116-7(in Arabic).
[137] Fr. Yohanna El-Helou: Philosopher’s Miditaton on the Spiritual life, p. 351 (in Arabic).
[138] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[139] Fr. Augustinius El-Baramousy: St. Yacob El-Serougi, p. 117-8 (in Arabic).
[140] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[141] Anba Mattaos: Biography. of the Spiritual Elder and a Set of His Sayings,1988, p.45.
[142] Letter 63:106.
[143] Flight from the World, 1:3 (Fathers of the Church).
[144] Hom. on 1 Tim., 14
[145] Ascetic Hom. 64,.
[146] Ibid 37.
[147] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[148] Ascetic Hom. 42.
[149] Hom. 20.
[150] The institutes , 8:1.
[151] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[152] Ibid.
[153] Letter 79:3.
[154] Conference 23:5.
[155] Against Jovinianus, 1:14
[156] Cassian: Conf. 21:14.
[157] On the Gospel of St. John, tr. 95:2.
[158] Epistle 18.
[159] Ascetic Hom. 64.
[160] Cassian: Conf. 21:5, 17, 18.
[161] The Theological Orations, 2:21.
[162] Ascetic Hom. 37.
[163] Letter 31:3.
[164] Against Jovinianus, 1:29
[165] Hom. in Ps. 1:6. PG 29:215D.
[166] Hom. in Martyr. Julittam 2 Pg 31:240; Fr. Elias Kweter, P. 106
[167] Against the Heathen, 7
[168] Sermons on New Testament Lessons, 11:2.
[169] Sermons on New Testament Lessons, 46:6.
[170] Cassian, Conf., 13:12
[171] Cat. Lect. 2:1.
[172] Cassian, Conf., 7:4.
[173] Ascetic Hom. 48.
[174] Ibid 61.
[175] Ibid 62.
[176] Ibid 63.
[177] Instructions to Catechumens 2:4.
[178] Commentary on Ecclesiastes.
[179] Letter 108:28.
[180] Ascetic Hom. 57.
[181] Catech. Lect. , 22:8.
[182] Letter 77:12.
[183] Letter 130:7.
[184] To Pammachius against John og Jerusalem, 33.
[185] Ascetic Hom. 59.
[186] In Gen. PG 53:67,77.
[187] In Nov. est. PG. 56:162.
[188] Anba Mattaos: Biography. of the Spiritual Elder asd a Set of His Sayings,1988, p.49.
[189] Ibid 53.
[190] Epistle 23.
[191] On the works of the Gospel, 13.
[192] Ascetic Hom. 5.
[193] Ibid 72.
[194] In Matt.; In Gen. PG 57: 30; 53:228.
[195] In Paralyt. Pg. 51:51.
[196] Ep. 223. Pg 32:824.
[197] On the Gospel of St. John, tr. 1:14.
[198] Ascetic Hom. 4.
[199] Letter 22:26.
[200] Letter 130:8.
[201] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes
[202] Cassian: Conference 2:11.
[203] Commentary on Ecclesiastes.
[204] Cassian: Conference 24:24.
[205] City of God 17:20.
[206] Ascetic Hom. 20.
[207] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[208] The Ptayer of Job and David, 4:2:7 (Fathers of the Church).
[209] Pg 31:1220C-12221C.
[210] Letter 105:23.
[211] Jacob and the Happy Life, 11:2. (Fathers of the Church).
[212] The dialogue against the Luciferians.
[213] On Pentecost, 2.
[214] A Metaphrase of the Book of Ecclesiastes.
[215] Axcetic Hom. 6.
[216] Hom. 3.
[217] Hom. 5.
[218] Fr. Elias Kweter: St. Basil The Great, Pauline Bookstore, Beirut 1989, P. 134(in Arabic).
[219] Ascetic Hom. 15.
[220] Ibid 15.
[221] The Book of Grace 1:1.
[222] Anba Mattaos: Biography. of the Spiritual Elder and a Set of His Sayings, 1988, p.30.
[223] Ibid 43.
[224] Ibid 57.
[225] Hom. 4.
[226] Epistle 30.
[227] Fr. Elias Kweter: St. Basil The Great, Pauline Bookstore , Beirut 1989, p. 289 (in Arabic).
[228] Ascetic Hom. 62.
[229] On admonition and Repentance 15.
[230] Matthew Henry: Eccles., ch. 12.
[231] Ascetic Hom. 1:10.
[232] Ibid 1:1.
[233] Ibid 76
[234] Ibid 5.
[235] Ibid 47.
[236] Anba Mattaos: Biography. of the Spiritule Elder and a Set of His Sayings, 1988, p.55.
[237] Epistle 5.
[238] Hom. on the beginning of knowledge, 1.
[239] Ibid. 3.