حبقوق

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

-

مقدمة في سفر حبقوق

الأصحاح الأول (سؤال حول تأديب الله شعبه)

الأصحاح الثاني (معَاقبَة الكلدانيّين)

الأصحاح الثالث (مزمور حمد لله)


 

مقدمة

في سفر حبقوق

1. أصل الكلمة "حبقوق" غير معروف، يرى البعض أنها تعني "المحتضن" أو "المعانق" بينما يربطها Friedrich وDelitxsch  بالكلمة الأشوريّة "حمبقوق" وهو نبات حديقة[1].

2. واضح من مزموره الوارد في الأصحاح الثالث ومن توجيهاته لرئيس المغنين (3: 19)، أنه كان من سبط لاوي كأحد المغنّيين في الهيكل، أي في فرقة التسبيح، إن لم يكن صاحب دور قيادي بالفرقة[2].

تاريخ السفر وواضعه:

لا يحمل السفر أي تاريخ، لكن من الواضح أنه كتب في أيّام الملك يهوياقيم بيهوذا (609 - 598)، وإن كان من الصعب تحديد الزمن بدقّة.

ما ورد بالأصحاح الأول (ع 5-6) يخص ما قبل انتصارات الكلدانيّين الأمر الذي جعل بعض النقّاد يرون أن السفر قد سُجل قبل انتصارهم على نينوى عاصمة أشور وسقوطها تحت يدهم، فقد قام الكلدانيّون بثورات ضدّ أشور تجلّت بسقوط نينوى عام 612 ق.م. الأمر الذي رفع من دورهم في العالم في ذلك الحين، وصار لهم مركزًا قياديًا، تزايد بالأكثر بغلبتهم على نخو ملك مصر في موقعة كركليش عام 605 ق.م. (2 أي 35: 20، إر 46: 2). ويعتقد غالبيّة النقّاد أن النبوّة ترجع إلى زمن هذه المعركة.

واضح أن هذا السفر كتب في عصر الكلدانيّين[3]، أولاً لأن الهيكل كان لا يزال قائمًا (2: 20) والخدمة الموسيقيّة تُمارس فيه (3: 19)، ثانيًا لأنه يعلن أن الكلدانيّين يصبحون قوّة مرهبة بين الشعوب أثناء ذلك الجيل (1: 5-6)، وأنهم قد بدءوا فعلاً في قتل الأمم (1: 6، 17).

يرى البعض أن حبقوق النبي كان بعد ناحوم بفترة قصيرة[4]، وأنه كان معاصرًا لإرميا، وإن كانت مدة خدمة الأخير النبويّة أكثر طولاً وفيّاضة[5].

الكلدانيّون[6]:

كان الكلدانيّون يسكنون كلديا Chaldea جنوب بابل، وهو الجنس الغالب في بابل منذ 721-539 ق.م، شغلوا المناصب الرئيسية القيادية، كما مارسوا العمل الكهنوتي في العاصمة حتى أصبح اسم "كلداني" يُرادف "كاهن بعل مردوخ" كما ذكر المؤرخ هيرودت[7]. كان الشعب يعتقدون فيهم كأصحاب حكمة وفهم، كسحرة ومنجمين يعرفون الغيب (دا 1: 4، 2: 2، 4).

سماته:

1. في دراستنا لسفر يونان رأينا الوحي الإلهي قد أفرد السفر لإبراز اهتمام الله بمدينة نينوى عاصمة أشور الوثنيّة، معلنًا محبته لكل البشريّة واشتياقه لخلاص العالم كله، وفي دراستنا لسفر عوبديا لاحظنا كيف تركزت النبوّة ضدّ أدوم بكونه يمثل الإنسان الدموي المحب للقتال والشخص الترابي محب الأرضيّات (أدوم تعني دموي أو أرضي)، أما سفر حبقوق فيكشف عن الكلدانيّين الذين يسبون شعب الله ويذّلونه لأجل تأديبه. دخل حبقوق في حوار مفتوح وصريح مع الله، يسأله عن سرّ سماحه لإذلال هذه الأمّة الشرّيرة الوثنيّة لشعبه وعدم دفاعه عنه. إنه سؤال الأجيال كلها: لماذا يسمح الله لأولاده بالضيقات بواسطة الأشرار؟ إذ كان النبي يسأل بقلب منفتح فالله يُجيب في صراحة ووضوح.

2. يكشف لنا هذا السفر عن مفهوم "كلمة الله" إنها ليست حديثًا منفردًا من الله نحو الإنسان، لكنّها حوار حب مشترك بين الله والإنسان، كلمة الله هي مونولوج حيّ غير منقطع، فيه يتكلّم الله والإنسان يسمع، والإنسان يتكلّم والله بالحب ينصت... كلمة الله هي علاقة الحب الحقيقي بين الله والإنسان...

3. هذا السفر بأصحاحاته الثلاثة يكشف عن سمات النبي أو خادم الرب، وهي:

أ. القلب المفتوح أمام الله، يتعامل معه على مستوى الحوار لا على مستوى الرسميات والشكليات، وإنّما على مستوى الابن الذي يلتقي مع أبيه في دالة البنوة التي تسمو فوق الرسميات...

ب. القلب المفتوح من نحو المخدومين، فإن كان حبقوق قد تألم بسبب الظلم الذي ساد بين شعب الله، لكن حين سقط الشعب تحت التأديب بواسطة الكلدانيّين لم يحتمل

النبي أن يرى شعبه يئن ويتوجع، وانطلق يتشفع في شعبه، أو بالحري في شعب الله.

ج. القلب المملوء فرحًا وتسبيحًا (ص 3)، لو أن حبقوق ركّز كل نظره على الفساد الذي دبّ في الشعب وعلى تأديبات الله لهم لسقط في اليأس خلال المنظور المؤلم، لكنّه وسط الأوجاع كان يرى يد الله الخفيّة تعمل للخلاص، فقدّم تسبحة حمد لله تنعش نفسه بالفرح، فلا تسمح لليأس أو القنوط أن يتسلّل إلى قلبه. الخادم محتاج إلى النظرة المملوءة رجاءً وسط آلام الخدمة وأتعابها.

أظنها سمات ثلاث هامّة في حياة الخادم الحقيقي، متكاملة ومتلازمة: الحديث مع الله بقلب مفتوح، وخدمة الناس بحب داخلي منفتح مهما كانت تصرّفاتهم، والفرح الروحي الداخلي المشبع للنفس.

4. هذا السفر يمس حياة كل مؤمن، ففي الأصحاح الأول إذ يئن النبي بسبب الظلم الذي يسود وسط الشعب إنّما يُشير إلى الفساد الداخلي للنفس، والأصحاح الثاني إذ يئن بسبب متاعب الأمّة الكلدانيّة الغريبة يُشير إلى الحروب الروحيّة الخارجيّة، والأصحاح الثالث حيث مزمور الفرح والتسبيح... كان السفر ينطلق بالمؤمن إلى ما فوق المتاعب الداخليّة والحروب الروحيّة الخارجيّة لتحيا بروح الفرح والتسبيح لله. حقًا إنه يئن ويتوجّع بسبب الضيق الداخلي أو الخارجي لكنّه مع الضيق توجد تعزيات الروح القدس المبهجة للنفس.

5. عرض لنا هذا السفر مشكلة الشرّ وانتهت بنصرة العدل. فالأشرار يعبرون أما الأبرار فيحيون إن كانوا مؤمنين (2: 4). وقد استخدم الرسول بولس "قلب سفر حبقوق" هذا في تعليمه عن الإيمان (رو 1: 17، غلا 3: 11، عب 10: 38)[8].

6. خلال هذا السفر نتلمس شخصية حبقوق النبي كشخص عميق في تفكيره، له خبرته الأدبية المعتبرة، كما يقدّمه لنا "كمصارع مع الله" كقول القدّيس جيروم[9].

وحدة السفر:

هاجم بعض النقّاد وحدة السفر متطلّعين إلى السفر كأجزاء منفصلة، كل جزء كتب في وقت يختلف عن الجزء الآخر، أو عصر مختلف، وقد لخص رأي هؤلاء النقّاد والرد عليهم[10]:

1. لما كان ما جاء في (حب 1: 5-6) ينطبق على تاريخ سابق لقيام الكلدانيّين، بينما ما ورد في (1: 13-16، 2: 8 ( أ )، 10، 17) يتحدّث عن انتصاراتهم كأحداث ماضية لذا فإن  Wellhausen, Gieseberecht رأيا أن (حب 1: 5-11) يمثل نبوّة مستقلّة أقدّم من بقيّة الأصحاح الأول والأصحاح الثاني.

ويعتقد أن Kuenen, Stade أن ما جاء في (حب 2: 9-10) لا ينطبق على الكلدانيّين وأن كاتب هذا الجزء جاء في عصر متأخر.

ويردRaven  بأنه يُفترض أن كاتب السفر كله واحد، الحامل السفر اسمه ما لِم يوجد دليل قوي على عكس ذلك. وهنا لا نجد مثل ذلك الدليل. فليس المطلوب هو البرهان على أصالة كل جزء من السفر، إنّما على المعترض أن يُقدّم براهينه.

هذا ومن ناحيّة أخرى فإننا لا نعرف بطريقة إيجابيّة زمن حبقوق النبي بدقّة، وليس لدينا تفاصيل عن الأحداث التاريخية لأيّامه، لهذا فإن مجرد افتراض بأن بعض أجزاء السفر لا تعكس الظروف المحيطة بالنبي افتراض هزيل.

2. تطلّع بعض النقّاد إلى أن ما ورد في الأصحاح الثالث أنه مقتبس من تجميع ليتورجي، وليس من عمل حبقوق النبي، ودليلهم على ذلك أن ما ورد لا يُناسب الظروف المحيطة به. ويرد Raven على ذلك بأن الأصحاح حمل عنوانًا "صلاة حبقوق" فما ورد ليس إلا صلاة ولا يلتزم أن تعكس الأحداث المعاصرة كبقيّة السفر.

ومع هذا ففي حديثنا عن سمات السفر رأينا السفر يمثل وحدة واحدة متكاملة في الفكر الروحي الإيماني.

أقسامه:

1. سؤال حول تأديب الله شعبه                 [ص 1].

2. سؤال حول معاقبة الكلدانيّين                [ص 2].

3. مزمور حمد لله                             [ص 3].

<<


 

الأصحاح الأول

سؤال حول تأديب الله شعبه

في صراحة وبدالة يسأل حبقوق النبي الله عن الظلم الذي ساد وسط شعبه، فقد أحاط الأشرار بالبار وأساءوا إليه بظلمهم حتى جمدت الشريعة وصدرت الأحكام جائرة. والعجيب أن الأشرار يعيشون في راحة وبصحة بينما الأبرار في ضيقة وحرمان... وكأن الذي قد ترك الأرض (حز 8: 12). وجاءت الإجابة لحبقوق النبي واضحة وصريحة أن الله وإن تمهّل إنّما ليعطي الأشرار فرصة، لكنّه يُرسل لهم أداة تأديب قاسية إن لم يرجعوا عن شرّهم، هذه الأداة قد تكون أمّة وثنيّة تسبيهم وتذلّهم كالكلدانيّين:

1. تساؤل حبقوق النبي               [1-4].

2. التأديب بالكلدانيّين                 [5-11].

3. حبقوق يرق لشعبه               [12-17].

1. تساؤل حبقوق النبي:

في جسارة يصرخ النبي إلى الله، قائلاً أنه يدعوه وهو لا يسمع، يصرخ إليه مرّة ومرّات من أجل الظلم الذي ساد الشعب وهو لا يُخلّص المظلومين، فتحوّل شعب الله إلى بؤرة ظلم وجور واغتصاب وخصام، ليس من يريد أن يسمع للشريعة ولا من يقبل حكم عدل، إنّما حوّط الأشرار بالصدّيق ليكتموا أنفاسه ويخرجوا الحكم حسب هواهم.

"حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟!

أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟!

لِمَ تريني إثمًا وتبصر جورًا، وقدّامي اغتصاب وظلم،

ويحدّث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟!

لذلك جمدت الشريعة، لا يخرج الحكم البتّة،

لأن الشرّير يُحيط بالصدّيق، فلذلك يخرج الحكم معوجًا" [2-4].

في عتاب ودّي يقول: "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟!"، إذ لم يكف النبي عن دعوة الرب والصراخ إليه إن لم يكن باللسان فبالقلب والدموع بسبب مرارة ما بلغ إليه الشعب بسبب ظلم الأشرار، قارعًا أبواب مراحم الله بلسانه وقلبه ودموعه، مازجًا دموعه بدموع المظلومين وتنهّداته بتنهّداتهم!

في كل جيل يقف أولاد الله مندهشين بسبب ما يبدو على الأشرار الظالمين من نجاح، فيقولون مع داود النبي "قد رأيت الشرّير عاتيًا وارقًا مثل شجرة شارقة ناضرة، عبر فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36). لقد بلغت مرارة نفس إرميا بسبب ما رآه في شعبه من فساد وظلم أنه قال: "يا ليت ليّ في البريّة مبيت مسافرين فأترك شعبي وانطلق من عندهم" (إر 9: 2)، وإن كان إرميا في حبه لشعبه لم يتركهم بالرغم ممّا عاناه من ضيق على جميع المستويات.

نعود لكلمات حبقوق النبي لنجد فيها كشفًا عن شخصه، فهو رجل الله الذي لا يطيق الظلم، فيتحدّث مع إلهه في حوار مفتوح بلا كلفة ولا رسميّات أو مجاملات أو شكليّات، إنّما يتحدّث من واقع أنّات قلبه التي لا تنقطع ودموعه التي لا تجف. هذه هي صورة إنسان الله – كاهنًا أو من الشعب – لا تنقطع صلواته ليلاً ونهارًا بالشفتين، كما بالقلب والعمل... يصرخ لكي ينزع الله الفساد والظلم عن البشريّة الساقطة، فيُقيم كل نفس مقدّسة له. لذا يسأل ويطلب ويصرخ بلا انقطاع وفي غير يأس، واثقًا أن الله قادر أن يعمل! هذا وقد عرف النبي سرّ شرّهم أنه يكمن في الانحراف عن الوصيّة الإلهيّة أو الشريعة، إذ يقول "جمدت الشريعة، لا يخرج الحكم البتّة، لأن الشرّير يُحيط بالصدّيق فيخرج الحكم معوجًا" [4]. فالشريعة التي تلهب القلب نارًا وتهبه حياة تصير جامدة بلا فاعليّة إن أحاط الأشرار بالصدّيق وأفسدوا فكره من جهة الوصيّة.

إن كان رجال الله في كل العصور صرخوا إلى الرب من أجل ما يرونه في الأشرار الظالمين كعابثين في الأرض، بينما يعيش الأبرار في ضيق ومرارة، لكنهم إذ قدّموا أفكارهم وقلوبهم منفتحة أمام الرب ازدادوا في عيني الله كرامة، أما من ينظر هذا الحال ويستسلّم لأفكار الشك من جهة رعاية الله وتدبيره للعالم فتُصاب نفسه بمرض. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إن الكتاب المقدس يُقدّم المزمور السابع والثلاثين كعلاج مناسب لمن أُصيبت نفسه بهذا المرض[11]. في اختصار يؤكّد هذا المزمور أن الأشرار يعيشون كالعشب على هامش السطح، يظهرون ناجحين في شتاء هذا العالم، لكن الصيف قادم فيجفّون ويحترقون إذ لا جذور لهم في أعماق التربة.

2. التأديب بالكلدانيّين:

جاءت إجابة الرب على تساؤل النبي هكذا: "أنظروا بين الأمم وابصروا وتحيّروا حيرة، لأني عامل عملاً في أيّامكم لا تصدّقون به إن أُخبر به: فهأنذا مقيم الكلدانيّين..." [5-6].

حقًا إن الله يصمت زمانًا لا تجاهلاً لما يحدُّث ولا لعدم اهتمام من جانبه، إنّما ليعطي فرصة لرجوع دون تأديب من جانبه، فإن لم يرجع الإنسان عن شرّه يقوم الرب نفسه بالتأديب، مستخدمًا كل وسيله للبنيان.

أ. إن الله عامل عملاً في أيّامهم لا يصدّقون به إن أُخبر به... فهو يطيل أناته، لكنّه متى أدّب يُقدّم درسًا نافعًا حتى وإن كان قاسيًا. وكما جاء في سفر التثنية: "ويقول جميع الأمم: لماذا فعل الرب هكذا بهذه الأرض؟ لماذا حموّ هذا الغضب العظيم؟ فيقولون: لأنهم تركوا عهد الرب إله آبائهم" (تث 29: 24-25). وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يكن الله يقصد أن يعاقب بقدر ما كان يقصد إصلاحهم مستقبلاً... الله صالح ومحب، ليس فقط عندما يهب عطايا بل وعندما يؤدّبنا أيضًا، فإنه حتى تأديباته وعقوباته هي من قبيل جوده، ومظهر عظيم من مظاهر عونه لنا[12]]. كما يقول إن كان الله قد طرد آدم من الفردوس، إنّما لكي بطرده يردّه إليه... وهكذا إن كان الله سمح للشعب بالأسر إنّما ليبعث فيهم الشوق إلى الحريّة الداخليّة والحنين لا إلى الرجوع إلى أورشليم الأرضيّة فحسب وإنّما العليا أيضًا.

ب. يقول: "هأنذا مقيم الكلدانيّين"، فهو سيّد التاريخ وموجّهة، يستخدم حتى الأشرار لتحقيق خطّته الإلهيّة الخيّرة للبشريّة. إن الكلدانيّون بحبهم للاغتصاب سبوا الشعب، لكن بسماح إلهي لأجل توبة الشعب، وكأن الله أقام الكلدانيّين خصيصًا لهذا العمل.

ج. يُشير الكلدانيّين إلى عدوّ الخير الذي نسلم له أنفسنا بأنفسنا عبيدًا بسبب خطايانا ويحمينا الرب منه مرّة ومرّات حتى لا نسقط تحت مذلّته، لكنّنا إذ نصر على الخضوع له يتركنا الرب تحت يديه لتأديبنا. بهذا الروح يطلب القدّيس بولس الرسول من أهل كورنثوس أن يتركوا الشاب الذي سقط مع امرأة أبيه مسلّمًا للشيطان أن يُسلّم للتأديب، قائلاً: "باسم ربّنا يسوع المسيح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوّة ربّنا يسوع المسيح أن يُسلّم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 4).

وقد جاءت سمات أمّة الكلدانيّين هنا مطابقة لسمات عدوّ الخير وعمله ضدّنا:

أولاً: "أمّة مرّة" [6]

عدوّ الخير ليس كائنًا فردًا لكنّه أمة، أي مملكة يتزعّمها إبليس كملك له رؤساء وسلاطين وقوات (أف 6: 12)، له ملائكته وجنوده (مت 25: 41)، وهي مملكة مرّة تقدّم من عنديّاتها ما لها أي المرارة، تُسرّ وتفرح بمصائب الآخرين وهلاكهم، غايتها الهدم لا البنيان.

ثانيًا: قاحمة:

كان الكلدانيّين موضوع مرارة كل الأمم المحيطة بهم، لا يعرفون الملاطفة ولا عهود السلام بل الهجوم والمقاتلة. بهذا كانوا أمّة قاحمة تنقض على الآخرين لتأسرهم وتذلّهم. هكذا إبليس بكل ملائكته يقتحمون أبواب الإنسان لاستعباده وإذلاله، ليعمل لحسابهم. إنهم يتربّصون له ليقتحموا بسرعة اللحظات التي فيها تنفتح أبواب الحواس أو العواطف، فيهجموا إلى الداخل ليعلنوا مملكتهم فيها. لهذا يصرخ المرتل: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ" حتى لا يقتحم العدوّ حياته.

ثالثًا: سالكة في رحاب الأرض:

كانت أمّة الكلدانيّين تجول في كل موضع لتستولى على شعوب وممالك بلا عائق، تجول كما في الأرض كلها لتلتهم الجميع، لكنّها لا تقدر أن ترتفع إلى فوق لتذل من هم قد ارتفعوا عن الأرض. هكذا يرى عدوّ الخير أن الأرض كلها قد انفتحت قدّامه، يسلك في رحابها، حتى دُعي برئيس هذا العالم أو أركونه.

حدود عدوّ الخير هي "رحاب الأرض"، فهو كما يقول القدّيس جيروم: [كالحية يزحف على الأرض برأسه وذيله وبقيّة جسمه، ملاصق للأرض تمامًا[13]. إنه يلتهم التراب، فمن كان منّا أرضًا أو ترابيًا صار مأكلاً له، أما من ارتفع بقلبه إلى السماء ليمارس الحياة العلويّة دون أن تسحبه محبّة الأرضيّات فلا يقدر العدوّ أن يقتنصه!

رابعًا: تملك مساكن ليست لها:

كان الكلدانيّين يعتدون على أموال الغير ونفوسهم، حاسبين أن كل شيء هو لهم وحدهم، من حقّهم أن يغتصبوا ويملكوا بلا عائق، ماداموا أصحاب القوّة والسلطان. هكذا يسطو عدوّ الخير على البشريّة التي ليست من عمل يديه ولا هي ملكه، بل هي ملك ذاك الذي "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). طبيعة عدوّ الخير السطو على ما لله ليقيم مسكنه ومملكته في القلب الذي أوجده له ليكون هيكلاً مقدسًا له.

لقد عبّر إرميا النبي عن هذه السمة الشيطانيّة بالمثل القائل: "حجلة تحتضن ما لم تبض، مُحصّل الغنى بغير حق، في نصف أيّامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق" (إر 17: 11). ويفسر العلامة أوريجانوس هذا المثل قائلاً: [إن الحجلة وقد عرفت كطائر ماكر تدور حول قدميّ الصيّاد لينشغل بها حتى تطمئن أن صغارها قد هربوا، وعندئذ تطير فلا يأخذ الصيّاد الصغار ولا أمهم، بهذا تشبه الشيطان الذي يشغل ذهن الإنسان بالأرضيّات فلا ينال الأرضيّات ولا السماويات. هذا الحجلة غالبًا ما تحتضن بيضًا ليس لها، وعندما يفرخ البيض يبقى الصغار معها حتى تأتي الأم الأصليّة فتُعطي صوتًا يفهمه الصغار فيتركون الحجلة المخادعة ويرجعون إلى أمهم. إنها صورة حيّة لما حدث، إذ احتضن إبليس البشريّة كصغار له وأغواها بخداعاته، لكن في نصف أيّامه جاء السيّد المسيح يُعطي صوت محبّته معلنًا إيّاه عمليًا على الصليب، مجتذبًا البشريّة المخدوعة لترجع إلى خالقها الحقيقي، فخسر إبليس ما اقتناه بدون حق، أما في آخر الدهور فيكون أحمقًا إذ يهلك تمامًا في نيران جهنم[14].

إذ كان إبليس كالكلدانيّين ملكوا مساكن ليست لهم أو كالحجلة التي احتضنت مالم تبض فإنه يخسر كل شيء حتى نفسه خلال الصليب الذي ردّ المؤمنين إلى خالقهم ومخلّصهم والذي أدان إبليس وكل جنوده وقد رفعه من الوسط مسمّرًا إيّاه بالصليب، إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافراً بهم فيه" (كو 2: 15).

خامسًا: هائلة ومخوفة:

عدوّ الخير مرهب ومخيف للإنسان المجرّد، أما المختفي في المسيح يسوع الذي "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2)، فلا يستطيع أن يرهبه بل يرتعب هو منه. لنختفِ في ذاك الذي يقدر وحده "أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته" (مت 12: 19). إن كان العدوّ قويًا فقد ربطه السيّد بالصليب وسحب منه غنائمه التي هي البشريّة، وصار الرب بنفسه قائد المعركة الروحيّة. يقول الأب ثيوفان الناسك: [اعلم أن أعداءنا وكل مكائدهم في قبضة ربّنا يسوع المسيح، قائدنا الإلهي، الذي تُحارب أنت من أجل مجده وعظمته. وإذ يقودك في المعركة بذاته، فهو بالتأكيد لا يسمح باستخدام العنف ضدّك، ولا يشاء أن تكون مغلوبًا من العدو، مالم تمل أنت إلى جانبهم بإرادتك[15]].

سادسًا: من قبل نفسها يخرج حكمها وجلالها:

أمّة الكلدانيّين مستبدّة برأيها، لا تخضع لقانون سوى هواها، وعدوّ الخير في تعامله معنا لا يحكمه سوى هواه، فالنقاش معه غير مُجدٍِ. لهذا ينصحنا آباء الكنيسة ألاَّ نعطي أذنًا لكلماته ولا ندخل معه في حوار، لأنه حواره مملوء خداعًا وغير بنّاء.

سابعًا: خيلها أسرع من النمور:

في هذا الأصحاح يُقدّم لنا الوحي الإلهي صورة حيّة واقعيّة لبشاعة العدوّ الحقيقي، إبليس، الذي يبذل كل طاقاته ليستعبدنا:

فمن جهة سرعة حرّكته في الافتراس أسرع من النمور،

وفي دهائه يعمل في الظلمة أعنف من ذئاب المساء،

دائرة عمله بلا حدود، منتشر في كل موضع ينصب شباكه،

إمكانيّاته جبّارة، قادر أن يأتي من بعيد لينقض على فريسته من حيث لا نتوقع،

قدرته على الاغتصاب والهرب كالنسر الذي يخطف الفريسة ويطير بها،

دستوره هو شريعة الظلم بلا رحمة ولا تفاهم،

في طبيعته حيواني مفترس وجهه إلى قدام كالوحوش،

مسبيّوه كالرمل بلا عدد،

يذل الملك ويهزأ بالرؤساء، قتلاه أقوياء،

يُحطّم الحصون ويكوّمها كتراب يستخدمه لحساب مملكته،

أثيم بطبيعته.

والآن نتحدّث عن هذه السمات في شيء من التفصيل، فمن جهة سرعة حرّكته في الافتراس كما قلنا أسرع من النمور. فهو سريع الحرّكة، مملوء مكرًا ودهاءً، يقتنص كل فرصة لاصطياد النفس، مترقّبًا أقل إهمال أو تراخي لسحب النفس إلى شبكته. والمؤمنون بدورهم يقظون ينتهزون كل فرصة للنمو والتمتّع بالإكليل... الحياة الروحيّة في حقيقتها انتهاز فرص، العدوّ ينتهز الفرصة والمؤمن ينتهز الفرصة. إنه صراع روحي مستمرّ لبلوغ كل منهما غايته. يمكننا تلمّس ذلك من كلمات القدّيس أغناطيوس الأنطاكي الذي أسرع بالكتابة إلى أهل رومية ليوقف خطّتهم التي وضعوها لإنقاذه من الاستشهاد، إذ حسب ذلك محبّة لكن في غير أوانها... حسب استشهاده فرصة قد لا تتكرّر فلماذا يحرمونه منها؟! إنه يقول: [أطلب إليكم ألاَّ تظهروا ليّ عطفًا في غير أوانه، بل اسمحوا ليّ أن أكون طعامًا للوحوش الضارية، التي بواسطتها يوهب ليّ البلوغ إلى الله. إنني خبز الله، اتركوني أطحن بأنياب الوحوش لتصير قبرًا ليّ، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما متّ لا أتعب أحدًا... توسّلوا إلى المسيح من أجلي حتى أعد بهذه الطريقة لأكون ذبيحة لله... ليتني أتمتّع بالوحوش الضارية التي أُعدّت ليّ، فإنني أُصلي أن يكون لها شغفًا أكثر لتنقض عليّ، وإنني سأُحرّضها لتفترسني سريعًا[16]].

ثامنًا: أحّد من ذئاب المساء:

 إن كان إبليس يتحرّك في النهار كالنمر في خفّة شديدة مع دهاء، ففي المساء لا يتوقّف إنّما يخرج كذئاب المساء ليخطف. إنه لا يعرف الراحة نهارًا ولا ليلاً، لذا يليق بنا المثابرة بلا توقّف... حتى في لحظات النوم تقول نفوسنا: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 5: 2).

يرى الأب ثيوفان الناسك أن المؤمن ليس فقط يُثابر متحفظًا من ضربات الشيطان، إنّما بقوّة الروح يُثير الحرب ضدّه ليغتصب منه كل موقع سبق فاحتله داخل القلب، إذ يقول: [إن أردت يا أخي أن تنال انتصارًا سريعًا وميسورًا على أعدائك، عليك أن تشن حربًا بلا توقّف، وبشجاعة ضدّ كل أوجاعك... لذا يجب أن تكون محاربتنا الروحيّة مستمرّة بلا توقّف، ومدعّمة باليقظة وشجاعة النفس، وهذه يمكن الوصول إليها بسهولة إن طلبتها كهبة من الله. فاستمر إذن في المعركة بلا تردّد[17]].

إنه كذئاب المساء يعمل في الظلمة ليخفي حيله ومكائده (أف 6: 11). وكما يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [يُحاربنا هذا العدوّ لا بطريق مكشوف وواضح وإنّما بالمكايد... فلا يقترح علينا الخطايا بألوانها الحقيقيّة... وإنّما يُقدّمها بثوب آخر ليجعل حديثه مقبولاً ومتنكر[18]].

تاسعًا: فرسانها ينتشرون، يأتون من بعيد:

ينصب عدوّ الخير فخاخه في كل موضع، باذلاً كل طاقاته لاصطياد النفوس حتى وإن كان الإنسان في موضع مقدّس. لقد تجرّأ فحارب السيّد المسيح على جناح الهيكل، وقد سمح له الرب بذلك ليُحذرنا، مؤكدًا لنا أن العدوّ يُحارب في كل موضع، في البيت كما في العمل، في الكنيسة كما في الشارع، في المخدع حيث الصلاة الخاصة وأثناء العبادة الجماعيّة. أينما وجدنا يتسلّل نحونا لعلّه يجد موضعًا في قلوبنا.

أما كونه يأتي من بعيد، فإنّما يعني أنه يُحاربنا من حيث لا نتوقع. لذا يليق بنا أن تكون لنا بصيرة روحيّة متّقدة، تدرك أسرار الحرب الروحيّة وتعرف حيل إبليس وخداعاته.

عاشرًا: فرسانها يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل:

 يقول العلامة أوريجانوس: [إن النسر يستطيع أن يرى فريسته وهو على بعد شاهق، فبسرعة خاطفة ينقض عليها ويطير، ولا يقدر أحد أن يسحبها من مخالبه. هكذا فرسان إبليس أو شياطينه تراقب النفس لتعرف متى تنقض عليها بسرعة فائقة وخلال المفاجأة المذهلة ينحدر الإنسان إلى الخطيّة في فترة قصيرة ليجد نفسه قد خسر الكثير. إن كان البناء يحتاج إلى زمن طويل فالهدم يتم في لحظات بسيطة، وإن كانت الفضائل المقدسة تتطلب جهاد طويل في الرب فإن هدمها يتحقّق في لحظات إهمال بسيطة]. وكما يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [بإن ضربة سيف خاطفة لا تستغرق إلا لحظات تجرح الإنسان ليُعالج منها ربّما لسنوات وقد تقضي على حياته. فالعدوّ يضرب بسيفه في لحظات إهمالنا... لكن هذه اللحظات تفسد جهاد سنوات طويلة!].

حادي عشر: يأتون كلهم للظلم [9]:

شريعة إبليس أو دستوره الذي يعمل به هو "شريعة الظلم"، لا يطلب إلاَّ حرماننا من الخير الأعظم، وسحبنا عن الحياة السماويّة حتى لا نرتبط بالشريعة الإلهيّة أو الحق. يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم عن الشياطين: [إنها لا تُصارع لتنال شيئًا، إنّما لكي تُفسدنا نحن... فالشيطان يبذل كل طاقته لكي يطردنا من السماء[19]].

ثاني عشر: منظر وجوههم إلى الأمام:

ربّما يقصد بهذا أنهم ليسوا كالبشر لهم الوجه المرتفع الذي يطلب السماء، وإنّما لهم سمة الوحوش الضارية التي تمتد بوجوهها لتفترس بلا حنو ولا شفقة!

ثالث عشر: يجمعون سبيًا كالرمل:

يصطاد إبليس النفوس بلا عدد، ويسبيها كالرمل، فقد لقب بـ "رئيس هذا العالم" و"رئيس سلطان الهواء الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2). يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [لماذا يدعو (الرسول) الشيطان برئيس العالم؟ لأنه قد التفت البشريّة كلها تقريبًا حوله، وصاروا عبيدًا له بإرادتهم ومحض اختيارهم].

رابع عشر: تسخر من الملوك، والرؤساء ضحكة لهم [10]:

في كل مرة يسقط الشعب تحت السبيّ يُذل الملك ويصير العظماء موضوع سخرية وهزء أمام المنتصرين، فعندما سبى نبوخذ نصر أورشليم ومدن يهوذا أمر بقتل أولاد الملك صدقيا قدام عينيه، وفقأ عينى الملك وحمله إلى بابل للسخرية به. هكذا إذ يسقط مؤمن تحت يديّ عدوّ الخير بسبب استهتاره أو تراخيه يسخر به.

إن كنّا في المسيح يسوع ملك الملوك صرنا ملوكًا روحيين (رؤ 1: 6، 5: 10)، فإن إبليس يبذل كل طاقاته ليأسرنا مستهينًا بنا.

في دراستنا لسفر هوشع رأينا أن الملك يشير للإرادة الإنسانيّة التي تملك على الإنسان لتُدير كل أموره، والرؤساء يشيرون إلى طاقات الإنسان ومواهبه... فإنه إذ يأسر العدوّ إنسانًا يسخر من إرادته البشريّة، إذ يفقده إيّاها ليعيش بقيّة حياته كعبد ذليل يفعل إرادة سيّده الجديد (الشيطان)، ويبدّد مواهبه وطاقاته (الرؤساء) ليجعل منهم هزءًا وسخرية! عدوّ الخير يفقد الإنسان كل شيء: إرادته ومواهبه وطاقاته حتى جسده أيضًا، وأخيرًا يحمل معه إلى حيث الهلاك الدائم.

خامس عشر: تضحك على كل حصن:

 لم يكن للحصون أن تقف أمام أمّة الكلدانيّين، وهكذا أيضًا لا يستطيع أحد أن يتحصّن لا بخبراته الطويلة ولا بقدراته ومواهبه ولا بمعرفته الفكريّة العقلانيّة ولا بكرامته أو نوعيّة عمله... إذ يضحك إبليس على هذه الحصون، إنّما يبقى حصن واحد إن تمنعنا لا يقدر على الاقتراب إليه، ألاَّ وهو السيّد المسيح صخر الدهور.

يقول القدّيس جيروم: [إن السيّد المسيح هو الصخرة (1 كو10: 4) الملساء التي لا تقدر الحيّة أن تزحف عليها، فمن يتحصّن فيّه يحتمي من العدو، الحيّة القديمة].

سادس عشر: تكوّم التراب وتأخذه:

 إمعانًا في الإذلال يهدم العدوّ الحصن الشامخ ويحوله إلى تراب ثم يعود العدوّ ويستخدم التراب لحساب مملكته أي لصالحه. أقول إنها صورة مرّة لعمل إبليس في حياة المأسورين بواسطته، يحول حياتهم إلى تراب، إذ يسحب قلوبهم إلى الأرض، ويفسد طبيعتهم... وعندئذ يستخدم هذا التراب كأوان خزفيّة تحمل سماته لاصطياد الآخرين.

إن كان العدوّ قد سقط من السماء، فهو لا يكف عن أن يبذل كل طاقاته لا ليحرم ضحيّته من الحياة السماويّة وينحدر به إلى محبّة الأرضيّات، وإنّما يستخدمه أيضًا لإسقاط الآخرين وحرمانهم من السموات التي في داخلهم.

سابع عشر: تتعدّى روحها فتعبر، هذه قوّة إلهها [11]:

 تتعدّى روحها أو تتغيّر إلى ما هو أردأ أو أشر، فتعبر من شر إلى شر، ومن إثم إلى إثم... متطلّعين إلى إثمهم واغتصابهم كقوّة إلههم الذي يهبهم النصرة على الشعوب. لقد حسبوا أن آلهتهم أقوى من إله إسرائيل، فازدادوا تمسكًا بوثنيّتهم واعتزازًا بها.

3. حبقوق يرق لشعبه:

حبقوق النبي الذي امتلأ غيرة على مجد الله فصار يصرخ ويئن متسائلاً: لماذا يسكت الله على الأشرار المحيطين بالصدّيق يفسدون فكره وحياته، إذا به يرى بروح النبوّة سقوط الشعب اليهودي المتّسم بالظلم في ذلك الحين يسقط تحت عبوديّة الكلدانيّين المرّة فلم يحتمل. وبقدر ما اتّسم النبي بانفتاح قلبه نحو الله يحدّثه بصراحة ودالة في غير رسميّات أو شكليّات اتسم أيضًا بالحب لشعبه فلم يحتمل أن يراه متألمًا بواسطة أمّة شرّيرة وقاسية، حتى وإن كان هذا بسماح إلهي للتأديب، إنه لا يحتمل أنّات إخوته ومرارتهم، وكأنه يقول مع إرميا النبي: "من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة" (إر 8: 21).

حقًا، الله هو الذي يسمح بتأديب أولاده على خطاياهم، لكنّه وهو يؤدّب لا يقبل أن يشمت أحد فيهم، بل يُطالبنا أن نئن مع أنّاتهم ونصرخ لأوجاعهم وننسحق مع انسحاقهم. لقد أدّب الله يهوذا بالسبيّ البابلي وإذ وقف بنو أدوم شامتين وبّخهم قائلاً: "يجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته، ولا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم الضيق" (عو 12).

إذ يرق حبقوق لشعبه الساقط تحت نير الكلدانيّين يُعاتب الله قائلاً: "ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي؟!" [12]. وكأنه يقول: كيف تحتمل يا رب أن ترى الكلدانيّين الأمّة الشرّيرة تنهب شعبك وتظلمهم وأنت صامت، مع أنك القدوس الذي لا يطيق الشر؟! أنت إلهي الملتزم بسلامي وطمأنينتي لا من جهة نفسي فحسب وإنّما من جهة الشعب كله أيضًا. إن كنت إلهي المهتم بيّ أفلا تهتم أنت بشعبك؟!

ما أجمل مشاعر النبي ففي لحظات العتاب المرّة ينادي الرب "إلهي، قدوسي"، وكأنه في ضيقة نفسه يجد الرب ملاصقًا له، يهتم به ويحتضنه منسوبًا إليه، فهو إلهه هو وقدوسه هو!

لنعاتب الرب بكل مرارة، لكن في عتابنا نرى التصاقه بنا ونسبه إلينا فنلتصق بالأكثر به ونرتمى في أحضانه مؤمنين بعمله معنا وفينا.

حينما ينفتح قلبنا بالحب نحو الآخرين ونشفع فيهم أو نطلب عنهم يصير الرب منسوبًا لنا، إذ يُلاصق المحبّين ويفخر بأولاده المُتسعة قلوبهم!

يُكمل النبي عتابه، قائلاً: "لا نموت، يا رب للحكم جعلتها، ويا صخر للتأديب أسستها" [12].

يقول النبي: "لا نموت"، فقد أدرك أن الرب إلهه وقدوسه الأزلي في محبته لشعبه يسكب سماته عليهم، إذ هو أزلي فوق حدود الزمان يهب أولاده "الخلود"، لن يموتوا... وإن كانوا في شرّهم يستحقون الموت، لكن في الرب الحيّ يحيون. يقول السيّد الرب: "إنيّ أنا حيّ فأنتم ستحيون" (يو 14: 19). لقد أسلمهم للكلدانيّين للتأديب، لكن كما يقول المرتل: "تأديبًا أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني" (مز 118: 18).

الله وهب الكلدانيّين السلطة أن يؤدّبوا الشعب، وأن "يغتنموا غنيمة وينهبوا نهبًا" (إش 10: 6)، لكن ليس سلطة بلا حدود بل بالقدر الذي يرى الله فيه خلاص شعبه، لذا يقول النبي: "يا رب للحكم جعلتها، ويا صخر للتأديب أسستها"، فحدود السلطان هو أن يكون عملهم واغتصابهم للتأديب والحكم وليس للهلاك. لهذا عندما سأل الشيطان الرب أن يسمح له بمضايقة أيوب، أجابه الرب: "ها هو في يديك ولكن احفظ نفسه" (أي 2: 7). يقول الرب للبحر: "إلى هنا تأتي ولا تتعدّى، وهنا تخم كبرياء لججك" (أي 38: 11)، فهو يسمح له يتدفّق ولكن إلى حدود وضعها له.

وبالنسبة لنا إن كان الله يسمح للشيطان بمهاجمتنا لكن في حدود، بهجومه نغلب إن كنا يقظين وشاكرين، فتتحوّل الحرب إلى غلبة ونصرة، وإن تراخينا وأهملنا فلا يكون الشيطان غلة أذيّتنا بل نحن السبب، وكما يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [قد يقول قائل: ألم يؤذ آدم إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟ لا، وإنّما السبب في هذا هو إهمال من أصابه الضرر، وعدم ضبطه لنفسه وجهاده. فالشيطان الذي استخدم مكائد قويّة مختلفة لم يقدر أن يخضع أيوب، فكيف استطاع بوسيلة أقل أن يُسيطر على آدم؟![20]].

في الوقت الذي يعلن فيه النبي طمأنينته أن الله إلهه القدوس الأزلي لن يسمح للشعب بالموت، إنّما يستخدم الكلدانيّين للتأديب، يعود فيعاتب: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا نستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرّير من هو أبر منه؟!" [13].

يعلم النبي حبقوق ما قاله داود المرتل: "لأنك أنت لست إلهًا يُسر بالشر، لا يُساكنك الشرّير" (مز 5: 4)، ويدرك ما أدركه إرميا أن الله يبغض الرجس (إر 44: 4)، لكنّه كان في حيرة كيف يصمت أمام ما يفعله الكلدانيّون الأشرار بشعبه ويتطلّع إلى الظلم فقد ابتلع الشرّير من هو أبرّ منه. وهنا لا يقول ابتلع "البار" لأن الشعب كان شريرًا، ولكن إن قورن بالكلدانيّين فهم أبر منهم.

لعلّ كلمة "تنظر" أو "تتطلّع" هنا لا تعني مجرد الرؤية، فالله عالم بكل شيء، وليس شيء مخفيًا عنه، لا يحتاج أن ينظر ليرى، وإنّما يقصد بذلك أنه يرضى على تصرّفاتهم وينجح طرقهم. فنظرة الله إلينا إنّما تعني اهتمامه بنا وإنجاحه طريقنا.

بدأ النبي يبرز سمات هؤلاء الكلدانيّين الأشرار الذين أنجح الرب طريقهم إلى حين:

"وتجعل الناس كسمك البحر كدبّابات لا سلطان لها،

تطلّع الكل بشصها، وتصطادهم بشبكتها، وتجمعهم في مصيدتها.

فلذلك تفرح وتبتهج.

لذلك تذبح لشبكتها، وتبخر لمصيدتها،

لأنه بها سمن نصيبها، وطعامها مسمّن (من الصفوة - الترجمة السبعينيّة)

أفلأجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الأمم دائمًا" [14-17].

 لقد تطلّعوا إلى الشعوب الأخرى كسمك في البحر بلا مالك من حقّهم أن يصطادوا ما يشاءون ليأكلوا ويشبعوا، وكدبّابات لا سلطان لها بلا ثمن يفعلون بها ما يريدون. إنهم يفرحون ويبتهجون حينما يأتي الشص بسمكة أو تجمع شباكهم الكثير ويسقط الناس في مصيدتهم... يفرحون بالصيد البشري مقدّمين ذبائح وثنيّة وبخورًا لآلهتهم الواهبة لهم هذا الصيد الثمين. كأن النبي يقول للرب: أتقبل أن يكون شعبك سمكًا بلا ثمن في شباك وثنيّة، يلتهمه الأشرار مقدّمين ذبائح شكر للأصنام وبخورًا أمام الأوثان؟! إن شعبك - بالرغم مما بلغ إليه من انحراف - لكنّه ثمين في عينيك، فكيف تتركه صيدًا لهؤلاء الكلدانيّين؟!

تفرح أمّة الكلدانيّون بصيد هذا الشعب أكثر من اصطيادها أي شعب آخر، إذ يقول النبي: "لأن بهما (بالشص والشبكة) سمن نصيبها وطعامها مسمن"، أو كما يقول في الترجمة السبعينيّة "طعامها من الصفوة Choicest"، فهي لا تفرح إلا بالصيد المختار. هكذا يصوّب إبليس سهامه بالأكثر على أفضل المؤمنين ليسحبهم من إيمانهم وكما يقول القدّيس جيروم: [لا يهتم الشيطان بغير المؤمنين إذ هم في الخارج... إنّما يريد أن يفسد كنيسة المسيح[21]]

والعجيب أن العدوّ إبليس كالكلدانيّين كلما سمن نصيبه ازدادت شراهته والتهب قلبه بالأكثر لاصطياد آخرين، إذ قيل: "أفلأجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الأمم دائمًا.

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني

معَاقبَة الكلدانيّين

إذ سأل النبي الرب عن موقفه تجاه الكلدانيّين الذين استخدمهم الرب كعصا غضبه لتأديب شعبه فإذا بهم يُحسبون أنهم غالبون الأمم بقوتهم واقتدارهم كحق لهم... قدّم له الرب إجابة مطمئنّة:

          1. ترقب النبي إجابة الرب                     [1].

          2. اهتمام الرب بالسؤال                       [2-3].

          3. معاقبة الكلدانيّين

                   أولاً: الكبرياء والفراغ الداخلي        [4-8].

                   ثانيًا: الربح القبيح                     [9-11].

                   ثالثًا: العنف                           [12-14].

                   رابعًا: السكر                          [15-17].

                   خامسًا: الوثنيّة                       [18-20].

1. ترقب النبي إجابة الرب:

"على مرصدي أقف، وعلى حصن أنتصب، وأُراقب لأرى ماذا يقول ليّ، وماذا أُجيب على شكواي؟!" [1].

كثيرًا ما تدور في أفكارنا تساؤلات يليق بنا لا أن نعرضها على الرب فحسب، وإنّما نقف كما على مرصد نترقب إجابة الرب علينا، نقف كما على حصن مطمئنّين بإيمان وثقة أكيدة أن الله محب البشر لا يخفي أسراره عنّا، ولا يعمل إلا ما هو لبنيانا. هكذا وقف النبي بعد تقديم تساؤله على المرصد ينتظر سماع صوت الرب داخله، وعلى الحصن يحتمي فيه حتى لا يتحوّل التساؤل إلى زعزعة إيمان. هذا المرصد وهذا الحصن ما هما إلا شخص ربّنا يسوع، به نتفهم الأسرار الإلهيّة الفائقة كما من خلال مرصد فائق، وفيه نتحصّن بكونه الصخرة الحقيقيّة التي عليها تأسّست الكنيسة وفيها نحتمي. إنه المرصد الذي بدونه لا نعرف الآب إذ يقول: "لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27). وهو الصخرة التي تحتمي فيها الكنيسة كحمامة وديعة يُناديها: "يا حمامتي في محاجئ الصخرة في ستر المعاقل أريني وجهك أسمعيني صوتك" (نش 2: 14).

ويرى القدّيس جيروم[22] أن حبقوق إذ يقف كما على مرصد ليُراقب وينتصب، وكما في برج يتحصّن، إنّما يقوم بهذا الدور كجندي روحي يُصارع ضدّ إبليس بلا استسلام، يتأمّل أعمال الله وأسراره خاصة بالصليب فيمتلئ قوّة للحرب الروحيّة ضدّ الشر.

2. اهتمام الرب بالسؤال:

ما دامت النفس تطلب وتقف لترصد كلمات الرب واستجابة، محتمية فيه كحصن لها، منتصبة للجهاد الروحي خلال المعرفة الإلهيّة، فإنه بدوره لا يبخل عليها إذ يقول النبي: "فأجابني الرب وقال: أكتب الرؤيا وأُنقشها على الألواح لكي يركض قارئها لأن الرؤيا إلى ميعاد، وفي النهاية تتكلّم ولا تكذب، وإن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتيانًا ولا تتأخر" [2-3].

كأن الرب يطالبه لا أن يأتي إليه بقلم وورقة ليكتب ما يراه ويسمعه، إنّما الحاجة إلى ألواح يٌنقش عليها كلمة الله بخط واضح تجتذب ناظرها فيأتي راكضًا إليها... هذا ووضوح الخط يُمكَّن حتى الذين يجرون أن يقرءوها[23]. في إشعياء قيل: "تعال الآن أكتب هذا عندهم على لوح وأرسمه في سفر ليكون لزمن آت للأبد" (إش 30: 8). هذا وأن الرؤيا قد لا تتحقّق فورًا إنّما في الميعاد المحدّد في ملء الزمان، لذا يليق بالنبي أن ينتظر واثقًا أنها حادثة لا محالة حتى وإن بدت متأخرة.

ما هذه الرؤيا التي يتحدّث عنها هنا إلا تلك الخاصة بسرّ الصليب الذي يتحقّق في ملء الزمان حين يتجسّد كلمة الله، هذا الذي سجّل المحبّة الإلهيّة بدمه المبذول لا بحبر وورق وإنّما رسمه على لوحي الصليب أو عارضتيه الطوليّة والعرضيّة، مجتذبًا الكل إليه.

لنركض بالروح القدس إلى الصليب لنقرأ ما قد نقشه الابن الوحيد الجنس معلنًا لنا الأسرار الإلهيّة الفائقة! هنا لا نجد الكلدانيّين الأشرار يهلكون وإنّما إبليس ذاته وكل شيّاطينه قد انهاروا تمامًا وتحطّم كل سلطان اختلسوه.

3. معاقبة الكلدانيّين:

إذ يرفع الرب نبيه حبقوق إلى الرؤيا الخاصة بالصليب محطّم مملكة إبليس يعود فيكشف أعمال إبليس في حياة الكلدانيّين الأشرار هذه التي يُحطّمها الصليب. وكأنه يكشف لنا الغرس الشرّير الذي لم يغرسه الآب بل هو من زرع عدوّ الخير، هذا الذي قال عنه السيّد إنه يجب أن يُقلع (مت 15: 13) هذه الغروس الشرّيرة التي يُحطّمها هي:

أولاً: الكبرياء والفراغ الداخلي:

"هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه، والبار بالإيمان يحيا، وحقًا إن الخمر غادرة. الرجل المتكبر لا يهدأ" [4-5].

إن كان الله قد سمح بتأديب شعبه بواسطة الكلدانيّين الوثنيين، فقد تعجّرف الكلدانيّون وظنّوا أنهم بقدرتهم واقتدارهم غلبوا انتصروا. لذلك يُحقّق الله غايته بهم أي تأديبه أولاده ليعود فيُعاقبهم على كبرياء قلبهم. وكما قيل بإشعياء النبي عن أشور أنه قضيب غضب الله وعصاهم في يدهم هي سخطه (إش 10: 5)، يُحقّق بهم غايته... فيكون متى أكمل السيّد عمله بجبل صهيون وبأورشليم أني أُعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه، لأنه قال: بقدرة يديّ صنعت وبحكمتيّ لأني فهيم، ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحَططت الملوك كبطل، فأصابت يديّ ثروة الشعوب، كعش وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض، ولم يكن مُرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف. هل يفتخر الفأس على القاطع بها، أو يتكبّر المنشار على مردّده؟! كأن القضيب يُحرّك رافعه، كأن العصا تُرفع من ليس هو عودًا" (إش 10: 12-15).

هذا هو عمل إبليس في حياة الإنسان... الكبرياء، فيظن الإنسان أنه بقدرته وحكمته يُحقّق غايته، ولا يدرك أن كل طاقة وإمكانيّة هي من الله حتى وإن شوّه الإنسان طبيعتها وحرّفها عن غايتها.

بالكبرياء سقط إبليس من رتبته الملائكيّة وانحدر إلى أعماق الهاوية (إش 14: 12، عو 4)، لذا فهو لا يكف عن ضرب البشريّة بذات الداء ليحدرها معه من الحياة الإيمانيّة، ويفقدها التمتّع بالملكوت الإلهي ويهبط بها إلى ما هو دون المستوى الحيواني. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من يرتفع بفكره مُتشامخًا فوق البشر يوجد منحطًا دون الخليقة غير العاقلة[24]].

إن كان الشرّير بالكبرياء الشيطاني يهلك، فإن "البار بالإيمان يحيا".

يرى الدارسون أن هذه العبارة "البار بالإيمان يحيا" هي قلب نبوّة حبقوق وعصبها، وكما قيل "هذه الكلمات الشهيرة تُلخّص الرؤيا كله[25]". اقتبسها الرسول بولس ليؤكّد أنه لا يمكن التبرير بأعمال الناموس إنّما بالإيمان بالمسيح يسوع، مختفين في برّه. يقول القدّيس أغسطينوس: [فيّه نقوم، وفيه ننطلق إلى الآب لنصير كاملين بطريقة غير منظورة ومتبرّرين[26]]. فالبرّ ليس مجموعة يستلزم الإيمان السليم غير المنحرف، وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [حيث لا يوجد إيمان سليم لا يكون برّ، لأن البار بالإيمان يحيا[27]].

نعود للكبرياء الذي يزرعه عدوّ الخير فينا ليحرمنا من الحياة الإيمانيّة الحقّة وينزعنا عن البرّ الذي في المسيح يسوع، لنجد أن هذا الكبرياء الفارغ يُعطي للنفس نوعًا من الجوع أو العطش الداخلي، خلاله يطلب الإنسان أن يشبع لا من برّ الله، وإنّما من كل ما هو أرضي خلال الظلم والاغتصاب... وقدر ما ينال يزداد فراغه الداخلي، ليبقى بلا شبع كل أيّام حياته.

          بهذا الروح كان الكلدانيّون يُهاجمون الأمم ويصطادون البشريّة ويذلّوهم بلا شبع حقيقي: "الذي وسّع نفسه كالهاوية، وهو كالموت فلا يشبع بل يجمع إلى نفسه كل الأمم ويضم إلى نفسه كل الشرور، فهلا ينطق هؤلاء كلهم بهجو عليه ولغز شماتة به ويقولون للمكثّر ما ليس له: إلى متى؟! وللمثقّل نفسه رهونًا: ألاَّ يقوم بغتة مقارضوك ويستيقظ مُزعزوك فتكون غنيمة لهم؟! لأنك سلبت أممًا كثيرة، فبقيّة الشعوب كلها تسلبك لدماء الناس وظلم الأرض والمدينة وجميع الساكنين فيها" [5-9].

إن أخذنا بالتفسير الحرفي نقول أن الكلدانيّين قد وسعوا نفوسهم كالقبر، يبتلعون الشعوب كالموتى ولا يشبعون. في تحرّك مستمرّ لاغتصاب الأمم والشعوب بالظلم بلا توقّف. لكن هذا العمل له نهاية، فتنقلب الموازين وتتحرّر الأمم المسبيّة، لتقف موقف الشماتة بالكلدانيّين وتسخر بهم قائلة:

"ويل للمكثّر ما ليس له، إلى متى؟"... يصبّون الويلات على الكلدانيّين الذين حسبوا أنهم نالوا الكثير، ولكنه في الحقيقة ليس ملكًا لهم، إنهم يردون ما حسبوه غنيمة!

"المثقل نفسه رهونًا (طينًا كثيفًا)"... ما جمعوه ليس بثروة وإنّما بطين كثيف، ليس ذهبًا وفضة لكنهم جمعوا ترابًا يثقّل نفوسهم بمحبّة العالم الأرضي.

"ألاَّ يقوم بغتة مقارضوك ويستيقظ مُزعزوك؟"، في لحظة لا يتوقّعها الكلدانيّون، بينما هم مطمئنّون للغاية يقوم من كانوا كمن في حالة نوم ليصير الكلدانيّون غنيمة لهم بعد أن سبقوا فاغتنموهم. كما سلبوا الأمم، الأمم تسلبهم، وكما سفكوا الدماء تُسفك دماءهم، وكما عبثوا بالأرض والمدن يُعبث بهم.

لا يقف الأمر عند شبع الكلدانيّين وإنّما يفقدون ما ظنوه مكسبًا لهم، ويخسرون مالهم وكرامتهم... فيُقال لهم: "كما فعلت يُفعل بك، عملك يُرتد على رأسك" (عو 15).

إن كان الإنسان يظن أن الخطيّة بشهواتها وملذّاتها تشبع النفس، ففي الحقيقة تدخل بها إلى حالة فراغ داخلي وجوع وعطش... فيركض الإنسان إليها ليشرب منها كما من مياه البحر المالحة التي تزيده عطشًا، بل وتفقده حتى حياته.

ثانيًا: الربح القبيح:

"ويل للمُكسب بيته كسبًا شريرًا، ليجعل عشه في العلوّ، لينجو من كف الشر. تآمرت الخزي لبيتك، إبادة شعوب كثيرة وأنت مخطئ لنفسك، لأن الحجر يصرخ من الحائط، فيُجيبه الجائز من الخشب" [9-11].

هذا هو الويل الثاني، الأول سبب خطيّة الكبرياء غير المشبعة للنفس بل مهلكة لها، أما الثاني فبسبب حب الربح القبيح. يظن الشرّير أنه يملأ بيته خيرات ولم يدرك أنه يجمع كسبًا شريرًا يجلب لعنة على كل بيته. يقول الحكيم: المولع بالكسب (الطامع) يكدر بيته" (أم 15: 8). إنه يجمع الربح القبيح حاسبًا أنه يطير به إلى حيث لا يقدر أحد أن يقترب منه ليبني عشه في العلو، وإذا به يبني بيته بالخزي، فيخطئ إلى حق نفسه. الحجارة التي اقتناها بمال الظلم لبناء البيت تصرخ شاهدة على شرّه، والعوارض الخشبيّة التي بها يتماسك البناء لا تصمت، البيت الذي يبنيه من مال الظلم يتحوّل إلى آلة محزنة تنشد مرثاة على صاحبها.

لقد ظن آخاب الملك وزوجته إيزابل أنهما قتلا نابوت اليزرعيلي وورثا كرمه وليس من يسألهما ولا من يُراقب تصرّفاتهما، فإذا بهما يقتنيان هلاكهما، إذ كان كلام الرب لآخاب خلال إيليا النبي: "في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا" (1 مل 21: 19).

ثالثًا العنف:

"ويل للباني مدينة بالدماء، وللمؤسّس قرية بالإثم.

أليس من قبل رب الجنود أن الشعوب يتعبون للنار، والأمم للباطل يعيون؟!

لأن الأرض تمتلئ من معرفة مجد الرب كما تغطى المياه البحر" [12-14].

هذا هو الويل الثالث الذي ينصب على الإنسان الذي في محبّته للكسب الشرّير أو الربح القبيح يتحوّل إلى وحش مفترس، فيبني مدينته بسفك الدماء ويؤسس قريته بقانون الإثم. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن الإنسان صار أشر من الحيوانات المفترسة، فإنها لا تأكل بعضها البعض مادامت من نفس النوع، أما الإنسان فيفترس الأخ أخاه في البشريّة، ويظن أنه غير قادر على بناء مدينة يستريح فيها إلا على حساب دم أخيه!].

على أي الأحوال تمتلئ الأرض من معرفة مجد الرب عندما يرى العالم أن الظالمين سافكي الدماء تعبوا لا ليقيموا مدنًا أو يؤسسوا قرى وإنّما ليصيروا وقودًا للنار، باطلاً يتعبون حتى يصيبهم المرض من الإرهاق، وبلا نفع!

إن كانت أجسادنا بسفكها للدماء أو إثمها صارت أرضًا، فإنها إذ تتقبل تقدّيس الروح تمتلئ من معرفة مجد الرب، فتحمل روح مخلصها الوديع، وإن كانت حياتنا قد صارت بحرًا مالحًا فإن مياه الروح القدس العذبة تحوّل طبيعتها.

أخيرًا إن كان الظلم يصل إلى أقصى بشاعة حينما يصير الإنسان سافكًا للدم، فإن القدّيس جيروم يرى أن الهراطقة هم أشر سافكي الدم، لا يقتلون الجسد بل النفوس بالانحراف عن الإيمان الحيّ، أي عن الحق، إذ يقول: [الهرطوقي الكاذب يقتل نفوس كثيرة بخداعه إيّاها... إنه مخادع ومتعطش للدماء[28]].

رابعًا السكر:

"ويل لمن يسقي صاحبه سافحًا حموك ومسكرًا أيضًا للنظر إلى عوراتهم،

قد شبعت خزيًا عوضًا عن المجد،

فاشرب أنت أيضًا وأكشف غُرْلتك،

تدور إليك كأس يمين الرب،

وقياء الخزي على مجدك" [15-16].

الويل الرابع لخطيّة السكر، فإن من يسكر إذ يجد نفسه قد فقد كرامته الحقيقيّة واتّزانه الداخلي يُقدّم لصاحبه، سافحًا الزجاجة له لكي يُغريه بمنظرها، حتى كما فقد هو نقاوته يُريد النظر إلى عورة أخيه أي أسراره الداخليّة لإفساده في أعماقه.

من هو هذا الذي يُقدّم السكر إلاَّ عدوّ الخير الذي يجتذب الإنسان بإغراءاته كمن هو صاحبه ليفقده مسيحه الحقيقي ويجعله كمن هو في فضيحة. هذا التصرّف لا يزيد العدوّ مجدًا بل خزيًا، فإن ظن أنه بذلك يُقيم مملكته ويوسع نطاقها إنّما يملأ كأس غضب الله عليه ليشرب مما قدّمه لنا من مرارة مضاعفًا "في الكأس التي مزجت فيها يمزج لها ضعفًا" (رؤ 18: 3، 6).

"قياء الخزي على مجدك" [16]، هكذا يتطلّع الذين حوله إليه فلا يجدون فيه مجدًا حقيقيًا ولا غنى صادقًا، فيتقيّأون على مجده الباطل! هكذا من يعطى الآخرين من مسكر الخطيّة إنّما يُهيئ لنفسه من يتقيأ عليه ويخزيه!

ما نقوله عن مسكر الخطيّة الذي يجتذبنا إليه إبليس، نقوله أيضًا عن حياة الترف والتدليل، الحياة التي تحمل في داخلها موتًا للنفس وخزيًا عوض المجد الظاهر. وكما يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [الإنسان الذي يعيش في الملذّات ميت وهو حيّ إذ لا يعيش إلا لبطنه... من يقضي زمانه في الزلائم والسكر ألاَّ يكون ميتًا ويُدفن في الظلمة؟‍![29]].

خامسًا الوثنيّة:

"ماذا نفع التمثال المنحوت حتى نحته صانعه أو المسبوك ومعلم الكذب، حتى إن الصانع صنعته يتكل عليها فيصنع أوثانًا بكمًا.

ويل للقائل للعود أستيقظ، وللحجر الأصم انتبه.

أهو يعلم، ها هو مطلي بالذهب والفضة، ولا روح البتّة في داخله،

أما الرب ففي هيكل قدسه،

فاسكتي قدامه يا كل الأرض" [18-20].

هذا هو الويل الأخير الذي وُجه ضدّ الكلدانيّين الذين افتخروا بآلهتهم التي هي من صنع أيديهم. حقًا إنها تكشف عن حذاقة في الصناعة ومهارة في العمل، أنفقوا الكثير لإقامتها إذ هي مطليّة بالذهب والفضة لكنّها في الداخل حجارة بلا روح ولا حياة‍‍‍!

          ماذا تنفعهم هذه الأصنام يوم عقوبتهم؟! لقد طلبوا من العدوّ أي من البعل الخشبي أن يستيقظ ليُخلّصهم، ومن الإلهة الحجرية عشتاروت زوجة الإله بعل أن تنتبه لما حلّ بهم وترق لحالهم، لكنهما لا يقدران على الخلاص. إنهما إلهان جميلان في المنظر لكنهما عاجزان تمامًا، أما الله الحقيقي ففي هيكل قدسه لا تقدر الأرض أن تقف أمامه.

عجيب هو الإنسان الذي يترك إلهه القائم في قلبه كما في هيكل سماوي، ويسعى إلى أفكاره الذاتيّة وكأنها الآلهة الوثنيّة الجميلة في منظرها وبراقة لكن بلا حياة، وعاجزة عن تقديم الخلاص.

مسكين هو الإنسان الذي يرفض واهب الخلاص الذي يجعل من قلبه سماء ويتعبّد للأفكار والفلسفات البشريّة المخادعة فتجعل منه أرضًا... إنه لا يقدر أن يُقاوم الرب إذ يسمع الصوت: "اسكتي قدّامه يا كل الأرض" [20].

ليتنا لا نكون أرضًا تسكت وتبكم أمام الله، وإنّما نكون سماءً روحيّة تحمل كلمة الله وأصوات سماويّة مفرحة وتسبحة ملائكيّة لا تتوقّف.

<<


 

الأصحاح الثالث

مزمور حمد لله

إن كان حبقوق قد دخل إلي الألم الداخلي والضيق الخارجي، لكن وسط الآلام يتمتّع بتعزيات الروح القدس الذي يكشف للمؤمن الأسرار الإلهيّة وسط المرارة فتتحوّل حياة الإنسان كلها إلي تسبحة حمد ومجد لله. هكذا يختم النبي السفر بمزمور حمد أو تسبحة مجد الله تُقدّم لنا:

1. أعمال الله عبر السنين              [1-2].

2. أعمال الله على جبل سيناء          [3-12].

3. بهجة الخلاص                     [13-19].

1. أعمال الله عبر السنين:

"صلاة لحبقوق النبي على الشجويّة (الأوتار):

يا رب قد سمعت خبرك فجزعت،

يا رب عملك في وسط السنين أحيّه، في وسط السنين عّرِف، في الغضب أذكر رحمة" [1-2].

إذ وقف النبي على المرصد يترقب كلمة الله وإذ انتصب على البرج الإلهي متحصنًا تهلّلت نفسه في داخله بالرغم من كل الظروف القاسية المحيطة به. وفيما كان النبي يئن من أجل شعب الله إذا بالله يكشف له خطّته الخلاصية عبر العصور التي تجلت على الصليب فتهلّل ممسكًا بقيثارة الروح ليضرب على أوتارها مزمور تسبحة، قائلاً:

"يا رب قد سمعت خبرك (كلامك) فجزعت". وكأن يقول يا رب إذ سمعت كلامك امتلأت نفسي رهبة وخشية، كشفت ليّ أسرارك وأدركت أعمالك فصرت في دهشة!

لم تقف رؤيته عند حدود أعمال الله في عصره وإنّما امتدت ليراها عبر العصور، مدركًا أن الله في محبته وإن كان يغضب فيؤدّب لكنّه حتى في غضبه لا يحتمل أنات شعبه إنّما يعود فيرحم. "يا رب عملك في وسط السنين أحيّه، في وسط السنين عّرِف، في الغضب أذكر الرحمة". حقًا إن الرب يغضب على شر الإنسان، لكنه في وسط غضبه تئن مراحمه، الأمر الذي عبرّ عنه هوشع النبي في صورة رائعة، قائلاً على لسان الرب: "قد انقلب عليّ قلبي، اضطرمت مراحمي جميعًا، لا أجري حموّ غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأنيّ الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9).

إن كان الله إله محتجب أو متحجب كما قال إشعياء النبي (إش 45: 15)، لكنه يعلن ذاته لشعبه عبر الأجيال خلال مراحمه التي يظهرها حتى في لحظات الغضب الإلهي والتأديب... ولعلّ ما يُقدّمه الله عبر السنين من إعلانات إنّما يظهر عمليًا في تغيير البشريّة التي فسدت وأقامتها من سقوطها. وكما يقول القدّيس جيروم: [الله يصنع عجائب كل يوم، إنه يعمل... أنتم أعمال الله العجيبة، فبالأمس كنت مغتصبًا ما للغير واليوم تُقدّم للآخرين ما هو لك[30]". هذا التغيير هو غاية كلمة الله المعلنة خلال الناموس الموسوي، التي تجلّت بكمالها خلال تجسد الكلمة الإلهي وإعلانه الخلاص على الصليب. لهذا يعود النبي إلى أعمال الله مع شعبه في البريّة بتقدّم الناموس على جبل موسى لينطلق بهم إلى أعماله خلال المسيّا المخلص.

2. أعمال الله على جبل سيناء:

انسحب قلب النبي حبقوق إلى عمل الله حين ارتفع موسى على الجبل ليتسلّم الشريعة فامتلأ الجبل بهاءً ومجدًا، وأشرق الله بنوره على شعبه لينطلق قلبه ولسانه، نفسه وجسده بالفرح والتسبيح، قائلاً:

"الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه.

جلاله غطّى السموات، والأرض امتلأت من تسبيحه" [3].

يُشير هنا إلى ظهور الله في مجده بطريقة ملوسة عندما استلم موسى الشريعة وكما قيل "نزل الرب على جبل سيناء" (خر 19: 20)، "وكان منظر مجد الرب كنار آكله على رأس الجبل" (خر 24: 17)، "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأت من جبل فاران" (تث 33: 2).

إذ جاءنا خلال الشريعة غطى بهاؤه السموات، وامتلأت الأرض من تسبيحه. ما هذه السموات والأرض إلاَّ النفس البشريّة والجسد اللذان يتقدّسان بكلمة الله فتلألأ النفس بمجد الرب ويمتلئ الجسد فرحًا وتهليلاً. بالكلمة الإلهي تمتلئ النفس بالنور الإلهي والمعرفة السماويّة، أما الجسد فيتحوّل بكل أعضائه إلى قيثارة في يدي الروح القدس يعزف عليها تسبحة فريدة سماويّة. بمعنى آخر يتجلّى الله في حياة الإنسان بكليتها، في نفسه كما في الجسد. يقول القدّيس جيروم: [غنّوا حمدًا حقيقيًا، رنّموا بكل جزء من كيانكم. لترنّم يدك بالعطاء، وقدمك بالإسراع نحو عمل الخير... لتعطِ كل أوتارك صوتًا، فإن توقّف وتر واحد تفقد القيثارة كيانها. ماذا ينفعك إن كنت عفيفًا ولكنك طمّاع؟! ماذا تستفيد إن كنت طاهرًا وسخيًا في العطاء ولكنك في نفس الوقت حاسد؟! ما هو نفعك إن كان لك ستّة أوتار صالحة والسابع منكسر؟! فإن وترًا واحدًا منكسرًا يفقد القيثارة إمكانيتها في تقديم صوت متكامل[31]].            

جاء في الترجمة السبعينيّة: "الله يأتي من الجنوب، والقدوس من الجبل المظلّل"، ويعلّق القدّيس جيروم على هذه العبارة: "الله يأتي من الجنوب. هنا يُشير إلى المخلص، حيث ولد الله في الجنوب، لأن بيت لحم جنوب أورشليم"[32]. ويرى القدّيس ديديموس الضرير أن الجنوب يُشير إلى الرياح الحارة التي تهب على النفس فتلهبها بالروح، أو بالحب فلا يكون باردًا، أما الشمال فيُشير إلى الرياح الشماليّة الباردة التي تُشير إلى عمل الشيطان الذي يُفسد حرارة الروح، لذا في سفر النشيد طلبت العروس أن يُنزع عنها ريح الشمال الذي هو عمل إبليس، وتأتيها ريح الجنوب التي تُشير للمخلّص عريسها نفسه[33].

يُكمّل النبي تسبحته، قائلاً: "وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استَتار قدرته" [4]. كأنه يقول: كنت أظن أن الأمور تسير بلا تدبير، الشرّير يلتهم البار، وأمّة الكلدانيّين تبتلع بقيّة الشعوب، ليس من يُحاسبها ولا من يصدها، لكنني  وقد أدركت أسرار معرفتك وجدتك النور الأزلي المُدرِك للأسرار الخفيّة، ليس شيء مخفيًا عن عينيك. تمد يدك للعمل وإذا بشعاع يصدر عنهما يفضح السالكين في الظلمة، عندئذ يدرك الكل قدرتك التي كانت مستترة إلي حين.

جاءت العبارة "له من يده قرنان" أي نور قرون الشمس كما جاء في ترجمة اليسوعيّين، هذان القرنان اللذان في يده هما لوحا الشريعة اللذان تسلّمهما موسى النبي، وكما قيل: "عن يمينه نار شريعة لهم" (تث 23: 2).

"قدّامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت (طردت) الحمى" [5].

بظهوره يطرد وباء الشرّ والظلمة، وعند رجليه أي بسلطان يأمر الحمى فتطيعه.

"وقف وقاس الأرض. نظر فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهريّة، وخسفت آكام القدم، مسالك الأزل له" [6].

يقف ليقيس الأرض، فهي خليقته التي يهتم بها، من أجلها يقف ليعمل ولا يستريح حتى يُعلن أحكامه فترتجف الأمم الشرّيرة وتُدك الجبال المتشامخة والآكام القديمة. إنه السرمدي الذي يُدبّر كل الأمور لتعمل في الوقت الحسن. وكأنه يقول: كنت أظن العالم أشبه ببحر مملوء سمكًا تصطاده الأمّة الشرّيرة بلا ضابط، لكنني أدركت أن كل شيء غير مخفِ عنك.

إن كانت الأرض كما قلنا قبلاً تُشير إلى الجسد، فإن الله وقف ليقيسه علامة اهتمامه به وتقديسه إيّاه، حيث يرجف الأمم الوثنيّة القاطنة هناك أي يُنزع عن الجسد كل شر وضعف روحي، ويدك الجبال المتشامخة أي الخطايا التي تبدو عنيفة للغاية ليس من يقدر أن يُحرّكها. أمام الله تتزعزع آكام الجسد التي تثقل النفس.

هنا يصف النبي الله كمن هو في حالة وقوف: "وقف وقاس الأرض". وكما يقول القدّيس جيروم: [إن الله لا يتغيّر وليس له أوضاع جسدية لكنّه يُقال عنه أنه واقف حينما يتعامل مع الأبرار، ويُقال عنه أن يظهر ماشيًا عندما سقط آدم (تك 3: 9)، ويظهر جالسًا بكونه الديّان والملك (إش 6: 1)، ونائمًا كما في السفينة عندما يكون الإنسان بين زوابع التجربة، ويظهر قائمًا كما قيل "الله قائم في مجمع الآلهة"[34]. إذن يتحدث هنا عن الأرض وقد تمتّعت ببهجة خلاصه وتقدّست به لذا ظهر واقفًا يُقيسها!

رأيت خيام كوشان تحت بليّة، رجفت شقق أرض مديان" [7].

اسم خيام كوشان لم يُذكر في العهد القديم إلاَّ في هذه العبارة، يحتمل أن يكون اسمًا قديمًا لمديان قد هُجر[35]. هكذا إذا كانت رؤية الله لحبقوق تتجلّى، والرب في عينيه قادم من جبل سيناء، فإن كل شيء مقاوم له ينهار قدامه.

لعلّ خيام كوشان ظهرت كمن تحت بليّة وستائر مديان مُرتجفة عندما أسلم الله أرض كنعان لشعبه، فارتجفت كل الأمم المحيطة.

يظن البعض أن خيام كوشان صارت تحت بليّة عندما أسلم الرب كوشان بيد القاضي عثنيئيل بن قناز بعد أن عبده إسرائيل ثماني سنين (قض 3: 8-11)، فتجلت قوة الله في قاضيه المرسل لخلاص شعبه وأذل من استعبد شعبه. أما ارتجاف ستائر مديان، فحدث عندما رأى صاحب جدعون حلمًا "وإذا رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيّين وجاء إلى الخيمة وضربها فسقطت وقلّبها إلى فوق فسقطت الخيمة" (قض 7: 3)، وكان ذلك إشارة إلى سيف جدعون بن يوآش الذي قتل المديانيّين.

في اختصار يُسبح حبقوق الرب من أجل أعماله إذ يهب أولاده الغلبة والنصرة، بل والسلطان فترتجف أمامهم الشياطين وتصير تحت بليّة!

"هل على الأنهار حمى غضبك؟! هل على الأنهار غضبك، أو على البحر سخطك، حتى أنك ركبت خيلك، مركباتك مركبات الخلاص؟!" [8].

          إن كانت المياه الكثيرة تُشير إلى الشعوب (رؤ 17: 15)، فإن شعب الله يُشبه بالأنهار حيث المياه العذبة والأمم الوثنيّة بالبحار المالحة. الله إذ يؤدّب شعبه يحمي غضبه على الأنهار بسبب الظلم الذي وُجد في وسطه، وإذ يُعاقب الأمم بسخطه بسبب ما ارتكبته من شرور ضدّ شعبه يحمي غضبه على البحار. 

لقد حمى غضبه على الأنهار والبحار عندما اعترضا طريق شعبه في عبورهم من أرض مصر إلى أرض الموعد، فشق بحر سوف ونهر الأردن، مجتازًا بشعبه كما بمركبات خلاص، وكأنه بقائد الموكب الخلاصي الذي يعبر به من عبودية إبليس إلى ملكوته السماوي، أما المؤمنون فهم الفرس التي تحمل الله قائدها في داخلها. في هذا يقول القدّيس جيروم: ُقال هذا عن الله، إن كنا نحن فرس الله التي يركبها[36]]. ويقول الأب ثيوفان الناسك: [إنه يُحارب عنك بنفسه، ويدفع أعدائك ليديك متى شاء، كيفما شاء، كما هو مكتوب: "لأن الرب إلهك سائر في وسط محلّتك لكي ينقذك ويدفع أعداءك أمامك" (تث 23: 4)[37]].

"عريّت قوسك تعرية، سباعيّات سهام كلماتك، سلاه" [9].

ما هو القوس الذي تعرى ليضرب كالسهام السباعيّة، إلاَّ التجسد الإلهي خلاله تمتّعنا بكلمة الله كسهم يُحطّم الشرّ الذي تملك في داخلنا؟! ليحل كلمة الله فينا كسهم حقيقي يجرح قلوبنا بالحب فنقول "إني مريضة حبًا" (نش 2: 5)، ينزع عنها كل فساد خبيث أقامه العدوّ الشرّير فيها.

كلمات الرب "سباعيّات"، تدخل إلى القلب فتجعله كاملاً، إذ يُشير رقم 7 إلى الكمال.

"شقّقت الأرض أنهارًا" [9].

إذ نقبل الكلمة المتجسد فينا كسهم إلهي يجرح قلوبنا بالحب وينزع عنها فسادها، فإنه بدورة إذ يراها قد صارت أرضًا لا سماء تحب الزمنيّات لا الأبديّات يُشقّقها خلال شركة الصليب والألم، ويُحوّل الأرض إلى أنهار مياه حيّة، وكما قال المخلص "من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ (يو 7: 38).

لا نخف لأننا أرض قفراء، فإن الرب بصليبه يُفجر فينا ينابيع روحه القدوس كأنهار ماء حيّ، تروي أرضنا  وتُفيض بالشهادة له في كل موضع!

يرى القدّيس جيروم أن السيّد المسيح هو النهر الأصلي الذي يُصب في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، هذه الأنهار تشهد للنهر الحقيقي مُسبّحه له لا بالكلام فحسب وإنّما أيضًا بالعمل، وكما يقول المرتل: "الأنهار لتُصفق بالأيادي" (مز 98: 8). "ليت الأنهار التي ترتوي من المصدر يسوع تُصفق بالأيادي، فإن عمل القدّيسين هو التسبيح لله. المسيح لا يُسبح بالكلام بل بالعمل، إنه يطلب الفعل لا الصوت[38]".

"أبصرت ففزعت الجبال، سيل المياه طما، أعطت اللُجّة صوتها، رفعت يديها إلى العلاء" [10].

إن كان كلمة الله الحيّ يُشقق بصليبه أرضنا فيجعلها أنهار مياه تُسبح وترتّل له بالعمل الروحي الحق، ففي سكناه داخلنا تراه جبال خطايانا الثقيلة فتفزع هاربة من أمام وجهه. ما كنا نحسبه جبالاً راسخة لا يقدر أحد أن يُحرّكها تصير بالصليب سهلاً. وكما قيل في زكريا "من أنت أيها الجبل العظيم؟! أمام زربابل تصير سهلاً، فيخرج حجر الزاويّة بين الهاتفين كرامة كرامة له" (زك 4: 7). وقد رأينا في دراستنا لسفر زكريا[39] كيف يزول الجبل الشرّير ليظهر السيّد المسيح حجر الزاويّة صاحب الكرامة، المقطوع بغير يدين إذ هو ليس من زرع بشر، يصير جبلاً يملأ الأرض كلها (دا 2: 35). بهذا تتدفق نعمة الله كمياه بلا حدود لتُعطي صوت تسبيح داخلي، وترتفع يدي النفس الداخليّتين نحو العلا لتُمارسا العمل السماوي.

"الشمس والقمر وقف في بروجهما، لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم.

"خرجت لخلاص شعبك لخلاص مسيحك" [11-13].

إذ يُسبح النبي الله على أعماله عبر السنين يعود بذاكرته إلى أيّام يشوع حين صلّى لكي تقف الشمس والقمر في بروجهما في السماء حتى تكمل نصرة إسرائيل على أعدائه (يش 10: 12-13)، فلا يأتي ليل سريع فيه يهرب العدوّ قبل إتمام الهزيمة. في النور غلب يشوع العدوّ، وهكذا إذ يشرق الرب في القلب بكونه شمس البرّ وتتحوّل أرض المعركة إلى قمر بكونها الكنيسة المقدسة المقاومة لإبليس، يُبدد النور ظلمة العدو، ويبقى الرب مشرقًا حتى تتحقّق النصرة تمامًا.

ولعله يقصد أيضًا أن عمله الله الخلاصي تخضع له كل الطبيعة، حتى الشمس والقمر تعمل معًا حسب تدبيره لتحقيق مملكته النورانيّة وإبادة مملكة الظلمة.

ويمكننا القول بأن "الشمس والقمر وقفا في بروجها" يوم الصليب، حين اختفيا أمام بهاء مجد شمس البرّ في خجل مما تفعله البشريّة به. وقفا محتجبين، فيدهشان أيضًا كيف يُحطّم السيّد المسيح إبليس وكل جنوده ليحرّر الإنسان منهم كما من أمم وثنيّة، قائلين: "بسخط دست الأمم، خرجت لخلاص شعبك، لخلاص مسيحك".

3. بهجة الخلاص:

"خرجت لخلاص شعبك لخلاص مسيحك.

سحقت رأس بيت الشرّير معرّيًا الأساس حتى العنق. سلاه.

ثقبت بسهامه رأس قبائله" [13-14].

يختم النبي تسبحته بالكشف عن خلاص الله للإنسان، بتحطيم سلطان إبليس علينا وببعث روح الفرح فينا. فبالصليب سحق رأس بيت إبليس الشرّير الذي تعرّى حتى الأساس وظهرت خداعاته الخفيّة، كاشفًا إيّاه من الأساس حتى العنق. فإن كان العدوّ قد صوّب سهامه ضدّنا إنّما لكي ترتد عليه وتحطّمه تمامًا فلا يكون له سلطان علينا ولا موضع فينا.

كثيرًا ما حدثنا الآباء عن تحطيم سلطان إبليس لكي يبعثوا فينا الرجاء  للعمل الروحي بلا خوف ولا تذبذب، فمن كلماتهم:

v     على الصليب أخزى المسيح الشيطان وكل جيشه. تأكد أن المسيح صُلب بجسده على الصليب فإذا به يُصلب الشيطان هناك... كان الصليب علامة نصرة ولواء غلبة. كانت غايته عند الارتفاع على الصليب أن يرفعنا عن الأرض، وكما أظن صليب المخلص هو السلّم الذي رآه يعقوب.

القدّيس جيروم[40]

v     إننا نتعلّم فن الحرب لنستطيع الصراع لا ضدّ الناس بل ضد الأرواح. بلى، فإنه إذ يكون لنا فكر (حق) لا نُصارع قط، فإننا نُصارع لأننا اخترنا هذا مع أنّنا نلنا سلطانًا من ذاك الذي يسكن فينا، الذي قال "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيّات والعقارب وكل قوّة العدو" (لو 10: 19). أعطى لكم كل السلطان أن تصارعوا أو لا تصارعوا إن أردتم. فنحن نصارع لأننا متراخون، أما الرسول بولس فلم يُصارع بل يقول: "من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟! أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عريّ أم خطر أم سيف؟!" (رو 8: 35). اسمع أيضًا كلماته: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20).  لقد حمل سلطانًا عندما قال: "أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أع 16: 18). هذه ليست لغة من يصارع، لأن من يصارع لم يغلب بعد، ومن يغلب فلا يصارع بعد.

v     إن أردنا نحن يجعله الله مدوسًا تحت أقدامنا، ولكن أي ازدراء وبؤس أن نراه يدوس على رؤوسنا ذاك الذي أُعطى لنا أن نطأه تحت أقدامنا؟! كيف يحدث هذا؟! إنه بسببنا نحن. فإن أردنا يكون عظيمًا، وإن أردنا يكون قليل الحيلة. إن كنّا حذرين ووقفنا بجانب ملكنا ينسحب، ويكون في حربه ضدّنا لا يزيد عن طفل صغير.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم[41]

هذا هو سرّ بهجة نفس النبي، إذ رأى عمل الله الخلاصي بتحطيم سلطان إبليس لحساب مملكة النور. حقًا لقد ارتعدت أحشاؤه إذ رأى الكلدانيّين يفسدون كل ثمر، لكن وراء هذا التأديب يوجد خير أعظم، حين يحوّل الله التأديب إلى بهجة خلاص.

يقول النبي: "سمعت فارتعدت أحشائي، من الصوت رجفت شفتاي، دخل النخر عظامي، وارتعدت في مكاني لأستريح في يوم الضيق عند صعود الشعب الذي يزحمنا" [16]. لقد رأى الكلدانيّين كشعب يزحمهم أو كعدوّ يود أن يقضي عليهم، فارتعدت أحشاؤه ورجفت شفتاه ودخل النخر في عظامه... لقد أفسد العدوّ كل ثمر روحي فلم يزهر التين ولا أثمرت الكروم. وجفت أشجار الزيتون. هذه هي صورة الإنسان الساقط تحت إبليس فلا ينعم بوحدة الروح (التين)[42]، ولا عمل الصليب (الكروم التي تُعصر)، ولا بالسلام الداخلي (الزيتون)، أي يفقد حياته الداخليّة بحرمانه من عمل الروح القدس وارتباطه بصليب ربّنا يسوع. ولا يقف الأمر عند فساد الأعماق الداخليّة وإنّما حتى الجسد يفقد قدسيّته فيصير كحيوانات ميّتة، إذ يقول "والحقول لا تصنع طعامًا، ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المزاود" [17]. لا يجد الجسد طعامًا روحيًا فيجوع ويمرض بل ويموت روحيًا ويصير الإنسان كحظيرة بلا غنم ومزود بلا بقر! هذا ما يبغيه العدو، فقدان لقدسية النفس والجسد أيضًا.

لكن الله لا يترك الإنسان هكذا بل يرد له خلاصه، واهبًا إيّاه بهجة الخلاص، مقدّما ذاته قوّة له، ومشددًا قدّميه لتنطلقا نحو السماء مسرعة كالأيائل، فيتمشّى الإنسان على المرتفعات المقدّسة ولا ينزل إلى وحل العالم وترابه، إذ يقول:

"فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي،

الرب السيّد قوتي،

ويجعل قدّمي كالأيائل

ويمشيني على مرتفعاتي،

لرئيس المغنّين على آلاتي ذوات الأوتار" [18-19].

هكذا بدأ السفر بالألم والضيق مع المرارة بسبب المتاعب الداخليّة والخارجيّة، لكن إذ دخل النبي في حوار مفتوح مع الله ووقف كما على مرصد يترقّب، وعلى حصن منتصبًا ليرى أعمال الله انتهى السفر بالبهجة والفرح، مدركًا أن الله نفسه هو قوّة أولاده، يُشدّد أرجلهم ويرفعهم إلى العلو لينطلق بهم بروحه القدوس فوق كل الأحداث.

<<

 


 

[1] J. H. Raven: Old Testament Introduction, P 234.

[2] New Westminister Dict. of the Bible, P 396.

[3] Ibid.

[4] Jerome Biblical Comm., P 296.

[5] J. H. Raven, P 235.

[6] New Westminister Dict., P 155.

[7] Herod 1: 181, 183.

[8]Jerome Biblical Comm., P 296.

[9] Ibid.

[11] On Ps 37.

[12] هل للشيطان سلطان عليك؟! المقال الأول.

[13] On Ps. hom. 3.

[15] المحاربات الروحيّة ج 1، فصل 15.

[16] Ad. hom. 4, 5.

[17] المحاربات الروحيّة 1: 15.

[18] In Eph. hom. 22.

[19] Ibid.

[20] المؤلف: القدّيس يوحنا ذهبي الفم، 1980، ص 330.

[21] Ep. 22: 4.

[22]  Ep. 53:8.

[23]  Jerome Biblical Comm., P 297.

[24] In Philip. hom. 7.

[25] Jerome Bibl. Comm., P 297.

[26] Ser. on N.T. 93: 4.

[27] Ser. on Mount 1: 5.

[28] On Ps. hom. 2.

[29] In Tim. hom. 13.

[30] On Ps. hom. 10. 

[31] On Ps. hom.25.

[32] Ibid 33.

[33] تفسير سفر زكريا.

[34] On Ps. hom. 14.

[35] Jerome Bib. Comm., P 298.

[36] PL 25: 1317.

[37] المحاربات الروحيّة 1: 15.

[38] On Ps. hom. 25.

[39] راجع تفسير زكريا 4: 7.

[40] On Ps. hom. 21.

[41]In Eph. hom. 22, in Philip. hom. 6.

[42] راجع تفسير "هوشع" المقدّمة.

 

الصفحة الرئيسية