المقدمة

·        الحكمة في الكتاب المقدس تشير:

1.       أقنوم الإبن الذي هو حكمة الله (1كو24:1)

2.       شريعة الله. فمن يتبعها هو الإنسان الحكيم "بدء الحكمة مخافة الرب" (مز10:111)

3.   الحكمة التي يتصرف بها الإنسان في حياته، وهذه يعطيها الله للإنسان (1كو8:12 + يع17:3). وعلى الإنسان أن يطلبها من الله (يع5:1 + 1مل9:3). بل أن الله يعطي الحكمة حتى للحيوانات كالنمل (أم24:30-27).

4.       حكمة أرضية نفسانية شيطانية مصدرها [أ] إبليس [ب] خبرات سيئة مع العالم (يع15:3)

أ‌-            إبليس هو مصدر حكمة تقول "إن ذهبت إلى بلد تعبد العجل حش وإديله"

ب‌-   الخبرات السيئة مع العالم والأنانية قادت البشر أن يقولوا "إن جاءك الطوفان ضع أولادك تحت قدميك" أي لكي تنجو ضع أي إنسان في خطر حتى لو مات، بل أعز ما عندك.

5.   وضع سليمان الملك أمثال قصيرة ليحفظها الناس فتكون لهم حكمة. وهكذا إهتم الآباء بتعليم أبنائهم السلوك بحكمة، والحكماء يجولون في الشوارع لتعليم الناس الحكمة. ويعد يشوع بن سيراخ أول من أنشأ مدرسة لتعليم الحكمة.

6.   قيل عن يوسف على لسان فرعون "هل نجد رجلاً مثل هذا فيه روح الله.. ليس بصير وحكيم مثلك (تك38:41،39). وهذا القول ربط بين الإمتلاء من روح الله والحكمة. ولذلك يقول الكتاب عن الروح القدس "روح الحكمة" (إش2:11). والروح القدس يعطي المشورة والنصح للإنسان فهو "روح النصح" (2تي7:1). ومن يعطيه الروح القدس المشورة يكون قطعاً إنساناً حكيماً.

7.       إذا إستخدم الإنسان ذكاءه الموهوب له من الله في الخير يسمونه حكيماً، وإذا إستخدمه في الشر يسمونه لئيماً.

8.   الصليب كان حكمة إلهية ولكنها كانت عند الناس الحكماء الأرضيين جهالة (1كو18:1). بل كثير من أحكام الله يعتبرها البشر المحدودي الذكاء، جهالة. فنحن لمحدودية طبيعتنا لا يمكننا أن ندرك عمق أحكام الله (رو33:11-36). ولهذا السبب قال السيد المسيح لبطرس "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يو7:13).

 

كاتب السفر:

القديس كليمنضس السكندري أطلق على السفر "حكمة سليمان" وهكذا قال العلامة ترتليانوس وأوريجانوس والقديس كبريانوس. وإتفقت كثير من الكنائس وإتفق كثير من الآباء مثل أغسطينوس على ذلك، والسبب يرجع إلى ما كتبه كاتب السفر عن نفسه "إنك قد أخترتني لشعبك ملكاً ولبنيك وبناتك قاضياً. وأمرتني أن أبني هيكلاً في جبل قدسك ومذبحاً في مدينة سكناك.. وأكون أهلاً لعرش أبي (7:9-12).

إلاّ أن هذا السفر لم يصل إلى يد عزرا فلم يضعه في النسخة العبرية (طبعة بيروت). ولكن قيل عن سليمان أنه تكلم بثلاثة آلاف مثل. وكانت نشائده ألفاً وخمسمائة (1مل32:4،33). ولأنه كانت هناك كتب لم تصل إلى يد عزرا أنشأ يهوذا المكابي مكتبة ضم فيها بعض الأسفار التي عثر عليها (2مك13:2-15).

وأقرت مجامع عديدة بقانونية السفر.

وبالإضافة لما ورد في مقدمة الأسفار القانونية الثانية والنسخة السبعينية (تجدها قبل سفر طوبيا) فهناك تشابه وتطابق بين هذا السفر وبين العهد الجديد.

سفـــــر الحكمـــــة

العهـــــد الجديـــــد

(18:2)

 

فإنه إن كان الصديق إبن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه.

(مت43:27)

قد إتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده.

(3:8)

تظهر أصلها الكريم بإشتراكها في حياة الله وقد أحبها سيد الجميع.

(يو1:1)

في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله.

(6:8)

 

(1:9)

 

(9:9)

إن كانت الفطنة هي التي تعمل فمن أمهر منها في هندسة الأكوان.

يا إله الآباء يا رب الرحمة يا صانع الجميع بكلمتك.

إن معك الحكمة العليمة بأعمالك والتي كانت حاضرة إذ صنعت العالم.

(يو10:1)

كان في العالم وكون العالم به

(12:12)

فإنه من يقول ماذا صنعت أو يعترض قضاءَك ومن يشكوك بهلاك الأمم التي خلقتها أو يقف بين يديك مخاصماً عن أناسٍ مجرمين.

(رو19:9-21)

فستقول لي: لماذا يلوم بعد؟ لأن من يقاوم مشيئته؟ بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعلّ الجبلة تقول لجابلها "لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناءً للكرامة وآخر للهوان.

(24:11)

 

 

(10:12)

لكنك ترحم الجميع لأنك قادر على كل شئ وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا

لكن بعقابهم شيئاً فشيئاً منحتهم مهلة للتوبة.

(رو4:2)

أم تستهين بغني لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة.

(17:5-20)

يلبس البر درعاً وحكم الحق خوذة ويتخذ القداسة ترساً لا يقهر

(أف11:6-20)

قارن مع سلاح الله الكامل

(5:3،6)

بعد تأديب يسير سيكون لهم ثواب عظيم لأن الله إمتحنهم فوجدهم أهلاً له. محصهم كالذهب في البودقة.

(1بط6:1،7)

تزكية الإيمان بالتجارب هي كتنقية الذهب بالنار.

(22:7، 23)

وصف للحكمة التي من عند الله

(يع17:3، 18)

وصف الحكمة التي من عند الله مشابه لما في سفر الحكمة


 

الإصحاح الأول

آية (1): "احبوا العدل يا قضاة الأرض واعتقدوا في الرب خيراً والتمسوه بقلب سليم."

السفر هو سفر الحكمة، وبدء الحكمة مخافة الرب (مز10:111). وهذه الآية تشير من بداية السفر لطريق الحكمة [1] أحبوا العدل [2] اعتقدوا في الرب خيراً [3] التمسوه بقلب سليم.

أحبوا العدل= وكلمة العدل هي نفسها كلمة البر. وقوله أحبوا أي عليكم أن تقتنعوا بأن تسلكوا بالبر وتنفذوا هذا الإقتناع. إذاً قوله أحبوا هي إتخاذ قرار وتنفيذه. فلن يجد الله ولن يعرف الله إلاّ كل من يسلك بالبر ويحكم بالعدل.

إعتقدوا في الرب خيراً= الله صانع خيرات. وكل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رو28:8) وهذا إعتقاد الكنيسة أن الله صانع خيرات (صلاة الشكر). وهذا ما يقوله الكتاب المقدس. وكذب إبليس المستمر هو إقناع كل من في تجربة أن الله إله قاسي. وكل من يصدق إبليس لن يجد الله.

إلتمسوه بقلب سليم= السيد المسيح علمنا أن نصلي بلجاجة (لو1:18-8) وماذا نطلب؟ أهم ما نطلبه هو الإمتلاء من الروح القدس (لو13:11) والروح القدس هو روح الحكمة (إش2:11) وهو روح النصح (2تي7:1).

يا قضاة الأرض= يا كل قاض ويا كل أب وأم وخادم. بل يا كل إنسان تحكم على الأمور، بل يا من كل إنسان تنسب لله أنه أخطأ إذ أصابك بتجربة ما. يا كل إنسان هل تريد أن يكون لك حكماً صائباً على الأمور؟ إذاً لابد أن تكون لك حكمة.. والسبيل إليها هو ما سبق. أما من يسلك في شهواته (عكس البر) ويتصادم مع الله ولا يطلب الله ويصلي، فهو بلا حكمة.

 

آية (2): "فإنما يجده الذين لا يجربونه ويتجلى للذين لا يكفرون به."

يجربونه.. يكفرون به= يجربونه أي يكون لهم سلوك خاطئ. ويكفرون به أي يشكون في صلاحه وأنه إله خير وصانع خيرات (وهذا عكس ما سبق). وقارن مع (عد22:14،23) "جميع الرجال الذين رأوا مجدي.. وجربوني الآن عشر مرات.. لن يروا الأرض.." والمعنى أن الله بطبعه صانع خيرات، يريد أن يسكب من خيراته على أولاده، ولكن من يسلك معه بالخلاف ويسلك في الشر فهو يجرب الله، أي يغيظه فيرى ما هو عكس الخيرات والرعاية والحنان، لأنه ببساطة لا يصدق أن الله يعاقب على الشر.

 

آية (3): "لأن الأفكار الزائغة تقصي من الله واختبار قدرته يثقف الجهال."

الأفكار الزائغة= أي الشريرة والمنحرفة تقصي من الله= أي تبعد الإنسان عن الله، لأنه لا شركة للنور مع الظلمة (2كو14:6). وإختبار قدرته يثقف الجهال= قدرته هنا أصلها اللغوي "ضابط الكل" فمن يسير في طريق الخطأ فهو يختبر قدرة الله القادرة على تأديبه وعقابه= يثقف الجهال= وهذه جاءت في ترجمة أخرى تخزي الأغبياء= فضربات الله هدفها الأساسي التأديب وهي تخجل من سار في طريق الشر (الإبن الضال). ولكن قوله ضابط الكل، فنرى أن الله قادر أن يحرك قوى الطبيعة ضد الشرير (طوفان/ حريق لسدوم وعمورة/ مجاعة للإبن الضال/ حوت وبحر هائج ليونان..) ومن يتجاوب كالإبن الضال تثقفه هذه التأديبات. ومن هنا نفهم أن الله حتى في هذه التأديبات هو صانع خيرات هدفه خلاص النفس.

آية (4): "أن الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة."

الحكمة لا تلج (تدخل) النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق (المستعبد) للخطيئة= هذه رد على آية (1). المسترق من الرق أي العبودية. ومن هو مستعبد للخطية، كيف يكون عبداً لله في وقت واحد. ولاحظ هنا أنه يميز بين الجسد والنفس. فالجسد قد يستعبد لشهواته وهذا يؤدي لأن الحكمة لا تسكن في النفس.

 

آية (5): "لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش ويتحول عن الأفكار السفيهة وينهزم إذا حضر الإثم."

روح التأديب القدوس= هو الروح القدس المؤدب والذي "يبكت على خطية.." (يو8:16). وطالما يتجاوب الإنسان مع الروح القدس يستمر في عمله. أما من يقاوم عمله مستمراً في شروره بتحدي وسفاهة فإن الروح يتركه= يهرب من الغش= وهذه قيل عنها لا تحزنوا الروح (أف30:4) ولا تطفئوا الروح (1تس19:5) وروحك القدوس لا تنزعه مني (مز11:51). فالروح لا يرضى أن يسكن فيمن يصر على شره وسفاهته، فلا شركة للنور مع الظلمة، لذلك قال عنه أنه يهرب. أما قوله ينهزم إذا حضر الإثم= فيمكن ترجمته إذ حضر الروح القدس ينهزم الإثم، فالروح يبكت ويعين (رو26:8).

 

آيات (6-8): "6 أن روح الحكمة محب للإنسان فلا يبرئ المجدف مما نطق لأن الله ناظر لكليتيه ورقيب لقلبه لا يغفل وسامع لفمه. 7 لأن روح الرب ملا المسكونة وواسع الكل عنده علم كل كلمة. 8 فلذلك لا يخفى عليه ناطق بسوء ولا ينجو من القضاء المفحم."

أن روح الحكمة محب للإنسان= "الحكمة روح يحب الإنسان" ترجمة أخرى. فالحكمة هو الإبن الأقنوم الثاني، وظهرت محبته على الصليب. فلا يبرئ المجدف= ليس معنى أن الله محب للإنسان أنه يبرئ الإنسان مهما فعل، لكنه يؤدبه حتى ينقيه، بل ينقيه حتى من الشوائب التي في داخله ولا يراها البشر= لأن الله ناظر لكليتيه ورقيب لقلبه= والتأديب هو عمل محبة، فكيف نخلص إن لم نتنقى. ومهما ظن الإنسان أنه إبتعد عن الله، فالله هناك يراه ويراقبه= لأن روح الرب ملأ المسكونة فهو غير محدود ويحتضن الكل= واسع الكل وتترجم في ترجمات أخرى "الذي به يتماسك كل شئ" (عب3:1) "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" والله يشغل كل مساحة المكان والزمان فلا يخفى عليه شئ= عنده علم كل كلمة. فلذلك لا يخفى عليه ناطق بسوء. ولا ينجو هذا الشرير من تأديب الله وعقابه= لا ينجو من القضاء المفحم= أي الذي تعجز أمامه كل حجة، وهذه مثل "تتبرر في أحكامك وتغلب إذا حوكمت" (مز4:51). حقيقة أن الله موجود في كل مكان تفرح الأبرار بوجود الله كحامي لهم من كل شر، لكنها لا تسعد الأشرار.

 

آية (9): "لكن سيفحص عن أفكار المنافق وكل ما سمع من أقواله يبلغ إلى الرب فيحكم على آثامه."

العالم بكل شئ يجازي المنافق (الذي يظهر غير ما يبطن).

 

آية (10): "لأن الأذن الغيرى تسمع كل شيء وصياح المتذمرين لا يخفى عليها."

الأذن الغيرى= الأذن التي تغار، فالله إلهنا إله غيور (خر5:20) غيور على عبيده، ينصت لكل ما يقولونه، ويسمع كل شئ وصياح المتذمرين عليه= فالتذمر على الله هو كصياح. لأنه ضد الإيمان بأن الله خَيِّر (آية1). وقوله غيور أي أن الله يغار على أولاده إذ أنهم سيهلكون لأنهم صدقوا إبليس وشككوا في محبته وبدأوا يتذمرون على الله. وفي التذمر على الله إنفصال عن الله وبالتالي هلاك.

 

آية (11): "فاحترزوا من التذمر الذي لا خير فيه وكفوا ألسنتكم عن الثلب فإن المنطوق به في الخفية    لا يذهب سدى والفم الكاذب يقتل النفس."

كفوا ألسنتكم عن الثلب= الثلب هو إدانة الله والكلام عليه بصورة غير لائقة، وهذا يحدث عادة من إنسان وقع في تجربة. لكن إذا فهم أن هذا التجربة كانت لتنقيته، فهو سيشكر الله عليها (يع2:1) بل كفوا عن التذمر حتى في القلب، فحتى هذا يسمعه الله، وهو يعبر عن قلب متمرد على أحكام الله، والتي هي كلها للخير= فإن المنطوق به في الخفية لا يذهب سدى= الله يسمعه ويعاقب عليه. والفم الكاذب يقتل النفس= الشيطان كذاب وأبو الكذاب (يو44:8). وهو يضع على فم المتذمر على الله أقوال أكاذيب، مثل أن الله قاسي. وما أن يردد الإنسان أقوال الشيطان هذه فهو في طريقه للموت، فتصديق الشيطان هو طريق الموت، فهذا ما حدث لآدم وحواء.

 

آية (12): "لا تغاروا على الموت في ضلال حياتكم ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أيديكم."

لا تغاروا على الموت= في ترجمة أخرى "لا تسعوا إلى الموت" أي لا تسعوا وراء الموت بتصديقكم للشيطان، فتجعلوا الله كاذباً= في ضلال حياتكم= فمن جعل الله كاذباً فهو في ضلال، لا يعرف طريق الحياة. فالله هو الحياة "أنا هو القيامة والحياة" (يو25:11). والموت المذكور هنا هو الموت الروحي. فالكل سيموت جسدياً.

 

آية (13): "إذ ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسره."

الله خلق حياة ولم يخلق موتاً، "أنا إختطفت لي قضية الموت" وذلك إذ سلك الإنسان في الشر= ليس الموت من صنع الله. وأيضاً الألم ليس من صنع الله= ولا هلاك الأحياء يسره. قارن مع (حز32:18+ حز11:33).

 

آية (14): "لأنه إنما خلق الجميع للبقاء فمواليد العالم إنما كونت معافاة وليس فيها سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض."

بل الله خلق العالم بدون فساد= مواليد العالم إنما كونت معافاة= أي صحيحة وسليمة، فهذه إرادة الله (القداس الباسيلي "الذي خلق الإنسان على غير فسادٍ"). ولا ولاية للجحيم على الأرض= لا سلطان للجحيم أن يضم إليه أحد، هكذا أراد الله للإنسان، ولكن الإنسان إختار الشر، فذهب للجحيم. بعد أن كان الموت لا يستطيع أن يمس الإنسان إذا إستمر في بره.

 

آية (15): "لأن البر خالد."

لأن البر خالد= هكذا خلق الله الإنسان في بر وليصير خالداً لا سلطان للموت ولا للجحيم عليه. فالجحيم وجهنم وبحيرة النار أصلاً كانت معدة لإبليس وملائكته. والحياة الأبدية أي المقصودة هنا بالخلود للإنسان. ولكنها ضاعت بالخطية وعادت بالفداء.

 

آية (16): "لكن المنافقين هم استدعوا الموت بأيديهم وأقوالهم. ظنوه حليفا لهم فاضمحلوا وإنما عاهدوه لأنهم أهل أن يكونوا من حزبه."

لكن المنافقين هم استدعوا الموت بأيديهم وأقوالهم= "أنا إختطفت لي قضية الموت". ظنوه حليفاً لهم= الله يقول لأولاده لا تتحالفوا مع الشر فبهذا أنتم تسعون وراء الموت والهلاك الأبدي. أما من يتحالف مع البر فيختار الحياة والخلود.

الآن بعد الفداء صارت معاني هذا الإصحاح واضحة وضوح الشمس. هذا الإصحاح يتلخص في أن من يسعى لله بالحكمة ويتخذ البر طريقاً له، فله حياة أبدية وخلود.


 

الإصحاح الثاني

آية (1): "فأنهم بزيغ أفكارهم قالوا في أنفسها أن حياتنا قصيرة شقية وليس لممات الإنسان من دواء ولم يعلم قط أن أحداً رجع من الجحيم."

راجعة للآية الأخيرة من الإصحاح السابق (16:1). هنا نرى الأشرار المنافقين يعطون تبريراً لإختيارهم حياة الخطية، بأنهم سيموتون بعد حياة قصيرة شقية. ولأن أحداً لم يرجع من الجحيم ليخبرنا بأن هناك عذاب، إذاً فليس لدينا دليل على ذلك. والمقصود إذاً فلنحيا في ملذات العالم كلما إستطعنا ذلك. وهذا كان ملخص الفلسفة الأبيقورية "لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت".

 

الآيات (2-5): "2 إنا ولدنا اتفاقاً وسنكون من بعد كأنا لم نكن قط لأن النسمة في انافنا دخان والنطق شرارة من حركة قلوبنا. 3 فإذا انطفأت عاد الجسم رمادا وانحل الروح كنسيم رقيق وزالت حياتنا كأثر غمامة واضمحلت مثل ضباب يسوقه شعاع الشمس ويسقط بحرِّها. 4وبعد حين ينسى اسمنا ولا يذكر أحد أعمالنا. 5 إنما حياتنا ظل يمضي ولا مرجع لنا بعد الموت لأنه يختم علينا فلا يعود أحد."

إستمراراً للأقوال السابقة نجد هنا المنافقين ينحدروا أكثر وأكثر بل يلحدوا. وينكرون وجود خالق للإنسان= ولدنا إتفاقاً= أي مصادفة. وينكرون خلود النفس، فالإنسان يموت كالحيوان، بلا حياة أخرى= سنكون من بعد كأنا لم نكن قط= وما دام لا يوجد عذاب للأشرار إذاً فلنحيا في شرورنا فليس من يحاسب. إذاً ما هي الحياة التي فينا؟ أجاب هؤلاء وقالوا ما هي سوى دخان هو النسمة في أنافنا= أي أنوفنا. ولكن من خلق الدخان؟ لا إجابة عند هؤلاء. وعن النطق قالوا أنه شرارة تنطلق من القلب. فإذا إنطفأت عاد الجسم رماداً أي عدم. ونفس السؤال، إذاً من خلق القلب، لا إجابة عندهم. والروح هو نسيم ينحل بالموت، وتتحول الروح لنسيم ينساب مع الهواء ويتحول الإنسان إلى عدم، أو لسحابة تسقط أمطارها في بحر وينتهي الإنسان إلى عدم، تلاشي في الهواء أو في البحر. وبعد حين ينسى إسمنا. بل حياتنا كظل= حين يمضى لا يترك له أثراً. ولا قيامة من الأموات إذ حياتنا التي إنتهت مختوم عليها أن لا نرجع أبداً.

هذا هو وضع أي إنسان يحيا بعيداً عن الله منفصلاً عنه، هو يحيا في كآبة إذ لا إستمرارية له، يجري وراء شهواته كالبهيمة، تافهاً هنا على الأرض وعدم بلا حياة أبدية. أمّا إبن الله فهو يدرك قيمته كإبن لله، ويدرك أن له حياة أبدية. هو خلق ليعمل والله شريك له هنا على الأرض ومتحداً به في الأبدية في مجد. الله هو لذة الحياة هنا وهناك.

[أما معلمنا يعقوب حين قال إن الحياة بخار يظهر قليلاً (يع14:4) فهو يعني أن الروح لن تستمر في هذا الجسد للأبد] وفكر الأشرار هذا نراه حتى الآن في كل من يسير وراء شهواته فهو لا يحاول أن يضع الله في فكره، ويبتعد عن الكنيسة وعن كل ما يؤنبه على مسلكه.

 

الآيات (6-9): "6 فتعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة ونبتدر منافع الوجود ما دمنا في الشبيبة. 7 ونترو من الخمر الفاخرة ونتضمخ بالأدهان ولا تفتنا زهرة الأوان. 8 ونتكلل بالورد قبل ذبوله ولا يكن مرج إلا تمر لنا فيه لذة. 9 ولا يكن فينا من لا يشترك في لذاتنا ولنترك في كل مكان آثار الفرح فان هذا حظنا ونصيبنا."

هنا يتضح الهدف تماماً من إلحاد هؤلاء الأشرار، فهم يسعون وراء شهواتهم= تعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة. ونبتدر منافع الوجود= ننتفع من الخليقة (ترجمة أخرى) أي لنبادر ونستفيد من كل ما ينفع شهواتنا. ما دمنا في الشبيبة. ونترو من الخمر= ننطلق بإشتياق إليها أي نسكر منها. نتضمخ= أي ندهن أجسادنا. ولا تفتنا زهرة الأوان= أي شبابنا. لا يكن مرج إلا تمر لنا فيه لذة= المرج هو الحديقة الواسعة، يحاولون أن يجدوا لذاتهم في كل مكان. نتكل بالورد قبل ذبوله= المعنى المباشر لنستفيد بالورد قبل أن يذبل، لكن المعنى يشير لنستفيد من كل شهوة ممكنة قبل أن تتوارى عنا أو ينتهي شبابنا فلا نستطيع الإستمتاع بها. لا يكن فينا من لا يشترك في لذاتنا= لا نصطحب معنا أي إنسان قد يبكتنا على ما نفعله. هذا حظنا ونصيبنا= نصيبنا في هذه الحياة هو الشهوات. وهل الأكل والشر خطأ؟ لا بل على أن لا يكون هدف الحياة بل وسيلة للحياة، ونتناول ما أعطاه الله لنا بالشكر (1تي3:4) لكن هناك من آلهتهم بطونهم ومجدهم في خزيهم (في19:3).

 

آيات (10،11): "10 لنجر على الفقير الصديق ولا نشفق على الأرملة ولا نهب شيبة الشيخ الكثير الأيام. 11 ولتكن قوتنا هي شريعة العدل فانه من الثابت أن الضعف لا يغني شيئا."

هناك إرتباط واضح بين السلوك الشهواني والقسوة. فمن يسلك وراء شهواته يصبح بلا رحمة= لنظلم البار.. هم في شهوانيتهم أصبحوا يريدون كل العالم بكل ما فيه، وليحصلوا على ذلك فلا مانع عندهم من ظلم الأبرار والفقراء. نظلم جاءت هنا نجر من جور أي ظلم وإغتصاب.

 

آيات (12-16): "12 ولنكمن للصديق فانه ثقيل علينا يقاوم أعمالنا ويقرعنا على مخالفتنا للناموس ويفضح ذنوب سيرتنا. 13 يزعم أن عنده علم الله ويسمي نفسه ابن الرب. 14 وقد صار لنا عذولاً حتى على أفكارنا. 15 بل منظره ثقيل علينا لأن سيرته تخالف سيرة الناس وسبله تباين سبلهم. 16 قد حسبنا كزيوف فهو يجانب طرقنا مجانبة الرجس ويغبط موت الصديقين ويتباهى بان الله أبوه."

هنا وصلت الأمور بهؤلاء الأشرار لكراهية البار لنكمن للصديق= فما عادوا في شرهم يحتملون الأبرار (يو18:15-21) فسلوك الأبرار يفضح شرهم، بل منظر البار ثقيل عليهم= فهو نور يفضح الظلمة التي فيهم، وكان المفروض أن يتركوا هم شرورهم لكنهم فضلوا تدبير المؤامرات على البار، فهم خاضعين لإبليس سلطان الظلمة= نكمن للصديق= نختبئ للإيقاع بالصديق أي البار. لماذا لأن الصديق يقرعنا= يبكتنا كأنه يضربنا. وصار لنا عذولاً= أي منعزلاً عنا وعن طرقنا. قد حسبنا كزيوف= أي مغشوشين بلا قيمة. وهو يجانب طرقنا= يبتعد عن طرقنا فهو يراها رجس= أي نجاسة. يغبط موت الصديقين= أي يؤمن بخلودهم وأبديتهم ولماذا؟ لأنهم أبناء الله الحي= ويتباهي بأن الله أبوه والله أبو كل الصديقين ويعطيهم حياة أبدية، وهم أي الأشرار لا يؤمنون بالحياة الأبدية (آيات1-5). ولكن هذه الآيات تعتبر نبوة عن السيد المسيح البار الحقيقي الوحيد المكروه من أشرار هذا العالم، ومن اليهود الذين كانت تعاليمه تبكتهم. وهم كمنوا له ودبروا له موت الصليب وقالوا عنه يسمي نفسه إبن الرب ويقرعنا على مخالفتنا للناموس.

 

آيات (17-20): "17 فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته. 18 فانه أن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. 19 فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره. 20 ولنقض عليه بأقبح ميتة فانه سيفتقد كما يزعم."

هذه الآيات نبوة واضحة عن المسيح إن كان الصديق إبن الله فهو ينصره وينقذه= هذه مثل "إن كنت إبن الله فإنزل عن الصليب" (مت40:27). والسيد المسيح هو الذي قاسى على أيدي هؤلاء الأشرار الشتم والعذاب. ومات بأقبح ميتة وهي الصليب.

ولكن المعنى العام للآيات أن الأشرار وهم لا يؤمنون بحياة بعد الموت ويكرهون الأبرار ويضطهدونهم يسخرون منهم قائلين سنعذبهم ونميتهم ونرى هل يكون لهم حياة أخرى= فإنه سيفتقد كما يزعم= هذه سخرية من إيمان الأبرار بحياة أخرى بعد الموت. بل هم يسخروا من فكرة أن هناك إله يعاقب الأشرار ويكافئ الأبرار، وذلك بأنهم سيضطهدون الأبرار= بالشتم والعذاب. ويرون هل يعاقب الرب ويكافئ، يعاقبهم هم على ما فعلوه ويكافئ الأبرار على برهم وصبرهم. ولكن حتى إن لم يكافئ الله أبراره على الأرض فلهم مكافأتهم في السماء. وهكذا هناك عقوبة للأشرار في نهاية أيام الأرض.

 

آيات (21-25): "21 هذا ما ارتأوه فضلوا لأن شرهم أعماهم. 22 فلم يدركوا أسرار الله ولم يرجوا جزاء القداسة ولم يعتبروا ثواب النفوس الطاهرة. 23 فان الله خلق الإنسان خالدا وصنعه على صورة ذاته. 24 لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم. 25 فيذوقه الذين هم من حزبه."

هنا رد الحكيم على ما يقوله الأشرار. أن شرهم أعماهم= فكل من يسلك وراء شهوته يصاب بالعمى الروحي فلا يدرك الحق. والذنب ذنبهم= هذا ما إرتأوه فضلوا= هم إرتأوا أن يسلكوا وراء شهوتهم، لذلك ضلوا= ولم يدركوا أسرار الله.. فإن الله خلق الإنسان خالداً= فالله حي وحين يخلق فإنه يخلق حياة وليس موتاً. والموت دخيل على الإنسان نتيجة الخطية= بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم= (وهذه الجملة أخذت في القداس الباسيلي) ويذوقه الذين هم من حزبه= كل من يتبع إبليس ويسير في شهواته الشريرة يكون له الموت نصيباً. يذوقه= أي يذوق الموت بمعنى الموت الروحي.(ومن يتبع إبليس سيكون نصيبه معه في البحيرة المتقدة بالنار (رؤ15:20) مع إبليس (رؤ10:20).


 

الإصحاح الثالث

هذا الإصحاح يناقش [1] الحياة الأبدية السعيدة للأبرار بعد أن نقاهم الله على الأرض (آيات 1-9).

                    [2] عقوبة أبدية للأشرار.

 

الآيات (1-9): "1 أما نفوس الصديقين فهي بيد الله فلا يمسها العذاب. 2 وفي ظن الجهال انهم ماتوا وقد حسب خروجهم شقاء. 3 وذهابهم عنا عطبا أما هم ففي السلام. 4 ومع انهم قد عوقبوا في عيون الناس فرجاؤهم مملوء خلودا. 5 وبعد تأديب يسير لهم ثواب عظيم لأن الله امتحنهم فوجدهم أهلا له. 6 محصهم كالذهب في البودقة وقبلهم كذبيحة محرقة. 7 فهم في وقت افتقادهم يتلألأون ويسعون سعي الشرار بين القصب. 8 ويدينون الأمم ويتسلطون على الشعوب ويملك ربهم إلى الأبد. 9 المتوكلون عليه سيفهمون الحق والأمناء في المحبة سيلازمونه لأن النعمة والرحمة لمختاريه."

نفوس الصديقين فهي بيد الله فلا يمسها العذاب الأبدي. وإذا كانت بيد الله فهي لم تذهب إلى العدم كما يظن الأشرار= في ظن الجهال أنهم ماتوا= هم في نظر الجهال عاشوا بلا ملذات ثم ماتوا، بل عاشوا في ألام ثم ماتوا وهذا منتهى الشقاء. الأشرار يظنون أن موت الأبرار وذهابهم عنا عطباً= أي هم في العدم، تلفوا وخسروا كل شئ هنا وهناك أما هم في السلام= أليسوا هم في يد الله (آية1). والله من محبته سمح لهم ببعض الآلام لتنقيتهم، أما الأشرار الساخرين فظنوا أن هذه الآلام إنما هي عقوبة لهم= عقوبة في عيون الناس. أما هم فكان لهم رجاء= رجاؤهم مملوء خلوداً= ويقول رجاؤهم، لأن في العهد القديم كان كل الناس حتى الأبرار يذهبون بعد موتهم للجحيم، لكن الأبرار كانوا يذهبون على رجاء الخلاص الذي سيتم بالمسيح وينقلهم إلى الفردوس. وكان هذا إيمان الأبرار (عب10:11،13-16 + 1بط18:3،19).

أما ألام الأبرار فهي تأديب يسير يعقبه ثواب عظيم. فقبولهم الآلام بشكر وثقة في محبة الله لهو أعظم عند الله من ذبائح المحرقة (هو2:14 + عب15:13). فمن يتألم شاكراً مسبحاً فهو يقدم نفسه ذبيحة محرقة. ("عجول شفاهنا" ترجمتها السبعينية "ثمر شفاه معترفة بإسمه" وهكذا أخذها بولس الرسول في (عب15:13) من السبعينية. فعجول شفاهنا مقصود بها ذبائح محرقاتنا التي هي تسابيحنا وسط ألامنا). ولماذا يسمح الله بالآلام؟ الله يعتبر هذه الآلام بمثابة إمتحان= إمتحنهم فوجدهم أهلاً له= الإمتحان هنا ليس لكي يعلم الله ما في القلوب، فالله فاحص القلوب والكلى. ولكن هو يمتحن الإنسان كما يمتحن الذهب بالنار فيتمحص أي يتخلص من شوائبه (1بط6:1،7) وطوبى لمن يقبل التأديب، فهم في وقت إفتقادهم (يوم الدينونة) يتلألأون. وهذا تعبير واضح عن الإيمان بقيامة الأجساد، بل أجساد ممجدة متلألئة. وهذا ما عبر عنه دانيال بقوله "والفاهمون يضئون كضياء الجلد.. إلى أبد الدهور" (دا 3:12). بل سيكون الأبرار في يوم الدينونة يدينون الأمم= فالأبرار سلكوا بالإستقامة في وسط نفس الظروف التي كان فيها الأشرار، فماذا كان عذر الأشرار. بل سيكون للأبرار نفس رأي الله في دينونة هؤلاء الأشرار، سيفهمون الحق. بل أنهم سيكونون كنار بين القصب (شرار بين القصب) والقصب في ترجمة أخرى (القش). هذه هي الدينونة. فالأشرار سيكونون كالقش، والأبرار ببرهم السابق ومجدهم الحالي في الأبدية سيكونون كنار تلذع هؤلاء. وكون الأبرار يدينون الأشرار فهذا علم به السيد المسيح (لو30:22) وبولس الرسول (1كو2:6 + زك6:12).

 

آيات (10-12): "10 أما المنافقون فسينالهم العقاب الخليق بمشوراتهم إذ استهانوا بالصديق وارتدوا عن الرب. 11 لأن مزدري الحكمة والتأديب شقي إنما رجاؤهم باطل وأتعابهم بلا ثمرة وأعمالهم لا فائدة فيها. 12 نساؤهم سفيهات وأولادهم أشرار."

هنا نرى النهاية الصعبة للأشرار. لقد عاشوا في شهواتهم، والآن سيكتشفون أن رجاءهم كان باطلاً، فكل هذا لم ينفعهم شيئاً. هم كان لهم أولاد لكن أولاد أشرار فهم قد إزدروا الحكمة= أي تركوا وصايا الله ولم يسمعوا صوت تبكيته. وتركوا في العالم بعد موتهم نساء سفيهات وأولاد أشرار هم أفسدوا عائلاتهم وسينالوا العقاب الخليق= أي العقاب اللائق بهم. وربما تشير هذه أن العقاب في الدينونة هو بحسب شر كل واحد.

 

آيات (13-15): "13 ونسلهم ملعون أما العاقر الطاهرة التي لم تعرف المضجع الفاحش فطوبى لها إنها ستحوز ثمرتها في افتقاد النفوس. 14 وطوبى للخصي الذي لم تباشر يده ماثماً ولا افتكر قلبه بشر على الرب فانه سيعطى نعمة سامية لأمانته وحظا شهيا في هيكل الرب.15 لأن ثمرة الأتعاب الصالحة فاخرة وجرثومة الفطنة راسخة."

اليهودي يفرح بالنسل الكثير ويعتبره بركة (مز3:127-5). ولكن إذا عاشت إمرأة في طهارة وكانت لا تلد= عاقر طاهرة. أو رجلٌ خصي= لا ينجب ولكنه لم تباشر يده مأثماً= فطوبى لهؤلاء فلم نصيب سماوي. هم خيرٌ ممن ولدوا بنين كثيرين وتركوهم كأولاد أشرار (آية12). فالذي يحيا في شره نسلهم ملعون. وألا يعاقب من ترك مثل هذا النسل وتسبب في هلاك أولاده. أما العاقر الطاهرة فهي ستحوز ثمرتها في إفتقاد النفوس= ستنال مكافأتها على طهارتها يوم القيامة. هي لم تأخذ نصيباً أرضياً أي أولاد، لكنها ستأخذ ميراثاً سماوياً. وهكذا الرجل الخصي الذي لا يولد له أولاد، لكن عاش في طهارة فهو سيعطي نعمة سامية. لأن جرثومة الفطنة راسخة= الجرثومة ميكروب صغير لكنه سريعاً ما ينتشر، وهكذا من قرر أن يسلك بحكمة وفطنة، فهو سريعاً ما يعينه الرب ويصير قديساً فنتيجة الحكمة لا تضيع، بل تستمر قداسته وينال نصيبه في السماء= حظاً شهياً في هيكل الرب هيكل الرب المقصود به الشركة الأبدية مع الله. ففي الهيكل كان يتلاقي اليهودي مع الله.

 

آيات (16-19): "16 أما أولاد الزناة فلا يبلغون أشدهم وذرية المضجع الأثيم تنقرض. 17 إن طالت حياتهم فأنهم يحسبون كلا شيء وفي أواخرهم تكون شيخوختهم بلا كرامة. 18 وأن ماتوا سريعاً فلا يكون لهم رجاء ولا عزاء في يوم الحساب. 19 لأن عاقبة الجيل الأثيم هائلة."

أما أولاد الزناة فلا يبلغون أشدهم= أي يموتون في سن صغيرة. وإن عاشوا فهم بلا قيمة= يحسبون كلا شئ وشيخوختهم بلا كرامة. والنهاية إن ماتوا فلا يكون لهم رجاء ولا عزاء في يوم الحساب. والمقصود ليس فقط أولاد الزناة بل كل من إختار الشر طريقاً له. وقد تشير كلمة أولاد الزناة لكل من يسلك في عبادة الأوثان، أو كل من يسلك في طريق الزنا.


 

الإصحاح الرابع

الآيات (1،2): "1 إن البتولية مع الفضيلة اجمل فان معها ذكرا خالدا لأنها تبقى معلومة عند الله والناس. 2إذا حضرت يقتدى بها وإذا غابت يشتاق إليه ومدى الدهور تفتخر بإكليل الظفر بعد انتصارها في ساحة المعارك الطاهرة."

في الإصحاح السابق طَوَّب الحكيم الخصي الطاهر. وهنا نجده يتكلم عن نوع جديد من الإخصاء أشار إليه السيد المسيح، وهو من يخصي نفسه، أي يحيا في بتولية دون أن يستمتع بحقه في تكوين أسرة. راجع (مت12:19). فمن عاش بتولاً على أن يكون في حياة الفضيلة= البتولية مع الفضيلة. فهذا أجمل من أن تحيا في أسرة، لأن البتول أعطى حياته كلها لله. ومع أن الأبناء يحملون إسم أبيهم فيبقى له ذكر بعد موته، لكن البتول الطاهر تظل سيرته أجمل= ذكراً خالداً فذكراه معلومة عند الله (الذي يذكر له أنه ترك شيئاً لأجله) وعند الناس= لطهارة سيرته. ثم يمدح البتولية بقوله= إذا حضرت يقتدي بها فإذا عاش في وسطنا إنسان بتول طاهر يشتاق كثير من الشباب أن يفعلوا مثله. ويقول عنها أنها تفتخر بإكليل الظفر بعد إنتصارها في ساحة المعارك الطاهرة= إذ إستطاع البتول أن يتغلب على شهواته الجسدية.

 

الآيات (3-6): "3 أما لفيف المنافقين الكثير التوالد فلا ينجح وفراخهم النغلة لا تتعمق أصولها ولا تقوم على ساق راسخة. 4 وان أخرجت فروعا إلى حين فأنها لعدم رسوخها تزعزعها الريح وتقتلعها الزوبعة. 5 فتنقصف فروعها قبل إناها وتكون ثمرتها خبيثة غير ناضجة للأكل ولا تصلح لشيء. 6 والمولودون من المضجع الأثيم يشهدون بفاحشة والديهم عند استنطاق حالهم."

هنا نرى صورة معكوسة لأشرار لهم أولاد كثيرين ويتساءل الحكيم عنهم فيجدهم بلا نجاح، لا هم ولا أولادهم. إذاً من الأفضل؟ هؤلاء الأشرار بسيرتهم الرديئة أم البتوليين بسيرتهم الحلوة؟ وهنا يسمى الأشرار بالمنافقين= يظهرون غير ما يبطنون. وفراخهم النغلة= أي أولادهم غير الشرعيين. هؤلاء يفتخرون بأن لهم أولاد كثيرين، لكن ظن هؤلاء الأشرار يخيب، فأولادهم هؤلاء لا تتعمق أصولها= أي لا يشعرون بالإنتماء ولا الإحترام لآبائهم الأشرار، وهم أبناء تافهين= لا تقوم على ساق راسخة= ضعفاء روحياً وفاشلين إجتماعياً فهم نتاج أسرة منحلة شريرة. حتى لو صار لهم فروع، فلعدم علاقة هذه الأسرة بالله، فمع التجارب تقتلع هذه الفروع من الريح وتقتلعها الزوبعة= تجارب هذا العالم. فتنقصف قبل إناها= إناها أي وقتها أي قبل أن تثمر، فهم لخطاياهم يحيون بلا بركة وبلا تعزيات إلهية. أبناءهم غير صالحين= لا تصلح لشيء والأولاد ينقلون صورة والديهم الأشرار= يشهدون بفاحشة والديهم عند إستنطاق حالهم= أي أن شرهم ينطق بحالة والديهم الشريرة.

 

آيات (7-14): "7 أما الصديق فانه وان تعجله الموت يستقر في الراحة. 8 لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام ولا هي تقدر بعدد السنين. 9 ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب. 10 انه كان مرضيا لله فاحبه وكان يعيش بين الخطاة فنقله. 11 خطفه لكي لا يغير الشر عقله ولا يطغي الغش نفسه. 12 لأن سحر الأباطيل يغشي الخير ودوار الشهوة يطيش العقل السليم. 13 قد بلغ الكمال في أيام قليلة فكان مستوفيا سنين كثيرة. 14 وإذ كانت نفسه مرضية للرب فقد اخرج سريعا من بين الشرور. أما الشعوب فابصروا ولم يفقهوا ولم يجعلوا هذا في قلوبهم."

أيضاً يظن اليهود أن طول الأيام هو بركة. والحكيم هنا يقول إن من يموت في سن صغيرة لكن في طهارة فهذا بركة عظيمة. فلعل هذا الشاب كان يعيش بين الخطاة فنقله الرب من وسطهم حتى لا يصير مثلهم= خطفه لكي لا يغير الشر عقله. فالعالم بما فيه من إغراءات يدير عقل الشباب= دوار الشهوة يطيش العقل السليم. وجده الرب مرضياً له فنقله قبل أن ينحرف. والمعنى أن الشيخوخة المكرمة ليست في كثرة السنين بل في الحياة الطاهرة= أما الشعوب فلم يفقهوا هذا. فهناك شيوخ سناً لكنهم يعيشون في سفاهة (مثل الشيوخ الذي حكموا على سوسنة بالمقارنة بحكمة دانيال الشاب وطهارته) ولذلك هناك فكر آبائي أن الله ينقل الإنسان في أفضل حالاته.

وغالباً فهذه الآيات تتحدث عن أخنوخ الذي أخذه الرب بعيداً عن شرور العالم إذ هو قد بلغ الكمال في أيام قليلة وكان يعيش بين الخطاة فنقله.

إذاً الحكمة لا تحسب بطول السنين، بل بمقدار عمل الروح القدس في الإنسان وتحويله لإنسان حكيم. ويتفق إشعياء مع هذه الآيات إذ يقول "من وجه الشر يضم الصديق" (إش1:57) وهذا البار الذي نقله الله سريعاً، هو لم يكافأ على الأرض لكن الله سيكافأه في السماء.

 

آيات (15-20): "15 إن نعمته ورحمته لمختاريه وافتقاده لقديسيه. 16 لكن الصديق الذي قد مات يحكم على المنافقين الباقين بعده والشبيبة السريعة الكمال تحكم على شيخوخة الأثيم الكثيرة السنين. 17 فانهم يبصرون موت الحكيم ولا يفقهون ماذا أراد الرب به ولماذا نقله إلى عصمته. 18 يبصرون ويزدرون والرب يستهزئ بهم. 19 سيسقطون من بعد سقوطا مهينا ويكونون عاراً بين الأموات مدى الدهور فأنه يحطمهم وهم مبلسون مطرقون ويقتلعهم من الأسس ويتم خرابهم فيكونون في العذاب وذكرهم يهلك. 20يتقدمون فزعين من تذكر خطاياهم وآثامهم تحجهم في وجوههم."

نعمته ورحمته لمختاريه= هنا على الأرض يفيض الله بمراحمه ونعمه على قديسيه ومختاريه وفي السماء لهم أبدية في مجد= وإفتقاده لقديسيه.

ولكن الصديق الذي قد مات يحكم على المنافقين الباقين= لماذا؟ فإنهم يبصرون موت الحكيم ولا يفقهون ماذا أراد الرب به وأنه نقله بعيداً عن شروره، والله نقله في كرامة بعيداً عن سفههم. بل ربما يستهزئون بموته= يبصرون ويزدرون والرب يستهزئ بهم= الرب يستهزئ على مفاهيمهم الخاطئة وذلك لإنغلاق عيونهم بسبب خطاياهم. إذ هم غير فاهمين أنهم سيموتون أيضاً وربما فوراً ولكن بلا كرامة ولا أبدية. فموت الصديق وموت كل إنسان هو درس للباقين أن الموت قادم بلا ريبة فلماذا لا تستعد؟ = الصديق الذي قد مات يحكم على المنافقين الباقين وهو سيدينهم في الأبدية ببره، فبينما سلك هو في بره سلكوا هم في شرهم ولهم نفس الظروف. والشاب الذي بلغ درجة من الكمال سيدين الشيخ الأثيم كثير السنين. لأنه مع كثرة سنيه لم يتعلم الكمال الذي وصل له هذا الشاب مع أن الكمال كان متاحاً له، لكنه إختار طريق الإثم ففقد كماله. هؤلاء الأشرار حين يموتون يكونون عاراً بين الأموات= فهم في عار أبدي= مدى الدهور. فإنه يحطمهم= الله سيدينهم ويكونون مبلسون= أي حزانى بعد أفراحهم الشهوانية الأرضية. مطرقون= مطأطأون رؤوسهم في خجل. وآثامهم تحجهم في وجوههم= تحجهم أي تقيم عليهم حجة أو دليل. فآثامهم دليل على شرهم وعلى أنهم يستحقون ما هم فيه من عذاب. والله يقتلعهم من الأسس= أي من الأرض التي أسسوا عليها حياتهم ظناً أنهم مخلدون فيها. ويتم خرابهم= بإلقائهم في العذاب الأبدي.


 

الإصحاح الخامس

الآيات (1-5): "1 حينئذ يقوم الصديق بجرأة عظيمة في وجوه الذين ضايقوه وجعلوا أتعابه باطلة. 2 فإذا رأوه يضطربون من شدة الجزع وينذهلون من خلاص لم يكونوا يظنونه. 3 ويقولون في أنفسهم نادمين وهم ينوحون من ضيق صدورهم هذا الذي كنا حينا نتخذه سخرة ومثلا للعار. 4 وكنا نحن الجهال نحسب حياته جنونا وموته هوانا."

أحسن تفسير لهذه الآيات مثل الغني ولعازر. فالغني رأي المجد الذي فيه لعازر. ولعازر رأى العذاب الذي فيه الغني الذي كان يحتقره. وينذهل الأشرار من كل هذا المجد الذي صار فيه الأبرار الذين كانوا يستهزئون بهم. بل سيعترفون أنهم كانوا فيما فعلوه جهالاً= كنا نحسب حياته جنوناً وموته هواناً. هؤلاء الأشرار سيتحملون نتيجة أعمالهم التي كانت على الأرض. نتخذه سخرة= سخرية.

 

الآيات (6-8): "5 فكيف اصبح معدودا في بني الله وحظه بين القديسين. 6 لقد ضللنا عن طريق الحق ولم يضئ لنا نور البر ولم تشرق علينا الشمس. 7 أعيينا في سبل الإثم والهلاك وهمنا في متايه لا طريق فيها ولم نعلم طريق الرب. 8 فماذا نفعتنا الكبرياء وماذا أفادنا افتخارنا بالأموال."

أمام المجد الذي للصديقين والذي يراه الأشرار يندمون ولكن بلا فائدة. الآن بعد فوات الأوان إكتشفوا أن طريق الملذات والشهوات الذي إختاروه وهم على الأرض كان ضلالاً وبلا فائدة. لم يضئ لنا نور البر= هم الذين رفضوا الذهاب لطريق البر ونوره وإنفصلوا عن المسيح شمس البر (ملا2:4). الآن يندمون على كبريائهم وإفتخارهم بأموالهم.

 

الآيات (9-15): "9 قد مضى ذلك كله كالظل وكالخبر السائر. 10 أو كالسفينة الجارية على الماء المتموج التي بعد مرورها لا تجد أثرها ولا خط حيزومها في الأمواج. 11 أو كطائر يطير في الجو فلا يبقى دليل على مسيره يضرب الريح الخفيفة بقوادمه ويشق الهواء بشدة سرعته وبرفرفة جناحيه يعبر ثم لا تجد لمروره من علامة. 12 أو كسهم يرمى إلى الهدف فيخرق به الهواء ولوقته يعود إلى حاله حتى لا يعرف ممر السهم. 13 كذلك نحن ولدنا ثم اضمحللنا ولم يكن لنا أن نبدي علامة فضيلة بل فنينا في رذيلتنا. 14 كذا قال الخطاة في الجحيم. 15 لان رجاء المنافق كغبار تذهب به الريح وكزبد رقيق تطارده الزوبعة وكدخان تبدده الريح وكذكر ضيف نزل يوما ثم ارتحل."

هي تشبيهات تعبر عن أن حياتنا تتلاشي [1] ظل متحرك لا يترك أثراً [2] خبر يمر بسرعة وينساه الناس [3] سفينة متحركة تشق الماء ثم يعود الماء لأصله (الحيزوم= هو الماء الذي إنشق من السفينة ثم عاد لأصله سريعاً) [4] طائر يطير أو سهم ينطلق تراه ثم يختفي بلا أثر (قوادمه= مقدمات ريش الطائر). علينا أن نفكر أننا هكذا سريعاً سنترك العالم فماذا نترك وراءنا؟ هل تركنا شيئاً مفيداً وعملاً صالحاً، أم كنا نسعى وراء شهواتنا. أما من يسعى وراء شهواته التي يظنها شيئاً له قيمة فهي كغبار تذهب به الريح وكزبد وكدخان= شئ يمضي سريعاً ولا نعود حتى نذكره. فإذا سعينا وراء هذه الشهوات فنحن فقدنا كل شئ على الأرض وفي الأبدية، ولم نترك وراءنا علامة نافعة ولا عمل صالح، مهما كان لنا من مراكز مرموقة على الأرض.

 

الآيات (16،17): "16 أما الصديقون فسيحيون إلى الأبد وعند الرب ثوابهم ولهم عناية من لدن العلي.    17 فلذلك سينالون ملك الكرامة وتاج الجمال من يد الرب لأنه يسترهم بيمينه وبذراعه يقيهم."

هنا نرى النقيض مما سبق. فالأبرار لهم حياة أبدية وثواب وكرامة وتاج جمال والرب يسترهم بيمينه. وبذراعه يقيمهم= الذراع هو المسيح الذي سيعطينا حياته وهي حياة أبدية. والستر يعني أن الله سيحيط أولاده الأبرار برعايته ويحتضنهم بمحبته، ويستر خطاياهم التي صنعوها وتابوا عنها.

 

الآيات (18-24): "18 يتسلح بغيرته ويسلح الخلق للانتقام من الأعداء. 19 يلبس البر درعا وحكم الحق خوذة. 20 ويتخذ القداسة ترسا لا يقهر. 21 ويحدد غضبه سيفا ماضيا والعالم يحارب معه الجهال. 22 فتنطلق صواعق البروق انطلاقا لا يخطئ وعن قوس الغيوم المحكمة التوتير تطير إلى الهدف. 23 وسخطه يرجمهم ببرد ضخم ومياه البحار تستشيط عليهم والأنهار تلتقي بطغيان شديد. 24 وتثور عليهم ريح شديدة زوبعة تذريهم والإثم يدمر جميع الأرض والفجور يقلب عروش المقتدرين."

هذه الأسلحة يتسلح بها الأبرار في حروبهم ضد إبليس (أف5). لكن البار الوحيد والكلام عنه هنا، هو الرب يسوع المسيح الذي تسلح بغيرته وحارب إبليس بصليبه. صار خطية لنصير نحن بر الله فيه (2كو21:5) وإذ أعطانا قوة أن نسلك بالبر قيل هنا يسلح الخلق للإنتقام من أعدائه= أي يسلح الخليقة لتحارب بقيادته عدو الخير. هذا معنى خرج غالباً ولكي يغلب (فينا) (رؤ2:6) وفي اليوم الأخير سيكون الإنتقام الكامل والنهائي من أعدائه الشياطين ومن تبعوهم. وسينتقم الله من كل الأشرار الذين إستهانوا به وبوصاياه، فهو قدوس لا يحتمل الخطية وإحتمل شر الأشرار بطول أناة أما عن المسيح فهو لبس البر درعاً= وقال "من منكم يبكتني على خطية" (يو46:8) وحكم الحق خوذة= حكم الحق هو الموت بسبب الخطية وهو قبله عنا على الصليب. ويتخذ القداسة ترساً لا يقهر= لذلك قال "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شئ" (يو30:14) ولهذا هزم الشيطان. بل أعطى هذه الأسلحة لنا، فمن يحاول أن يسلك بالبر ويختار الحق تاركاً الباطل سالكاً في القداسة يكون له سلطان على إبليس. وهذا معنى العالم (القديسين الذين يسلكون بالبر) يحارب معه الجهال= أي الشياطين. والملائكة أيضاً تحاربهم. لذلك يوضع في يد الملاك ميخائيل سيف= ويحدد غضبه سيفاً ماضياً. والملائكة لذلك يحملون جامات غضب الله (رؤ1:15+1:16). غضب الله هنا مشبه بسيف حاد ضد إبليس ومن يتبعه. ويعلن الله غضبه في [1] البروق الملتهبة ناراً. [2] غيوم ينطلق منها مياه كالسيول التي تجرف كل شئ شبهها هنا بقوس موتر يندفع منه سهم. فالقوس هو السحاب والسهام هي السيول الجارفة. [3] بَرَد هي كرات ثلج ضخمة [4] مياه بحر تفيض= تستشيط عليهم وهكذا الأنهار في فيضانات عنيفة [5] رياح وزوابع. فالطبيعة في يد الله. والسبب في كل هذا الغضب هو الخطية= الإثم يدمر جميع الأرض.


 

الإصحاح السادس

الآيات (1-4): "1 الحكمة خير من القوة والحكيم افضل من الجبار. 2 وانتم أيها الملوك فاسمعوا وتعقلوا ويا قضاة أقاصي الأرض اتعظوا. 3 أصغوا أيها المتسلطون على الجماهير المفتخرون بجموع الآلهة. 4 فان سلطانكم من الرب وقدرتكم من العلي الذي سيفحص أعمالكم ويستقصي نياتكم."

الحكمة خيرٌ من القوة= الحكمة التي من عند الله لا نهائية أما القوة البشرية فمحدودة، ومن يعطيه الله حكمة ينتصر على كل قوة. والإبن أقنوم الحكمة إنتصر بصليبه على الشيطان والموت والخطية. وهو قادر أن يعطي لعبيده هذه القوة. فمهما كان ذكاء الإنسان أو قوته فهما قوي محدودة تقف عاجزة عن حل مشاكل كثيرة، لكن قوة الله وحكمته هي بلا حدود. فأيهما أفضل المحدود أو غير المحدود. وكل من كان متحداً بالله وثابتاً فيه فهو يتمتع بالقوة والحكمة اللامحدودة. ولكن الثبات في الله يستلزم حياة نقية طاهرة. وهذه تعني قطعاً تنفيذ الوصايا. وبينما يمجد العالم القوة البشرية نجد أولاد الله يهتمون بطهارتهم والإلتصاق بالله فيكون لهم الحكمة التي يعطيها الله. ولم يكن هناك قوة بشرية تفوق قوة شمشون لكنه إنهزم أمام شهواته. ومهما كانت قوة القوى أو الملك أو الجبار فليعلم أن الله هو الذي أعطاه هذه القوة فلا يفتخر بقوته ويتكبر، فنبوخذ نصر حين تكبر جعله الله مثل الحيوانات. والله أعطى السلطان والقوة للملوك فلو لم يتصرفوا بحكمة وعدل نزع الله سلطانهم.

 

الآيات (5-9): "5 فإنكم أنتم الخادمين لملكه لم تحكموا حكم الحق ولم تحفظوا الشريعة ولم تسيروا بحسب مشيئة الله. 6 فسيطلع عليكم بغتة مطلعاً مخيفاً لأنه سيمضى على الحكام قضاء شديد. 7فأن الصغير أهل للرحمة أما أرباب القوة فبقوة يفحصون. 8 ورب الجميع لا يستثني أحداً ولا يهاب العظمة لأن الصغير والعظيم كليهما صنعه على السواء وعنايته تعم الجميع. 9لكن على الأشداء امتحاناً شديداً."

وحساب هؤلاء الملوك سيكون عسيراً وبحسب القوة التي منحها لهم الله وبحسب سلطانهم. وهنا ينبه الحكيم الملوك أنهم خادمين لملك الله= فيجب أن يكونوا أمناء لله كخدام له ولا يفكروا أن لهم سلطان مطلق. ويحذر الحكيم أن الله سيفاجئ هؤلاء الحكام الظالمين وينفذ فيهم قضاءً شديداً= سيمضي على الحكام قضاء شديداً= يمضي أي يجري أو ينفذ فيهم. فإن الصغير أهل للرحمة= أي المتضع البسيط غير المتكبر. والله سيحاسب الأقوياء فهو لا يهابهم. أما الفقير والضعيف إذ ليس له من يدافع عنه فالله يرحمه ويدافع عنه من الأقوياء= أما أرباب القوة فبقوة يفحصون= أي يعاقبون لكن على الأشداء إمتحاناً شديداً= وبنفس المفهوم فمن يعرف كثيراً يدان كثيراً ويطالب بأكثر.

 

الآيات (10-12): "10 إليكم أيها الملوك توجيه كلامي لكي تتعلموا الحكمة ولا تسقطوا. 11 فان الذين يحفظون بقداسة ما هو مقدس يقدسون والذين يتعلمون هذه يجدون ما يحتجون به.   12 فابتغوا كلامي واحرصوا عليه فتتأدبوا."

حتى يستطيع الملك أو أي مسئول أن يتصرف كما يرضي الله عليه أن يطلب الحكمة كما فعل سليمان.      = لكي تتعلموا الحكمة ولا تسقطوا في أخطاء فتدانوا من الله. وكيف يحصل الملك على الحكمة؟ الذين يحفظون بقداسة ما هو مقدس يقدسون= من يحترم وصايا الله المقدسة ويحترم بيته ومقدساته ويخشى الله يتقدس أي يمتلئ من الروح القدس روح الحكمة فتصير له حكمة. والذين يتعلمون هذه يجدون ما يحتجون به= وفي ترجمة أخرى "يجدون فيه دفاعاً" من يحفظ نفسه ويقدس وصايا الله يستطيع أن يدافع عن نفسه ضد حروب إبليس وأفكاره.

 

 الآيات (13-16): "13 فان الحكمة ذات بهاء ونضرة لا تذبل ومشاهدتها متيسرة للذين يحبونها ووجدانها سهل على الذين يلتمسونها. 14 فهي تسبق فتتجلى للذين يبتغونها. 15 ومن ابتكر في طلبها لا يتعب لأنه يجدها جالسة عند أبوابه. 16 فالتأمل فيها كمال الفطنة ومن سهر لأجلها فلا يلبث له هم."

الحكمة ذات بهاء= لها مجد ولمعان وهي جذابة للجميع. الكل يود لو صار حكيماً. ونضرة لا تذبل= لها حيوية دائمة. وهكذا أقنوم الحكمة أي المسيح فهو بهاء مجد الله وهو الحي إلى الأبد، بل هو الحياة. مشاهدتها متيسرة للذين يحبونها= لن تجد صعوبة في وجود المسيح أو وجود الحكمة، بل المسيح هو الذي يقف على الباب ويقرع (رؤ20:3)= يجدها جالسة عند أبوابه. ووجدانها= أي أن تجدها سهل على الذين يلتمسونها= هي في متناول يد من يبحث عنها، أو بالأحرى لمن يفتح بابه للواقف يقرع، فهل تريد؟ لكن مشكلة البشر هي الإهتمام الزائد بأمور هذا العالم وملذاته. ومن إبتكر..= أي قام باكراً، وهذه تساوي "أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ يجدونني" (أم17:8)" الحكمة تريد منا أن نريدها. فالتأمل فيها كمال الفطنة= التأمل في المسيح ومحبته وفداءه يشعل القلب بمحبته. ومن يحبه يحفظ وصاياه (يو23:14) ومن يحفظ وصاياه يمتلئ حكمة وفطنة. ومن سهر لأجلها فلا يلبث له هم= من يجد ليحصل على الحكمة يكون إنساناً سعيداً. والعكس فالجاهل لأنه يتخبط، كثير الشجار مع الناس، هو في هم. والتأمل في المسيح كلمة الله يأتي من التأمل في الكتاب المقدس كلمة الله.

 

الآيات (17-20): "17لأنها تجول في طلب الذين هم أهل لها وتتمثل لهم في الطرق باسمة وتتلقاهم كلما تأملوا فيها. 18فأولها الخلوص في ابتغاء التأديب. 19وتطلب التأديب هو المحبة. والمحبة حفظ الشرائع ومراعاة الشرائع ثبات الطهارة. 20والطهارة تقرب إلى الله."

الحكمة هي التي تبحث عن هم أهلها لها= "أصغيت إلى الذين لم يسألوا. وجدت من الذين لم يطلبوني" (إش1:65). بل تشجع الناس على إقتنائها= تتمثل لهم في الطرق باسمة. ولكن هناك شروط:-

1.  الخلوص في إبتغاء التأديب= أي الإخلاص في قبول تأديب الله. والصبر في الضيقات فهي تأديب لنكمل. ومن يفهم أن التأديب هدفه الكمال فيصير الإنسان حكيماً، سيقبل التأديب بفرح (يع2:1)بل قال داود "أبلني يا رب وجربني نق قلبي وكليتاي" (مز2:26)

2.  تَطَلُّب التأديب هو المحبة= في ترجمة أخرى "الإهتمام بالتأديب هو المحبة" فالله من محبته يسعى لأن يؤدبنا فنكمل. سأل الرب بطرس ثلاث مرات "أتحبني" ثم قال له أنه سيموت صلباً. والمعنى أن ما يسمح به الله من تجارب هو من محبته لنكمل، فهذا هو هدف الله.

3.    والمحبة حفظ الشرائع= وعلامة محبتنا نحن لله هي أن نحفظ وصاياه (يو23:14)

4.    مراعاة الشرائع ثبات الطهارة= من يحفظ الوصايا، فهذا هو الطريق لنقاوته وطهارته.

5.    والطهارة تقرب إلى الله= هذه مثل "طوبى لأنقياء القلب فأنهم يعاينون الله" (مت8:5).

 

الآيات (21-22): "21 فابتغاء الحكمة يبلغ إلى الملكوت. 22 فان كنتم تلتذون بالعرش والصولجان يا ملوك الشعوب فاكرموا الحكمة لكي تملكوا آلهتهم إلا."

هنا مقارنة بين من تخدعه العروش والملك الأرضي، والحكيم يقول إن الحكمة يبلغ إلى الملكوت الأبدي. أما أي ملك أرضي فهو إلى زوال. وبنفس المفهوم: كل من يظن أن هدفه هو إرضاء شهواته فهذه لابد وستزول، أما أفراح السماء فهي أبدية. لذلك فالملك الحقيقي هي أن يملك الإنسان على شهواته "لذلك نحن ملوكاً وكهنة (رؤ6:1).

 

الآيات (23-27): "23 واحبوا نور الحكمة يا حكام الشعوب. 24 وأنا أخبركم ما الحكمة وكيف صدرت ولا اكتم عنكم الأسرار لكن ابحث عنها من أول كونها واجعل معرفتها بينة ولا أتجاوز من الحق شيئاً. 25 ولا أسير مع من يذوب حسداً لأن مثل هذا لا حظَّ له في الحكمة.      26 إن كثرة الحكماء خلاص العالم والملك الفطن ثبات الشعب. 27 فتأدبوا بأقوالي واستفيدوا بها."

فيا أيها الرؤساء أحبوا نور الحكمة= وليس الماديات. وهذا بأن تستنير عقولكم بمعرفة الله وليس معرفة العالم الشرير. ومن يبحث عنها يعطيها الله له (كما حدث مع سليمان). والحكيم هنا يقول "وأنا أخبركم ما الحكمة.. ولا أكتم عنكم الأسرار= فهي سر لابد أن نفتش عليه حتى نجده، ولكنها متاحة لكل من يبحث عنها بأمانة لكنها سر لمن يحيا بحسب شهواته في العالم. ولا أسير مع من يذوب حسداً= الحكمة هو الأقنوم الثاني أي إبن الله، والله محبة (1يو8:4). والحسد هو اللامحبة أي النقيض، فلا يمكن أن يتلازم كلاهما المحبة والحسد. وقوله يذوب حسداً= حياته كلها حسد ويضيق من كل خير يأتي للناس= مثل هذا لاحظ له في الحكمة. وكلما إزداد الحكماء في العالم يحيا الناس في سعادة= كثرة الحكماء خلاص العالم.


 

الإصحاح السابع

في الإصحاح السابق قال الحكيم أنا أخبركم "ما الحكمة.." (آية24). ويبدأ هنا يحدثنا عن الحكمة. وبكونه أحكم إنسان وإشتهرت حكمته في العالم بدأ قوله بأنه إنما هو إنسان بسيط مثله مثل كل البشر، ولكن مصدر الحكمة عنده هو الله، فهو ليس مولوداً بهذه الحكمة، إنما هي هبة من الله (آيات 7،15). وهو كحكيم كان رمزاً للمسيح أقنوم الحكمة، فنرى الوحي يقوده إلى أن يتكلم عن المسيح أقنوم الحكمة الذي تجسد.

 

الآيات (1-6): "1 إنكم انا إنسان يموت مشاكل لسائر الناس من جنس أول من جبل من الأرض وقد صورت جسدا في جوف أمي. 2 وفي مدة عشرة اشهر صنعت من الدم بزرع الرجل واللذة التي تصاحب النوم. 3 ولما ولدت انتشيت هذا الهواء الشائع وسقطت على هذه الأرض المشتركة وأول ما استهللت بالبكاء على حد الجميع. 4 وربيت في القمط وباهتمام كثير.  5 فانه ليس لملك بدء مولد غير هذا. 6 بل دخول الجميع إلى الحياة واحد وخروجهم سواء."

هو إنسان عادي مثل باقي البشر= مشاكل لسائر الناس أي مشابه لهم. من جنس آدم= أول من جبل من الأرض. وولدت بطريقة طبيعية. وتبدو هنا مشكلة أنه قال في مدة عشرة أشهر صنعت= وقطعاً فهذه ليست خطأ، فمن من البشر، بل أجهل البشر لا يعرف أن فترة الحمل هي تسعة أشهر. لكن العبرانيون كانوا يستعلمون الشهور القمرية التي تتراوح بين (28-30) يوماً وهو إختار أقل الأيام أي 28يوماً للشهر، ومعروف علمياً أن مدة الحمل 40أسبوعاً × 7= 280يوماً. فيكون عشرة أشهر هي 280يوماً. وهو ولد مثل أي طفل بالغريزة الطبيعية بين رجل وامرأة= زرع الرجل واللذة التي تصاحب النوم= أما أولاد الله المولودين من الماء والروح فهم "ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو13:1).

ولما ولدت إنتشيت= إستنشقت الهواء وإنتشيت. وأستهللت بالبكاء على حد الجميع= بدأت حياتي على الأرض بالبكاء كباقي الأطفال. وربيت في القمط= هي ملابس الأطفال حديثي الولادة. وبإهتمام كثير= فلولا الإهتمام الكثير ما عاش طفل (إشارة لضعف الطفل الشديد وإستحالة حياته دون إهتمام كثير من أهله).      إذاً الكل يشترك في هذا حتى أحكم الملوك.

 

الآيات (7-14): "7 حينئذ تمنيت فأوتيت الفطنة ودعوت فحل علي روح الحكمة. 8 ففضلتها على الصوالجة والعروش ولم احسب الغنى شيئا بالقياس إليها. 9 ولم اعدل بها الحجر الكريم لأن جميع الذهب بازائها قليل من الرمل والفضة عندها تحسب طينا. 10 وأحببتها فوق العافية والجمال واتخذتها لي نورا لأن ضوءها لا يغرب. 11 فأوتيت معها كل صنف من الخير ونلت من يديها غنى لا يحصى. 12 فتمتعت بهذه كلها لأن الحكمة قائدة لها ولم اعلم إنها أم جميعها. 13 تعلمتها بغير مكر وأشرك فيها بغير حسد وغناها لا استره.    14 فإنها كنز للناس لا ينقص والذين استفادوا منه أشركوا في محبة الله لأن مواهب التأديب قربتهم إليه."

حينئذ تمنيت فأوتيت الفطنة= هذا ما حدث لسليمان، فهو سأل الله، والله أعطاه الحكمة (1مل9:3،12). وحينما إختبر الحكمة وجدها أفضل من الملك= فضلتها على الصوالجة= جمع صولجان وهو القضيب الذهبي الذي يمسكه الملك كرمز للملك والسلطة. وفضلها عن الغنى والحجر الكريم والعافية والجمال وإتخذتها لي نوراً لأن ضوءها لا يغرب= هي مرشد له في كل تصرف فلا يخطئ، وهي موجودة دائماً. طالما الروح القدس يملأ الإنسان، فهو روح الحكمة-= فحلَّ عليًّ روح الحكمة (آية7) وقارن مع (إش2:11). ولذلك فأهم ما نطلبه هو الإمتلاء من الروح القدس. ولاحظ لماذا فضل الحكمة على كل شئ ضوءها لا يغرب بينما المال والجمال.. بل الحياة بكل ما فيها ستنتهي. بل من ليس له حكمة حتى وإن إمتلك كنوز الدنيا سيضيعها. والمرأة الجميلة إن كانت بلا حكمة فهي لا تطاق. بل أن سليمان حين سأل الله الحكمة، فرح به الله وبطلبه وأعطاه الغني الذي لم يطلبه (1مل13:3) ولكن وضع الله شرطاً لسليمان ليستمر هذا كله (2مل14:3) "إن سلكت في طريقي.."

فأوتيت معها كل صنف من الخير..= (1مل13:3). الحكمة قائدة لها= لو كان سليمان بلا حكمة لأضاع كل هذا الغني في حروب مثلاً لا داعٍ لها. أم جميعها= بالحكمة يستطيع الإنسان أن يصير له الغنى. وبالجهل يضيع الإنسان ماله من غني. والحكيم هنا يضع شروط الإمتلاء من الحكمة= تعلمتها بغير مكر= فالمكر هو حكمة لكنها أرضية نفسانية شيطانية (يع15:3) وأُشرِكُ فيها بغير حسد= كل ما أعطاه الله لسليمان أعطاه للناس بكل حب= أشرك فيه بغير حسد= والحسد ضد الحب فإن كان مصدر الحكمة هو الروح القدس، فكيف يظل الإنسان حكيماً أي ممتلئاً من الروح القدس وهو مملوء حسداً، فلا شركة للنور مع الظلمة. كان يمكن لسليمان أن يحتفظ لنفسه بحكمته ولكنه في حب صاغ حكمته في أمثال (3000مثل) وأناشيد (1005) وشرح للناس كل شئ عن الأشجار والخليقة الحيوانية (1مل32:4،33). وغناها لا أستره= لم يحجب عن الناس ما عرفه من غني الحكمة. ثم يضيف الحكيم أن ما يزيد الحكمة هو قبول التأديب.

فإنها كنز الناس لا ينقص= قد يظن خادم أنه حين يمنع بعض المعلومات عن الآخرين لتكون ملكاً خاصاً له، أنه ينقص حين يعرف الآخرين ما عرفه، لكن سليمان يقول لا. الحكمة كنز لا ينقص. وكلما أعطيت كلما إمتلأت "فالمروِي هو أيضاً يروَى" (أم25:11). وكل من يستفيد من الحكمة التي عندك يشترك معك في محبة الله= أشركوا في محبة الله. لأن مواهب التأديب قربتهم إليه= والله يكمل عمل الحكمة بالتأديب أي بالتجارب والضيقات فتزداد الحكمة.

إذاً الملخص: الحكمة هي أفضل ما نقتنيه/ لا تتوقف على إبن من أنت ولا على مركزك/ هي تطلب من الله/ هي أم كل غني وبركة/ تنمو وتزدهر بالتأديب/ إذا أشركنا الناس فيها لا تنقص بل يشترك الكل بها في محبة الله.

 

الآيات (15-16): "15 وقد وهبني الله أن أبدي عما في نفسي وان اجري في خاطري ما يليق بمواهبه فانه هو المرشد إلى الحكمة ومثقف الحكماء. 16 وفي يده نحن وأقوالنا والفطنة كلها ومعرفة ما يصنع."

هناك من له حكمة ولكنه لا يستطيع التعبير عنها ولكن الله أعطى لسليمان موهبة حسن التعبير فكتب قصائد وأمثال وعَلَّم الناس لأجيال عديدة وحتى اليوم. إذاً التعبير عن الحكمة هو موهبة من الله. والفكر يجده سليمان في خاطره، الله وضعه، وأعطاه أيضاً أن يبدي عما في نفسه.

 

الآيات (17-21): "17 ووهبني علما يقينا بالأكوان حتى اعرف نظام العالم وقوات العناصر. 18 ومبدأ الأزمنة ومنتهاها وما بينهما وتغير الأحوال وتحول الأوقات. 19 ومداور السنين ومراكز النجوم. 20 وطبائع الحيوان وأخلاق الوحوش وعصوف الرياح وخواطر الناس وتباين الأنبتة وقوى العقاقير. 21 فعلمت جميع المكنونات والظواهر لأن الحكمة مهندسة كل شيء هي علمتني."

هنا نرى الحكمة تمتد فتعطي سليمان معرفة بالأكوان= علم الفلك. وقوات العناصر= التي تتكون منها المواد. ومبدأ الأزمنة ومنتهاها= أي الأزلية والأبدية (وهذه لابد أن يكون مصدرها الله). تغير الأحوال= من حرارة إلى برودة وتحول الأوقات= الفصول ومداور الأزمنة= دوران وتعاقب السنين ودوران الكواكب= مراكز النجوم. وكل شئ عن الحيوانات والرياح بل وخواطر الناس والنباتات= الأنبتة. وقوة العقاقير= (الطب والصيدلة). فعلمت جميع المكنونات= الأسرار أي ما هو مخفي والظواهر. ثم يشرح أن الحكمة علمته كل هذا. الحكمة مهندسة كل شئ هي علمتني= العالم كله تقوده الحكمة، فبلا حكمة يتخبط العالم وينتهي. ولكن قوله مهندسة، فالمهندس يصمم وينفذ ويصون. من هذه الآية بدأ الكلام يتخذ شكلاً موحي به من الله، ونجد الحكمة شخص خلق الكون، هو مهندس هذا الكون وكل الخليقة. هذا ما قال عنه يوحنا "به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان" (يو3:1) ويمتد الكلام بعد ذلك في الآيات التالية عن المسيح أقنوم الحكمة مهندس الكون الأعظم.

 

الآيات (22-30): "22 فان فيها الروح الفهم القدوس المولود الوحيد ذا المزايا الكثيرة اللطيف السريع الحركة الفصيح الطاهر النير السليم المحب للخير الحديد الحر المحسن. 23 المحب للبشر الثابت الراسخ المطمئن القدير الرقيب الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة. 24 لأن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك فهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شيء. 25 فأنها بخار قوة الله وصدور مجد القدير الخالص فلذلك لا يشوبها شيء نجس. 26 لأجل ضياء النور الأزلي ومرآة عمل الله النقية وصورة جودته. 27 تقدر على كل شيء وهي واحدة وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها وفي كل جيل تحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء لله وأنبياء. 28 لأن الله لا يحب أحدا إلا من يساكن الحكمة. 29 إنما أبهى من الشمس وأسمى من كل مركز للنجوم وإذا قيست بالنور تقدمت عليه. 30 لأن النور يعقبه الليل أما الحكمة فلا يغلبها الشر."

الكلام هنا عن الإبن الكلمة أقنوم الحكمة الذي كان سليمان رمزاً له، بل هو الذي علم سليمان كل هذه الحكمة. ويعطي لأقنوم الحكمة صفات كثيرة.

فيها (في الحكمة) الروح الفهم القدوس= فالإبن في الروح القدس والروح القدس في الإبن هم إله واحد له ثلاثة أقانيم. وقوله القدوس فهو يشير لله. فكلمة قدوس لا تقال سوى عن الله. أما البشر فيقال عنهم قديس. وحكمة الفَهِم= أي المملوء حكمة فهو روح الحكمة. المولود الوحيد= هو المولود أزلياً من الآب ومولود جسدياً من العذراء. هو الوحيد الجنس. ذا المزايا الكثيرة= ففيه كل الفضائل. اللطيف= قال عن نفسه تعلموا منى فإني "وديع ومتواضع القلب" (مت29:11). السريع الحركة= هو وديع ولطيف ولكنه في نجدة أولاده سريع الحركة، أما في العقوبة فهو طويل الأناة. الفصيح= الفصاحة هي تعبير عن الحكمة، وكل أعمال المسيح كانت دلالة على أنه أقنوم الحكمة، بل الحكمة وقد تجسدت. الطاهر= الذي قال "من منكم يبكتني على خطية" (يو46:8). النير= هو نور العالم (يو12:8). السليم= الذي بلا خطأ، هو الحق الذي بلا عيب. المحب للخير= ونصلي له قائلين "صانع الخيرات". الحديد= وفي ترجمة أخرى "حاداً" فهو يضع حدوداً لكل شئ في العالم، هو ضابط الكل. الحر= هو الله حريته مطلقة أما حرية البشر فنسبية. المحسن= هذه طبيعة الله منذ الأزل، خلق كل العالم وجعله جنة ليحيا الإنسان ولما فقدنا الجنة، جاء بفدائه ليعطينا الملكوت. مروراً بكل الخيرات التي يهبنا إياها ونحن على الأرض، وكل ذلك لأنه المحب للبشر. الثابت الراسخ المطمئن= "ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع17:1) ولا يندم على قرار فهو لا يخطئ. المطمئن= لا يقلق فهو يرى المستقبل كما يرى الماضي والحاضر وهو كلي القوة، بل يعطي طمأنينة لعبيده وهذا لأنه قدير= قوته غير محدودة. الرقيب= هو يرى كل شئ ويراقب كل إنسان. الذي ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة= هو لا يراقب فقط من الخارج، بل "هو فاحص القلوب والكلي" (رؤ23:2). وحيث أنه ينفذ إلى جميع الأرواح فهو يسكن في أحبائه (أف17:3+يو23:14). الحكمة أسرع حركة= فلا تقيدها خطية ولا يعوقها جسد مادي= "كلمة الله .. خارقة إلى مفرق النفس والروح" (عب12:4). بخار قوة الله= هي تدخل كل مكان لا يعوقها شئ كالبخار، والبخار أبيض إشارة لنقاوة الكلمة حكمة الله، ولكن عمله قوي= قوة الله. والبخار المنطلق من الماء المغلي لا يأخذ معه شيئاً من نجاسة الإناء= لا يشوبها شئ نجس. إشارة للمسيح القائم من الأموات بقوة وصاعد للسماء كالبخار ولم يلصق به شيئاً من خطايا الأرض.

صدور مجد القدير الخالص= في ترجمة أخرى "إنبعاث خالص من مجد القدير" هو مولود من الله له نفس مجد الآب.

لأنها ضياء النور الأزلي ومرآة عمل الله النقية وصورة جودته= هذا نفس ما قاله بولس الرسول عن المسيح

"هو بهاء مجده ورسم جوهره" (عب3:1) حامل كل الأشياء بكلمة قدرته= تقدر على كل شئ. لذلك قال السيد المسيح "من رآني فقد رأى الآب" (يو9:14). وقال القديس يوحنا الإنجيلي "الله لم يره أحد قط. الإبن الوحيد الذي في حضن الآب هو خَبَّر" (يو18:1). وهي واحدة= فالله واحد. وتجدد كل شئ= الله يجدد كل تائب، وبفدائه جدد البشرية (كل من آمن وإعتمد وعاش حياة التوبة تجدده النعمة). وهي ثابتة= الله لا يتغير ولا يتجدد. هو يجدد الإنسان ولكنه هو لا يتجدد. وهذه الحكمة تحل في النفوس القديسة فتجددها فتمتلئ محبة لله= فتنشئ أحباء لله وأنبياء= أنبياء تشمل من يتنبأ عن المستقبل كإشعياء ومن يعظ ويكلمنا عن السماء وطريق السماء الذي تذوقه حين أحب الله.

لأن الله لا يحب أحداً إلاّ من يساكن الحكمة= أما من يحب شهوات العالم تاركاً الحكمة فقد قيل عنه "محبة العالم عداوة لله" (يع4:4). والحكمة تتقدم على النور (نور الشمس) لأن الشمس تغيب ويأتي بعدها الليل. والليل رمز للشر= أما الحكمة فلا يغلبها الشر. والحكمة (الإبن كلمة الله) أسمى من النجوم= فهو خالقها، فبه كان كل شئ.


 

الإصحاح الثامن

الآيات (1-4): "1 إنها تبلغ من غاية إلى غاية بالقوة وتدبر كل شيء بالرفق. 2 لقد أحببتها والتمستها منذ صبائي وابتغيت أن اتخذها لي عروسا وصرت لجمالها عاشقا. 3 فان في نسبها مجدا لأنها تحيا عند الله ورب الجميع قد احبها. 4 فهي صاحبة أسرار علم الله والمتخيرة لأعماله."

إنها تبلغ من غاية إلى غاية بالقوة وتدبر كل شيء بالرفق= الكلام عن الحكمة فلها عملها بقوة ولكن بالرفق، وتبلغ لما تريده. وهذا ببساطة لأن الحكمة هي الله، والله قوي جداً وبلا حدود ولكنه يرفق بعبيده وحنون عليهم. والله قادر أن يعطي عبيده هذه الحكمة فيكون لهم قوة ممتزجة بالحنان. والتمسها سليمان فكانت له منذ صباه. أتخذها لي عروساً= يتحد بها. وهذا ما أعطاه لنا المسيح أن يتحد بنا كعريس يتحد بعروسه (رو3:6-5+أف22:5-30) فتسكن فينا الحكمة، فالإتحاد بالمسيح هو إتحاد بالحكمة والإنفصال عن المسيح هو الجهل بعينه. صرت لجمالها عاشقاً= لصفاتها الجميلة. فإن في نسبها مجداً= سليمان نال مجداً إذ نال الحكمة. وجاء له ملوك الأرض ليسمعوا حكمته (1مل34:3+1مل1:10-10). وكان لسليمان غني لم يكن لأحد بجانب حكمته. ونلاحظ أن في الإتحاد بالمسيح (نسبها) مجداً. لأنها تحيا عند الله= في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" (يو1:1). ورب الجميع قد أحبها= فالإبن هو المحبوب (أف6:1) هي صاحبة أسرار علم الله والمتخيرة لأعماله= فالإبن به كان كل شئ. والآب يعمل من خلال الإبن أقنوم الحكمة "قوة الله وحكمة الله" (1كو24:1). وقوله صاحبة أسرار علم الله هذه مثل قول السيد المسيح "لا يقدر الإبن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل" (يو19:5) "ولا أحد يعرف الآب إلاّ الإبن ولا الإبن إلاّ الآب" (لو22:10) فأسرار الآب لا يعرفها إلاّ الإبن فهو ينظر ما يعمل الآب. ومن يقتني الحكمة فالروح القدس الذي يفحص كل شئ حتى أعماق الله (1كو10:2-12) قادر أن يعطيه أن يعرف ويعلم مشيئة الله.

 

الآيات (5-8): "5 إذ كان الغنى ملكاً نفيساً في الحياة فأي شيء أغنى من الحكمة صانعة الجميع. 6 وان كانت الفطنة هي التي تعمل فمن احكم منها في هندسة الأكوان. 7 وإذا كان أحد يحب البر فالفضائل هي أتعابها لأنها تعلم العفة والفطنة والعدل والقوة التي لا شيء للناس في الحياة انفع منها. 8 وإذا كان أحد يؤثر أنواع العلم فهي تعرف القديم وتتمثل المستقبل وتفقه فنون الكلام وحل الأحاجي وتعلم الآيات والعجائب قبل أن تكون وحوادث الأوقات والأزمنة."

الحكمة أفضل من الغنى= فالحكيم قادر أن يصنع المال، أما الجاهل فهو يضيع ما عنده. إن إشتاق أحد للفطنة، والفطنة هي التصرف العملي في التعبير والسلوك. فليعلم مثل هذا أن الحكمة قادرة أن تعطي الفطنة فليس أمهر منها في هندسة الكائنات. وإن إشتاق أحد للبر، فليعلم مثل هذا أن من يقتني الحكمة يكون أجر هذا= أتعابها الفضائل لأنها تعلم العفة أي الترفع عن محبة الماديات وهذا يرتقي إلى محبة الله إذ زهد في الماديات فيكون له الفطنة فهو غير مستعبد للماديات ومثل هذا تكون أحكامه بالعدل. ولا يضعف أمام شئ بل تكون له القوة فلا شهوة تستعبده وتضعفه. وهذه الصفات لا شئ في الحياة أنفع منها والحكمة مصدر كل أنواع العلوم. تعرف القديم= تدرس وتعرف طرق الله في التعامل مع البشر وتتمثل المستقبل= "فيسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب8:13) وبالتالي تتوقع ما الذي سيحدث. والله يعطي ذكاء لفهم أسرار الكون.

 

الآيات (9-16): "9 لذلك عزمت أن اتخذها قرينة لحياتي علما بأنها تكون لي مشيرة بالصالحات ومفرجة لهمومي وكربي. 10 فيكون لي بها مجد عند الجموع وكرامة لدى الشيوخ على ما أنا فيه من الفتاء. 11 وأُعد حاذقا في القضاء وعجيبا أمام المقتدرين. 12 إذا صمت ينتظرون وإذا نطقت يصغون وإذا أفضت في الكلام يضعون أيديهم على أفواههم. 13وأنال بها الخلود واخلف عند الذين بعدي ذكرا مؤبدا. 14 أدبر الشعوب وتخضع لي الأمم. 15 يسمع الملوك المرهوبون فيخافونني ويظهر في الجمع صلاحي وفي الحرب بأسى. 16 وإذا دخلت بيتي سكنت إليها لأنه ليس في معاشرتها مرارة ولا في الحياة معها غمة بل سرور وفرح."

حين عرف الحكيم قيمة الحكمة قرر أن يتمسك بها العمر كله، أي قرر يستمر على طهارته حتى يبقى الله على عطيته. وهذه مثل قول عروس النشيد حين وجدت من تحبه نفسها "فأمسكته ولم أرخِهِ" (نش4:3). قرينة لحياتي= يحيا معها ولا يستغنى عنها أبداً، فهي مشيرة بالصالحات وتعطيه سلام= مفرجة لهمومي. ومن له حكمة يرتفع عند الناس= يكون لي بها مجد.. على ما أنا فيه من الفتاء= أي من أجل الفتاوي والأحكام الصائبة التي يقولها. بل هم ينتظرون ويصغون لأحكامي وأنال بها الخلود= أقوالي بحكمة ستظل شاهدة بحكمتى حتى بعد موتي (وهذه تفهم أن المسيح حين أعطانا حياته وهو الحكمة، صار لنا حياة أبدية= خلود). والفتاوي سر إعجاب الناس بها أنها تحل لهم مشاكلهم، وكان هذا حتى وسط الشيوخ فتميز هو عنهم فحكمته هو من الله وليست من خبرات الحياة. بل حتى الملوك كانوا يقدرون هذه الحكمة، وكان لذلك فإن الملوك والحكام يسمعون فيخافونني. ومشوراته صالحة حتى في الحروب= وفي الحرب بأسي. ويختم هذه الأقوال، بلذة الحكمة في معاشرتها= إذا دخلت بيتي سكنت إليها= هذه تساوي "إن أردت أن تصلي فإدخل مخدعك" (مت6:6) فالحكمة هي أقنوم الإبن الذي يلذ معاشرته في المخدع، فيكون لنا فرحة اللقاء معه= بل سرور وفرح. وفعلاً لم يكن مثل سليمان في حكمته بشهادة الرب نفسه "لم يكن مثلك قبلك ولا يكون بعدك نظيرك" (1مل12:3).

 

الآيات (17-21): "17 فلما تفكرت في نفسي بهذه وتأملت في قلبي أن في قربى الحكمة خلودا. 18 وفي مصافاتها لذة صالحة وفي أتعاب يديها غنى لا ينقص وفي الترشح لمؤانستها فطنة وفي الاشتراك في حديثها فخراً طفقت أطوف طالبا أن اتخذها لنفسي. 19 وقد كنت صبيا حسن الطباع ورزقت نفساً صالحة. 20 ثم بازديادي صلاحا حصلت على جسد غير مدنس. 21 ولما علمت باني لا أكون عفيفا ما لم يهبني الله العفة وقد كان من الفطنة أن اعلم ممن هذه الموهبة توجهت إلى الرب وسألته من كل قلبي قائلاً."

أمام هذه البركات الكثيرة للحكمة ففي القرب منها خلوداً. وفي مصافاتها= أي إخلاص الود لها لذة صالحة. وفي أتعاب يديها= الأجرة التي تعطيها لم يكد ويجدها غنى لا ينقص وفي الترشح لمؤانستها فطنة= حينما يرشح الإنسان نفسه لمصادقتها تعطيه فطنة أي التصرف السليم. وحينما يتكلم الإنسان بحكمة يجد كرامة في أعين الكل= في الإشتراك في حديثها فخراً.

كنت صبياً حسن الطباع ورزقت نفساً صالحة= هذه لا تشير أبداً لعقيدة تناسخ الأرواح، ولكن المعنى أن الله يخلق الخليقة صالحة. الله يخلق نفس صالحة متحدة مع جسد. وداود أبوه رباه تربية صالحة فكان في سنيه الأولى صبياً حسن الطباع. ولكن حينما يكون للإنسان حريته بعد ذلك فقد يستمر على صلاحه وينمو فيه أو ينحرف ويختار طريق شهوات العالم. والحكيم هنا:-

1.    إمّا أنه يتكلم عن بدايات حياته وأنه إزداد صلاحاً فحصل على جسد غير مدنس.

2.  أو أنه يتكلم عن نفسه بعد أن أدرك أن الكل باطل، والنعمة ساندته فإزداد صلاحاً وحصل على جسد غير مدنس. وهذا ما قال عنه السيد المسيح "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت3:18)

وإكتشف أن الصلاح مرتبط بالعفة، والعفة هي عطية من الله [ومن ثمار الروح التعفف (غل23:5)] لذلك كان سؤاله لله (البقية في الإصحاح القادم)


 

الإصحاح التاسع

الآيات (1-6): "1 يا اله الآباء يا رب الرحمة يا صانع الجميع بكلمتك. 2 وفاطر الإنسان بحكمتك لكي يسود على الخلائق التي كونتها. 3 ويسوس العالم بالقداسة والبر ويجري الحكم باستقامة النفس. 4 هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك. 5 فإني أنا عبدك وابن أمتك إنسان ضعيف قليل البقاء وناقص الفهم في القضاء والشرائع. 6 على انه إن كان في بني البشر أحد كامل فما لم تكن معه الحكمة التي منك لا يحسب شيئا."

حينما أدرك الحكيم أن مصدر الحكمة التي أحبها هو الله، صرخ لله مصلياً أن يهبه هذه الحكمة. والله يعطي الروح القدس، روح الحكمة للذين يسألونه (لو13:11).

يا إله الآباء= أنت الأزلي وأنت الذي أحببت آبائنا وأعطيتهم الوعود ورعيتهم زمان غربتهم. يا رب الرحمة= يا من غفرت لهم ولنا خطايانا. فاطر الإنسان بحكمتك= خالق الإنسان بحكمتك وإذا كان الإبن هو حكمة الله (1كو24:1). فتكون هذه الآية مثل (يو3:1) "به كان كل شئ" والله قدير فهو يسود .. ويسوس ويجري الحكم هو ضابط الكل. وهو يسود على الخلائق لأنه كونها فهو صاحب الكلمة في خليقته. وحين يسوس فبالقداسة والبر (العدل)= هو عادل قدوس بار. وإذا أجرى حكماً فبإستقامة نفس= فهو لا يخاف إنسان فيحكم لصالحه. ولذلك فهو يطلب من إله قدير رحيم وماذا يطلب هب لي الحكمة التي سبق وإكتشف مميزاتها، وهو يطلب حكمة إلهية= الحكمة الجالسة على عرشك. ولكن كون سليمان هنا يصور الحكمة كشخص جالس على عرش، فهو بروح الوحي يتكلم عن الإبن حكمة الله "وأما عن الإبن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (عب8:1). وهذا ما صار للبشر أن يسكن المسيح فيه فيقول بولس الرسول "لي الحياة هي المسيح" (في21:1) + "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل20:2) + "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف17:3) ولا ترذلني من بين بنيك= من لا يسكن المسيح عنده ويتحد به معطياً إياه حياته فهو ليس بإبن بل ومرذول ولاحظ إنسحاقه أنا عبدك إنسان ضعيف ناقص الفهم فالله لا يسكن سوى عند المنسحق (إش15:57). ويعترف الحكيم أنه بدون حكمة إلهية فما إنسان مهما كان يحسب شيئاً، لذلك قال عن نفسه أنه عبدك وإبن أمتك ولم يقل ملك، فماذا ينفعه الملك إن لم تسكن فيه الحكمة التي تجعله خالداً. أما كونه ملكاً فمهما عاش فحياته ستنتهي= إنسان ضعيف قليل البقاء. ونرى في (1مل5:3-15) أن سليمان طلب من الله الحكمة والله أعطاها له فعلاً بل فرح بسؤاله.

 

الآيات (7،8): "7 انك قد اخترتني لشعبك ملكا ولبنيك وبناتك قاضيا. 8 وأمرتني أن ابني هيكلا في جبل قدسك ومذبحا في مدينة سكناك على مثال المسكن المقدس الذي هيأته منذ البدء."

حين نظر سليمان لنفسه كملك، وجدها ليست شيئاً للفخر والكبرياء وإنما هي وظيفة كلفه الله بها لخدمة شعبه= إنك إخترتني لشعبك ملكاً ولبنيك وبناتك قاضياً. وأهم عمل قام به في نظره ويفتخر به أن الله أمره ببناء هيكل= أمرتني أن أبني هيكلاً في جبل قدسك. ولإهتمام الله بهذا الهيكل أعطاه مثال المسكن المقدس. وكيف يحكم الشعب بحسب شريعة الله ويبني هذا الهيكل الذي يهتم به الله هكذا بدون حكمة.

 

الآيات (9،10): "9 إن معك الحكمة العليمة بأعمالك والتي كانت حاضرة إذ صنعت العالم وهي عارفة ما المرضي في عينيك والمستقيم في وصاياك. 10 فأرسلها من السماوات المقدسة وأبعثها من عرش مجدك حتى إذ حضرت تَجِدُّ معي واعلم ما المرضي لديك."

يا رب أنت بحكمتك أسست الأرض وصنعتها "به كان كل شئ" (يو3:1) فإعطني حكمتك لأبنى بيتك. والله بحكمته أيضاً يبني كنيسته، هيكل جسده. تَجدُّ= تجتهد. الحكمة العليمة بأعمالك= "الإبن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل" (يو19:5). والتي كانت حاضرة إذ صنعت العالم= "والكلمة كان عند الله" (يو1:1). فأرسلها من السموات المقدسة وأبعثها من عرش مجدك= "ليتك تشق السموات وتنزل" (إش1:64) + "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم" (يو28:16).

 

الآيات (11،12): "11 فأنها تعلم وتفهم كل شيء فتكون لي في أفعالي مرشدا فطينا وبعزها تحفظني.      12 فتغدوا أعمالي مقبولة واحكم لشعبك بالعدل وأكون أهلا لعرش أبي."

الحكمة هي حكمة الله فهي تعلم وتفهم كل شئ، فلا تستطيع خدعة أن تخدعني، ولا قوة أن تقهرني لذلك هي مرشداً فطيناً وبعزها تحفظني= لأن لها قوة قادرة فهي "قوة الله" "المسيح هو حكمة الله وقوة الله" (1كو24:1). وما إهتم به الحكيم ليس كل هذا، بل أن تكون أعماله مقبولة عند الله ويحكم شعب الله بالعدل.

 

الآيات (17-21): "13 فأي إنسان يعلم مشورة الله أو يفطن لما يريد الرب. 14 إن أفكار البشر ذات إحجام وبصائرنا غير راسخة. 15 إذ الجسد الفاسد يثقل النفس والمسكن الأرضي يخفض العقل الكثير الهموم. 16 ونحن بالجهد نتمثل ما على الأرض وبالكد ندرك ما بين أيدينا فما في السماوات من اطلع عليه. 17 ومن علم مشورتك لو لم تؤت الحكمة وتبعث روحك القدوس من الأعالي."

حكمة الله غير محدودة وأكبر من أن يتسع لها فكر بشر، لذلك قد تبدو أحكامه في بعض الأحيان مخالفة للحكمة الإنسانية وغريبة عنها وصعبة، فالإنسان محدود وضعيف وأرضي وزمني وخاطئ، تفكيره متعلق بالأرض، أما الله فغير محدود وسماوي ولا حدود لقدرته ولا زمنى وقدوس= فأي إنسان يعلم مشورة الله. إن أفكار البشر ذات إحجام= أفكار البشر لها حدود فضعف الإنسان وخوفه من الآخرين يحد تصرفاته. والإنسان نفسه تتغير أحكامه على الأمور من وقت لآخر، أمّا الله فأحكامه ثابتة وهو غير متغير، هو الأزلي الأبدي. وكلما إقترب الإنسان من الله وأحب الله سيدرك الكثير من أحكامه.

الجسد الفاسد= بسبب شهوات الجسد تثقل النفس فلا تدرك أحكام الله وحكمتها فالشهوات تظلم العقل. وسبب آخر المسكن الأرضي أي الجسد يخفض العقل الكثير الهموم= الإنسان الذي يحيا في هم وإضطراب لا يدرك حكمة الله، إذ هو غير واثق في الله. فالواثق في الله لا يحمل هماً. السبب الثالث محدودية الإنسان= نحن بالجهد نتمثل (نتصور ونتفهم) ما على الأرض. فكيف نفهم أحكام الله العالية علو السماء= فما في السماوات من إطلع عليه. وكيف نعلم؟ فقط بالروح القدس الذي يفحص كل شئ حتى أعماق الله (1كو10:2) = من علم مشورتك لو لم تؤت الحكمة وتبعث روحك القدوس.

عموماً "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر" (غل17:5) فمن يتجاوب مع شهوات الجسد ينجذب للأرضيات ويبتعد عن السماويات فلا يدرك أحكام الله. وقوله يثقل النفس= النفس هنا تشمل الروح والعقل.

 

الآيات (18،19): "18 فانه كذلك قومت سبل الذين على الأرض وتعلم الناس مرضاتك. 19 والحكمة هي التي خلصت كل من أرضاك يا رب منذ البدء."

إبليس يحاول أن يجذب أولاد الله للعالم وشهواته، لكن حكمة الله تردهم للطريق الصحيح= فإنه كذلك قومت (أصلحت) سبل الذين على الأرض. وتعلم الناس مرضاتك. الحكمة هي التي خلصت كل من أرضاك يا رب منذ البدء= فكل من يرضى الله ولو بقدر بسيط تتدخل الحكمة لتخلصه فهو "قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (إش3:42) ولنثق أن الله أقوى بما لا يقاس من عدو الخير، لكن تظهر قوة الله معنا وحكمته إذا أردنا وإذا تجاوبنا معه ولم نقاومه.


 

الإصحاح العاشر

الآيات (1-2): "1 هي التي حفظت أول من جبل أبا للعالم لما خلق وحده. 2 وأنقذته من زلته واتته قوة ليتسلط على الجميع."

أول من جبل أباً للعالم= هو آدم، الذب بسبب خطيته حُكِمَ عليه بالموت، ولكن حكمة الله أي الإبن اللوغوس حفظه من الموت، فظل ما يقرب من 1000سنة حياً ثم مات= أنقذته من زلته= مع أنه كان يستحق الموت فوراً حافظت عليه حكمة الله لمدة حوالي 1000سنة. بل آتته قوة ليتسلط= كان ممكناً للحيوانات أن تقضي عليه إذ فقد سلطانه عليها، لكن الله أعطاه الحكمة حتى يستطيع أن يحيا وسطها. راجع قول بولس الرسول عن المسيح أنه "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب3:1) فهو الذي حفظ الكون حتى اليوم وحفظ حياة البشر. لما خلق وحده= مع أنه وحده لكن الله أعطاه الحكمة والقوة والسلطان حتى لا تؤذيه الحيوانات. وأعطته حكمة ليفهم أسرار الحيوان والنبات ويعطي لكلٍ إسماً. بل حينما مات جاءت الحكمة متجسده (المسيح) ليفديه فيحيا.

 

الآيات (3-4): "3 ولما ارتد عنها الظالم في غضبه هلك في حنقه الذي كان به قاتل أخيه. 4 ولما غمر الطوفان الأرض بسببه عادت الحكمة فخلصتها بهدايتها للصديق في آلة خشب حقيرة."

ولما ارتد عنها الظالم= الظالم هو قايين، حين ترك الحكمة وخضع لشيطان الحسد والغضب والكراهية هَلَكَ= هلك أبدياً بإنفصاله عن الله وهلك كل نسله بالطوفان بسبب غضب الله، إذ حينما إنفصل قايين عن الله إزداد الشر في نسله، وكان شرهم سبباً في هلاك العالم بالطوفان. ولكن الحكمة حفظت نوحاً وأولاده بأن أرشدته لصنع الفلك= آلة خشب حقيرة وهذه إشارة للصليب الذي تم به الخلاص. وقوله آلة خشب حقيرة= قد تكون نبوة عن موت الصليب الذي هو لعنة وموت عار.

 

الآيات (5-7): "5 وهي التي عند اتفاق لفيف الأمم على الشر لقيت الصديق وصانته لله بغير وصمة وحفظت أحشاءه صماء عن ولده. 6 وهي التي أنقذت الصديق من المنافقين الهالكين فهرب من النار الهابطة على المدن الخمس. 7 والى الأمم يشهد بشرهم قفر يسطع منه الدخان ونبات يثمر ثمرا لا ينضج وعمود من ملح قائم تذكارا لنفس لم تؤمن."

إتفاق لفيف الأمم= هذه عن إتفاق الناس ليبنوا برجاً يصل رأسه للسماء في بابل لقيت الصديق= هو إبراهيم. صانته لله بغير وصمة= الحكمة حفظته بغير خطية. حفظت أحشاءه صماء عن ولده= في ترجمة أخرى "حفظته أقوى من حنانه لولده"= الحكمة أعطته أن يطيع أمر الله والذي هو ضد مشاعره الطبيعية نحو إبنه الوحيد ويقدمه ذبيحة. صماء= قوية متماسكة. هنا في هذه الآيات تضاد بين من فقدوا الحكمة إذ أرادوا أن يتحدوا الله بأن يبنوا برجاً عالياً حتى لا يؤذيهم أي طوفان آخر فتبلبلت ألسنتهم وبين إبراهيم الذي بالحكمة أطاع الله فصار أباً للمؤمنين. وهي التي أنقذت الصديق وصانته من المنافقين= هذه عن لوط فهرب من النار في سدوم وعمورة وإلى الآن يشهد بشرهم قفر= من شدة تركيز الملح في هذه الأرض صارت غير صالحة للزرع= نبات يثمر ثمراً لا ينضج. المدن الخمس= سدوم/ عمورة/ أدما/ صبوييم/ بالغ (صوغر) والأخيرة تركها الله ليسكنها لوط. وقال فيلو السكندري أن هذه المدن الخمس دمرت تماماً وتراكم الملح على أغلبها، ويوجد هناك أعمدة من الملح يطلق على أحدها امرأة لوط.

 

الآيات (8-9): "8 والذين أهملوا الحكمة لم ينحصر ظلمهم لأنفسهم بجهلهم الصلاح ولكنهم خلفوا للناس ذكر حماقتهم بحيث لم يستطيعوا كتمان ما زلوا فيه. 9 وأما الذين خدموا الحكمة فأنقذتهم من كل نصب."

هنا ملخص للأمر كله. إن من عاش بالحكمة التي أعطاها الله للبشر أي ببساطة عاش خائفاً الله أنقذتهم الحكمة من كل نصب أي كل شر وإحتيال وعداوة الآخرين والعكس فمن لم يطيع الحكمة وسار وراء شهواته الخاطئة ظلم نفسه بل ترك ذكراً رديئاً فضح سيرتهم الرديئة. وهذا عمل الشياطين أن ينصبوا فخاخاً للناس فيتركوا الحكمة.

 

الآيات (10-12): "10 وهي التي قادت الصديق الهارب من غضب أخيه في سبل مستقيمة وارته ملكوت الله واتته علم القديسين وأنجحته في أتعابه وأكثرت ثمرات أعماله. 11 وعند طماعة المستطيلين عليه انتصبت لمعونته وأغنته. 12 ووقته من أعدائه وحمته من الكامنين له وأظفرته في القتال الشديد لكي يعلم أن التقوى اقدر من كل شيء."

هذه عن يعقوب= الصديق الهارب من غضب أخيه= قادته الحكمة فيصل إلى بيت خاله وأرته ملكوت الله وأتته علم القديسين= هذه عن سلم يعقوب وفيه رأى يعقوب صورة للفداء وإنفتاح السماء على الأرض. وأنجحته في أتعابه= بارك الله في عمله وأعطاه زوجات وأولاد وعند طماعة المستطيلين عليه= عندما طمع فيه لابان خاله وغير أجرته وأراد أن يتبعه ليؤذيه. الحكمة إنتصبت لمعونته ووقته من أعدائه وأظفرته في القتال= فإرتعب منه لابان إذ علم بأن الله يحميه. ثم حمته الحكمة من غضب عيسو عليه ولم يستطع الإنتقام منه. وربما يشير القتال الشديد لصراعه مع ملاك حتى الفجر.

 

الآيات (13-14): "13 وهي التي لم تخذل الصديق المبيع بل صانته من الخطيئة ونزلت معه في الجب.  14 وفي القيود لم تفارقه حتى ناولته صوالجة الملك وسلطانا على الذين قسروه وكذبت الذين عابوه واتته مجداً أبديا."

هذه عن يوسف= لم تخذل الصديق المبيع. صانته من الخطية= مع إمرأة فوطيفار ونزلت معه في الجب= لتنقذه فلا يموت في الجب. وهكذا في السجن= في القيود لم تفارقه حتى ناولته صوالجة= جمع صولجان، أي صار له الملك بعد تجارب شديدة. هذا عمل الحكمة التي أعدته للملك عن طريق تجارب شديدة، وأعطته سلطاناً على الذين قسروه= كل من إضطهدوه وأزلوه صار له سلطاناً عليهم. كذبت الذين عابوه= إذ ظهرت حكمته ظهرت معها براءته من التهم الظالمة ضده. بل صار مجداً أبدياً. هذه عظمة الحكمة التي تعطي البركة على الأرض وفي السماء لمن يتبعها.

 

الآيات (15-21): "15 وهي التي أنقذت شعبا مقدسا وذرية لا وصمة فيها من أمة مضايقيهم. 16 وحلت نفس عبد للرب وقاومت ملوكا مرهوبين بعجائب وآيات. 17 وجزت القديسين ثواب أتعابهم وقادتهم في طريق عجيب وكانت لهم ظلا في النهار وضياء نجوم في الليل.  18 وعبرت بهم البحر الأحمر وإجازتهم المياه الغزيرة. 19 أما أعداؤهم فأغرقتهم ثم قذفتهم من عمق الغمار على الشاطئ فسلب الصديقون المنافقين. 20 ورنموا لاسمك القدوس أيها الرب وحمدوا بقلب واحد يدك الناصرة. 21 لأن الحكمة فتحت أفواه البكم وجعلت السنة الأطفال تفصح."

هنا نرى الحكمة تنقذ وتحفظ شعباً (اليهود) بأكمله من يد فرعون وعبر صحراء سيناء لتصل بهم لأرض الميعاد. حلت نفس عبد للرب= هو موسى الذي إختاره الله مخلصاً لشعبه وهذه النفس قاومت ملوكاً مرهوبين (فرعون أقوى ملوك العالم وقتها) بعجائب وآيات= عجائب وضربات عشر. بل كانت لهم الحكمة ظلاً في النهار وضياء نجوم في الليل= سحابة تقودهم نهاراً وعمود نار ليلاً يقودهم كالنجوم. فسلب الصديقون المنافقين= اليهود سلبوا المصريين في مقابل أتعابهم ولها سبحوا الله. ولقد كان لشعب إسرائيل خطاياه لكن يا لمحبة الله الذي يقول عنهم هنا شعباً مقدساً وذرية لا وصمة فيها= هذه مثل بيت الشعر الذي يقول "عين المحب عن كل عيب كليلة" ومثل هذا قيل عن أيوب "ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم" (أي8:1) فالله يحب شعبه، إبنه البكر بالرغم من نقائصهم ولكنه يؤدبهم كما عمل مع أيوب ومع شعبه إسرائيل.


 

الإصحاح الحادي عشر

مازالت المقارنة بين شعب الله وكيف حافظت عليهم حكمة الرب، والمصريين القساة الذين ظلموهم وقتلوا أولادهم، وكيف ضربتهم الحكمة. وبينما يؤدب الله أولاده فهو يعاقب ظالميهم.

 

الآيات (1-15): "1 ثم سددت مساعيهم بإرشاد نبي قديس. 2 فساروا في برية لا ساكن بها وضربوا اخبيتهم في أرض قفرة. 3 وقاوموا محاربيهم ودافعوا أعداءهم. 4 وفي عطشهم دعوا إليك فأعطوا ماء من صخرة الصوان وشفاء لغليلهم من الحجر الجلمود. 5 فكان الذي عذب به أعداؤهم إذ أعوزهم ما يشربون وبنو إسرائيل متهللون بكثرته. 6 هو الذي احسن به إليهم في عوزهم. 7 فانك بلبلت أولئك إذ بدلتهم بمعين النهر الدائم دما صديدا. 8 عقابا لهم على قضائهم بقتل الأطفال وهؤلاء أعطيتهم ماء غزيرا عند اليأس منه.  لكي تريهم بعطشهم هذا كيف عاقبت أضدادهم. 10 فانهم بامتحانك لهم وان كان تأديب رحمة فهموا كيف كان عذاب المنافقين المقضي عليهم بالغضب. 11 لأنك جربت هؤلاء كأب إنذارا لهم وأولئك ابتليتهم كملك قاس قضاء عليهم. 12 وقد مسهم في الغيب من الضر ما مسهم في المشهد. 13 إذ أخذهم ضِعفان من الحزن والنحيب بتذكر الضربات السالفة. 14 لأنها لما سمعوا أن ما كان لهم عقابا صار لأعدائهم إحسانا شعروا بيد الرب. 15 والذي قضوا من قبل بطرحه في النهر واستخفوا به ورذلوه استعظموه في أخر الأمر إذ كان عطش الصديقين على خلاف عطشهم. "

سددت مساعيهم= أنجحت طرقهم. بإرشاد نبي قديس= هو موسى. ضربوا أخبيتهم= خيامهم التي يختبئوا فيها. قاوموا محاربيهم= حاربوا عماليق وإنتصروا ونجاح طريقهم كان لأن الله نفسه هو الذي كان يقودهم بعمود السحاب. وبالروح الذي يملأ موسى فيقودهم خلال برية قفر بالحكمة. وعماليق في حربه ضدهم كان يرمز للشيطان الذي يحاربنا خلال رحلة حياتنا، لكن لماذا الخوف منه والمسيح (الحكمة) هو الذي يقودنا، وقد "خرج غالباً (بصليبه) ولكي يغلب (فينا)" (رؤ2:6). والله أعطاهم ماءً من صخرة الصوان= صخرة جامدة لا يوجد فيها ماء شفاء لغليلهم= أي الله يروى عطشهم من الحجر الجلمود= حجر ضخم لا أمل في وجود ماء فيه. ولاحظ التضاد، فمن حجر لا أمل لوجود ماء فيه يعطي الله ماءً غزيراً يُروي شعبه (حوالي 2-3مليون) والعكس فقد حَوَّل الله الماء الغزير في نهر النيل إلى دماً صديداً لأعداء شعبه. والدم الصديد هو الدم القذر العفن. فنفس الماء الذي كان أداة تعذيب للمصريين كان بركة لشعب الله. بلبلت أولئك (المصريين) إذ بدلتهم بمعين النهر الدائم= غيرت للمصريين نبع الماء الدائم (نهر النيل) ليصبح دماً صديداً. ولقد ظل الماء يخرج من الصخر طوال رحلة بني إسرائيل في البرية. والسبب الذي يقوله الحكيم هنا أن اليهود تمسكوا بالحكمة، بينما رفضها المصريين فصاروا قساة القلوب يقتلون الأطفال. ويقدم الحكيم هنا تفسيراً رائعاً: لماذا سمح الله أولاً لشعبه في سيناء أن يعطشوا ولم يعطهم الماء من اليوم الأول، ويقول أنهم بهذا فهموا كيف كان عذاب المنافقين= أي فهموا كيف تعذب المصريون بدون ماء إذ كان ماء النهر عبارة عن دماً صديداً. وبهذا يعرفون عقوبة الخطية، وأنهم شابهوا المصريون في خطاياهم لأدبهم الله هكذا= جربت هؤلاء (شعب اليهود) كأب إنذاراً لهم. أما المصريين إبتليتهم كملك قاسي قضاء عليهم= جزاء لقسوتهم ووثنيتهم لعلهم يشعرون كم ظلموا شعب الله. ولقد سمع المصريون بقصة الماء الغزير الذي تفجر لشعب الله من الصخر فتألموا نفسياً أن هذا يحدث لليهود بينما هم يواجهون ألاماً شديد نتيجة الضربات= قد مسهم في الغيب أي أن الألم الذي عانوه في غياب موسى والشعب إذ سمعوا بما حدث لهم من بركات في سيناء. ما مسهم في المشهد= نفس الآلام التي عانوها وموسى موجود. ولكن الآلام في الغيب كانت آلاماً نفسية، أما الآلام التي في المشهد كانت آلاماً مادية حقيقية. بل حزنوا وإنكسرت نفوسهم حينما علموا بأن موسى هذا الذي إستخفوا به صار قائداً عظيماً. فالحكمة رفعت موسى. وترك الحكمة أذل المصريين. إذ كان عطش الصديقين على خلاف عطشهم= إذ حين عطش الصديقين أفاض الله لهم من الصخر، وإذ عطشوا هم كان لهم دماً صديداً.

 

الآيات (16-21): "16 وإذ كانوا قد سفهوا في أفكارهم الأثيمة وضلوا حتى عبدوا زحافات حقيرة ووحوشا لا نطق لها انتقمت منهم بان أرسلت عليهم جما من الحيوانات التي لا نطق لها.      17  لكي يعلموا أن ما خطئ به أحد به يعاقب. 18 ولم يكن صعبا على يدك القادرة على كل شيء التي صنعت العالم من مادة غير مصورة أن تبعث عليهم جما من الأدباب أو الأسود الباسلة. 19 أو من أصناف جديدة لم تعرف من الوحوش الضارية التي تنفخ نارا أو تبعث دخانا قاتما أو ترسل من عيونها شرارا مخيفا. 20 إذن لكانت تهلكهم خوفا من منظرها فضلا عن أمأنيلت تهشمهم بإصابتها. 21 بل قد كان نفس كافيا لإسقاطهم فيتعقبهم القضاء وروح قدرتك يذريهم لكنك رتبت كل شيء بمقدار وعدد ووزن."

وهنا نرى سبب إنحطاط المصريين ألا وهو عبادة الأوثان. ولقد كان يمكن لله أن يعذب المصريين بأدباب= أي حيوانات ضخمة تفترسهم كالدببة والأسود. أو حتى بحيوانات يوجدها الله لا يعرفها الإنسان= تنفخ ناراً أو تبعث دخاناً قاتماً= فالله قادر على كل شئ. لكن الله لم يُرسل على المصريين هذا أو ذاك، بل أرسل عليهم ضفادع بكثرة= جماً من الحيوانات= لسبب بسيط أنهم عبدوا الضفاع، والله حين يضرب فهو يعلم أيضاً، والله أراد أن يجعلهم يشمئزوا من هذه الضفادع التي عبدوها. فهذا درس للمصريين بسبب وثنيتهم وحينما عبدوا العجول، أرسل الله البرد وقتل لهم حيواناتهم التي عبدوها. إذاً أيضاً هذا درس وتعليم. لم يكن صعباً على يدك القادرة على كل شئ التي صنعت العالم.. أن تبعث أصناف جديدة الله كان قادراً أن يخلق حيوانات مرعبة. بل قد كان نَفَس كافياً لإسقاطهم= أي الله كان قادراً بغير حيوانات أن يذريهم أي يشتتهم بنفخة من فمه، وهذا سيفعله الله في نهاية الأيام (2تس8:2). فالله حتى مع عبدة الأوثان فهو يضرب لا ليبيد بل ليقود الناس للتوبة. "فالله يريد أن الجميع يخلصون" (1تي4:2)

ملحوظة: إنتشرت في مصر عبادة حيوانات كثيرة مثل (الثعابين والتمساح والثعلب والكبش والعجل والبقرة والصقر والقرد والضفدعة..) وكانوا يتصورون أن الآلهة تتجسد في شكلها لتتمكن أن تطوف وسطهم. بل عبدوا بعض الحشرات الحقيرة كالجعران ولاحظ أن عقوبة الله من نفس جنس العمل، فالحشرات آذتهم في الضربات العشرة والضفادع التي عبدوها صارت سبباً لنفورهم منها إذ ماتت وجمعوها في أكوام برائحة نتنة.

 

الآيات (22-27): "22 وعندك قدرة عظيمة في كل حين فمن يقاوم قوة ذراعك. 23 إن العالم كله أمامك مثل ما ترجح به كفة الميزان وكنقطة ندى تسقط على الأرض عند السحر. 24 لكنك ترحم الجميع لأنك قادر على كل شيء وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا. 25 لأنك تحب جميع الأكوان ولا تمقت شيئا مما صنعت فانك لوا بغضت شيئا لم تكونه.       26 وكيف يبقى شيء لم ترده أم كيف يحفظ ما لست أنت داعيا له. 27 انك تشفق على جميع الأكوان لأنها لك أيها الرب المحب للنفوس."

الله قدير ولا يستطيع أحد أن يقاومه، بل العالم كله كلا شئ أمامه= مثل ما ترجح به كفة الميزان= شئ بسيط يضاف على الميزان ليميل. أو نقط ندى. وهذا نفس ما قاله إشعياء (15:40-17). لكنك ترحم الجميع= تضرب المصريين لتعلمهم ضلال طريقهم. وتؤدب شعبك ليعرفوك. فالله لا يبغض المصريين بل هو خالقهم= فإنك لو أبغضت شيئاً لم تكونه. وإذا كان الله لا يريد شيئاً يبيده= كيف يبقى شئ لم ترده. ولاحظ الآية الرائعة= تتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا= يطيل أناته علينا لعل هذا يقودنا للتوبة (رو4:2) وراجع أيضاً (2بط9:3).


 

الإصحاح الثاني عشر

الآيات (1-2): "1 إن في كل شيء روحك الذي لا فساد فيه. 2 فبه توبخ الخطاة شيئا فشيئا وفيما يخطأون به تذكرهم وتنذرهم لكي يقلعوا عن الشر ويؤمنوا بك أيها الرب."

هنا يصل الحكيم لنفس ما قاله السيد المسيح أن "الروح يبكت على خطية.." (يو8:16). وواضح هدف الحكيم أن الله يؤدب ويجرب ويبكت حتى يقود كل نفس للخلاص، هو خلص النفس لأنه يريدها، ولا يريد لها الهلاك. روحك الذي لا فساد فيه= بينما أن الضمير يتشكل ويتلون بحسب البيئة التي يحيا فيها الإنسان، وهو قد فسد بسبب سقوط الإنسان. والضمير هو صوت وصية الله المطبوعة على القلب ولكن هذا قد تغير بالسقوط، فأخذ الإنسان يبرر خطاياه. بل أن الروح القدس يقنع غير المؤمن ليؤمن (1كو3:12).

 

الآيات (3-5): "3 فانك أبغضت الذين كانوا قديما سكان أرضك المقدسة. 4 لأجل أعمالهم الممقوتة لديك من السحر وذبائح الفجور. 5 إذ كانوا يقتلون أولادهم بغير رحمة ويأكلون أحشاء الناس ويشربون دماءهم في شعائر عبادتك."

الله يبغض الخطية جداً. ولاحظ إلى أي درجة وصلت خطايا الكنعانيين، لذلك أبغضهم الله. والكنعانيين كانوا سكان أرض الميعاد قبل أن يأتي إليها اليهود. هؤلاء مارسوا الزنا والشذوذ الجنسي حتى في عباداتهم وقتلوا أولادهم كذبائح لآلهتهم.

 

الآيات (6-7): "6 فآثرت أن تهلك بأيدي آبائنا أولئك الوالدين قتلة النفوس التي لا نصرة لها. 7 لكي تكون الأرض التي هي اكرم عندك من كل ارض عامرة بأبناء الله كما يليق بها."

الله أمر شعبه بإبادة هؤلاء الكنعانيين الأشرار كعقاب لهم على خطاياهم وكدرس لشعبه أن من يفعل هذه الخطايا فعقوبته الموت هكذا. وهذا ما حدث لليهود بعد ذلك، فلقد عاقبهم الله بنفس العقوبات حينما فعلوا نفس هذه الخطايا. هنا الله إستخدم اليهود كأداة ليؤدب بها الكنعانيين مثلما إستخدم من قبل الطوفان والنار مع سدوم وعمورة. ثم إستخدم الله الشعوب المجاورة لتأديب اليهود إذ أخطأوا هم أيضاً. الله يبدأ بتبكيت من الروح القدس في القلب (أو الضمير) ولمن لا يستجيب تبدأ ضربات الله في تصاعد ضده حتى يتوب، وإن لم يتب فهو يهلك. الأرض التي هي أكرم عندك.. بأبناء الله= الأرض كانت في نظر الله كريمة إذ سكن فيها أحباءه إبراهيم وإسحق ويعقوب، وسيسكن فيها داود وسليمان وسيقام فيها الهيكل حيث تقدم العبادة لله. ثم سيأتي فيها المسيح.

 

الآيات (8-10): "8 على انك أشفقت على أولئك أيضاً لأنهم بشر فبعثت بالزنابير تتقدم عسكرك وتبيدهم شيئا بعد شيء. 9 لا لأنك عجزت عن إخضاع المنافقين للصديقين بالقتال أو تدميرهم بمرة بالوحوش الضارية أو بأمر جازم من عندك. 10 لكن بعقابهم شيئا فشيئا منحتهم مهلة للتوبة وان لم يخف عليك أن جيلهم شرير وان خبثهم غريزي وأفكارهم لا تتغير إلى الأبد."

الزنابير= الله أرسلها كضربة بسيطة، فضربات الله تصاعدية. ولما لم يتوب شعب الكنعانيين من ضربة الزنابير، جاءت ضربة شعب اليهود لهم. ومن يقدم توبة بعد الضربة الأولى البسيطة لا تأتي عليه الضربة الأشد التالية. والزنابير كانت تلدغ هذا الشعب الشرير لدغات مؤلمة. لكن شعب الرب ضربهم ضربات إبادة قاتلة. فالله يعطي فرصة للتوبة. لأنهم بشر= فالله يعطي للإنسان فرص للتوبة إذ يعرف ضعفه كبشر.

الزنابير= قد يقصد بها جيوش شعوب مجاورة حاربتهم وضايقتهم قبل أن يأتي شعب الله ليبيدهم.

 

الآيات (11-14): "11 لأنها كانوا ذرية ملعونة منذ البدء ولم يكن عفوك عن خطاياهم خوفا من أحد. 12فانه من يقول ماذا صنعت أو يعترض قضاءك ومن يشكوك بهلاك الأمم التي خلقتها أو يقف بين يديك مخاصما عن أناس مجرمين. 13 إذ ليس اله إلا أنت المعتني بالجميع حتى تُرِي انك لا تقضي قضاء الظلم. 14 وليس لملك أو سلطان أن يطالبك بالذين أهلكتهم."

الله كان يعلم خبثهم وأنهم سيرفضوا الإنذار والتأديب، لكنه بعدله يعطي كل واحد فرصته حتى يتم القول "لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت" (مز50).

 

الآيات (15-18): "15 وإذ أنت عادل تدبر الجميع بالعدل وتحسب القضاء على من لا يستوجب العقاب منافيا لقدرتك. 16 لأن قوتك هي مبدأ عدلك وبما انك رب الجميع فأنت تشفق على الجميع. 17 وإنما تبدي قوتك للذين لا يؤمنون انك على كمال القدرة وتعاقب العلماء على جسارتهم. 18 لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق وتدبرنا بإشفاق كثير لأن في يدك أن تعمل بقدرة متى شئت."

لأن قوتك هي مبدأ عدلك= الإنسان لا يستطيع أن يحكم بالعدل بسبب ضعفه، فهو لأنه يخاف الأقوى منه يجامل هذا الشخص الأقوى ويحابي له، أما الله فمطلق القوة ولا يخشى أحداً. ولكنه مع كل قوته وقدرته فهو يشفق على الجميع طالباً توبتهم. أما المكتبرين= يسميهم هنا العلماء أي المتشامخين الذين لا يقبلون مشورة ولا نصحاً فهؤلاء يعاقبهم.

 

الآيات (19-27): "19 فعلمت شعبك بأعمالك هذه أن الصديق ينبغي أن يكون محبا للناس وجعلت لبنيك رجاء حسنا لأنك تمنحهم في خطاياهم مهلة للتوبة. 20 لأنك أن كنت عاقبت أعداء بنيك المستوجبين للموت بمثل هذا التحرز والترفق وجعلت لهم زمانا ومكانا للإقلاع عن الشر. 21 فبأي اعتناء دبرت بنيك الذين واثقت آباءهم بالأقسام والعهود على مواعيدك الصالحة. 22 فتؤدبنا نحن وتجلد أعداءنا جلدا كثيرا لكي نتذكر حلمك إذا حكمنا وننتظر رحمتك إذا حكم علينا. 23 لأجل ذلك فالمنافقون الذين عاشوا بالسفه عذبتهم بارجاسهم عينها. 24 فانهم في ضلالهم تجاوزوا طرق الضلال إذ اتخذوا ما يستحقره أعداؤهم من الحيوان آلهة مغترين كأطفال لا يفقهون. 25 لذلك بعثت عليهم عقاب أولاد لا عقل لهم للسخرية. 26 ولما لم يتعظوا بتأديب السخرية ذاقوا العقاب اللائق بالله. 27 وفيما تحملوه بغيظهم وقد رأوا أن ما اتخذوه إلها كانوا به يُعذَّبون عرفوا الإله الحق الذي كانوا يكفرون به ولذلك حلت بهم خاتمة العقاب."

الله يحين يطيل أناته على الأشرار فهو يعطي درساً لشعبه في التسامح وطول الأناة مع أعدائهم. وإذا كان الله يطيل أناته على الغرباء فكم يطيل أناته على شعبه. واثقت آبائهم بالأقسام= دخلت في مواعيد وعهود ومواثيق مع أبائهم بل بأقسام ولاحظ تدرج عمل الله مع كل نفس:

1.    مواعيد ومواثيق وعطايا وبركات= مواعيدك الصالحة.

2.    تأديب بسيط= تؤدبنا .. لكي نتذكر حلمك.

3.    عقاب بسيط كأطفال (آية25).

4.    عقاب شديد (آية26).

والهدف أن يعرفك الكل كإله حق (آية27).

المنافقون= هم المصريون الذين يقولون أنهم يعبدون الله وهم يعبدون أوثان. هم في عباداتهم كانوا كأطفال لا يفقهون، عندما عبدوا الحشرات، فعاقبتهم عقاب أطفال إذ ضربتهم بالحشرات والضفادع ليفهموا. وإذ لم يفهموا جاءت الضربات الأشد ومات أبكارهم وغرق جيشهم.


 

الإصحاح الثالث عشر

الآيات (1-5): "1 أن جميع الذين لم يعرفوا الله هم حمقى من طبعهم لم يقدروا أن يعلموا الكائن من الخيرات المنظورة ولم يتأملوا المصنوعات حتى يعرفوا صانعها. 2 لكنهم حسبوا النار أو الريح أو الهواء اللطيف أو مدار النجوم أو لجة المياه أو نيري السماء آلهة تسود العالم. 3 فان كانوا إنما اعتقدوا هذه آلهة لأنهم خلبوا بجمالها فليتعرفوا كم ربها احسن منها إذ الذي خلقها هو مبدأ كل جمال. 4 أو لأنهم دهشوا من قوتها وفعلها فليتفهموا بها كم منشئها أقوى منها. 5 فانه بعظم جمال المبروءات يبصر فاطرها على طريق المقايسة."

هنا الحكيم يتعجب أن الوثنيين أعجبوا بجمال الكواكب والشمس وخافوا النار وأعجبوا بقوتها فعبدوها، ولم يفكروا في أنه إذا كانت هذه الكائنات جميلة وقوية فكم وكم خالقها. بل إن هذه الكائنات تشهد بأن هناك خالق لها. وهذا ما قاله داود وبولس "السموات تحدث بمجد الله" (مز1:19) + "أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية.." (رو20:1-25).

لم يقدروا أن يعلموا الكائن= الكائن هو الكائن بذاته أي يهوه. نيري السماء= الشمس والقمر. وللآن فهناك من يتعلق بالماديات والأموال ويظن أن فيها شبعه وحماية له من عوامل الزمن. ولنلاحظ أن أولاد الله تحكموا في المخلوقات السماوية فيشوع أوقف الشمس وإيليا أوقف المطر. والثلاثة فتية قاوموا النيران. أما السيد المسيح فظهر سلطانه على كل قوى الطبيعة فهو الخالق.

 

الآيات (6-9): "6 غير أن لهؤلاء وجها من العذر لعلهم ضلوا في طلبهم لله ورغبتهم في وجدانه. 7 إذ هم يبحثون عنه مترددين بين مصنوعاته فيغرهم منظرها لأن المنظورات ذات جمال. 8 مع ذلك ليس لهم من مغفرة. 9 لأنهم أن كانوا قد بلغوا من العلم أن استطاعوا إدراك كنه الدهر فكيف لم يكونوا أسرع إدراكا لرب الدهر."

هذه كما قال بولس الرسول "حتى أنهم بلا عذر" (رو20:1) ربما في بداية الكلام حاول الحكيم أن يجد عذراً لهؤلاء الوثنيين إذ أعجبوا بجمال الخليقة وهم يبحثون عن الله فظنوا أن هذه المخلوقات هي الله. ثم عاد وقال، لا هم بلا عذر. فالله وهبهم العقل الذي كان لابد أن يستخدموه ليكتشفوا أن هناك إله وراء هذه الخليقة. هم بلغوا من العلم أن إستطاعوا إدراك كنه الدهر= الأزمنة والأوقات، وعرفوا أن هناك قانوناً يحكم سير الأجرام السماوية، فكيف لم يكتشفوا أن هناك إله وراء هذا القانون، هو واضع هذا القانون الذي يحرك الأجرام السماوية هو رب الدهر.

 

الآيات (10-16): "10 أما الذين سموا أعمال أيدي الناس آلهة الذهب والفضة وما اخترعته الصناعة وتماثيل الحيوان والحجر الحقير مما صنعته يد قديمة فهم أشقياء ورجاؤهم في الأموات. 11 يقطع نجار شجرة من الغابة طوع العمل ويجردها بحذقه من قشرها كله ثم بحسن صناعته يصنعها آلة تصلح لخدمة العيش. 12 ويستعمل نفايتها وقودا لإعداد طعامه. 13 ثم يأخذ قطعة من نفايتها لا تصلح لشيء خشبة ذات اعوجاج وعقد ويعتني بنقشها في أوان فراغه ويصورها بخبرة صناعته على شكل إنسان. 14 أو يمثل بها حيوانا خسيسا ويدهنها بالاسفيداج ويحمر لونها بالزنجفر ويطلي كل لطخة بها. 15ويجعل لها مقاما يليق بها ويضعها في الحائط ويوثقها بالحديد. 16 ويتحفظ عليها أن لا تسقط لعلمه بأنها لا تقوم بمعونة نفسها إذ هي تمثال يفتقر إلى من يعينه."

قال إشعياء نفس الكلام تقريباً (9:44-20). فكيف يعتبرون إلهاً هذا الذي يصنعه نجار ويصورها كيفما يريد ويدهنها بالإسفيداج (طلاء أبيض لدهان التماثيل) ثم بالزنجفر= مادة حمراء للطلاء. فكيف يتعبد إنسان لما يصنعه بيده. بل قطعة الخشب التي يصنع منها الصنم كانت أصلاً لا تصلح لشئ لوجود بعض العقد والبروزات بها، وبمهارته يستفيد من هذه البروزات لعمل التمثال (من العجب أن هذه البروزات وعقد الخشب جعلت هذه القطعة بلا فائدة، فلم يستطع أن يعمل منها شيئاً مفيداً فصنع منها إله).

 

الآيات (17-19): "17 ثم يتضرع إليها عن أمواله وأزواجه وبنيه ولا يخجل أن يخاطب من لا روح له. 18فيطلب العافية من السقيم ويسال الميت الحياة ويستغيث بمن هو اعجز شيء عن الإغاثة. 19 ويتوسل من اجل السفر إلى من لا يستطيع المشي ويلتمس النصرة في الكسب والتجارة ونجح المساعي ممن هو اقصر موجود باعاً."

نجح المساعي= نجاح المساعي. أقصر باعاً= أقل قدرة. عجيب أن يطلب إنسان من هذه التماثيل نجاح طرقه. ولليوم فهناك من يثق في أن المال يحميه من غدر الزمان، وما المال سوى أوراق ملونة، فهل هذه تحمي. أو هناك من يثق في إنسان كواسطة تسهل له أموره، والإنسان قد يموت في أي لحظة.


 

الإصحاح الرابع عشر

الآيات (1-5): "1 وآخر قبل أن يركب البحر ويسير على الأمواج المعربدة يستغيث بخشب هو اقصف من المركب الذي يحمله. 2 لأن المركب اخترعه حب الكسب وصنعته الحكمة المهندسة. 3 لكن عنايتك أيها الآب هي التي تدبره لأنك أنت الذي فتحت في البحر طريقا وفي الأمواج مسلكا آمنا. 4 وبينت انك قادر أن تخلص من كل خطر ولو ركب البحر من يجهل صناعته. 5 وأنت تحب أن لا تكون أعمال حكمتك باطلة فلذلك يودع الناس أنفسهم خشبا صغيرا ويقطعون اللجة في سفينة ويخلصون."

خشب هو أقصف= أضعف ويسهل كسره وتحطيمه. فالوثن الخشبي أضعف من المركب، فهل يطلب الإنسان منه أن يحميه من خطر السفر في البحر عن طريق سفينة هي أقوى من الخشب وأمتن. وبنفس المنطق كيف يستطيع العالم بشهواته الضعيفة أن يعطي الإنسان فرحاً وسلاماً. الله وحده يعطي الفرح والسلام. لأن المركب إخترعه حب الكسب= حباً في الكسب (صيد السمك أو التجارة عبر البلاد) دفعا الناس لإختراع المراكب. والله أعطى الإنسان هذا العقل الذي صمم ونفذ= الحكمة المهندسة. والله هو الذي يحمي المسافرين في البحر. والله هو الذي أوجد الهواء والرياح التي تدفع السفينة وقانون الطفو الذي يجعل المياه تحملها. والله قادر أن ينقذ ركاب السفن من كل خطر حتى من منهم من هو ليس بحاراً، فالله وضع قوانين للهواء وللنجوم بها يعرف الملاحون طرق البحر.

ملحوظة: كان البحارة يضعون في مراكبهم تماثيل لآلهة خشبية لتحميهم (أع11:28).

 

الآيات (6-11): "6 وفي البدء أيضاً حين هلك الجبابرة المتكبرون التجأ رجاء العالم إلى سفينة وأرشدته يدك فأبقى للدهر ذرية تتوالد. 7 فالخشب الذي به يحصل البر هو مبارك. 8 أما الخشب المصنوع صنما فملعون هو وصانعه أما هذا فلأنه عمله وأما ذاك فلأنه مع كونه فاسدا سمي إلها. 9 فان الله يبغض المنافق ونفاقه على السواء. 10 فيصيب العقاب المصنوع والصانع. 11 لذلك ستفتقد أصنام الأمم أيضاً لأنها صارت في خلق الله رجسا ومعثرة لنفوس الناس وفخا لأقدام الجهال."

الكلام هنا عن خلاص نوح وأبنائه في الفلك أثناء الطوفان. فالله نفسه إستخدم سفينة لينقذ عبيده من طوفان هائل. إذاً الخلاص من عند الرب والوسيلة سفينة (رمزاً للكنيسة). أما الخشب المصنوع صنماً فملعون هو وصانعه= الله ليس ضد الخشب ولا السفن، بل هو إستخدمها لإنقاذ نوح. لكن الله ضد الإستخدام الخاطئ للخشب. وبمفهوم أوسع فالله ليس ضد الطعام والشراب والتليفزيون وكل ما صنعه الله، لكن الله ضد الإستخدام الخاطئ لأي شئ. الجبابرة= هم من تجبروا وصنعوا الخطية ولم يبالوا بالله (تك4:6) والآية (7) إتخذت نبوة عن الصليب= الخشب الذي يحصل به البر هو مبارك. وكلمة البرهي نفسها العدل. فعدل الله ورحمته ظهرا على الصليب. وبالصليب كان الفداء الذي به تبررنا. ستفتقد أصنام الأمم= الله يطيل أناته على هؤلاء الوثنيين ،لكنه سيعاقب على هذا الجهل وسيبطل عبادة الأصنام الحقيرة. الله لا يتكلم عن الخشب المصنوع منه الأصنام، بل صانعيها والشياطين الذين هم وراء هذه العبادة. هؤلاء سيعاقبون لأنهم أعثروا الناس. لأنها صارت في خلق الله رجساً= الله خلق الخشب وهم حولوه لأصنام رجسة فلهذا سيعاقب الله.

 

الآيات (12-17): "12 لأن اختراع الاصنام هو اصل الفسق ووجدانها فساد الحياة. 13 وهي لم تكن في البدء وليست تدوم إلى الأبد. 14 لأنها إنما دخلت العالم بحب الناس للمجد الفارغ ولذلك قد عزم على إلغائها عن قريب. 15 وذلك أن والدا قد فجع بثكل معجل فصنع تمثالا لابنه الذي خطف سريعا وجعل يعبد ذلك الإنسان الميت بمنزلة اله ورسم للذين تحت يده شعائر وذبائح. 16 ثم على ممر الزمان تأصلت تلك العادة الكفرية فحفظت كشريعة وبأوامر الملوك عبدت المنحوتات. 17 والذين لم يستطع الناس إكرامهم بمحضرهم لبعد مقامهم صوروا هيئاتهم الغائبة وجعلوا صورة الملك المكرم نصب العيون حرصا على تملقه في الغيبة كأنه حاضر."

لماذا يعاقب الله؟ لأن إختراع الأصنام هو أصل الفسق. ووجدانها (وجودها) فساد الحياة= ففي عبادة الأصنام إنفصال عن الله وعبادة آخر سواه، وتبعية لإبليس، وفي هذا فساد لحياة الإنسان. وهي لم تكن في البدء= لم تكن في جنة عدن. وليست تدوم إلى الأبد= فإبليس وجنوده سيلقون في بحيرة النار (رؤ10:20). بل كل من يرتبط بالمسيح (إيمان بالمسيح+معمودية+توبة) سيستعيد حالة الحرية هذه من الأصنام.

دخلت العالم بحب الناس للمجد الفارغ= المجد الفارغ هو مظاهر العالم المادية المخادعة والكبرياء. فهم تكبروا على بعضهم البعض بتماثيل أكبر وأفخم وأغلى. وأليس هذا موجوداً حتى اليوم. فهناك من ينتفخ على الآخرين بماله من أموال، والمال هو إله منافس لله.

وهناك سبباً آخر للوثنية يشرحه الحكيم هنا. أن والداً قد فجع بثكل معجل= أي مات إبنه في شبابه. وحزن جداً هذا الأب. ولتعلقه بإبنه صنع له تمثالاً لينظره دائماً. وربما عين خدماً لخدمة هذا التمثال ولمدحه وتكريمه. وقلد هذا الأب غيره من الناس وبدأوا ينتفخون كل بتمثاله. وربما قدموا مأكولات للتمثال متصورين أنهم يقدموها للإبن. وفعل الملوك تماثيل ليكرموا أنفسهم. وبهذا دخلت بدعة عبادة الأصنام بين البشر تاركين الإله الحقيقي. وفي هذا قال السيد المسيح "من أحب أباً أو أماً أو إبناً .. اكثر مني فلا يستحقني" وهناك خطورة أخرى أن عبادة الأوثان إشتملت على الزنى الجسدي وهذا أبعد الناس أكثر وأكثر عن الله. وهذه العادة إمتدت للقبور فيقدمون طعاماً وشراباً بل ممارسات خاطئة كتحضير الأرواح وتلوين الأجساد.

 

الآيات (18-21): "18 ثم أن حب الصناع للمباهأة كان داعية للجاهلين إلى المبالغة في هذه العبادة. 19فانهم رغبة في إرضاء الأمر قد افرغوا وسعهم في الصناعة لإخراج الصورة على غاية الكمال. 20 فاستميل الجمهور ببهجة ذلك المصنوع حتى أن الذي كانوا قبل قليل يكرمونه كانسان عدوه إلهاً. 21 وبهذا كان اقتناص الخلق فان رزيئة بعض الناس أو اقتسار الملوك استعبدهم حتى جعلوا على الحجر والخشب الاسم الذي لا يشرك فيه أحد."

أحد أسباب إنتشار عبادة الأصنام براعة الصناع والتفاخر بهذا الفن، وهذا جذب الكثيرين للإعجاب بهذه التماثيل. وكانوا أولاً يكرمونها فصاروا يعبدونها وأسموها آلهة. وصار هذا مدعماً بأوامر الملوك أن يسجد الناس لهذه التماثيل وأهملوا عبادة الله. رغبة في إرضاء الآمر الآمر هو من يدفع الثمن للصناع. رزيئة= خطية أو مصيبة عظيمة. إقتسار= إجبار أو قهر أو إكراه.

 

الآيات (22-27): "22 ثم لم يكتفوا بضلالهم في معرفة الله لكنهم غاصوا في حرب الجهل الشديدة وهم يسمون مثل هذه الشرور سلاما. 23 فانهم يمارسون ذبائح من بنيهم وشعائر خفية ومآدب جنون على أساليب أُخر. 24 لا يرعون حسن السيرة ولا طهارة الزواج فيقتل الرجل صاحبه بالاغتيال ويمضه بالفاحشة. 25 شر متفاقم في كل موضع الدم والقتل والسرقة والمكر والفساد والخيانة والفتنة والحنث وقلق الأبرار. 26 وكفران النعمة وتدنس النفوس والتباس المواليد وتشوش الزواج والفسق والعهر. 27 لأن عبادة الأصنام المكروهة هي علة كل شر وابتداؤه وغايته."

طالما إبتعد الإنسان عن الله، فهو يقع فريسة في يد إبليس، وهنا يلعب به إبليس كيفما أراد. وها نحن نري إبليس يسخر من عابدي الأصنام هؤلاء فيقدمون ذبائح من بنيهم، وممارسات زنا. بل صار الرجل يغتال صاحبه ويمضه بالفاحشة= يؤلمه بخيانته في الزنا مع إمرأته أو إبنته أو إحدى قريباته. وبهذا يكون إبليس قد حقق مأربه بإفساد الناس تماماً. وهو كاذب مخادع يصور للناس أن عبادة الأوثان تعطي سلاماً (آية22) وها نحن نرى النتيجة وهذا ما قاله الله لا سلام للأشرار (إش21:57). هناك لذة خادعة يعقبها هم وغم ونكد. يقتل الرجل صاحبه بالإغتيال= ليحصل على إمرأته. وإلتباس المواليد= مع كثرة الزنا لن يعرف إبن من هذا المولود. وقد يلقونه في الشارع ليتخلصوا منه فلا يعرف له أباً ولا أماً. بل يدخل أيضاً الشذوذ الجنسي، وهذا كان منتشراً في الهياكل الوثنية.

 

الآيات (28-29): "28 فانهم إذا فرحوا جنوا أو تنبأوا كذبوا أو عاملوا ظلموا أو حالفوا أسرعوا إلى الحنث. 29 ولتوكلهم على أصنام لا أرواح لها لا يتوقعون إذا اقسموا بالزور أن ينالهم الخسران."

إذا فرحوا جنوا= إذ يقول عباد الأصنام أنهم يفرحون فهم في الحقيقة يمارسون أعمالاً جنونية (رقص وخلاعة..) وإذا تنبأوا كذبوا= يدعون أن لهم موهبة النبوة، لكنهم يجذبون (راجع إش21:41-24) وإذا عاملوا ظلموا= حين يتعاملون مع الناس يظلمونهم وإذا حالفوا أسرعوا إلى الحنث= إذا أقسموا لا يهتموا أن ينفذوا ما أقسموا عليه، فهم يعلمون أن آلهتهم التي يقسمون بها لا تضر ولا تنفع.

 

الآيات (30-31): "30 فهناك أمران يستحقون بهما حلول العقاب سوء اعتقادهم في الله إذ اتبعوا الأصنام وقسمهم بالظلم والمكر إذ استخفوا بالقداسة. 31 لأن معصية الظالمين إنما يتعقبها القضاء على الخطاة لا قدرة المقسم بهم."

والله سيعاقب عبدة الأصنام لسببين:

1-    إعتقادهم في الله إذ إتبعوا الأصنام= إعتقادهم في الله خطأ، فهم تركوه وعبدوا أصنام.

2-  قسمهم بالظلم= يقسمون ظلماً وبمكر إذ إستخفوا بالقداسة= هم ظلموا الناس وإرتكبوا شروراً كالزنا وخلافه، فهم رفضوا القداسة تماماً.

هم يقسمون بالآلهة الوثنية غير مبالين بشئ إذ يعلمون أنها لا تضر. لكن العقاب سيأتي لهم من الله الحقيقي على شرورهم= لأن معصية الظالمين إنما يتعقبها القضاء على الخطاة من الله الحقيقي وليس من الأوثان غير القادرة على شئ= لا قدرة المقسم بها أي الأوثان التي يقسمون بها.


 

الإصحاح الخامس عشر

الآيات (1-3): "1 وأنت يا إلهنا ذو صلاح وصدق طويل الأناة ومدبر الجميع بالرحمة. 2 فإذا خطئنا فنحن في يدك وقد علمنا قدرتك لكنا لا نختار الخطأ لعلمنا بانا من خاصتك. 3 فان معرفتك هي البر الكامل والعلم بقدرتك هو أصل الحياة الدائمة."

أنت يا إلهنا ذو صلاح.. ..= تسبحة من سليمان إذ إكتشف صفات الله. فإذا خطئنا فنحن في يدك= أنت قادر أن تهلكنا بقوتك الجبارة= وقد علمنا قدرتك. لكنا لا نختار الخطأ= نحن لا نمتنع عن الخطية لخوفنا من قدرتك هذه بل لعلمنا بأنا من خاصتك= نحن عرفنا من أنت بالنسبة لنا، أنت أبونا وإلهنا وأنت تحبنا، وإذ علمنا مقدار حبك لنا نخجل أن نغضبك= فإن معرفتك هي البر الكامل. والعلم بقدرتك هو أصل الحياة= هذه مثل قول السيد المسيح "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك.." (يو3:17). الآيات السابقة في الإصحاح السابق رأينا الله في قداسته يعاقب عبدة الأوثان. وهنا نرى الله في أبوته وحنانه تجاه شعبه يكشف لهم محبته فيذوبوا خجلاً منها فلا يغضبوه. وماذا عن أنفسنا؟ ماذا نفعل إذ إنكشفت محبة المسيح العجيبة على الصليب؟! ولاحظ أن معرفة الله هي أيضاً نوع من الإتحاد بالله، لذلك هي تعطي حياة دائمة= خلود وأبدية.

 

الآيات (4-6): "4 لذلك لم يغونا ما اخترعته صناعة الناس الممقوتة ولا عمل المصورين العقيم من الصور الملطخة بالألوان. 5 التي في النظر إليها فضيحة للسفهاء بعشقهم صورة تمثال ميت لا روح فيه. 6 لا جرم أن الذين يصنعونها والذين يعشقونها والذين يعبدونها هم كلفون بالمنكرات وهم أهل لأن تكون آمالهم في أمثال هذه."

الكلام عنا عن التماثيل الوثنية والتي يبرزون فيها أعضاء الجسم التي تثير الشهوة. ولونوها وجملوها ليتعلق بها الجهلاء، أما من عرفوا الله يقولون لذلك لم يغونا ما إخترعته صناعة الناس. لا جرم= ليس من الغريب أن الذين يصنعونها.. هم كلفون بها= أي متعلقون بها بشدة، وذلك لأن شهواتهم مشتعلة في داخلهم وحتى الآن فالعالم يخترع شروراً لترضى شهوات الجهلاء، وهؤلاء ينخدعون بها ويسعوا وراءها. وما يصنعونه هو فضيحة لهم، إذ تركوا الله مصدر الفرح الحقيقي سعياً وراء شهوات بهيمية تعطي لذة حسية وقتية يكونون فيها في مستوى البهائم.

 

الآيات (7-9): "7 أن الخزاف يعني بعجن الطين اللين ويصنع منه كل إناء مما نستخدمه فيصنع من الطين الواحد الآنية المستخدمة في الأعمال الطاهرة والمستخدمة في عكس ذلك وأما تخصيص كل إناء بواحدة من الخدمتين فإنما يرجع إلى حكم صانع الطين. 8 وبعنائه الممقوت يصنع من هذا الطين إلهاً باطلا وهو إنما ولد من الطين من حين يسير وعن قليل سيعود إلى ما اخذ منه حين يطالب بدين نفسه. 9 غير أن همه ليس بأنه يتعب ولا بأنه قريب الأجل لكنه يباري صاغة الذهب والفضة ويعارض النحاسين ويعتد ما يصنعه من الخسائس فخرا."

هذه هي نفس كلمات بولس الرسول (رو21:9). ولكن الحكيم هنا يريد أن يظهر تفاهة هذه الأوثان، إذ يقول أنها من طين يتحكم في صناعته الخزاف، فالخزاف أمامه طين وهو حر أن يصنع منه إناء مفيداً وقادر أن يصنع منه آلهة باطلة. ونفس الشئ معنا، فالله أعطانا مواهب ووزنات ونحن أحرار في كيفية إستخدامها. بل أعطانا حياة نحن أحرار في توجيهها كيفما شئنا، إمّا نصير قديسين أو أشرار. بل إن هذا الخزاف نفسه جاء من الطين= ولد من الطين من حين يسير وسيعيش فترة قصيرة ثم يموت= وعن قليل سيعود إلى ما أخذ منه. فهل هذا الإنسان الطيني الأصل، الذي يحيا لأيام معدودات ثم يموت، هو قادر أن يصنع آلهة. فليذكر هذا الإنسان أنه سيدان على ما يعمله= حين يطالب بدين نفسه= وليذكر كل منا كيف إستعمل مواهبه ووزناته فإننا سندان على حسب إستخدامنا لها. وهذا الخزاف يجتهد ببراعة في تصوير تمثاله لينافس به تماثيل الذهب والفضة والنحاس. ويعتد= يحسب ما يصنعه من الخسائس فخراً. أليس هذا ما يحدث مع من يجمع المال ويفتخر بما عنده ويتباهى بأن كثرة ماله فخراً لهُ، وهو سيتركه ويموت. المقارنة هنا أن الخزاف هو طين، ويصنع آلهة من طين. مع العلم بأن الخزاف فيه روح حياة وضعها الله فيه بينما أن الآلهة الطينية هي ميتة بلا روح.

 

الآيات (10-13): "10 فقلبه رماد ورجاؤه أخس من التراب وحياته أحقر من الطين. 11 لأنه جهل من جبله ونفخ فيه نفسا عاملة وروحا محييا. 12 بل حسب حياتنا عبثا وعمرنا موسما للاكتساب وزعم انه لابد من الربح بكل حيلة ولو بالظلم. 13 فانه عالم بأنه اعظم جرما من الجميع لأنه يصنع من طين الأرض آنية قصمة ومنحوتات."

هنا يهاجم الحكيم صانعي هذه التماثيل (ومثلهم تجار الشهوات الخاطئة الآن). فالله خلق هذا الخزاف من طين ولكن وضع فيه حياة، وكان يجب أن يدرك أن هناك خالق خلق هذه الحياة التي فيه، لكن بجهله إذ صنع آلهة يؤمن بها ويطلب منها فلقد صار قلبه رماد= لأن القلب هو مصدر المشاعر الإنسانية الراقية التي وضعها الله في الإنسان، وهذا الخزاف بعمله أحرق هذه المشاعر، فصار ما في داخل قلبه رماد، أليس هذا ما دفع هؤلاء الوثنيون أن يقدموا أولادهم ذبائح لأوثانهم ويحرقونهم بالنار على أصوات الطبول حتى لا يسمعوا صراخ الأطفال. ورجاؤه أخس من التراب= فهو يرجو إله صنعه هو بيده. وحياته أحقر من الطين= فالطين ليس فيه خطية، أما هو فغارق في خطاياه. بل حسب حياتنا عبثاً= لكن "الله خلقنا لأعمال صالحة سبق فأعدها لكي نسلك فيها" (أف10:2) ولكي يرى الناس أعمالنا الصالحة فيمجدوا أبانا الذي في السموات (مت16:5). ولكن هؤلاء ظنوا الحياة هي للمتعة وللسعي وراء شهواتهم فصاروا كالحيوانات. صار مبدأهم "لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت". وآخرين سعوا للمكاسب المادية مثل هذا الخزاف، يصنع آلهة ويبيعها ويكسب ولا يهتم كم تعثر هذه الآلهة الجهلاء الأبرياء= عمرنا موسماً للإكتساب= وللآن كم إنسان له نفس هذه المبادئ، أن يكسب ولو بظلم الآخرين والإحتيال عليهم= بكل حيلة ولو بالظلم. هذا الخزاف دينونته عظيمة لأنه عالم أن الآلهة التي يصنعها= قصمة أي هشة قابلة للكسر بسهولة.

ومن يتعلق قلبه بالمال هو مثل هذا الخزاف، فالمال سهل الضياع ولكن هناك من يحسبه إلهاً.

 

الآيات (14-19): "14 أن جميع أعداء شعبك المتسلطين عليهم هم اجهل الناس وأشقى من نفوس الأطفال. 15 لأنهم حسبوا جميع أصنام الأمم آلهة تلك التي لا تبصر بعيونها ولا تنشق الهواء بأنوفها ولا تسمع بآذانها ولا تلمس بأصابع أيديها وأرجلها عاجزة عن الخطو. 16 لأنها إنما عملها إنسان والذي أعير روحا صنعها وليس في طاقة إنسان أن يصنع إلهاً مثله. 17 وإنما هو فان فيصنع بيديه الأثيمتين ما لا حياة فيه فهو أفضل من معبوداته إذ هو قد كان حيا وأما هي فلم تكن حية البتة. 18 وهم يعبدون أعدي الحيوان مما هو اشد البهائم عجمة. 19 وليس فيه ما في منظر الحيوانات الأُخر من الحسن الشائق إذ فاته مدح الله وبركته."

هنا يقارن بين إله إسرائيل القوي الحي الأزلي وآلهة أعداء الشعب الميتة ويعني المصريين. ولذلك فإن أعداء شعب الله هم أجهل الناس لإتباعهم هذه الأوثان. وأشقى من نفوس الأطفال= أي هم في شقاء لإعتمادهم على آلهة لا تنفع، وعقلهم في جهلهم أصغر من عقل الأطفال، فهم لا يدركون. الذي أعير روحاً صنعها= أي الإنسان الذي من طين ووضع الله فيه روحاً، هو غير قادر أن يعير هذه الروح لأحد ولا للأصنام التي يصنعها، لذلك فهو يصنع آلهة ميتة. ولأن الإنسان حي وله روح فهو أفضل من الآلهة التي يصنعها ويعبدها= معبوداته. وبنفس المنطق، كيف يؤله إنسان ماديات العالم كالأموال وهو الذي صنعها بيديه. وهم يعبدون أعدى الحيوانات= أي الحيوانات التي تعاديهم وتفترسهم. مما هو أشد البهائم عجمة= أي من لها صوت غير مفهوم، فهي حيوانات وغير مفهومة وعدوة للإنسان، وحتى هي ليست مثل الحيوانات الأليفة التي لها جمال والمفيدة للإنسان. وما الذي أوصل الإنسان لهذا الجهل؟ = إذ فاته مدح الله وبركته= كلما إبتعد الإنسان عن الله ينحدر لكل ما هو حقير؟ هذا كما قال بولس الرسول "لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه.." (رو18:1-24).


 

الإصحاح السادس عشر

الآيات (1-4): "1 لذلك كانوا أحقاء بان يعاقبوا بأمثال هذه ويعذبوا بجم من الحشرات. 2 أما شعبك فبدلا من ذلك العقاب أحسنت إليهم بإعداد السلوى مأكلا غريب الطعم أشبعت به شهوتهم. 3حتى انه بينما كان أولئك مع جوعهم فاقدي كل شهوة للطعام من كراهة ما بعثت عليهم كان هؤلاء بعد عوز يسير يتناولون مأكلا غريب الطعم. 4 فانه كان ينبغي لأولئك المقتسرين أن تنزل بهم فاقة لا مناص منها ولهؤلاء ان يروا كيف يعذب أعداؤهم لا غير."

لذلك كانوا أحقاء= أي مستحقين. بأن يعاقبوا بأمثال هذه= أي بأمثال الحشرات التي كانوا يعبدونها والضفادع التي ألهوها= يعذبوا بجم من الحشرات= أي أعداد كبيرة منها. وفي تضاد لهذا، نرى الله يعطي شعبه السلوى= السمان. والمن= مأكلاً غريب الطعم= المقصود عجيب، يمكن أكله كما هو ومطبوخ.. الخ حسبما تشتهي كل نفس. وطعمه لذيذ. فمن يعبد الله ويتقيه يعوله الله. والمصريين وسط الضربات كانوا= فاقدي كل شهوة للطعام من شدة الضربات التي نزلت عليهم= من كراهة ما بعثت عليهم. فإنه كان ينبغي لأولئك المقتسرين= الذين يسخرون ويذلون الشعب أن تنزل بهم فاقة= أي فقر شديد وعوز. لا مناص منها= لا يمكنهم الهروب منها، فيرى شعب الله كيف يعذب الله أعداء شعبه. ولاحظ أن هذه الضربات كانت أيضاً تعليم للمصريين ليدركوا تفاهة آلهتهم الوثنية، فلم تنفعهم في ضيقتهم أثناء الضربات العشر. بل هم كرهوها إذ كرهوا أكوام الضفادع النتنة وكرهوا الجراد والناموس.. الخ. بينما في نفس الوقت يتعرف شعب الله عليه وعلى قدراته فيزدادوا حباً له وإيماناً به. ولكن قوله بعد عوز يسير=نفهم منه أن الشعب شعر بالجوع فترة في سيناء فلماذا؟ هم رأوا عياناً يد الله في الضربات العشر وفي شق البحر. والله الآن مثل المدرس الذي ينقل شعبه من مرحلة العيان إلى مرحلة الإيمان فيسمح للطالب ببعض المسائل لتتأكد له النظرية. والنظرية هي "هل يستحيل على الرب شئ "فكان الجوع فترة بسيطة أو العطش هو مسألة يمتحن بها الله شعبه، لا ليعرف إستجابتهم بل ليصلح إيمانهم فينمو.

 

الآيات (5-8): "5 ولما اقتحم هؤلاء حنق الوحوش الهائل وأهلكهم لدغ الحيات الخبيثة. 6 لم يستمر غضبك إلى المنتهى بل إنما اقلقوا إلى حين إنذاراً لهم ونصبت لهم علامة للخلاص تذكرهم وصية شريعتك. 7 فكان الملتفت إليها يخلص لا بذلك المنظور بل بك يا مخلص الجميع. 8 وبذلك اثبت لأعدائنا انك أنت المنقذ من كل سوء."

هنا نرى شعب الله أيضاً يعانون من ضربات إلهية، لدغ الحيات الخبيثة= ولكن يضع معها حية نحاسية يشفيهم النظر إليها= علامة للخلاص= رمز للخلاص بالصليب وأيضاً تذكرهم وصية شريعتك= أي تذكرهم بأن من يخالف الشريعة يهلك، ومن ينظر لله ويتقيه يخلص. إذاً الله حين يضرب شعبه فللتأديب. لا بذلك المنظور بل بك يا مخلص= الحية النحاسية في حد ذاتها لا تخلص بل الخلاص من الله وعندما عبدوا هذه الحية أزالها الملك حزقيا (2مل4:18). فالخلاص ليس في الحية بل من الله، ولكنها رمز للصليب (يو14:3). فالله أخرج من تذمر الشعب رمزاً للصليب بالإضافة لتأديب شعبه. ولما إقتحم هؤلاء (أي شعب الله) أقتحمتهم الحيات= حنق الوحوش الهائل. لم يستمر غضبك إلى المنتهى= "الله لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين، لكي لا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم" (مز3:125) + "الله لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة المنفذ" (1كو13:10) ولاحظ أن الله أعطى لموسى فكرة الحية النحاسية حينما صرخ الشعب. فلنصرخ لله إذا كنا في تجربة.

 

الآيات (9-11): "9 لأن أولئك قتلهم لسع الجراد والذباب ولم يوجد لنفوسهم شفاء إذ هم أهل لأن يعاقبوا بمثل ذلك. 10 أما بنوك فلم تقو عليهم أنياب التنانين السامة لأن رحمتك أقبلت وشفتهم. 11 وإنما نخسوا ليتذكروا أقوالك ثم خلصوا سريعا لئلا يسقطوا في نسيان عميق فيحرموا إحسانك."

هنا مقارنة بين أعداء شعب الله وبين شعب الله. فأعداء شعب الله عوقبوا بعقوبات بلا شفاء إذ هم أهل لأن يعاقبوا بمثل ذلك. أما شعب الله بنوك فكانت لهم الحية النحاسية حلاً وشفاءً من لدغات الحيات السامة. فبينما لم يشف الله المصريين، نجده يرحم شعبه ويشفيهم. فالشفاء هو لمن يؤمن ويتوب.

 

الآيات (12-15): "12 وما شفاهم نبت ولا مرهم بل كلمتك يا رب التي تشفي الجميع. 13 لأن لك سلطان الحياة والموت فتحدر إلى أبواب الجحيم وتصعد. 14 أما الإنسان فيقتل بخبثه لكنه لا يعيد الروح الذي قد خرج ولا يسترجع النفس المقبوضة. 15 انه ليس أحد يستطيع أن يهرب من يدك."

الشفاء ليس بطريقة بشرية نبت (نبات طبي) ولا مرهم. بل كلمتك. وشفاء طبيعتنا البشرية حينما أخطأنا ومتنا لم يكن في إستطاعة بشر، بل كان بفداء المسيح كلمة الله. وكان الشفاء للشعب في البرية بكلمة الله لموسى بأن يصنع حية نحاسية. وفي مقارنة بين الله والإنسان. لله سلطان الحياة والموت. ويحدر إلى أبواب الجحيم ويصعد= هو يميت ويحيي. أما الإنسان فهو قادر أن يقتل ولكنه لا يستطيع أن يحيي ولا سلطان له على الجحيم. ونلاحظ أن سلطان الإنسان محدود، فلم يكن للإنسان سلطان أن يقتل نفس إن لم يكن الله يشاء ذلك (يو11:19). ويصعد= من الجحيم للفردوس، وهذا ما عمله السيد المسيح.

 

الآيات (16-21): "16 فانك قد جلدت بقوة ذراعك المنافقين الذين جحدوا معرفتك وأطلقت في أثرهم سيولا وبردا وأمطاراً غريبة ونارا آكلة. 17 واغرب شيء ان النار كانت في الماء الذي يطفئ كل شيء تزداد حدة لأن عناصر العالم تقاتل عن الصديقين. 18 وكان اللهيب تارة يسكن لئلا يحرق ما أرسل على المنافقين من الحيوان ولكي يبصروا فيعلموا أن قضاء الله على أعقابهم. 19 وتارة يخرج عن طبع النار فيتأجج في الماء لكي يستأصل أنبتة الأرض الأثيمة. 20 أما شعبك فبدلا من ذلك أطعمتهم طعام الملائكة وأرسلت لهم من السماء خبزا معدا لا تعب فيه يتضمن كل لذة ويلائم كل ذوق. 21 لأن جوهرك أبدَى عذوبتك لبنيك فكان يخدم شهوة المتناول ويتحول إلى ما شاء كل واحد."

مازالت المقارنة بين عقاب الله لأعدائه وأعداء شعبه وبركاته لأولاده. والله في هذا يستخدم كل قوى الطبيعة حتى بقوانين ضد الطبيعة، فكل شئ خاضع لأمره وهو واضع كل القوانين. فالله ضرب المصريين بضربة عجيبة نار ومطر وبَرَدْ (خر22:9-24+33،34). والعجيب أن المطر لم يطفئ النار بل كانت تزداد حدة ويستأصل أنبتة الأرض ويسمى الأرض أثيمة لخطايا شعبها ووثنيتهم وظلم الشعب. وكانت النار لا تحرق الحشرات التي تضايق المصريين= لئلا يحرق ما أرسل على المنافقين من الحيوان ولكي يبصروا فيعلموا أن قضاء الله على أعقابهم= يفهموا أن ما يحدث هو عقوبة الله تلاحقهم. البَرَدْ= كرات ثلجية. وهذه الضربات هي كانت كجلدات قوية ضد المصريين.

والعكس فكان الله يطعم شعبه مناً= طعام الملائكة ويتشكل بأشكال كثيرة تناسب كل ذوق. ويسمى طعام الملائكة لأنه نازل من السماء، وهو طعام سبق إعداده. الله يعطيهم طعام بلا تعب فهو يعلم أن رحلة البرية شاقة عليهم.

لأن جوهرك أبدي= هذا هو طبع الله عبر الأجيال أنه يفيض على أولاده من بركاته (عب8:13). هي هي نفس المحبة ونفس الأبوة ونفس العطايا ونفس المغفرة ونفس التأديب للتنقية.

 

الآيات (22-25): "22 وكان الثلج والجليد يثبتان في النار ولا يذوبان لكي يعلم كيف أكلت ثمار الأعداء نار تلتهب في البرد وتبرق في المطر. 23 أما عند هؤلاء فقد تناست القوة التي لها لكي يغتذي القديسون. 24 إذ الخليقة الخادمة لك أنت صانعها تتشدد لتعاقب المجرمين وتتراخى لتحسن إلى المتوكلين عليك. 25 لذلك كانت حينئذ تتحول إلى كل شيء لتخدم نعمتك الغاذية الجميع على ما يشاء كل محتاج."

هنا العجب أن الثلج والجليد (البَرَدْ) لم يذوبا في النار. بل لم تقترب من القديسون= أي شعب الله. النار أكلت ثمار الأعداء المصريين ونسيت قوتها في الإحراق مع ثمار شعب الرب ليتغذى شعب الرب ولا يجوع= نعمتك الغاذية الجميع= أي التي تغذي الجميع. لذلك كانت حينئذ= أي الخليقة تتحول إلى كل شئ= نار تحرق ما للأعداء وبركة تشبع شعب الرب.

 

الآيات (26-27): "26 لكي يعلم بنوك الذين أحببتهم أيها الرب أن ليس ما تخرج الأرض من الثمار هو يغذو الإنسان لكن كلمتك هي التي تحفظ المؤمنين بك. 27 إذ ما لم تكن النار تحله كانت شعاعة يسيرة من الشمس تحميه فيذوب."

الله أظهر بعمله أنه هو الذي يعول شعبه ويهتم بهم، فهو أعطاهم مناً عجيباً لا ينحل في النار إذ يطبخونه، لكن أشعة الشمس تذيبه فيتسرب في الأرض. وفي هذا تأمل أنه إذا كان المن يشير للمسيح المن الحقيقي النازل من السماء (يو48:6-51). فعلينا حتى نجده ونشبع به أن نبكر في الذهاب إليه. وإذا تأخرنا لن نجده (أم17:8).

 

الآيات (28-29): "28 حتى يعلم انه يجب أن نسبق الشمس إلى شكرك ونحضر أمامك عند شروق النور. 29 لأن رجاء من لا شكر له يذوب كجليد شتوي ويذهب كماء لا منفعة فيه."

الحكيم هنا يشرح المعنى الروحي لذوبان المن مع الشمس= حتى يعلم أنه يجب أن نسبق الشمس إلى شكرك. وكما يذوب المن هكذا رجاء من لا شكر له يذوب كجليد. كماء لا منفعة فيه وهكذا تصلي الكنيسة في صلاة باكر (منذ الليل روحي تبكر إليك يا إلهي. .بالغداة أقف أمامك وتراني".


 

الإصحاح السابع عشر

الآيات (1-6): "1 أن أحكامك عظيمة لا يعبر عنها ولذلك ضلت النفوس التي لا تأديب لها. 2 فانه لما توهم المجرمون انهم يتسلطون على الأمة القديسة إذا هم ملقون في اسر الظلمة وقيود الليل الطويل محبوسون تحت سقوفهم منفيون عن العناية الأبدية. 3 وإذ حسبوا انهم مستترون في خطاياهم الخفية فرق بينهم ستر النسيان المظلم وهم في رعب شديد تقلقهم الأخيلة. 4ولم تكن الاكنة التي لبثوا فيها لتقيهم من الذعر فقد كانت أصوات قاصفة تدوي من حولهم وأشباح مكفهرة تتراءى أمام وجوههم الكاسفة. 5 ولم يكن في قوة النار مهما اشتدت أن تأتى بضياء ولا في بريق النجوم أن ينير ذلك الليل المدلهم. 6 وإنما كانت تلمع لهم بغتة نيران مخيفة فيرتعدون من ذلك المنظر المبهم ويتوهمون ما يظهر لهم أهول مما هو."

أحكام الله أعلى من فكر الإنسان هي عظيمة لا يعبر عنها. لكن يفهمها شعب الله الذي يعيش في تقوى ولهم عيون مفتوحة تعاين الله (مت8:5). أما الذي يحيد عن طرق الله ويعيش في خطيته تنغلق عينيه فلا يرى الله ولا يدرك أحكامه، ويتذمر عليها ولا يقبل تأديب الله، مثل هذه النفوس تضل بعيداً عن الله. فالمصريين تعرضوا لضربات كثيرة لعلهم يتوبون، ولكن لأنهم بعيدون عن الله، لم يفهموا وأصروا على عنادهم ضد شعب الله. فجاءت الضربات متتالية. ولكن إذا قدم الإنسان توبة عن مسلكه الشرير تتوقف الضربات. والآن أتت على المصريين ضربة الظلام. هم لم يفهموا حكمة الله في طول أناته عليهم فإستمروا في عنادهم فكانت الضربات تشتد عليهم. هم لم يفهموا أن هناك إله قوي مصر على خلاص شعبه.

فإنه لما توهم المجرمون أنهم يتسلطون على الأمة القديسة إذ لا إله لهم قادر على حمايتهم. إذا هم ملقون في أسر الظلمة بأمر إله الشعب القديس. وقيود الليل الطويل= إذ لا نهار ولا نور. محبوسون تحت سقوفهم= بلا حركة (خر23:10) منفيون عن العناية الأبدية= بسبب خطاياهم حرمهم الله من عنايته ومن بركاته كالنور. وإذ حسبوا أنفسهم مستترون في خطاياهم= هم أحبوا الظلمة أي خطاياهم ووثنيتهم وظلمهم للشعب، وحسبوا أن لا أحد يراهم، فكان جزاءهم من نفس جنس عملهم أي ظلمة تحيط بهم. وكانت الظلمة كستار جعلتهم ينسون بعضهم بعضاً إذ هم مقيدون في أماكنهم، غير قادرين على الحركة، كل في همه ورعبه لا يدري بالآخر= ستر النسيان المظلم. بل لقد أوقع الرب في قلوبهم رعباً شديداً= تقلقهم الأخيلة. ولم تكن الأكنة= جمع وكن وهو عش الطائر التي لبثوا فيها أو كمنوا فيها، قادرة على حمايتهم من الذعر= تقيهم من الذعر= الله وحده هو القادر أن يملأ القلب سلاماً، لكن إذا كان الله قد نفاهم من عنايته الأبدية (آية2) فمن أين لهم السلام، لا يوجد سوى الرعب والخيالات والهلاوس، وربما كان هناك فعلاً أشياء مرعبة= أصوات قاصفة= شديدة ومرعبة. أشباح مكفهرة= مخيفة. ظلمة لا يضيئها نار مهما كانت قوية. تلمع لهم بغتة نيران مخيفة فيرتعدون. وتصير وجوههم كاسفة= صفراء من الذعر والخوف. إذاً الرعب لم يكن راجعاً فقط لمجرد الظلام، بل لوجود شياطين مخيفة لم يمنعها الله من أن تخيفهم، لذلك يتوهمون ما يظهر لهم أهول مما هو= يتصورون من رعبهم أن ما يظهر لهم أشد هولاً من الواقع.

 

الآيات (7-8): "7 حينئذ بطلت صناعة السحر وشعوذته وبرز على افتخارهم بالحكمة حجة مخزية.         8 إذ الذين وعدوا بنفي الجزع والبلبال عن النفس الدنفة هؤلاء ادنفهم خوف مضحك."

حينئذ بطلت صناعة السحر= لم يفدهم السحر في شئ وظهر ضعف السحرة وخداعهم. لقد صارت الشياطين التي إستخدموها في سحرهم مرعبة للكل حتى السحرة أنفسهم.

برز على إفتخارهم بالحكمة حجة مخزية= في ترجمة أخرى "افحم إدعاؤه (أي السحر) بالفطنة إفحاماً مخزياً

أي تحول إفتخارهم بسحرهم وحكمتهم إلى خزي. فهم وعدوا بنفي الجزع (الخوف) والبلبال (الإضطراب والتوتر) عن النفس الدنفة= أي المحاصرة في الضيق والتعب ولكن هؤلاء السحرة الذين وعدوا بذلك أدنفهم (إشتد عليهم) خوف مضحك= صاروا في خوفهم مضحكين كالأطفال، فلقد تسلطت عليهم شياطينهم. إن الشيطان لا يمكنه أن يعطي سلاماً لأحد ولا حتى لتابعيه، ففاقد الشئ لا يعطيه.

 

الآيات (9-14): "9 فانهم وان لم يصبهم شيء هائل كان مرور الوحوش وفحيح الأفاعي يدحرهم فيهلكون من الخوف ويتوقون حتى الهواء الذي لا محيد عنه. 10 لأن الخبث ملازم للجبن فهو يقضي على نفسه بشهادته ولقلق الضمير لا يزال متخيلا الضربات. 11 فان الخوف إنما هو ترك المدد الذي من العقل. 12 وانتظار المدد من الداخل اضعف ولذلك تحسب مجلبة العذاب المجهولة اشد. 13 فالذين ناموا تلك النومة في ذلك الليل الذي لا يطاق الوارد من أخادير الجحيم الفظيعة. 14 كانوا تارة تقتحمهم الأخيلة وتارة تنحل قواهم من انخلاع قلوبهم لما غشيهم من مفاجأة الخوف الغير المتوقع."

لم يصبهم شيء هائل لكن كان مرور الوحوش وفحيح الأفاعي يدحرهم= أي يهزمهم فيلزمون أماكنهم مرعوبين من الخروج فهم لا يرون من الظلمة وغير قادرين على الحركة من الرعب، حتى صاروا في رعب من ملامسة الهواء لهم= الذي لا محيد عنه= أي لا غني عنه. يَتَوَّقون= يتحاشون (في ترجمة أخرى يرفضون حتى النظر إلى ذلك الهواء الذي لا مهرب منه على كل حال" وما سبب كل هذا الرعب؟ أن قلوبهم مملوءة شراً وخبثاً والخبث ملازم للجبن= أما أولاد الله الذين لهم الروح القدس فهم لهم روح القوة (2ني7:1) ولنرى مواكب الشهداء في قوة وفرح ذاهبين للوحوش وللتعذيب في قوة.

وطالما وُجد الخوف فهو شاهد على شر الإنسان= فهو يقضي على نفسه بشهادته.

ولقلق الضمير لا يزال متخيلا الضربات= يذكر الضربات السابقة مرعوباً من تكرارها والعقل عادة يرشد صاحبه ويعينه وبسبب الخوف الزائد يفقد الإنسان الشرير معونة العقل وإرشاده= ترك المدد الذي من العقل وتسيطر على الإنسان مشاعر قلبه الضعيف الذي يتوهم ما هو أسوأ ويزداد رعباً من المستقبل المجهول. وإنتظار المدد من الداخل أضعف= هناك معونة من الداخل هي صوت من الله يعطي الإنسان إطمئنان، ولكن هذا الشرير من أين له صوت الله المطمئن. فهو إذاً بلا منطق عقلاني وبلا تعزية إلهية وهذا ما يزيد الرعب مما هو حادث ومن المجهول= ولذلك تحسب مجلبة العذاب المجهولة أشد. وكيف ينام مثل هذا الإنسان؟ هؤلاء لا يأتيهم النوم. والعكس "فالرب يعطي لأحبائه نوماً" (مز2:127).

فالذين ناموا تلك النومة (من حاول النوم في تلك الليلة المرعبة من هؤلاء الأشرار) في ذلك الليل (في تلك الظلمة التي سمح بها الرب ليضربهم) الذي لا يطاق= فهي ظلمة مع أشباح مع نيران تلمع أمامهم وأصوات ترعبهم وخيالات مرعبة وضمير قلق.

الوارد من أخادير (جمع خدر وهو مكان يسكن فيه الإنسان) الجحيم الفظيعة= هذا الليل كان قطعة عذاب واردة من الجحيم. بل ما حدث لهؤلاء هو عينة مبسطة لما سيحدث في عذاب الجحيم. ولنقارن هذا العذاب الذي للأشرار مع ما قاله بولس الرسول للأبرار (في4:4-7) "إفرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً إفرحوا.. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم"

 

الآيات (15-20): "15 ثم حيثما سقط أحد بقى محبوسا في سجن لا حديد فيه. 16 فان كان فلاحا أو راعياً أو صاحب عمل من أعمال الصحراء اخذ بغتة فوقع في قسر لا انفكاك عنه. 17 إذ جميعهم كانوا مقيدين بسلسلة واحدة من الظلام فدوي الريح وأغاريد الطيور على الأغصان الملتفة وصوت المياه المندفعة بقوة. 18 وقعقعة الحجارة المتدحرجة وركض الحيوانات الذي لا يرى وزئير الوحوش الضارية والصدى المتردد في بطون الجبال كل ذلك كان يذيبهم من الخوف. 19 وبينما كان سائر العالم يضيئه نور ساطع ويتعاطى أعماله بغير مانع. 20 كان أولئك منفردين في ظل ليل مدلهم مشاكل لما سيغشاهم من الظلمة لكنهم كانوا على أنفسهم اثقل من الظلمة."

حيثما سقط أحد بقى محبوسا في سجن لا حديد فيه= فهو لا يستطيع الحركة إذ هو لا يرى شئ. فوقع في قسر= أي إجبار. فهو مجبر على عدم الحركة. وكل صوت يسبب لهم ذعراً. سقط أحد= إذ هو تعثر من شدة الظلمة. صار الظلام سجناً لهم وسلاسل في أيديهم تقيدهم. (وهذا يشير لسجن الخطية لمن ينقاد وراء شهوات العالم).

أما بقية العالم مثل شعب الله الذي يعيش مع الله فكانوا في نور وفرح= يضيئه نور ساطع ليل مدلهم (شديد الظلمة) مشاكل (مشابه) لما سيغشاهم من الظلمة في الأبدية. وهذا ما قاله السيد المسيح "والعبد البطال اطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت30:25"). وكانوا بسبب الرعب وخيالاتهم وضميرهم المعذب= كانوا على أنفسهم اثقل من الظلمة.


 

الإصحاح الثامن عشر

الآيات (1-4): "1 أما قديسوك فكان عندهم نور عظيم وكان أولئك يسمعون أصواتهم بغير أن يبصروا أشخاصهم ويغبطونهم على انهم لا يقاسون مثل حالهم. 2 ويشكرونهم على انهم لا يؤذون الذين قد ظلموهم ويستغفرونهم من معاداتهم لهم. 3 وبازاء ذلك جعلت لهؤلاء عمود نار دليلا في طريق لم يعرفوه شمسا لتلك الضيافة الكريمة لا أذى بها. 4 أما أولئك فكان جديرا بهم أن يفقدوا النور ويحبسوا في الظلمة لأنهم حبسوا بنيك الذين بهم سيمنح الدهر نور شريعتك الغير الفاني."

مقارنة بين شعب الله والمصريين. فالمصريين لشرهم في رعب وظلمة وشعب الله في نور عظيم. والمصريون يسمعون أصواتهم= أصوات شعب الله بغير أن يبصروا أشخاصهم بسبب الظلمة التي هم فيها. ويغبطونهم على أنهم لا يعانوا مثل ظلمتهم. ويشكرونهم أنهم لا ينتقمون منهم. بل يستغفرونهم مما سبق وعملوه بهم من ظلم. سعادة الأبرار هي مصدر جذب للأشرار ليحيوا مثلهم حياة التوبة. والله لم يجعلهم فقط في نور بل أعطاهم عمود نار ليرشدهم في طريقهم الذي لم يعرفوه قبلاً أي خلال رحلتهم في سيناء. بل كان عمود النار لهم كالشمس= شمساً لتلك الضيافة الكريمة= وكأن الله إستضافهم عنده وكان لهم مرشداً وهادياً في أرضه التي لا يعرفونها هم. وهذه الشمس أي عمود النار= لا أذى بها هي لا تؤذي شعب الله، بل كان في الصباح كعمود سحاب يظلل عليهم فلا تحرقهم شمس سيناء. لكن المصريين كانوا يستحقون ما هم فيه لسابق ظلمهم لشعب الله. شعب الله هذا الذي سيسلمه الله شريعته لموسى. وكان عمود النور أو النار الذي يرافق الشعب ليهديه إشارة للشريعة التي سيستلمها الشعب وتهديه بعد ذلك بل تهدي العالم كله "سراج لرجلي كلامك" (مز105:119). وهنا نلمس مشاعر الشعب المصري الذي كان شاعراً بقسوة ملكه على اليهود. هذه المشاعر بأن اليهود ظلموا جعلت المصريين يعطون الشعب عند خروجهم ذهباً ومجوهرات تعويضاً عما كابدوه من ظلم فرعون.

 

الآيات (5-9): "5 ولما ائتمروا أن يقتلوا أطفال القديسين وعرض واحد منهم لذلك ثم خلص عاقبتهم أنت بإهلاك جمهور أولادهم ثم دمرتهم جميعا في الماء الغامر. 6 وتلك الليلة قد اخبر بها آباؤنا من قبل لكي تطيب نفوسهم لعلمهم اليقين ما الأقسام التي يثقون بها. 7 ففاز شعبك بخلاص الصديقين وهلاك الأعداء. 8 فان الذي عاقبت به المقاومين هو الذي جذبتنا به إليك ومجدتنا. 9 فان القديسين بني الصالحين كانوا يذبحون خفية ويوجبون على أنفسهم شريعة الله هذه أن يشترك القديسون في السراء والضراء على السواء وكانوا يرنمون بتسابيح الآباء."

لما ائتمروا أن يقتلوا أطفال القديسين= إشارة لأمر فرعون بقتل الأطفال الذكور. وعرض واحد منهم= وتعرض واحد منهم لذلك وهو موسى. ثم خلص= نجا من الموت. عاقبتهم بإهلاك جمهور أولادهم= أي موت الأبكار. ثم دمرتهم في الماء الغامر= غرق الجيش عندما عاد البحر الأحمر إلى أصله، بعد أن مر الشعب بسلام. وتلك الليلة= هي ليلة موت الأبكار أخبر الله بها شعبه ليدهنوا أبوابهم بدم خروف الفصح فينجوا من الموت= تطيب نفوسهم لعلمهم اليقين ما الأقسام التي يثقون بها= هم وثقوا في وعود الله وأقسامه أن يخلصهم وطابت نفوسهم ونجوا من الملاك المهلك بينما هلك المصريون= هلاك الأعداء. فإن الذي عاقبت به المقاومين= أي البحر الذي غرقوا فيه هو الذي جذبتنا به إليك ومجدتنا= هو الذي إنشق لنعبر إليك ونصير شعبك وأنت في وسطنا مجداً (زك5:2). والماء الذي أنقذ موسى إذ كان السفط الذي به موسى طافياً عليه هو الماء الذي غرق فيه جيش فرعون.

فإن القديسين.. كانوا يذبحون (الفصح) خفية= بينما المصريون لا يعرفون ماذا يفعل هؤلاء، ولا ماذا سيحدث لهم في تلك الليلة. وصارت هذه الشريعة عيداً في إسرائيل يذبحون فيه الفصح سنوياً= يوجبون على أنفسهم شرعية الله هذه أن يشترك القديسون.. وسط الأناشيد والتهليل= وكانوا يرنمون بتسابيح الآباء.

 

الآيات (10-12): "10 وقد رفع الأعداء جلبة أصواتهم بالبكاء والنحيب على أطفالهم. 11 وكان قضاء واحد على العبد والمولى وضربة واحدة نالت الشعب والملك. 12 وكان لكلهم أجمعين أموات لا يحصون قد ماتوا ميتة واحدة حتى أن الأحياء لم يكفوا لدفن الموتى إذ في لحظة أبيد نسلهم الأعز."

من ضربة الأبكار= النسل الأعز= رفعوا أصواتهم بالبكاء. لاحظ تصاعد الضربات مع إزدياد العناد. ولو تابوا مبكراً ما حدث هذا. وقارن بين بني إسرائيل وهم يسبحون فرحين وبين المصريين الذين يبكرون بحسرة ويدفنون موتاهم.

 

الآيات (13-19): "13 وبعد أن أبوا بسبب السحر أن يؤمنوا بشيء اعترفوا عند هلاك الأبكار بان الشعب هو ابن لله. 14 وحين شمل كل شيء هدوء السكوت وانتصف مسير الليل. 15 هجمت كلمتك القديرة من السماء من العروش الملكية على ارض الخراب بمنزلة مبارز عنيف. 16 وسيف صارم يمضي قضاءك المحتوم فوقف وملا كل مكان قتلا وكان رأسه في السماء وقدماه على الأرض. 17 حينئذ بلبلتهم بغتة أخيلة الأحلام بلبلة شديدة وغشيتهم أهوال مفاجئة. 18 وكان كل واحد عند صرعه بين حي وميت يعلن لأي سبب يموت. 19 لأن الأحلام التي أقلقتهم أنبأتهم بذلك لئلا يهلكوا وهم يجهلون مجلبة هلاكهم."

السحر والسحرة الذين خدعوهم، منعوا المصريين من الإعتراف بأن الشعب هو إبن الله، بل منعوهم بأن يؤمنوا بقوة الله فإزداد عنادهم لعماهم. حتى أتت هذه الضربة فآمنوا بقوة يهوه. بل صار لهم يهوه كمبارز عظيم يحاربهم ويقتلهم. وكان رأسه في السماء= فالله في السماء. وقدماه على الأرض= لكنه موجود وسط شعبه يحميهم ويحارب أعدائهم. ومن رعبهم بغتتهم أخيلة الأحلام. ولكن الله من رحمته كان يعلن لكل واحد عند صرعه بين حي وميت لأي سبب يموت= ربما ندم وقدم توبة= لئلا يهلكوا وهم يجهلون مجلبة (ما الذي جلب) هلاكهم ولكن هذه الآيات لها بعد آخر فالسحر أي الشيطان منع الناس من أن يؤمنوا بالله. جاء المسيح كلمة الله القدير من السماء، جاء من العروش الملكية متجسداً كمبارز عنيف بصليبه= سيف صارم يمضي قضاءك المحتوم. وكان رأسه في السماء فهو الله السماوي جاء من السماء وموجود في السماء وفي كل مكان، ولكنه إتخذ له جسداً ظهر به على الأرض= قدماه على الأرض. وأهلك وهزم عدوه الشيطان. وهكذا قيل بفم داود أن الهيكل حيث تابوت العهد هو "موطئ قدمي الله" (1أي2:28) + (مز5:99) + (مز7:132) والهيكل هو إشارة لجسد المسيح (يو18:2-21).

 

الآيات (20-25): "20 والصديقون أيضاً مستهم محنة الموت ووقعت الضربة على جم منهم في البرية لكن الغضب لم يلبث طويلا. 21 لأن رجلا لا عيب فيه بادر لحمايتهم فبرز بسلاح خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور وقاوم الغضب وأزال النازلة فتبين انه خادمك. 22فانتصر على الجمع لا بقوة الجسد ولا بأعمال السلاح ولكنه بالكلام كف المعاقب مذكرا الأقسام والعهود للأباء. 23 فانه إذ كان القتلى يتساقطون جماعات وقف في الوسط فحسم السخط وقطع المسلك إلى الأحياء. 24 لأنه كان على ثوبه السابغ العالم كله وأسماء الأباء المجيدة منقوشة في أربعة اسطر من الحجارة الكريمة وعظمتك على تاج رأسه. 25 فهذه خضع المهلك لها وهابها وكان مجرد اختبار الغضب قد كفى."

الحديث هنا عما حدث في فتنة قورح وداثان وأبيرام (عد16) وكيف أنه حين إبتدأ الوبأ أمر موسى هرون بوضع بخور في مجمرته ليكفر عن الشعب ويصلي عنهم ووقف هرون بملابسه الكهنوتية ومجمرته بين الأحياء والأموات فإمتنع الوبأ. وكان عدد الموتي 14700نفس. فالله عادل ويعاقب شعبه كما يعاقب الآخرين. وكأن الحكيم يريد أن يقول أنه حتى أولاد الله فهم يموتون في ضربات تأديب. ولكننا نرى هنا قوة الصلاة وشفاعة الكهنوت فصلاة الكاهن أمام الله هي صلاة عن الشعب كله وهذا يمثل المسيح في عمله الكهنوتي وشفاعته الكفارية. ومع شعب الله فالضربة محدودة فهي للتأديب= الغضب لم يلبث طويلاً. رجلاً لا عيب فيه= هو هرون وهو يرمز لشخص المسيح الذي بلا خطية. فبرز بسلاح خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور= رمزاً لشفاعة المسيح الكفارية. وأزال النازلة (الموت) فتبين أنه خادمك= والمسيح ظهر أنه إبن الله بقيامته التي هزم بها الموت (رو4:1). لأنه كان على ثوبه السابغ أي الطويل إشارة للملابس الكهنوتية التي هي إشارة لكهنوته. أسماء الأباء منقوشة= على الأحجار المرصعة للصدرة إشارة لأن المسيح يحمل شعبه على كتفه وفي قلبه. وعظمتك على تاج رأسه= منقوش على الصفيحة التي تزين عمامته "قدس للرب" . وكان مجرد إختبار الغضب قد كفى= إختبر الشعب غضب الله وماذا يعني غضب الله حتى لا يعودوا يخطئوا ثانية. بالكلام كف المعاقب= هذه إشارة لصلوات هارون، لكنها إشارة للإبن الكلمة الذي بصليبه ربط الشيطان وقيده. مذكراً الأقسام والعهود للأباء= هذه العهود التي بدأت بقول الله لحواء "هو يسحق رأسك" (تك15:3). وكان هرون في صلواته يذكر الرب بعهوده. وليس معنى يذكره أن الله قد نسى، بل هو يستعطفه ويتمسك بهذه العهود حتى يرحم الله شعبه، مع أن الشعب أخطأ ولا يستحق الرحمة.


 

الإصحاح التاسع عشر

الآيات (1-5): "1 أما المنافقون فاستمر عليهم إلى الانقضاء غضب لا رحمة معه لأنه كان يعلم من قبل ماذا سيكون من أمرهم. 2 وانهم بعد ترخيصهم لهم في الذهاب ومبادرتهم لإطلاقهم يندمون فيجدون في أثرهم. 3 فانهم قبل أن تنقضي مناحتهم وهم منتحبون على قبور أمواتهم عادوا فاتخذوا مشورة جهل أخرى وسعوا في آثار الذين حثوهم على الرحيل سعيهم وراء قوم فارين. 4 وإنما ساقهم إلى هذا الأجل أمر لا بد منه أنساهم ما سبق من الحوادث لكي يستتموا ما بقي من آلام عقابهم. 5 ويعبر شعبك اعجب عبور ويموت أولئك اغرب ميتة."

المصريون لاحظوا أن الضربات تتصاعد. وهم طلبوا من الشعب الخروج لتتوقف الضربات التي أدت لخرابهم. لكن العمى كان قد أصاب عيونهم لشرهم، فإستمر الغضب عليهم إلى الإنقضاء بلا رحمة. والله الذي كان يعلم من قبل عنادهم هذا= ماذا سيكون من أمرهم أعد لهم أغرب ميتة= بحر ينفتح ثم ينطبق عليهم. وهذه الضربة الأخيرة قضت عليهم تماماً وعلى عنادهم= لكي يستتموا ما بقى من آلام عقابهم. مشورة جهل أخرى= فهم يعاندون الله الذي رأوا ضرباته ضدهم. فمن الجهل أن يعاند إنسان الله. ولجهلهم هذا كانت الضربة الأخيرة أشد ما رأوا من ضربات بحيث أنها أنستهم ما سبق من الحوادث= فهم غرقوا في البحر.

 

الآيات (6-8): "6 وكانت جميع الخلائق كل واحدة في جنسها تستبدل طبعها وتخدمك بحسب ما رسم لها لكي يحفظ بنوك بغير ضر. 7 فالغمام ظلل المحلة ومما كان قبلا يغمر بالمياه برزت ارض يابسة طريق ممهد في البحر الأحمر ومرج اخضر في قعر لجة عظيمة. 8 هناك عبرت الأمة كلها وهم في ستر يدك يرون عجائب الآيات."

وكانت جميع الخلائق كل واحدة في جنسها تستبدل طبعها وتخدمك= فالبحر ينشق والغمام ظلل المحلة. والأرض التي يغطيها البحر ظهر كحديقة ليمر شعبك عليها= مرج أخضر. الله يغير قوانين الطبيعة لتكون خادمة لأولاده. ولكن قوله أن جميع الخلائق تستبدل طبعها فيه إشارة للمعمودية، فعبور البحر الأحمر كان رمزاً للمعمودية، وبالمعمودية يتغير طبع جميع الخلائق (1كو1:10،2 + رو3:6-5). وهذا النص في ترجمات أخرى جاء هكذا "وكانت الخليقة كلها بحسب طبيعتها الخاصة تجبل مرة ثانية وتخضع لأوامرك ليحفظ بنوك سالمون".

 

الآيات (9-10): "9 ورتعوا كالخيل ووثبوا كالحملان مسبحين لك أيها الرب مخلصهم. 10 متذكرين ما وقع في غربتهم كيف أخرجت الأرض الذباب بدلا من نتاج الحيوان وفاض النهر بجم من الضفادع عوض الأسماك."

هذه علامات الحرية. رتعوا كالخيل= إنطلقوا بحرية. فبالمسيح وفدائه عن طريق المعمودية نحصل على حريتنا، وعلامة الحرية أن نسبح الله= مسبحين لك. والصورة العكسية فلا يمكن التسبيح مع العبودية (مز1:137-4). فبعد عبور البحر رنموا مع مريم. وفي تسبيحهم تذكروا كيف كانت يد الرب قوية ضد أعدائهم فتخرج التسبحة من القلب.

 

الآيات (11-12): "11 وأخيراً رأوا صنفا جديدا من الطير حين حثتهم شهوتهم أن يتطلبوا طعاما لذيذا. 12فصعدت السلوى من البحر تسلية لهم أما الخطاة فنزل عليهم الانتقام مع ما له من العلائم القديمة التي هي شدة الصواعق وإنما أصابهم ما استحقت فواحشهم."

ويذكر الحكيم أنه بعد ذلك أرسل لهم الله كميات كبيرة من السمان= السلوى. لكن هناك إنتقام من المصريين والإنتقام كانت له نفس العلامات القديمة= علائم= هي شدة الصواعق والصواعق هنا تعني الضربات الشديدة المفاجئة التي أصابت المصريين. وهذه الضربات الشديدة هي علامات غضب الله في كل مكان وكل زمان. وقارن قوله عن الشعب، أنه أرسل لهم السلوى تسلية لهم أي تعزيتهم ليفرحوا. وقوله عن أعداء شعبه نزل عليهم الإنتقام.

 

الآيات (13-16): "13 إذ كانت معاملتهم للأضياف اشد كراهية فان أولئك أبوا أن يقبلوا غرباء لم يعرفوهم أما هؤلاء فاستعبدوا أضيافا قد احسنوا إليهم. 14 وفضلا عن ذلك فان عليهم افتقادا آخر إذ إن أولئك إنما قبلوا قوما أجنبيين كرها. 15 أما هؤلاء فانهم قبلوا أضيافا باحتفال وفرح وأشركوهم في حقوقهم ثم أساءوا إليهم بصنوف العذاب الشديد. 16فضربوا بالعمى مثل أولئك الواقفين على باب الصديق الذين شملتهم ظلمة هائلة فجعل كل منهم يتلمس طالبا مدخل بابه."

هنا نجد مقارنة بين المصريين وأهل سدوم وعمورة، فكلاهما إستضاف أناس. وكلاهما أخطأوا في حق ضيوفهم. لكن بينما أهل سدوم وعمورة كانوا يجهلون الضيفين من هما، كان المصريون قد إستضافوا شعب الله مئات السنين، وكان شعب الله يعيش في وسطهم وخدمهم، ويوسف أنقذهم، لكنهم إنقلبوا عليهم وعذبوهم وإستعبدوهم، فكان المصريون أسوأ حالاً من أهل سدوم وعمورة. وبينما ضرب أهل سدوم وعمورة بالعمى، نجد المصريون يضربون بالظلام الشديد، هي ضربات متشابهة. وضربة العمى لكلاهما كانت تعبيراً عن عماهم الروحي. وإذ لم يتب كلاهما راحوا للأسوأ. فجيش فرعون هلك في مياه البحر الأحمر غرقاً، وأهل سدوم إحترقوا بالنار.

وقارن آية (12) مع (13) إنما أصابهم ما إستحقت فواحشهم. إذ كانت معاملتهم للأضياف أشد كراهية الأضياف أي الضيوف، والضيوف هنا هم شعب الله.

 

الآيات (17-20): "17 إذ تغيرت نسب العناصر بعضها إلى بعض كما يتغير في العود اسم صوت من اللحن والصوت باق وذلك بَيِّن لمن تأمل تلك الحوادث. 18 فالأرضيات تحولت إلى مائيات والسابحات سعت على الأرض. 19 والنار كانت لها قوة في الماء اشد من قوتها الغريزية والماء نسي قوته المطفئة. 20 وبالعكس اللهيب لم يؤذ جسم السريع الفساد من الحيوان إذ كان يمشي فيه ولم يذب الطعام السماوي السريع الذوبان كالجليد لأنك يا رب عظمت شعبك في كل شيء ومجدته ولم تهمله بل كنت مؤازرا له في كل زمان ومكان."

هنا الحكيم يلخص الأمر كله ويشبه الطبيعة بالعود والله بالموسيقار الذي يعزف عليه ليخرج نغمات جميلة هي تدبير كل شئ لخلاص شعبه وخدمة أولاده، "فكل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله" (رو28:8 + 1كو21:3،22). وكل ما يعمله الله يعلن مجد إسمه، ويقود كل البشر حتى يعرفونه ويحبونه، هذا قطعاً لمن يريد. فالله غير القوانين الطبيعية من أجل خاطر شعبه.

1.    الأرضيات تحولت إلى مائيات= الناس والمواشي يسيرون وسط البحر المشقوق كأنها أسماك وسط البحر.

2.    السابحات سعت على الأرض= الضفادع غزت بيوت المصريين.

3.  النار كان لها قوة في الماء.. والماء نسى قوته المطفئة= في ضربة النار والرعد والبرد والمطر والماء لم تطفئ عمود النار. وعمود النار لم يؤذ الإنسان والحيوان، ولا الأسماك حين كان سائراً أمام شعبه في البحر. بل كان يزعج المصريين فلا يتابعوا الشعب.

4.  المن= الطعام السماوي السريع الذوبان كالجليد (من حرارة الشمس) لم يذب عند طبخه بالنار. فالنار هي خادمة لشعب الله، حين يريد الله تطبخ المن ولا تذيبه

 

الصفحة الرئيسية