حكمة سليمان
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
لأقتنيك يا أيها البهاء الأزلي!
إلهنا! بلاد الحكمة أين موقعها؟! أين آثار طريقها؟!
من يعبر البحر ويشتريها بذهبٍ نقيٍ؟!
من يصعد فوق السحاب وينزلها؟!
الإنسان الفاني لا يعرف طريقها، إنها منسية من كل البشر!
إنها مختفية عن الملائكة!
الذين يحصلون عليها ينالون نعمة، والذين يبغضونها يحبون الموت!
إنها أبهى من الشمس وكل الكواكب!
إنها نور الآب، كائنة معه منذ الأزل!...
تتمشى الحكمة في طريق العدل، وتتحرك في سبيل الحق، لتهب الذين يعرفونها غنى، وتملأ خزائنهم فرحًا.
وهبها الله لأبينا يعقوب، ثم ظهرت علي الأرض ومشت كإنسانٍ.
هوذا قد بنت الحكمة لها بيتًا، وأسست أعمدتها السبعة، ذبحت ذبائحها،
سكبت خمرها، وأعدت مائدتها!...
بيتها هو الكنيسة الجامعة الرسولية، وأعمدتها السبعة هي أسرار الله المحيية...
الحكمة هي مخلصنا يسوع المسيح، الذي فدانا بذبيحة جسده، واشترانا بسفك دمه، واختارنا لملكوته الأبدي!
قسمة الحكمة
للقديس أبيفانيوس أسقف سيلاميس
منذ سنوات تمتعت بقراءة "قسمة الحكمة" للقديس أبيفانيوس أسقف سيلاميس، إذ سحبَت كل كياني. شعرت كمن وجد صلاة ثمينة تفوق كل اللآلئ، حيث يصرخ قلبي مشتهيًا اقتناء الحكمة المتجسد، ربنا يسوع المسيح، فبه تستنير عيناي لتتعرف على خطة الله نحو البشرية كلها، وبه اغتني جدًا، فلا أكون معوزًا إلى شيءٍ، وبه تستقر نفسي في الأحضان الإلهية.
والعجيب أنني كلما صليت بهذه القسمة أجد كثيرين يطلبون نسخة منها لتكون سندًا لهم في صلواتهم الخاصة.
والآن من بين الأسفار الإلهية أرجو أن أتمتع ويتمتع معي كثيرون بالحكمة لاقتنائها، والحياة بها على مستوى أبدي!
هذا السفر ومعه سفر "يشوع بن سيراخ" يشبهان سفر "الجامعة"، يقدمان نظرات عميقة داخلية نحو الحياة العملية اليومية في الرب.
لأقتنِ حكمة الله المحب واهب الخلود!
مع كل سفرٍ من أسفار الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، تنسحب قلوبنا بالأكثر نحو رب المجد يسوع لنتعرف عليه بالأكثر، فتلتهب نيران محبتنا نحوه في داخلنا، ونترقب بشوقٍ شديدٍ مجيئه ليحملنا معه إلى أحضان الآب، ونتمتع بسرّ الله الفائق!
يؤكد السفر انشغال الله الخالق بشئون البشر. ففي إتمامه بنا يهبنا الحكمة الإلهية لحفظنا في هذا العالم، ولكي نحمل فكرًا خلاّقًا، وبها يهبنا الخلود.
يقدم لنا سفر الحكمة شخص ربّنا يسوع المسيح، حكمة الله، محي جميع البشر، القادر وحده أن يضمنا إليه، فننعم بالشركة معه، ونبقى معه أبديًا، لن يقدر الموت أن يقترب إلى نفوسنا، ولا الفساد أن يحل بأجسادنا القائمة معه من الأموات. إنه بحق سفر الخلود!
ننعم بالسيد المسيح – حكمة الله – محب كل البشريَّة، فيتسع قلبنا بالحب نحو كل إنسانٍ، مشتهين أن يشاركنا الكل عذوبة الحياة الخالدة المجيدة.
إنه سفر التمتع بأيقونة السيد المسيح، فنحيا به ومعه إلى الأبد، نحمل شركة الطبيعة الإلهية.
القمص تادرس يعقوب ملطي
- مقدمة |
|
الباب الثالث الأصحاحات [10 -19] |
- الباب الأول الأصحاحات [1- 6] |
|
الأصحاح العاشر (عمل الحكمة في التاريخ) |
الأصحاح الأول (حث على طلب الحكمة والبرّ) |
|
الأصحاح الحادي عشر (غاية الحكمة للأبرار والأشرار) |
الأصحاح الثاني (سخرية الأشرار بالأبرار) |
|
الأصحاح الثاني عشر (زنابير تتقدم جيشك) |
الأصحاح الثالث (تحدِّي الأبرار حتى للموت المبكر) |
|
الأصحاح الثالث عشر (تأليه الطبيعة وتأليه المصنوعات البشرية) |
الأصحاح الرابع (بين مصيري الأبرار والأشرار) |
|
الأصحاح الرابع عشر (ما وراء عبادة الأصنام) |
الأصحاح الخامس (صيحات النصرة وصرخات الندم) |
|
الأصحاح الخامس عشر (الوثنية وانحطاط البشرية) |
الأصحاح السادس (حديث ختامي) |
|
الأصحاح السادس عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 1) |
- الباب الثاني الأصحاحات [7- 9] |
|
الأصحاح السابع عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 2) |
الأصحاح السابع (شخصية سليمان - الحكمة للجميع!) |
|
الأصحاح الثامن عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 3) |
الأصحاح الثامن (الحكمة قرينة حياتي) |
|
الأصحاح التاسع عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 4) |
الأصحاح التاسع (هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك) |
|
|
في
حكمة سليمان
عنوان السفر[1]
ورد في كتابات القديس إكليمنضس السكندري والعلامة ترتليان والقديس كبريانوس باسم "حكمة سليمان"، كما ورد في كتابات القديس كبريانوس تحت اسم "سليمان"، وورد في بعض النسخ اللاتينية تحت اسم "الحكمة". دعاه القديسان أبيفانيوس أسقف سلاميس وأثناسيوس الرسولي "سفر الحكمة الفُضلى".
الكاتب
يكشف عنوان السفر "حكمة سليمان" عن موضوع السفر، وهدفه، كما عن الكاتب.
يرى البعض أنه نُسب للملك سليمان (970-931ق.م)، لأن اليهود يتطلعون إليه مثالاً لكل الحكماء، وأن كثيرًا من الأمثال والكلمات الحكيمة ترجع إليه.
ويرى آخرون أن سليمان الحكيم كتب الأصحاحات الأولى، بينما قام يهودي حكيم آخر – غالبًا من الإسكندرية – بتكملة السفر. يعتمدون في ذلك على بلاغة الأسلوب في النص اليوناني، لكن بعض الدارسين يرون أن أصله عبري، تُرجم إلى اليونانية، وانتشر في القرن الثاني وبداية القرن الأول ق.م في مصر.
لقد أثبتت الدراسات الحديثة وِحدة السفر، وأن الذي كتبه شخص واحد[2]. أغلب النُقاد منذ كتب[3] Grimm مدافعًا عن وحدة المؤلف، رأوا أن العوامل المشار إليها للادعاء بأن أكثر من كاتب اشترك في هذا السفر تُعتبر ليست ذات قيمة بجانب الالتحام المشترك بين أقسام السفر[4]. يقول Robert C. Denton: [بالرغم من عدم إنكار وجود اختلافات بين الأقسام التي للسفر. فإن التشابه في الأسلوب والمفردات والأفكار لا تزال تبدو لأغلب للدارسين أنها أقوى بكثير من الاختلافات. ففي غياب وجود برهان أكيد على عكس هذا يظهر أنه يجب التعامل مع هذا العمل كنتاج كاتبٍ واحدٍ[5].]
سجَّل الأصحاح التاسع حديث الكاتب معلنًا أن الله اختاره ملكًا على شعبه، وقاضيًا، وأن الله أمره ببناء هيكل في جبل قدسه ومذبح في المدينة، وهذه كلها لا تنطبق إلاَّ على شخصية سليمان.
هذا بجانب أن السفر مكمّل لبقية أسفار سليمان:
v سفر الأمثال: يقدم لنا كيف يسلك المؤمن في حياته.
v سفر الجامعة: من يسلك في شركة مع الله يدرك بطلان الحياة الزمنية.
v سفر النشيد: إذ يدرك المؤمن حقيقة تغرُّبه في هذا العالم، يشتاق إلى الاستقرار في أحضان عريسه السماوي، مترنمًا بتسابيح العرس.
v سفر حكمة سليمان: إذ تستقر النفس في حضن عريسها، تقتنيه بكونه حكمة الله واهب الخلود.
مكان كتاباته
يرى البعض أنه كُتب في مصر، إذ كثيرًا ما يهتم الكاتب بالشئون المصرية. بينما يرى آخرون أنه ليس من المقبول أن يُكتب السفر في مصر وهو يهجوها. أما عن هجومه على الوثنية كدليلٍ على كتابته في مصر التي أذلت شعب الله، فقد كانت الوثنية موضوع قلق اليهود عبر العصور المختلفة. لكنه تُرجم إلى اليونانية في الإسكندرية ليسند اليهود ضد الأفكار اليونانية الوثنية السائدة هناك.
غايته
1. يوجه الملك سليمان أو الكاتب حديثه هنا إلى الملوك "الذين يحكمون الأرض" (1:1)، مشتهيُا أن يتمتع كل أصدقائه الملوك بما تمتع به، ألا وهي "الحكمة"! والمؤمن الحقيقي، إذ يتمتع بالملوكية (رو 6:1)، يود أن يرى كل البشر كأنهم ملوك أصحاب سلطان، حكماء في تصرفاتهم. في حديث الكاتب مع الله يؤكد أن الله خلق الإنسان ليكون ملكًا، إذ يقول: ""يا إله الآباء، ويا رب الرحمة، يا صانع كل شيء بكلمتك، ومكوِّن الإنسان بحكمتك، لكي يسود الخلائق التي صنَعتَها. ويسوسَ العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم باستقامة النفْس". (9: 1-3) هكذا يدعونا الكاتب لطلب الحكمة السماوية كعطية إلهية، وعدم الاتكال على الفلسفات البشرية، خاصة في إدراك سرّ خطة الله من نحو الإنسان، وتدبيره الخفي من أجل محبته لكل البشرية.
2. ربما كان هدفه دعوة اليهود الذين ارتدوا عن الإيمان المُسلم لهم وانحرفوا إلى الوثنية، أن يرجعوا إلى الله.
3. واضح من السفر نفسه أن الدافع عليه هو مساندة اليهود الذين انهاروا أمام الضيقات التي تحل بالأبرار دون تدخل الله السريع لمجازاة الأشرار الظالمين. أو الذين أغوتهم الحياة الرغدة التي كان يعيشها الأشرار. لهذا جاء هذا السفر يؤكد الخلود، والمكافأة الأبدية ومجازاة الأشرار المصرِّين على شرهم أبديًا. وهو في هذا يعالج مشكلة "العدالة الإلهية" التي تسمح أحيانًا بنجاح الأشرار، وطول العمر، وكثرة الأبناء، والحياة المترفة، والتي يبدو فيها أنهم ناجحون، وكأن الله لا يبالي بحياة البشرية.
4. أوضح الكاتب أن خلود الإنسان لا يقوم على طبيعته، بل على علاقته بالله، مصورًا مكافأة الأبرار في عبارات توضح مشاركته في الحياة الملائكية (5:5)[6].
5. يدعو الكاتب المؤمنين ألاَّ يحسدوا الوثنيين على فلسفاتهم، فإنهم يتمتعون بالفلسفة الحقيقية[7]. فالفلسفة ليست مجرد سمات معينة يتمتع بها الإنسان، يتعلمها خلال الالتقاء بالفلاسفة، أو دراسة فلسفاتهم، أو خلال خبرة الحياة، لكنها أولاً وقبل كل شيءٍ هي عطية إلهية، حيث يتمتع المؤمن بشخص "حكمة الله" الخالق، الذي يسكب بهاءه عليه فيستنير. يربط الكاتب بين أقنوم الحكمة وروح الله محب جميع الناس.
6. يقدم الكاتب نظرة جديدة، وفهمًا عميقًا للأحداث الواردة في أسفار موسى الخمسة، متطلعًا إليها من خلال نظرته لله المحب لجميع الناس، حتى الأشرار ليجتذبهم للتوبة ويهبهم الخلود.
7. يدعو السفر الوثنيين التخلي عن العبادة الوثنية ورجاساتها، التي تحمل في طياتها الجهل والحماقة والشر.
8. الكشف عن أصل العبادة الوثنية ونتائجها.
9. إبراز أن ما يحل بالأشرار ليس عن نقمة الله عليهم، ولا عن كراهية، إنما تحمل الخطية في داخلها ميكروب الموت والفساد والعذاب.
10. الربط بين الإلهيات والسلوك الإنساني والإمكانيات البشرية العقلية، فهو يوَّحد بين العمل الإلهي والعقل المقدس في الرب والسلوك الروحي في تناغم رائع بالإتحاد مع الحكمة الإلهي[8].
سماته
1. لعل من أبرز العقائد التي اهتم بها هذا السفر "عقيدة الخلود"، فكثيرًا ما يكرر السفر أن مصير الأبرار هو الخلود، حتى إن ماتوا فقراء أو مظلومين. غاية التصاقنا بالحكمة الإلهية أننا ننعم بالخلود أو عدم الموت وعدم الفساد.
"اعتبرت في قلبي أن في قربى الحكمة خلودًا" (8: 17).
"أما الأبرار فسيحيون للأبد" (5: 15).
"أما سرّ خلودهم فهو تمتعهم بالبرّ الأبدي، "لأن البرّ خالد" (1: 15).
2. الكاتب كارز أكثر منه لاهوتي. يكرز بالله الحال في كل مكان، يعمل دومًا، يعرف كل شيءٍ، ويحب كل الخليقة. هو يكافئ كما يعاقب، غير أن مكافأته ليست بالخيرات الزمنية. كما أن مصدر الشر في العالم هو حسد إبليس.
3. يربط السفر بين الحكمة والبرّ، وبين الشر والوثنية.
v عمل الحكمة هو البرّ، لأنها تحول عطيتها من المعاندين وغير المؤمنين إلى المؤمنين شعب الله المطيع. على أي الأحوال من المفيد هنا أن نراعي باهتمام هذه الملاحظة: "تُعرف الحكمة بأعمالها" (راجع مت 11: 19)[9].
القديس هيلاري أتسقف بواتييه
v ما هو نفع الحكمة، إن كانت تفشل في أن تجعل الذين يسمعونها حكماء؟[10]
القديس إكليمنضس السكندري
v إن كان لدى شخص ما معرفة وينقصه الحب، فإنه ليس فقط لا يقتني شيئًا آخر، بل وأيضًا سيسقط مما هو عليه[11].
v ليس من هو أكثر حكمة من الشخص الذي يحيا حياة فاضلة. يقول أحدهم، لاحظوا كيف أنه حكيم. إنه يعطي ما له، إنه رحوم، محب للجميع. إنه يفهم تمامًا أنه يشارك الطبيعة البشرية العامة مع الآخرين. إنه يفكر كيف يستخدم ثروته بحكمةٍ. إنه يُدرك موقفه من الثروة التي لا تجعله في مركزٍ فريدٍ. إنه يعرف أن أجسام أقربائه أثمن من ثروته. من يستخف بالمجد (الزمني) هو حكيم بكماله، إذ يفهم الشئون البشرية. هذه هي الفلسفة الأصلية، معرفة الأمور الإلهية والبشرية. فهو يفهم ما هو إلهي، وما هو بشري[12].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v قال: "والحكمة تبررت من جميع بنيها" (لو 7: 35). إن سألت من هم هؤلاء البنين، نقرأ المكتوب: "أبناء الحكمة هم كنيسة الأبرار" (سي 3: 1)[13].
القديس أغسطينوس
4. يتسم السفر بغنى مفرداته واتساعها، فالكاتب كما هو واضح أنه ذو مركز عالٍ، يتسم بثقافةٍ عاليةٍ سواء على المستوى اليهودي أو ثقافات الأمم وفلسفاتهم؛ حكيم؛ متدين جدًا؛ ولكن غير حرفي في مفاهيمه.
5. يحمل السفر أفكارًا يهودية تقوية، مثل التطلع إلى "القلب" بكونه عرش التفكير. لم يستخدم الكاتب التعبير اليوناني "العقل".
6. يتسم السفر بالتنسيق، منظم في تفكيره، ينهي كل موضوع بملخص له.
7. يحمل السفر وحدة واحدة كما يرى الدارسون المحدثون، فلا يوجد أي أثرٍ لخلاف بين أقسامه سواء لاهوتيًا أو فلسفيًا أو من جهة اللغة والمفردات[14].
الحكمة والحكيم
يرى بعض العلماء أن أغلب الحيوانات والطيور لا تحتاج إلى التعلم كثيرًا من الوالدين، فبعد ولادة الحيوان ربما بدقائق يصير قادرًا على المشي، أو بعد ساعات أو أيام يكون الطائر الصغير قادرًا على الطيران، أما الإنسان فيبقى إلى شهور، وأحيانًا تمتد إلى سنوات ليتعلم المشي. هذا لأن الإنسان في حاجة إلى التعلم، خاصة من والديه، فيعيش في بدء حياته عاجزًا عن الاعتماد على نفسه، لكي فيما هو يتعلم المشي والكلام والأكل حتى طريقة الشرب، تكون له فرصة أكبر ليتمتع بالاحتكاك بأسرته، فيتعلم الحياة ذاتها والسلوك والحكمة والفهم.
هذا وقد انتشرت الأمثال منذ بدء التاريخ البشري، لكي يتعلم الإنسان الحكمة بكلمات قليلة.
وقد عرف الإنسان حتى في ظل نظام القبائل البدائية وجود حكيم للأسرة أو القبيلة أو القرية يلجأ إليه الكل، يطلبون المشورة، ويتلمسون حكمته في كل أمور حياتهم.
ووُجد حكماء في كل العصور على كل المستويات، خاصة لدى الملوك والأباطرة يدربون أبناء الأسرة الملكية ليسلكوا بفكرٍ معينٍ ونظامٍ معينٍ يليق بالأسرة الملكية... وإلى وقت قريب كنا نسمع هذه العبارات: "هذا ابن عزّ"، "هذا تربية ملوك".
عندما التقى فرعون بيوسف قال لعبيده: "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله"، ثم قال ليوسف: "بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك" (تك 41: 38-39). وقيل عن يهوناثان عم داود النبي: "كان مشيرًا ورجلاً مختبرًا وفقيهًا" (1أي 27: 32). وقيل عن دانيال في السبي إن حكمته تساوي "عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته" (دا 1: 20).
الحكيم والأبوة
لا نعجب إن كان روح الله قد خصص أسفارًا كاملة لتقديم حِكم وأمثال مثل أسفار الأمثال والحكمة وابن سيراخ... حتى يقدم للمؤمنين الحكمة حسب الفكر الإلهي، وليس حسب الخبرات البشرية المجردة، دون لمسات إلهية مقدسة.
في الأسفار الحكمية غالبًا ما يتحدث الكاتب مع المؤمنين، لا كمن هو على كرسي التعليم في كبرياء وتشامخ، وإنما كأبٍ محبٍ لأبنائه، فكثيرًا ما يردد: "يا ابني" (أم 23: 19، 26؛ 24: 13، 21؛ سي 2: 1؛ 3:1، 12، 17؛ 4: 1).
فالحكيم يتحدث مع المؤمنين، ويسلك كأب يحمل ظل أبوة الله لهم. فالحكمة في جوهرها التقاء مع الله في داخل دائرة حبه، واستقرار في الأحضان الإلهية للتعرف على أسرار الله وخطته من نحوه، وحبه وحنوّه عليه، فيسلك كابنٍ لله وسفيرٍ له!
الحكيم الناجح هو القادر أن يدخل بالنفس البشرية إلى أحضان الله لتنهل من حكمته. وكما يقول يعقوب الرسول: "إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاءٍ ولا يعيِّر، فسيُعطى له" (يع 1: 5). فالحكمة هي عطية تُمنح بواسطة الروح القدس (1كو 12: 8).
عمل الحكيم هو مساندة المؤمن ليتكشف حب الله وأبوته ويتعرف عليه، ويتمثل به كابنٍ له. فتصير الحكمة بالنسبة له ليس مشورة لتحقيق مكاسبٍ أيا كانت سوى اقتناء الله نفسه.
الحكمة والمعرفة
الحكمة هي إعلان الله عن ذاته لنا، نقتنيه، فنحمل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية. يرى القديس أغسطينوس أن الحكمة هي القدرة على تذوق الحقائق الروحية، والتمتع بالحق يؤدي إلى مجد الله والتعبد له بمخافة البنين. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحكمة هي الإنجيل، أي التمتع بخطة الله الخلاصية المفرحة. أما العلم فهو الحيدان عن الشر (أي 28: 28)، وتقديم كلمة الخلاص للبشر.
يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هدف الإنسان الروحي (الغنوسي) أن يتعرف على الله (الحق) ويراه[15] وجهًا لوجه، أي يعبر إلى كمال المعرفة بالإلهيات من خلال الإيمان، وذلك خلال خبرة الحياة النقيّة والتأمّل الدائم. فإن كنّا قد عبرنا من الوثنيّة إلى الإيمان، فيليق بنا أن نعبر من الإيمان إلى المعرفة[16]، لنرى الله ونعرفه. هذه المعرفة هي هبة إلهيّة نتقبّلها خلال الابن، وذلك بقبولنا إيّاه وتشبّهنا به؛ أي خلال نقاوة القلب، نعاين الله وندرك ما يبدو للآخرين غير مدرك[17].
v الغنوسية التي هي المعرفة وإدراك الأمور الحاضرة والمستقبلية والماضية، كأمور أكيدة وموثوق فيها، يمنحها ابن الله الذي هو "الحكمة" ويعلنها[18].
القديس إكليمنضس السكندري
يرى القديس إكليمنضس السكندري أنه بالحكمة نتمتع بالمعرفة التي تشمل معرفة كل الأشياء، أما القديس أغسطينوس فيميز بين الحكمة والمعرفة. فيقول: "تشير الحكمة إلى معرفة الإلهيات، والمعرفة إلى العلوم البشرية[19].
الحكمة والبصيرة
v يقول الرواقيون أنه يوجد اختلاف بين الحكمة والبصيرة. يقولون: "الحكمة هي معرفة الأمور الإلهية والبشرية، وأما البصيرة فهي معرفة ما هو مائت وحده".
بحسب هذا التمييز ينطبق تعبير بولس "الحكمة" على ما هو غير منظور وما هو منظور، والبصيرة على ما هو منظور وحده[20].
القديس جيروم
"المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3)
كشف العهد الجديد عن الحكمة التي صارت لنا في المسيح يسوع، إذ هو نفسه حكمة الله، يهبنا ذاته.
v هو نفسه يعطي الحكمة والمعرفة. الآن بقوله "كنوز" (كو 2: 3) يظهر عظمتها، بقوله "كل" يظهر أنه لا يجهل شيئًا، وبقوله "المخفية" يظهر أنه وحده يعرفها[21].
v عجبًا! أية صداقة هذه؟! إذ يخبرنا بخفاياه، إذ يقول "بسرّ مشيئته"، لأن أحدًا يقول بأنه عرّفنا بالأشياء التي في قلبه. هنا حقًا السرّ المملوء حكمة وفطنة. فأية حكمة مثل هذه؟ الذين كانوا لا يساوون شيئًا رفعهم في لحظة إلي الغنى والفيض. أي تدبير حكيم هكذا؟! الذي كان عدوًا ومُبغضًا في لحظة ارتفع إلي العلا... هذا تم في الوقت المعين؛ إنه عمل الحكمة، تحقق بواسطة الصليب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه لا يخفي كنوز الحكمة والمعرفة لكي يحرمنا منها، وإنما لكي يثير اشتياقنا إلى ما هو مخفي[22].
v نحترس، بوجه خاص، لئلا ونحن نجاهد في طلب للحكمة، التي هي كائنة في المسيح وحده المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة – أقول نحترس لئلا باسم المسيح ذاته، يخدعنا الهراطقة أو أية أحزاب فاسدة الذهن ومُحبة لهذا العالم[23].
القديس أغسطينوس
v يجب أن يختفي الرب في أعماق نفوسنا لنقبل حقيقة الحكمة السماويَّة في داخلنا[24].
القديس أمبروسيوس
v صارت الأذهان الجديدة حكيمة بحكمة جديدة، جاءت هذه الأذهان إلى الوجود خلال العهد الجديد حيث نزعت الغباوة القديمة[25].
القدِّيس إكليمنضس السكندري
v يا ربنا يسوع المسيح، حكّم عبيدك في تجارب الشياطين المردة. هب لهم معرفة حكمة ربوبيتك، ولتلبسهم قوتك المقدسة، بها يذلون ذخر الشياطين، ويقهرونهم بقوتك المقدسة في كل قتالهم معهم. آمين[26].
الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)
v طوبى لهم حقًا، الذين في احتياجهم لابن الله، قد تجاوزوا الحاجة إليه كطبيب لشفاء أمراضهم، أو كراعٍ، أو كفادٍ، وصار احتياجهم إليه كحكمة ولوغوس، أو كأحد الألقاب الأخرى التي يقدمها لأولئك الذين لهم الفصح الروحي الذي يهيئهم لأسمى النعم.
v "يشبِه ملكوت السماوات كنزًا مُخفى في حقل" (مت 13: 44)... الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدَّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيَّة الأفكار؛ فإنها عظيمة ومتنوعة هي نباتات الكلمات التي في كل الكتاب! أمّا الكنز المُخفى في الحقل فهو الأفكار المختومة والمخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفية في سِرّ، المسيح "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (1كو 2: 3).
يقول آخر أن الحقل هو مسيح الله الذي بالحقيقة مملوء... أمّا الكنز المُخفى فيه فهو ما قال عنه بولس إنها مخفية في المسيح: "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم"، الأمور السماويّة[27].
العلامة أوريجينوس
v لقد نزل كلمة الله من السماء، لكي يصير عريسًا للطبيعة الإنسانية، فأخذها مسكنًا له، لكي يخطبها ويقودها إليه فتلد ثمار الحكمة الروحية.
القديس كيرلس الكبير
v من يؤمن حقًا يتحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيه كل هذه والتي ليست فيمن لا يؤمن. فإنه بدون ابن الله لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القوي بلا قوة، والحكيم بلا حكمة. لأن المسيح هو "قوة الله وحكمة الله" (1كو24:1)، فإن من يظن أنه يرى الله الواحد بلا قوة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي إما أنه لا يرى شيئًا بالمرة أو بالتأكيد يرى ما هو شر[28].
v عندما خلق الله كل الأشياء... لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوة الله وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة الله وحكمة الله به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1)[29].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
أقنوم الحكمة
إن كان غاية اقتناء الحكمة بنيان النفس روحيًا، وتحصينها بالحكمة الإلهية عن الارتداد وإغراءات العالم، حيث يمارس الإنسان بنوته لله، فإن هذا لن يتحقق إلاَّ بتمتعه بأقنوم الحكمة، الذي هو بعينه قوة الله، وهو ابن الله الأزلي بالطبيعة. لذا أبرز هذا السفر الحكمة كأقنومٍ إلهي، يليق بالمؤمن أن يقتنيه.
1. يعرف الحكمة بكونها الكلمة الخالق تبنى النفس بطريقة ديناميكية مستمرة: "مكوِّن الإنسان بحكمتك" (9: 2). كان مع الآب في أثناء الخلق: "إن معك الحكمة العليمة بأعمالك، والتي كانت حاضرة حين صنعت العالم" (9: 9)
2. يعّرف الحكمة بكونها بهاء الله: "لأنها انعكاس للنور الأزلي" (7: 26).
3. أحد أقانيم الثالوث القدوس: الحكمة هو أقنوم إلهي، يُحقق الإرادة الإلهية في العالم.
الأسفار الحكمية مثل الأمثال والجامعة حتى أيوب تقدم الحكمة بصفة ذاتية، كأقنوم إلهي. أما في هذا السفر فيحتل هذا الأمر مكانًا أكبر، لهذا يراه بعض الدارسين أنه قريب نسبيًا من الفكر الوارد في إنجيل يوحنا عن الكلمة الإلهي. وقد اقتبست الكنائس الرسولية الكثير من هذا السفر في القراءات الليتورجية والمناسبات الكنسية. "ومن الذي علِم بمشيئتكَ، لو لم تؤت الحكمة، وترسل من العُلى رُوحك القُدوس؟" (9: 17)
v يسوع هو الحكمة ذاتها، ليس من أجل أعماله، وإنما من أجل طبيعته ذاتها (1 كو 1: 24؛ أم 8)[30].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
v لم يبذل الابن ذاته بدون إرادة الآب، ولا بذل الآب ابنه بدون إرادة الابن... قدم الابن ذاته بكونه البرّ لكي ينزع عما الإثم الذي فينا. أعطى الحكمة ذاته لكي يطرد الجهل[31].
القديس جيروم
v كل حكمة وتعقل تكون فارغة بلا قيمة وهزيلة بدون المسيح[32].
الأب ماريوس فيكتورينوس
v يلاحظ سليمان في سفر الجامعة "الحكيم عيناه في رأسه" (جا 2: 14). أدرك بولس أهمية الرئاسة. لقد عرف أن العينين في الرأس. فإن كان المسيح هو رأس المؤمن، فبالتبعية تكون كل حواسنا وعقلنا وفكرنا وكلماتنا ومشورتنا في المسيح (إن كنا حكماء)[33].
القديس جيروم
4. الديان: "هب لي الحكمة، الجالسة معك إلى عرشك". (9: 4)
5. المخلص: "هكذا قُومت سُبل الذين على الأرض، وتعلَّم الناس ما يُرضيك، وبالحكمة نالوا الخلاص". (9: 18)
v فن الطب – حسب ديموقريطوس Democritus - يشفي أمراض الجسد، والحكمة تحرر النفس من هواجسها. أما المعلم الصالح – الحكمة – الذي هو كلمة الآب الذي أخذ جسدًا بشريًا، فيهتم بكل طبيعة خليقته.
إنه طبيب البشرية الذي فيه كل الكفاية. المخلص، الذي يشفي الجسد والنفس معًا[34].
القديس إكليمنضس السكندري
v قضيت زمانًا طويلاً في الباطل، وأضعت تقريبًا كل شبابي أبحث عن نوعٍ من الحكمة هي جهالة عند الله. فجأة مثل إنسانٍ قام من نومٍ عميقٍ فتحت عيني على نور حق الإنجيل العجيب، فأدركت عدم نفع حكمة رؤساء هذا العالم التي تزول (1 كو 2: 6). سكبت دموعًا كثيرة على حياتي البائسة وطلبت أن أنال هداية كي ألتصق بتعليم الدين الحقيقي.
القديس باسيليوس الكبير
6. سماوي، نطلب التمتع به: "هب لي الحكمة" (9: 4) "فأرسلها من السماوات المقدسة" (9: 10).
v يحدث أن الذين كانوا قبلاً يجهلون السماويات، إذ يتقبلون تعليم الحكمة يتحدثون في الحال عن الحق الإلهي[35].
الأب لاكتانتيوس
7. يدعوها الكاتب "محب البشر":
"إن الحكمة روح يحب الإنسان" (1: 6).
"حرً، مُحسنًا، محبًا للبشر" (7: 22).
"إنها تمتد بقوةٍ، من أقصى العالم إلى أقصاه، وتدبر كل شيءٍ للفائدة" (8: 1).
8. يصفها الكاتب بسمات هي ذات سمات الله، وذلك لكي يُهيئ الكاتب لرجال العهد الجديد أن يُدركوا أن السيد المسيح هو حكمة الله، الذي يوهب لنا. وكما يقول الرسول بولس: "ومنه أنتم بالمسيح يسوع، الذي صار لنا حكمة من الله وبرًّا وقداسة وفداءً" (1 كو 1: 29-30).
v الله لم يجعلنا مجرد حكماء وأبرارًا وقديسين في المسيح. أنه أعطانا المسيح لأجل خلاصنا[36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الحكمة والإنسان
طلب الحكمة هو قمة ما يبلغه الإنسان، إذ بنواله إياها يقترب منها، أي من الله.
مما يجدر ملاحظته أن الكاتب يدعو الحكمة الإلهية "العناية الإلهية" (14: 3)، أو الحب الإلهي، أعمالها ليست عقيمة (14: 5). فمن يقتني حكمة الله يقتني الحب العملي نحو الله والناس! لكن الإنسان شوَّه حتى اسم "الحكمة"، فكثيرًا ما تُستخدم الكلمة للتعبير عن المكر والخداع، أو المداهنة والمحاباة. فالإنسان بفساد قلبه أفسد حتى لنظرة إلى المقدسات الإلهية.
بين سفريّ الحكمة والجامعة
يرى بعض الدارسين أن هذا السفر جاء في مقابل سفر الجامعة، لكنه في الحقيقة هو مكمل له، فإن كان سفر الجامعة يؤكد بطلان العالم، وليس من جديد تحت الشمس، إذا بهذا السفر يوضح إمكانية استخدام العالم للبنيان خلال التمتع بحكمة الله.
1. "الموضوع الرئيسي لسفر الجامعة هو تثقيف الشاب، وإعداده ليحيا إنسانًا تقيًا غير مُستعبد لملذات العالم وشهوات الجسد وإغراءات المادة. أما بالنسبة لسفر الحكمة فهو مقدم للحكام أو للبالغين، كي يعيشوا بروح الحكمة السماوية، أتقياء ومقدسين للرب.
2. سفر الجامعة يركز بالأكثر على الجانب الأخلاقي السلوكي، أما سفر الحكمة فيركز الأنظار على الله، حكمة الله، للشركة معه.
سفر الحكمة والعهد القديم
مع أنه يتحدث عن إسرائيل كمركز خطة الله، إلا أنه لا يشير إلى الذبائح والطقوس اليهودية. هذا ويؤكد السفر مرارًا أن الله يرحم الجميع، وفي عدله لا يحابي أمة على أمة، ولا جنسًا على جنسٍ آخر.
سفر الحكمة والعهد الجديد
1. قدم لنا الدكتور مراد كامل في مقدمته للأسفار القانونية الثانية ونيافة الأنبا مكاريوس في كتابه "تفسير حكمة سليمان" أمثلة لمقتطفات من سفر الحكمة وردت في أسفار العهد الجديد. لكن لم يقتبس أي سفر في العهد الجديد من سفر الحكمة نصوصًا كما هي، وإنما جاء صداه قويُا في أسفار العهد الجديد، خاصة في إنجيل يوحنا ورسائل القديس بولس الرسول[37]. واضح أن القديس بولس كان على دراية بالسفر، وإن كان لم يقتبس منه مباشرة (راجع رو 1: 19-32 مع حك 13، 14؛ عب 1: 3 مع حك 7: 26؛ أف 6: 13-17 مع حك 5: 17-19).
2. قدم لنا السفر رموزًا للسيد المسيح، منها اضطهاد الأشرار للبار، كرمز لاضطهاد اليهود للسيد المسيح البار (حك 2: 12-20). وأيضًا الصديق الذي يعتبر الأشرار موته هوانًا سيدينهم في نهاية الأيام (حك 4: 1-5، 18: 24)، رُمز للسيد المسيح الذي يدين جميع الأشرار ببرّه في يوم الدينونة الأخير.
3. هيأ هذا السفر لتمجيد الحياة البتولية المكرسة لله، الأمر الذي كان يصعب على اليهودي قبوله. يذكر السفر أن العاقر والخِصيْ الطاهرين وإن لم ينجبا على الأرض إلاَّ أن مكافأتهما عظيمة في السماوات (حك 3: 13-15).
4. من يتلامس مع هذا السفر يستطيع – إن صح لنا القول – أن يضمِّه إلى أسفار العهد الجديد، إذ يحمل الكثير من روحه ومن أفكاره، فقد حمل السفر اتجاهًا إنجيليًا. أهم الأفكار المشتركة مع أسفار العهد الجديد هي:
أ. الإشارة إلى الثالوث القدوس، وشخصية الحكمة كأقنومٍ إلهيٍ.
ب. التركيز على الخلود والنفس البشرية.
ج. الموت وبقية الشرور هي من عمل الشيطان، لكنه لا يلزم الإنسان إنما يحاول إغوائه.
د. تتناغم لهجته مع العهد الجديد في النظرة نحو العناية الإلهية عبر التاريخ.
فقد كشف عن محبة الله نحو كل البشريَّة، الأمم مع اليهود، أذكر على سبيل المثال:
"لأن كل العالم أمامك" (11: 22).
"لكنك ترحم جميع الناس" (11: 23).
"إنك أشفقت على أولئك أيضًا لأنهم بشر" (12: 8).
"إذ ليس سواك إله يعتني بجميع الناس" (12: 13).
فإنك تسوُس جميع الناس" (12: 15).
5. كما أن الله محب لكل البشريَّة هكذا يليق بالأبرار، كأبناء لله، أن يكونوا كاملين مثل أبيهم السماوي، يحملون الحب لكل البشريَّة. "وبأعمالك هذه علَّمت شعبك أن البار يجب عليه أن يكون محبًا للناس" (12: 19).
6. يكشف لنا هذا السفر عن الله بكونه محب البشريَّة، فإنه حتى في تأديبه للأشرار يؤدب تدريجيًا لكي يعطيهم فرصًا للتوبة. فلو أنه يريد هلاك الأشرار لسمح بالعقوبات السريعة المفاجئة.
"لذلك فإنك تُوبخ شيئًا فشيئًا الذين يزلون وتنذرهم مذكرًا إياهم بما يخطئون فيه، لكي يُقلعوا عن الشر، ويؤمنوا بك أيها الرب" (12: 2).
"ومع ذلك فإنك أشفقت على أولئك أيضًا لأنهم بشر، فبعثت بالزنابير تتقدم جيشك لكي تبيدهم شيئًا فشيئًا... بإجـراء حـكمك شيئًا فشيئًا منحتهم مهلة للتوبة" (12: 8، 10)
7. إذ أشرق نور العهد الجديد على قلب الحكيم رأى شعب الله في مركز عجيب، فدعاهم بألقاب تحمل بركات العهد الجديد نذكر منها.
ا. قديسون يتمتعون بنور عظيم (18: 1، 5)، إذ يتقدسون بالله.
ب. أبناء الله، الذين يود الأشرار أن يحبسوهم (18: 4).
ج. الأبرار (18: 20)، أو الصديقون الذين آمنوا بالله ليتمتعوا ببرِّه عاملاً فيهم.
سفر الحكمة والليتورجيات[38]
اتسمت الليتورجيات الكنسية القبطية بالفكر الإنقضائي أو الأخروي (الإسخاتولوجي)، حيث ما يشغل فكرها هو انطلاق الكل معًا كعروسٍ سماويةٍ تتمتع بشركة أمجاد عريسها السماوي. وإذ اهتم هذا السفر بالفكر الأخروي والخلود، فلا نعجب إن اقتبست الليتورجيات الكثير من هذا السفر، نذكر على سبيل المثال:
1. في قسمة القديس أبيفانيوس عن الحكمة، والتي تستخدمها الكنيسة خاصة في فترة صوم الميلاد، جاءت القسمة تلخص كل السفر في صرخات قلب عميقة للتمتع بالسيد المسيح الحكمة، الذي لا يحتاج إلى أحد يصعد إليه ليُنزله إلينا أو ينزل إلى الأعماق ليأتي إلينا به.
2. اقتبست صلاة الصلح في القداس الباسيلي من السفر ما ورد في الأصحاح 2 (23-24).
3. نقلاً عن سفر الحكمة (9: 1-4) جاء في صلاة الحجاب الثانية في القداس الباسيلي: "اعطني في هذه الساعة قلبًا حكيمًا فهيمًا... لكي استحق أن اقترب إلى مذبحك المقدس، وأقدم لك هذه القرابين التي نقدمها لك بالروح الصالح الكامل الذي لنعمتك".
4. اقتبست صلاة الحجاب للقداس الكيرُلُّسي ما ورد في حك 11: 27 "أعطني روحك القدوس الناري."
5. اقتبست قطع صلاة باكر من حك 16: 28: "سبقت عيناي وقت السحر لأتلو في جميع أقوالك".
6. في سرّ حلول الروح القدس في القداس الكيرُلُّسي ورد: "وأرسل إلى أسفل من عُلوّك المقدس، ومن مسكنك المُستعد، ومن حضنك غير المحصور، ومن كرسي مملكة مجدك (حك 9: 10)... البارقليط روحك القدوس.
7. في تسبحة نصف الليل في لبش الهوس الأول اقتبست الكنيسة من سفر الحكمة (19: 7-8). (طريق ممهد في البحر الأحمر)
8. أيضًا في قراءات البصخة المقدسة تقرا فصول من سفر الحكمة.
v الساعة السادسة من اثنين البصخة (حك 1: 1-9).
v الساعة الحادية عشر من ليلة الأربعاء (حك 8: 24 الخ).
v باكر الجمعة العظيمة (حك 2: 12-22).
الطبيعة الخادمة لخطة الله
لعل من أروع ما سجله لنا هذا السفر تفسيره للأحداث خاصة الخروج، كيف يستخدم الله الطبيعة لتخدم خطته، لأجل حث الأشرار على التوبة، وتقديم مساندة لكنيسته المقدسة وسط الضيق. إنه إله المستحيلات، الذي خلق الطبيعة بكل قوانينها ونواميسها كعملٍ عجيبٍ، وهو بنفسه عند الضرورة يكسر هذه القوانين، ويحركها لخدمة خطته الإلهية.
نذكر هنا أمثلة لما ورد في هذا السفر:
1. لم تعد أرض مصر المعروفة بخصوبتها تثمر لهم نباتات وترعى فيها الحيوانات، فصار المصريون الوثنيون في مجاعة وضيق شديد، بينما تقدم البرية الجافة القفر منًا وسلوى لشعبه (16: 1-4). لم يستطع الأولون على ضفاف النيل أن يأكلوا أو يشربوا، بينما وجد كل مؤمنٍ من الشعب وسط البرية منًا نازلاً من السماء، يشبع تذوقه الخاص به، والصخرة تقدم له ماءً نقيًا.
2. لم يكن لدى اليهود في البرية نباتات ومراهم تُستخدم كأدوية، لكن بكلمة الله شفاهم، إذ وهبهم أن يُشفوا من لدغات الحيات القاتلة بمجرد التطلع إلى الحية النحاسية بإيمانٍ. سرّ الشفاء ليس في الحية ذاتها، إنما في الوعد الإلهي (16: 5-8). هكذا خلق الله لنا النباتات التي تُستخرج منها مواد لشفاء الجسد، ووهبنا العقل البشري للأبحاث الكيمائية والطبية، لكن يبقى هو طبيب النفوس والأجساد، واهب الشفاء (16: 12-15).
3. في تأديبه للأشرار يسمح بضربة تكسر قوانين الطبيعة، حيث تشتعل النار بقوة وسط البرد وسيول الأمطار الغزيرة على خلاف الطبيعة (حك 16:16). فمتى نزل البَرْد لا تكون سيول أمطار، وحيث تنزل سيول الأمطار تطفئ النيران. وكأن قوى الطبيعة تلاحمت معًا حتى بكسر قوانينها لأجل تأديب الأشرار وحماية الأبرار.
4. مرة أخرى لاحظ الحكيم أن الله وهبهم منًا من السماء له سمات غريبة، متى أشرقت الشمس عليه يذوب المن في الصباح المبكر، وتتشربه رمال البرية كأنه ماء يرويها، بينما إذا ما وُضع على النار لا ينحل، بل يحتفظ بشكله وطعمه، حيث يجد كل شخص المذاق الذي يستعذبه.
5. فقد المصريون القساة نور الشمس وتحولت بيوتهم إلى حبسٍ أو سجنٍ، وصاروا كأنهم مربوطون بسلاسل يخشون الحركة داخل البيت أو خارجه لئلا يسقطوا (حك 17: 15). كانوا كأسرى يعانون من العزلة والوحدة مع الخوف الشديد. بينما كان القديسون في البرية حيث العزلة الخارجية يرافقهم الله كعمود نورٍ. صاروا في ضيافته حتى وسط الليل، يشرق عليهم بنور الفرح الإلهي السماوي (18: 13-14). شتان ما بين السكنى في المدن مع الحرمان والعزلة، والتحرك في البرية لكن في ضيافة الله نفسه القائد لهم في رحلتهم، والمشرق بنوره عليهم طوال أربعين عامًا.
6. الوسيلة التي اُستخدمت لتأديب الأشرار هي بعينها اُستخدمت لمكافأة أبناء الله. لقد أراد الأشرار إهلاك أطفال القديسين، وإذ وضع في النهر صارت المياه لا لهلاكه بل لانتشاله وإعداده لخلاص الشعب من العبودية. المياه التي أنقذت موسى وشعبه، أغرقت فرعون وجنوده (حك 18: 5).
7. صدر الأمر من فرعون بذبح أطفال القديسين خفية، وإذا بأبكار المصريين يقتلون علانية (18: 6، 10).
8. عُرف وادي النيل بخضرته وخصوبة تربته، حوَّلها الجراد إلى قفرٍ مهلك، وعلى خلاف الطبيعة صار قاع البحر الأحمر بالنسبة للمؤمنين طريقًا ليس فقط للعبور خلاله، وإنما حوله الله كما إلى جنة أو مرج أخضر. صار قاع البحر حديقة مبهجة يتمتع بها المؤمنين أثناء عبورهم فيه (19: 7)، وعلى خلاف قوانين الجاذبية الأرضية وقوانين السوائل وقف الماء على الجانبين كسورٍ يحمي المؤمنين العابرين فيه.
9. بينما ذاق المصريون الوثنيون المرارة من الظلام والخيالات والرعب داخل بيوتهم، أثناء ضربة الظلام وضربة قتل الأبكار، إذا بالمؤمنين يتمتعون بفرحٍ شديدٍ في البرية (19:19)، فكانوا يسبحون الله على أعماله المجيدة معهم (خر 15). بعد خروجهم من البحر الذي أغرق فرعون جنوده، شعروا بالحرية الموهوبة لهم، حتى وإن كانت في البرية. صاروا كخيل يرعى في مرعى خصيب، أو كحملان تقفز وتلعب بسرورٍ.
10. ضُرب المصريون بالذباب (جاء النص العبري يعني حشرات صغيرة تطير، لذا يرى البعض أنها بعوض) يضايقهم كما يضايق حيواناتهم. هذا ما أنتجته لهم الأرض الزراعية. عوض أن تكون مرعى للحيوانات النافعة التي تقدم لبنًا وصوفًا ولحمًا (19: 10).
11. إن كانت الأرض قدمت بعوضًا مؤذيًا عوض الحيوانات النافعة، فإن النهر فاض عليهم بالضفادع لتملأ بيوتهم وتتحول إلى أكوام نتنة في كل أرض مصر، يصعب التخلُص منها، وذلك بدلاً من الأسماك الشهية الطعم (19: 10).
12. إن كان الله قد سمح للأشرار بهجومٍ برِّي من البعوض وبحري من جيوش الضفادع، فقد أظهر عنايته بالمؤمنين، حيث انطلقت أسراب ضخمة من السلوى (السمان) مهاجرة؛ وكانت في نهاية رحلتها تطير بالقرب من البحر فرأوها كأنها خارجة من البحر، حيث تطير على مستوى منخفض. كانت هذه الطيور مُجهدة تطير ببطءٍ، فأمسكوا بها، وقد أشبعت كل الشعب البالغ حوالي المليونين.
13. يقدم الحكيم مقارنة غريبة بين عمل الله مع غير المؤمنين وعمله مع المؤمنين. فمع غير المؤمنين حول الحيوانات شبه المائية (الضفادع) كما إلى حيوانات برية إذ تركت الضفادع المياه وانطلقت إلى بيوت المصريين ودخلت مخادعهم. وعلى العكس فإنه بالنسبة للمؤمنين حول لهم الحيوانات التي معهم كما إلى أسماك مائية تسير في قاع البحر تعبر من الشاطئ الشرقي إلى الغربي في أمان (19: 18-20). هذا العمل الإلهي الفائق يُظهر عظمة الله الذي يحرك خليقته ويغير قوانينها لصالح أولاده كمن يعزف على قيثارته أنشودة الحب الفائق (19: 17).
14. يرى الحكيم أن عمود النور الذي كان يحمي شعبه صار عازلاً شعبه عن المصريين غير المؤمنين. كان النور يسير وسط المياه والمؤمنون ومواشيهم في أمان بينما صارت خيول المصريين في انزعاج شديد، وكانت قوة النار تحرقهم. وكأن النار وهي وسط المياه من الجانبين صارت أشد حرارة مما هو خارج الماء. هذا والنار التي أزعجت الخيول لم تضر الأسماك والحيوانات البحرية التي كانت تسبح في المياه التي على الجانبين (حك 19:19-20).
أقسام السفر
يمكننا تقسيم هذا السفر إلى ثلاثة أقسام رئيسية مترابطة معًا:
1. الحث على طلب الحكمة والبٌر 1-6.
2. يا لعظمة الحكمة! 7-9.
3. شهادة التاريخ لحكمة الله محب جميع الناس 10-19.
1. الحث عن طلب الحكمة والبرّ (1-6)
يبدأ السفر بالكشف عن مركز حياة الإنسان، فلا يقدمها بكونها مجرد القدرة على تفهم الأمور وأخذ القرار السليم، لكنها هي حياة شركة مع الله البار القدوس، فتهب البرّ والقداسة، بهذا يتمتع المؤمن بالخلود، فإن لم يحمل سمة البرّ يموت. بمعنى آخر يربط الكاتب بين الحكمة والبرّ أو الحياة المقدسة؛ وبين الجهالة والشر. فإن كانت الحكمة لا تنفصل عن الإيمان والبرّ، فإن المؤمن إذ يطلب الحكمة الإلهية يتمتع بالبرّ الإلهي. بالحكمة الإلهية يكتشف المؤمن خطة الله الخفية بالنسبة للمتألمين والعواقر والذين يُصابون بالموت المبكر، موضحًا أن المكافأة هي الخلود، وليس الترف الزمني.
أما الأشرار ففي غباوتهم يقتنون الموت ويدخلون معه في عهدٍ، ويصيرون حلفاء له!
2. يا لعظمة الحكمة (7-9)
بعد أن تحدث عن الحكمة كحياة مُعاشة، وخبرة عملية خلال الشركة مع القدوس والتمتع بالبرّ الإلهي يوضح لنا سليمان الحكيم أن الحكمة التي تمتع بها ليست مُقدمة لأناس معينين، كأن الحكماء من طبيعة أخرى غير عامة البشر. فسواء كان الكاتب سليمان نفسه أو آخر، جاء هذا القسم يكشف عن تمتع سليمان الحكيم بالحكمة كمثالٍ لكل إنسانٍ دون محاباةٍ. فهي عطية إلهية، مُقدمة لجميع البشر، لكنها لا تُعطى قسرًا، بل لمن يحبها ويشتهيها ويطلبها في جدية، معبِّرًا عن طلبته بكل وسيلة ممكنة، وليس بمجرد صلاة اللسان وحده.
أ. سليمان ليس من طبيعة خاصة، إنما هو إنسان كسائر البشر، ما تمتع به يمكن أن يتمتع به كل إنسانٍ جادٍ في طلب الحكمة (7: 1-6).
ب. سرّ قوة سليمان هو تركيز أنظاره على الحكمة العلوية. صلى فنال الحكمة والغنى (7: 8-12).
ج. سليمان يصلي لكي يهبه الله إمكانية الحديث عن الحكمة (7: 13-22).
د. طبيعة الحكمة وعظمتها!
هـ. طلب سليمان الحكمة مصدر المعرفة الحقيقية (8: 1-8).
د. طلب الحكمة كمشيرٍ له، يهبه الراحة (8: 9-16).
و. تحقق سليمان أن الحكمة هبة إلهية (8: 17-21).
ز. صلاة سليمان من أجل الحكمة (9).
3. شهادة التاريخ لحكمة الله محب جميع الناس (10-19)
يقدم الكاتب أمثلة عملية على المستوى الشخصي والجماعي، موضحًا من خلال التاريخ الطويل إمكانية الفرد (كما الجماعة) أن يتمتع بحكمة الله وينتفع بعمله بكونه محب جميع البشر.
يهتم الله بالأبرار كما بالأشرار، ويطلب خلاص الكل. حتى في تأديبه للأشرار يحذر وينذر ويؤدب تدريجيًا، وفي هذا كله يترقب توبتهم ورجوعهم إليه. تخَّلص الحكمة مالكها (10).
يقدم الكاتب عدة مقابلات لتوضيح اهتمام حكمة الله بالأبرار كما بالأشرار:
أ.الماء من الصخرة مقابل الدم في نهر النيل (11: 6-14).
ب.السلوى مقابل وباء الحيوانات الصغيرة (11: 15-16: 15).
ج.المن النازل من السماء مقابل الجراد والمجاعة في مصر.
د.عمود النار مقابل ضربة الظلمة (17: 1-18: 4).
من وحي الحكمة
هب لي الحكمة الجالسة معك إلى عرشك
v أقمتني ملكًا وكاهنًا،
لكي أسوس العالم بقداستك و برّك.
لم تبخل عليَّ بشيءٍ،
ووهبتني ذاتك يا حكمة الله السماوي.
انشقت السماوات، ونزلت إليّ!
ماذا بعد أطلب منك؟
v قدِّس عقلي وفكري وقلبي كليتي ولساني،
فأصير بكليتي لك.
لن أسلك إلا بك، يا أيها الحكمة السرمدي!
v أقتنيك، فأقتني الخلود!
أتمتع بك، فأصير أيقونة لك.
أحملك في داخلي، فتحملني إلي سماواتك.
v بك أسلك في طريق البرّ،
ينفتح لي حضن أبيك فأستقر فيه.
بك أتعرف علي أسرار الحب الإلهي،
فأسبح في لجة رعايتك الفائقة.
بك ينفتح قلبي فأحب كل البشرية،
علي مثالك يا أيها العجيب في حبه!
v اقتناك سليمان، فاستخف بالعرش والصوالجة،
وصار الذهب والفضة والحجارة الكريمة كلا شيء في عينيه.
ورأى السماوات ليست ببعيدة عنه.
v لأقتنيك، فيُسر الآب بي فيك،
وتتهلل الطغمات السماوية لعمل نعمتك فيَّ.
ويسقط إبليس من السماء كالبرق،
ولا يكون للموت موضع فيَّ!
v أقتنيك، فأشتهي أن يكون كل البشر حكماء،
يتمتعون بك، فتتحول الأرض إلي سماءٍ!
و تشتهي الطغمات السمائية أن تخدمهم،
تترقب يوم نزولك علي السحاب لتحمل الكل،
ويصير كل المؤمنين في عرسٍ مفرحٍ لا ينقطع!
ملاحظة
اعتمدت في النص على:
1. الترجمة اليسوعية.
2. Samuel Bagster and Sons Ltd: The Septuagint Version… London.
3.Bruce Metzger: The Oxford Annotated Apocrypha, Oxford University, 1965.
4. The Catholic Bible, Good Counsel Publishers, Chicago. Illinois, 1970.
5. The Holy Bible, Douay Version, Catholic Truth Society, London.
6. القمص قزمان البراموسي: ترجمة حديثة لأسفار عزرا الأول...، 1978.
الباب الأول
الحث على طلب الحكمة والبٌر
حك 1 – حك 6
1. حث على الحكمة والبٌر 1.
2. سخرية الأشرار بالأبرار 2.
3. تحدِّي الأبرار حتى للموت المبكر 3.
4. بين مصيري الأبرار والأشرار 4.
5. ندم الأشرار بلا نفع 5.
6. حديث ختامي 6.
الحكمة والحياة التقوية (البرّ)
يشبه هذا القسم سفر أيوب إذ يعالج موضوع: لماذا يتألم الصالحون وينجح الأشرار؟
كثيرًا ما يتعثر الناس مما يجري في العالم، حيث يظن الأشرار أنهم قادرون على كل شيءٍ، يستخدمون كل وسيلة للظلم لحسابهم الخاص، وكأنه ليس من عدالة إلهية تقمعهم.
إذ يرفض الفلاسفة الماديون الإيمان بالحياة الأخرى، لا يجدون حلاَّ للمشكلة، أما المؤمنون فينتظرون يوم الدينونة لينال الصالحون حياة أبدية والأشرار عقابًا أبديًا. الخلود هو مكافأة الحياة الحكيمة التقوية.
هنا يرفعنا الكاتب إلى الخلود، لنرى حب الله الفائق الذي يطيل أناته على الأشرار لنفع الطرفين: لتذكية الأبرار في تحملهم للظلم، وإعطاء فرصة للأشرار للتوبة. بهذه النظرة يطلب الأبرار أن يتمتعوا بالحكمة السماوية الملازمة للبرّ الحقيقي من أجل المكافأة السماوية. لهذا دُعي هذا القسم (حك 1-6) بالكتاب الاسخاتولوجي أو الأخروي أو الانقضائي، حيث يحملنا إلى ما وراء انقضاء هذا الدهر.
حث على طلب الحكمة والبرّ
لا ندهش إن افتتح الكاتب السفر بالحث على محبة البٌر، إذ يربط بين ثلاثة أمور لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وهي: الحكمة، والبُر، والإيمان بالله محب البشر؛ كما لا يمكن الفصل بين الجهل والخطية والتجديف على الله. فهو يدعو المؤمنين أن يحبوا البٌر ويطلبوا الحكمة، فيتمتعوا بإعلان الله عن نفسه لهم، واقترابهم إليهم.
يربط السفر بين الحكمة والحياة المقدسة أو التقوية في الرب. "إن الحكمة لا تدخل النفس الخبيثة، ولا تسكن الجسد المُستعبد للخطية" (4:1). ويربط بين البرّ والخلود. "فإن البرّ خالد" (15:1). هذا وإن "الله لم يصنع الموت، ولا يُسر بهلاك الأحياء" (13:1).
1. الحكمة والبرّ مع الإيمان1-5.
2. الحكمة والحب6.
3. اهتمام الله بالبشرية 7-11
4. قتل النفس وخلود البرّ12-15.
5. المجدفون وميثاق الموت 16.
1. البٌر والحكمة مع الإيمان
أحِبُّو البرّ يا أيها الذين يحكمون الأرض،
وفكروا في الرب تفكيرًا صالحًا،
والتمسوه ببساطة قلوبكم. [1]
يربط الحكيم بين محبة البرّ، والتفكير الصالح في الرب، وطلب الرب. وكأنه يفتتح السفر بالدعوة إلى ثلاثة أمورٍ: الحب والتفكير المقدس والطلبة.
يقصد بالبرّ الاستقامة أو الفكر الفاضل والعمل الجاد.
يحذرنا الكاتب من عدم التفكير الصالح أو البسيط في الله، ولعله يقصد هنا عدم التذمر على أحكام الله، وتجاهل عنايته الإلهية وخطته الخفية من نحو محبوبه الإنسان. وذلك بسبب طول أناته على الأشرار، وسماحه للأبرار بالتجارب والضيقات.
يتطلع الحكيم إلى الحكمة أنها ليست مجرد التمتع بخبرات بشرية زمنية والقدرة العقلية في التصرف وتدبير الأمور، لكنها مع تقديس الخبرات البشريَّة والعقل البشري فهي في جوهرها تمتع بالشركة مع "حكمة الله" بكونها أقنومًا إلهيًا، يسكن في النفس، ويقودها في الطريق الإلهي بإرادة مقدسة. خلال هذا المفهوم، يرى الحكيم وجود علاقة قوية بين الحكمة والإيمان والبرّ والخلود، ومن الجانب الآخر بين الحرمان من الحكمة والتجديف والإثم والموت الأبدي.
ليس من فصل بين الحكمة والإيمان بالله القدير الصانع الخيرات، وبين الحكمة والسلوك بالبرّ حسب إرادة الله، فخلال هذه الحياة المقدسة يختبر المؤمن عربون الأبدية، ويعرف كيف يسلك في الحياة كقائدٍ نجحٍ، يسوس العالم. في حديث الكاتب مع الله يقول: "مٌكون الإنسان بحكمتك، لكي يسود الخلائق التي صنعتها، ويسوس العالم بالقداسة والبٌر، ويجرى الحكم باستقامة النفس" (9: 2-3)
v يا لغباوة الباحثين عن الله بهذه العيون الخارجية، إذ لا يُرى الله إلا بالقلب، وذلك كما هو مكتوب في موضع آخر "التمسوه بقلب سليم (بسيط)" (حك 1:1)، لأنه ما هو القلب النقي سوى القلب السليم والبسيط. وكما أن هذا النور لا يُرى إلا بعيون نقية، هكذا لا يُرى الله ما لم يكن ذاك الذي يراه (أي القلب) نقيًا[39].
v لا تسلموا بالتفكير في النظر إلى وجهٍ جسديٍ، لئلا في شوقكم الملتهب نحو رؤيته تهيئون وجهكم الجسدي لرؤيته، وبهذا تبحثون عن وجه (جسدي) في الله. لكن إذا تصورنا الله روحًا على الأقل دون أن نتصوره جسديًا - هذا الموضوع الذي سبق معالجته بتوسع بالأمس[40]، إن كنت قد نجحت في إزالة تلك الصورة البشرية من قلوبكم كما من هيكل الله، إذا كان الرسول يعبر عن مضايقته من هؤلاء الذين "بينما هم يزعمون أنهم حكماء، صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى" (رو 1: 22-23). إن كان هذا قد دخل إلى أعماق أفكاركم، وامتلك قلوبكم الداخلية، إن كنتم تنفرون من هذا الكفر، وتحفظون لله هيكله نقيًا، إن كنتم تريدونه يأتي، ويجعل له مسكنًا فيكم، "تفطنوا في الرب بفطنة صالحة واطلبوه ببساطة قلب" (حك 1: 1)[41].
v من يرغب في أن يحب الله، ويحذر من أن يخطئ في حقه، عليه أن ينقي نيته المستقيمة التي لقلبه من كل ثنائية. بهذا الطريق يفكر في الرب صالحًا ويطلبه ببساطة قلبٍ (راجع حك 1: 1)[42].
القديس أغسطينوس
v تعبيره "عينا القلب" (أف 1: 18) يشير إلى تلك الأمور التي لا يمكننا أن نفهمها بدون الحس والتعقل... فالإيمان يرى ما هو وراء رؤية العيون الجسدية. فإن العيون الجسدية توجد ليس فقط في رأس الحكماء، بل وفى غير الحكماء[43].
القديس جيروم
v المؤمنون شركاء في الحكمة الإلهية[44].
الأب أمبروسياستر
v حيث توجد خداعات كثيرة هكذا وأخطاء للأشرار، والفاسدين المتذمرين على الحكمة، فكم نحتاج إلى عين طاهرة بسيطة لكي تجد طريق الحكمة؟ أن تهرب من كل هذه، إنما هو أن تبلغ إلى الضمان الكامل للسلام وإلى سكنى الحكمة غير المتغيرة[45].
القديس أغسطينوس
ما هو القلب السليم أو البسيط سوى القلب النقي الذي يطلب الله لا لهدفٍ ماديٍ أو زمني، وإنما لأجل الله نفسه، يود أن يقتنيه ويحيا به ومعه إلى الأبد.
إنه يدعو كل قائد سواء كان أبًا أو أمًا أو رئيسًا أو خادمًا، بل وكل مؤمن أيا كان عمره أو إمكانياته أن يحب البرّ الإلهي، فيتطلع إلى كل الأمور من منظور صادق، أي في الرب.
لأنه يكشف نفسه للذين لا يجربونه،
ويتجلى للذين لا يرتابون فيه. [2]
من يحب البٌر، ويفكر في الله حسنًا، ويشتهي التمتع بسكنى الله في قلبه، يتهيأ لإعلان الله له، فهو يتجلى في المؤمنين السالكين في البٌر والجادين في التمتع بنعمة إقامة الملكوت في داخلهم. أما الذين يكفرون بالله سواء بعدم الإيمان داخليًا أو خلال الكلام أو خلال السلوك، فتحل بهم الظلمة، ولا يختبرون رؤية الله بالإيمان في قلوبهم.
v من له القلب النقي يرى الله (مت 5: 8). أما من ليس له القلب النقي فلا يرى ما يراه الآخرون. أعتقد أنه يلزمنا أن نفهم شيئًا مثل هذا بخصوص المسيح أيضًا حين نُظر في الجسد. فإنه ليس كل من ألقى بنظره عليه كان قادرًا أن يراه. لقد رأوا جسمه، لكنه لم يقدروا أنه يروه من حيث أنه هو المسيح. أما تلاميذه فرأوه ونظروا عظمة لاهوته[46].
العلامة أوريجينوس
فإن الأفكار المعوجة تُبعِدُ عن الله،
وقوته إذ امتُحنت، تُخزي الأغبياء. [3]
إذ يتحدث عن محبة البرّ الإلهي والقلب النقي البسيط، وتجلي الله فيه يحذرنا من الخطية، خاصة أفكار المكر والخداع، فإنه ليس من شركة بين الحق والكذب؛ وبين الحب الإلهي والخداع، والقداسة والخطية. فالإنسان الذي يطلب الخطية ويعتز بالشر لا يستريح روح الله فيه. بالأفكار المعوجة تبتعد النفس عن الله، لأنها لا تحتمل الاستقامة. أما إذا اختبر المؤمن قوة الله، فيتحدى الأغبياء المقاومين للحق الإلهي.
من هو حكمة الله إلا الطريق والحق والحياة؟ فالحكمة تحفظنا من الطرق المعوجة التي تدمر حياتنا، وكما يقول الحكيم: "إذا دخلت الحكمة قلبك، ولذت المعرفة لنفسك، فالعقل يحفظك والفهم ينصرك؛ لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب، التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة، الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر، الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبـلهم" (أم 2: 10- 15). كما قيل عن الأشرار: "طريق السلام لم يعرفوه و ليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة، كل من يسير فيها لا يعرف سلامًا" (إش 59: 8).
v امشِ معه، فتصل إلى الله. به تسير، وإليه تذهب.
لا تتطلع إلى أي طريق آخر به تذهب إليه.
لو لم يقبل بنعمته أن يصير الطريق لبقينا في تيهٍ دائمٍ.
لست أقول لكم أن تتطلعوا على الطريق، فالطريق نفسه جاء إليكم؛ قوموا؛ سيروا[47].
v أنت تسمع السيد يصلي، تعلم أنت أن تصلي. لقد صلى لهذا السبب، لكي يُعلمك أن تصلي[48].
v يا أبناء السلام، أبناء الكنيسة الواحدة الكاثوليكية (الجامعة) سيروا في طريقكم، ورنموا مادمتم تسهرون. فإن المسافرين يفعلون هكذا ليحفظوا روحهم عالية. فهل تَّسبح وأنت في الطريق. أتوسل إليك بذات الطريق (المسيح) الذي أنت سائر فيه أن تسبّح في الطريق، سبح أنشودة جديدة.
ليته لا يسبح أحد بتسابيح قديمة، بل بتسبيح الحب الذي لوطنك (السماوي). ليته لا يسبح أحد بالقديم. هوذا الطريق جديدة والمسافر جديد، والأغنية جديدة[49].
القديس أغسطينوس
إن الحكمة لا تدخل النفس الخبيثة،
ولا تسكن الجسد المُستعبد للخطية. [4]
هنا يشخصن الحكمة، كما جاء في (أم 1: 20-33؛ 8: 1-36؛ 9: 1-6؛ أي 28؛ با 3: 9-4: 4، سي 24: 1-21). هي شخص، ليس منفصلاً عنه بل واحد معه، تحمل ذات سماته الإلهية.
لم يتبنَ سفر الحكمة الفكر الأفلاطوني كما ظن البعض، لأنه لا ينظر إلى الجسم كشرٍ. فلا ينسب هنا الخطية للجسد، إذ هو خليقة صالحة (14:1)، إنما يستخدم الإنسان الجسد لممارسة الشر خلال الإرادة الشريرة.
يعلق القديس أمبروسيوس على ما ورد في سفر التكوين عن دخول أبرام (إبراهيم) في ميثاق مع الله حيث أخرجه الرب إلى خارج وقال له انظر إلى السماء (تك 15: 5).
v ما هو إذن معنى هذا التعبير: "أخرجه إلى خارج"؟ كأن النبي قد اُقتيد إلى الخارج، فصار خارج الجسد، ورأى محدودية الجسد الذي هو ثوبه، وتشّرَّب بالروح القدس الذي أظهر نوعًا من التنازل. هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نخرج من تخوم مسكننا الزمني. يلزمنا أن نطهر الموضع الذي تسكنه نفوسنا من كل دنسٍ، ونطرد كل غضن للشر إن أردنا أن نتقبل روح الحكمة، لأن "الحكمة لا تدخل نفس شـريرة" (حك 1: 4)[50].
القديس أمبروسيوس
v من يبغي الوصول إلي المعرفة النظرية (التأمل في الإلهيات)، يلزمه أولاً أن يتبع المعرفة العملية (الاختبارية) بأقصى ما يمكن، لأن هذه المعرفة العملية يمكن أن تُطلب دون النظرية، أما النظرية فيستحيل اقتناؤها بدون العملية. إذ توجد مراحل معينة محددة ومرتبة يصعد بها تواضع الإنسان إلي العلي... فلا يقدر أن يطير الإنسان إلي المرحلة الثانية ما لم يبدأ بالأولى. باطلاً يجاهد الإنسان من أجل رؤية الله، ما لم تزُلْ عنه آثار الخطية، لأن "الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة. لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة وينهزم إذا حضر الإثم" (راجع حك 4:1-5)[51].
يعلق كروماتيوس صديق كل من روفينيوس والقديس جيروم على قول الإنجيلي: "طلبوا أن ينصرف عن تخومهم" (مت 8: 34)، قائلاً:
v مثل هؤلاء الناس يوجدون أيضًا بيننا. فخلال عدم الإيمان يُلزمون الرب مخلص العالم أن يفارق تخوم قلوبهم، فإنه بحسب الكتاب المقدس: "الروح القدس لا يدخل نفسًا عنيدة، ولا يسكن في جسم مُستعبد للخطية" (راجع حك 1: 4- 5)[52].
الأب كروماتيوس
v لا يوجد طريق لبلوغ المعرفة الروحية غير ذلك الطريق الذي وصفه النبي بدقة قائلاً: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلّمكمْ البرّ" (هو 12:10). يلزمنا أولاً أن نزرع بالبرّ، أي بأفعال البرّ نوسع الكمال العملي. بعد ذلك يجدر بنا أن نحصد رجاء الحياة، أي عن طريق نزع الخطايا الجسدية نجمع ثمار الفضائل الروحية. وهكذا سوف ننجح في إضاءة أنفسنا بنور المعرفة.
يرى المرتل بالمزامير أيضًا أن هذا النظام يلزمنا إتباعه إذ يقول "طوباهم الذين بلا عيب في الطريق، طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته" (مز1:119-2). فإنه لا يقول في الأول "طوبى للذين يفحصون عن شهاداته" وبعد ذلك "طوباهم الذين هم بلا عيب"، إنما يبدأ بالقول "طوباهم الذين هم بلا عيب"، مظهرًا أنه لا يستطيع الإنسان أن يأتي إلى فحص شهادات الله بلياقة ما لم يسلك في طريق المسيح بلا عيب بحياته العملية[53].
الأب نسطوريوس
فإن الروح القدس المؤدِّب يهرُبُ من الخداع،
ويبتعد عن الأفكار الغبية،
وينهزمُ (يترك الإنسان) إذا حضر الإثم. [5]
يدعو الحكيم روح الله الذي يصفه فيما بعد أنه محب لجميع الناس، بروح التأديب القدوس. فليس من طريق للتمتع بروح الحكمة والنمو فيها دون التأديب الأبوي الإلهي.
كان العهد القديم يهيئ الأذهان للتعرف تدريجيًا على الثالوث القدوس حتى ندرك عمله الخلاصي، وقد تحدث سفر الحكمة عن:
* الله الآب الذي يليق بنا أن نفكر فيه صالحًا (2:1).
* الحكمة بكونها أقنوم الحكمة، أو الابن، أو الكلمة، وهو يسكن النفس المقدسة (4:1). فالحكمة ليست مجرد سمة، لكنه روح يحب الإنسان (6:1)، ديان عارف بأسرار الإنسان الخفية (6:1) ويملأ المسكونة (7:1).
* الروح القدس (5:1).
v من يلتصق بقطيع المسيح خلال علاقة جسدية فقط بقلبٍ مخادعٍ، لا يمكن أن يُقال عنه إنه في الكنيسة، وإنه في شركة الروح. لأن "الروح القدس المؤدب يهرب من الخداع" (حك 1: 5)[54].
القديس أغسطينوس
في كتابه الذي بعث به القديس أغسطينوس إلى فينسينتوس فيكتور Vincentius Victor يؤكد له أنه إذ يدَّعي بأنه عضو في الكنيسة الجامعة دون أن يقبل إيمانها يكون مخادعًا، ويفارقه الروح القدس الذي يهرب من المخادعين[55].
2. الحكمة والحب
إن الحكمة روح مُحب،
فلا يبرئ المُجدِّفِ على أقوال فمه،
لأن الله شاهد لكُليتيه،
ورقيب صادق لقلبه،
وسامع للسانه. [6]
هنا يتحدث عن الحكمة كأقنومٍ إلهيٍ، هو روح، محب للبشر، وديان عارف بما يدور في الكلي والقلوب وما تتفوه به الألسنة.
لا ندهش أنه إذ يعلن الحكيم عن هروب الروح القدس من الإنسان الغاش، وعن صاحب الأفكار السفيهة أن يبدأ بعدم تبرئة المُجدف مما ينطق به، وأنه يهتم بكل كلمة تصدر من الإنسان. الله المهتم بخلاص الإنسان وتقديسه ليتهيَّأ للمجد السماوي ينشغل بكل كلمة تصدر عنه. الفم كما القلب يشيران إلى تقديس الإنسان في حياته العملية كما في حياته الداخلية. فلن يتمتع أحد بالنقاوة دون تقديس اللسان كما النيَّة أو الإرادة الداخلية.
يتحدث عن الكلى كعرشٍ للعواطف، والقلوب كعرشٍ للفكر، واللسان كعرشٍ للحياة الداخلية المترجمة كلام الكلام.
يهتم الحكيم باللسان، سواء ما ينطق به علنًا أو خلال النية الداخلية.
v يليق بنا أن نفهم الكليتين بمعنى الأفكار العميقة والرغبات الداخلية... أتطلع دومًا إلى الكليتين أنهما تشيران إلى الإدراك الحسِّي والفكر السليم... هذه هي عادة الكتاب المقدس عندما يقصد الإعلان عن أمر سرِّي مخفي وسرائري يقول: "يا فاحص القلب والكلى، يا الله" (راجع مز 7: 10)[56].
القديس ﭽيروم
3. اهتمام الله بالبشرية
إن روح الرب يملأ العالم،
والذي به يتمسك كل شيء،
له علم بكل كلمة. [7]
في حديثه هنا عن روح الرب الذي يملأ المسكونة لا يعلن هذا لتأكيد أنه موجود في كل مكان، كأن الله محتاج إلى الكشف عن سماته، إنما يقول هذا ليشهد عن اهتمام الله بالبشرية كلها واحتضانه لها فهو في كل العالم، "يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون". كل الأشياء به قائمة، وبدونه ليس لها وجود، وهو يعرف كل كلمة خفية لا ليحاسبهم، وإنما ليطمئن المظلومين ويحث الأشرار على التوبة.
v هذا العالم به ابن الله، وبه الروح القدس، كما يقول النبي: "بكلمة الرب صُنعت السماوات، وبنسمة فيه كل جنودها" (مز 33: 6). وفى موضع آخر قيل بنفس الطريقة: "روح الرب يملأ المسكونة" (حك 1: 7). لتسمع أيضًا ماذا يقول المسيح لك: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 2). أما عن الروح القدس فقيل: "إني أسكب روحي على كل بشرٍ، فيتنبأون" (راجع يوئيل 2: 28)[57].
v "روح الرب يملأ كل الخليقة" (انظر حك 1: 7)، فبه نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بولس لأهل أثينا (أع 17: 28). وأيضًا القول: "أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب" (إر 23: 24). فإنه بالقوة هو قريب لكل الأشياء (إر 23: 23)، فلا تصعد الصلوات إذن إلى إله من بعيد (إر 23: 23)[58].
العلامة أوريجينوس
v خلق (الروح القدس) كل هذه؛ ويملأ الكل بجوهره، ويحتوي الكل. إنه يملأ المسكونة (حك 1: 7) بالنظر إلى جوهره، ولا تحدّه المسكونة بالنسبة لقدرته... يُقدِّس (1 كو 6: 11) بطبيعته ولا يُقدَّس... يقيس ولا يُقاس. (يو 3: 34)، يُشترك فيه (رو 8: 15) ولا يشترك، يملأ (حك 1: 7) ولا يُملأ، يحتوي ولا يُحتوى، يؤخذ ميراثًا (أف 1: 13-14)، يُمجد (1كو 6: 19-20)، معدود مع الآب والابن (مت 28: 19)[59].
القديس غريغوريوس النزينزي
v الرب هو الذي يملأ كل الأشياء، وهذا أيضًا ما نقرأه عن الروح: "روح الرب ملأ كل المسكونة" (حك 1: 7). إنكم تجدون أنه قيل عن الذين رافقوا الرسل: "امتلأوا من الروح القدس، وتكلموا بكلمة الرب بكل شجاعةٍ" (أع 4: 31).
ها أنتم ترون أن الروح القدس يعطي الملء والشجاعة. وهذا ما جعل رئيس الملائكة يبشر مريم، قائلاً: "الروح القدس يحل عليكٍ" (لو 1: 35)[60].
القديس أمبروسيوس
فلذلك لا يَخْفى عليه ناطقٌ بسوءٍ،
ولا ينجو من العدل عندما يُعاقب. [8]
إذ يعلق الوحي الإلهي أن روح الله يملأ كل العالم، وله علم بكل كلمة تُقال، ولا يُخفى عليه شيء، لا يعني أنه إله يتلقط الأخطاء للبشر، لكنه مهتم بتقديسهم، يود لهم أن يكونوا أيقونة له، مؤكدًا: "وتكونون لي قديسين، لأني قدوس أنا الرب" (لا 20: 26).
إدراكنا لتدقيق الله من جهة حياتنا وسلوكنا وكلماتنا حتى أفكارنا إنما علامة اهتمام الله الفائق نحونا، هذا يدفعنا للتمتع بمخافة الرب، لا مخافة العبيد الذين يخشون اللقاء معه، وإنما مخافة البنين الذين لن يقبلوا إلاَّ أن يكونوا أيقونة روحية لأبيهم السماوي.
بقوله: "لا يخفي عليه ناطقً بسوءٍ"، إنما يؤكد أنه وان أطال أناته جدًا على الظالمين الذين يهينون اخوتهم، ويخططون ضدهم بالسوء، فإنهم غير مخفيين عنه، وسيدينهم إن لم يرجعوا عن شرورهم. فلا ينجو مُتهم بالظلم من العدالة الإلهية إلا باللجوء إلى المراحم الإلهية بالتوبة الصادقة.
سيحقِّق في نيَّات الشرير،
وصوت أقواله يبلغ إلى الرب برهانًا على آثامه. [9]
بعد أن تحدث عن كلمات المجدف يتحدث هنا عن أفكار المنافق، وجاء في ترجمة أخرى "غير المؤمن".
لا يهرب أحد من الدينونة الإلهية كما يظن الظالمون القساة، وأيضًا سيعلن الخفيات في يوم الرب فتنفضح النيات الشريرة التي للمجدفين على الله. إن صوت نياتهم الخفية تبلغ إلى الرب، وتشهد ضدهم على آثامهم.
لأن الأذن الغَيورة تسمع كل شيءٍ،
وضجيج التذمُّرات لا يُخفى عليها. [10]
كثيرًا يتحدث الكتاب المقدس عن غيرة الله، فهو كالعريس الذي يغير على عروسه، لن يقبل أن يحتل آخر مكانًا في قلبها. كما يقدم لها ذاته، يطلب أن تقدم ذاتها بالكامل له.
في غيرته تنصت أُذن الله إلى كل كلمة تصدر من عروسه، فإنه يود أن يناجيها: "أريني وجهك، واسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف ووجهك جميل" (نش 2: 14). يود أن يرى وجهها دائم البشاشة، ولسانها دائم الشكر، لذا يحذرها من التذمر.
يضيف إلى مجموعة الظالمين المتذمرين الذين يضجرون في قلوبهم، حتى ولو لم ينطقوا بكلمة. فالظالمون يهينون الله خلال ظلمهم لاخوتهم، والمتذمرون يهينون الله خلال جحودهم له وعدم شكرهم على رعاية الظاهرة والخفية.
"اشكري لله نعمته عليك، وباركي إله الدهور حتى يعود فيشيد مسكنه فيك, يرد إليك جميع أهل الجلاء، وتبتهجي إلى دهر الدهور" (طوبيا 13: 12).
"اللهم علي نذورك أوفي ذبائح شكر لك" (مز 56: 12).
"لان رجاء من لا شكر له يذوب كجليد شتوي، ويذهب كماءٍ لا منفعة فيه" (الحكمة 16: 29)
"صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، صوت القائلين: احمدوا رب الجنود، لأن الرب صالح، لأن إلى الأبد رحمته، صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب، لأني أرد سبي الأرض كالأول يقول الرب" (ار 33: 11).
"مستغنين في كل شيء لكل سخاء ينشئ بنا شكرا لله . إن خدمتهم هذه تسد أعواز القديسين، وتسبب الشكر الجزيل لله" (2 كو 9: 11).
v (الغنوسي) يقدم تشكرات لأجل رحلته ويبارك الله عند رحيله، مرحبّا بسكناه في السماء[61].
القديس إكليمنضس السكندري
فاحذروا من التذمر الذي لا خير فيه،
وكفوا ألسنتكم عن النميمة،
لأن الكلمة التي تُقال في الخفية لا تذهب سُدى،
والفم الكاذب يقتُل النفس. [11]
ليس من ذبيحة يقدمها الإنسان لله مثل ذبيحة الشكر، فإن عصب العبادة القداس الإلهي، الذي هو سرّ الإفخارستيا أو سرّ الشكر، حيث تتقدم الكنيسة كهنة وشعبًا لتقدم للآب ذات ذبيحة الصليب غير المتكررة لتعلن بالخلاص الإلهي الذي وهبها حق الدخول إلى السماء لتشارك السمائيين ذبيحة التسبيح والحمد والشكر بلا انقطاع.
يحذرنا الحكيم من التذمر الذي لا خير فيه، إذ يحرم النفس تقديم ذبيحة الشكر. التذمر في الواقع هو ختم وتأكيد أن الإنسان قد تعلق تمامًا بالعالم وتحول قلبه عن أبيه السماوي، ولم يعد ينشغل بالعرس الأبدي المُعد له. "العبد الحكيم يخدمه الأحرار، والرجل العاقل لا يتذمر" (سيراخ 10: 28).
كما يحذرها من الثلب أي إدانة الآخرين والنميمة.
يؤكد الحكيم أن الله يسمع كلمات التذمر الخفية الصادرة عن القلب، ولا يطيق كلمات اللسان الكاذبة التي تقتل النفس. يدعونا أن نهرب من خطايا اللسان الظاهرة والخفية، مثل التذمر الداخلي على الله، والنميمة ضد الاخوة، والكذب.
"الفم الكاذب يقتل النفس"، لأن اللسان عرش الحياة إن عبٌر عن شركته الداخلية مع الله، ومصدر الموت إن سلك كما يسلك إبليس الكذاب وأب الكاذبين.
v "أبغضت كل فاعلي الإثم، تهلك المتكلمين بالكذب" (مز 5: 5-6)... الذي يفعل الشر يبغضه الله، الكذاب يهلك. دعونا نرى أيهما في حالة أشر، أن يبغضه الله أم أن يهلك. الإنسان الذي يبغضه الله غير سعيد حقًا، لأنه يعيش في عداوة مع الله، لكنه لا يزال حيًّا، أما الكذاب الذي يهلك فلا يوجد بعد. الإنسان الذي يكذب في حال أمرَّ عن الذي يفعل الإثم[62].
v إن افترى أحد عليك لا يؤذيك، أنت تؤذي نفسك إن افتريت على الآخرين... إن كان لنا عدو ونظن أننا نفعل شيئًا ضده، فإن كل ما نفعله هو ضد أنفسنا. إننا نذمه، نذهب هنا وهناك نتحدث عنه مع كل أحدٍ. هل نظن أننا نؤذيه؟ إننا لا نفعل شيئًا ضده، إنما نقتل أنفسنا، لأننا نكذب. "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11)[63].
القديس ﭽيروم
v الجسد يتكلم هكذا فهو حي. ولكنني أسأل هل الروح حية أيضا؟ هوذا الجسد يتكلم وبذلك فهو حي ولكن بماذا يتكلم ؟ كما قلت عن الأقدام أنها تسير وبذلك فإن الجسد حي. وعندئذ سألت أين تسير هذه الأقدام؟ حتى أفهم عما إذا كانت النفس حية أيضًا، هكذا عندما أسمع إنسانًا يتكلم أعلم. أن الجسد حي، فأسأل أيضا بماذا يتكلم حتى أعلم إن كانت النفس حية أيضًا. إنه يتكلم بالكذب. إن كان كذلك فالنفس ميتة. كيف نبرهن على هذا؟ لنسأل الحق نفسه الذي يقول: "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11) إنني أسأل: لماذا ماتت النفس؟ أسأل كما سألت الآن: لماذا مات الجسد؟ لأنه قد رحلت حياته أي النفس. لماذا ماتت النفس لأن الله حياتها قد تركها[64].
v عن أي فم يتكلم، هذا موضع تساؤل. بصفة عامة عندما يتحدث الكتاب المقدس عن الفم، يعني ذات كرسي الفهم في القلب، الذي يُصدَّق ويحكم عليه. فمن يكذب في قلبه يحقق ذلك بالكذب[65].
v "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11). ولئلاَّ يظن أحد أن هذا يمكن فهمه باستثناء بعض الكذابين، فليقرأ في موضع آخر: "تُهلك المتكلمين بالكذب" (مز 5: 6). في موضع آخر يقول الرب بفمه: "ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت 5: 37). لهذا فإن الرسول أيضًا إذ يعطي وصية عن خلع الإنسان القديم، يقصد به كل الخطايا تحت اسمه، يقول للحال: "لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق" (أف 4: 25)[66].
v ذاك الموت الذي يخافه الناس في غباوة ولا يخافون الخطية، يقتل الجسم لا النفس، كما يعلمنا الرب في الإنجيل. إنه يحثنا ألاَّ نخاف هذا الموت (مت 10: 28)، بل نخاف اللسان الذي يكذب، فيقتل النفس لا الجسم[67].
v يستمر الرسول قائلاً: "هو (اللسان) شر لا يُضبط، مملوء سُمًا مميتًا" (يع 3: 8). فهو يقصد أن هذا العضو يفوق في تأثير سمومه على سموم الوحوش والزحافات، لأن الوحوش قد تقتل الأجساد، أما اللسان فإنه يقتل النفس. "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11)... عندما ينضبط لسان أحدٍ من البشر ويتذلل، لا ينسب هذا إلى نفسه، بل إلى معونة الله ومراحم نعمته[68].
v الموت بالنسبة لجسدك هو فقدانه حياته، وموت نفسك هو فقدانها حياتها. حياة جسدك هو نفسك، وحياة نفسك هي الله. إذ يموت الجسد يفقد النفس التي هي حياته، وهكذا تموت النفس بفقدانها الله حياتها[69].
القديس أغسطينوس
v إيّاك والكذب فهو يطرد خوف الله من الإنسان.
v هكذا كل ابنٍ مؤمنٍ يريد أن يتعلم شكل الطهارة: يجب عليه بالحقيقة أن لا يكون فيه شيءٌ من كلام الكذب.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
v النفس لها إفراز من إحساسها العقلي تعرف به الفرق بين الصدق والكذب، كما يميِّز الفم بين الخمر والخلّ وإن كانا متشابهين في اللون، هكذا النفس من الإحساس العقلي تعرف الفرق بين المنح الروحية والتخيلات الشيطانية.
v إذن، فلندعُ الله بإيمانٍ مليءٍ بالثقة متكلين على رحمته حيث إنّ عندنا مواعيده المكتوبة قائلةً: "مَنْ يقرع يُفتَح له" (مت7: 8)، وأيضًا: "سـأسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كو 6: 16). إنّ البشر تشدّهم ربوات من الاهتمامات وتُظلم التجارب حياتهم وتُجبرهم على الكذب بكثرةٍ حتى حينما يرتبطون بعقودٍ مكتوبةٍ، فهم يكونون أحيانًا غير قادرين على ألاّ يظهروا مخادعين حتى لو أرادوا، ولكنّ الله الذي - على العكس تمامًا - لا يكذب، يتمِّم وعده لنا بأن يُرسل لنا نعمة وموهبة الروح القدس (اُنظر لو 11: 13)[70].
القديس مقاريوس الكبير
v لنرفض شرف العالم وكراماته لنتخلّص من المجد الباطل، ولنستعمل اللسان في ذكر الله والحق لنتخلّص من الكذب، ولنحب طهارة القلب والجسد لننجو من الدنس، لأنّ هذا كله يحيط بالنفس ويضبطها عند خروجها من الجسد، فمَنْ كان حكيمًا ويتصرّف بحكمةٍ لا ينبغي أن يترك نفسه بدون أعمالٍ صالحةٍ حتى يخلص من تلك الشدّة. فلنحرص بقدر طاقتنا وربنا يُعين ضعفنا، لأنه يعلم شقاء الإنسان، لذلك وهب له التوبة ما دام في هذا الجسد.
القديس أنبا موسى الأسود
v سألوا أيضًا أنبا يؤنس: "مَنْ هو الراهب؟" فقال: "الراهب هو الذي يتعب ويكدّ ويغصب نفسه في كل شيء، ولا يعمل حسب هواه، ولا يتمسك بكلمته في أي شيء، وأيضًا ينبغي على الراهب ألاّ يقول شيئًا من الكذب، ولا يحلف إطلاقًا، ولا يكون سمّاعًا ولا ثرثارًا ولا يتذمر ولا يدين أحدًا".
بستان الرهبان
4. قتل النفس وخلود البرّ
لا تسعوا إلى الموت بتضليل حياتكم،
ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أياديكم. [12]
بينما يغير العريس السماوي على عروسه لكي تتمتع بالحياة الأبدية، إذا بالبشر يطلبون الموت، ويقيمون عهدًا معه، ويتحالفون معه كحزب له، استعاضوا بالموت عن الحياة الأبدية، وبالظلمة عوض النور، وبإبليس عوض الله.
في جهالة يظنون في إبليس عدوهم ومدمر حياتهم صديقًا لهم، مع أنه يُعد لهم سم الموت في الخطية.
لأن الله لم يصنع الموت،
ولا يُسر بهلاك الأحياء. [13]
واضح أن الكاتب لا يعني هنا الموت الجسماني بل الروحي، الموت الثاني (رؤ 2: 11؛ 21: 8)، حيث انفصال النفس عن الله، والموت الجسدي حيث انفصال النفس عن الجسد. فالله خالق النفس والجسد لم يخلقهما ليموتا، ولم يهب البشرية الحياة ليهلكها.
v بالحق لم يكن الموت جزءً من طبيعة الإنسان، وإنما صار أمرًا طبيعيًا، لأن الله لم يؤسس الموت في البداية، لكن قدمه كعلاجٍ. لنحذر إذن لئلا يظهر لنا ما هو خلاف ذلك. فلو كان الموت صالحًا، فلماذا كُتب أن "الله لم يصنع الموت" (حك 1: 14)، إلا لأنه بشرِّ البشر دخل إلى العالم؟[71]
القديس أمبروسيوس
v لأن غاية الله من خلقته لا أن يهلك الإنسان بل يحيا إلى الأبد، وهذه الغاية لا تزال كما هي، وإذ يرى أن يشع فينا صلاحه ولو بشرارة خفيفة من الإرادة الصالحة، فإنه يضرمها كما لو كانت خارجة من الحجر الصوان الصلد الذي لقلوبنا. انه يثيرها ويتعهدها ويقويها بنسمته "الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون" (1تي4:2). لأنه "هكذا ليست مشيئَةً أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤُلاءِ الصغار" (مت14:18)...
الله صادق ولا يكذب، إذ يقسم قائلاً: "حيّ أنا يقول السيد الرب إني لا أُسَرُّ بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقهِ ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة. فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟!" (حز11:33) إنه لا يريد أن يهلك أحد أصاغره، فكيف لا نكون مجدفين إن كنا نتصور أنه لا يريد كل البشر يخلصون بل بعضهم؟!
فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته، وهو يشهد ضد كل واحدٍ منهم يومًا فيومٍا قائلاً: "ارجعوا، ارجعوا عن طرقكم الرديئَة، فلماذا تموتون" (حز 11:33). وأيضًا: "كم مرَّةٍ أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت37:23)، "فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا" (إر 5:8).
إذن نعمة المسيح حاضرة بين أيدينا في كل يوم، وإذ هي تريد أن "جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" تدعو الجميع بغير استثناء قائلة: "تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت28:11).
فلو لم يدعُ الجميع بل البعض فقط، لكانت النتيجة أن يكون الكل مثقلاً بالخطايا الأصلية (الجدية) والخطايا الفعلية، وإلا صار القول التالي غير صادق: "إذ الجميع أخطأُوا وأعوزهم مجد الله" (رو23:3)، وما كنا نصدق أن الموت قد عبر إلى جميع الناس (رو12:5). وإذ الهالكون يهلكون بغير إرادة الله، لهذا يمكننا أن نقول بأن الله ليس بصانع الموت، وذلك كشهادة الكتاب المقدس القائل: "إذًا ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسرَّه" (حك13:1)[72].
الأب شيريمون
v إننا أبناء، لنسرع نحو الآب (لو 15: 20). ليتنا لا نخاف لأننا بددنا ميراث الكرامة الروحية لكي ما ننال الملذات الأرضية (لو 15: 13). فإذ منح الآب الابن الكنز الذي له، فإن غنى الإيمان لن يكون بلا نفع (رو 4: 14). إنه وإن كان قد أعطى الكل، فهو لا يزال يملك الكل، ولا يفقد شيئًا مما يمنحه. لا تخافوا بأنه ربما لا يقبلكم، فإنه ليست مسرة الرب في هلاك الأحياء (حك 1: 13) فإنه إذ يلتقي بكم على الطريق، يقع على عنقكم، لأن الرب يقيم الساقطين. إنه يقبلكم، أي يهبكم عربون التقوى والحب[73].
القديس أمبروسيوس
v في موضع آخر قلت: "الله لا يطلب موت أحدٍ". هذا يُفسَّر هكذا: جلب الإنسان الموت لنفسه بهجره الله، فمن لا يرجع إلى الله يجلب الموت على نفسه، كما هو مكتوب: "لأن الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13)[74].
v "الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13)، مع أنه مكتوب في موضع آخر: "الموت والحياة هما من الرب الإله" (سي 11: 14). عقاب صانعي الشر الذي هو من الله يُحسب شرًا بالنسبة لصانعي الشر، لكنه يُحسب من الأعمال الصالحة التي لله، لأنه من العدالة أن يُعاقب صانعو الشر، وكل ما هو من العدالة بالتأكيد هو صالح[75].
القديس أغسطينوس
فإنه خلق كل شيء لكي يكون،
وإن أجيال العالم شُفيت،
وليس فيها سَمٌ مهلك،
ولا مُلْكَ للموت على الأرض. [14]
كانت نظرة الحكيم نحو الموت لا تقف عند اعتزال النفس الجسد، وإنما حرمان الإنسان ككلٍ من الله مصدر الحياة والخلود. الله لم يخلق الإنسان ليموت، بل للخلود (1: 14)، لكنّه بممارسته الخطية في مكرٍ جلب الموت بيديه وبكلماته، ودخل معه في عهدٍ عوض دخوله في عهدٍ مع الله (1: 16). يطلب الله ألا يكون موت للبشر جميعًا، لكن هذا السم المميت بثته الحية القديمة، إبليس.
v إن وُجد فينا شيء سامٍ، فإن الله هو الذي خلقه، ولكننا نحن أوجدنا الشر والخطايا لأنفسنا[76].
العلامة أوريجينوس
لأن البرّ خالد. [15]
يربط الحكيم دومًا بين الحياة الداخلية والسلوك الظاهر. فبتضليل الحياة يعني اقتناء الموت خلال الخطايا الخفية في القلب، يُجلب الهلاك خلال أعمال اليد، أي السلوك الظاهر. إن كان الإثم قد دخل بنا إلى الموت خلال حسد إبليس، فإن بٌر الله يردنا إلى الخلود. يقصد بالخلود هنا الوجود اللانهائي مع الله، والتمتع بالحياة الطوباوية السماوية.
5. المجدفون وميثاق الموت
لكن الأشرار دَعَوا الموت بأعمالهم وأقوالهم،
عدُّوه صديقًا فاضمحلوا،
ثم عاهدوه، لأنهم أهل لأن يكونوا من حِزبه. [16]
لعله يشير هنا إلى آدم وحواء، إذ دخلت حواء في حوار مع الحيَّة القديمة، وأقامت معها ميثاقًا، وصارت هي وزوجها في تحالفٍ معه، كما من حزبه. يقول إشعياء النبي: "لأنكم قلتم قد عقدنا عهدًا مع الموت، وصنعنا ميثاقًا مع الهاوية" (إش 28: 15).
يعتبر الكاتب أن سلوك الأشرار العملي بمثابة حديث ودِّي مع الموت، ودخول معه في ميثاق.
حينما يتحدث الأبرار عن الموت، إنما يعنون به موت النفس، لأن هذا هو ما يخافونه. أما الأشرار فيتحدثون عن موت الجسد، وهذا هو ما يخشونه.
يدخل المؤمنون أبناء إبراهيم حسب الروح في عهدٍ وميثاق صداقة مع الله، أما غير المؤمنين فيقيمون عهدًا وتحالفًا مع الموت كصديقٍ ملازمٍ لهم. كما أن الله من نصيب المؤمن البار وهم من نصيبه (مز 5:16، 73:26، 142: 6، تث 9:32، 2مل 1:26، زك 16:2)، هكذا الجاحدون هم من نصيب الموت، والموت من نصيبهم، إنهم من حزبه، ينتمون إليه بفساد إرادتهم وشرها.
من وحي حك 1
لأقتنيك فأقتني الخلود
v أتيت إلينا يا أيها القدوس البار، فالتهب قلبنا شوقًا إلي البرّ.
تسمرت أعيننا عليك، فصرنا نطلبك ببساطة قلب صالح!
رأيناك، فتقدست أفكارنا بك، وانفتح لساننا يطلبك!
v ماذا نطلب سوى اقتنائك، فبك نصير ملوكًا يا ملك الملوك،
و بك نتمتع بالاستقامة التي لك يا أيها القدوس وحده!
لن ينحرف قلبنا عنك يمينًا ولا يسارًا،
بل في بساطة نراك وننعم بالشركة معك.
v لسنا نريد أن نراك هنا بعيوننا الجسدية!
أغسل عيوننا الداخلية لكي ببساطة القلب نراك.
هب لنا نقاوة القلب فننعم بمعاينتك.
انزع عنا كل خبث، فلا نسلك في طرق معوجة،
بل تكون أنت هو طريقنا الأوحد، فأنت هو الطريق والحق والحياة.
لأسلك بك وأذهب إليك، يا أيها الطريق العجيب!
v قدّسني بالتمام، قدس نفسي وجسدي، فلا تحمل نفسي روح الخبث،
ولا يُستعبد جسدي للشهوات.
تقدسني، فأتأهل للسلوك حسب إرادتك، يا أيها الحكمة الإلهي!
قدس كليتيي وقلبي ولساني، فأصير بكليتي مكرسًا لحساب ملكوتك.
v روحك القدوس يملأ العالم كله، يطلب القرب من كل إنسانٍ،
يبسط حبه على كل شخصٍ، يود أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون.
ليعطني روحك حياة الملء، وليهبني قوة الرجاء،
فاتحًا أبواب السماء أمامي، وليطر بي إلى الأحضان الإلهية.
v روحك القدوس يعلم نيات القلب والكلمات الخفية.
إنه يطيل أناته على المفترين والظالمين، ينتظر توبتهم لينعموا بالمراحم الإلهية،
فيفرح بهم حتى الذين سقطوا تحت ظلمهم.
v أشرق بنورك عليّ، فلن يبقى أثر للتذمر في قلبي.
عوض التذمر تخرج تقدمات شكر خفية وتسابيح قلب غير منقطعة.
تقبلها ذبائح شكر، فتسر بها، يا أيها العريس السماوي.
v خلقتني، مشتاقًا أن أحيا إلي الأبد، لكن عدو الخير بحسده أدخل الموت إلي العالم.
وفي غباوتي قبلت الموت صديقًا لي، دخلت معه في عهدٍ، وصرت من حزبه.
من يمزق هذا العهد إلا عهدك الثمين.
من يحررني من البنوة لإبليس إلا البنوة لله أبيك!
لتملك يا أيها القيامة والحياة علي، فلن يستطيع أن يتسلل الموت إليّ.
أنت هو قيامتي وحياتي الخالدة.
سخرية الأشرار بالأبرار
ختم الحكيم الأصحاح الأول بالحديث عن اختيار الأشرار للموت صديقًا لهم، ودخولهم معه في ميثاقٍ وتحالفٍ، وذلك بجحودهم الإيمان وسلوكهم الشرير. الحياة الشريرة في حقيقتها موت، لأنها تحرم الإنسان من الله مصدر حياته. الآن ماذا يحمل هؤلاء الأشرار من اتجاهات، أو ما هو حديثهم الخفي؟
إذ يصب الأشرار كل رجائهم في ملذات هذه الحياة والمقتنيات الزمنية يشعرون دومًا بعدم الطمأنينة، لأنها يومًا ما تزول. لهذا تسيطر على عقولهم كما على قلوبهم نظرة تشاؤمية مظلمة. هذا يدفعهم لا إلى مراجعة أنفسهم لإدراك حقيقة الحياة الخالدة، بل إلى استخدام كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة لبلوغ مكاسب سريعة، وتحقيق أكبر قدر من الملذات، ولو على حساب الأتقياء البسطاء. فتصير شريعتهم الخفية التي يعشقونها هي شريعة الغاب، ويحملون روح البغضة والكراهية ضد كل إنسانٍ بارٍ، لأنه يبكتهم بسلوكه واتجاهاته، سواء من جهة حبه لاخوته، أو وداعته أو ترقبه الحياة الأبدية الخالدة.
لم يقتبس الحكيم عبارات من أقوال بعض الجاحدين للإيمان ،المعاصرين له أو السابقين، وإنما يقدم اتجاهاتهم التي تكمن في قلوبهم، والتي يترجمونها غالبًا في أحاديثهم كما في سلوكهم.
1. نظرتهم السوداوية للحياة 1.
2. حياة في مهب الرياح 2-4.
3. غايتهم اللذة الزمنية 5-9.
4. شريعتهم شريعة الغاب 10-11.
5. بغضهم للأبرار 12-18.
6. مقاومة الأبرار حتى الموت 19-20.
7. إنكارهم الخلود 21-24.
1. نظرتهم السوداوية للحياة
فإنهم فكروا (الأشرار) تفكيرًا خاطئًا،
فقال بعضهم لبعض:
"قصيرةٌ ومملة حياتنا،
وليس من دواءٍ لنهاية الإنسان،
ولم يُعلَم قط أنَّ أحدًا رجَع من القبر. [1]
واضح أن الكاتب سليمان الحكيم، فإنه حتى عصره لم يسمعوا عن شخصٍ ميتٍ قام، أما في أيام إيليا وأيضًا أليشع، فقد أقام الأول ابن الأرملة بعد صراخه إلى الرب (1 مل 20:17-22)، كما قام الميت الذي لمس عظام أليشع النبي (2 مل 13: 21).
ربما يقول أحد: ألم تكن هكذا نظرة أيوب الصديق حيث سبَّ اليوم الذي وُلد فيه (أي 3)؟
شتان ما بين حديث أيوب عن قصر الحياة وحديث الأشرار، فإنه وإن كان أيوب قد اشتدت به المرارة جدًا بسبب ثقل التجارب، واتهامات أصدقائه له وعداوتهم له، فإنه كان يشتهي الموت، لكنه كثيرًا ما ترجى الدينونة الإلهية العادلة، والقيامة من الأموات. أما الأشرار ففي نظرتهم السوداوية للحياة أنكروا القيامة.
قصر الحياة أمر لا يقدر إنسان ما أن ينكره، لكن البار يتطلع إلى حياته كقنطرة للعبور إلى الأبدية بفرحٍ وسرورٍ، أما الشرير فتحطمه الظلمة التي في قلبه، فيسيطر اليأس عليه، وعوض الأعداد للحياة الأبدية بالتمتع ببرّ المسيح، يسلك بروح الأنانية.
لقد تجسد الكلمة الإلهي، وسلك طريق حياتنا الوقتية، وقبِل الموت في حداثة سنه، لكي بقيامته نترجي القيامة، وبحسب قصر حياتنا على الأرض عطية إلهية مفرحة.
يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح ظهر للرسل بعد قيامته لا لهدف إلا ليؤكد قيامة الجسد. [لم يرد أن يعلمنا شيئًا سوى أنه يلزمنا أن نؤمن بقيامة الأموات[77].]
v حقًا إن إيماننا بقيامة ربنا من بين الأموات وصعوده إلى السماوات تسند إيماننا برجاءٍ عظيمٍ. لأن هذه العقيدة تُظهر لنا بقوة كيف أنه بإرادته ذاك الذي له القوة أن يرفع حياته إلى فوق قد نزل بها من أجلنا. يا لعظمة الثقة التي يوحيها رجاء المؤمنين عندما يدركون عظمة الأمور التي احتملها من أجل البشر الذين لم يكونوا بعد مؤمنين عندما كان متوقعًا أن يأتي من السماء كديان الأحياء والأموات كان المهملون في رعب شديد، ولكن إذ كرسوا حياتهم بجهادٍ عظيمٍ امتلأوا شوقًا نحوه، سالكين في حياة مقدسة عوض خوفهم من مجيئه بسبب شر حياتهم[78].
v إنه رجاء أكيد… صار بالفعل حاضرًا واقتنيناه عمليًّا، حياتنا المستقبلة قد تحققت الآن في رأسنا ووسيطنا القائم من الأموات، الإنسان يسوع المسيح[79].
القديس أغسطينوس
v إن كنتم تؤمنون أن المسيح قد قام من الموت، فلابد لكم أن تؤمنوا أنكم قد قمتم بالمثل معه. وإن كنتم تؤمنون أنه جالس عن يمين الآب في السماوات فلابد أن تؤمنوا أنكم لم تعودوا فيما بعد في المشهد الأرضي، بل في السماوي. وإن كنتم تؤمنون أنكم قد مُتم مع المسيح، فيجب أن تؤمنوا أنكم سوف تحيون معه. وإن كنتم تؤمنون أن المسيح ميت للخطية وحيّ لله، فأنتم أيضًا يجب أن تكونوا أمواتًا للخطية وأحياء لله.
هذا لأن الإنسان الذي (يضع ذهنه في ما هو فوق) يُظهر إيمانه بمن أقام يسوع من الموت. وفيما يتعلق بهذا الإنسان، "فسيُحسب له الإيمان بّرًا". فإن كنا قد قمنا مع المسيح الذي هو البّر، ونمشي في جدّة الحياة، ونحيا بحسب البرّ، فالمسيح قد قام لنا، حتى نتبرر… إذ قد اتخذنا حياة جديدة على مثال قيامته."
العلامة أوريجينوس
v الفكر غير البسيط يُفقد الإنسان رجاءه في مجيء الرب الأخير (الباروسيا) مما يدفعه نحو السلوك الشرير[80].
القديس إكليمنضس الروماني
v ظهر ليضع حدًا لخطايا اليهود ونخلص نحن عن طريق الوارث الرب يسوع الذي أُعد ليأتي إلى العالم، فيخلص بمجيئه نفوسنا السائرة في شعاب الموت والمستسلمة للطريق الشرير[81].
رسالة برناباس
2. حياة في مهب الرياح
إننا وُلدنا اتفاقًا،
وسنكون من بعد كأننا لم نكن قط،
لأن النَسمة في أنوفنا دُخان،
والنطق شرارة من ضربات قلوبنا. [2]
يعتنق الأشرار بسلوكهم إلحادًا عمليًا، حيث يتطلعون إلى حياة الإنسان أنها وليدة صدفة بحتة، ليس من موضعٍ لخطة الله في أذهانهم، وينظرون إلى الموت الجسماني كنهاية للحياة، ليس من حياة أخرى ولا من قيامة.
نظرة الأشرار للحياة أنها تمتع بالملذات والمرح الزمني، إذ يحطم عدم الإيمان كل رجاء في البشر، فيشعرون وجودهم كأنه عدم؛ أرواحهم ليست من الله، بل هي دخان سرعان ما يتبدد بلا عودة، وأجسادهم تتحول إلى رمادٍ يتبدد كما بالرياح.
من أهم النقاط في فكر أوريجينوس الأخروي هو فهمه الرجاء المسيحي في القيامة. ففي مقدمة كتابه De Principiis ذكر بين التعاليم المحددة في كرازة الكنيسة هو الإيمان بأن للنفس مادتها وحياتها، التي تستمر بعد الموت، لتختبر مكافأة أو عقوبة على تصرفاتها، وتتوقع أنه سيأتي وقت للقيامة من الأموات[82] . كما تحدث بعد ذلك في نفس العمل عن قيامة الجسد[83]، ويرى أن هذا الجسد سيقوم جسدًا روحيًا يختلف تمامًا في هيئته عما هو عليه حاليًا[84].
في الفصل النهائي للكتاب برهن بطريقة إيجابية عن خلود النفس حاسبًا أنه لأمر شرير أن ما في الإنسان على مثال الله مثل الذهن البشرى يمكن أن يفنى تمامًا[85].
فإذا انطفأت عاد الجسمُ كالرماد،
وتبدد الروح كالهواء الفارغ [3]
يمثل هذه الأفكار التي يحولها الأشرار إلى فلسفات، غايتها تبرير الإنسان لممارسة الشرور بلا ضابط. كان كثير من الفلاسفة يعتقدون بفناء الجسد والنفس تمامًا.
إذا ما عزل الإنسان نفسه عن الله يرى نفسه تافهًا لا قيمة له، أشبه بالعدم، أما في الله فيرى نفسه موضع حب خالق السماء والأرض الذي أقامه رئيسًا يسوس العالم بالبرّ والقداسة، يرى نفسه الابن العزيز جدًا عند أبيه السماوي.
v (المسيح) كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الشخص البشري بإقامته إلى الحق. إنه يحثنا على الخلاص الذي يبطل الفساد وينزع الموت[86].
القديس إكليمنضس السكندري
تحدث العلامة أوريجينوس بوضوح أن أي شخص يحتقر قيامة الأموات كما تؤمن الكنيسة لا يكون له رجاء في المسيح، ما لم يؤمن أن النفس تحيا وتنتعش ولا تتقبل هذا الجسد في القيامة بل جسدًا من نوعٍ سامٍ[87]. غير أن آباء الكنيسة يؤكدون أن الجسد القائم هو ذات الجسد الذي جاهد مع النفس في هذا العالم لكنه يحمل طبيعة مجيدة تليق بالحياة الأبدية.
v يليق بنا ألا نشك أن جسدنا المائت سيقوم ثانية في نهاية العالم... هذا هو الإيمان المسيحي، هذا هو إيمان الكنيسة الجامعة، هذا هو الإيمان الرسولي[88].
القديس أغسطينوس
v كما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى مختفية في النفس إلى يوم القيامة، حيث تُغمر أجساد الخطاة بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور والصورة السماوية – يسوع المسيح – يضيء الآن سرًا داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين. إنه مخفي عن عيون الناس، لكن عيني النفس وحدها تنظران المسيح حقًا حتى يأتي يوم القيامة، حيث يغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الإنسان[89].
v كما أن النار التي كانت تتقد على المذبح في أورشليم دُفنت في حفرة، أثناء فترة السبي، وعندما حلّ السلام ورجع المسبيون إلى أورشليم، تحددت هذه النار عينها واشتعلت كما كانت سابقًا فبل السبي (2مل19:1)، هكذا الآن تعمل النار السماوية في هذا الجسد الذي ألفناه – هذا الذي في انحلاله (بالموت) يتحول إلى نتانة – فتجدد هذا الجسد، وتقيمه بعد أن فسد. فإن النار الداخلية التي تسكن الآن في القلب ستُستعلن حينئذ من الخارج وتحقق قيامة الجسد[90].
القديس مقاريوس الكبير
ويُنسى اسمُنا مع الزمن،
ولا يذكر أحد أعمالنا،
وتزول حياتنا كأثرِ سحابة،
وتتبدد مثل ضبابٍ،
تسوقُه أشعة الشمس،
ويسقط بِحرارتها. [4]
يرى الأشرار غير المؤمنين أن حياتهم أشبه بضباب يسوقه شعاع الشمس، ثم يتكثف بحرارة الشمس، ويتحول إلى ماء يسقط على الأرض، فتتشربه ولا يصير له وجود. فمع زوال الحياة التي يُشبهها الأشرار بالسحابة تعبر لتظهر الشمس، يعتقدون بأنه لا يبقى للإنسان حتى ذكرى وسط الأجيال القادمة. يرى الشرير أنه لا خلاف بين نصيب الأشرار أو الأبرار بعد الموت.
يؤكد الكتاب المقدس: "ذِكرُ الصديق للبركة، واسم الأشرار ينخر" (أم 10: 7). كما يقدم الرب وعدًا للأبرار: "إني أعطيهم في بيتي وفى أسواري نصيبًا، واسمًا أفضل من البنين والبنات؛ أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 5). مثل هذا الوعد لا مكان له في فكر الشرير أو في قلبه.
3. غايتهم اللذة الزمنية
فإن أيامَنا مُرور الظل عينه،
ونهايتنا بلا رجعةٍ،
لأنه مختومٌ عليها، فمَا من أحدٍ يعود. [5]
يرى الأشرار أن حياتهم تمر مرور الظل، وهنا لا يقصدون مجرد قصر الحياة الزمنية، وإنما زوالها تمامًا بلا شيء، تكونت كالظل من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء، مما يدفعهم إلى الانغماس في الملذات. أما يعقوب الرسول فإذ يقول: "لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل" (يع 4:4)، فباضمحلالها في هذا العالم نتمتع بحياة جديدة أبدية، لذا يضيف "فمن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل، فذلك خطية له" (يع 4: 17). شعور الأشرار بقصر الحياة يفسدهم، وشعور الأبرار بذلك يدفعهم لجهادٍ أعظم.
في يأسٍ شديدٍ يعتقد الأشرار في قصر الحياة، حيث لا هروب من الموت، ولا عودة من القبر. أما الصديقون، فإذ يؤمنون بعناية الله الفائقة وخطته، يدركون أن "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا 1:3)، فالحياة ليست وليدة مصادفة، والأحداث لا تتم بلا تدبيرٍ إلهيٍ. الحكيم يدرك أن خلقته هي عطية إلهية، ولحياته رسالة مجيدة تحقق خطة الله من نحوه.
فتعالوا نتمتع بالطيِّبات الحاضرة،
وننتفع من الخليقة بحَمِيَّة الشباب. [6]
يركز الأشرار على الطيبات الحاضرة، أو الملذات الوقتية عوض الأمجاد الأبدية. وكأن حياتهم القصيرة هي فرصة للانتفاع بالخليقة بكل وسيلة في حمية الشباب، أي كمن هم أصحاب قوة وقدرة، يتمتعون بالخيرات قبل حلول الشيخوخة والعجز.
لنسكر من الخمر الفاخرة والعطور،
ولا تفتنا زهرةُ الربيع. [7]
مع إدراكهم أن الأمور الزمنية مؤقتة وزائلة، لكن بسبب شعورهم بأنهم في طريقهم إلى العدم، وليس من خلود للإنسان، فلا مجال للجهاد من أجل الحياة المقدسة في الرب، وإنما الترف واللذة هي متعتهم قبل حلول الفساد سواء للمادة أو لهم هم أنفسهم. فرحهم ينصب في اللذة. أما المؤمن فيتلمس حب الله الخالق في العالم الجميل الذي أوجده له، لكن يجد متعته في تقديم الشكر للخالق على عطاياه، وليس في الاستعباد للمادة. إنه يعتز بممارسته الحرية التي وهبت له، فيبقى دائمًا السيد للمادة وليس عبدًا لها.
يقول القديس إكليمنضس السكندري إن الطعام ليس هدفاً نشتهيه، بل وسيلة حياة، فتقودنا كلمة الله لا شهوة الطعام، للتمتع بالأبدية.
v لا يكون الطعام هو شغلنا الشاغل، ولا هو متعتنا وهدفنا في الحياة، بل هو وسيلة لحياتنا التي يدبرها الرب "الكلمة" ليقودنا إلى الأبدية...
لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يعيش ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة...
لقد خُلقنا لا لنأكل ونشرب، بل لنكرس أنفسنا لمعرفة الله… فإن البطن الشرير لا يشبع أبداً (أم 5:13)، إذ تملأه الشهية التي لا تشبع ولا ترتوي[91].
v يلزم أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يختص بالطعام، فيكون الطعام بسيطاً، عادياً جداً، مناسباً لأولاد بسطاء… يمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. هذا يتفق مع كون الطعام بسيطاً بلا تعقيد، فيكون سهل الهضم، يجعل الجسد خفيفاً رشيقاً، يحقق النمو والصحة.
فن الطهي التعس يفسد التذوق، كما يحدث في فن صناعة الحلوى والفطائر.
لا يكتسب الجسم البشري أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام، بل على العكس من ذلك فإن الذين يستخدمون الحد الأدنى من الطعام هم أكثر قوة وأفضل صحة وأكثر شرفاً وكرامة، فنرى الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أكثر صحة في البدن من أصحاب الأملاك[92].
v الفلاسفة أحكم من الأغنياء، لأنهم لا يدفنون العقل تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذات والمتع، ولكن وليمة المحبة "أغابي" هي في الطعام السماوي، وفي وليمة العقل والتفكير السليم...
النهِم يكون كمن يدفن عقله في بطنه[93].
القديس إكليمنضس السكندري
أما عن السكر بالخمر ووضع أكاليل من الزهور على الرؤوس فقد كانت ضمن الطقوس الوثنية ترتبط بممارسة الرجاسات والعبادة للأصنام.
ولنتكلَّل ببراعم الورد قبل ذبوله. [8]
كانت المسارح والملاعب تُستخدم عادة للاحتفالات الخاصة بالآلهة الوثنية أو بالحاكم أو الإمبراطور كإله، وكان لها طقوسها الخاصة، مثل إنارة مشاعل ووضع أكاليل من الزهور على رؤوسهم. وقد اضطر بعض المسيحيين في القرون الأولى ، بسبب البسطاء أو الضعفاء في الإيمان، رفض استخدام الزهور، ليس لأنها دنسة، ولكن لأنها ارتبطت بعبادة الشيطان والأوثان. مع هذا يقول الشهيد يوستين (110- 165):
[كل شيء يُولد كعطية الله التي لا تُنتهك حرمتها، لا يُمكن انتهاكها بعمل بشري (حتى وإن استخدمت في طقوس وثنية). على أي الأحوال، نحن نمتنع عن استخدامها حتى لا يعتقد أحد أننا نخضع للشياطين الذي من أجلهم يُشرب الخمر، أو أننا نخجل من ديانتنا.
بالتأكيد زهور الربيع مبهجة لنا، فإننا نختار وردة الربيع والسوسنة وغيرها من الزهور ذات الألوان المبهجة للغاية والرائحة الذكية، ونستخدمها سواء كلٍ منها بمفردها أو ننثر أوراقها أو ننسجها معًا كأكاليل نزين بها رقابنا[94].]
ويقول مونيكوس فيلكس Minucius Felix (القرن الثاني أو الثالث) إن الزهور نافعة لحاسة الشم حيث تستقبل الأنف رائحة زكية[95].
يقول القديس إكليمنضس السكندري: [الذين تعلموا بواسطة اللوغوس يمتنعون عن ارتداء أكاليل (الزهور). إذ يحسبون أنه ليس من الضروري أن يقيدوا أذهانهم التي في رؤوسهم، ليس لأن الإكليل رمز لحياة السكر الجامحة، وإنما لأنها ترتبط بالوثنية[96].]
ولا يكن فينا من لا يشترك في قصفِنا.
لنترك في كل مكان علامات ابتهاجنا،
فإن هذا حظُّنا، وهذا نصيبُنا. [9]
إذ لا يشغلهم شيء سوى حياة القصف أو العربدة الصاخبة revelry والخلاعة wanton. فإنهم يدعون أقرباءهم وأصدقاءهم إلى الشركة في هذه الحفلات الماجنة، متطلعين أنها الحياة بعينها والبهجة، وأن هذا هو نصيب الإنسان المفرح. بدونها تُحسب لحياة موتًا، لا طعم لها.
4. شريعتهم شريعة الغاب
لَظلُمِ البارَّ الفقير،
ولا نشفق على الأرملة
ولا نَهَبْ شَيبة الشيخ الكثير الأيام. [10]
الأشرار في انحلالهم يريدون أن يبكموا صوت الحكمة والعدالة، يقاومون الحكماء ولا يبالون بخبرة الشيوخ المتعقلين.
فقدان الأشرار الرجاء في الخلود لا يدفعهم إلى اللذة فحسب، وإنما يجدون متعتهم في اغتصاب الآخرين حتى الفقراء والأرامل والشيوخ. لقد فقدوا الشعور بالحب والحنو، فصار قانونهم الظلم والسلب غير مبالين باحتياجات الفقير أو مرارة نفس الأرملة أو ضعف الشيخ. رأوا أن من حقهم ممارسة القوة، وأن في هذا التصرف عدالة.
باعتزالهم الله مصدر الحب والحنو والنموذج العملي للقيم السليمة والمبادئ فقدوا كل إحساس وعاطفة، واختلت موازينهم الداخلية، صاروا أبشع من الوحوش المفترسة تحركها الغريزة والشهوة، تقسو بعنفٍ دون أن تدري.
بل لتكن قوتنا شريعة العدل،
فإنه من الثابت أن الضعف لا يُجدي نفعًا. [11]
شريعة الأشرار ومبدأهم ليس ناموس الله، بل شريعة القوة، بكونها فوق الحق. شريعتهم هي شريعة الغاب. يرون في الحب وطول الأناة والاحتمال ضعفا وخنوعًا لا يليق بهم.
v يا أيها المتعالون والمتكبرون والمتعجرفون، تذكروا الموت، الذي سيحطم تعاليكم ويحل أعضاءكم ويفك المفاصل ويحل الفساد بالجسم وكل أشكاله. بالموت ينحط المتعالون، والعنفاء القساة يُدفنون في ظلمته...
يا أيها الجشعون المغتصبون والسالبون لزملائكم تذكروا الموت، ولا تضاعفوا خطاياكم. ففي ذلك الموضع لا يتوب الخطاة، ومن سلب ممتلكات رفيقه لا يملك حتى ماله، بل يذهب إلى الموضع الذي لا تُستخدم فيه الثروة، ويصير بلا شيء، تعبر عنه كرامته، وتبقى خطاياه لتقف ضده يوم الدينونة[97].
القديس أفراهاط
5. بغضهم للأبرار
ولنكمُن للبار فإنه يُضايقنا،
يُقاوم أعمالنا،
ويلومنا على مخالفاتنا للشريعة،
ويتَّهمنا بأننا نسيء إلى تعليمنا. [12]
لم يقف الأشرار عند الانهماك في الشهوات واستخدام العنف والظلم حتى مع الفقراء والمساكين، بل يحاولون الإيقاع بالأبرار، ونصب شباكٍ وفخاخٍ لهم، لأنهم يرفضون الشركة معهم في شرورهم، ولأنهم يوبخونهم على تصرفاتهم الخاطئة، إن لم يكن بالكلام فبسلوك الأبرار. بهذا يصير منظر البار ثقيلاً للغاية عليهم، لأنه يوبخهم.
يرى البعض أن هذه العبارات تحمل نبوات واضحة عن ربنا يسوع المسيح البار الذي بتصرفاته كما بتعاليمه وبَّخ الكتبة والفريسيين، فلم يحتملوه، إنما كمنوا لقتله والتخلص منه بالصليب.
والعجيب أن الأشرار لا يحتملون البار حتى بعد موته، فتبقى ذكراه موبخًا لهم. هذا حدث مع السيد المسيح حتى بعد موته وقيامته، إذ لم تستطع القيادات اليهودية أن تسمع اسم يسوع، وكان الاتهام الموجه ضد المسيحيين هو اتهام الاسم. وكانت صرخات القيادات ضدهم أنهم يجلبون هذا الاسم عليهم.
النور الإلهي المشرق في حياة البار لا تحتمله الظلمة الكامنة في قلوب الأشرار. فالعالم بظلمته لا يقبل النور، وكما قال السيد المسيح في صلاته الوداعية عن تلاميذه: "العالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم" (يو17: 14).
يرى القديس أمبروسيوس أن يوسف وجد اخوته في دوثان (تك 37: 17) والتي تعني "الهجران"، بهذا يمثلون النفوس التي تهجر الله، ولا تريد أن تأتى إليه لتجد فيه راحة (مت 11: 28). هؤلاء إذ رأوا يوسف قادمًا من بعيد ثاروا ضده وأرادوا قتله (تك 37: 28). لقد ثاروا وهو بعيد عنهم، هكذا عندما جاء السيد المسيح إلى خاصته ليقترب إليهم رفضوه ودبروا قتله، قائلين ما ورد في سفر الحكمة: "ولنكمن للبار، فإنه يضايقنا" (حك 2: 12)[98].
v لنهرب من سلام الأشرار، فإنهم يتآمرون ضد الإنسان البار. يجتمعون معًا، ليضغطوا على من هو بار[99].
القديس أمبروسيوس
v إذ كانت أفكار اليهود هي أن يصنعوا بالرب ظلمًا... نسوا أنهم كانوا يجلبون الغضب ضد أنفسهم لهذا بكى الرب عليهم (على لسان النبي) قائلاً: "لماذا ارتجت الأمم، وتفكرت الشعوب في الباطل" (مز 1:2).
حقًا باطل هو تفكير اليهود، إذ يفكرون في الموت ضده الحياة، ويشيرون بأمور غير معقولة ضد كلمة الآب!
ومن يتطلع الآن إلى تشتيتهم وخراب مدينتهم يقول: "الويل لهم، فقد فكروا شرًا ضد أنفسهم"…
حسن هو هذا يا اخوتي، لأنهم إذ أخطأوا في حق الكتاب المقدس لم يعرفوا أن "من يحفر هوة يقع فيها، ومن ينقض جدارًا تلدغه حية" (جا 8:10)[100].
البابا أثناسيوس الرسولي
v قيدوا يسوع وأحضروه إلى دار رئيس الكهنة، أتريد أن تعرف كيف سبق أن كُتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لنفسهم شرًا، قائلين: لنقيد البار، لأنه مغلق لنا" (راجع إش 3: 9، حك 2: 12) نعم ويل لنفوسهم.
لترى كيف هذا، فإن إشعياء نُشر إلى أجزاء، وبعد ذلك انصلح الشعب. إرميا طُرح في جب من طين، لكن جرح اليهود شفي، إذ أن آثامهم كانت قليلة لأنها موجهه ضد إنسان. لكن عندما أخطأ اليهود إلى الله المتأنس قيل: "ويل لنفوسهم... لنقيد البار!"
ألم يكن قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟! قد يقول قائل: الذي حل لعازر من رباطات الموت في رابع يوم، وأطلق سراح بولس من قيود السجن الحديدية، أما كان قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟
لقد وقفت الملائكة مستعدة تقول: "لنقطع قيودهم" (مز 2: 3)، لكنهم أحجموا، لأن سيدهم شاء أن يقبل هذا.
اقتيد إلى المحكمة أمام الشيوخ. وهذه شهادة عن ذلك "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 3: 14)[101].
القديس كيرلس الأورشليمي
يزعُمُ أن عندهُ علم الله،
ويُسمي نفسه ابن الرب. [13]
إذ بكَّت يسوع البار اليهود في مواضعٍ كثيرةٍ (مت25؛ يو8)، وكشف لهم عن مرضهم، لم يحتملوا هذا العالم بل طلبوا أن يقتلوه، "لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا إن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله" (يو 5: 18).
صار لَومًا على أفكارنا. [14]
يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الله لا يعزل الأبرار عن الأشرار، بل يسمح باختلاطهم معًا لصالح الطرفين. فالأشرار يتطلعون إلى الأبرار، فيوبخهم برّ الأبرار، ومن الجانب الآخر يُحسب هذا مكسبًا للأبرار حيث يكونون سببًا لتوبة بعض الأشرار.
وحتى منظره ثقُل علينا.
لأن سيرته لا تُشبه سيرة الآخرين،
وسُبُله مختلفة. [15]
صار في أعينهم شاذًا، فالبٌر بالنسبة لهم ضعفًا وتخاذلاً، والعنف والسلب قوة وشهامة. صار الخير في أعينهم شرًا، والشر خيرًا.
v يوجد نفع للأشرار باختلاطهم بالصالحين، فإنه يشعرون بارتباك، ويخجلون، ويستحون في حضورهم. فإنهم حتى وإن لم يمتنعوا عن الشر، لكنهم لا يجسرون على فعل ما يصنعونه في سرية. وهذا أمر ليس هينًا، ألاَّ يرتكبوا معصية علانية. تصير حياة الآخرين مُتهمًا لشر أولئك. اسمعوا على الأقل ما يُقال عن الإنسان البار. "صار خطرًا علينا حتى منظره" (حك 2: 14) إنها بداية ليس هينة للإصلاح خلال التعذيب بحضور (الإنسان البار)[102].
v يكره السارق النور.
مجرد التطلع إلى الإنسان البار أمر بغيض بالنسبة للخطاة. "حتى منظره مُحزن لنا" (حك 2: 15). إذ لا يحتملون بهاءه، وذلك مثل العيون المريضة التي لا تحتمل أشعة الشمس.
ولكن بالنسبة لكثيرين محزن لهم لا أن يروه فحسب، بل وحتى أن يسمعوا عنه[103].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أمسَينا في عينيه شيئًا مُزيَّفًا،
ويتجنبُ طُرُقنا تجنب النجاسات.
يُغبِّطُ آخرَةَ الأبرار،
ويتباهى بأن الله أبوه. [16]
لا يليق بالبار أن يستخف بالخطاة، ولا أن يدينهم، وإن كان لا يقبل شرورهم، ولا يسلك في طرقهم. لا يليق به أن يهينهم ولو بنظراته، بل أن يترفق بهم ويحبهم في الرب طالبًا خلاصهم. لكن الأشرار وهم عالمون فساد طرقهم ورفض البار السلوك معهم في ذات الطريق، يدركون أنه يعلِّمهم أن طريقهم باطل ومزيف، وأنه يتجنب طرقهم، لأنه يطوِّب نهاية الأبرار، ويعتز بروح البنوة لله، هذه الروح التي قدمتها له نعمة الله الغنية في مياه المعمودية.
لكن ما هو ردّ فعل الأشرار المصرِّين على شرهم؟ يقولون:
فلننظر هل أقواله صادقة،
ولنختبر كيف تكون عاقبته؟ [17]
عوض الاقتداء بالبار، يسخرون منهم، كما سخروا بالقدوس البار ابن الله الوحيد.
6. مقاومة للأبرار حتى الموت
فإن كان البارُّ ابن الله،
فهو يعينه وينقذه من أيدي مقاوميه. [18]
يعتز الأشرار بقوتهم الغاشمة ويظنون أنه ليس من قوة تقدر أن تقف أمامهم، حتى الله نفسه. وإذ يسيئون إلى البار يسخرون به قائلين: "إن كان الصديق ابن الله فلينصره وينقذه من أيدي مقاوميه". هكذا يتحدون الله نفسه إن كان يستطيع أن ينقذ البار من أيديهم.
هنا نبوة واضحة عن السيد المسيح، حيث سخروا منه، حتى قال اللصان: "خلَّص آخرين، أما نفسه فلم يقدر أن يخلصها". وقيل عنه: "إن كان ابن الله، فلينزل عن الصليب فنؤمن به". لم يدركوا أنه بالصليب انتصر السيد المسيح على الشيطان، وبموته داس الموت، خلص البشرية كلها حتى تنتصر وتتكلل به.
فلنمتحِنْهُ بالشتْمِ والتعذيب،
لكي نعرف حلمه ونختبر صبره. [19]
هذا التحدي كان قائمًا بين الشيطان شخصيًا أو خلال حزبه الذي دخل معه في عهدٍ والله في أشخاص مؤمنيه من رجال العهدين القديم والجديد، وقد بلغ القمة عند مجيء ابنه الوحيد الجنس، فظن عدو الخير أنه قادر على الخلاص منه تمامًا بالصليب، حيث جهل العدو تواضعه وخطته لخلاص العالم. ويبقى هذا التحدي قائمًا بين العالم الذي وُضع في الشرير وبين كنيسة الله، يتزايد ليبلغ القمة بمجيء ضد المسيح في آخر الأيام، حيث يدرك عدو الخير أن نهايته قد اقتربت جدًا.
ولنحكم عليه بميتَةِ عارٍ،
فإنه سيُفتَقدُ بحسب أقواله". [20]
يرى كلاً من القديس أغسطينوس والعلامة أوريجينوس أن الأشرار يحكمون على البار – ربنا يسوع – بموت العار، أي بالصليب، ولم يدركوا أنه بالصليب كان في قمة المجد خلال حبه وتواضعه.
v ها نحن نرى هذه النبوة (حك 2: 12-21) في شكل اشتياق وصلاة، تحققت في يسوع المسيح[104].
القديس أغسطينوس
v لقد تمجد عندما جاء إلى الصليب وعندما احتمل الموت. أتريدون أن تعرفوا أنه قد تمجد؟ قال بنفسه: "أيها الآب، قد أتت الساعة؛ مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1). احتمال الصليب كان مجدًا له، لكن مجده لم يكن في منظرٍ جميلٍ، وإنما في تواضعٍ. فقد قيل عنه: "تواضع حتى الموت، موت الصليب" (راجع في 2: 8). وقد تنبأ النبي عن ذلك، قائلاً: "ولنحكم عليه بميتة عارٍ" (حك 2: 20). ويقول عنه إشعياء: "من الضغطة ومن الدينونة أُخذ" (إش 53: 8)[105].
العلامة أوريجينوس
وكما أراد العدو الخلاص من السيد المسيح بالصليب، هكذا لا يكف عن أن يجاهد في قتل المؤمنين وتحطيمهم منذ ولادتهم. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها" (خر 22:2)، قائلاً:
[أترون بماذا يأمر رئيس هذا العالم خدامه؟ إنه يأمر بسرقة أولادنا، وإلقائهم في النهر، ونصب الشباك على الدوام منذ ولادتهم. يأمر بالهجوم عليهم منذ يبدأون في لمس ثديي الكنيسة ويطلب نزعهم عنها ومطاردتهم حتى تبتلعهم أمواج العالم...
تأمل الخطر الذي يهددك منذ ولادتك، بل بالأحرى منذ ولادتك الجديدة، أي منذ نوالك المعمودية مباشرة... فقد أُصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس (مت 1:4).
هذا هو أمر فرعون لشعبه بخصوص أولاد العبرانيين، أي الهجوم عليهم واقتناصهم في لحظة ولادتهم وإغراقهم... لكن المسيح انتصر حتى يفتح لك طريق النصرة، انتصر وهو صائم حتى تدرك أنت أيضًا كيف تخرج هذا الجنس بالصوم والصلاة (مر 29:9)[106].]
7. إنكارهم الخلود
هكذا فكروا،
ولكنهم ضلُّوا،
لأن شرَّهم أعماهُم. [21]
يمنعهم كبرياؤهم عن مراجعة أنفسهم، فثبتوا في الجهل والضلال والعمى الروحي.
توغلهم في الشر أعماهم عن رؤية حكمة الله في طول أناته ليهبهم فرصة للتوبة، وكيف يزكي الأبرار باحتمالهم الآلام لينالوا أكاليل مجدٍ في السماء. لم يدركوا القوة العاملة في حياة أولاد الله والتي تهبهم سلامًا وسط الضيقات، وشعور بمعية الله، فيفرحوا ويتهللوا وسط الآلام.
v هؤلاء ينتعشون في سعادة هذا العالم، ويهلكون في قوة الله. ليس فيما هم ينتعشون يهلكون بذات الأمر؛ لأنهم ينتعشون إلى حين، ويهلكون أبديًا. ينتعشون في خيرات غير حقيقية، ويهلكون في عذابات حقيقية[107].
القديس أغسطينوس
فلم يعرفوا أسرار الله،
ولم يرْجوا جزاءً للبرّ،
ولم يقدِّروا تكريمَ النفوس التي بلا لومٍ. [22]
لا يعرف الأشرار أسرار الله، أي حكمته ومقاصده من نحو الإنسان، إذ لا يختبرونها في حياتهم. كما لا يبالون بما ورد في الشريعة عن مجازاة الأبرار وهلاك الأشرار. لم يعرفوا أو تجاهلوا ما ورد في سفر التكوين عن الإنسان أنه صورة الله، وخُلق على مثاله (تك 27:1). إنهم إذ لا يذوقون عربون السماء هنا، لا يكون لهم نصيب مع الأبرار في المجد الأبدي، بل ولا حتى يؤمنون به.
v أولئك الذين يرضون بالإثم لا يكون لهم نصيب بين الخالدين[108].
القديس أنطونيوس الكبير
فإن الله خلق الإنسان لعدم الموت،
وجعله صورة ذات أبديته. [23]
v لم يكتفِ الله بأن يخلقنا من العدم، ولكنه وهبنا أيضًا بنعمة الكلمة إمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي، وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فسادٍ بالموت. لأنهم كانوا – كما ذكرت سابقًا - فاسدين، لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين. ولأن الكلمة سكن فيهم، لم يمسهم فسادهم الطبيعي، كما يقول سفر الحكمة: "الله خلق الإنسان لعدم الموت، وجعله على صورة أزليته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم".
وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون. هذا من جهة الوقت إذ بدأ الفساد يسود عليهم[109]...
البابا أثناسيوس الرسولي
لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم،
فيختبرُه الذين هم من حِزبه. [24]
"الموت" هنا هو الموت الروحي الذي يسقط تحته الأشرار.
ليس للإنسان عدو حقيقي إلاَّ إبليس الذي لا ييأس من العمل الدائم ليضم أكبر عدد ممكن من البشرية إليه، لا لهدفٍ سوى مشاركته للهلاك الذي يحل به. يستخدم إبليس كل وسيلة، تارة خفية وأحيانًا علانية، كتشكيك الإنسان في الله، وجذبه بالملذات.
v ماذا يعني بالقول: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم"؟ أنتم ترون أن هذا الوحش الشرير رأى أن الإنسان الأول قد خُلق خالدًا، فبسمته الشريرة قاده إلى عصيان الوصية، وبها جلب لنفسه الموت. إذن الحسد سبب خداعًا، والخداع عصيانًا، والعصيان موتًا[110].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v الحسد دائمًا ما يتبع طريق الفضيلة. وكما يقول هورس Horace بأنه حتى قمة الجبل تُضرب بالبرق. ليس بالأمر المدهش أن أعلن ذلك للرجال والنساء، عندما نرى حسد الفريسيين قد نجحوا في صلب ربنا نفسه. كل القديسين لهم من يكنون لهم رغبات شريرة، حتى الفردوس (الجنة) لم يكن خاليًا من الحية التي من خلال حقدها جاء الموت إلى العالم (رجع 2: 24)[111].
القديس جيروم
v في الواقع يوجد صراع بين الفضيلة وحسد (إبليس). واحدة لضبط كل عصب ليقهر الصلاح، والثانية تحتمل كل شيء لكي يعيش الإنسان غير خاضعٍ. واحدة تعمل لتُسهل طريق الرذيلة، والثانية تتمسك بالصلاح حتى وإن عانى الإنسان متاعب أكثر من الآخرين[112].
القديس غريغوريوس النزينزي
v "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24). قدم الشيطان الموت لنا، لكن ليس من إلزامٍ على الإنسان أن يقبله، لأنه ليس للشيطان أن يجلب عليك شيئًا. موافقتك يا أيها الإنسان قادتك إلى الموت[113].
v الآن إذ جاء الموت إلى الناس من إبليس، ليس لأنهم ذريته، وإنما لأنهم تمثلوا به، لذلك أضاف في الحال: "والذين صاروا من حزبه تمثلوا به" (راجع 2: 24)[114].
القديس أغسطينوس
v إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي... فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين، إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة، إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريضًا أصلاً. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات "لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى، فتلدغكم يقول الرب" (إر17:8).
بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت... فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه" (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ يزيفون الحقيقة على الدوام، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلاً، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه، بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين.
الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه: "أَنه يقف قدام الحاسد" (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته[115].
الأب بيامون
من وحي الحكمة 2
حياتي بين يديك!
v كل العالم يعلم أن حياة الإنسان قصيرة،
لكن إذ أتحد بك تمتد حياتي إلي الخلود.
حياتي مملوءة بالأشواك ، لكنها ليست مملة،
لأني أراك رفيقا لي وسط الآلام.
الشوك الذي توج رأسك، يعطي لآلامي عذوبة!
موتك من أجلي، أمات الموت الذي حطمني!
قيامتك قدمت لي الحياة المقامة.
v كنت أظن أنني جئت إلي العالم مصادفة،
لكنني أدركت أنك مشغول بي حتى قبل خلقتي.
اسمي منقوش علي كفيك،
أنت مشغول بي، و تبقي تعمل لأجلي،
حتى حيث تكون أنت أكون معك!
حياتي ليست للهو والمزاح،
لكن لي غاية سماوية، وضعتها لي العناية الإلهية.
v نفسي ثمينة جدًا في عينيك،
حتى جسدي، إذ يعود إلي التراب،
ترده ليحمل أمجادًا سماوية!
حملتني بكليتي من الفساد إلى عدم الفساد.
نقلتني من دائرة الموت إلى الخلود!
v لست أعيش هنا لأتمتع بلذة الأكل والشرب،
فأنت هو أكلي وشربي، وقمة سعادتي.
أترقب، متى أتمتع بك، يا أيها المن السماوي!
v سخر بك الأشرار، لأنك قدوس.
حياتك صارت ثقلاً عليهم، لأنها تدينهم.
صمموا أن يتخلصوا منك،
دبروا قتلك فقتلوا أنفسهم.
تحدِّي الأبرار حتى للموت المبكر
في الأصحاح الأول أبرز الحكيم الحكمة بكونها حياة معاشة، تهب مقتنيها البرّ الإلهي، وتدخل به إلى الحياة الخالدة، فلا يستطيع الموت أن يحطمه. هذه الحكمة هي في حقيقتها شركة مع حكمة الله، كلمة الله، ابن الله الوحيد. وفي الأصحاح الثاني يكتب في مرارة عن الجهلاء الذين لا يقبلون الحكمة، فتضيق الحياة بهم ويسيطر اليأس على قلوبهم، مع مقاومتهم الشديدة للبار القدوس والمؤمنين به. الآن في الأصحاحين الثالث والرابع يكشف عن خطة الله من نحو العالم، أو يد الله العاملة لحساب نفوس الصديقين. فإن تدابير الله لأولاده خفية، تعمل لبنيانهم.
يعالج هذا القسم مشكلة الألم في حياة الأبرار، والعواقر اللواتي حُرمن من إنجاب نسلٍ لهن، وأيضًا الذين يعانون من الموت المبكر، مقدمًا مقارنة بين مصير الأبرار ومصير الأشرار، مع إبراز قوة الأبرار وتحدِّيهم لكل الظروف – مهما بدت مُرة وقاسية - حتى للموت المبكر.
يقدم لنا عدة أمثلة عملية ليكشف لنا الحكيم عن كيفية مواجهة البار لما يظنه العالم ضيقًا، وهي:
أ. التأديب الإلهي: يمحص الله أولاده كالذهب في النار، ويقبلهم كذبيحة محرقة (6:3)، فتتحول الضيقة إلى بركة، يتقبلها البار بفرح من أجل نقاوته الداخلية، وتزكيته أمام الرب.
ب. العقر: تطويب المرأة العاقر أو الرجل الخصي إن كان بارًا. فالبرّ أفضل من أطفالٍ كثيرين. يسمح الله أحيانًا بالعقر مع الطهارة كأمرٍ مطوّب، أما ذرية الأثيم فتنقرض (13:3-16). البتولية مع الفضيلة أجمل، فإن معها ذِكرًا خالدًا، لأنها تبقى معلومة عند الله والناس (1:4).
ج. يسمح أحيانًا بالموت المبكر: فإن الصديق، وإن تعجله الموت يستقر في الراحة (7:4).
د. الشيخوخة المُكرمة: شيب الإنسان هو الحكمة، وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب (9:4).
1. بين مصيري الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار1-12.
2. تحدِّي العقم13-16.
3. تحدِّي الموت المبكر17-19.
1. بين مصيري الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار
أما نفوس الأبرار فهي بيد الله،
فلا يمسُّها أي عذاب. [1]
إن كان الأشرار يذهبون بعد الموت إلى العذاب الأبدي، فنفوس الأبرار لا يصيبها عذاب أو أذى، بل تستقر وتستريح في يد الله، تتمتع بسلامٍ كاملٍ وتنال الخلود.
لقد انطلقت نفوس المؤمنين في العهد القديم إلى الجحيم كمكان انتظارٍ، لأنه لم يكن بعد قد تم الفداء، لكنها لم تكن منزعجة، إنما في سلامٍ حقيقي كانت تترقب مجيء المخلص ليحطم متاريس الجحيم، وينطلق بها إلى الفردوس مع اللص اليمين. أما بعد الفداء، الآن تنتقل نفوس الأبرار بعد ترك الجسد إلى الفردوس حيث الاستقرار والراحة والتمتع بالأمجاد إلى يوم الرب العظيم، حيث تدخل الكنيسة المقدسة كلها إلى الملكوت الأبدي في السماء.
بقوله إن نفوس الأبرار في يد الله يعلن الحكيم ليس فقط أنه لا يمسها عذاب، وأنها تجد راحة واستقرارًا، وإنما هي موضع اعتزاز الله واهتمامه، يحفظها في يده بكونها ثمينة جدًا في عينيه.
"فهي بيد الله" (3: 1) تعني إنها في حمايته، كما جاء في تثنية "جميع قديسيك في يدك" (تث 33: 3)، وفى إشعياء عن صهيون: "وتكونين إكليل جمالٍ بيد الرب" (إش 62: 3).
v فإن الله يجد نفـوس الأبرار (إر 51: 35)، لأن نفوس الأبرار في يد الله (حك 3: 1)، أما تلك النفوس التي للأشرار فتُحسب كلا شيء[116].
العلامة أوريجينوس
v نفوس الأبرار في يد الله وهم هنا يحملون معه الصليب، وهي في يده أيضًا بعد انطلاقهم من العالم، وقد استراحت نفوسهم من الآلام، وتوقفت معارك إبليس، وصاروا في فردوس النعيم.
v لا يمكن الفصل بين الحياتين، فمع ما نجابهه من معارك روحية في هذه الحياة تشرق عناية الله علينا، ويكشف عن حبه الفائق وتدبيره لأمجادنا الأبدية.
فنعيش هنا نتحدى الألم والمرض، بل وإبليس بكل جنوده، والموت، أيا كانت وسيلته. نحيا بروح القوة لا الفشل، وبروح الرجاء لا اليأس.
v يختفي عناء كل السنين الطويلة لهذه الحياة الحاضرة عندما ننظر إلى أبدية المجد العتيد، وكل أحزاننا ستتلاشى بالتفكير في البركة العظيمة، وتصير كالبخار الذي يضمحل وكأنها لم تكن؛ تشبه البرق الذي حالما يختفي[117].
القديس يوحنا كاسيان
v لا نخاف من الفقر أو المرض أو أية ضيقة كهذه، فإننا نعرف أننا في طريقنا إلى حياة أفضل، والتي هي منيعة ضد الموت والدمار، ومتحررة من كل ظلمٍ[118].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أفرح أنا بآلامي لكي يفرحني بإشراقه.
إذ أحمل سماته في أعضائي (غل17:6)، ابتهج لأن ما احتملته قائم فيّ[119].
v تحصل علي عالم النور عوض ألمٍ مريرٍ تتحمله لأجله ليومٍ واحدٍ.
إن صبرت علي الجوع قليلاً من أجل حبه، تلتهب عندئذٍ رغبتك لرؤية وجهه.
إن ظهرت الظلمة علي وجهك من الأعمال لأجله، يجمّلك بمجده إلي أبد بلا نهاية.
إن تعريت مما هو لك، يلبسك نوره، ويخفي عنك ما هو لك.
إن تركت ما تملكه، تقتنيه في نفسك أبديًا[120].
الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)
في أعين الأغبياء يبدو أنهم ماتوا،
وحُسِب رحيلهم تعاسة، [2]
يتطلع الأشرار عادة إلى نهاية الأبرار أنها عقوبة، هذه النظرة مختلفة عن خطة الله بخصوص المكافأة والمجازاة، كما تفسد التطلع إلى الحياة المقدسة.
يرى الأشرار في رحيل الأبرار كارثة لهم، لأنهم لم ينعموا بالحياة الزمنية، وليس من عالمٍ آخر يتمتعون به. لكن الحقيقة أنهم يصيرون مع الله في سلام. يبدو الأبرار أنهم ماتوا، لكنهم بالحقيقة هم أحياء مع الله.
أما الأبرار فيترجون بفرح انطلاقهم من هذا العالم لكي يروا الرب وجها لوجه، ويشعروا بالحق أنهم في يد الله، فإنهم حتى الآن وهم في جهادهم ووسط الآلام يشعرون بعذوبة عربون الحياة السماوية. يرى العلامة أوريجينوس أن الكتاب المقدس هو في جوهره رحلة النفس البشرية من العالم إلي الأحضان الإلهية. بهذا وسط الجهاد يدركون لمسات يد الله الفائقة.
تطلع القديس غريغوريوس النزينزي إلى أخته الأكبر منه القديسة جورجونيا كنموذجٍ حيٍّ للمسيحي، وقد تأثر بها جدًا إذ كان مغرمًا بتقواها وورعها. وأوضح كيف استعدت للموت بلا خوفٍ، بل اشتاقت إليه:
v موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب 22:12، 23)... التي يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين في السماء...
v كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته في أماكن أمينة. لم تترك شيئًا وراءها سوي جسدها. لقد فارقت كل شيءٍ من أجل الرجاء العلوي. الثروة الوحيدة التي تركتها لأبنائها هي الاقتداء بمثالها، وأن يتمتعوا بما استحقته.
v هنا أتكلم عن موتها وما تميزت به وقتئذٍ لأوفيها حقّها... اشتاقت كثيرًا لوقت انحلالها، لأنها علمت بمن دعاها وفضّلت أن تكون مع المسيح أكثر من أي شيء آخر على الأرض (في 23:1).
تاقت هذه القديسة إلى التحرر من قيود الجسد والهروب من وحل هذا العالم الذي نعيش فيه. والأمر الفائق بالأكثر أنها تذوقت جمال حبيبها المسيح إذ كانت دائمة التأمل فيه.
كانت تعلم مسبقًا ساعة رحيلها عن هذا العالم، الأمر الذي ضاعف من فرحتها. ويبدو أن الله أعلمها به حتى تستعد ولا تضطرب حينئذٍ.
قضت كل حياتها لتغتسل من الخطية وتسعى لإدراك الكمال. ونالت موهبة التجديد المستمر بالروح القدس وصارت ثابتة فيه بحسب استحقاق حياتها الأولى…
لم تغفل عن التضرع من أجل زوجها أيضًا حتى يُدرك الكمال، وقد استجاب الله لطلبتها، إذ أرادت أن يكون كل ما يمت لها بصلة في حالة الكمال الذي يريده الله منا، فلا يكون شيء ناقصًا أمام المسيح من جهتها. وإذ جاءت النهاية أدلت بوصيتها لزوجها وأولادها وأصدقائها كما هو المتوقع من مثل هذه القديسة المحبة للجميع.
كان يومها الأخير على الأرض يوم احتفال مهيبًا، ولا نقول أنها ماتت شبعانة من أيام بني البشر، فلم تكن هذه رغبتها، إذ عرفت أنها أيام شريرة تلك التي بحسب الجسد وما هي سوى تراب وسراب. وبالأحرى كانت شبعانة من أيام الله… وهكذا تحررت، بل الأفضل أن نقول أنها أُخذت إلى إلهها أو هربت أو غيرت مسكنها أو أسلمت وديعتها عاجلاً.
في وقت نياحتها خيّم صمت مهيب، وكأن مماتها كان بمثابة مراسم دينية.
رقد جسدها وكأنه في حالة شلل بعد أن فارقته الروح، فصار بلا حراك.
لكن أباها الروحي الذي كان يلاحظها جيدًا أثناء هذا المنظر الرائع شعر بها تتمتم واسترق السمع، وإذ به يسمعها تتلو كلمات المرتل: "بسلامة اضطجع أيضًا وأنام" (مز8:4). مبارك هو من يرقد وفي فمه هذه الكلمات.
هكذا ترنمتِ أيتها الجميلة بين النساء، وصارت الترنيمة حقيقة. ودخلتِ إلى السلام العذب بعد الألم، ورقدتِ كما يحق للإنسانة المحبوبة لدى الله التي عاشت وتنيحت وسط كلمات الصلاح.
كم ثمين هو نصيبكِ! إنه يفوق ما تراه العين في وسط حشدٍ من الملائكة والقوات السمائية، إنه مملوء بهاءً ونقاوة وكمالاً!
يفوق كل هذا رؤيتها للثالوث القدوس، فلم يعد ذلك بعيدًا عن الإدراك والحس اللذين كانا قبلاً محدودين تحت أسر الجسد.
أرجو أن تقبل روحك هذا المديح مني كما فعلت مع أخي قيصريوس. فقد حرصت على النطق بالمديح لاخوتي.
القديس غريغوريوس النزينزي
وتركهم لنا دمارًا تامًا،
لكنهم في سلام. [3]
يتساءل البعض: هل ستكون نفوس الأبرار مرتبطة بنفوس الأشرار في موضعٍ واحدٍ، لكن الأولين يكونون مملوءين سلامًا والآخرين مملوءين مرارة وضيقًا، أم سينفصل كل طرف في موضعٍ مستقلٍ عن الطرف الآخر؟
ما نعرفه أن السيد المسيح بنزوله إلى الجحيم حطم بصليبه متاريس الهاوية، وحمل الذين ماتوا على الرجاء كغنائم دخل بها إلى الفردوس، ينعمون بأمجادٍ فائقةٍ. لكن في يوم الرب العظيم تتم دينونة عامة، يزداد مجد الأبرار بانطلاقهم مع عريسهم على السحاب كعروس واحدة مجيدة تتمتع بالدخول إلى حضن الآب.
v يا للعجب الذي يفوق الطبيعة حقًا! وقائع مذهلة!
الموت الممقوت والمشجوب قبلاً، قد أحاطت به المدائح واعتُبر سعيدًا! فبعد أن كان يجلب الحداد والحزن والدموع والغم الكئيب، ها قد ظهر علة فرحٍ، ومحط عيد احتفالي!
بالنسبة إلى جميع خدام الله أُعلن موتهم سرورًا! فإن خاتمة حياتهم هي وحدها تعطيهم اليقين بأنهم قُبلوا من الله. لهذا طوَّب موتهم لأنه يختم كمالهم، ويُظهر غبطتهم؟، حيث يطغي عليهم رسوخ الفضيلة كقول الوحي: "لا تعتبر أحدًا سعيدًا قبل موته" (سيراخ 11: 28).
لا نطبق عليكِ (يا مريم) هذا القول، لأن غبطتك لا تأتي من الموت، وموتك لم يتمم كمالك... ليس عند موتك، بل منذ هذا الحبل عينه تُغبطين من جميع الأجيال. لا، ليس الموت أبدًا من جعلكِ مغبوطة، بل أنتِ طرحتِ الموت وبددتِ كآبته وأظهرتِ أنه فرح (بالمسيح الذي ولدتيه)[121].
v الآن، لتفرح السماوات ولتصفق الملائكة!
الآن لتبتهج الأرض (مز 96: 11، 97: 1)، وليهتز البشر فرحًا!
ليدوِّ الجو بأناشيد البهجة، وليُطرح الليل الحالك الظلام الكئيب ومعطفه الحدادي، لا بل بما أنه تلألأ، فليقتدِ بلمعان النهار، بومضات النور.
ها إن المدينة الحية التي للرب إله القوات قد رُفعت إلى الأعالي، والملوك يأتون بتقدمة مُتعذر تقديرها من هيكل الرب، من صهيون الشهيرة (مز 68:30) في أورشليم العليا، التي هي حرة، وهي أمهم (غل 4: 26). وأولئك الذين أقامهم المسيح رؤساء على كل الأرض، أي الرسل، يواكبون والدة الإله الدائمة البتولية[122].
v اليوم استُردت المدينة الحية من أورشليم الأرضية إلى أورشليم العليا (غل 26:4، رؤ 10:21)!
v هذا القبر وكونه أعز من الخيمة القديمة، قد حوى المنارة الروحية الحية المتألقة بالنور الإلهي، والمائدة الحاملة الحياة التي اقتبلت لا خبز الوجوه بل الخبز السماوي، لا النار الهيولية بل نار الألوهية غير الهيولية.
v لتأخذ مريم التي هي الكنيسة الدف في يديها، ولتنشد التسبحة الخاصة بالعيد. لتخرج فتيات إسرائيل الروحي بدفوفٍ ورقصٍ (خر 15: 20)، مُطلِقَات صيحات الفرح![123]
الأب يوحنا الدمشقي
وإذ كانوا في عيون الناس قد عوقبوا،
فرجاؤهم كان مملوءًا خلودًا. [4]
يبدو عذابهم بأي نوعٍ أثناء ووجودهم على الأرض هو عقوبة من الله، لكنه في الحقيقة هو تأديب أبوي، أو اختبار لتزكية إيمانهم يهيئهم بالأكثر للتمتع بملكوت الله.
كثيرًا ما يردد الكاتب أن الأبرار يترجون الخلود أو الأبدية، ويطلبونها من الله (3: 4؛ 4: 1؛ 8: 13)، فهي نعمة مجانية يقدمها لهم الله. فالصديق يموت وهو على رجاء التمتع بالحياة الدائمة، هذه التي يُحرم منها الجهلاء الذين لا يترجون شيئًا بعد الموت.
يرى البعض أن كلمة "الخلود" تظهر هنا لأول مرة في الكتاب المقدس.
v لخدام الله سلام وحرية وراحة هادئة، فعندما ننسحب من زوابع هذا العالم نبلغ ميناء مدينتنا وأمننا الأبدي، عندما يتحقق هذا الموت نبلغ الخلود[124].
الشهيد كبريانوس
وبعد تأديبٍ يسير سيكون لهم مكافأة عظيمة،
لأن الله امتحنهم،
فوجدهم أهلاً له. [5]
تنفتح السماوات أمام المتألمين ليقفوا أمام عرش الله القدير، فيدركوا أن شئون البشر لا تسير بطريقة عشوائية، وإنما بتدبير إلهي عجيب، فالله ضابط الكل يهتم بكل ما يمس حياة الإنسان. هذا هو سّر تعزيتنا وسط الضيق. فيرددوا القول: "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 19:94)، "لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزياتنا أيضًا" (2 كو 5:1).
v طريق وصايا الله ضيقة، وأما قلب من يجري فيها فرحب ومتسع، لأنه مسكن الآب والابن والروح القدس، يسلكها جاريًا بقلبٍ متسعٍ... وأما طريق مساوئ الأشرار فمتسعة وقلوبهم ضيقة، لأنه لا موضع لله فيها[125].
أنثيموس أسقف أورشليم
v الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 14:7)، وأما القلب الذي يطوف فيه بجولة حسنة، أي في طريق وصايا الله، فمتسع ورحب بالكلمة الإلهية، وهو مقدس ويرى الله.
وعلى العكس فإن الطريق "الواسع والرحب يقود إلى الهلاك" (مت 13:7). أما القلب (الذي يسلكه) فضيق، لا يقبل أن يقيم فيه منزلاً للآب والابن (يو 23:14)، بل يتجاهل الله بسبب جهالته. هذا الإنسان يجعل قلبه ضيقًا بسبب قسوته.
لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على لوحي قلبنا (أم 4:3؛ 3:7؛ 20:22)، معلنًا بأن "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم 20:1). بقوله "الخارج" لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها الله[126].
العلامة أوريجينوس
كالذهب في التنُّور محَّصهم،
وكذبيحة محرقة قبلَهم. [6]
لا ينكر الحكيم تأديب البار، لكن إلى حين. فالألم غايته ليست التدمير بل التطهير، لإزالة كل أثر للزغب فيتنقى المعدن. بهذا يصير هذا المعدن الثمين (الإنسان) على صورة الله القدوس. حتى الذهب يمكن أن يتنقى، لكن التنقية تطلب وجود فرنٍ أو نارٍ فإن الذبائح صالحة، لكنها تُحرق بالنار لكي تُقدم ذبيحة محرقة.
وسط آلامنا يقبل الله محرقاتنا الروحية، إذا ما أشعل في نفوسنا بروحه القدوس نار الحب الإلهي التي تلهب قلوبنا داخلنا، ولا تقدر مياه كثيرة أن تطفئها. يهب داخلنا قوة القيامة ونصرتها على الألم والموت وبهجتها الأبدية.
v امتحن الله المحب فضيلة (إبراهيم) البار إلى فترة تبلغ الثلاثين عامًا. وعندما رأى الله أنه قد تنقى مثل الذهب في الأتون (حك 3: 6) إلى فترة زمنية طويلة جُعلت فضيلة هذا البار أكثر بهاءً وتألقًا، يقول الكتاب: "ولما كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الله مرة أخرى" (راجع تك 17: 1)[127].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كان الذي أعلى منك صالحًا فإنه يكون منعشًا لك، وأما إذا كان شريرًا فسيكون مجرمًا ضدك، في الحالة الأولى تقبل الانتعاش بسرور، وفي التجربة أظهر نفسك صادقًا. كن ذهبًا. أنظر إلى هذا العالم ككور الصائغ، ففي مكان ضيق توجد ثلاثة أشياء: ذهب وقش ونار. تستخدم النار للشيئين الأولين فالقش يحترق، والذهب يتنقى. يستسلم إنسان للتهديدات، وينقاد إلى معبد الأوثان. واحسرتاه! إنني أندب القش. إنني أرى الرماد. وآخر لا يذعن للتهديدات أو الأهوال، فيُساق أمام القاضي ويعترف بثبات دون أن يخضع لصورة التمثال. ماذا تفعل اللهب معه؟ أما تنقي الذهب؟ لتقفوا بثباتٍ في الرب أيها الاخوة، لأن الذي دعاكم له قوة أعظم. لا تخافوا من تهديدات الأشرار. احتملوا أعداءكم، ففيهم تجدون من تصلون من أجلهم. لا ترتعبوا منهم بأية طريقةٍ كانت.
هذه هي الصحة المخَّلصة. أخرجوا من هذا الينبوع إلى هذه الوليمة، أشربوا هنا حيث تشبعون، وليس من الولائم الأخرى التي بها تختبلون. أثبتوا في الرب. إنكم فضة وستكونون ذهبًا. هذا التشبيه ليس مني، بل من الكتاب المقدس، فقد قرأتم وسمعتم "محصهم كالذهب في البودقة وقبلهم كذبيحة محرقة" (حك 3: 6). انظروا ماذا تكونون بين كنوز الله. كونوا أغنياء بتلامسكم مع الله ليس كما لو كنتم تجعلونه غنيًا، بل تصيروا أغنياء بواسطته. دعوه يُشبعكم. لا تُدخلوا سواه في قلوبكم[128].
القديس أغسطينوس
في وقت افتقادهم يتلألأون،
وكالشَرَر بين القش يركضون. [7]
بعد الموت يتحقق الأشرار من مكافأة الأبرار الذين يمجدهم الله أبوهم السماوي. وينفضح الأشرار، لأنهم عاشوا مع هؤلاء الأبرار على الأرض في ذات ظروفهم، بل وربما نالوا خيرات أكثر منهم، ومع ذلك لم يؤمنوا بالله، ولا سلكوا بروحه القدوس.
بعد الانطلاق من هذا العالم يتلألأ الأبرار ككواكبٍ بهيةٍ، ويتمتعون برؤية الله، وشركة المجد السماوي.
إذ يتحدث عن نيران التجارب المطٌَهرة يرى في الصديقين أنهم يتلألأون بالأكثر خلال هذه النيران التي لا تحرقهم، وإنما تحرق الجزامة (التبن) الذي فيهم وسط ليل هذا العالم للتدفئة والإنارة. هذه هي خبرة الفلاحين في ذلك الحين.
هذا ومن جانب آخر، فإن نار التجارب تحٌَول الأبرار إلى أشبه بمشاعلٍ تتقد نارًا، فتحول ظلمة ليل هذا العالم إلى نهارٍ. بينما يعاني الأشرار من هلاك الظلمة، يتمتع الأبرار بالبهاء المفرح.
ومن جانب ثالث، فإنهم إذ يصيرون مشاعل ملتهبة وسط الأشرار، يشعلونهم بالنار فيهلكوا ماداموا مصممين على شرورهم. هذا ما قيل بعوبديا النبي عن بيت يعقوب وبيت يوسف، كيف يدمرون بيت عيسو كما بنارٍ مشتعلةٍ! ويكون بيت يعقوب نارًا، وبيت يوسف لهيبًا، وبيت عيسو قشًا، فيشعلونهم ويأكلونهم، ولا يكون باقٍ من بيت عيسو، لأن الرب تكلم" (عو 18).
"افتقاد" تعبير كتابي يشير إلى التدخل الإلهي، هنا يشير إلى تدخله في يوم الدينونة العظيم[129].
"يتلألأون" صورة رائعة للنصرة.
v النور أيضًا هو بهاء السماء للذين يتطهرون هنا، حينما يشرق الأبرار مثل الشمس (مت 13: 34)، ويقف الله في وسطهم (حك 3: 7)، الآلهة والملوك يقضون ويميزون رتب تطويب السماء[130].
القديس غريغوريوس النزينزي
v الله المحب الرحوم أطلق بنفسه الجسد من أسره وحرره من عبودية الهلاك، العبودية المرة المميتة، ومنحه الخلود في الأبدية. بذلك منح الجسد البشري عطية الأبدية المقدسة، فجعله خالدًا غير مائت إلى الأبد[131].
القديس إكليمنضس الإسكندري
v حقًا سيكونون ممجدين وينعمون بالسمو الملائكي لكنهم مع هذا يبقون بشريين. فيبقى الرسول بولس هو بولس ومريم هي مريم[132].
v إن كان الوعد لنا أن نكون كالملائكة، ولا يوجد بين الملائكة جنسان متمايزان، فإننا سنكون بلا تمايز جنسي كالملائكة. على أي الأحوال، فإننا إذ نقوم من الأموات نحمل الجنس الذي لنا لكننا لا نمارس وظيفة الجنس[133].
القديس جيروم
v إذ تنزع كل شهوة جسدية ولا يكون فيهم موضع للملذات الجسدية يشابهون الملائكة، مقدمين خدمة روحية غير مادية، فيصيرون كأرواح مقدسة، وفي نفس الوقت يُحسبون مستحقين لمجد يتمتع به الملائكة[134].
القديس كيرلس الكبير
v لقد دُوّن هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة "لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت (1 كو 53:15).
إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد ويشكل جديدًا. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا، هذا الجسد سيقوم لكنه لن يمكث كما هو الآن.
إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه. إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 43:13)، "وكالقمر – وكضياء الجلد (دا 3:12).
فالله العالم بعدم إيمان الناس، أعطى الديدان الصغيرة أن تخرج من جسمها شعاعات من نور حتى أنه مما نرى نصدق ما نتوقعه.
لأن الله الذي يعطي الجزء، قادر أن يعطي الكل أيضًا.
والذي جعل الدودة متألقة بالنور، يجعل بالأحرى الإنسان النقي يضيء![135]
القديس كيرلس الأورشليمي
v في الحياة الأبدية يتغذى الجميع على طعام البرّ ومشروب الحكمة، ويلتحف الجميع بالخلود، ويعيشون في بيتهم الأبدي، وتكون الأبدية ذاتها هي صحة الجميع وسلامهم وسعاتهم حيث لا خصام ولا مرض ولا موت[136].
القديس أغسطينوس
يدينون الأمم ويتسلطون على الشعوب،
ويملك الرب عليهم للأبد. [8]
الخلاص في ذهن كثير من اليهود هو تمتعهم كأمةٍ بالسيطرة على العالم كله، فيتسلطون على الشعوب في العصر المسياني. لقد فهموا مثل هذه العبارة التي في أيدينا بالمعنى الحرفي، إذ يظنون أنهم أبرار سيسيطرون على كل الشعوب الشريرة، ويلزمونهم بالتهود.
الذين يدركون أن نفوسهم في يد الله [1]، يتمتعون بروح القوة، فيشعرون أنهم ملوك في يد ملك الملوك. حياتهم تتلألأ بانعكاس مجد الله عليهم، فيصيرون ديانين للأمم الرافضة التمتع بمعية الله، ويتسلطون على الشعوب التي تظن أنها صاحبة سلطان على الأبرار.
هذا ويمكننا القول بأننا إذ نُوجد في يد الله نحكم على ما في داخلنا من أمم ونتسلط على ما في داخلنا من شعوب. نحمل سلطانًا على أفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا. بسلطانٍ نقول للأفكار الشريرة أن تخرج فتخرج، ولكل دنس أن يفارقنا فيهرب منا. كما بسلطان نطلب العواطف المقدسة والأحاسيس المملوءة حبًا وبرًا فتسمع لنا.
v لم يأتِ بهدف تحقيق عدم إيمان اليهود... كان التدبير الإلهي رائعًا... فقد استخدم خطية اليهود، ليدعُو الأمم إلى ملكوت الله بواسطة المسيح رغم كونهم غرباء عن عهود الموعد (أف 12:2)[137].
نقول نحن المسيحيين إن اليهود، بالرغم من سابق تمتعهم بعطف الله إذ كانوا محبوبين منه أكثر من غيرهم، إلا أن هذا التدبير والنعمة الإلهيين قد تحولا إلينا، عندما نقل يسوع السلطان العامل بين اليهود إلى مؤمني الأمم[138].
العلامة أوريجينوس
المتوكلون عليه سيدركون الحق،
والأمناء في المحبة سيقطنون معه،
لأن النعمة والرحمة لقديسيه،
وهو يرعى مختاريه. [9]
إذ ندرك أن نفوسنا في يد الله، لن نطلب أقل من أن نعرف الحق الإلهي.
"الحق" هنا يشير إلى المعرفة الحقيقية لله، والتمتع بالحكمة السماوية.
وإذ نعرف "الحق" الإلهي نمارس الحب كعطية روحه القدوس فينا. نسلك بأمانة فنتأهل للسكنى مع الله، ونختبر نعمته ورحمته.
v بالسخاء ذاك الذي يعطينا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها[139].
القديس إكليمنضس السكندري
v (إذ صار إنسانًا) صرنا الآن قادرين أن نقتنيه، نقتنيه هكذا بالعظمة، وبذات طبيعته (من جهة الناسوت) التي كان عليها، إن كنا نعد له مكانًا لائقًا في نفوسنا.
v المسيح الذي هو كل فضيلة، يأتي ويتكلم على أساس أن ملكوت الله في داخل تلاميذه وليس هو هنا وهناك[140].
العلامة أوريجينوس
أما الأشرار فسينالهم العقاب المُناسب لأفكارهم،
فهم الذين لم يُبالوا بالبار،
ونسوا الرب. [10]
مقابل نهاية الأبرار العظيمة نرى نهاية الأشرار المرة، حيث ينالون العقاب الأبدي لإصرارهم التام لعدم قبول عمل نعمة لله، ومقاومتهم للحق الإلهي، ورفضهم للوصية الإلهية. الأولون يتقدمون بثمر الحب في تواضع، والأخيرون يقدمون ثمر الكراهية والظلم والأنانية ورفضهم التام لحكمة الله، وسلوكهم في ضلال الشر. يقول القديس الأنبا أنطونيوس الكبير في الرسالة السادسة إن الشياطين بلا أجساد، لكننا إذ نقبل أفكارهم في داخلنا نتجاوب معهم، إنما نصير أشبه بأجسادٍ لهم. بهذا يحول عدو الخير أعماقنا إلي جحيم، ويحمل سلوكنا طبيعة عدو الخير.
v ينبغي أن تعرفوا بأننا نصير أجسادًا لهم (الشياطين) حينما تقبل نفوسنا أفكارهم المظلمة الشريرة، وعندما يصيرون هم ظاهرين بواسطة جسدنا الذي نسكن فيه[141].
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
لم يرد القديس يوحنا الذهبي الفم أن يتحدث عن موضع جهنم سوى أنها "خارج هذا العالم[142]. لكنه تحدث في شيء من التفصيل عن لعناتها. ففي إحدى عظاته يقول عنها:
[إنها بحر من النار، ليس بحرًا من ذات النوع بالأبعاد التي نعرفها هنا، بل أعظم وأعنف، بأمواج نارية، نيران غريبة مرعبة. توجد هناك هوة عظيمة مملوءة لهيبًا مرعبًا. يمكن للإنسان أن يرى النار تخرج منها من كل جانب مثل حيوان مفترس...
هناك ليس من يقدر أن يقاوم، ليس من يقدر أن يهرب.
هناك لا ُيرى وجه المسيح الرقيق واهب السلام في أي موضع.
وكما أن الذين صدر عليهم الحكم بالعمل في المناجم هم أناس عنفاء، لا يرون بعد عائلاتهم، بل الذين يسخرونهم، هكذا يكون الأمر هناك، ولكن ليس بالأمر البسيط هكذا، بل ما هو أردأ بكثير. لأنه هنا يمكن أن يقدم الإنسان التماسًا للإمبراطور طالبًا الرحمة وقد ُيعفي عن السجين، أما هناك فلن يحدث هذا. إنهم لن يخرجوا بل يبقوا، يحتملون عذابات لا يُمكن التعبير عنها[143].]
مرة أخرى يقول إن النيران هناك لا تُفني الإنسان ولا تعطى نورًا بل تحرق على الدوام[144]. إذ تتحول الأجساد المقامة المُدانة إلى عدم الموت لهذا تبقى تعانى العذابات أبديًا[145].
بالرغم من كل هذه العذابات فإن العذاب الرئيسي للمُدانين هو حرمانهم من حضرة الرب وشركة القديسين في السماء[146].
درجات العذابات مختلفة في الجحيم، تعتمد على مدى خطايا الإنسان[147]، لكن الكل يسقط تحتها أبديًا[148].
يقول: [مستحيل أن تكون عذابات جهنم غير موجودة[149].]
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه العذابات ليست لمجرد تحقيق العدل الإلهى، لكنها وضعت لحث البشرية على التوبة والامتناع عن الخطية[150].
[إن كان اللّه يهتم ألاّ نخطئ وإن ندخل في متاعب كهذه لتصحيحنا، فواضح أنه يعاقب الخطاة ويكلل الأبرار[151].]
يقول إنه يهدد بجهنم، حتى لا ُيلقى أحدًا في جهنم[152].
ماذا يعني بقوله: "العقاب المناسب لأفكارهم"؟
لعله يجيب هنا على تساؤلات البعض: إن كان الله حبًا، فكيف يعاقب الناس الأشرار بنار جهنم الأبدية؟ أين هي محبة الله اللانهائية للبشر؟ هل يبقى الإنسان في عذابٍ أبديٍ مقابل خطايا أو شرور ارتكبها لفترة زمنية؟
الإجابة على هذه التساؤلات هي أن الله الكلي الحب، وهب الإنسان كمال الحرية، وهذه أعظم عطية، بدونها يفقد الإنسان أهم سمة رئيسية تميزه عن بقية المخلوقات الأرضية. خلال هذه الحرية يُعطى إمكانية للتغير المستمر بين قبوله الحياة مع الله أبديًا، أو اعتزال الله نهائيًا. فمن يختار الشركة مع الله بجديةٍ يعطيه الله سؤل قلبه، ومن يصر على رفض الشركة مع الله لا يُلزمه بها، بل يتمم له شهوة قلبه، فيتركه ينال ما قد اختاره.
يقدم البعض أمثلة لذلك:
لو أن أبًا بذل كل الجهد مع ابنه ليحيا في جدية، لكن الابن أصر على العصيان في استهتار وتحدٍ، فإنه متى بلغ سن النضوج بشخصية غير سوية، لا يقدر أن يلوم والده، إذ أضاع الفرص لإعداد نفسه ليكون ناضجًا.
لو قدمت النصائح لصبيٍ كي يكون جادًا في دراسته مع تحذيرات كثيرة، وقد صمم على الكسل واللعب، فإذ يبلغ السن الخاص بالدراسة يجد نفسه غير كفء لمهنة لائقة، وقد ضاعت عليه فرص الدراسة، وصار الجهل ملازمًا له!
إن حذرت الأم ابنها مرة ومرات من لمس أي شيء ساخن، وفي لحظات إذ تركته حاول أن يمسك قطعة حديد ملتهبة، فإنه لا يقدر أن يلوم والدته لأن النار أصابته، وقد يبقى إلى سنوات يعالج ما ارتكبه في ثوانٍ! وربما تبقى آثار ذلك في يده كل أيام حياته!
هنا أيضًا لا ينصب اللوم إلا على الأشرار أنفسهم، لأنهم يذوقون أبديًا ما اختاروه لأنفسهم. وماذا اختاروا؟
V الاستخفاف بالبار [10].
V نسيان الرب [10].
V احتقار الحكمة والتأديب [11].
ثلاثة أمور خطيرة تحطم الأشرار تمامًا، الأمر الأول أنهم "لم يبالوا بالبار"، أي وجدوا لذة في ممارسة الظلم على البار، وبذلوا كل الجهد للخلاص منه بأي ثمن. وهم بهذا يحرمون أنفسهم من الشركة مع الأبرار والقديسين، يطلبون موضعًا آخر ليس في بار أو صديق. بهذا اختاروا جهنم وليس ملكوت الله!
أما الأمر الثاني فهو أنهم "نسوا الرب"؛ أي أعطوه القفا لا الوجه، فكيف يمكنهم أن يلتقوا به في ملكوته، أو كيف يسعدون باللقاء بمن يرفضونه بكل قلوبهم؟
والأمر الثالث هو احتقارهم للحكمة والتأديب، كما نرى في العبارة التالية:
فالذي يحتقر الحكمة والتأديب شقيّ:
باطل رجاؤهم وغير مفيدةٍ أتعابهم،
وغير مثمرةٍ أتعابهم، وغير نافعةٍ أعمالهم. [11]
إن كانت الحكمة هي تمتع بحكمة الله الأبدي، واقتناء البرّ الخالد، فإن من يرفض الحكمة، ولا يقبل خطة الله بالنسبة له، ويتذمر على التأديب، إنما يختار لنفسه الشقاء، ويفقد كل رجاء، ويصير كل تعبه بلا نفع ولا ثمر!
احتقار الحكمة والتأديب لا يقف أثره على توجيه حياة الإنسان هنا على الأرض، بل يمتد إلى الحياة الأبدية، التي هي في جوهرها قبول شركة المجد مع حكمة الله الأبدية.
من يرفض الحكمة هنا لا يطيقها هناك؛ ومن يظن أن سعادته في اللهو مع تذمره على تأديب الرب له هنا يفقد السعادة الأبدية.
نساؤهم غبيات،
وأولادهم أشرار،
وذريتهم ملعونة. [12]
"الغباوة" في الأسفار الحكمية ترتبط بالشر، فالغبي يعادل الشرير. يلتصق الأشرار بنساء غبيات أو شريرات، تنجبن أبناء وبنات يسلكون كوالديهم.
إن كان البار يطلب الحكمة عروسًا أبدية، يقترن بها، وينعم بعذوبتها وجمالها وخلودها، فإن الشرير يطلب الجهل قرينًا له، ويصير الموت رفيقه، يتحد به ويصير من حزبه.
أولاد الأبرار المقترنين بالحكمة هم ثمر الروح من محبة وفرح وسلام وصلاح ووداعة وتعفف الخ (غل 3: 23). أما أبناء الأشرار المقترنين بالجهل فهم البغضة والمرارة والتذمر والارتباك والكبرياء وكل رذيلة.
2. تحدِّي العقم
ولكن طوبى للعاقر التي بلا دنس،
والتي لم تعرف مضجعًا خاطئًا،
فإنه سيكون لها ثمر عند افتقاد النفوس. [13]
كان إنجاب الأبناء عند اليهود علامة مسرة الله بالإنسان، والعقم إشارة للعنة.
كانت كل سيدة في العهد القديم تترجى أن يأتي المسيا المخلص من نسلها، فإن كانت عاقرًا حسبها الناس غير مستحقة للبركة الإلهية. لكن الحكيم وقد انكشفت أمامه عظمة البتولية فضَّل الذين يحيون دون أولادٍ حسب الجسد مع تكريس قلوبهم وطاقاتهم لمحبة الله وخدمته على الأرض من أجل العرس السماوي عن الزواج مع إنجاب أطفالٍ.
ما يقوله عن البتول الفتاة يكرره بالنسبة للفتى، فالخصي الذي لا يستطيع الزواج وإنجاب البنين مع عدم كسره للوصية افل بممارسة الشرور يترقب المكافأة في السماء.
الإنسان البتول روحيًا هو من أحب الله من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل قدرته، فلم يعد للعالم أثر قط في أعماقه، بل تهيأت نفسه كعروسٍ بتولٍ لا تستريح إلاَّ في حضن عريسها السماوي.
v الإنسان الذي ينظر نظرة روحية صافية من خلال أوهام هذه الحياة مرتفعًا فوق صراعها مقدرًا تفاهتها مبتعدًا بالكلية عنها بامتناعه عن الزواج. هذا الإنسان تصبح ليس له شركة بعد مع شرور البشرية كالحقد والحسد والغضب والكراهية وكل شيء من هذا القبيل، إنه مُعفى من هذا كله، ويستمتع بالحرية ويعيش في سلام. لا يوجد شيء يستثير حسد جاره، فهو لا يمتلك من حطام هذه الحياة ما يتجمع حوله حسد الآخرين.
لقد ارتفع بحياته الخاصة فوق هذا العالم وصارت الفضيلة مقتناه الثمين الوحيد. سوف يقضي أيامه في هدوء وسلام غير ممزوج بالمرارة، لأن الفضيلة ثروة يشترك في ملكيتها الجميع كل حسب قدرته، وهي متوفرة لكل الذين يعطشون إليها، علي عكس ملكية الأرض في هذا العالم التي يقسمها الناس أجزاء. وكلما أضاف أحدهم لنصيبه أرضًا جديدة قلَّ نصيب فرد آخر منها بالتالي. يربح الواحد علي حساب خسارة زميله، ومن هنا تنشأ المعارك. يريد الواحد أن يحصل علي نصيب الأسد، وبذلك يجلب لنفسه بغض الآخرين إذا خدعهم. ولكن الذي يقتني البتولية لا يحسده أحد أبدًا… إن من يمتلك منها نصيب الأسد لا يسبب أي ضرر لمن يطالب لنفسه بنصيبٍ مماثلٍ. وطالما أن كلاً منهما يستطيع أن يحصل علي هذه الحياة، فكل منهما يمكنه أن ينال ما يتمناه لنفسه منها. إن ثروة الفضائل لا تنضب أبدًا[153].
v أنا أعتبر أن البتولية هي المنهج العلمي في علم الحياة السمائية تزود الإنسان بالقوة ليتحد مع الطبائع الروحية[154].
v تهدف البتولية إلي أن تخلق في النفس نسيانًا كاملاً للشهوات الطبيعية، إنها ستمنع عملية النزول باستمرار لتلبية الرغبات الجسمية. ومتى تحررت النفس مرة من مثل هذه الأمور لا تخاطر بالمباهج السمائية غير الدنسة لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به… إن نقاء القلب الذي يسود الحياة هو وحده الذي يأسر النفس حينذاك.
الشهيد كبريانوس
وطوبى للخصيّ الذي لم تفعل يده إثمًا،
ولم يفكر أفكارًا شريرة على الرب!
فإنه سينال لأمانته عطية سامية،
ونصيبًا شهيًا في هيكل الرب. [14]
بعد أن تحدث عن بتولية الفتاة تحت تعبير "العاقر التي بلا دنس"، ليعلن أن الثمر الروحي الدائم ليس مجرد إنجاب أولاد حسب الجسد، وإنما إنجاب أبناء في الرب خلال الشهادة العملية للعرس الروحي بين النفس البشرية والله، الآن يتحدث عن بتولية الشاب تحت تعبير "الخصي الذي لم تفعل يده إثمًا". وقد قدم لنا السيد المسيح دعوة للبتولية بقوله: لأنه يوجد خصيان وُلدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله؛ من استطاع أن يقبل فليقبل (مت 19: 12). يميز السيد المسيح بين البتولية التي عن عجز طبيعي، والبتولية عن استعباد، كأن يُلزم السيد عبده بذلك، أو يُلزمها بعض الفلاسفة جبرًا حيث يجعلون بعض الخاضعين لهم في ضعفٍ جنسيٍ لأجل ممارسة عبادة وثنية. وأما الثالثة فهي التي يعنيها سفر الحكمة، أي البتولية من أجل ملكوت الله، يختارها الإنسان متى كان مدعوًّا لها، قادرًا على ممارستها روحيًا كما جسديًا.
البتولية ليست غاية في ذاتها، لكنها تحدي للطبيعة البشرية خلال نعمة الله الفائقة، حيث يقبل المؤمن أن يتحدى متطلبات الجسد، ليس إذلالاً له ولا تدنيسًا للزواج، حاشا! وإنما يمارسها الإنسان كإعلانٍ عن بيع كل شيء ليقتني شركته مع عريسه السماوي على أعلى مستوى. يقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن، فيكرس كل أفكاره لمجد الرب. يقول الحكيم: "فإنه سينال لأمانته عطية سامية، ونصيبًا شهيًا في هيكل الرب" [14]. هذا أيضًا ما أكده إشعياء النبي في أناشيده للكنيسة البكر، ولكل عضوٍ يتمتع ببتولية القلب والفكر والنفس:
"ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد.
انشدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب.
اَوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك.
لا تُمسكي. أطيلي أطنابك، وشددي أوتارك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أممًا، ويعمر مدنًا خربة" (إش 54: 1-3).
"لا يقل الخصي: ها أنا شجرة يابسة، لأنه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي، ويختارون ما يسرني، وستمسكون بعهدي.
إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نُصبًا، واسمًا أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 3-5).
جاء في (إش 54: 1 الترجمة السبعينية) "اصرخي وافرحي أيتها التي لم تمخض". ويرى القديس كيرلس الكبير[155] وأيضًا ثيؤدورت أسقف قورش أنه كان من عادة القابلة أن تطلب من السيدة التي تجد صعوبة في الطلق للولادة وهي في ألم شديد أن تصرخ، ليساعدها ذلك في الولادة.
هنا نبوة عن كنيسة الأمم التي كانت وثنية بلا عريس، إذ قبلت السيد المسيح عريسًا لها تصرخ في جهادها، ولكن بروح الترنم والفرح، فتنجب أبناء كثيرين مقدسين للرب.
هكذا يليق بالبتول ألاّ يتوقف عن الجهاد بصرخات روحية قوية مع تهليل عظيم، فيلد أبناء كثيرين للرب، خلال شهادته الحية العملية.
v "لا يقل الخصي: ها أنا شجرة يابسة" (إش56: 3). في هذه العبارة يحث الخصيان على الفضيلة، ويسحق عجرفة الذين يتكئون على كثرة الأبناء لنوال المجد.
ثيؤدورت أسقف قورش
v وُعد الغنى (الروحي) للمؤمنين، وكما قيل لنا: "لم يوجد شخص واحد ضعيف بين القبائل" (راجع مز 128: 3). والآن يُقال حتى للخصيان: "لا تقل: ها أنا شجرة يابسة". فإنه عوض الأبناء والبنات لك موضع في السماء. الآن يطوِّب الفقراء... الآن يحسب الضعيف قويًا[156].
القديس جيروم
v البتولية أقوى من الموت، وهذا الكيان يُسمى بحقٍ غير مائتٍ، لأنه لا يقدم خدمته إلى عالمٍ مائتٍ، ولا يتهالك كي يصبح وسيلة نسل مائت. في جسمٍ كهذا قد توقفت عوامل التلف والموت، الذي دخلت في الإنسان الأول[157].
v البتولية ليست جهادًا ينتهي بإخضاع الجسد، لكنها تتسع في مداها حتى تشمل كل شيءٍ في النفس. إنها حالة الصحة الكاملة للنفس حتى يكون العريس الحقيقي نصيبها. لا تبتعد عن كل نجاسات الجسد فحسب، بل تجعل من هذا الزهد مجرد بدء لعملية نقاوتها على أوسع نطاق، فتحفظ ذاتها في أمانٍ من السقوط في أي ألمٍ من آلام النفس أثناء مسيرها[158].
القديس غريغوريوس النيسي
لأن ثمرة الأتعاب الصالحة مجيدة،
وأصل الحكمة لا يزول. [15]
إذ يقارن الحكيم بين ما يتمتع به الأبرار الذين نفوسهم في يد الله والأشرار محتقري الحكمة ومقاومي الحق والبرّ، الناسين الرب، يعلن أن ثمرة الأتعاب الصالحة مجيدة، وأن ما يناله الحكماء بركات أصيلة لن تزول، بل تصير إكليل مجدٍ له في السماء.
v مجيدة هي ثمرة الأتعاب الصالحة، إن كان هذا يُحسب أهلاً للصراع من أجلها وأنها جزء من السعادة الحقيقية[159].
القديس غريغوريوس النزينزي
أما أولاد الزناة فلا يبلُغون كمالهم،
وذرية المضجع الأثيم تنقرض. [16]
هنا يدعو الحكيم الجهلاء الأشرار زناة، لأنهم تركوا الحكمة العروس المحبوبة الجميلة والتصقوا بالشهوات الدنسة.
يرى العلامة أوريجينوس أن الزناة هنا هم الذين تنكب نفوسهم على شهوات الجسد وملذاته، وتترك ارتباطها بالروح، فتكون قد انحرفت عن عريسها الله بروح الزنا. مثل هذه النفوس تسمع القول المخزي: "جبهة امرأة زانية كانت لكِ، أبيتِ أن تخجلي" (إر 3: 3)[160].
v يوجد زني بالجسد، وزني آخر للنفس حينما تقيم شركة مع الشيطان. فالنفس إما أن تكون شريكة وشقيقة للشيطان أو لله والملائكة. فإن كانت تزني مع الشيطان فلا تصلح للعريس السماوي[161].
القديس مقاريوس الكبير
ربما يقصد بأولاد الزناة هنا أعمالهم التي لن تدوم، بل تبيد ويهلك معها الزناة أنفسهم.
3. تحدِّي الموت المبكر
وحتى إن طالت حياتهم،
فإنهم يُحسبون كلا شيء،
وفي أواخرهم تكون شيخوختهم بلا كرامة. [17]
إذ يلتصق الأبرار بالبرّ الخالد، ففي حكمة سماوية يتمتعون لا بطول الحياة على الأرض، بل بالخلود السماوي. أما الأشرار الزناة، فإن حياتهم وإن طالت على الأرض وصاروا شيوخًا ولهم نسل وفير، فإن هذا كله يُحسب كل شيء، ويصيرون في يوم الرب بلا كرامة.
وإن ماتوا سريعًا فلا يكون لهم رجاء،
ولا تعزية في يوم الدين. [18]
إن طال زمن حياة الأشرار أو قصر، فالزمن يعبر حتمًا، ويقفون في يوم الرب العظيم في عذاب شديد بلا تعزية، إذ لا رجاء لهم.
لأن عاقبة الجيل الشرير شاقَّة. [19]
سرعان ما يعبر زمن الملذات والكرامات الزمنية، ويقف الشرير ومن تمثَّل بشره من أولاده في شقاوة، يطلبون الجبال أن تسقط عليهم والآكام أن تغطيهم.
من وحي حك 3
في يدك أتمتع بروح القوة، فأسمو فوق الألم
وأتمتع بأمجادك
v نفسي في يدك يا أيها القدير.
تتهلل بك، يا من أنت تحفظها.
وسط الضيقات أتحدى الألم بك،
ولا أخشى المتاعب!
لأني مستقر في يديك.
هنا في وسط وادي الدموع تستريح نفسي بك،
وهناك في الأبدية لا يشغلني أحد سواك.
v أي مرعى أشهى من يدك، يا خالق الكل.
في يدك ألمس قدرتك، فأستطيع بك كل شيء.
في يدك أغوص كما في محيط حبك اللانهائي.
v أي ألم أخشاه، وأنا في يدك المجروحة لأجلي!
كيف أخشى الفقر أو المرض أو الظلم أو حتى الموت،
وأنا في يد واهب القيامة؟
في يدك يلذ لي الصليب، وأختبر قوة قيامتك.
v في يدك أتحول إلى كوكبٍ منيرٍ،
ليس لي، ليس لي،
إنما هو انعكاس بهاء مجدك عليّ.
في يدك أحيا بروح القوة،
فليس للظلمة سلطان عليّ.
v إني أعجب يا أيها الخالق كيف تهتم بي.
أنا في يدك، ماذا أطلب بعد.
لن أطلب أقل من أن أعرفك، يا أيها الحق،
لن انشغل إلا بحبك الذي يهبني الأمانة في الحب.
ترعاني بنعمتك حسب غنى نعمتك.
تحملني بيديك، وكأنني أثمن ما لديك.
مشغول بي يا من السماء والأرض لا تسعانك!
v ما لي أرى الأغبياء لا يرون يدك،
يظنونني وحدي، تحلّ بي الآلام من كل جانبٍ.
يحسبونني بائسًا وشقيًا.
ليتهم يذوقون معي عذوبتك،
ويختبرون بهجة العشرة معك.
v في غباوة لا يدركون شقاءهم وحرمانهم وفراغهم.
حقًا أن نار تأديبك تحرقهم كالقش،
لكنها تنقى الذهب المُقدس لك.
تأديباتك تحوَّل أبرارك إلى كواكبٍ بهيةٍ وسط ظلمة هذا العالم.
v شتان ما بين الذين في يدك والذين خارجها.
الذين في يدك لهم سلطان،
والذين في الخارج ينهارون.
الأولون يقدمون ثمارًا تبقى معهم إلى الأبد،
والآخرون يطلبون طول الحياة وكثرة الأبناء والأحفاد،
لكنهم يثمرون لعنة ومرارة.
الأولون يشتهون بتولية النفس زينة صادقة،
والآخرون ينشغلون بالنسل الجسدي ويعلمونهم الشر.
v يرى الأشرار في الموت عقوبة و دماراً،
وأنا أجده انطلاقة للاستقرار في أحضانك.
رحيلي من العالم هبة ومتعة.
v ذقت سلامك العجيب وأنا في العالم،
كم يكون هذا السلام في العالم الآتي.
نفسي مشتاقة أن تتمتع بشركة أمجادك.
v يشمت الأشرار بموتي، ويحسبونه عقوبة،
أما أنا فأفرح به، إذ طال انتظاري للقاء معك!
رأيتك بالإيمان في قلبي،
لأراك في الفردوس وجهاً لوجهٍ.
v سمحت لي بضيقات، فصرت كما في آتون نار.
لكن ماذا تفعل النار بالذهب؟
تحرق الشوائب وتعطي بريقاً رائعاً لنفسي!
v نار التجارب تهيئني لكي أتلألأ بانعكاس بهائك عليَ.
تهبني وسط الضيق قوة و سلطاناً.
أصير كملكٍ، أسيطر بنعمتك على أفكاري.
وأصير بكليتي مملكة لك!
ترعاني وتهتم حتى بعدد شعر رأسي.
نعمتك لا تفارقني ورحمتك تغمرني.
v لست أطلب من العالم شيئاً!
ليكن قلبي مكرساً بالتمام لك!
اقبلني كعروسٍ تدخل بي إلى حجالك!
v أخيرًا ليس لي ما أطلبه،
سوى أن استقر في يدك هنا وفي الدهر الآتي.
بين مصيري الأبرار والأشرار
أشار الحكيم في الأصحاح السابق إلى مجد البتولية بطريقة غير مباشرة خلال الحديث عن العاقر والخِصي، أما هنا فيتكلم عنها في صراحة، ويمجدها عن الزواج. حسب الحكمة البشرية الزواج أفضل حيث إنجاب الأبناء، وتخليد الذكرى لأجيالٍ طويلةٍ. أما البتولية فتخلد الذكرى على مستوى سماوي.
هنا يربط الحكيم البتولية بالفضيلة، فبتولية الجسد دون بتولية الروح وتكريس النفس لعريسها السماوي تُحسب كلا شيء.
1. ذكرى الأبرار وذكرى الشرير1-6.
2. كرامة الإنسان بقداسته لا بعمره7-20.
1. ذكرى الأبرار وذكرى الشرير
خلق الله الإنسان ليعيش خالدًا لا يمسه الموت، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، واختار الإنسان بكامل إرادته أن يقيم عهدًا مع الموت، لا مع الله واهب الحياة. الآن إذ شعر الإنسان بفقدانه للخلود تثور في أعماقه مشاعر قوية، ورغبة عارمة نحو تخليد ذكراه. استخدمت البشرية كل وسيلة لتحقيق هذا الهدف مثل إقامة أقواس النصر الفخمة، أو النحت على المعابد، أو إقامة تماثيل ثمينة، وفوق هذا كله صار الإنسان يتطلع إلى ذريته أنها خير ما يحقق دوام ذكراه. من هنا صار عدم الإنجاب - في أذهان الكثيرين - علامة لعنة وغضب الله على الإنسان. هذا بجانب ما كان ينتظره كل يهودي أن يأتي المسيا المخلص من نسله، فإن حُرم من النسل انقطع عنه هذا الرجاء.
خير الحرمان من الأولاد، والحصول على الفضيلة،
فإن في ذكرها خلودًا،
لأنها معروفة عند الله والناس. [1]
هنا يقارن الحكيم بين شرير له أبناء وأحفاد كثيرون يعتز بهم، ويظن أنهم يخّلدون ذكراه، وبين بارٍ ليس له نسل، لكنه وضع قلبه في الحياة المقدسة في الرب بكونها مقتنياته الحقيقية وموضوع خلوده في السماء.
ذرية الأشرار تشبه ثمارًا لا تدوم، حتى إن عاشوا إلى الشيخوخة يحيون حياة مخزية، أو يموتون صغار السن دون رجاء في الخلود (3: 16-19). فالأفضل أن يهتم البار بالثمار الروحية، أي بالفضيلة، بكونها نسله الروحي، ورصيده الدائم في السماء. إذ هي مكرمة وجزاؤها الخلود المطوّب. هذا ما دفع البعض إلى حياة البتولية لتكريس كل طاقاتهم للرب.
v كيف تستطيع النفس الغارفة في ملذات الجسد والمنشغلة بالاشتياقات الإنسانية فقط أن توجه نظرها إلي النور العقلي، خالية من المشاغل؟... إن عيني الخنزير اللتين تنظران دائمًا إلي أسفل لا تستطيعان رؤية عجائب السماء. وهكذا أيضًا النفس التي يدفعها الجسد إلي أسفل، لا تستطيع أن ترفع بصرها لترى الجمال العلوي، بل تتجه إلي الأشياء الوضيعة الحيوانية.
النفس التي تريد أن تكرس نظرها للتمتع بالمباهج السماوية، تلقي بما هو أرضي وراء ظهرها، ولا تشترك فيما يورطها بالحياة الدنيوية. إنها تحيل كل قوى الحب فيها من الأمور المادية إلي التأملات العقلية في الجمال اللامادي. إن بتولية الجسد تفيد في تحقيق اتجاهات مثل هذه النفس.
تهدف البتولية إلي خلق نسيانٍ كاملٍ للشهوات الطبيعية في النفس، فتمنع عملية النزول المستمر لتلبية الرغبات الجسمية. ومتى تحررت النفس من مثل هذه الأمور لا تخاطر بالمباهج السماوية غير الدنسة لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به... إن نقاء القلب الذي يسود الحياة هو وحده الذي يأسر النفس حينذاك[162].
الشهيد كبريانوس
ارتبطت البتولية في ذهن القديس غريغوريوس النيسي بالحياة السماوية، تسند الإنسان لممارسة بتولية النفس والقلب والذهن والحواس والرغبات، ينعم بها المؤمنون بالروح القدس واهب الشركة مع الآب السماوي، مقدس نفوسنا وأرواحنا وأجسادنا.
v البتولية هي باب ضروري لحياة القداسة...
هي القناة الذي تجتذب اللاهوت للشركة مع الإنسان.
إنها تقدم جناحين يسندان رغبة الإنسان في الانطلاق نحو السماويات.
هي رباط الوحدة بين ما هو إلهي وما هو بشري، بواسطتها يتم التوافق بعد حدوث هوَّة عظيمة بينهما[163].
v لقد تبرهن أن اتحاد النفس مع اللاهوت غير الفاسد لا يمكن أن يتحقق بطريق آخر مثل دخول الإنسان في هذه النقاوة العظمى. بهذا يتشبه الإنسان بالله لينال البتولية العاكسة لنقاوة الله كما في مرآة، فتمتزج صورته بالجمال خلال تلاقيه بالجمال الأمثل وتأمله فيه[164].
القديس غريغوريوس النيسي
v لا تكرم البتوليّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله[165].
القديس أغسطينوس
إذا حضرَت يُقتدى بها،
وإذا غابت يُؤسف عليها،
وفي الأبدية تُستقبل استقبال الظافر مُكللة أبديًا،
وبعد انتصارها في مباراةٍ،
لا تشوب صراعاتها شائبة. [2]
يا له من تصوير رائع للإنسان المقدس للرب، خاصة البتول الذي باع كل شيء حتى ما هو من حقه حسب الطبيعة ليقتني الاتحاد مع الله.
الإنسان الفاضل في الرب موضع إعجاب الناس في هذا العالم حتى إن قاوموه، وموضع دهشة في السماء، حيث يدخل الأبدية كملكٍ ظافرٍ انتصر في معركته ضد إبليس وملائكته بالمسيح يسوع العامل فيه.
بقوله: "إذا حضرت يقتدي الناس بها" يكشف الحكيم أن موضوع إعجاب الناس ليس الإنسان البار في ذاته، لكن الفضيلة التي تحضر معه وتتقدمه، فيشتهي كثيرون أن يقتنوها، يرونها متجلية في البار، فيقتدون به ليتمتعوا بها.
وبقوله: "وإذا غابت يشتهونها"، يشير الحكيم إلى فاعلية الفضيلة أو القداسة، فإنه حتى إن لم يروا البار بعد، ففي غيابه عنهم يشعرون كأن الفضيلة ذاتها غابت عنهم فيشتهوها. وربما يقصد هنا أن الأشرار يقارنون بين حضور الفضيلة في البار وغيابها منهم، فيشتهوها ويطلبون أن يقتنوها.
لما كانت الفضيلة في حقيقتها هي "شخص السيد المسيح" كما يقول العلامة أوريجينوس، فإنه في يوم الرب العظيم يستقبل السمائيون الكنيسة المقدسة، المنتصرة على الشر، فيرون مسيحها متجليًا فيها، حاسبين نصرتها هي نصرة المسيح. ويعتبرون إكليلها كأنه إكليل للسيد المسيح!
بمعنى آخر حياتنا على الأرض أرض معركة، طرفاها السيد المسيح وإبليس، هو يسمح لنا بالمعركة الروحية، وهو الذي يهبنا قوة الجهاد، وهو الذي ينتصر فينا، وهو الذي يُقدم لنا الإكليل، وهو الذي يُكلل فينا!
v أن تنشد المسيح, هو مثل أن تنشد الكلمة والحكمة والعدل والحق والقدرة الكلية لله. فالمسيح هو كل هذه[166].
v كما أن المخلِّص هو "البِّر" والحق والقداسة في واحدٍ, فهو أيضا "الثبات" (إرميا 17: 3 LXX). فمن غير الممكن أن تصير بارًا أو مقدسًا بدون المسيح. كما أنه من المستحيل أن "تثبت" بغيره, فهو "ثبات إسرائيل"[167].
v أنت هو البِّر, وقد تبعناك بصفتك البِّر, وأيضًا بصفتك القداسة والحكمة والسلام والحق والطريق المؤدي إلى الله, الحياة الحقيقية[168].
العلامة أوريجينوس
أما ذرِّية الأشرار الغفيرة فإنها لا تزهو،
وهي نسل نغول،
فلا تمدُّ جُذورًا عميقة،
ولا تقوم على ساقٍ راسخةٍ. [3]
بعد أن صوَّر لنا مصير الأبرار، وأن ذكراهم وإن دامت على الأرض، لكن ما هو أعظم أنها تبقى خالدة في السماء، يصيرون بالحق ملوكًا متوَّجين أبديًا، الآن يحدثنا عن مصير الأشرار.
كثيرًا ما يفتخر الأشرار بإنجابهم كثرة من الأبناء الشرعيين، وكأنهم قد حققوا النجاح في كل شيءٍ، حتى في إنجاب من يخلدون ذكراهم. لكن إذ لم يقبل الأشرار الله أبًا لهم والكنيسة أُمًا لهم يصير أبناؤهم نغول، أي أبناء غير شرعيين. يورثونهم الأمور الزمنية الفانية، ولا يقدمون لهم جذور الإيمان الحي، فلا يتمتعوا بالميلاد الجديد، الذي يقدم ساقًا راسخة وثمارًا روحية فائقة. لهذا كثيرًا ما يسلك أولاد الأشرار في الشر مثل آبائهم، وأحيانًا يزدادون عنهم في الشر. لكننا لا ننكر أن بعض الأبناء أخذوا من والديهم درسًا، وأصروا على الحياة مع الله.
وإن أخرجت فروعًا إلى حين،
فإنها لعدم رسوخها،
تزعزعها الريح،
وتقتلعها قوة الزوبعة. [4]
يفرح الأشرار إذ يرون أبناءهم وكأنهم فروع ثابتة في الشجرة، ولكن مادام الأصل نفسه غير ثابتٍ، ماذا نتوقع للفروع سوى أن تقتلها الزوابع، لذلك يقول: "إلى حين".
يشبَّه الحكيم الأشرار بالجذور التي بلا عمق في الأرض، فلا تجد غذاءً روحيًا ينعشها، لذا غالبًا ما يتشرب الأبناء أو الفروع الشر عن والديهم، فيصيروا كفروعٍ تزعزعها الرياح، وتقتلعها العواصف قبل أوان الثمر. إن أثمرت فهي لا تأتي بثمر صالح للأكل.
هكذا يحذر الحكيم الأشرار ليس فقط من الاعتماد على كثرة المال والسلطة بل وحتى على كثرة الأبناء، فإن هذه جميعها بلا نفع ما داموا ليسوا في شركة مع الله.
"الابن الجاهل غم لأبيه، ومرارة للتي ولدته" (أم 17: 25).
"الابن الجاهل مصيبة على أبيه" (أم 19: 13).
"أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي" (خر 20: 5).
"حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكنه لن يبرئ إبراء مفتقد إثم الآباء في الأبناء وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع" (خر 34: 7).
"الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة، لكنه لا يبرئ، بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع" (عد 14: 18).
"لا تسجد لهن و لا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك، إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث و الرابع من الذين يبغضونني" (تث 5: 9).
أقوال الرب هنا لا تعني أن الله ينتقم لنفسه في الأبناء عما فعله آباؤهم. لكنه يريد أن يؤكد طول أناته، فإنه يترك الأشرار للتوبة سنة فأخرى، وجيلاً فآخر، وإذ يصمم الإنسان على عمل الشر يؤدب في الجيل الثالث أو الرابع، ليس من أجل خطايا آبائهم، لكن من أجل إصرار الأبناء على السلوك الشرير بمنهج آبائهم.
فتنقصفُ فُروعها الصغيرة قبل نموِّها،
ويكون ثمرها غير نافع،
وغير ناضجٍ للأكل،
ولا يصلح لشيءٍ. [5]
يترقب الأشرار نمو أبنائهم، إذ هذا هو رجاؤهم، لكن كثيرًا ما يفسد هؤلاء الأبناء ويصيرون عبئًا على والديهم، لا يرون فيهم الثمر المطلوب، أي تحقيق خلود ذكراهم؛ حتى وإن نجحوا في ممارسة بعض أعمالهم، فإن هذا الثمر غير نافع ولا يصلح للأكل ولا لشيء آخر. هذا هو ثمر الشر في حياة الأشرار، كما في حياة أبنائهم، إن سلكوا في طريق آبائهم الشرير.
v يليق بنا أن نتذكر أنه في العالم العتيد لا يتطهر أحد من أقل أخطائه ما لم يكن يتأهل ذلك بالتطهير خلال أعماله الصالحة (النابعة عن الإيمان) التي مارسها في هذه الحياة[169].
البابا غريغوريوس (الكبير)
فإن المولودين من النوم الأثيم يشهدون
عند التحقيق بشرِّ والديهم. [6]
الأبرار حتى في علاقاتهم بزوجاتهم يحكمهم قانون العفة والطهارة، فتكون العلاقة الجسدية تعبيرًا عن الحب الطاهر النقي، والاحترام المتبادل بينهما. أما الأشرار فحتى في علاقاتهم بزوجاتهم الشرعيات يحكمهم قانون الشهوة العنيفة، وما يشغل كلاً من الزوجين هو إشباع رغبات جسدية بحتة، لهذا كثيرًا ما يتأثر الأبناء الذين هم ثمرة هذه الشهوات بشر آبائهم.
2. كرامة الإنسان بقداسته لا بعمره
يُلاحظ أن بعض الأبرار يموتون في سنٍ مبكرٍ. هنا يعطينا الله طمأنينة أنهم يتركون عالم التعب، أو وادي الدموع، ليعبروا إلى الراحة الأبدية حيث يستقرون في حضن الآب.
بهذا فإن الشيخوخة المكرَّمة ليست في كثرة السنوات، بل في ممارسة البرّ والتمتع بالحياة مع الله. فبعض الشباب من جهة السن لهم حكمة الشيوخ ووقارهم التي اكتسبوها من الله، كما أن بعض الشيوخ مع طول أعمارهم يسلكون في غباوة.
من يحب الله يتمتع بالحكمة الإلهية وينال السعادة الحقيقية، حتى في موته ينال سعادة أفضل، لا يُعبر عنها.
من يتكل على الله يهبه تحقيق حياة كاملة تفوق عمره، ويتأهل لأمجاد سماوية، بمعنى آخر يحقق في سنوات قليلة أكثر مما يحققه غيره في سنوات طويلة، ويُقال عنهم بحقٍ "مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16).
أما البار، فإنه وإن تَعجَّله الموت،
يستقرُّ في الراحة. [7]
سبق فوعد الله الأبرار بالشيخوخة الصالحة، وهدد الأشرار بالموت المبكر الشرير. وكان يليق بالمؤمنين أن يدركوا هذا الوعد وذاك التحذير روحيًا. فالبار وإن عاش يومًا واحدًا فيُحسب عند الرب كألف سنة، والشرير وإن عاش ألف سنة تكون في عين الرب كيومٍ واحدٍ بلا ثمر.
هنا لأول مرة في العهد القديم يعالج مشكلة موت أبرارٍ صغار السن، لأنه منطلق من وادي الدموع إلى الراحة مع الله. فإنه وإن مات صغير السن لكنه يُحسب كشيخٍ وقورٍ حكيمٍ مكرم بالفضائل المقدسة.
كتب القديس جيروم رسالة إلى صديقه القديم هيليودورس Heliodorus أسقف Alrirum لفقدانه ابن أخته الكاهن الصغير السن نيبوتيان Nepotian جاء فيها:
v يا ليسوع الصالح! كيف كان يئن ويتنهد! كيف أسرع وهرب من عيون الكل! فإنه للمرة الأولى والوحيدة غضب مع خاله مشتكيًا من ثقل المسئولية الملقاة عليه، الثقيلة جدًا، وأن صغر سنه لا يتناسب مع الكهنوت. ولكن قدر ما قاوم هذا بالأكثر التصق بقلوب الجميع. رفضه للكهنوت لم يجعل منه إلا أن يكون مستحقًا للعمل الذي رفض أن يحمل مسئوليته. صار بالأكثر مستحقًا إذ أعلن عن شعوره بعدم الاستحقاق. نحن أيضًا في أيامنا تيموثاوسنا (أي أشبه بتيموثاوس الشاب تلميذ الرسول بولس وقد سيم أسقفًا)، وأيضًا رأينا فيه الحكمة الصالحة كالشعب الأشيب[170].
القديس جيروم
لقد أعطى الكاتب ضوءً على ذلك من خلال قصة أخنوخ الذي أرضى الرب فنقله (تك 5: 21-24).
لم يخشَ المؤمنون الموت حتى إن جاء متعجلاً، أو تمّ بأية صورة. لم يهز الموت إيمان المسيحيين، إذ يقول المدافع تاتيان Tatian:
[وإن دمّرت النيران جسدي...
وإن بُعثر بين الأنهار والبحار،
ومزقته الوحوش الكاسرة إلى قطع،
فإنني أُجمع في مخازن الله الغنية...
وعندما يريد الله الملك سيعيد كياني المنظور بالنسبة له وحده إلى حالته الأصلية[171].]
v إن موت الأبرار صار رقادًا، بل صار هو الحياة.
القديس باسيليوس الكبير
v كثيرون من شعبنا يموتون بهذا الموت (الجسدي)، فيتحرروا من هذا العالم. هذا الموت الذي يحسبه (أهل العالم) كارثة، يراه عبيد الله رحيلاً إلى الخلاص.
يموت الأبرار كالأشرار بلا تفرقة... .لكن الأبرار يُدعون إلى الراحة، والأشرار إلى العقاب.
سلام عظيم يوهب للمؤمنين، وعقاب لغير المؤمنين[172].
v من جهة الراحة، ماذا نجد في العالم سوى حرب دائمة مع الشيطان، وصراع في معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم.
ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم في كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر علي حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد انسجامه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته.
هكذا تعاني الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه، ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تُضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيرًا هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلاً: "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلي فرح" (يو20:16).
من منّا لا يرغب في أن يكون بلا حزن؟!
من منّا لا يتوق إلى الإسراع لنوال الفرح؟!
لقد أعلن الرب نفسه أيضًا عن وقت تحويل حزننا إلي فرح بقوله: "ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 20:16). مادام فرحنا يكمن في رؤية المسيح... فأي عمى يُصيب فكرنا، و[173] سخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذي لا ينزع عنا؟!
الشهيد كبريانوس
لأن الشيخوخة المكرَّمة لا تقوم على طول الزمن،
ولا تُقاس بعدد السنين. [8]
يشمت الأشرار في الأبرار الذين يموتون صغار السن، فيحسبونهم أنهم لم يتمتعون بملذات الحياة، وفي نفس الوقت لم ينالوا كرامة الشيوخ.
يحسبون أن كرامة الشيخ في شعره الأبيض وطول سنواته وخبراته، غير أن الكرامة لا تُقاس بعمر الإنسان، ولا بمجرد خبراته، فقد تكون خبراته شريرة ويتمسك بها، حاسبًا إياها الحكمة بعينها.
v الشيخ هو من يسبق أولاً ويسمع عن العمل.
الشيخ هو من يحيا عمرًا عظيمًا في الإيمان.
الشيخ هو من يكون عمره موضع تقدير، وزمانه الطويل بلا غضن[174].
القديس أمبروسيوس
ولكن الحكمة هي شباب الإنسان،
وسن الشيخوخة هي الحياة المنزَّهة عن العيب. [9]
يشير الكتاب المقدس إلى شباب الإنسان كعلامة للقوة والحيوية، فيقول: "يتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). فالمؤمن لا يشيخ روحيًا، أي لا يلحق به الضعف والعجز. كما يشير أحيانًا إلى الشيخوخة بكونها علامة الحكمة والاتزان في التصرف، فالمؤمن يحمل روح الشباب في العمل، وروح الشيوخ في أخذ قراراته.
هنا يعلن الحكيم أننا لكي نحمل هذا الروح نتطلع إلى الحكمة بكونها قائدة لنا في عملنا، فنعمل بقوةٍ، ولكن ليس بطيشٍ، ونتطلع إلى الحياة المنزهة عن العيب بكونها سندًا لنا في أخذ قراراتنا الحكيمة؛ إذ لا انفصال بين الحكمة والبرّ.
يقدم لنا القديس بالاديوس صورة رائعة لعدم اتكال القادة الروحيين على شيخوختهم، فقال عن الشيخ العظيم مقاريوس السكندري: [انتهزتُ فرصةً في أحد الأيام، وجلستُ عند باب الشيخ الذي كان حينئذٍ قد تقدّم جدًا في أيامه إذ بلغ المائة عام. وكنتُ أتصور أنه أكبر سنًّا من جميع الناس وأكثرهم قداسةً، وكان قد فقد أسنانه كلها. كان بمفرده إلاّ أنني ظللتُ أُنصتُ، فسمعته يتكلم ويتحرك إذ كان يصارع مع نفسه ومع الشيطان. فكان يقول لنفسه: ’ماذا تريد أيها العجوز الشرير؟ لقد صار لك زيتٌ وخمرٌ فماذا تريد أيضًا أيها العجوز الأشيب الشَّرِه؟‘ هكذا كان ينتهر ذاته. ثم يقول للشيطان أيضًا: ’هل أنا لا زلتُ مدينًا لك بشيء؟ إنك لن تجد فيَّ شيئًا يخصك! ابعد عني‘. وكما لو كان يُهمهِم ما انفكّ يقول لنفسه: ’تعال أيها الأشيب العجوز الشهواني أيها الفرس الخائن، إلى متى أبقى معك‘؟[175]]
v كما أن ليس كل الشباب متشابهين من جهة غيرتهم في الروح أو متساوين في تعلمهم التعاليم والآداب القويمة، كذلك أيضًا ليس كل الشيوخ متشابهين في الكمال والفضيلة.
فالغنى (الروحي) الحقيقي لا يقاس بشيبة الرأس، بل بالجهاد منذ الصغر وحسب أكاليل أعمالهم السابقة...
لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام، ولا تقدر بعدد السنين. "ولكن شيب الإنسان هو الفطنة، وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب" (حك 9:4)...
على ذلك فليس لنا أن نقتدي بأي شيخ غطى الشيب رأسه... بل نتبع آثار أولئك الذين امتازوا منذ صباهم بالحياة اللائقة المستحقة كل ثناء، الذين تدرّبوا حسب تقاليد الآباء، وليس حسب ذواتهم.
عبر البعض إلى الشيخوخة بالفتور والكسل، هؤلاء يوبخهم الله بالنبي قائلاً: "أكَلَ الغرباء ثروته وهو لا يعرف، وقد رُشَّ على الشيب، وهو لا يعرف" (هو 7: 9)... هؤلاء يستخدم الشيطان شيبتهم لخداع الشبان، عن طريق مظهر وقارهم الخاطئ، خادعًا من كان يلزم أن يجتهدوا في طريق الكمال بواسطة نصائحهم... مسقطًا إياهم (الشبان) في عدم الاكتراث أو اليأس المميت، وذلك عن طريق تعاليم أمثال هؤلاء الشيوخ وأعمالهم[176].
الأب موسى
أصبح مرضيًا عند الله، فكان محبوبًا،
وإذ كان يعيش بين الخاطئين، نُقِل [10]
يتحدث هنا عن أخنوخ الذي كان بارًا، فأحبه الرب، ونقله من بين الخاطئين. ويقول الكتاب: "من وجه الشر يُضم الصديق" (إش 57: 1).
يقول عنه ابن سيراخ:
"لم يُخلق على الأرض أحد مثل أخنوخ، الذي نُقل عن الأرض" (سيراخ 49: 16).
"أخنوخ أرضى الرب فنُقل، وسينادي الأجيال إلى التوبة" (سيراخ 44: 16).
v صالحة هي أجنحة الحب، الأجنحة الحقيقية التي ترفرف على أفواه الرسل؛ أجنحة النار التي تنطق بالكلام النقي (أع 2: 2-3). على تلك الأجنحة طار أخنوخ حين أُختطف إلى السماء (تك 5: 24) [177].
v طلب أخنوخ الله في رجاءٍ، ومن ثم يُظن أنه قد نُقل، هكذا يبدو الإنسان "إنسانًا" فقط حين يضع رجاءه في الله. أيضًا المفهوم الواضح والحقيقي للنص (تك 5: 18-24) هو أن من يضع رجاءه في الله، لا يسكن على الأرض، بل يُنتقل، ومن ثم يلتصق بالله[178].
القديس أمبروسيوس
v يظهر هذا الحدث (نقل أخنوخ) أن إنسانًا واحدًا بارًا أكثر معزَّة لدى الله من خطاةٍ كثيرين[179].
القديس أغسطينوس
نعم، خُطِفَ لكي لا يُفسد الشر فهمه،
ولا يُغويَ الغش نفسه. [11]
كثيرًا ما يسمح الله بموت شخصٍ في سنٍ مبكرة، لأن الله يحبه ويراه قد نضج روحيًا وتأهل للإكليل. وأيضًا إذ يرى الشر يتفاقم حوله، يختطفه حتى لا يُفسد الشر أفكاره ومفاهيمه. وإذ يحاصره الغاشون المخادعون، لا يتركه حتى لا يتسلل الخداع إليه. ما يشغل قلب الله لا مدة حياة الإنسان على الأرض، بل استعداده للمجد الأبدي.
يرى بعض الآباء أن بقتل هابيل تحطمت نفسية آدم لذلك أراد الله أن يعزيه فسمح له أن يرى أخنوخ البار يُنقل من الأرض إلى السماء كإنسانٍ محبوب لدى الله، وعزيز لديه جدًا.
v يقول البعض إنه بينما كان آدم يتطلع (إلى أخنوخ) نقله الله إلى الفردوس، لئلا يظن آدم أن أخنوخ قد قُتل مثل هابيل فيحزن عليه. حدث هذا أيضًا لكي ما يتعزى آدم بابنه البار هذا، ويدرك أن كل من يتمثلون به، سواء قبل الموت أو بعد القيامة، فسيكون لقاؤهم في الفردوس[180].
القديس مار أفرآم السرياني
v تخص هذه العبارة الذين بعد أن تعمدوا، ونموا في الحياة التقوية لم يُسمح لهم بالبقاء زمانًا طويلاً على الأرض – إذ صاروا كاملين ليس خلال طول السنوات، وإنما خلال نعمة الحكمة السماوية[181].
القديس أغسطينوس
v هذا كان مسرًا في عينيّ الله أن أخنوخ قد تأهل أن ينطلق من سُم هذا العالم. لكن يعلمنا الروح القدس أيضًا خلال سليمان أن الذين يسرون الله يؤخذون من هنا في سن مبكر، ويتحررون سريعًا، لئلا خلال بقائهم لزمنٍ طويلٍ في هذا العالم يفسدون بواسطة التعامل مع العالم[182].
الشهيد كبريانوس
v إن كان لا يحزن أحد على أخنوخ الذي انتقل (تك 5: 24) حينما كان العالم في سلامٍ، ولم تكن الحروب قد اشتعلت، وإنما بالحري يهنئه، كما يقول الكتاب عنه: "خُطف لكي لا يُفسد الشر فهمه" (حك 4: 11)، فكم بالأكثر يمكن أن يُقال هذا بأكثر تبرير حيث كثرت مخاطر العالم للحياة غير المستقرة؟
لقد خُطف لكي لا يسقط في أيدي البرابرة، لقد أُخذ لكي لا يرى دمار الأرض كلها، ونهاية العالم، ودفن أقربائه، وموت زملائه المواطنين، وفوق كل هذا وأكثرهم مرارة من أي موت، لئلا يرى العذارى والأرامل القديسات يُفسدن[183].
القديس أمبروسيوس
لأن سحر الباطل يغشِّي الخير،
وتجوال الشهوة يفسد العقل البسيط. [12]
يقدم لنا الرسول بولس تحذير لكي يكون لنا روح التمييز فلا ندخل في خلطه مع الأشرار، ولا نسكن معهم تحت سقف واحد، لكن نحبهم ونخدمهم ونطلب خلاصهم بالصلاة والصوم، دون أن نسقط في إدانتهم.
يعلم الله خطورة الشر والفساد، وكيف يتعرض بعض الأشخاص للسلوك في الشر خلال احتكاكهم بالأشرار. وكما يقول الرسول: "لا تضلوا فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 15: 33). فالشر كالسحر يحاول أن يفسد الخير، ويسيطر على العقول البسيطة.
قدم لنا القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه: "ضد الوثنيين" عرضًا عن الشهادة العملية من خلال حياة الآلهة عن الفساد والشهوات والخسة التي اتسمت بها، وقد ذكر أمثلة كثيرة لذلك[184].
v إننا نرى أناسًا هادئين ووقورين عندما دخلوا في صداقة مع شعبٍ مشاغبٍ ومعيب، فسدت أخلاقهم الصالحة خلال المناقشات الشريرة. يتحولون إلى أناسٍ من ذات نوعية المنحدرين بكل نوعٍ. هذا يحدث أحيانًا مع أناسٍ ناضجين، برهنوا على أنهم عاشوا في شبابهم في أكثر طهارة من حياتهم وهم في سنٍ متقدمة حيث حانت لهم الفرصة لحياة متسيبة[185].
v أبذل كل الجهد أن تعتزل الشخص الشرير، فإنه ما أن يرحل عنك حتى يسكن المسيح فيك[186].
العلامة أوريجينوس
بلغ الكمال في زمن قليل،
استوفى زمانًا طويلاً. [13]
مع اشتياق الله إلى حفظ حياة أبنائه الأبرار حتى لا يتسلل إليها الشر، فإن هؤلاء الأبرار استطاعوا البلوغ إلى الكمال في زمنٍ قصيرٍ، فحققت حياتهم رسالتها، وصارت في عينيّ الله كأنها حياة طويلة؛ إذ يوم عند الرب كألف سنة (مز 90: 4).
كتب القديس جيروم إلى سالفينا Salvina يعزيها في موت رجلها نيبريديوس Nebridius وهو من رجال القصر الملكي، وكان صغير السن، لكن ما فعله جعله مع صغر سنه شيخًا وقورًا. جاء فيها: [رقد في الرب، رقد مع آبائه، مملوء أيامًا ونورًا كمن في شيخوخة صالحة. لأن "الحكمة هي شيبة الشعر عند البشر" (راجع حك 4: 9). في وقت قصر حقق زمنًا طويلاً (راجع حك 4: 13).
وكانت نفسه مرضية عند الرب،
ولذلك فقد أخرجه سريعًا من بين الشرور.
وأبصر الشعب ولم يفْقَه،
ولم يخطر بفكره. [14]
إذ كانت حياته موضع سرور الله ورضاه، أسرع الرب بإخراجه من وسط الشرور، حتى وإن لم يدرك شعبه سرّ انتقاله السريع.
أخيرًا فإن موت الأبرار في سنٍ مبكرٍ هو نعمة ورحمة من قبل الله، وافتقاد إلهي لهم.
كتب القديس جيروم إلى السيدة ثيؤدورا يعزيها في وفاة رجلها البار لوسينيوس Lucinius جاء فيها:
v كما ورد في سفر الحكمة، قد أُخذ لئلا يغير الشر فهمه، لأن نفسه تسر الرب، وفى وقت قصير حقق زمنًا طويلاً (راجع حك 4: 11-14). بحقٍ يليق بنا أن نبكي نحن على حالنا أننا في كل يوم نصارع مع خطايانا، إذ نتلطخ برذائل، وتحل بنا جراحات ونحن نقدم حسابًا عن كل كلمة بطالة (مت 12: 39). الآن وهو منتصر ومتحرر من كل قلقٍ، يتطلع إلينا إلى أسفل وهو في العلا، يعيننا في جهادنا؛ لا بل ويعد لكِ مكانًا بجواره، فإن حبه لكِ وحنوه عليكِ لا يزالا كما هما. لا يتطلع إليكِ بكونه زوجًا، بل كما قرر أن يتعامل معكِ حتى وهو على الأرض كأختٍ له[187].
v ربما قد أُخذ (انتقل)، لئلا يَّغير الشر فهمه... لأن نفسه قد سرَّت الرب، لذلك أسرع أن يأخذه من بين الناس (راجع حك 4: 14)، لئلا في رحلة حياته الطويلة يدخل في متاهات غير مطروقة.
بالحق يلزمنا أن نحزن على الموتى، لكن فقط على الذي تتلقفهم جهنم ويفترسهم الجحيم.
أما نحن إذ في رحيلنا نكون في رفقة ملائكة حراس، ونلتقي بيسوع المسيح، يلزمنا بالأحرى أن نحزن أننا نمكث طويلاً في خيمة الموت (2 كو 5: 4). فإننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب" (2 كو 5: 6). شوقنا الوحيد هذا الذي عبَّر عنه المرتل: "ويل لي، فإن غربتي طالت عليّ..."[188].
القديس جيروم
أن نعمته ورحمته لقديسيه،
وافتقاده لمختاريه. [15]
يتميز أولاد الله بالحكمة الحقيقية، فيدركوا مقاصد الله، وتتكشف لهم خطته من نحوهم، أما الأشرار المتمسكون بخطاياهم والمعتمدون على عقولهم وحدها وعواطفهم فيعجزون عن إدراك مقاصد الله.
يتمادى الأشرار في شرهم فيخطئون في تقييمهم لأحداث الحياة. يرون في الحياة البارة والعبادة والخدمة حرمانًا من التمتع بشهوات العالم كما يتمتعون هم، فيتهمون الأبرار بالجهالة والغباوة، لأنهم لا يشاركونهم ملذاتهم. بينما هم يتمادون في شرورهم، إذا بالرب من السماوات يستهزئ بجهلهم.
v قد يظن الشعب الذي من خارج الكنيسة أننا حزانى، لكن في الواقع نحن دائمًا فرحون. نبدو كأننا فقراء، وفي الحقيقة لدينا غنى لا يُعد روحيًا وماديًا. كالعادة الحياة المسيحية هي النقيض تمامًا لما يظهر على السطح[189].
القديس يوحنا ذهبي الفم
v روح الإنسان القديس تنتعش بالتفكير في الأمور التقوية وممارستها، فإن الروح تكافح من أجل ما هو صالح (وتجد فيه مسرتها)[190].
القديس ديديموس الضرير
لكنه إذ يحل الموت يتغير الوضع تمامًا، لا تعود توجد فرصة للإصلاح، فيحل اليأس بالأشرار، ويمتلئون بؤسًا ومرارة، ويطأطئون رؤوسهم في خزي، لأن الموت قد اقتلعهم من شهواتهم وأفكارهم الشريرة التي لم تنفعهم. تصير ذكراهم على الأرض نفسها عارًا وخزيًا.
لحظات الموت بالنسبة للأشرار مفزعة للغاية، إذ تحل لحظة الكشف عن الحقيقة ورفع الستار عن كل خداع.
بعد الموت يصير الأشرار في فزعٍ يتقدمون من خوفٍ إلى خوفٍ؛ تستد أفواههم لتنطق آثامهم نفسها شاهدة ضدهم.
لكن البار الذي مات يَدين الأشرار الباقين أحياء،
والشيبة التي انقضت بسرعة،
تحكم على شيخوخة الأثيم الكثيرة السنين. [16]
أبرز بركات الموت المبكر بالنسبة للأبرار حديثًا وعن فاعلية هذا الأمر وأثره على الأشرار، إذ في موت الأبرار المبكر تبكيت لهم، فمع سرعة انتقالهم، إلا أنهم قاموا بأعمال لم يقم بها الشيوخ الأشرار. لقد انتهت حياتهم على الأرض سريعًا، لكنها تبقى شاهدة على الشيخوخة الأثيمة التي لم تقدم ثمرًا لائقًا.
فإنهم يبصرون آخرةَ الحكيم،
ولا يفقهون ماذا أراد الرب في شأنه،
ولماذا جعله في أمان. [17]
يتطلع الشيوخ الأشرار إلى الأبرار في مرارةٍ، ويقارنون أنفسهم بهم، هؤلاء الذين ماتوا في حداثة سنهم. فإنهم وهم شيوخ يخشون الموت ويرهبونه، بينما كان الأبرار في أمانٍ وسلامٍ حتى في تسليم أرواحهم.
يقف الأشرار في دهشة، وكما يقول المرتل: "لتبكم شفاه الكذب المتكلمة على الصديق بوقاحة بكبرياء واستهانة" (مز 31: 18). "لأن سواعد الأشرار تنكسر وعاضد الصديقين الرب" (مز 37: 17). ويقول الحكيم: "الصديق ينجو من الضيق ويأتي الشرير مكانه" (أم 11: 8)، "لا يثبت الإنسان بالشر، أما أصل الصديقين فلا يتقلقل" (أم 12: 3). "لا يصيب الصديق شر، أما الأشرار فيمتلئون سوءا" (أم 12: 21).
v إن أثبت أحد أن عمله باق (1 كو 3: 14)، فسينال أجرته. سيكون مثل الثلاثة فتية في أتون النار (دا 3: 1-10)، ينال أجرته حياة سماوية مع مجدٍ[191].
v أولئك الذين يُدعون في سلام يلزمهم أن يهدفوا نحو طول الأناة حتى لا تُكسر قوانين السلام[192].
الأب أمبروسياستر
v الإنسان الذي سلاحه من ذهب يعبر خلال نهرٍ من النار، ويخرج مضيئًا بأكثر بهاءٍ، أما الذي يعبره ومعه قش، فسيفقده وهو نفسه يهلك معه[193].
v إذ تتكثف محبتنا لمجيء الله لا يوجد أي نوع من الخطايا لا يدمر![194]
القديس يوحنا ذهبي الفم
يُبصرون ويَزدرون،
ولكن الرب يهزأ بهم. [18]
يدخل الأشرار في صراع بين تلامسهم مع أمان الأبرار وسلامهم الداخلي، وبين ادعائهم أنهم يتظاهرون بالسلام، وقد فقدوا كل شيء! يستخفون بحياة الأبرار، فيهزأ الرب بهم. وكما يقول المرتل: "الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم" (مز 2: 4).
وبعد ذلك يصيرون جُثة حقيرة،
وعارًا بين الأموات أبد الدهور.
فإنه يُحطمهم صامتين مُطرِقين برؤوسهم،
ويُزعزعهم من أسسهم،
ويُتركون بورًا حتى النهاية،
ويكونون في العذاب وذكرهم يزول. [19]
مهما طل عمرهم فإنهم يومًا ما يصيرون جثة حقيرة، يموتون بلا رجاء في التمتع بالأمجاد الأبدية. يدخلون القبور في عارٍ وخزيٍ، في صمتٍ يطرقون رؤوسهم إلى أسفل، إذ ليس لديهم حجة للشر الذي ارتكبوه. يزعزع الموت أساساتهم، إذ وضعوا كل رجائهم في الزمنيات، ويصيرون أشبه بصحراءٍ قفرٍ بلا ثمر. يدخلون إلى العذاب الذي ينتظرهم، وتزول ذكراهم نهائيًا.
يضيف هنا مصير الأشرار بعد الموت وقبل حلول يوم الدينونة، الأمر الذي كثيرًا ما صوره سفر إشعياء النبي:
"وأما أنت فقد طُرحت من قبرك كغصنٍ أشنع كلباس القتلى، المضروبين بالسيف، الهابطين إلى حجارة الجب، كجثةٍ مدوسةٍ" (إش 14: 19).
"ويخرجون ويرون جثث الناس الذين عصوا عليَّ، لأن دودهم لا يموت، ونارهم لا تُطفأ، ويكون رذالة لكل ذي جسدٍ" (إش 66: 24).
وإذا حُسبَت خطاياهم يأتون خائفين،
وآثامهم تتهمهم في وجوههم. [20]
يترقبون يوم الدينونة في رعبٍ شديدٍ، لأن الذي يدينهم هو آثامهم. إن كان الرب هو الديان، لكنه رحوم، ويطلب خلاص الكل! أما هم فأعطوا الله القفا، وأعطوا الآثام الوجه، فسقطوا في ثمر الآثام التي اختاروها بإرادتهم الحرة.
هنا يقدم لنا سفر الحكمة مفهومًا رائعًا لغضب الله ودينونته للأشرار، فإنه ما كان يريد هلاك أحدٍ، لكنه يقدس حرية الإرادة، فمن يلقي بنفسه في الهلاك بإرادته يجني ما اشتهاه.
v "أدخلوا إلى الملكوت، لأني كنت جوعانًا فأطعمتموني" لذلك ستدخلون إلى الملكوت ليس لأنكم لم تخطئوا، بل لأن بإحسانكم أزلتم خطاياكم. كذلك للآخرين: "اذهبوا إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته". هم أيضا خطاة إذ أنهم متأصلون في خطاياهم ومتأخرون في خوفهم منها. عندما يعرضون خطاياهم أمام عقولهم، هل يستطيعون من أية جهة أن يتجاسروا فيقولوا إنهم يُدانون بغير حقٍ، وأنه قد أعلنت هذه العبارة الصادرة من قاضٍ بارٍ كهذا ضدهم بدون استحقاق؟ فبالنظر إلى ضمائرهم وكل جراحات أرواحهم، كيف يجسرون فيقولوا إننا نُدان ظلمًا؟ لقد قيل عنهم في سفر الحكمة: "آثامهم تتهمهم في وجوههم" (حك 4: 20) سيرون بلا شك أنهم يدانون بعدل عن خطاياهم وشرورهم. ومع ذلك مكانه يقول لهم أنه ليس بسبب ما تفكرون فيه بل "لأني كنت جوعانا فلم تطعموني" فلو ابتعدتم عن كل أعمالكم هذه والتفتم إليّ لخلصتم من كل جرائمكم وخطاياكم باحساناتكم، لخلصتكم الآن احساناتكم وبرأتكم من الخطايا العظيمة لأن "طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون" (مت 5: 7) ولكن الآن "اذهبوا إلى النار الأبدية، لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة" (يع 2: 13)[195].
القديس أغسطينوس
من وحي حك 4
لأقتنيك يا أيها البرّ الخالد!
v خلقتني على صورتك،
فتشتاق نفسي إلى الخلود.
لكن امتدت يدي لتسجل عهدًا مع الموت!
عوض العهد معك يا أيها الحياة،
اخترت بإرادتي أن أنضم إلى حزب الموت،
وصارت الظلمة مع الفساد والظلم دستوري.
v أتيت إليّ، وشاركتني طبيعتي.
أحببتك، لأنك بادرت بالحب نحوي.
لأقتنيك، يا أيها الخالد.
لست أطلب طول عمر،
ولا كثرة ذرية،
ولا ذكريات على الأرض.
فأنت كل كفايتي وشبعي!
v أقدم لك نفسي بكل طاقتها،
وجسدي بكل أعضائه وأحاسيسه،
فأصير بالحق بتولاً.
روحك القدوس يجددني ويجٌَملني،
يهيئني كعروسٍ سماوية خالدة!
v تشرق بنورك عليٌ،
فتصير أنت بٌَري، وقداستي، وخلاصي!
اشتهيت أن أقتنيك بكل كياني،
فتهرب الخطية من أعماقي.
تحلّ فيّ بنعمتك،
فلا أعرف غير النصرة الدائمة،
مع السلام الداخلي وسط المعركة،
والشبع بك.
v أصير بنعمتك شاهدًا لعمل خلاصك،
فيود الكثيرون أن يقتنوك!
ويرجع كثير من الأشرار إليك!
v قلبي لن يستريح،
حتى تستريح أنت في البشرية.
تحزن نفسي على من وضعوا قلوبهم في ذريتهم.
وسكبوا روح الشر فيهم،
صاروا فروعًا بلا ساقٍ ثابت.
صاروا عصافة تبددها الريح.
عوض تخليد ذكرى والديهم،
صاروا غمًا ومرارة لهم.
v لست أطلب ذكرى في العالم،
ولا أشتهي طول العمر هنا.
يوم واحد معك تحسبه كألف سنة.
نعمتك الغنية تقيم مني عجبًا!
ليأتِ الموت، فإنه لن يرعبني!
ها أنت تُعد لي الراحة الأبدية!
v لست اطلب وقار الشيخوخة الظاهري،
إنما أطلب نعمتك واهبة الحكمة.
تهبني بروحك القدوس قوة الشباب،
وبه أتمتع بحكمة الشيوخ.
v أرفع عيني، فأرى حبيبك أخنوخ عندك،
نقلته إليك، لأنه التصق بك.
حملته من وسط الأشرار،
حتى لا تتعذب نفسه بأفعالهم الأثيمة
خطفته من بين معاصريه،
لتحفظه لعملٍ عظيمٍ يوم مجيء ضد المسيح.
افتقدته نعمتك لينعم بأمجادٍ عظيمة!
v أخيرًا ماذا أطلب سوى أن أستقر في حضنك.
احفظني فيك، يا من بادرتني بحبك.
صيحات النصرة وصرخات الندم
عالج الحكيم في الأصحاح السابق موضوع "الموت المبكر لبعض الأبرار"، وكيف يسمح به الله أحيانًا من أجل إنقاذهم، وعدم تسلل الشر والخبث إليهم، وأن هذا الموت يصير دينونة للأشرار الذين حتى في شيخوختهم يخشون الموت. الآن إذ يدين موت الأبرار الأشرار، يندم الأشرار، لكن للأسف كثيرًا ما لا يبالي الأشرار بذلك، فلا يرجعون إلى الرب.
الآن في هذا الأصحاح يؤكد أن دينونة الشرير نهائية ومرة. تعبر حياة الشرير كالظل، أشبه بالأثر الذي تتركه السفينة السائرة وسط الأمواج يختفي سريعًا، وكالطريق الذي يشقه الطير في الهواء فلا يترك علامة له، أو كطريق سهمٍ يخترق الهواء ولا يعرف ممره، أو كغبار تذهب به الريح الخ.
1. الأبرار يدينون الأشرار1-7.
2. مراجعة يائسة 8-14.
3. أكاليل الأبرار15-23.
1. الأبرار يدينون الأشرار
حينئذ يقوم البار بجرأة عظيمة،
في وجوه الذين ضايقوه،
واحتقروا أتعابه. [1]
إنه لأمر طبيعي أن يسخر الأشرار بالإنسان البار، فقد قيل عن لوط أنه "كان كمازحٍ في أعين أصهاره" (تك 19: 14).
يفتح هذا الأصحاح الستار عن الأبرار بعد خروجهم من هذا العالم. فإنهم يقفون في جرأة أمام الأشرار الذين ضايقوهم. لقد اتهمهم الأشرار بالغباوة والجهل، بل والجنون، حين كانوا يبذلون حياتهم من أجل الحياة المقدسة في الرب وممارسة البنوة لله وانتظارهم للمجد الأبدي.
سيكتشف الأشرار أن الله لا ينسى كأس ماء بارد قدمه بار من أجل حبه لله، وأنه سيمسح كل دمعة من عينيه. ومن الجانب الآخر، يدركون أن الله قد أطال أناته جدًا عليهم وقد امتلأ كأس الغضب عليهم.
مما يزيد الأشرار مرارة في يوم الدين أنهم يرون الأبرار - موضوع سخريتهم وظلمهم - يتمتعون بالخلاص وشركة الأمجاد. يكتشفون خطأ نظرتهم إليهم كما يدركون خطأ نظرتهم لحياة الشرير وسلوكه.
يتطلع الحكيم إلى يوم الرب العظيم، فيرى البار يقوم في جرأة عظيمة كابن لله، يترقب التمتع بكمال المجد. يراه الذين ضايقوه واستخفوا به وبأتعاب جهاده، فتتغير الأوضاع حيث يصير هو في مجدٍ فائقٍ، ويحل الخزي بمقاوميه.
v لا يعرف الذين يسبوننا من نحن، بكوننا مواطني السماء، وأننا مُسجَّلون في المدينة العليا، رفقاء خوارس الشاروبيم. لهذا ليتنا لا نحزن، ولا نحسب إهانتهم لنا إهانة، فلو عرفونا لما أهانونا. هل يحسبوننا فقراء ومُحتقرين؟ لا نحسب هذا إهانة!
اخبرني، لو أن مسافرًا بصحبة خدمه، سبقهم وأقام في فندق لمدة بسيطة ينتظرهم، وأن صاحب الفندق أو بعض المسافرين تصرفوا معه بطريقة فظة وشتموه، أما يسخر بجهلهم له؟ أما يسبب له خطأهم مسرة؟ أما يشعر بنوعٍ من الكفاية كأن الشتيمة موجهة إلى شخصٍ آخرٍ غيره؟
لنسلك نحن هكذا. فإننا نحن أيضًا جالسون في فندق ننتظر أصدقاءنا الذين يسلكون ذات الطريق، عندما نجتمع كلنا معًا، عندئذ سيعرفون من هو هذا الذي شتموه. هؤلاء الرجال سوف يطأطئون رؤوسهم ويقولون: "هوذا الذي كما نحن الأغبياء نسخر به (راجع حك 5:3)[196].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ففي يوم الرب العظيم يأتي السيد المسيح كديان، لا يقدر الذين استخفوا أن يتطلعوا إليه. وهكذا يقف الأنبياء والرسل وكل الكنيسة الذين اضطهدهم الأشرار في العالم ليدينوا الشر والأشرار. وكما يقول السيد المسيح: "فقال له يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيا، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (مت 19: 28). "لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (لو 22: 30).
للقديس مار يعقوب السروجي تصوير غربب عن يوم الدينونة، ولعله إذ يرى أن الرب كلي الحب لذلك لا يُسمح للأشرار أن يلتقوا به حتى لا يطلبوا رحمته، بل يُسمح لهم برؤية الرسل الممجدين مما يزيدهم مرارة، ويقوم الرسل بإبلاغ الحكم على الأشرار.
v مخيف هو اليوم الذي تصير فيه الدينونة الأخيرة، وفيه يشرق ابن الله بمجدٍ عظيمٍ (يوئيل 2: 1-11)،
من يمينه ومن يساره بروق النار...
يستقيم عرش الدينونة ببرٍّ، ويجلس عليه البكر بمجدٍ عظيمٍ ليدين الشعوب،
ويلقي بغضبٍ وُيبعد بحنق الشعب الملعون الذي صرخ في المحكمة: اصلبه، اصلبه (متى 27: 22-23)،
يقف حجاب النار بينه وبينهم لئلا ينظروا إليه لئلا تصير[197] عليهم المراحم،
ولا يتركونهم ينظرون إلى العلا، لئلا يروا ضياءه وينالوا منه الرجاء،
كل إنسانٍ يستوجب حكم الموت لو رأى وجه الملك لن يموت،
الشعوب الذين أحبوه، واعترفوا باسمه يدخلون إلى خاصته،...
يُهيأ اثنا عشر كرسيًا ويجلس الرسل ليدينوا الشعب الملعون الذين لم يؤمنوا به (لو 22: 28-30)،
وإذ رأوا كم أنه أهانه واحتقره وحطه لأنه كفر به بحيث لم يؤهله ليدخل إلى المحكمة مثل الشعوب،
حكمُ البشر قاس على البشر، لذا اسلم حكمهم للبشر، لأنهم يستحقون هكذا (2 صم 24: 14)[198].
القديس مار يعقوب السروجي
فإذا رأوه يضطربون من شدة الجزع،
ويَذهلون من خلاصٍ لم يكونوا يتوقعونه. [2]
مما يزيد من ضيق الأشرار ليس العذابات المُعدة لهم فحسب، وإنما المجد الذي يتمتع به الأبرار، والذي لم يكن في مخيلتهم، فإنهم يذهلون من خلاصهم!
لا يستطيع الأشرار أن يتطلعوا إلى الديان حين يرون عينيه لهيب نار، فيخشونه كديانٍ، قائلين للجبال أن تسقط عليهم وللآكام أن تغطيهم، لأنهم صاروا في عريٍ وخزيٍ كما كان الأبوان الأولان في الجنة يستتران بأوراق الشجر. لكن من أين يأتون بالشجر وقد تجردوا من كل شيءٍ حتى الجبال والآكام قد زالت. ومما يزيدهم مرارة أن ذاك الذي يرونه مصدر رعبٍ لهم إذا به يحتضن الأبرار بكونهم الملكة التي تتهلل بملكها السماوي الذي يدخل بها إلى حضن الآب وتستقر فيه أبديًا.
كما يتلألأ برّ المسيح وشركة سماته التي لبسها الأبرار كثوب مجدٍ لهم، هكذا في خزيٍ يرتدي الأشرار أفعالهم الرديئة، خاصة تهكمهم على أولاد الله، وسخريتهم بهم، فيدركون حينئذ أنهم قد ارتدوا الغباوة والبطلان والفساد ثيابًا تزيدهم عريًا وفضيحة. حقًا سيُفصل الأبرار الممجدون عن الأشرار الهالكين أبديًا بلا محاباة.
v لما كان ربنا يُعَلِمْ قال: من بيتٍ واحدٍ سيؤخذ واحد، وسيُترك آخر (مت 24: 40)،
لو لم تجرّ الأعمال الإنسان إلى الكرامة، لا يفيده ربوات الأبرار الذين يسكنون معه.
الابن البار لا ينفع أباه الذي أثم، والابن الخاطئ لا يحتمي بالأب البار.
البتول الطاهرة لا تخلص الأم التي زنت، والأخ الكامل لا يفيد أخاه المتراخي.
من هذه الأمور التي علمها ربنا تعلم بأن واحدًا يأخذونه والآخر يتركونه بتمييز (مت 24: 40).
الخوف يرعب الأختين في بيت واحد، ولا تقدران أن تستفسرا سوية عن السبب.
العلا يخطف تلك الكاملة لتطير في الهواء، واللجة تسحب الأثيمة لتتعذب فيها.
الواحدة تؤخذ للقاء العريس كما قيل، وتُترك الأخرى لتعود إلى الهاوية كما كُتب (مت 24: 40).
الصوت يُرجف البنت وأمها المطمئنتين، فتخافان وترتجفان لما تُفصلان لتنتقلا،
يُفصل الاخوة كالأعضاء من بعضها بعضًا، ويلقي الانقسام في وحدتهم ويبعثرها.
يُسقط ويؤخذ الأبناء كالأمعاء، ولا مجال لبطن الأم لكي يحبهم.
تُقطع محبة النساء من رجالهن، ولن يعرف الشريك (شريكه) بسبب الخوف.
المرأة تُعتبر مثل غريبة من قبل رجلها، وإذ كانت خاصته لم تعد خاصته لأنها فُصلت عنه.
المتزوجون لن يعودوا إلى الزواج، والأبوّة لن تحب أحباءها.
ومحبة الاخوة لن تثبت كما كانت لأن تلك المساواة تُفصل من الاختلاط.
الخوف يقطع الخبر الوارد بين الأختين، ولن تنتهي تلك القصة التي تابعتاها.
ولو كانتا مربوطتين سوية في رحى واحد، ستُفصلان من وحدتهما كما هو مكتوب (مت 24: 41).
ولن تكتمل كلمة المحبة عندهما، لأن الخوف المرعب يبطل كلماتهما.
يقطع حديث البنت الحبيبة مع أمها، ويبطل كلام الملافنة (المعلمين) والباحثين.
ينكسر القلم في يد المعلم بصورة غير اعتيادية ولن تُسجل به كتابة إلى الأبد،
يترك الصبيان المدرسة المجتمعين فيها، ولن يُقدموا أيضًا في صباح آخر حتى يتعلموا.
تغيب وتزول الحكَم من الحكماء، ولن يعرف أحد سوى الخوف من الانبعاث.
تهجم الحيرة على الفلاسفة في أفكارهم ولن يتذكروا إلا أن يقولوا فقط: الويل لنا.
تنقطع قصة النظريات والاستفسارات ولن يُفسر هناك شيء ماعدا الويل.
تتعثر الكلمة وتسقط من اللسان، ويرعد فقط صوت النحيب من جهنم.
لن يتسلى أحد ولا يُسلى رفيقه لأن كل واحدٍ سيشرب المرارة وهو يتعذب.
الشاب لن يسند الشيخ وهو يتألم، والأب لن يشجع ابنه لئلا يكتئب.
ينفصل كل واحدٍ عن رفيقه بخوف عظيم، ويقع الرعب حتى ينتقل الواحد عن رفيقه.
هوذا ربنا قد تكلم عن الدينونة الأخيرة: يأخذون الواحد ويتركون الآخر كما قلنا (مت 24: 41)[199].
القديس مار يعقوب السروجي
ويقول بعضهم لبعضٍ نادمين ومتنهدين: [3]
يندم الأشرار على تصرفاتهم التي سلكوها في هذا العالم، لكن إذ جاء يوم الدينونة، ضاعت منهم فرصة الرجوع إلى الله.
v "لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك؟" (مز 6: 5). يعرف (المرتل) أيضًا أنه الآن وقت للرجوع إلى الله، فإنه إذ تعبر هذه الحياة لا يبقى سوى المجازاة حسب استحقاقاتنا... ذاك الغني الذي يتحدث عنه الرب، والذي رأى لعازر في راحة، ندب حاله في العذابات، واعترف في الهاوية، نعم وقد أراد أن يحذر اخوته حتى يتحفظوا من الخطية، من أجل العقوبة التي تحل في جهنم ولا يعتقدون بها[200].
القديس أغسطينوس
"هوذا الذي كُنا حينًا نجعله ضُحكة،ً
وموضوع تهكم.
نحن الأغبياء!
لقد حسِبنا حياته جُنونًا،
وآخرتَه بلا كرامة. [4]
يكتشف الأشرار غباوتهم ولكن بعد فوات الأوان. يتطلعون إلى الذين كانوا يسخرون بهم ويحسبونهم أضحوكة، ينعتونهم بالجنون، وكانوا يتطلعون إلى آخرتهم بكونها هوانًا بلا كرامة، وإذا بهم في أمجاد فائقة، يتمتعون بما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسانٍ (1 كو 2: 9).
فكيف أصبح في عداد بني الله،
وصار نصيبه مع القديسين؟ [5]
لا يستطيع الأشرار أن يروا ما يراه الأبرار، ولا أن يسمعوا ما يسمعه هؤلاء، لكن ما يحطمهم تمامًا أنهم قد فقدوا الفرصة للتمتع بالبنوة لله والشركة مع السمائيين.
يصور الكاتب كيف صار خلاص الأبرار عقابًا للظالمين لهم والساخرين بهم. يُصعق الأشرار حينما يرون الأبرار موضوع سخريتهم قد صاروا في عداد أبناء الله الممجدين، نصيبهم مع الطغمات السمائية المقدسة. إذ يصير الأبرار بينهم وكأنهم إحدى الطغمات السمائية. وهذه هي المكافأة التي ينالونها حيث يصيرون معهم في حضرة الله والشركة معه في السماويات.
الحالة الفردوسية التي يتمتع بها المؤمن الحقيقي عند القديس غريغوريوس النيسي هي حالة تناغم وانسجام بينه وبين السمائيين بكونهم خليقة الله المملوءة حبًا. [وُجد وقت كانت فيه الخليقة العاقلة جوقة (خورس) واحدة، تتجه نحو قائد الخورس، وتتحرك متجهة نحو ذاك الانسجام الغالب النابع عن القائد وعن وصيته.]
يقول أيضًا القديس غريغوريوس النيسي إن هذا الانسجام كان على مستوى المسكونة، بين السماء والأرض، حيث تمتع الأبوان الأولان بصحبة الملائكة؛ لكنهما فسدا بالخطية، فُطردا من مجتمعهما هذا، وصار نسلهما كما في عالمٍ غريبٍ يترقبون اللحظة التي فيها يعودون إلى التمتع بالاتحاد مع الجوقة الإلهية[201].
إننا نحن الذين ضللنا عن طريق الحق،
ولم يُضئ لنا نور البرّ،
ولم تُشرق الشمس علينا. [6]
يعترف الأشرار بضلالهم، إذ حلت بهم الظلمة الأبدية، لأنهم رفضوا شمس البرّ، ولم يدعوها تشرق عليهم، فصاروا أبناء الظلمة. فقدوا الحق، واقتنوا الباطل.
أمام مجد الأبرار يقف الأشرار في ندمٍ شديد، لأنهم تركوا الله الحق، ورفضوا حبه وخلاصه. ضاعت كل مقتنياتهم وملذاتهم بل وضاعت حياتهم، فصاروا في مرارة، لكن لم يعد بعد طريق للرجوع إلى الله.
يعلق القديس أمبروسيوس على كلمة "الظهر" في العبارة: "وهيأوا الهدية إلى أن يجيء يوسف عند الظهر" (تك 43: 25)، مظهرًا أن يوسف كرمز للسيد المسيح – شمس البرّ- بمجيئه يحل نور النهار كأنه ظهيرة، ولا يكون للظلمة أو لليل موضع. يقول: [أسرع إيمان بولس للمجيء عند الظهر. قبلاً كان بولس أعمى، وفيما بعد بدأ يرى نور البرّ، فإنه إذ يفتح أحد طريقه للرب ويترجاه، يحضر الرب برَّه كالنور، وحكمه كالظهيرة (راجع مز 37: 5-6). وعندما ظهر الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا كان ذلك في الظهر، وأشرق النور الأبدي الذي لحضرة الله عليه (تك 18: 1). كان الوقت ظهرًا عندما دخل يوسف بيته ليأكل. يزداد اليوم إشراقًا عندما نحتفل بالأسرار المقدسة (حيث نتناول جسد الرب ودمه)[202].]
v لا تشرق الشمس الروحية سوى على الصالحين والقديسين، إذ نرى في سفر الحكمة الأشرار يبكون قائلين: "لم تشرق علينا الشمس" (حك 6:5)، كما لا يروي المطر الروحي غير الصالحين، لأنه قصد بالشرير تلك الكرمة التي قيل عنها: "وأوصي الغيم أن لا يمطر عليهِ مطرًا" (إش 6:5)[203].
القديس أغسطينوس
v عندما اظلم العالم بظلمة إبليس، وحلت الظلمة بواسطة الخطية التي سقطت على العالم في المرحلة الأخيرة، أي عندما حلّ الليل، منحت هذه الشمس أن تشرق بميلاده.
أولاً قبل ظهور النور، أي قبل إشراق شمس البرّ، حيث أرسل الوحي الإلهي خلال الأنبياء أشبه بالفجر، كما قيل: "أرسلت أنبيائي قبل النور" (راجع إر 7: 25). لكنه بعث بعد ذلك بأشعته، أي ببهاء رسله، وأشرق على الأرض بنور الحق حتى لا يتعثر أحد بظلمة إبليس[204].
مكسيموس أسقف تورين
شبِعنا في سبل الإثم والهلاك،
واجتزنا براري لا طُرق فيها،
وأمَّا طريق الرب فلم نعرفه. [7]
يظن الأشرار أن الشر قادر على إشباع احتياجاتهم، ولا يدركون أن نهايته الدمار الشامل. وكما يقول الرسول: "فأي ثمرٍ كان لكم حينئذٍ من الأمور التي تستحون بها الآن، لأن نهاية تلك الأمور هي الموت" (رو 6: 21).
هل أشبعهم طريق الإثم والهلاك؟ يشير هنا إلى طريق الأشواك الأبدي، فإنهم يصيرون كمن هم وسط أشواكٍ لا حصر لها.
كان الأشرار في العالم يطلبون الشبع في سبل الإثم والهلاك، فاجتازوا براري قفر ليس فيها الطريق الذي يحملهم إلى السماء؛ إذ لم يتعرفوا على الرب بكونه الطريق.
يتحدث عن طرق الشر بصيغة الجمع أما طريق الرب فبصيغة المفرد. فإن الشياطين تقدم سبل كثيرة لتحدر الإنسان إلى الدمار الأبدي. أما الله فيقدم لنا كلمة الله وحكمته ربنا يسوع بكونه الطريق الوحيد به ننطلق كما بجناحي حمامة إلى السماء.
v يقول إشعياء: "ما أجمل على الجبال قَدَمَيّ المبشر المخبر بالسلام، المبشر بالخير" (إش 7:52). إنه يرى كم هو جميل وملائم، إعلان الرسل الذين قد ساروا معه، وهو القائل “أنا هو الطريق”. ويمتدح أقدام السائرين في الطريق العقلي ليسوع المسيح، ويذهبون من خلاله إلى السماء. إنهم يعلنون عن الخيرات، عن الأقدام الجميلة - أي يسوع[205].
العلامة أوريجينوس
v إن كان مجرد تذكار حالة عبوديتكم السابقة تجلب لكم عارًا، فكم بالأكثر يكون عار تلك الحقيقة ذاتها (العبودية للإثم)[206].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v سيُعاقب الأشرار؛ "نسل الأشرار ينقطع" (مز 37: 28). كما أن نسل الآخرين سيتبارك، هكذا نسل الأشرار سينقطع، لأن نسل الأشرار هم أعمال الأشرار... فإنها لا تحمل ثمارًا؛ آثارها إلى وقت قصير؛ بعد هذا يطلبونها فلا يجدون مكافأة لما تعبوا فيه[207].
القديس أغسطينوس
v الموت هو في رفقة النفس في حالة الخطية وهي في الجسد، والحياة هي اعتزال للخطية[208].
القديس إكليمنضس السكندري
استخدم القديس يهوذا في رسالته تشبيهات مقاربة، بخصوص حياة الأشرار الزائلة. "هؤلاء صخور في ولائمكم المحببة، صانعين ولائم معًا بلا خوف، راعين أنفسهم. غيوم بلا ماء، تحملها الرياح، أشجار خريفية بلا ثمر، ميتة مضاعفًا مقتلعة. أمواج بحر هائجة مُزبَّدة بخزيهم، نجوم تائهة، محفوظ لها قتام الظلام إلى الأبد" (يه 12-13).
2. مراجعة يائسة
فماذا نفعَتْنا الكبرياء؟
وماذا أفادنا الغنى الذي كنا نفتخر به؟ [8]
يكتشف الأشرار بطلان الكبرياء والتشامخ، وأيضًا بطلان الغنى والثروات التي كانوا يحسبونها رصيد كرامتهم.
من بين كل طرق الأشرار ورذائلهم يبكي الأشرار على كبريائهم الذي هو طريق إبليس الذي حطمه هو وملائكته. وأيضًا محبة الغنى، لأن محبة المال اصل لكل الشرور (1 تي 6: 10). فالكبرياء يدفع الأشرار إلى الغباوة فيتشامخوا حتى على الله نفسه، إن لم يكن باللسان فبلغة التذمر والتمرد ورفض الوصية الإلهية، و محبة الغنى تفسد القلب فلا يقدر الحب أن يملك عليه لأنه يصير دستوره الظلم والجشع والبغضة.
v إنه الكبرياء الذي يحولّ الإنسان عن الحكمة، وصارت الغباوة ثمرة التحول عن الحكمة[209].
القديس أغسطينوس
حياة الأشرار الخالية من كل فضيلة هي بلا معنى أمام الله. تنتهي حياتهم ولا تدوم ذكراهم على الأرض ولا في السماء. لا تترك حياتهم أي أثر صالح بعد موتهم، بل وحتى الآثار السيئة بعد مرور زمنٍ ما لا يعود يذكرها الكثيرون، أما فضائل الأبرار أو حبهم فيرافقهم في السماء، لأن المحبة لا تسقط أبدًا.
قد مضى ذلك كُله كالظل،
وكإشاعة تمر بسرعة، [9]
مسكين الإنسان الذي يجعل من ظل سحابة علامة لطريقه، فسرعان ما يمضي الظل، ويفقد الإنسان طريقه. كل أمور العالم الحاضر وشهواته تمضي كالظل، فلا ترفع قلب الإنسان إلى الله مصدر حياته وسعادته الأبدية.
من ينشغل بالكرامة الزمنية و تُمتص كل أفكاره في إقامة ذكريات له، إنما كمن يسير وراء إشاعة كاذبة سرعان ما ينكشف كذبها وعدم وجود حقيقة صادقة لها.
مسكين الإنسان الشرير الذي عوض ارتباطه بسحابة من الشهود (عب 12: 1) ينشغل بظلها. تطلع الرسول بولس إلى هذه السحابة لا ليشغل نفسه بمنظرها، بل أن يلتحق بها، فيصير جزءً لا يتجزأ من السحابة المقدسة الحاملة للسيد المسيح.
ظهر الرب كسحابه لشعبه القديم ليظللهم من الحر ويقودهم في النهار مشتاقا أن يصير شعبه نفسه سحابة نيِّره تتمتع بحضوره وتجليه فوقها، فيصيروا عرشه.
مسكين الشرير الذي عوض طلب الحق الإلهي فينعم بأسرار الله ويختبر السماويات، كل ما يشغله أن تصير حياته إشاعة سرعان ما تزول!
v "لا تغرب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26)، ومع هذا فقد غابت الشمس مرارًا كثيرة. اتركوا غيظكم أيضًا، حيث نحتفل الآن بأيام الشمس العظيم، هذه الشمس التي يقول عنها الكتاب المقدس "لكم... تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2). ماذا يقصد بـ "في أجنحتها"؟ أي في حمايته، إذ قيل في المزامير: "وبظل جناحيك استرني" (مز 17: 8). وأما أولئك الذين يندمون في يوم الدينونة، ولكن بعد مضي الوقت، والذين سيحزنون ولكن بلا فائدة، فقد سبق أن تنبأ في سفر الحكمة عن ما سيقولونه عندما يندمون ويتأوهون من عذاب الروح "فماذا أنفعتنا الكبرياء وماذا أفادنا افتخارنا بالغنى. قد مضى ذلك كالظل، لقد ضللنا عن طريق الحق، ولم يضئ لنا نور البرّ، ولم تشرق علينا الشمس" (حك 5: 8، 9، 6). تلك الشمس تشرق على الأبرار فقط، وأما هذه الشمس التي نراها يوميًا فإن الله يشرق شمسه على الأشرار والصالحين" (مت 5: 45). يطلب الأبرار رؤية تلك الشمس وهي تقطن في قلوبنا بالإيمان. فإن كنتم تغضبون لا تدعوا هذه الشمس تغرب في قلوبكم على غيظكم "لا تغرب الشمس على غيظكم"، لئلا تكونوا غضوبين، فتغرب شمس البرّ عنكم وتمكثون في الظلام[210].
القديس أغسطينوس
أو كالسفينة الجارية على أمواج الماء،
التي لا تجد أثر مُرورها،
ولا خطَّ لقاعها في الأمواج. [10]
التشبيه الثالث الذي يقدمه لنا الحكيم عن حقيقة حياة الأشرار هو الاهتمام بالتطلع إلى الخط الذي يظهر وسط الأمواج بعبور سفينة سريعة وسط البحر. فانه سرعان ما يختفي هذا الخط ولا يبقى له اثر على أمواج المياه المتحركة. مسكين الإنسان الذي عوض أن يدخل سفينة المسيح أي كنيسته لكي يتمتع بغنى عطاياه! يقف متفرجا من الخارج فلا ينعم بالخلاص الأبدي.
يقول المرتل عن حياة الأشرار: "كالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض" (مز 1: 4). أما عن الصدِّيقين فيقول الرسول: "اُنظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم" (عب 13: 7).
فلك نوح كسفينة في الحقيقة هو خطة إلهية، فيها دبر الله خلاص الإنسان، فقد أغلق الله بنفسه باب الفلك وحفظه حتى نهاية الطوفان. هكذا أيضًا كنيسة العهد الجديد هي تدبير إلهي، فبالنعمة الإلهية نتقبل عضويتنا الكنسية، ويقوم الروح القدس بغلق أبوابنا الداخلية، فلا تتسرب مياه الشر إلى سفينة حياتنا وتفقد توازنها. إن كانت السفينة تشير إلى الكنيسة كملجأ للخلاص، فإن الأشرار لا يشغلهم أن يدخلوا الكنيسة كأعضاءٍ فيها، إنما يكتفون بالتطلع إليها من بعيد لينتقدوها. يتتبعون الخط الذي يظهر وسط الأمواج بعبور الكنيسة وسط بحر هذا العالم، فيفقدوا خلاصهم.
أشار القديس أغسطينوس إلى فلك نوح كرمز للكنيسة قائلاً[211]: [الفلك بلا شك هو رمز مدينة الله في رحلتها عبر التاريخ.]
v جسم الكنيسة ككل يشبه السفينة،
يحمل أناسًا من أجناس متنوعة،
وسط عاصفة عنيفة...
الله "الآب" هو صاحب السفينة.
والمسيح قبطانها.
الأسقف يشبه الملاحظ،
والكهنة هم البحارة،
والشمامسة هم المجذفون،
ومعلمو الموعوظين هم المضيفون[212].
v من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح[213].
v لا يكون مسيحيًا من هو ليس داخل كنيسة المسيح[214].
v إذ كيف يمكن أن يكون أحد مع المسيح إن كان لا يسلك داخل عروس المسيح، وإن لم يوجد في كنيسته؟![215]
v من ليس له الكنيسة أمًا، لا يقدر أن يكون الله أباه![216]
القديس كبريانوس
v البحر هو العالم، نزلت إليه الكنيسة حتى العمق لكنها لم تهلك لأن قبطانها المسيح ماهر.
إذ تحمل صليب الرب إنما تحمل الغلبة على الموت في داخلها...
البحارة هما العهدان (القديم والجديد).
والحبال المحيطة بها هي محبة المسيح التي تربط الكنيسة.
الشبكة التي معها هي جرن الميلاد الجديد الذي يجدد المؤمنين.
الروح القدس حال فيها كبحار ماهر يختم به المؤمنون...
لها مراسٍ من حديد تحتفظ بها. هي وصايا المسيح نفسه، قوية كالحديد!
بها نوتيه على اليمين واليسار، خدام كالملائكة القديسين يديرون الكنيسة ويحفظونها.
السلم الذي نصعد به إلى ظهر السفينة هو تذكار آلام المسيح، به ترتفع قلوب المؤمنين إلي السماء.
القلاع المرتفعة فوق السفينة هي شركة الأنبياء والشهـداء والرسل الذين يدخلون راحتهم[217].
v لا يمكن عبور البحر إلا إذا بقيت علامة النصرة ـ أي الصاري ـ على السفينة دون أن يصيبها ضرر[218].
أو كطائر يطير في الجو،
فلا تجد دليلاً على مسيره.
يضرب الريح الخفيفة بجناحيه،
ويشُقَّها بصفيرٍ شديدٍ،
ويعبرُ مرفرفًا جناحيه،
ثم لا تجد لمروره من علامة. [11]
ذكراهم على الأرض تكون كأثر سفينة تشق مياه البحر يظهر سريعًا ثم يختفي. أما في السماء فلا وجود لذكرى الأشرار لأن حياتهم تشبه طائرُا يحرك جناحيه ليضرب بهما الهواء، لكن بعد مروره لا نجد أثرًا في الهواء، ولا يتحرك خطًا يُظهر طريق سيره؛ أو مثل سهم يعبر في الهواء لا يترك خطًا يُعلن عن طريق مسيره.
يبحث الشرير عن الأثر الذي يتركه طائر مسرع في طريق طيرانه، فإذا به تضيع حياته وراء سراب لا يروي و أثار لا وجود لها عوض الانشغال بالتطلع إلى الخط الذي سلكه الطائر. يليق بالمؤمن أن يصير هو نفسه طائرًا يصعد بروح الله القدوس في غنى النعمة الإلهية من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18) لعله يبلغ حياة قامة ملء المسيح السماوي (أف 4: 13).
v هكذا يا اخوتي هو وجودنا، نحن الذين نعيش في حياة مؤقتة. هكذا هي تسليتنا على الأرض. جئنا إلى الوجود من العدم، وبعد الوجود الانحلال. إننا أحلام وهمية... مثل طيران طيرٍ عابرٍ، ومثل سفينة لا تترك أثر طريقها في البحر (حك 5: 10)، ذرة من التراب، بخار، ندى مبكر، زهرة سرعان ما تظهر وبسرعة تجف. فالإنسان أيامه مثل العشب، وكزهرة الحقل، هكذا يزهو[219].
القديس غريغوريوس النزينزي
أو كسهمٍ يُرمى إلى الهدف،
فيُخرق به الهواء، ولوقته يعود إلى حاله،
فلا يعرفُ ممرُّ السهم. [12]
ما هو السهم الذي ينشغل الأشرار بالبحث عن أثره في الهواء حين يلقيه رامي السهم نحو الهدف؟ أظن أنه السيد المسيح الذي يوجهه الآب إلى قلوب المؤمنين فيصرخ كل منهم بفرح: "إني مجروحة حبا" (نش 2: 5)
v مدحت العروس رامي الرمح على تصويبه الدقيق، لأنه رماها بسهمه. فقالت العروس: "إني مجروحة حبًا" (نش 5:2). تعني هذه الكلمات أن سهام العريس قد نفدت إلى داخل قلبها. إن مُصوّب هذه السهام هو الحب (1 يو 8:4)، الذي يرسل "سهمه المختار" (إش 2:49)، الابن الوحيد، إلى هؤلاء الذين يخلصون، ثم يغمس سن السهم الثلاثي في روح الحياة. وسن السهم هو الإيمان، وبواسطته يقدم الله مُصوّب السهم وكذلك السهم معًا إلى القلب، كما يقول السيد المسيح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبى وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو 23:14).
لذلك فالنفس التي ارتفعت إلى درجات إلهية عليا ترى بداخلها سهم الحب العذب الذي جرحها، وتفتخر بهذا الجرح قائلة: "إني مجروحة بالحب". أيها الجرح الجميل، والسهم العذب، الذي أدخل الحياة إلى قلبي! فلقد فتح نفاذ السهم بابًا ومدخلاً للحب، وهو التحول الخيالي من رمي السهام إلى فرح العرس.
كلنا يعرف كيف يقبض رامي السهام على القوّس وتعمل يداه المضبوطة، فتمسك اليد اليسرى بالقوّس، بينما تجذب اليد اليمنى الوتر المرن، وهكذا يتحرك السهم إلى الخلف بطرفه المشقوق. ثم توجه اليد اليسرى السهم إلى الهدف. ذكرنا سابقًا أن العروس كانت الهدف، والآن ترى نفسها كأنها السهم في يديّ صاحب القوس. فيمسك بيده اليمنى بطريقةٍ ما، وبطريقة أخرى بيده اليسرى...
الله هو العريس ومصوّب السهم، وهو يعامل النفس النقية كالعروس، يصوبه سهمه نحو هدف طيب. لذلك فهو يسمح لعروسه أن تشارك أبديته التي بلا فساد، وينعم عليها بسنين وحياة طويلة بيده اليمنى. ويعطيها بيده اليسرى هبة حياته الأبدية، وعظمة الله التي لا يشاركه فيها من يبحثون عن العظمة في العالم. من أجل ذلك تقول العروس: "شماله تحت رأسي: (نش 6:2). لأن هذه هو الطريقة التي يُصوب بها السهم إلى هدفه. "ويمينه تعانقني". وكأن العروس تقول إن يمين الله تستقبلني وتسحبني إلى الخلف، لكي تريح رحلتي إلى أعلى حيث يوجهني دون أن أنفصل عن يد حامل القوس. وفي نفس الوقت سوف أُحمل بعيدًا بعمله في التصويب وإني أشعر براحة بين يدي حامل القوس: تقول الأمثال عن صفات هذه الأيادي: "في يمينها طول أيام، وفي يسارها الغنى والمجد" (أم 16:3)[220].
القديس غريغوريوس النيسي
يمكننا في إيجاز أن نقارن بين البار والشرير.
· البار يشتهي أن ينضم إلى سحابة الشهود المنيرة، والشرير ينشغل بظل سحابة سرعان ما تختفي.
· البار يود أن يسجل اسمه في كتاب الحياة الأبدية، والشرير تصير حياته أشبه بإشاعة تعبر فلا يكون لها وجود أو ذكرى.
· البار يُسر بالإبحار في سفينة المسيح ليتمتع بالخلاص، والشرير يكتفي بالتطلع إلى الخط الذي يظهر بإبحارها إلى حين ثم يختفي.
· البار يود أن يكون كالنسر، يحلق في السماويات، والشرير يبحث في أثر طيران النسر فلا يجد له وجودًا.
· البار يتلقف ضربة السهم الإلهي، فتتهلل نفسه بجراحات الحب الإلهي، بينما ينشغل الشرير بالتطلع إلى الهواء يبحث عن أثر ممر السهم.
كذلك نحن ما إن وُلدْنا حتى نبدأ نتوارى،
ولم يكن لنا أن نُبدي علامة فضيلة نظهرها،
بل فنينا في شرِّنا. [13]
يصور الحكيم حياة الإنسان أنها ما أن تبدأ حتى يرافقها الشعور بالموت، فيترقب متى يحل الموت به، ويتوارى عن العالم. هذا ومن جانب آخر، إذ فسدت الطبيعة البشرية، لا يجد الإنسان علامة يمسك بها ليُظهر بها فضيلة ما، بل شعوره الدائم بالضعف يفني حياته.
إن رجاء الشرير كعُصافةٍ تذهب بها الريح،
وكزَبَدٍ رقيقٍ تُطارده الزوبعة.
إنه يتبدد كدخانٍ في الهواء،
ويمضي كذِكْرِ ضيف ليومٍ واحد. [14]
إذ يضع الشرير رجاءه في خيرات العالم وملذاته وشهوات الجسد، سرعان ما يفقد رجاءه، إذ يحسبه كعصافة يبددها الريح العاصف، أو مثل الزُبد الذي يظهر وراء السفينة المسرعة فتطرده الزوابع، أو كدخان يتبدد في الهواء، أو كذكرى إنسان يستضيفه لمدة يومٍ ولا يعود.
v سحاب بلا ماء، هؤلاء الذين ليس فيهم الكلمة الإلهي لحامل الثمار. إنهم أموات موتًا مضاعفًا: أولاً، لأنهم أخطأوا آثمين. مرة أخرى أنهم يسلمون للعقوبات التي أعدها الله لهم. يمكن أن يُقال عن إنسانٍ أنه ميت وهو حي، لكنه لا ينعم بميراثه.
القديس إكليمنضس السكندري
3. أكاليل الأبرار
إن كان الأشرار ليس لهم ذكر دائم، فإن الأبرار يحيون مع السيد المسيح إلى الأبد، هذا الذي يطوِّبهم، قائلاً: "طوبى للحزانى الآن لأنهم يتعزون" (مت 5: 4). ويقول الرسول: "ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا" (عب 12: 1)، حتى ننعم بأمجاد السماء التي لا يُعبر عنها.
أما الأبرار فسيحيون للأبد،
وعند الرب ثوابهم،
ولهم عناية من لدن العليَّ. [15]
يحاول الحكيم أن يصور الحالة المطوَّبة التي يتمتع بها الأبرار في يوم الرب. من بين ما يتمتعون به:
أ. الحياة الأبدية، "سيحيون للأبد" ما هي هذه الحياة الخالدة التي لا يقدر الموت أن يقترب إليها، إلا ذاك الذي قال: "أنا هو الحياة". هذا الذي مات مرة واحدة بالجسد بإرادته، إذ قال: "لي سلطان أن أضعها" (يو 10: 18). ما كان يمكن للموت أن يقترب إليه، لو لم يسلم نفسه خلال حبه لكل البشرية وطاعته للآب ليدخل – كما يقول القديس مار أفرآم السرياني - إلى معدة الموت ويفجِّرها، ويُخرج الذين سبق فأسرهم إبليس في الجحيم.
نناله هنا على الأرض، فلا يقترب الموت إلى نفوسنا، ونلتقي معه وجهًا لوجه، فلا يقدر الموت بعد أن يلمس أجسادنا المجيدة التي على صورة جسد ربنا القائم من الأموات.
ب. "عند الرب ثوابهم"، فإن أعظم ما يناله المؤمن، أنه يجد ثوابه هو الرب نفسه، يقدم له مما عنده، حيث يتمتع بالشركة في المجد السماوي.
ج. لعل إدراك المؤمن المكلل في السماء أنه يكتشف في أعماق جديدة عناية الله التي ليس فقط لا تتوقف في السماء، بل يبقى المتمتعون بالسماء يدركون دفء الحضن الإلهي، ويبقون إلى الأبد يتمتعون بأسرار جديدة تتكشف أكثر فأكثر!
فلذلك سينالون مملكة مجيدة،
وتاج الجمال من يد الرب،
لأنه بيمينه يستُرهم ،
وبذراعه يحميهم. [16]
يكمل الحكيم حديثه عن الحياة السماوية المطوَّبة فيقول:
د. "سينالون مملكة مجيدة"، حيث يصير الكل ملوكًا أو ملكات، أو يصير الكل الملكة الجالسة عن يمين الملك (مز 45: 9). إنها مملكة مجيدة! تزداد عظمة كل إنسان بعظمة اخوته. ففي ممالك هذا العالم متى تسلم أحد كرسي الحكم يحزن المنافسون له، ويحسده كثيرون. أما في السماء فإن كل إنسان يتمتع بهذا المركز لا ينفرد به، بل يدرك أن سرّ مجده وكرامته وفرحه أن الكل من مؤمني العهدين القديم والجديد يشاركونه هذا المجد.
هـ. "تاج الجمال من يد الرب"، إنه تاج الجمال الحقيقي، لأنه من يد الرب، يحمل انعكاس مجد الرب وبهائه.
و. "لأنه بيمينه يسترهم"، كأن الحكيم يرى كل الكنيسة، وقد صارت الملكة العروس الواحدة، الجالسة عن يمين الملك، وإذ يشرق منهم انعكاس بهاء العريس يحتضنهم، كمن يسترهم.
ز. "بذراعه يحميهم"، ممن يحميهم؟ لم يعد بعد يوجد عدو يقاوم، ولا خطية تتسلل إلى الفكر، فلماذا يحميهم؟ تبقى الكنيسة وهي تتمتع بالسلام السمائي والفرح الإلهي تسبح الرب الذي حفظها في برية العالم ودخل بها إلى كنعان السماوية، وأغلق الباب، حتى تبقى معه وفيه محفوظة بحبه الفائق.
4. الرب الديَّان
يتخذ غيرته سلاحًا كاملاً،
ويُسلِّح الخليقة ليصُدّ أعداءه. [17]
ما هي غيرة هذا البار إلاَّ حبه الفائق لعروسه؛ هذا هو السلاح الذي به حطَّم إبليس وكل مملكة الظلمة بصليبه.
إنه يُسلح عروسه بذات سلاحه الذي هو غيرة الحب، فلا يجد إبليس – الذي لا يعرف الحب بل الكراهية والبغض – له شيئًا في العروس السماوية.
يصوِّر لنا القديس يعقوب السروجي منظرًا خطيرًا، وهو أنه ما أن تنتقل نفس من هذا حتى ينطلق إبليس إليها لعله يجد له موضعًا فيها، وإذ لا يجد موضعًا يمتلئ غيظًا ومرارة. فإن كل ما يشغله أن تشاركه البشرية هلاكه الأبدي.
يلبس البرّ درعًا،
والحكم الصادق خوذةً. [18]
بعد أن تحدث عن الصديقين بصيغة الجمع الآن يتحدث عن البار بصيغة المفرد، إذ يركز نظره على البار الواحد، ربنا يسوع المسيح، الإله المتجسد، إذ حملنا فيه ليهبنا ما له، ولكي يفتح لنا طريق المجد.
يأتي السيد المسيح في يوم القيامة لكي يكافئ الأبرار ويجازي الأشرار بغيرة عظيمة.
أيضًا كل مؤمن يتحد بالبار القديس يحمل برّه، ويصير السيد المسيح تُرسًا له، يحميه من سهام العدو.
السبيل الوحيد للنصرة على إبليس هو الاتحاد مع الله والالتصاق بالحق وحفظ وصاياه فيشهد المؤمن للحق عمليًا بحياته.
ليس من طريق للشهادة للقدوس السماوي إلاَّ بأن نحمل روح القداسة ونختبر مع الرسول بولس الجلوس في السماويات. فبدون القداسة يحل بنا الغضب، أو نشرب من الكأس التي نملأها لأنفسنا بعدم قداستنا.
الطبيعة نفسها لا تحتمل شر الإنسان، فالبروق والغيوم والسيول والبرد هذه كلها تتكاتف أرض البشرية التي أفسدت الطبيعة ونجَّست الأرض.
v أن تخدم المسيح هو أن تخدم الحكمة، التي هي خدمة البرّ، وهي خدمة الحق وكل الفضائل المتعلقة به[221].
العلامة أوريجينوس
ويتخذ القداسة تُرسًا لا يُقهر. [19]
كلمات "قداسة" أو "قديس" أو "قدوس" مأخوذة عن اليونانية "أجيوس"، وتحمل معنى اعتزال لما هو أرضي، أي ليس للأرض موضع في الشخص. هذا هو الجانب السلبي، أما الإيجابي، فإن الله قدوس، أي فيه كل الشبع، لا يحتاج إلى شيء خارجه. والقديس هو من يقتني هذا القدوس الذي يملأ كل كيانه الداخلي، فلا يشعر قط بفراغٍ، ليس للعالم موضع في أعماقه، بل يملأ الله كل قلبه ومشاعره وأحاسيسه.
يصوِّر الحكيم المؤمن كجندي روحي صالح، يحمل أسلحة البرّ، ويتمتع بإكليل الغلبة والنصرة، يستلمه من يد الرب نفسه، وفي نفس الوقت لا ينسب لنفسه النصرة، بل يستتر في يمين الرب، ويحتمي بذراعه الإلهية. الآن وقد لبس سلاح الله الكامل، الذي تحدث عنه الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس 6: 10-18، يقدم له الرب غيرته الإلهية عاملة فيه، وكأنه يقوم بتسليح خليقته لكي تستطيع أن تحتمي من إبليس، الذي يحمل روح العداوة ضد الرب نفسه.
بمعنى آخر إن كان الرب يُسلح خليقته البشرية، فهو لا يريدها أن تدخل طرفًا في المعركة، إنما يدخل الرب نفسه من خلالها ليحطم إبليس المقاوم.
يشحذُ (يجعله حادًا) غضبَه الذي لا ينثني سيفًا،
والعالَم يُحارب معه الأغبياء. [20]
حب الله الفائق نحو البشرية لا يعني مهادنته للأشرار أو تهاونه معهم، إذ لا يطيق الخطية والشر.
يستخدم الله القدوس خليقته سواء السماوية أو الأرضية لتأديب الأشرار هنا على الأرض. أما في يوم الدين فيرى القديس يعقوب السروجي أن الله يقيم الرسل ليدينوا، ليس من عندهم أو حسب أفكارهم، وإنما حسب فكر الله الذي لن يرى الأشرار مجده، حتى لا يتمتعوا به، ولكي لا يطلبوا رحمتهّ. وقد أشرت إلى ذلك أثناء تعليقي على العبارة الأولى من هذا الأصحاح.
فتنطلق البروق كسهامٍ مُحكمة التسديد،
ومن السحب كمن قوسٍ مُحكم التوتير،
تطير إلى الهدف. [21]
كثيرًا ما يصوِّر الكتاب المقدس الطبيعة الجامدة وهي تتحرك لتشهد لخالقها القدوس، فتقف في عداوة ضد الأشرار الأغبياء.
يرى الحكيم أن البروق قد تحولت إلى سهام في يد الخالق، يصوبها ضد الشر والأشرار، يطلقها من بين السحب، كما تنطلق السهام من القوس.
يورد هنا صورًا مختلفة من ثورة الطبيعة ضد الأشرار مقاومي القدوس الخالق. وهي أشبه بضربات تحل عليهم لتكشف ما في داخلهم من فسادٍ ودمارٍ:
أ. البروق المرعبة [21].
ب. البَرَد القاتل [22].
ج. أمواج مياه ثائرة [22].
د. طوفان أنهار لا ترحم[23].
ه. زوابع رملية في القفر [23].
غاية هذه الضربات وغيرها أن يكتشف الإنسان حقيقة أعماقه، لعل يدرك ما بلغه من خطر، فيرجع إلى الخالق مخلص النفوس.
فالبروق المصوَّبة من السحب كالسهام ترمز للإنسان الذي يقذف من فمه سهام الغش والكذب، فتكون ألسنتهم سهامًا مملوءة سمًا قاتلاً. كان المحاربون يدهنون السهام بمواد سامة، حتى متى اخترقت جسم إنسان تسممه حالاً.
والبَرَد الساقط كالحجارة يقتل العشب، يشير إلى دمار قلب الإنسان أي كرم الرب، فعوض أن يرتوي بمياه الروح ليثمر أشجارًا روحية مُشبعة، يتحول القلب إلى ارضٍ بورٍ مملوءة أعشابًا، يقتلها البَرَد.
والأمواج الثائرة، تشير إلى نفوس لا تعرف السلام والهدوء، بل في حالة اضطراب دائم.
وطوفان الأنهار يشير إلى التطرف في كل شيء، فلا يسلك الإنسان بحكمة لهلاكه بسبب تطرفه.
أما الزوابع الرملية فتشير إلى القلب الذي لم يقبل مياه الروح، فيتحول إلى قفرٍ قاتلٍ.
تبدأ ثورة الطبيعة بالبروق المصاحبة للرعود، ويرى العلامة أوريجينوس في الرعود والبروق إشارة إلى التعاليم الإلهية الصادرة من السماء والتي بها يؤدب الإنسان لكي يتعرف على أخطائه[222].
v "أرسل سهامه فشتَّتهم" (مز 18: 14). لقد أرسل الإنجيليين يعبرون طرقًا مستقيمة على أجنحة القوة، ليس بقوتهم الذاتية، وإنما بقوة من أرسلهم. "فشتتهم"، عند الذين أرسلهم إليهم ليصيروا لبعضهم رائحة حياة لحياة، ولآخرين رائحة موت لموتٍ (2كو 2: 16). "وبروقًا كثيرة فأزعجهم" (مز 18: 14)، إذ ضاعف من العجائب وأزعجهم[223].
القديس أغسطينوس
وحبَّات بردٍ مليئة بالسُخط،
تُقذف من قذَّافة،
ومياه البحر تثور عليهم،
والأنهار تغمرهم بوحشية. [22]
إذ لا يسمع الإنسان الشرير لصوت التعاليم السماوية ويقبل استنارتها، غير مبالٍ بالرعود والبروق، تحل به ضربة البَرَد النازل من السماء كحجارةٍ ثقيلةٍ، وكأنها تقذف من العلا على زراعتهم وحيواناتهم، بل وحتى عليهم هم أنفسهم. وكما يقول المرتل: "أهلك بالبَرَد بهائمهم، ومواشيهم للبروق" (مز 78: 47-48).
يتساقط البَرَد القاتل للمزروعات، يحمل معه علامات الغضب ضد الشر، وكأنه قذائف يُحكم توجيهها.
وأيضًا يعلن البحر عن غضبه فيهيج، وتثور الأمواج ضد الأشرار.
والأنهار التي تروي الزراعة والحيوانات والبشر تفيض لتهلك بطوفانها دون رحمة.
إذ نقف هنا أمام القذائف التي تصدر مع البَرَد، نذكر ضربة المصريين الخاصة بالبَرَد والنار معًا. "فأعطى الرب رعودًا وبردًا، وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بَرَدًا على أرض مصر، فكان بَرَد ونار متواصلة في وسط البَرَد. شيء عظيم جدًا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة" (خر 9: 24-25). وللقديس مار أفرآم السرياني تعليق على هذا المنظر الغريب.
v بّرَد ونار سقطا معًا. لم يطفئ البَرَد، ولا أذابت النار البَرَد كما في أدغالٍ، وتحول البَرَد إلى اللون الأحمر كأنه حديد في النار، يلتهب في البَرَد[224].
v بأصوات الرعد والبرق، عاقب الرب المصريين الذين كانوا يستعبدون شعبه. والمسيح، برسله الاثنى عشر وبأصوات تعاليمه، عاقب الشياطين.
من السماء كانت أصوات الرعد تفزع المصريين؛ والرسل القديسون بتعاليمهم السماوية، صوّتوا وأفزعوا الشياطين.
ضرب الرب المصريين بالبَرَد والنار. وهذا العجب العظيم أن النار والماء كانا مختلطين ضربةً للمصريين. والمسيح برسله القديسين، ضرب الشياطين بمياه المعمودية المقدسة التي فيها يجتمع الماء ونار الروح القدس معًا. الماء لغسل وسخ الجسد، ونار الروح القدس لغسل وسخ النفس...
معمودية الروح، إن صح هكذا، هي البَرَد والنار اللذان بهما يضرب المسيح الشياطين كل حين على يد تلاميذه وخلفائهم إلى الأبد[225].
القديس مار أفرآم السرياني
يرى القديس أغسطينوس[226] أن ضربة البَرَد القاتلة هي فقدان الإنسان لمحبته لأخيه، إذ تجعله في برود قلب شديد وسط ظلمة ليل الجهالة.
يختم حديثه عن الضربات التي ستحل بالأشرار على الأرض بريح خطيرة تهب عليهم، فتذريهم كالزوبعة، وتحول حياتهم التي صارت أرضًا وليس سماءًَ إلى قفر، تفقدهم ما حسبوه عروشًا وكرامات.
في تفسير القديس هيبوليتس الروماني للريح الشرقية المدمرة (هو 13: 15)، يرى أنها ضد المسيح الذي يظهر في آخر الأيام ليقتنص إن أمكن حتى المختارين، ويضلوا عن الحق.
v ما هي هذه الريح الحارقة القادمة من الشرق ويُجفف مجاري المياه وثمار الأشجار في زمانه، إذ يضع الشعب قلبه في أعماله؟ إذ يعبدونه في فساده[227].
القديس هيبوليتس
يروي ثيؤدورت أسقف قورش ما حدث في أيامه في حرب عام 441م قائلاً: [هذا ما حدث في زماننا، ففي الحرب التي حدثت مؤخرًا أهلك بالبَرَد والنار المتوحشين القادمين من الشمال يهاجموننا. حديثًا آثار الفارسيون حربًا علينا من الشرق، وكانوا يتوقعون الاستيلاء على مدننا بدون سفك دم، لكن مات بعضهم، والبعض طردهم ليقدموا تقارير عما حدث[228].]
وريح قدرة تهبُّ عليهم،
وتُذرِّيهم كالزوبعة.
والإثم يجعل من الأرض كلِّها قفرًا،
وارتكابُ الشرور يقلب عُروش القادِرين. [23]
تتحول الأرض إلى صحراء قفر مملوءة بالزوابع والعواصف الرملية المدمرة.
من وحي الحكمة 5
احملني في سفينتك فأنجو!
v تتوق نفسي إلى يوم مجيئك!
يقف أولادك في جرأة أمام الذين سخروا منهم وضايقوهم!
يرونك فينعكس بهاؤك عليهم،
يلتصقون بك كموكبٍ سماويٍ،
فينعمون بأمجاد أبديه!
v يا لبؤس الأشرار!
لا يقدرون على معاينة مجدك.
يصير مجيئك بؤسًا لهم.
يتطلعون إلى أولادك فيجزعون!
يُذهلون من خلاص بنيك الذي استخفوا به،
ولم يكونوا يتوقعونه!
v يندمون ويتنهدون، ويعترفون أنهم كانوا أغبياء!
وسط الظلمة الحالكة يبكت كل واحدٍ منهم الآخر،
لكن، لم يعد أحدهم قادرًا على التطلع إلى شمس البُر.
v يصرخون معترفين أنهم اختاروا الإثم والفساد،
واستخفوا بطريق الرب!
فقدوا كل شيء حتى حياتهم!
تحولت ملذاتهم إلى علة مرارة أبدية!
تحولت عجرفتهم إلى مذلة لا يُعبر عنها!
مضت حياتهم الزمنية على الأرض،
ولم يستطيعوا أن يقتنوا نصيبًا مع السمائيين!
v الآن أصرخ إليك يا إلهي قبل فوات الأوان.
هب لي مع الأبرار أن أعرفك، يا أيها الحق الإلهي،
فلا تصير حياتي كلها كظلٍ عابرٍ وباطلٍ!
هب لي أن أكون سحابة خفيفة تحملك،
وليس ظلاً لسحابة يذهب ولا يعود
سجل اسمي في كتابك مع بنيك،
فلا تصير حياتي كإشاعة تعبر وتزول.
احملني في سفينتك فأنجو،
ولا أقف انشغل بأثر مرورها وسط الأمواج، دون أن أدخل فيها.
هب لي جناحي روحك القدوس،
فأطير, أكون معك في السماء،
ولا أقف متفرجًا أتطلع إلى قديسيك كحمامٍ طائرٍ!
صوبٌَ سهم حبك في قلبي،
فتصرخ نفسي مترنمة:
"إني مجروحة حبًا!"
جراح حبك تشفيني وتعزيني.
ليدخل سهمك الإلهي في أعماقي،
ولا أنشغل بالبحث النظري عن ممره في الهواء.
v هب لي أسلحة الروح يا أيها القائد الإلهي.
فأدخل بك إلى المعركة،
ويسقط إبليس العدو كالبرق من السماء.
أتمتع بملكوتك الأبدي،
وأتزين بالتاج الذي تقدمه لي يداك.
بك وحدك انتصر وأتكلل،
ففي يمينك تسترني بنعمتك،
وبذراعيك المبسوطين على الصليب تحميني وتحتضنني.
v إلهي، تعاليمك ترعد في قلبي،
فأمتلئ بخوفك ممزوجًا بالحب.
لتلقي بالبَرَد على خطاياي فتهلكها،
ولا يكون لها سلطان فيٌ!
لتسمح لأمواج البحار أن تهدأ،
فأتمتع بسلامك السماوي.
لا أعود أخشى الطوفان،
فإني مع نوح في داخل الفلك.
ولا أضطرب من الزوابع الرملية،
لأنك حولت بريتي إلى جنة مغلقة،
لا تقدر زوابع العالم أن تقترب إليها وتقتحمها.
لك المجد يا أيها العجيب في عطاياه!
حديث ختامي
لم يكن سليمان يتطلع إلى نفسه بكونه ملكًا ورث العرش عن أبيه داود الملك العظيم، الذي أقام مملكة عظيمة وغلب أممًا كثيرة، لكنه حسب نفسه خادمًا لله. وها هو يطلب من كل الملوك الذين حوله، لا أن يركزوا أنظارهم على عروشهم وعظمتهم، بل على رسالتهم كخدام لملكوت الله، يحكمون بالصواب حسب فكر الله وحكمته، ويحفظون الشريعة كسائر الشعبٍ.
1. تحذير نهائي للقادة1-11.
2. الحكمة تأتي لمُلاقاة الإنسان12-21.
3. سليمان يصف الحكمة22-25
1. تحذير نهائي للقادة
فاسمعوا أيها المُلوك وافهموا!
وتعلموا يا قُضاة أقاصي الأرض![229] [1]
يعود سليمان فيؤكد أنه يوجه حديثه للملوك والقضاة وأصحاب السلطة والكرامات الزمنية، كما بدأ السفر. وكما قلنا في بداية السفر إن الحديث موجه إلى كل إنسانٍ، لأن الله خلق البشر ليكونوا ملوكًا وعظماء وأصحاب سلاطين. لم يخلق الإنسان ليكون عبدًا أو في مذلة، لكن بدخول البشرية في دائرة الخطية سقطت تحت قانونها الذي هو الاستغلال والاستبداد وتجاهل حقوق الغير وكرامتهم. فيليق بالمؤمن – أيا كان مركزه أو قدراته أو إمكانيته - أن يذكر ما خلقه الله عليه كصاحب سلطان، وأن يتطلع إلى كل بشرٍ، حتى وإن كان طفلاً صغيرًا أو مصابًا بعاهة ما، كشخصٍ له كرامته وتقديره حتى في عيني الله نفسه.
اصغوا أيها المتسلطون على الجماهير،
والمفتخرون بكثرة أممكم! [2]
كثيرًا ما يخشى الحكيم من إساءة استخدام السلطة سواء المدنية أو الدينية، فيربطها بالأبوة والحب للخاضعين لهم.
يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبودية ليست في خطة الله الأصلية[230].
ويُعلن اللاهوتي الكبادوكي القديس غريغوريوس النزينزي أن العبودية هي تمييز بين البشر أثيم، ومع ذلك فهي جزء من الواقع الحاضر[231].
وبنفس الروح يقول القديس باسيليوس الكبير إنه ليس أحد بالطبيعة عبدًا. لكنه في نفس الوقت لم يطلب مقاومة نظام المجتمع، إذ يقول: [وإن كان إنسان ما يُجعل سيدًا والآخر عبدًا، مع هذا فخلال نظرتنا الخاصة بالمساواة في الرتبة، نحن جميعًا قطيعًا لخالقنا، اخوة عبيد[232].]
إن كان هذا ما يليق بالقادة المدنيين، كم بالأكثر يليق بالقادة الروحيين أن يكونوا آباء محبين، يسندون أبناءهم بكل وسيلة، لا أصحاب سلطة، يأمرون ويتسلطون.
v "وإن كان لكم ربوات من المرشدين... لكن ليس آباء كثيرون" (ا كو 15:4)... لا يطلب بولس هنا أية كرامة، بل بالأحرى يظهر عمق حبه. فالكرامة خاصة بالمرشد، والحب علامة الأب[233].
v لقد رأيتم إنسانًا (بولس الرسول) جاب الأرض كلها، لأن طموحه وهدفه هما أن يقود كل إنسانٍ إلى الله. وقد حقق هذا الطموح بكل ما ادخره من قوة، وكأن العالم كله قد صاروا أبناءه، لهذا كان على عجلة من أمره.
كان دائم التجوال، كان دائم الحماس لدعوة كل البشرية لملكوت السماوات، مقدمًا الرعاية والنصح والوعود والصلاة والمعونة وانتهار الشياطين، طاردًا الأرواح المصرة على التحطيم.
استخدم إمكاناته الشخصية ومظهره والرسائل والوعظ والأعمال والتلاميذ وإقامة الساقطين بجهده الشخصي. فكان يسند المجاهدين ليثبتوا في جهادهم، ويقيم كل من طُرح ساقطًا على الأرض.
كان يرشد التائبين، ويعزي المتألمين، ويحذر المعتدين، ويراقب بشدة المقاومين والمعارضين.
شارك القائد والطبيب الشافي في الصراع، فمدّ يد المعونة ليهاجم أو يدافع أو يرشد حسب الحاجة في ساحة العمل، فكان كل شيءٍ للمنشغلين بالصراع...
في عظمته كان أكثر توهجًا وغيرة من أية شعلة نارٍ. ومن جهة إكليل كل الفضائل فقد فاق في المحبة (كل الفضائل). وكما ينصهر الحديد في النار فيصير الكل نارًا ملتهبة، هكذا انصهر بولس في المحبة، حتى صار هو نفسه محبة متجسدة.
صار كأنه أب عام للعالم كله. نافست محبته محبة الآباء بالجسد، أو بالأحرى فاقهم جميعًا في المحبة الجسدية والروحية، وفي الاهتمام والرعاية باذلاً كل ماله وكلماته وجسده وروحه، بل وكل كيانه من أجل الذين يحبهم[234].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لأن سُلطانكم أعطي لكم من الرب،
وسيادتكم من العليّ
وهو الذي سيفحص أعمالكم،
ويستقصي مشوراتِكم. [3]
لقد سبق فطلب داود أبوه من الملوك أن يتعقلوا، أي يسلكوا بفهمٍ وحكمةٍ وأدبٍ، ويسألهم أن يعبدوا الرب بمخافة مع تهليل. "فالآن يا أيها الملوك تعقلوا؛ تأدبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا برعدة" (مز 2: 10-11).
v يحث داود الطوباوي الملوك والخاضعين له أن يجروا نحو المخلص، ويحتضنوا شرائعه المخلٍّصة، فيحصدوا نفعًا خلال إرشاد هذه الشرائع وتعاليمها (راجع مز 2: 10)...
إنه ملكنا كلنا، هذا الذي كانوا يظنون أنه ملك اليهود وحدهم. "اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا (تهللوا) برعدة" (مز 2: 11). بمعنى أن أولئك الذين يتهللون ويفرحون بخلاصهم يلزمهم ألاَّ يتكلوا على الرأفة وحدها، بل يلزمهم أن يكونوا في مخافة ورعدة مع البرَ المرتبط بهما. يقول الكتاب المقدس: "إن كنت تظن أنك قائم، فلتنظر أن لا تسقط" (راجع 1 كو 10: 12)... الآن بقوله: "برعدة" يعني "بندامة"، لئلا تتحول البهجة التي في الرب إلى بهجة في العالم[235].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
يقول دانيال النبي: "يعزلُ ملوكًا ويُنصِّب ملوكًا. يعطي الحكماء حكمة ويُعلم العارفين فهمًا" (دا 2: 20-21).
يُقصد بالسلطان هنا القوة وما يتمتع به الإنسان سواء من جهة المادة أو المركز أو العلم أو الذكاء. هذه جميعها يُمكن استخدامها للبنيان أو الهدم. لهذا فالحكمة خير من القوة، لأن الحكمة قادرة على توجيه القوة للبنيان. بالحكمة الإلهية يتمتع المؤمن باتحاده مع الله، فتتحول حتى الطبيعة لحسابه، ويشتهي السمائيون خدمته. بالحكمة التي هي السيد المسيح نقول مع الرسول بولس: "أستطيع كل شيء بالمسيح يسوع الذي يقوِّيني".
بالمسيح يسوع يتحدى المؤمن إبليس وكل قوات الشر، حتى أعداؤه يسالمونه. كما تتحول الشرور والضيقات لخيره. "كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله".
كلما زادت إمكانيات المؤمن وقدراته ومسئولياته يحتاج بالأكثر إلى التواضع ليغرف من حكمة الله القادرة وحدها على توجيهه ومساندته.
v جميعنا متساوون بالطبيعة[236].
v (خلقت البشرية في الأصل متكاملة) لكل واحد سلطان أن يدير حياته بلا سيد يلزمه، أن تكون له حياة بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد إلا أن تُستعبد؟![237]
v ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشرية إلى عبيد وسادة[238].
v الله وهب البشرية حق تقرير مصيرها (ليس للسيد أن يتحكم في حياة العبد)[239].
v هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون هو مساو لك في كرامة الطبيعة[240].
v أن تُقسم الخليقة التي يليق بها بحق الطبيعة أن تمارس المساواة، إلى عبيد وقوة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله[241].
v (العبودية هي) افقدان لتكامل الكائن الحي[242].
v حالة الاستقلال والحرية هي ميل الحكمة وتحرك لإرادة الإنسان[243].
v أسمى مشكلة للحرية هي أن يكون الإنسان سيد نفسه[244].
القديس غريغوريوس النيسي
فإنكم أنتم خدام لملكه،
لم تحكموا بالصواب،
ولم تحفظوا الشريعة،
ولم تسيروا بحسب مشورة الله. [4]
يقدم الحكيم الشريعة أو الوصية الإلهية للقادة كي يدركوا أنهم خدام الله، وأن يتمموا إرادته في عملهم القيادي. فالملك، كما كل مؤمنٍ حقيقيٍ، هو خادم الله للصلاح، يشعر بأن رسالته لا أن يسيطر، بل أن يسند كل إنسان إن أمكن على حفظ الوصية الإلهية.
فسيطلَعُ عليكم مطلعًا مُرعبًا وسريعًا،
لأن حُكمًا لا يُشفِقُ يُجرى على الوُجهاء. [5]
هنا يوجه الحكيم حديثه للقيادات العاملة باسم الله، فإنهم يمثلون وكالة الله، ويليق بهم أن يسلكوا في المسيح يسوع، أي في حكمة الله. فيخضعوا لإرادة الله ويمارسوا وصيته ويقودوا إخوتهم للسلوك في المسيح يسوع.
إن ظن الملوك أنهم أصحاب سلطة فليدركوا أنه سيأتي ملك الملوك ورب الأرباب، هذا القادم سريعًا، يأتي في رهبة عظيمة ليحاكم العظماء كما العامة، لكن في غير محاباة سيكون حازمًا بالأكثر مع أصحاب المعرفة والسلطة، فهو لا يشفق على من لم يشفق على الخاضعين له.
فإن الصغير أهل للرحمة.
أما أرباب القوة فبقوةٍ يفحَصون. [6]
ينذر الحكيم العاملين في كرم الرب أن صاحب الكرم، الله نفسه يأتي فجأة ويدين العالم مبتدأ بالقيادات. فمن كان صغيرًا أي متواضعًا يستدر رحمة الله، أما من كان مستغلاً لسلطانه في كبرياء وتشامخ فيسقط تحت دينونة أبدية، فإن الحكم بلا رحمة لمن لم يستعمل الرحمة. بينما يُقال عن الرحماء "طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون" (مت 5: 7).
v لا يُدان كل البشر في كل الأمور دون تمييز بينهم، إذ يقال: "القادرون يُعذبون بأكثر قوة" (راجع حك 6:6).وأيضًا: "الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد... يُضرب كثيرًا" (لو 12: 47). فالمعرفة الأكثر هي أساس لعقابٍ أشدٍ. لهذا إن مارس الكاهن نفس الخطأ الذي يرتكبه من هم تحت رعايته، فإنه لا يحتمل ذات العقوبة، بل عقوبة أخطر[245].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كان يمكن القول: "أرباب القوة فبقوة يفحصون" (حك 6: 6)، فإن ما يُطلب مني أكثر مما يطلب من الشماس، وما يطلب من الشماس أكثر من العلماني، أما من يحتل مركز القيادة الكنسية فوقنا جميعًا فيُطلب منه ما هو أكثر[246].
العلامة أوريجينوس
إذ تراجع الراهب هليودورس Helgiodorus عن الحياة النسكية الكاملة، وانفصل عن القديس جيروم الذي صحبه معه إلى الشرق، كتب له رسالة شديدة اللهجة يوبخه على هذا التصرف. وقد كان لهذه الرسالة أثرها القوي في الغرب حتى حفظها البعض عن ظهر قلب، مثل فابيولا Fabiola جاء فيها: [من يعهد له الله بالكثير، فإنه سيُطالَب أكثر (لو 12: 48). "فإن أرباب القوة بقوة يُعذبون" (راجع حك 6:6). لا يمكن لإنسانٍ أن يفتخر في يوم الدينونة لمجرد أنه طاهر جسديًا، فسيعطي الناس حسابًا عن كل كلمة بطالة (مت 12:36)[247].]
v هل تظن أن حنانيا وقيافا ويهوذا الخائن جريمتهم ليست بأعظم من جريمة بيلاطس الذي أُلزم بغير إرادته أن يحكم على ربنا؟ خطية يهوذا تتناسب مع استحقاقه السابق، وكلما كانت الجريمة أكثر بشاعة كانت العقوبة أشد، "لأن أرباب القوة بقوة يُعذبون" (راجع حك 6:6)[248].
القديس جيروم
وسيدُ الجميع لا يتراجع أمام أحدٍ،
ولا يهابُ عظمة إنسانٍ،
لأن الصغير والكبير هو صَنَعَهما،
وهو يعتني بالجميع على السواء. [7]
لا يفلت من الدينونة العامة أحد، بل يقف الكل أمام الديان العادل. إذ هو خالق الكل والمهتم بالجميع، لذا فإنه يدين الكل بلا محاباة، فالكل موضع حبه ورعايته.
وكما كتب القديس باسيليوس الكبير إلى عذراء ساقطة يطالبها أن تذكر أنها لن تفلت من الدينونة، مثلها كسائر البشر.
v اذكري يومكِ الأخير، فإنك بالتأكيد لن تختلفين عن كل بقيَّة النساء فتعيشين (هنا) إلى الأبد.
اذكري تلك الكارثة، حشرجة الموت وساعته، كلمة الله الرهيبة، إسراع الملائكة في طريقها، ارتعاب النفس خائفة.
اذكري لحظة الاحتضار حين تتألَّم النفس بسبب الشعور بالخطيَّة، حزينة على تلك الحياة الحاضرة مع ضرورة وجودها في الحياة الطويلة (الأبديَّة)...
صوِّري لي- كما تتخيَّلين – نهاية الحياة البشريَّة عندما يأتي ابن الله في مجده مع ملائكته "يأتي إلهنا ولا يصمت " (مز 50: 3). يأتي ليدين الأحياء والأموات، ويعطي كل واحد حسب أعماله، فعندما يبوِّق ذلك البوق المرعب يخرج كل أولئك الذين رقدوا عِبْر الأجيال، فيأتي الذين صنعوا الصالحات إلى قيامة الحياة، وأما الذين صنعوا السيِّئات فإلى قيامة الدينونة (يو 5: 29).
تذكَّري رؤية دانيال كيف أوضح يوم الدينونة أمامنا "كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي... وعرشه لهيب نار، نار متَّقدة نهر نار جرى وخرج من قدَّامه ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدَّامه فجلس الدّين وفتحت الأسفار..." (دا 7: 9-10).
سيعلن علنًا أمام الناس والملائكة الصالحات والسيِّئات، الأمور العلانيِّة والخفيَّة، أعمال الكل وأقوالهم وأفكارهم.
إذن ماذا يفعل أولئك الذين يعيشون حياة شرِّيرة؟!
أين تختبئ تلك النفوس التي ينفضح خزيها أمام الجميع؟!
بأيّ جسد يحتمل هؤلاء ما لا يُحتمل من الآلام في النار التي لا تُطفأ والدود الذي لا يموت، في أعماق الهاوية حيث الظلمة والرعب والنحيب المر والعويل والبكاء وصرير الأسنان الذي بلا نهاية؟!
هناك لا يوجد مجال للانطلاق من هذه الويلات بعد الموت، فلا نصيحة ولا وسيلة للهروب من الألم[249].
القديس باسيليوس الكبير
لكن المُقتدرين ينتظرُهم تحقيق شديد. [8]
سيدين الله كل إنسان حسب قدراته ومواهبه ومركزه، الأمور التي وُهبت له للعمل بها لحساب إخوته في البشرية، لا أن يستخدمها بروح الأنانية كإمتيازٍ خاص به. وقدر ما نال من الإمكانات ينتظره تحقيق أو محاسبة تتناسب مع ما تمتع به.
فإليكم أيها الملوك أُوجِّه كلامي،
لكي تتعلموا الحكمة ولا تزِلوا. [9]
يدعو الحكيم الملوك للتعلم والتمتع بالحكمة عوض التشامخ بالسلطة والقوة، حتى لا يسقطوا في الشر، وتحت الدينونة.
يبقى الإنسان الحكيم متعطشًا للتعلم مادام بعد في هذه الحياة، حتى وإن كان ملكًا أو قائدًا روحيًا. فإنه ليس من إنسان ليس في حاجة إلى التعلم المستمر، مادام لا يزال بعد في الجسد.
فإن الذين يحفظون بقداسةٍ ما هو مُقدَّسٌ،
يُشهد لهم بالقداسة،
والذين يتعلمونَه يجدون فيه دفاعًا. [10]
سلاح الملوك هو القداسة، ليتمثلوا بملك الملوك القدوس. فبالقداسة الحقيقية يقفون أمام القدوس في الدينونة متهللين. وكما يقول القديس بولس: "لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه" (1 تس 3: 13)، "اتبعوا السـلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).
يدعوهم أيضًا إلى الاستماع للنصيحة التي يقدمها لهم لكي يتأدبوا، أي يقبلوا تأديب الرب بفرحٍ ليحملوا صورة القدوس.
v من يحلم أنه قادر على الدخول إلى السماء دون طهارة القلب وبرّ الحياة وقداسة الجسد يموت في هذا الوهم ليستيقظ فيجد نفسه في خزي وعار أبدي.
القديس ايريناؤس
فارغبوا في كلماتي،
واصْبوا إليها تتأدَّبوا. [11]
إذ يتحدث الحكيم بروح الحب في شوقٍ حقيقيٍ لنموهم ونجاحهم، يسألهم بروح الأخوة الصادقة أن يرغبوا في كلماته، ويصبوا إليها أو يشتاقوا إليها، فتصير لهم معرفة صادقة أو تعاليم لائقة.
إنه لا يسألهم الطاعة، كمن يأمر فيلتزموا بالخضوع والتنفيذ. وإنما بروح الحب يُرشد ويكشف عن أسرار الحياة الناجحة وعن الطريق الذي يبلغ بهم إلى الأمجاد الأبدية، لهذا يترجاهم مراجعة الأمر لتلتهب قلوبهم شوقًا نحو الحق.
2. الحكمة تأتي لمُلاقاة الإنسان
الحكمة مجيدة لا تذبُل،
نعم! تسهُلُ مشاهدَتُها على الذين يُحبونها،
ويجدها الذين يلتمسونها. [12]
هنا يعلن الحكيم عن طبيعة الحكمة، فهي من جانب مجيدة، وأمجادها ليست وقتية بل دائمة وأبدية، لا تذبل. ومن الجانب الآخر تسعى نحو الإنسان، وتعلن عن حضورها، وتكشف عن ذاتها لمن يحبها. إنها سهلة المنال وبسيطة للغاية، وحاضرة على الدوام.
حقًا إنها لا تقحم نفسها ولا تحتل قلب إنسان عنوة بغير إرادته، فإنه إن التمسها وطلبها يجدها أمامه، مشتاقة للسكنى فيه.
هنا يتحدث عن الحكمة بكونها الأقنوم الثاني، الكلمة الإلهي، المجيد، ومجده سرمدي، وحاضر في كل مكان، مسرته أن يثبت فينا ونحن نثبت فيه.
تسبق فتُعرِّف نفسها إلى الذين يرغبون فيها. [13]
مع بهاء الحكمة العجيب ونضرتها الفائقة، أي إثمارها الذي لا ينقطع فإن الذين يحبونها ويتلمسونها يتعرفون عليها، معرفة الخبرة العملية والحياة.
لم يقل يمكننا معرفة الحكمة، إنما هي تُعرف نفسها إلى من يرغبها. فالإنسان بقدراته البشرية الطبيعية يعجز عن معرفة الحكمة الإلهي. فلا يستطيع أحد أن يقول عن المسيح ربًا إلاَّ بالروح القدس. لا يختبر أحد عذوبة حكمة الله وقدراته وإمكانياته إلاَّ من تنسكب المحبة في قلبه بالروح القدس (رو 5: 5).
من يقتني السيد المسيح يتعرف عليه ويحيا به ويتمتع بحكمته الإلهية، ويصير بالحق سفيرًا له.
ومن بَكَّر في طلبها لا يتعب كثيرًا،
لأنه يجدها جالسة عند أبوابه. [14]
يدعونا الحكيم أن نشتاق إلى الحكمة ونبتغيه، فيتجلى في قلوبنا كما على جبل تابور. سرّ تعبنا وعدم قدرتنا على اكتشاف شخص السيد المسيح وتمتعنا به أننا لا نبكر إليه. "أنا احب الذين يحبونني والذين يبكرون إلي يجدونني" (أم 8: 17). ليكن هو الأول في قلوبنا وأفكارنا وحواسنا، لن يحتل أحد ما ولا شيء ما مركزه فينا.
الحكمة أو السيد المسيح من جانبه جالس على أبوابنا الداخلية يستأذن بدخوله. "هنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي، وفتح الباب أدخل اليه وأتعشى معه وهو معي (رؤ 3: 20).
v لقد أعطانا الله الروح القدس حليفًا وحارسًا قديرًا، ومعلمًا عظيمًا للكنيسة، وبطلا قويًا لإعانتنا. فلا تخف إذن من الأبالسة ولا من الشيطان لأن الذي يحارب عنا أقوى منهم.
لنفتح له أبوابنا، إذ يبحث عمن يستحقونه ويفتش عمن يستطيع أن يهبهم مواهبه[250].
القديس كيرلس الأورشليمي
يدعونا الحكمة إلى التبكير في طلبه، فما كان يمكن لأحد من الشعب في البرية أن يتمتع بالمن النازل من السماء ما لم يبكر ويجمعه قبل شروق الشمس.
إنه سبق فبادر بالحب، جاء إلينا بنفسه. إنه في محبة يطلب من النفس البشرية قائلاً: "افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل، وقُصصي من ندى الليل" (نش 5: 2). فإذا ما استخفت به، وفضلت النوم عليه، وفي خمول رفضت ترك سريرها لتفتح له الباب، تفقد فرصة اللقاء معه، فنقول: "فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحوَّل وعبر، نفسي خرجت عندما أدبر، طلبته فما وجدته، دعوته فما أجابني" (نش 5: 6).
فالتأمل فيها كمال الحكمة،
ومن سهر لأجلها سرعان ما يخلو من الهُموم. [15]
لنفتح لمخلصنا أبوابنا الداخلية بخلوتنا في هدوء نتأمل حاجتنا إليه، ونسأله أن يدخل ويعلن ذاته فينا. نسهر ونرفض أن ننام، قائلين مع أبينا يعقوب: "لا أطلقك إن لم تباركني" (تك 32: 26).
فالطريق للحكمة بين أيدينا، بل في داخلنا، والتمتع بها سهل للغاية، إن كنا نبكر إليها، وننسى كل شيء من أجلها. ونصغي إلى صوتها قبل كل صوتٍ آخر.
يسألنا الحكيم حياة السهر الروحي، أي الاهتمام بالالتصاق بالرب، فلا يقدر الهمّ أن يلتصق بنا، بل نتحرر منه، ونصير في شركة مع السمائيين.
لأن الذين أهل لها هي التي تجول في طلبهم،
وفي السبل تظهر لهم بعطفٍ،
وفي كل فكر لهم تأتي لمُلاقاتهم. [16]
يؤكد الحكيم حقيقة الحب الإلهي الفائق، فالحكمة الإلهي وإن كان لا يقتحم نفوسنا بغير إرادتنا، إلا أنه واقف على الباب يطلب الدخول فينا. نحن من جانبنا نبكر إليه معلنين رغبتنا في قبوله، وهو من جانبه يجول كمن يبحث عنا، ويظهر لنا وسط كل ظروفنا كمن في وسط الطرق يطلب إلينا أن نقبله، بل ويعلن ذاته في أفكارنا لكي نشتاق إليها ونشتهي سكناه فينا.
فأولها الحقيقي هو الرغبة الصادقة في التأديب،
والاهتمام بالتأديب هو المحبة. [17]
يقدم لنا الحكيم السلم الذي نصعد به لنتمتع بالحكمة، درجات السلم الخمس هي:
أ. قبول التأديب: المؤمن المشتاق للحكمة يكره الخطية، فيقبل بفرح ما يحل به من تأديب بسماح إلهي، حتى تتمرر الخطية في فمه ولا يجد فيها أية لذة.
ب. بقبوله تأديب الرب له في إخلاص وبساطة قلب، ينفتح قلبه بالأكثر لمحبة الله. فلا تشغله ملذات العالم ولا يرتبك لأتعاب الحياة الزمنية، إنما تُمتص كل طاقاته في الحب الإلهي.
ج. إذ يحب الله يحفظ وصاياه، وكما يقول السيد المسيح: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني" (يو 14: 13).
د. من يحفظ الوصية الإلهية، تحفظه الوصية فيحمل برّ المسيح ويظهر أمام الآب متبررًا مجانًا، في طهارة ونقاوة.
هـ. إذ يتمتع المؤمن بالنقاوة يلتصق بالرب ويراه. "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8).
والمحبة هي حفظ شرائعها،
ومُراعاة الشرائع هي ضمان عدم الفساد. [18]
وعدم الفساد يجعلنا متقرِّبين إلى الله. [19]
تهب الحكمة الناس الخلود والشركة في ملكوت الله.
ليس ما يشغل قلب الحكيم مثل التقرب لله، والوجود معه أبديًا، لذا كثيرًا ما يتحدث عن الخلود وعدم الفساد أو عدم الموت في الحياة الأبدية.
v الإنسان فانٍ بطبيعته، لأنه خُلق من العدم، إلا أنه بسبب خلقته على صورة الله الكائن، كان ممكنًا أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي، ويبقى في عدم فناء، لو أنه أبقى الله في معرفته، كما تقول الحكمة: "حفظ الشرائع تحقق عدم البلى" (حك 6: 18). وبوجوده في حاله عدم الفساد كان ممكنًا أن يعيش منذ ذلك الحين كالله (خالدين)، كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك إذ يقول: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6، 7)[251].
البابا أثناسيوس الرسولي
فالرغبة في الحكمة تقود إلى الملكوت. [20]
v هذه العواطف (الاشتياقات) تكون شريرة إن كان الحب شريرًا، وصالحة إن كان الحب صالحًا. لنبرهن على هذا من الكتاب المقدس. فالرسول يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 1: 23). وقيل "انسحقت نفسي شوقًا إلى أحكامك" (مز 119: 20). وأيضًا "الرغبة (اشتهاء) في الحكمة تقود إلى الملكوت" (حك 6: 20)[252].
القديس أغسطينوس
فإن طابت لكم العروش والصوالجة يا ملوك الشعوب،
فأكرموا الحكمة لكي تملكوا للأبد. [21]
يوجه الحكيم أنظار الملوك إلى الملكوت الأبدي، وطريقه هو التمتع بالحكمة.
حقًا أقامنا لله هنا لنكون ملوكًا وسادة، لكن إذ نختبر مالنا من سلطان روحي وإمكانيات في المسيح يسوع، يرتفع قلبنا إلى السماء لننعم مع ملك الملوك ورب الأرباب بالأمجاد الملوكية السماوية.
هنا نملك حيث يكون لنا سلطان على الفكر والقلب واللسان وكل الحواس، وهذا عربون الملكوت السماوي الحقيقي.
يوجه الحكيم أنظار الملوك إلى الملكوت الأبدي: "لكي تملكوا للأبد"؟
إذ هاجمت بعض الفرق العهد القديم وادعت أنه لم يشر إلى ملكوت السماوات الأبدي أشار القديس أغسطينوس إلى العبارة التي بين أيدينا مع عبارات أخرى اقتبسها من العهد القديم ليؤكد دعوته للملكوت الأبدي.
v لقد قيل حقًا: "أحبوا الحكمة لكي تملكوا للأبد" (راجع حك 6: 21). لو أن الحياة الأبدية لم تُعرف بوضوح في العهد القديم، لما قال الرب لليهود غير المؤمنين: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي" (يو 5: 39). ولنفس الهدف جاءت كلمات المرتل: "لا أموت، بل أحيا وأحدث بأعمال الرب" (مز 118: 17). مرة أخرى يقول: "أنر عينيَّ لئلا أنام نوم الموت" (مز 12: 3). مرة أخرى نقرأ: "نفوس الأبرار هي بيد الرب، فلا يمسها أي عذابٍ" (حك 3: 1). ويتبع ذلك فورًا: "إنهم في سلامٍ، وإن عانوا من عذاب من بشر، فرجاؤهم مملوء خلودًا، وبعد متاعبٍ يسيرة سيكون لهم مكافأة عظيمة". مرة أخرى يقول في موضع آخر: "أما الأبرار فسيحيون للأبد، وعند الرب ثوابهم، ولهم عناية من لدن العليّ، فلذلك سينالون مملكة مجدٍ وتاج جمالٍ من يد الرب" (حك 5: 15-16).
هذه العبارات وكثير من أمثالها عن الحياة الأبدية في صراحة أكثر أو أقل توجد في هذه الكتابات. حتى قيامة الجسد تحدَّث عنها الأنبياء[253].
القديس أغسطينوس
3. سليمان يصف الحكمة
وأنا أخبركم ما هي الحكمة وكيف نشأت،
ولا أكتم عنكم الأسرار.
لكني أتقصَّاها من أول نشأتها،
وأجعل معرفتها بيِّنة،
ولا أحيد عن الحق. [22]
يعّرف الكاتب نفسه أنه سليمان الذي تمتع بعطية الحكمة، فلا يقدر أن يكتم أسرارها، لئلا يُحسب جاحدًا لعطية الله، أو غير محبٍ لإخوته إنه يود أن يتعرف كل إنسان عليها فيحبها ويطلبها من الله مصدرها ويقتنيها معه!
الحكيم الحقيقي يسلك بالبرّ الذي لا موضع للأنانية في قلبه، فيشتهي أن يتمتع الكل معه فيما ناله.
الحكمة ينبوع مياه حية كلما شرب الغير منها حفظ الينبوع نقاوة مياهه حيث يفيض بها دون توقف، فلا تصير مياهه راكدة تتعرض للتلوث بالطحالب والميكروبات.
يود الكاتب أن يكشف عن الحكمة الصادرة عن الله، لأنه قد حدث تشويش في أفكار كثير من الناس، فيحسبون اللذة هي الحياة السعيدة، وبالتالي تنصب الحكمة في ملذات الجسد والتمتع بالعطايا الزمنية واللهو، أما الإلهيات والسماويات ففي ذهنهم هي خيال ووهم، تفقد الإنسان تعقله وحكمته.
v التعريف العادي للحكمة هو طلب ما هو صالح وتجنب الشر. لذلك فإن الرسول على حق في وصفه لحكمة الجسد (كعداوة لله)، بكونها اشتياقًا للخيرات التي لا تدوم مع الإنسان حيث يوجد خوف من فقدان هذه الأمور يومًا ما حيث يتركها خلفه. مثل هذه الحكمة لا تقدر أن تخضع لناموس الله. يجب أن تُحطم لكي ما تحتل مكانها حكمة الروح هذه التي لا تضع رجاءها في الخيرات الأرضية ولا تخشى الشرور العالمية. فإن طبيعة النفس الواحدة لها حكمة الجسد متى طلبت الأمور الدنيا كما لها حكمة الروح متى طلبت الأمور العليا، وذلك كطبيعة الماء الواحدة التي تتجمد في البرد وتذوب في الحر[254].
القديس أغسطينوس
v مادام الجسد يحيا... لا يمكن لمؤمنٍ أن يسر بإرادة الله ويتممها بنشاط في حياته[255].
القديس غريغوريوس النيسي
v الحكمة الجسدية موت، لأن الخطية خطيرة، وخلال الخطية جاء الموت. إنها تُدعى حكمة مع أنها جهالة. لأنه بالنسبة للناس العالميين الخطية - سواء بالفكر أو بالعمل - تُحسب حكمة، المدركة مع أنها ضد ناموس الله، خاصة وأن الذين يخطئون ممتلئون نشاطًا وذكاءً[256].
أمبروسياستر
ولا أسير مع الذي يذوب حسدًا،
لأنه لا شركة له في الحكمة. [23]
يحثنا الحكيم على محبة نور الحكمة، فالعالم نوره قائم على الشمس التي تنير الأمور الظاهرة، أما نور الحكمة فيهب النفس استنارة لترى الخفيات وتتعرف على أسرار السماء، ويكون لها الحكم الصائب.
يحذرنا الحكيم من الحسد الذي يفسد عيوننا عن رؤية النور الحقيقي. ليس من شركة بين الحكمة التي هي في ذاتها حب لله والناس وبين الحسد الذي لا يحمل حبًا لله والناس. ليس من عدوٍ يفسد الحكمة في حياة الإنسان مثل الحسد، الذي لا حظَّ له في الحكمة، أو لا شركة له معها.
تحدث القديس أغسطينوس عن حسد راحيل الجميلة الحادة البصر لليئة صاحبة العينين الضعيفتين، لأن الأولى كانت عاقرًا والثانية فتح الرب رحمها لتثمر فتصير محبوبة من رجلها[257]. إن استعرنا ما كتبه القديس أغسطينوس في هذا الأمر في شيء من التصرف نقول بأن راحيل تمثل الإنسان الذي يكرس كل طاقاته في حياة التأمل وحدها، له البصيرة الحادة ليتمتع برؤية أسرار إلهية، لكنه لا يخدم. وليئة تمثل الإنسان الروحي الجاد والعامل في كرم الرب فيأتي بأبناء كثيرين للملكوت. فإنه لا غنى للإنسان عن الحياتين معًا، لكي يتمتع برؤية أسرار الله ويعمل في كرمه. هذا وأنه لا يليق بمن يكرس الجانب الأكبر لحياته للتأمل أو للخدمة أن يحسد الآخر، بل يكمل أحدهما الآخر، ويطلب كل منهما ما هو للغير بروح الحب.
إن كثرة الحُكماء خلاصُ العالم،
والمَلِك الحكيم ثباتُ الشعب. [24]
ليس من خلاصٍ للعالم بدون المؤمنين الحقيقيين الذين يتمتعون بالحكمة. جاء في الرسالة إلى ديوجنيتس:
[يقيم المسيحيّون في العالم كما تقيم الروح في الجسد.
الروح منتشرة في أعضاء الجسد انتشار المسيحيّين في مدن العالم.
الروح تقيم في الجسد، إلاَّ أنّها ليست من الجسد المنظور...
الجسد يكره الروح ويقاومها، وإن لم ينله منها أذى، سوى أنّها تحول دون انغماسه في حمأة اللذات. والعالم يكره المسيحيّين، لا لأنّهم أساءوا إليه، بل بكونهم يتصدّون لما فيه من شهوات منحرفة فاسدة. تحب الروح الجسد الذي يبغضها، كما يحب المسيحيّون مبغضيهم.
الروح سجينة الجسد، ولولاها لما كان للجسد من حياة، والمسيحيّون موثقون في سجن العالم، ولولاهم لا قيام ولا حياة للعالم.]
هكذا فإن الحكيم الحقيقي إذ يحمل السيد المسيح في قلبه يصير محبًا للبشرية (للعالم) مشتاقًا إلى خلاص الجميع.
فالحكمة ليست معرفة نظرية لكنها حب عملي لكل العالم، وشوق إلى بنيان كل نفسٍ وتمتعها بالمجد الأبدي. فبقوله "تأدبوا بأقوالي" يسألنا ألاَّ يتحول هذا الحديث إلى فكر فلسفي مجرد، وإنما إلى حياة عملية ونفع حقيقي.
v "إن كثرة الحكماء خلاص العالم" (حك 6: 24). هكذا يشتهي الرسول لمن يحدثهم أن يكونوا هكذا: "أريد أن تكووا حكماء للخير، وبسطاء للشر" (رو 16: 19). الآن، إذ لا يستطيع أحد أن يُوجد بذاته هكذا لا يقدر أن يكون حكيمًا بذاته، وإنما بالاستنارة بفيض ذاك الذي كُتب عنه: "كل حكمة هي من عند الرب" (سي 1:1)[258].
القديس أغسطينوس
فتأدبوا بأقوالي تستفيدوا منها. [25]
يختم الحكيم حديثه هنا بالكشف عن غايته، إنه لا يطلب لنفسه شيئًا، بل ما هو لنفعهم وبنيانهم.
من وحي الحكمة 6
هب لي روح الأبوة الحكيمة
v طأطأتَ السماوات ونزلت إلينا، يا ملك الملوك ورب الأرباب.
نزلت لتخدمنا نحن عبيدك الخطاة،
ولم تطلب خدمة لنفسك.
أحببتنا، وتواضعت لكي ترفعنا.
يا لعظم تواضعك وحبك!
v انزع عني روح التسلط ومحبة المجد الباطل.
هب لي أن أقتنيك،
فأقتني روح التواضع والوداعة والحب الحقيقي.
أحب كل إنسانٍ، وأحترم كل إنسانٍ،
أيا كان عمره، ولو كان يومًا واحدًا،
ومهما كانت قدراته وإمكانياته ومركزه،
ولو كان معدمًا في كل شيء.
لتكن شريعتك هي ناموس حياتي،
وحكمتك هي القائد والمرشد لأعماقي، كما لسلوكي وكلماتي.
v وهبتني الكثير، فسأُطالب بالكثير.
اعترف لك بكسلي وتهاوني وعدم أمانتي.
من يُصلح من أمري سواك؟
من يجددني غير روحك القدوس؟
من يعينني سوى نعمتك الفائقة؟
v إني مشتاق إلى سرعة مجيئك،
فإني أعلم أنك أب رحوم،
تقدم لنا شركة أمجادك السماوية.
إن حاكمتني، كيف أتبرر قدامك؟
ليس في جسدي شيء صالح.
لكن لي ملء الثقة في غنى نعمتك، وقوة صليبك!
تعال, وليُعِدَني روحك الناري بالتقديس،
فألتقي بك يا أيها القدوس.
v إلهي، اقف في دهشة أمام مبادرتك بالحب وتنازلك!
أراك حاضرًا على الدوام,
تود أن تتجلى أمام كل نفسٍ,
وتطلب كل إنسانٍ لتهبه ذاتك، يا أيها الحكمة الإلهي!
نعم إنك لست ببعيد عن أحدٍ،
بل قريب إليه، أقرب من والديه أو أبنائه.
أنت تبكر إلينا،
هب لنا أن نبكر إليك.
أنت جالس عند أبوابنا،
تفضل واسترح في أعماقنا.
v أنت تسهر على خلاصنا،
ليس ما يشغلك في السماء سوى أبديتنا.
هب لنا أن نسهر لأجل أنفسنا.
أنت تجول الطرق كمن يبحث عنا.
هب لنا أن نشتاق إليك وننعم باللقاء معك.
هب لي أن أتعرف على حبك فأحبك.
هب لي بالحب أن أحفظ وصاياك،
فاقترب إليك، وتسكن أنت في.
هب لي أن تحملني فيك، فأنعم بملكوتك.
v أقتنيك يا ملك الملوك، فأحسب كل ما في العالم نفاية.
أحبك فأملك معك إلى الأبد.
أقتنيك يا حكمة الله، فأتعرف عليك وأدرك أسرارك.
احمل روحك، فتجعلني حكيمًا،
وبالحكماء تخمر عجين هذا العالم كله.
يا لعظمة الحكمة!
حك 7 – حك 9
1. الحكمة للجميع 7.
2. الحكمة العروس الخالدة 8.
3. صلاة سليمان 9.
الحكمة بين يديك
في القسم السابق (حك 1- حك 6)، يدعو الحكيم كل إنسانٍ، خاصة الملوك والرؤساء والقادة، إلى طلب الحكمة.
مقارنة بين الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار
بعد أن كشف عن التكامل بين الحكمة والبٌر واهب الخلود، وعن دور الحكمة في حياة الإنسان، قدٌَم مقارنة عملية بين الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار:
1. يتمتع الحكماء بالبٌر واهب الخلود، بينما ينغمس الجهلاء في الملذات الزمنية الفانية.
2. يحمل الحكماء روح الحب، ويحمل الجهلاء روح الكراهية والبغضة نحو الأبرار، لأنهم يدينوهم حتى وسط آلامهم وفي صمتهم.
3. يتعرف الحكماء على خطة الله من نحو الإنسان، خاصة ما يسمح به من تأديبات، بينما يسخر الجهلاء من الأبرار، حاسبين أنهم فقدوا الحياة بعدم مبالاتهم بالملذات الزمنية.
4. يتمتع الحكماء الأبرار بالفضائل كثمار حية ترافقهم، حتى وإن لم يكن لهم أبناء، أما الأشرار فيركزون على كثرة النسل تخليدًا لذكراهم، ولكن بلا جدوى.
5. لا يرهب الحكماء الموت، لأن نفوسهم بيد الله هنا على الأرض وفي الأبدية، وأما الجهلاء فيتطلعون إلى موت الأبرار المبكر أو حرمانهم من أبناءٍ يخلدون ذكراهم، أو دخولهم في ضيقات، أنها جزاء عادل لهم.
6. تتركز أنظار الحكماء على السماء، مما يسكب عليهم روح التهليل، أما الجهلاء فيحملون نظرة سوداوية، فيفقدون كل رجائهم، ويسخطون على حياتهم مهما تمتعوا من بركات زمنية.
7. ليس من وجهٍ للمقارنة بين مصير الحكماء الأبرار الأبدي ومصير الجهلاء الأشرار. فيقف الأولون بجرأة أمام من كانوا يضطهدونهم، ويرتعب الجهلاء، مدركين أنهم كانوا أغبياء، حرموا أنفسهم من التمتع بالتبني لله.
v عند صوت البوق ترتعد الأرض وشعوبها وأما انتم فتفرحون.
سيولول العالم عند مجيء الرب للدينونة، وستضرب قبائل الأرض صدورها.
للحال يرتعب الملوك في عريهم، لكنك يا من تبدو فقيرًا و قرويًا ستكون ممجدًا و ضاحكًا، وتقول :"تطلع يا ربي المصلوب، تطلع يا من تقضي إلي[259]ّ".
القديس جيروم
8. بينما يتمتع الحكماء الأبرار بشركة الأمجاد السماوية، يُغلق الباب أمام الجهلاء الأشرار، فندمهم لا يدفعهم إلى التوبة والرغبة في الرجوع إلى الله.
أخيرًا يختم الحكيم القسم الأول بتحذير ختامي للملوك والقادة وكل إنسانٍ لئلا يفقدوا فرحتهم في طلب الحكمة.
تساؤلات عن الحكمة
بعد أن رفعنا سليمان الحكيم كما إلى السماء لنطلب الحكمة، أو شخص ربنا يسوع المسيح بكونه بٌرنا واهب الأمجاد، يجيب في القسم الثاني على بعض التساؤلات، مثل:
v هل الله يحابي الوجوه، يعطي البعض، ويحرم البعض الآخر؟
v لماذا نال سليمان الحكمة، بينما لم ينلها بعض الملوك؟
v ما هو دور الحكمة وعملها في حياة سليمان الملك؟
v كيف يمكننا نوال الحكمة؟
v كيف صلي سليمان لطلب الحكمة، فنالها؟
تجيب هذه التساؤلات على الذين يدعون أنهم يطلبون الحكمة من الله ولم ينالوها.
هذا هو موضوع القسم الثاني من السفر (حك 7 - حك 9). هذا ويُلاحظ أن الملك سليمان يمتدح الحكمة ويكشف عن ماهيتها، ويعلن عنها أنها عطية الله، تُقدم لسائليها. يعالج هذا القسم الحكمة كشخصٍ له سماته وعمله في الخليقة. وقد جاء هذا القسم مطابقًا لما ورد في أمثال 8.
يخصص الكاتب هذا الفصل كله لإبراز الحاجة إلى الحكمة ومدى عظمتها. فبعد وصفه لها، وشرحه لدورها في حياة الأبرار والأشرار، يقدم لنا صورة رائعة عن عظمة الحكمة، وكيف ركز سليمان صلواته على طلبها.
1. سرّ نوال سليمان الحكمة (حك 7)
كملك عظيم لا يختلف سليمان عن أي إنسان في الحبل به ومولده ومماته. يشارك الكل ذات الهواء وذات الأرض...
أما لماذا طلب سليمان الحكمة من الله ونالها، فإنه لم يتحقق هذا عن محاباة له، إنما لأنه طلبها بكل قلبه، إذ كان يدرك قدرها:
أ. فضَّلها عن العرش والغنى (8:7).
ب. أحبها فوق الصحة والجمال، واتخذها نورًا له، "لأن ضوءها لا يغرب" (7: 10).
ج. حسبها أم ومصدر كل البركات (12:7).
د. أدرك أنها تُقدم له معرفة بالكون (17:7). فهي "مهندسة كل شيء، هي علمتني" (21:7).
هـ. تحل في النفوس القديسة، فتُنشئ أحباء لله وأنبياء" (27:7)، وتهبهم المعرفة الصادقة.
و."فيها روح الفهم القدوس" (22:7).
ز. تعٌَرف على سماتها الحقيقية، فصارت لها مكانتها في قلبه في وفكره، تحتل مركز الصدارة في أعماقه.
2. العروس الجميلة الخالدة (حك 8)
بعد أن تحدث عن سرٌ نواله الحكمة، كشف لنا الحكيم عن مدى ارتباطه بها. إنها عروسه المحبوبة لديه جدًا، يعشقها، وهي لا تكف عن أن تعمل في حياته بلا توقف.
إنها تبلغ من غاية إلى غاية بالقوة، وتدبر كل شيء بالرفق (1:8).
"اتخذتها لي عروسًا، وصرت لجمالها عاشقًا، فإن في نسبها مجد، لأنها تحيا عند الله، ورب الجميع قد أحبها" (2:8، 3).
"لأنها تعلم العفة والفطنة والعدل والقوة التي لا شيء للناس في الحياة أنفع منها" (7:8).
"مفرجة لهمومي وكربي" (9:8).
"أنال بها الخلود" (13:8).
"ليس في معاشرتها مرارة، ولا في الحياة معها غمّ، بل سـرور وفرح" (8: 16).
3. صلاته من أجل نوال الحكمة (حك 9)
أخيرًا، يقدم لنا صلاة سليمان كمثالٍ عمليٍ لنا، حتى نطلب الحكمة الإلهية، ونمارس طلبتنا لها من الله بذات الروح.
"هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك" (4:9).
شخصية سليمان
كثيرًا ما سُئلت: كيف يُمكن اعتبار سليمان الملك أحد رجال الإيمان؟ لكنني إذ أقف أمام هذا الأصحاح انحني بكل تقدير لهذه الشخصية. فإنه وإن كان سليمان قد مرّ بمرحلة مُرة خلال زواجه بأجنبيات لكسب الملوك المحيطين به، فدفعن إياه إلى عبادة آلهتهن الوثنية (1 مل 11: 1-8)، فإن هذا الأصحاح يقدم لنا صورة فريدة عن هذه الشخصية:
أولاً: ما كتبه عن نفسه بكونه إنسانًا لا يختلف في قليلٍ أو كثيرٍ عن أي فقير يكشف عن تواضع هذا الملك الذي نال شهرة فائقة، ليس في عصره فقط، وإنما إلى عصور كثيرة.
تحدث عن تصويره في بطن أمه كثمرة علاقة زوجية، وثمرة لذة، أمر يخجل أي صبي صغير أن يذكره عن نفسه. ولست أظن أنه كان يُمكن لأي كاتب أن يتحدث هكذا عن هذا الملك العظيم، لو لم يسجل بنفسه هذا بروح التواضع.
ثانيًا: يقدم لنا هذا الأصحاح صورة رائعة عن مشاعر هذا الملك وأحاسيسه من جهة تقديره للحكمة. لقد فضلها عن العرش والصولجان والغنى والصحة والجمال، وحسبها أمًا للخيرات، ومصدرًا لها.
ثالثًا: تمتعه بالحكمة ونواله شهرة حتى بين الملوك لم يدفعه إلى التشامخ، بل اشتهى بكل قلبه أن يتمتع كل الملوك والقادة بما يتمتع به.
رابعًا: مع شهرته بالحكمة والقدرة على الكلام، حسب نفسه غير أهلٍ للحديث عنها، ما لم يلهمه الله القدرة على الكلام.
خامسًا: حديثه عن سمات الحكمة تكشف عن ما تمتع به سليمان من إشراقة العهد الجديد عليه، ليتعرف على الحكمة كأقنومٍ إلهيٍ، هو كلمة الله وحكمة الله، وكأنه قد التقى بالسيد المسيح وتعرف عليه وتمتع بالشركة معه.
الحكمة للجميع!
إذ ذاق سليمان الحكيم الحكمة الحقيقة التهب قلبه حبًا نحو كل البشرية، فاشتهى أن يفصح عن سٌر تمتعه بالحكمة، بروح التواضع المملوء حبًا، حتى ينفتح باب السماء أمام الجميع. كشف الحكيم عن حقيقة هامة، وهي أنه وإن كان ابن داود الملك العظيم البار، لكنه لا يحمل طبيعة تختلف عن طبيعة أي إنسان. دخل إلى العالم بذات الطريق الذي يدخله كل إنسانٍ. ألا وهو أنه ثمرة الزواج بين والديه، وتربى كطفلٍ في قماط، ولم ينجُ من الصرخات التي يصرخها أبناء الفقراء الُمعدمين، وسيخرج من العالم كما يخرج سائر البشر، خلال طريق الموت.
أما عن انفراده بما ناله من حكمة فائقة فسرٌه هو تقديره لها وشوقه العملي نحوها. لقد فضلها عن كل شيء في العالم!
والآن يطلب من الله أن يهبه الحكمة السماوية ليتكلم عن الحكمة، فإن اللسان البشري يعجز عن أن يُعبِّر عن حقيقتها. كما يعترف سليمان أن كل ما تمتع به من علوم ومعرفة هي عطايا من الحكمة الإلهية.
وأخيرًا يتحدث الحكيم عن الحكمة بكونها بهاء النور الإلهي.
1. سليمان ليس إلا إنسانًا 1-6.
2. تقدير سليمان للحكمة 7-14.
3. طلب الإلهام الإلهي للحديث عنها 15-17.
4. العلوم والمعرفة عطايا الحكمة الإلهية 17-21.
5. الحكمة بهاء النور الإلهي22-30.
1. سليمان ليس إلاَّ إنسانًا
إني أنا أيضًا إنسان قابل للموت،
مساوٍ لجميع الناس،
مُتَّحّدِّرٌ من أولِ من جُبِلَ من الأرض، [1]
من جهة حياته الزمنية يعترف الحكيم أنه ينتسب إلى آدم، الإنسان الأول، مثله مثل كل البشر، وليس من أصل آخر حتى يحابيه الله. وهو بهذا يفتح باب الرجاء للكل.
ربما يتساءل البعض: هل لدى الله محاباة، فأعطى سليمان الحكمة بهذه الصورة الفائقة؟ أو كان لسليمان طبيعة بشرية تَختلف عن طبيعتنا حتى يتمتع بهذه الحكمة؟
يعلن سليمان الحكيم أن ما تمتع به من حكمة سامية ليس لامتياز في طبيعته، فإن كل البشر أيا كانت إمكانياتهم أو قدراتهم أو مركزهم أو ثقافتهم أو عمرهم أو جنسياتهم متساوون يحملون ذات الطبيعة البشرية.
بنفس الروح تساءل البعض: هل كان للرسول بولس طبيعة مختلفة عن سائر البشر، حتى يبلغ هذه القامة الروحية العالية، ويحتل مركز الصدارة في خدمة الأمم، ويعمل به الروح القدس كما بطريقة فريدة؟
وما نتساءله بخصوص سليمان الحكيم والرسول بولس نتساءله بخصوص كثيرين كاختيار إبراهيم أبًا لجميع الأمم، وداود الملك ليأتي من نسله السيد المسيح مخلص العالم وغيرهم.
كثيرًا ما أجاب القديس يوحنا الذهبي الفم على مثل هذه التساؤلات.
v يلزمنا حينما نُحث على ممارسة فضيلة ما ألاَّ نقول أن هؤلاء كانوا شركاء لطبيعة غير طبيعتنا، أو أنهم ليسوا بشرًا. لهذا قيل عن العظيم إيليا: "كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا" (يع 5: 17). هل تدركون أن إيليا قد أظهر من ذات شركته للآلام أنه إنسان مثلنا؟ مرة أخرى قيل: "إني أنا أيضًا إنسان لي ذات الآلام مثلكم" (راجع حك 7: 1). هذا يعطي طمأنينة من جهة شركة الطبيعة[260].
v لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر.
الآن، أين هؤلاء المعترضون على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟
فهذا الرجل يدينهم بكلماته: "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدىٍ" (2 كو17:4).
فإن كانت ضيقاته مُحتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟[261]
القديس يوحنا الذهبي الفم
يعلن الكاتب أن الحكمة للجميع، وأن الحكيم الحقيقي يشتهي أن تتمتع كل البشرية بالحكمة معه. هذا على خلاف ما كان يعتنقها كثير من الوثنيين والفلاسفة حيث يحسبون أن الفلسفة أو محبة الحكمة قاصرة على فئة مختارة. ويحرص كثيرون منهم على تخبئة ما يظنون أنها حكمة، وكأنها ملكية خاصة بهم لا يُقترب إليها.
v لنستخف بهذا كله وننال روح الحكمة الذي ليس فيه همّ، ونسرع لنوال الثروة التي ليس فيها خداع، ونذهب إلى الملذات التي يُقال عنها "فردوس النعيم"[262].
العلامة أوريجينوس
وقد صُوِّرتُ جسدًا في بطن أمٍّ،
وفي مُدة عشرةِ أشهرٍ تكوَّنتُ في الدم، من زرع رجلٍ.
ومن اللذة التي تصاحب النوم. [2]
بقوله "صُورت جسدًا في بطن أمٍّ"، يبرز الحكيم يٌد الخالق الخفية العاملة في أحشاء كل أمٍ، فإنه وإن كان الجنين هو ثمرة علاقة جسدية تحمل لذة بين الزوجين، لكنها ليست علاقة أثيمة، بل يباركها الله نفسه الذي أسس الزواج. فالجنين هو من خلقة الله الذي يهتم به، ولكن يتحقق بناموس الزواج الطبيعي. جاء في إرميا النبي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب" (إر 1: 5).
اعتبر مدة الحمل به عشرة أشهر حيث استخدم في حساباته التقويم القمري (الشهر القمري يعادل 28 يومًا) لا الشمسي.
ولما وُلدتُ تنفستُ أنا أيضًا الهواء المُشتَرَك،
وسقطت إلى الأرض،
كما هي طبيعة الإنسان،
وكان البُكاء صُراخي الأول،
كما هو لجميع الآخرين. [3]
لا ينسى سليمان الحكيم عطايا الله العامة والتي لا تقدر بثمن، يشترك فيها الغني والفقير، ويتمتع بها الطفل منذ ولادته، مثل الهواء الذي يتنسمه، والأرض التي يعيش عليها، بل وحتى الصرخة الأولى بعد ولادته مباشرة، التي بدونها لا تنفتح الرئتان لتعملا.
ما أجمل أن نتذكر العطايا الإلهية المجانية والمشتركة بين كل البشر.
يرفع كثير من آباء الكنيسة قلوبهم بالشكر لله الذي لم يأتمن إنسانًا على العطايا الثمينة بل قدمها عامة ومشتركة للجميع، مثل الماء والهواء والشمس الخ، بينما ترك الكماليات مثل الذهب والفضة والحجارة الكريمة والثياب الثمينة للملكية الخاصة، حتى يمارس الأغنياء فضيلة العطاء، والفقراء فضيلة الشكر للذين يعطون لهم إياها.
v أقمت لي السماء سقفًا، وثبت لي الأرض لأمشي عليها...
القداس القديس غريغوريوس اللاهوتي
v ماذا يعنى الرسول عندما يقول: "بل الله الحي الذي يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع" (ا تي 6: 17)؟ يعطينا الله بفيض كل الأشياء الضرورية أكثر من المال مثل الهواء والماء والنار وأشعة الشمس والأشياء التي من هذا النوع. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الغني لديه أشعة شمس أكثر من الفقير، ولا يمكن القول بأن الغني يتنفس هواء أكثر من الفقير. كل هذه الأشياء مُتاحة للكل بطريقة مشتركة وبالتساوي. لماذا خلق الله الأشياء الأعظم والأهم، تلك التي تمدنا بالحياة، مشتركة للجميع، بينما الأشياء الأقل والدنيئة جدًا أي المال ليس مشاعًا للناس. هذا هو ما أود أن أسأله. لكي يصون حياتنا ويفتح أمامنا طريق الفضيلة، ومن ناحية أخرى لو لم تكن ضروريات الحياة مشتركة، لاستولى عليها الأغنياء بطمعهم المعتاد، وحرموا منها الفقراء. لأنهم إن كانوا قد فعلوا هذا مع الأموال، فكم بالأحرى كانوا يفعلون ذات الأمر مع هذه الأشياء. ومن ناحية أخرى لو كان المال مشاعًا ومتاحًا للجميع، لما كانت توجد فرصة لتقديم الصدقات، ولما وُجد حافز لعمل الخير.[263]
القديس يوحنا الذهبي الفم
ورُبِّيتُ في القُمُطِ والهموم. [4]
من العجيب أنه لم يفارق فكر سليمان، أعظم ملك في عصره، صورته وهو رضيع في قماط، يحمله الناس حسبما يريدونه. هذا المنظر يثَّبت فيه روح التواضع، وينزع عنه أية عجرفة.
فإنه ليس لملِكٍ بدءْ وجودٍ غير هذا. [5]
يدعو الحكيم جميع الملوك ليراجعوا أنفسهم كيف بدأوا الحياة، فيسلكون مع الشعب بروح الأخوة أو الأبوة الحانية، لأن الكل لهم ذات البداية، بلا تمييز بين هذا وذاك.
بل مدخل واحدٌ للجميع إلى الحياة،
وواحد لخروجهم. [6]
ما هو المدخل للحياة سوى أننا وُلدنا عراه، وما هو مخرجنا سوى باب الموت، حيث نخرج من العالم عراه كما دخلنا. وكما قال أيوب: "عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك" (أي 1: 21).
v [في رسالة تعزية إلى الكسندرة، إذ فقدت ابنها كتب:]
القرار الإلهي نزعه عنا، ونقله إلى الحياة الأفضل، لذلك إنني انزع سحابة الحزن عني، وأحثكِ أيتها الصديقة العزيزة[264] أن تبددي ألم أحزانك بقوة التعقل، وأن تأتي بنفسكِ في ساعة الاحتياج هذه إلى سحر كلمة الله...
أنا أعلم كيف أن هذا الأمر محزن ومؤلم للغاية. عندما يختبر الإنسان قيمة الشيء الذي يحبه وفجأة يُحرم منه، ويسقط في لحظة من حالة السعادة إلى البؤس.
أما بالنسبة للذين وُهبوا الإحساس الصالح ويستخدمون طاقاتهم بتعقلٍ سليمٍ، فإنهم لا يتوقعون حلول أي حدث بشري غير منظور. فإنه ليس أمر بشري مستقرًا، ليس شيء دائمًا، لا الجمال ولا الثروة ولا الصحة والكرامة. ليس شيء من كل هذه الأمور بالنسبة للذين من طبقات عالية جدًا... أنا اعلم أيتها الصديقة العزيزة أنك تعرفين هذا كله. وأرجوك أن تتأملي الطبيعة البشرية، فستجدينها قابله للموت، وقد تسلمت مصير الموت منذ البداية.
قال الله لآدم: "أنت تراب، وإلى تراب تعود" (تك 19:3)...
يخبرنا الكتاب المقدس: "مدخل واحد للجميع إلى الحياة، وواحد لخروجهم" (تك 6:7)
وكل واحدٍ يولد يترقب القبر. ليس الكل يعيشون ذات الفترة الزمنية. فالبعض يبلغون النهاية بسرعة شديدة، وآخرون في أثناء حيوية الرجولة، والبعض بعد أن يختبروا الشيخوخة[265].
ثيؤدورت أسقف قورش
2. تقدير سليمان للحكمة
أ. تفضيلها عن العرش والغنى
لذلك صليت فأوتيتُ الفهم،
ودعوت فأتاني روح الحكمة. [7]
ما يتميز به سليمان الحكيم أنه رجل صلاة، يؤمن أنه ليس من يملأ كيانه سوى الله، وليس ما يشبع حتى احتياجاته العقلية سوى الله واهب الحكمة والفهم، لذا لا يكف عن الصلاة إلى أبي النور.
يقول القديس يعقوب الرسول: "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع 1 : 17).
v يدعو يعقوب الله "أب الأنوار العقلية"، بمعنى أنه المنير للكائنات العاقلة، فهو واهب هذه العطايا الإلهية يقدمها للكائنات البشرية، وكما يقول يعقوب إنها العطايا الأفضل التي بلا عيب وهي كاملة دون شك[266].
القديس ديديموس الضرير
v لا يستحق إنسان ما أن ينال شيئًا من أبي الأنوار الذي من عنده كل عطية صالحة إلا أنه ينال ما لا يستحقه[267].
v هذه هي الحكمة التي تلجم اللسان، نازلة من فوق، ولا تنبع عن قلبٍ بشري. هل يجسر أحد أن ينتزعها عن نعمة الله، بغير زهو الكبرياء، ويجعلها في سلطان إنسان؟[268]
القديس أغسطينوس
يرى العلامة أوريجينوس أن حياة المؤمن رحلة من هذا العالم إلى السماويات حيث يحتاج إلى نور السيد المسيح حكمة الله، الذي يشرق عليه تدريجيًا في هذا العالم، فيدخل من مجدٍ إلى مجدٍ، ويختبر الحياة السماوية حتى يبلغ إلى السماوي نفسه، خالق الكل وواهب كل عطية صالحة.
v تصعد النفس تدريجيًا إلى السماوات بعد القيامة. إنها لا تبلغ أعلى نقطة فورًا، وإنما خلال مراحل متعددة، حيث تستنير في تقدمٍ بنور الحكمة حتى تبلغ أبى الأنوار نفسه[269].
العلامة أوريجينوس
الصلاة هي طريق التمتع بالحكمة، لأنها هي شركة مع حكمة الله ربنا يسوع المسيح نفسه. ليس من يقدر أن يبلغ إليه ويتعرف عليه ويتحد معه إلا بروح الله القدوس.
ففضلتها على الصوالجة والعروش،
وعدَدَتُ الغنى كلا شيء بالقياس إليها. [8]
إذ يقتني الإنسان الحكمة الإلهي، يصير بالحق ملكًا روحيًا متحدًا مع ملك الملوك. فيستخف بكل كرامةٍ زمنيةٍ تُقدم له، أو سلطان أو غنى. يجد في مسيحه كل كرامةٍ داخليةٍ ومجدٍ وغنى، لهذا يتغنى المرتل قائلاً: "مجد ابنة الملك في خدرها، منسوجة بذهب ملابسها" (مز 13:45).
إذ قبلنا السيد المسيح - حكمة الله - جسدًا له، وصار هو رأسنا، لهذا نتمتع بكرامةٍ عظيمةٍ، إذ رأسنا هو ملك الملوك ورب الأرباب. بهذا ننال كرامة تفوق حتى كثير من السمائيين، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
v أتدركون "غنى مجد ميراثه"؟ هل تدركوا عظمة قدرته الفائقة نحو الذين يؤمنون به (أف 19:1)؟ أتدركون رجاء دعوتكم؟
لنكرم رأسنا، فينعكس ما هو للرأس على الجسد، الرأس الذي تخضع له كل الأشياء. بهذا التصوير يلزمنا أن نكون أفضل من الملائكة، وبهذا نُكرم أكثر منهم جميعًا...
لأنه لا يًوضع على رؤوسنا تاج، بل ما هو أعظم، المسيح صار بنفسه رأسنا، ومع هذا نحن لا نبالي بهذا.
الملائكة يكرمون هذا الرأس، وأيضًا رؤساء الملائكة وكل تلك القوات العلوية. فهل نحن الذين هم جسده، لا نهابه لسبب أو آخر؟[270]
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لا يريد الله أن يعطي ثروات للإنسان الخارجي ويترك الإنسان الداخلي في عوزٍ، إنه يقدم الغنى غير المنظور بطريقة غير منظورة[271].
القديس أغسطينوس
ولم أعادل بها أي حجر كريم،
لأن كل الذهب بإزائها قليل من الرمل،
والفضة عندها تُحسب طينًا. [9]
يقول سليمان الحكيم:"
لأن الحكمة خير من اللآلئ، وكل الجواهر لا تساويها" (أم 8: 11).
"قنية الحكمة كم هي خير من الذهب، وقنية الفهم تختار على الفضة" (أم 16: 16).
المؤمن الحقيقي يتمتع بالشركة مع حكمة الله، فيرى الأمور السماوية غير المنظورة ويستخف بالزمنيات.
إذ يشرق حكمة الله بنوره على النفس البشرية تستنير، فتدرك حقيقة الأمور أنه ليس من وجه للمقارنة بين الحكمة الإلهي وبين الأمور الزمنية، فيرى الإنسان نفسه غنيًا جدًا، ليس في عوزٍ أن يجمع شيئًا ما، بل ويحسب الحجارة الكريمة كلا شيء، والذهب كأنه رمل، والفضة كأنها طين.
v يرى الإيمان ما وراء رؤية العين الجسدية. العيون الجسدية ليست في رؤوس الحكماء وحدهم، بل وحتى غير الحكماء[272].
القديس جيروم
ب. تفضيلها عن الصحة والجمال
وأحببتها فوق العافية والجمال،
وآثرت أن اَتَّخذها قبل النور،
لأن النور الصادر منها لا يخفت. [10]
في رسالة بعثها القديس يوحنا الذهبي الفم إلى صديقه في الحياة النسكية ثيؤدور، إذ أغواه جمال امرأة شابة حسنة الصورة تدعى Hermoine، فسقط في حبها ورغب في الزواج منها. أشار فيها إلى اهتمام الإنسان بجمال الجسد، بينما يطلب الله جمال النفس الفائق، وهو في قدرة المؤمن بالنعمة الإلهية.
v حقًا لقد ثبَّت الله الجمال الجسدي في حدود الطبيعة (أي لا يقدر الإنسان على تشكيل جسده)، أما نعمة الروح فتُعتق من الحبس والعبودية، صاعدة من هذه الحالة، بقدر ما تسمو كثيرًا عن أي تناسق جسدي، وهي تعتمد في ذلك علينا (أي إرادتنا) وعلى نعمة الله.
فسيدنا، بكونه رحيمًا، شرّف جنسنا في هذا الطريق الخاص، تاركًا للطبيعة أن تختص بتشكيل الأمور الصغيرة (الجسد) التي لا تساهم كثيرًا في نفعنا. تحت سلطانها أمور غير هامة، أما نحن فجعلنا فنانين فيما يختص بالأمور التي هي بحق هامة (أي بإرادتنا نُسلِّم لنعمة الله أن تشكل النفس وتجمِّلها).
فلو ترك الله لنا أن نشكل أجسادنا، لأصبحنا في قلق متزايد، وأضعنا كل أوقاتنا في أمور لا تنفع، وبالتالي كنا نهمل الروح إهمالاً زائدًا.
وبالرغم مما نحن عليه، من عدم إعطائنا هذا السلطان (في اختيار وتشكيل أجسادنا)، نقوم بمجهودات جبارة، وإذ لا نقدر أن نحصل على جمال جسداني حقيقي، ندبِّر بدهاء تقليدات كثيرة، باستخدام المساحيق والأصباغ، والتزين بشعر مستعار، والحُليّ، واستخدام أقلام للحواجب... وكثير من الحيل. فلو أعطيت لنا القدرة على تشكيل الجسد تشكيلاً حقيقيًا، فهل سيكون لنا الوقت الذي نخصصه للنفس وللأمور الخطيرة؟!
لو فرضنا أن هذا هو عملنا، ما كان لنا عمل آخر، بل كنا نقضي كل زماننا فيه، نزين الجارية (الجسد) بزخارف لا حصر لها، تاركين سيدتها (النفس) في حالة مشوهة ومهملة. لهذا السبب أعفانا الله من العمل غير المفيد، واضعًا فينا قوة العمل في العنصر النبيل (النفس).
فمن لا يقدر أن يغير جسده القبيح إلى شكل جميل، يستطيع أن يسمو بالنفس، حتى ولو كانت قد انحدرت إلى أقصى حدود القبح، ليصل بها إلى قمة الجمال. ولا يجعلها محبوبة ومرغوبًا فيها من الصالحين فحسب بل ويجعلها من الله ذاته سيد الكل وإلههم يقول المرتل عندما نطق بخصوص هذا الجمال: "فيشتهي الملك حسنك" (مز45: 11)[273].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إننا ندرك أن الحكمة الإلهي يطلب جمال النفس الفائق الذي من عمله، فلا ننشغل بجمالنا الجسدي.
v تسترسل العروس في حديثها مع تلاميذها، فتتحدث عن حقيقة مدهشة عن نفسها حتى نستطيع أن نعلم مدى عظمة حب العريس لبنى البشر الذي أضفي جمالاً على العروس المحبوبة من خلال مثل هذا الحب. تقول: "لا تتعجبوا أن الحق أحبني". بالرغم من أني صرت سوداء بسبب الخطية ومكثت في الظلال بسبب أعمالي، فإن العريس قد جعلني جميلة من خلال حبه، إذ استبدل جماله بعاري (إش 2:53-3؛ في 7:2). بعد أن حمل دنس خطيتي، سمح لي أن أشاركه في طهارته وأضفى عليَّ جماله. حوّل منظري المنفر إلى جمالٍ، أظهر لي حبه...
v مصباحًا واحدًا أنظر، وبنوره أستضيء، والآن أنا في ذهول، أبتهج روحيًا، إذ في داخلي ينبوع الحياة، ذاك الذي هو غاية العالم غير المحسوس!
v احمل نير ربّك في قلبك، وعجب عظمته في عقلك دائمًا، فينسكب فيك نور ربّك الوهَّاج الذي يضيء قلبك!
v أيّها النور غير المنظور!
أيها البهاء الذي لا يراه بهاء آخر!
أنت هو النور الذي تختفي أمامك كل الأنوار المخلوقة!
أنت البهاء الذي ينطفئ قدّامه كل بهاء خارجي!
أنت هو "النور" مصدر كل الأنوار، و"البهاء" ينبوع كل بهاء!
أنت هو النور والبهاء، أمامك تصير كل الأنوار ظلمات، وكل ضياء بالنسبة لك ليس إلاَّ ظلامًا!
أنت هو البهاء الذي بك تصير الظلمة نورًا، وبك يتلألأ الظلام لمعانًا!
أنت هو النور الأسمى، لا تحجبك سحابة ما، ولا يعوقك بخار، يعجز الليل عن أن يسدل بظلامه عليك، لا يعوقك حاجز ولا تُغرٍقك ظلال!
أخيرا، أنت النور الذي ينير الخليقة الداخليّة على الدوام، ابْتَلِعْني في هوّة جلالك، حتى أعاين كل أعماقك، بقوّة بهاء لاهوتك ذاته، وعمل البهاء المنعكس عليَّ منك!
لا تتركني قط، لئلاَّ يتزايد جهلي وتكثر شروري، فبدونك أصير فارغًا وبائسًا!
بدونك لا يكون لأحد صلاح، إذ أنت هو الحق والصلاح الحقيقي وحده!
هذا ما أعترف به؛ وهذا هو ما أعرفه، يا الله إلهي، أنَّه حيثما وُجٍدْتُ بدونك لا يكون لي غير الشقاء - في الداخل كما في الخارج - لأن كل غني غير إلهي إنّما هو بالنسبة لي فقر مدقع!
القدِّيس أغسطينوس
ج. إدراك مخازنها
فأتتني معها جميع الخيرات،
وفي يديها غنى لا يُحصى. [11]
يعلق الأب ماريوس فيكتورينوس على قول الرسول "حكمة الله المتنوعة (أف 10:3)، قائلاً: الوعود عظيمة هكذا: غفران الخطايا، والوعد بالسماء، والحياة الأبدية والتمجيد، وميراثنا مع المسيح نفسه في قيامته من الموت، بل في وموته نفسه (كهبةٍ لنا). هذا كله يجعل حكمة الله متنوعة[275].
v بدون الرب يسوع وعمل قوته الإلهية، لا يستطيع أحد أن يعرف أسرار الله وحكمته، أو أن يحصل على الغنى الحقيقي، ويصير مسيحيًا. فإن الحكماء المحاربين الشجعان وفلاسفة الله هم أولئك الذين ينقادون بالقوة الإلهية ويتغذون بها وينضبطون في الإنسان الناطق بها[276].
القديس مقاريوس الكبير
فسُررت بهذه الخيرات كلِّها،
لأن الحكمة تتقدمها،
ولم أكن عالمًا بأنها أُمٌّ لها. [12]
v لألتصق بك، فأنت هو الخير وحده، وبدونك ليس للخير وجود! لتكن أنت كل سعادتي، يا كلي الصلاح!
v ألست أنت هو الخير الفائق، وكل خير إنّما هو مستمدّ منك؟!
v القلب الذي لا يبتغيك، ماذا يطلب؟! أيطلب الغني الذي لا يملأ العالم أم يبتغي أشياء مخلوقة... وما هذه الرغبة في الأشياء المخلوقة إلاَّ مجاعة دائمة؟! من يقتنيها تبقى نفسه بلا شبع، لأنَّها لا تقدر أن تشبع إلاَّ بك يا إلهي، إذ أنت خلقتها على صورتك...
أيها الرب إلهي... أيّها الفائق القدرة... لقد عرفت الآن موضع سرورك. أنَّها النفس المخلوقة على صورتك كشبهك، تلك التي لا تطلب غيرك، ولا تشتاق إلاَّ إليك!...
القدِّيس أغسطينوس
وما تعلمتُه بإخلاصٍ أُشرِكُ فيه بسخاء،
ولا أكتم غناها. [13]
v ماذا تطلبين يا نفسي المسكينة؟!
إن أردتِ الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!
وإن طلبتِ القوّة والقدرة، فهو القدير!
إن بحثتِ عن اللذّة والسرور، فهو ينبوع الفرح الحقيقي!
إن اشتقتِ إلى السكر، فمحبّته تسكر النفس!
إن جُعتِ إلى الخبز، فهو خبز الحياة!
وإن شغفتِ بالغني، فهو خالق الكل!
وإن أردتِ الراحة، تجدين فيه وحده راحتك!... اقبليه فليس لك من يشبعكِ غيره.
القدِّيس أغسطينوس
د. إدراك أنها طريق الصداقة مع الله
فإنها كِنزٌ للناس لا ينفد،
والذين اقتنوه صاروا أصدقاء الله،
وقد أوصَته بهم،
المواهب الصادرة عن التعلم. [14]
إذ يبرر سليمان عظمة الحكمة، وتقديره لها افضل من العرش الجالس عليه والغنى، يربط الحكمة بالتأديب. فلا يقدر الإنسان أن ينعم بالحكمة ما لم يتقبل تأديبات الرب لبنيانه.
v عندما نفرح في الصلاة، يهدأ فكرنا لا بمقتنيات العالم بل بنور الحق... تفرح نفوسنا بالله، ولا تكون بعيدة عنه، لأنَّه كما يقول: "به نحيا ونتحرّك ونوجد" (أع 17: 28)، ولكنّه كأخ وكقريب، كصديق لي! (مز 35: 14).
القدِّيس أغسطينوس
v لا توجد قرابة أو رابطة مثل قرابة النفس لله، أو قرابة الله للنفس[277].
القديس مقاريوس الكبير
3. طلب الإلهام الإلهي للحديث عنها
ليهب لي الله أن أتكلم كما يليق،
وأن أُجريَ في خاطري ما يليق بما نلته من المواهب،
فإنه هو دليل الحكمة ومرشد الحكماء. [15]
إذ عبَّر سليمان عن رغبته في مشاركة الناس له للتمتع بالحكمة لنفعهم، فإنه قبل أن يصف لهم الحكمة رفع قلبه لله طالبًا أن يهبه كلمة تسنده للحديث عن الحكمة.
v ربما يعترض قارئ يقظ قائلاً: "إن كان بولس يعرف جزئيًا ويتنبأ جزئيًا، ويرى الآن كما في مرآة في لغزٍ (1 كو 12:13)، فكيف أُعلن له سرٌ الله كما لأهل أفسس بكل حكمة وفطنة (أف 9:1)؟... إنهم لم يتعلموا هذا السرٌ بأنفسهم في كل حكمة وفطنة، وإنما الله الذي في كل حكمة وفطنة يعلن لنا السرٌ قدر ما نستطيع أن نقتبس[278].
القديس جيروم
وفي يده نحن وأقوالنا،
وكل حكمةٍ وكل علمٍ من عُلوم الصناعة. [16]
v لتكن أحاديثنا مُعِينَة لكنّ ( أيتها الأرامل)، وليكن كل شيءٍ مخصص لنعمة الله، كما هو مكتوب: "وفي يده نحن وأقوالنا" (حك 7: 16)[279].
القديس أغسطينوس
4. العلوم والمعرفة عطايا الحكمة الإلهية
فهو الذي وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات،
حتى أعرف نظام العالم وفاعلية العناصر [17]
ومبدأ الأزمنة ومُنتهاها وما بينهما،
وتَعاقُب الاعتدالاتٍ وتغير الفصول. [18]
ودوائر السنة ومركز النجوم، [19]
وطبائع الحيوانات وغرائز الوحوش،
وعنف الرياح وخواطر البشر،
وأنواع النبات وخواص الجذور. [20]
يدين سليمان لله بتمتعه بالحكمة وروح المشورة، وأيضًا التعرف على كثير من العلوم مثل الفلك، والفنون، والصناعات. وقد جاء في ملوك الأول: "كان صيته في جميع الأمم حواليه. وتكلم بثلاثة آلاف مثلٍ؛ وكانت نشائده ألفًا وخمسًا،، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط؛ وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك؛ وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته" (1 مل 4: 31-34). تعرف سليمان على طبائع الحيوانات وغرائزهم، وجاء في التقليد اليهودي والفلكلور الشعبي اليهودي، أنه كان يفهم لغات الحيوانات والطيور. كما كان يفهم عاداتهم، وقد وضع أمثالاً مستعينًا بعاداتهم.
v ها أنتم ترون أن قلب الإنسان الذي يمكنه أن يدرك هذا كله ليس بصغيرٍ. لتتحققوا أن عظمته لا تُقاس بحجم الجسم بل بقوة إدراكه. إنه قادر إن يدرك معرفة عظيمة كهذه للحق![280]
العلامة أوريجينوس
فعرفتُ كل ما خفي وكل ما ظاهر، [21]
ينسب سليمان الحكيم معرفته لعادات الحيوانات والطيور وما يجري في الطبيعة إلى الله نفسه بكونه المهندس الأعظم والخالق العارف بكل أسرار الطبيعة، وقد وهبه حكمة ليتعرف على هذه الأمور.
أما ما في قلوب البشر وأذهانهم فلم يكشفها الله لسليمان، هذه لا يأتمن الله كائنًا ما عليها إلا في حدود ضيقة للغاية لتحقيق خطته. إنه يستر على البشرية فلا يفضح ما في ضمير الإنسان وعواطفه وأفكاره؛ لكنها ستنفضح في يوم الدينونة متى رفض الإنسان أن يستر على نفسه بمراحم الله ونعمته خلال رجوعه إلى الله بالتوبة.
v [في حديثه عن أولاد شيث الذين هم أبناء الله الذين رأوا البنات اللواتي من نسل قايين، فالتهبت فيهم الشهوة بسبب جمالهن] هؤلاء سقطوا من الدراسة الحقيقية للفلسفة الطبيعية التي تسلموها من أسلافهم، حيث تتبع الرجل الأول (آدم) دراسة كل الطبيعة واستطاع أن ينالها بوضوح، وسلّمها إلى خلفه على أسس أكيدة، وذلك قدر ما رأى العالم في بدء نشأته، حيث كان لا يزال الإنسان في رقته وبساطته كمن فيه ليس فقط كمال الحكمة هذه، بل ونعمة النبوة التي وهبت له بالوحي الإلهي، حتى أنه بينما كان ساكنًا في هذا العالم غير متعلم أعطى أسماء لكل الكائنات الحية، ولم يعرف فقط ثورة كل أنواع الحيوانات والثعابين وسمومها، بل وميّز بين أنواع النباتات والأشجار وطبائع الأحجار وتغيير الفصول التي لم يكن بعد قد اختبرها.
استطاع أن يقول حسنُا: "الرب وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات حتى أعرف نظام العالم، وفاعلية العناصر، ومبدأ الأزمنة ومنتهاها وما بينها، وتعاقب الاعتدالات وتغيير الفصول، ودوائر السنة ومراكز النجوم، وطبائع الحيوانات وغرائز الوحوش، ونغمات الأرواح وخواطر البشر، وأنواع النبات وخواص الجذور، فعرفت كل ما خفي وكل ما ظهر" (حك 17:7-21)[281].
الأب سيرينوس
5. الحكمة انعكاس للنور الإلهي
لأن مُهندسة كلِّ شيء علمتني،
وهي الحكمة.
فإن فيها روحًا فَطِنًا قدوسًا،
وحيدًا مُتشعِّبًا لطيفًا،
مُتحركًا ثاقبًا طاهرًا،
واضحًا سليمًا مُحبًا للخير حادًا. [22]
حُرًا مُحسنًا مًحبًا للبشر،
ثابتُا آمنًا مُطمئنًا،
يقدِر على كل شيء،
ويراقب كل شيء،
ينفذ إلى جميع الأرواح،
الفهمة منها والطاهرة والأشد لطافة. [23]
يرى البعض أن سليمان الحكيم يقدم في الآيتين 22، 23 واحد وعشرين سمة للحكمة تكشف عن كمالات الله. فان كان رقم 7 يشير إلى الكمال، ورقم 3 إلى الأقانيم الإلهية فان رقم 21 (7×3) يشير إلى كمال الله[282].
حين يقدم لنا الكتاب المقدس سمات عن أقنوم إلهي مثل حكمة الله أو ابن الله، إنما يقدم بلغتنا البشرية ما لا يُمكن التعبير عنه بأية لغة. لان الله لا يمكن الحديث عنه بلغةٍ بشريةٍ يقدم لنا السمات التي نتلامس معها ونتفاعل معها ونحيا بها.
هذه السمات هي:
1. روح (ع 22).
v إننا لسنا نعتقد أنه إذ أخلى نفسه، أنه وهو روح صار شيئًا آخر. بل بالأحرى ترك إلى حين كرامة عظمته، مرتديًا جسدًا بشريًا. فقط بكونه صار في شكل بشري أمكنه أن يصير مخلصًا للبشرية. لاحظوا أنه عندما تتغطى الشمس بسحابة يُعاق بهائها لكنها لا تظلَّم. نور الشمس الذي ينتشر على كل الأرض، يخترق الكل بإشراقه البهي، يحجب بواسطة سحابة صغيرة تعوقه لكنه لا يُنزع. هكذا أيضًا هذا الإنسان الذي صار إليه يسوع المسيح (لبسه) بكونه مخلصنا بمعنى أن الله وابن الله لم ينقص لكنه أخفى لاهوته فيه إلى لحظات[283].
غريغوريوس أسقف الفيرا
2. فطن أو عاقل (ع 22).
يقدم لنا حكمة الله ذاته، لكي نقتنيه، وبه نصير حكماء، به نتعرف على الله ونعرف أسراره الإلهية، ونأتي إليه.
v يقول الرسول إن قوة الله سرمدية ولاهوته (رو 20:1). إذ مكتوب أن المسيح هو قوة الله وحكمة الله (1 كو 24:1)... مكتوب: "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو6:14). فما تدركونه بخصوص الآب... ما كان يمكنكم أن تدركوه البتة بدون معونة الابن، ولا يمكن لأي فهم أن يصعد إلى معرفة الآب إلا بالابن[284].
القديس أمبروسيوس
3. قدوس، لا يتسرب إليه شيء نجس (ع 22، 25).
v وجهت الكلمات "كن كاملاً" لإبراهيم، هذا الذي أُعطي له روح الحكمة، القدوس العجيب في لطفه، الطاهر... من ينال الحكمة لا يمكن إلا أن يكون صالحًا وكاملاً، إذ يقتني كل فضيلة ويكون أيقونة للصلاح[285].
v إن كان الروح ليس فيه خطية، فهو الله. كيف يمكن أن يخطئ من هو نفسه غافر الخطايا (يو 20: 22) لذلك فهو لا يرتكب خطية، وإن كان بلا خطية فهو ليس مخلوقًا، لآن كل مخلوق يتعرض لإمكانية الخطية، أما اللاهوت السرمدي فوحده بلا خطية وقدوس[286].
القديس أمبروسيوس
v بواسطة الصلاة تتولد الشركة في قداسة الله في أولئك الذين يُحسبون أهلاً لها... الإنسان الذي يغصب نفسه كل يوم للمواظبة على الصلاة، فإنه يشتعل بالحب الإلهي، ويتقد برغبة نارية من الحب الروحي نحو الله، وينال نعمة كمال تقديس الروح[287].
القديس مقاريوس الكبير
v إن كان أحد يكرس نفسه لله، إن كان أحد لا يرتبك بأمورٍ دنيويةٍ لكي يرضي من جنده، إن كان أحد يعتزل الذين يعيشون في حياة جسدانية والمنهمكين في الأمور الدنيوية، إن كان لا يطلب ما هو على الأرض بل ما في السماء (كو 3 : 1-2) مثل هذا الإنسان يستحق أن يدعى مقدسًا[288].
العلامة أوريجينوس
v لا يحسب القول (بأن إنسانًا ما كامل أو قديس) فيه مبالغة إن كان الإنسان يسلك بلا لوم ولم يكن بعد قد بلغ بالفعل إلى نهاية رحلته، وإنما لا يزال يعبر نحو النهاية بطريقه غير معيبة، متحررًا من الخطايا المميتة وفي نفس الوقت يطهر خطاياه غير الإرادية بالعطاء، فان الطريق الذي نسلكه وبه نبلغ إلى الكمال يتطهر بالصلاة النقية[289].
القديس أغسطينوس
4. وحيد (ع 22): حكمة الله هو ابن الله الوحيد، نزل إلينا ليرفعنا من روح العبودية إلى روح التبني. إذ وهو الابن الوحيد ضمنا إليه وجعلنا أبناء للآب بالتبني وذلك خلال مياه المعمودية، أما هو فالابن الوحيد بالطبيعة منذ الأزل.
الآن وان كنا لسنا أهلاً أن نُدعى عبيدًا لله، لكنه الله يدعونا أبناء له، و شتان ما بين الابن والعبد.
v كما يحدث أن إنسانًا عنده خيرات عظيمة، وله أولاد وعنده أيضًا خدم، فهو يعطي للخدم نوعًا من الطعام يختلف عن الطعام الذي يعطيه لأولاده المولودين منه. لأن الأولاد هم ورثة أبيهم، يأكلون معه، لأنهم يشبهون آباءهم. هكذا المسيح أيضًا رب البيت الحقيقي، الذي خلق كل الأشياء بنفسه، فإنه ينعم على الأشرار وغير الشاكرين. أما الأولاد الذين ولدهم منه، والذين منحهم نعمته، والذين يتصور هو فيهم، هؤلاء يزودهم - أفضل من الآخرين - بتنعمٍ وغذاءٍ مخصوص طعامًا وشرابًا. وإذ يذهبون مع يسوع أبيهم في كل مكان، فإنه يعطيهم ذاته، كما يقول الرب: "من يأكل جسدي، ويشرب دمي، يثبت فيٌ وأنا فيه"، وأيضًا: "لا يرى الموت" (يو 56:6؛ 51:8). فأولئك الذين يمتلكون الميراث الحقيقي، قد وُلدوا كبنين للآب السماوي، ويقيمون في بيت أبيهم، كما يقول الرب: العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقي إلى الأبد" (يو 35:8)[290].
القديس مقاريوس الكبير
5. متشعب (ع 22): يعلن عن ذاته بطرق متنوعة.
v إلهي... ليتني أعرفك، يا من أنت تعرفني، ليتني أعرفك يا قوّة نفسي! اِكشف لي عن ذاتك، يا معزّي نفسي!
ليتني أعاينك يا ضياء عينيَّ!
أسْرِع يا بهجة نفسي، لأتأمل فيك يا سرور قلبي!
ألهمني حبّك، فأنت هو حياتي!
اَشرِق عليَّ، ففيك يكمن فرحي الحقيقي. فيك عذوبة راحتي. فيك حياتي. فيك كمال مجدي!
القديس أغسطينوس
6. لطيف (ع 22): غير مادي ولا هيولي، لا يُمكن للإنسان أن يتعرف على أسراره بدون إعلاناته. هذا ما دفع الابن أن يتجسّد بيننا، يُعلن ذاته لنفوسنا، ويقدّم نفسه فردوسًا لمن حُرموا منه. ربّنا يسوع - الكلمة المتجسّد - جاء ينادي في كل مناسبة "أنا هو... كلمات إله محب يقدّم نفسه لنفوس جهلته؛ لو نطق آخر غيره لكان إنسانًا متكبرًا متعجرفًا يقدّم ذاته للنفوس البشريَّة ليغتصب مكانة الله الخالق المشبع لنفوس خليقته.
v عَضِّدْني أيّها المجد الأبدي، يا فرحي، اِكْشِفْ لي ذاتك يا إلهي حتى أحيا!
القديس أغسطينوس
7. متحرك (ع 22، 24).
يقول السيد المسيح: "آبي يعمل حتى الآن، وأنا أيضا أعمل" (يو5: 17). إنه يبقى يعمل، فهو البداية في حياتنا الروحية، وهو النهاية. يبدأ معنا عاملاً فينا، ويسير معنا بكونه الطريق، ويحملنا في النهاية إليه حيث نشاركه مجده.
v المسيح هو بداية فضيلتنا هو بداية الطهارة... المسيح هو بداية التدبير. إذ صار فقيرُا مع أنه الغني (1 كو 9:8). هو بداية الصبر، فعندما شُتم لم يشتم، وعندما ضُرب لم يضرب. هو بداية التواضع، إذ اخذ شكل العبد، مع أنه في عظمة قوته مساوٍ لله الآب. فيه أخذت كل فضيلة أصلها[291].
القديس أمبروسيوس
8. ثاقب، ينفذ إلى جميع الأرواح، ويجتاز إلى النفوس المقدسة (ع 22، 24، 27).
9. طاهر (ع 22).، لا يمسه دنس بالرغم من وجوده في كل مكان ويعمل لتقديس الخطاة.
10. واضح (ع 22).
11. سليم (ع 22).
v يسوع الذي يقضي على النقائص في داخلنا، ويسقط أكثر ممالك الشر فسادا[292].
العلامة أوريجينوس
12. محب للخير ومحسن (ع 22، 23).
إذ يقدم حكمة الله ذاته كنزًا لنا، ينير نفوسنا ويشبع قلوبنا ويدخل بنا إلى غنى المجد الأبدي، لذا دعي بالخير الأعظم. فهو محب للخير، محسن على خليقته، يود أن يقدم ذاته لكل إنسانٍ، ليحمله فيه كمصدر الخيرات، ولا يعوزه شيء قط.
v والآن فلنعتبر ما تقوله الأناجيل في ضوء الوعود بالخيرات. ولابد لنا من القول أن الخيرات التي يعلن عنها الرسل في هذه الأناجيل هي ببساطة: يسوع. فأحد الخيرات التي يعلنونها هي القيامة. ولكن القيامة - على وجه ما - هي يسوع، فهو القائل: أنا هو القيامة[293].
v الأمور السماوية، حتى الملكوت السماوي أو المسيح ذاته، ملك الدهور هي في مجملها ملكوت السماوات المُشَبهَّةً بكنزٍ مُخفي في الحقل" (متى 44:13).
أي كنوز؟ قارن الكلمات "المُذَخَّرُ فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 3:2). فتلك الكنوز هي في المسيح. فمن نَبْعِهِ يأتي "الروح" بأنواع مختلفة من المواهب: فللبعض مواهب حكمة، وللبعض مواهب علم أو مواهب إيمان، ولآخرين أياً من نعَم الله (1 كو 8:12)[294].
العلامة أوريجينوس
v إن وُجد فيَّ شيء صالح، إنّما مصدره أنت، فالخير الذي هو فيَّ هو خيرك أنت أيّها الصالح، منكَ قد تقبَّلتُهُ!
من يُعينني على الوقوف إلاَّ أنت يا إلهي؟!
وما الذي يُسْقِطُني غير اتّكالي على ذاتي؟!
إنَّني سأبقى غارقًا في الطين ما لم تجتذبني!
وأبقى أعمى ما لم تفتح عينيّ!
وأبقى ساقطًا لا أقوم قط ما لم تُعينني يداك! إنَّني أهلك تمامُا ما لم تحرسني عنايتك!
القدِّيس أغسطينوس
13. حاد (ع 22): أي حازم وعادل مع كثيرة محبته ورحمته اللانهائية.
14. حر (ع 23).
الحكمة الإلهي حر، لا سلطان للموت عليه، يشتاق أن يرى كل إنسانٍ متحررًا من كل فكرٍ خاطئٍ ومن كل ومن كل خطيةٍ، فلا يكون للموت الأبدي ولا لإبليس سلطان عليه.
v حسنًا دُعي حرًا ذاك الذي له سلطان أن يقيم نفسه... وحسنًا دُعي حرًا ذاك الذي نزل لكي يخلص الآخرين[295].
القديس أمبروسيوس
v اتبع العريس السماوي، لتصمد أمام الأعداء غير المنظورين، لتثر حربًا ضد الرئاسات والسلاطين (أف 6: 12)، فتسحبهم أولاً عن نفسك فلا يكون لهم نصيب فيك، وبعد ذلك تطردهم عن أولئك الذين يطيرون إليك طالبين الحماية بمشورتك. اطرحهم تحت قدميك كقائدٍ لهم ومدافع عنهم. لتجحد تلك المجادلات التي ضد الإيمان بالمسيح.
حارب بكلمة التقوى ضد المشورة الشريرة الرديئة. وكما يقول الرسول: "هادمين ظنونًا وكل علوٍ يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 1.: 5). ضع ثقتك، فوق الكل، في ذراع الملك العظيم، الذي بمجرد رؤيته يخاف أعداءه ويرتعدون[296].
القديس باسيليوس الكبير
15. محب البشر (ع 23).
حكمة الله، ربنا يسوع، محب للبشر قدم ذاته ذبيحة من أجل خلاصهم، وهو يترفق بنا حتى في غضبه وتأديبه لنا.
v تذكَّر الراعي الذي يتبعك وينجِّيك...
أذكر مراحم الله، كيف يشفي (كالسامري الصالح) بزيتٍ وخمرٍ.
لا تيأس من الخلاص، مسترجعًا إلى ذاكرتك ما ورد في الكتاب المقدَّس أن الذي يسقط يقوم، والضال يعود (إر 8: 4) والمجروح يُشفي، والفريسة تهرب (من الوحش)، ومن يعترف بخطيَّته لا يُحتقر.
الرب لا يشاء موت الخاطي، بل بالأحرى أن يعود ويحيا (حز 18: 32)[297].
القديس باسيليوس الكبير
v غضب الله ليس انفعالاً، وإلاّ كان يحق للإنسان أن ييأس لعدم قدرته على إطفاء لهيب غضب الله المشتعل بسبب أعماله (أي الإنسان) الشريرة. لكن الله بطبيعته خالٍ من الانفعال حتى إن عاقب وإن انتقم، فإنه لا يصنع ذلك حنقًا، بل عن اهتمام بنا، ففيه حنان وعفو عظيم. وهذا يدفعنا إلى أن تكون لنا شجاعة عظيمة صالحة، وأن نثق في قوة التوبة...
الذين أخطأوا ولو في حقه، لا يرغب في معاقبتهم انتقامًا لنفسه، لأنه لا يصيب لاهوته ضرر، إنما يفعل ذلك لأجل نفعنا، لكنه يمنع انحرافنا الذي يتزايد باستهتارنا وعدم مبالاتنا به.
فكما أن الذي يبقى خارجًا بعيدًا عن النور، لا يضر النور في شئ، بل تقع الخسارة العظمى عليه بكونه في الظلام، هكذا ممن اعتاد أن يحتقر القوة القادرة، لا يضر القوة بل يضر نفسه بأكبر ضرر ممكن.
لهذا السبب يهددنا الله بالعقوبات، بل وقد يصبها علينا، ليس انتقامًا لنفسه بل كوسيلة لجذبنا إليه[298].
v هذا هو حنو الله أنه لن يُدير وجهه عن توبة صادقة، فحتى إذا كان الإنسان قد اندفع إلى أقصى حدود الشر، عندما يعود إلى طريق الفضيلة، يقبله الله ويرحب به، ويصنع معه كل شيءٍ إلى أن يعيده إلى حالته الأولى.
فالله يعمل إلى أقصى حدود الرحمة، حتى ولو لم يُظهر الإنسان توبة كاملة، فهو لا يتجاهل أمرًا صغيرًا أو زهيدًا، بل يعطى عن هذا جزاءً عظيمًا. ويظهر ذلك من قول النبي إشعياء: "من أجل إثم مكسبه غضب وضربته، استترت وغضبتُ، فذهب عاصيًا في طريق قلبه. رأيت طرقه وسأشفيه وأقوده وأرد تعزيات له ولنائحيه" (إش 17:57، 18).
وسنقتبس مثلاً آخر، وهو أشر الملوك كفرًا، الذي كان يخطئ بتأثير زوجته، لكنه ما أن تأسف ولبس المسوح، ودان أخطاء،ه حتى ربح لنفسه مراحم الله... فقد قال الله لإيليا: "هل رأيت كيف نُخس قلب آخاب أمام وجهي، لا أجلب الشر في أيامه لأنه بكى أمامي" (راجع 1 مل29:21)[299].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ينظر الله إلى الناس، ويهتم بهم بنوع خاصٍ، ويقود كل الأشياء بتدبير عنايته بحسب الحكمة[300].
القديس مقاريوس الكبير
16. ثابت في ذاته، غير متغير (ع 23، 27).
مسيحنا هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد (عب 13: 8), غير متغير، يقدم ذاته كصخرةٍ ثابتةٍ، تبنى عليها كنيسته، فلا تقدر أمواج بحر هذا العالم أن تحطمها، ولا يقدر الزمن أن يجعلها تشيخ وتضعف.
v ليتكم تُبنون على الصخرة إن كنتم تريدون ألا يهدمكم مجرى الماء أو الرياح أو الأمطار. إن أردتم أن تتسلحوا ضد التجارب في هذا العالم، فليكن شوقكم إلى أورشليم الأبدي يبنيكم ويقوي قلوبكم[301].
v أخلي نفسه، ليس لأنه تغير عن كونه الحكمة الأزلي. فإن الحكمة الأزلي لن يتغير مطلقًا. بالأحرى دون أن يتغير اختار أن يصير معروفًا للبشرية في شكلٍ متواضعٍ[302].
v خير لي الالتصاق بالله (حك 27:7). فإنني إن لم استقر فيه، لا استقر في نفسي، أما هو فثابت في ذاته ويجدد كل الأشياء. وأنت هو الرب إلهي، حيث انت قائم ولست في حاجة إلى صلاحي (مز 2:16)[303].
v من هو مثال كلمتك، ربنا القائم في ذاته دون أن يشيخ، ويجدد كل الأشياء[304].
القديس أغسطينوس
v الذي يحاكيه هو صخرة[305].
العلامة أوريجينوس
v الله غير المحدود، مع بقائه غير متغير، أخذ جسدًا، وحارب الموت، محررًا إيانا من الآلام، محررًا بآلامه!... هو نفسه قيٌَد القوي، ونهب أمتعته (مت 12: 21) - أي أخذنا نحن منه، نحن الذين صرنا في انحطاطٍ في كل شرٍ، وجعلنا أوانٍ لائقة باستخدام السيد، حيث صارت إرادتنا الحرة مستعدة لكل عملٍ صالحٍ[306].
القديس باسيليوس الكبير
17. آمن (ع 23).
18. مطمئن (ع 23).
إذ حكمة الله فوق كل شيء، لن يمسه أذى، بل ويهب من يرتبط معه الأمان والطمأنينة. إنه يحتضن مؤمنيه، كما تحت جناحيه، يظللهم من حر التجارب ويهبهم روح الغلبة والنصرة.
v نحن نعيش تحت ظل نعمة المسيح[307].
v لم يفتخر أحد بانتصاره، أو عزاه إلى شجاعته الشخصية، لعلمهم أن يسوع هو مانح النصرة، "لا يسن أحد لسانه" (سي 21:10). وقد تفهم الرسول ذلك عندما قال: "لا أنا بل نعمة الله التي معي (1 كو 10:15)".
فليت الله يرشدني (بعد فوزي بمعركة الحياة) ... أن لا أعزو انتصاري إلى فضل مني، بل إلى صليبه[308].
العلامة أوريجينوس
19. قدير (ع 23، 25، 27).
v إنه هو الذي كان والكائن ويبقى دومًا... الابن الحقيقي، الثابت، غير القابل للتغيير، لأنه هو الله وابن القدير الكلي القدرة، مع هذا تنازل لأجل خلاصنا، لكي يرفعنا ونحن مطروحون[309].
لوسفير
20. ضابط الكل ويراقب كل شيءٍ (ع 23، 8: 1)، يملأ المسكونة (8: 1).
إنه فاحص القلوب والكلى، العالم بكل أفكارنا ونياتنا، يأتي ليديننا حسب نياتنا الداخلية وكلماتنا وسلوكنا.
v لنبغض خطايانا لأجل ذاتها ولنحب ذاك الذي يأتي ليعاقب خطايانا. إنه آتٍ، إن أردنا أو لم نرد[310].
القديس أغسطينوس
21. ينفذ إلى جميع الأرواح (ع 23).
لأن الحكمة أكثر حركة من كل حركة،
فهي لطهارتها تخترق وتنفذ كل شيء. [24]
يكشف الإيمان بالثالوث القدوس حقيقة الله، أنه ليس بالكائن الأزلي الجامد، تحرك فقط عندما خلق السمائيين والأرضيين، إنما هو حركة حب أزلية قائمة في داخله بين الثالوث القدوس، لم تكن يومًا ما قوة كامنة بلا فعل، إنما فعل الحب كان قائمًا منذ الأزل.
هذا الإله الذي هو الحب العامل يتحرك دومًا، فيخترق النفس البشرية ليطهرها ويقدسها، ويقيم منها أيقونة له، حية وفعالة.
حكمة الله حاضر دومًا، إذ يقول: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 20:28). وسنكون معه أيضًا في العالم الآخر.
هنا ننعم بحضوره معنا وشركتنا معه، وهناك ننعم بوجودنا في أحضانه، نتمتع برؤياه وجهًا لوجه وتكون لنا شركة معه في المجد الأبدي.
v لا يكفي أن يقول: "أريد أن هؤلاء يكونون حيث أكون" (راجع يو 24:17)، إنما أضاف: "يكونون معي". فإنه حتى الإنسان البائس يمكن أن يوجد حيث يوجد الله، فإنه أينما وجد البائس فالله أيضًا موجود. أما الطوباويون فهم وحدهم مع الله، فإنهم به وحده يمكنهم أن يكونوا مطوَّبين. ألم يُقل عن الله: "إن صعدتُ إلى السماء فأنت هناك، وإن هبطتُ إلى الهاوية فأنت حاضر" (مز 139: 8)؟ أليس المسيح هو حكمة الله التي تخترق كل مكان من أجل نقاوتها (حك 7: 24)؟ فالنور يشرق في الظلمة، والظلمة لم تدركه (يو 1: 3)[311].
v إن كانت الحكمة هي الله، خالق كل الأشياء، كما يشهد السلطان الإلهي والحق (حك 7: 24-27)، فالفيلسوف هو محب الله[312].
القديس أغسطينوس
فإنها نفحَة من قدرة الله،
وانبعاث خالصُ من مجد القدير.
فلذلك لا يتسرب إليها شيء نجس. [25]
في الرد على فستوس (من أتباع ماني الذين يتطلعون إلى المادة خاصة الجسد كشيء دنس) يؤكد القديس أغسطينوس أن الجسد في ذاته ليس دنسًا لأنه من صنع الصالح. كل شيء طاهر للطاهرين ، فكم بالأكثر يتطلع القدوس الطاهر إلى كل الخليقة انه ليس فيها شيء دنس أو نجس في ذاتها.
v يقول الرسول: "كل شيء طاهر للطاهرين" (تي 15:1). إن كان هذا حقيقيًا بالنسبة للبشر الذين قد ينقادون إلى الشر بواسطة إرادة فاسدة، فكم بالأكثر يكون كل شيء طاهرًا بالنسبة لله، الذي يبقى على الدوام غير قابل للتغيير ولا للدنس!... قيل عن الحكمة الإلهية: "لا يتسرب إليها شيء دنس، وتتحرك في كل موضع لطهارتها" (راجع حك 24:7). إنها لسخافة شديدة أن تجد خطأ في التوالد البشري (إذ يرون في العلاقات الجسدية بين الزوجين نجاسة)، الذي وضعه الله، الذي كل شيء طاهر بالنسبة له[313].
v مع أن كل الأشياء التي أقامها هي فيه، إلا أن من يخطئ لا ينجسه، الذي قيل عن حكمته: "تلمس كل الأشياء بطهارتها، ولا يهاجمها شيء نجس". فإنها تدفعنا للإيمان بأن الله غير قابل للفساد ولا للتغيير، وهكذا فهو غير فاسدٍ[314].
القديس أغسطينوس
لأنها بهاء النور الأزلي،
ومرآة صافية لقوة الله،
وصورة لصلاحه. [26]
يدعى السيد المسيح - حكمة الله- بهاء مجد الآب، لأنه إن كان الله نورًا، فلا يمكن أن يوجد نور بدون بهاء، ولا بهاء بدون النور. وليس من زمنٍ يفصل بين النور والبهاء. لهذا وإن كان حكمة الله هو واحد مع الآب في ذات جوهره، ويدعو نفسه: "أنا هو نور العالم"، لكنه يُدعى أيضًا "بهاء النور". يشرق على النفوس، فتتلامس مع النور وتتعرف عليه. "الابن الذي في حضن الآب هو خبٌَر". إنه كلمة الآب، يحدثنا لا خلال مقاطع كلمات بل بإشراق الحكمة علينا.
v هل تبحث عن الابن بدون الآب؟ أعطني نورًا بدون الآب؟ أعطني نورًا بدون بهاء. إن كان قد وُجد وقت لم يكن فيه الابن، فإنه يكون فيه الآب نورًا قاتمًا[315].
v إن كنت بالحقيقة تستطيع أن تفصل البهاء عن الشمس فلتفصل الكلمة عن الآب[316].
v ما يفعله الآب، إنما يفعله بالابن، بحكمته وقوته يعمل، فلا يفعل بما هو خارج عنه. إنه يظهر للابن ما يراه هو، ولكن في الابن نفسه يظهر ما يفعله[317].
v إن كنتم ترون أنه لا يوجد انفصال في النور، فلماذا تطلبون انفصالاً في العمل (عمل الثالوث القدوس)؟ انظروا إلى الله، انظروا كلمته الذي لا يتجرأ... فالمتكلم لا ينطق بمقاطع كلمات، إنما حديثه هو إشراق لبهاء الحكمة، ماذا يُقال عن الحكمة ذاتها؟ "إنها بهاء النور الأزلي". لاحظوا بهاء الشمس في السماء، وتنشر بهاءها على كل الأراضي وعلى كل البحار مع أنها في بساطة هي نور حسي. إني أتحدث عن الشمس، لننظر إلى مصباحٍ واحدٍ صغير بشعاعٍ هزيل، يمكن أن ينطفئ بنفخة واحدة، يبسط نوره على كل ما هو قريب منه، من اللهيب المنتشر. ترون الانبعاث منه وليس انفصال. إذن لتفهموا أيها الإخوة المحبوبون أن الآب والابن والروح القدس متحدون معًا في ذواتهم بلا انفصال. لكن هذا الثالوث هو الله الواحد، وكل أعمال الله الواحد هي أعمال الآب والابن والروح القدس[318].
v نقرأ: "الله نور، وليس فيه ظلمة البتة" (1 يو 5:19)، وأيضًا: "الله الذي قال أن يشرق في قلوبنا" (2 كو4: 6). أيضًا في العهد القديم أعطى اسم "بهاء النور الأزلي" (حك 26:7) لحكمة الله، التي بالتأكيد لم تُخلق، بل بها خُلق كل شيء. وعن النور الذي يصدر عن هذه الحكمة قيل: "لأنك أنت تضيء سراجي يا رب، إلهي أنت تنير ظلمتي" (مز 28:18). بنفس الكيفية، في البدء، حيث كانت ظلمة على الغمر، قال الله: "ليكن نور فكان نور" (تك 2:1)، حيث هو النور معطي النور، الله نفسه استطاع وحده أن يفعل ذلك[319].
القديس أغسطينوس
v يقول النبي: "بنورك نعاين النور" (مز 36: 9). وأيضًا: "الحكمة هي بهاء النور الأزلي ومرآة صافيه لعظمة الله، وصورة لصلاحه" (حك 7: 26). انظروا أية أسماء عظيمة تُعلن! "بهاء"، لأنه في الابن يشرق مجد الآب بوضوح. "مرآة صافية"، إذ يُرى الآب في الابن (يو 12: 45). "صورة صلاحه" لأنه ليس بجسدٍ ينعكس على آخر، بل كل قوة اللاهوت في الابن[320].
القديس أمبروسيوس
v الذي عنده استنارة هو أعظم من الذي له عقل ومعرفة. لأن الإنسان المستنير قد نال عقله استنارة أكثر من الذي له معرفة فقط. كما يظهر من رؤيته لرؤى داخل نفسه، لا يمكن أن تكون موضع شك. ولكن الإعلان هو شيء أعلى من الرؤى. فإن أمور الله العظيمة وأسراره إنما تُعلن للنفس بواسطة الإعلان والوحي[321].
v كما تنظر عيوننا الشمس، كذلك ينظر المستنيرون صورة النفس، ولكن قليلاً من المسيحيين يبلغون إلى هذه الاستنارة[322].
v يتعلم المسيحيون لغة واحدة جديدة، وجميعهم يتهذبون بحكمة واحدة هي حكمة الله... وعندما يسير المسيحيون في هذه الخليقة الجديدة، فإنهم ينالون استنارة سماوية جديدة وأمجادًا وأسرارًا يحصلون عليها من رؤية الأشياء الظاهرة التي يبصرونها بحواسهم[323].
القديس مقاريوس الكبير
v لنأخذ في اعتبارنا من هو مخلصنا: بهاء المجد. بهاء المجد مولود... مخلصنا هو حكمة الله (1كو 1: 24). والحكمة هي بهاء النور الأزلي (حك 7: 26). فإن كان المخلص مولود دائمًا، لهذا يُقال: "قبل كل التلال يلدني"... فهو دائمًا مولود بواسطة الآب.
العلامة أوريجينوس
تَقدِرُ على كل شيء،
وهي وحدها،
وتجدد كل شيء،
وهي ثابتة في ذاتها،
وعلى مر الأجيال تجتاز إلى نفوس قدِّيسة،
فتنشئ أصدقاء لله وأنبياء. [27]
لا يستعرض حكمة الله القدير قدرته أمام خليقته، لكنه بحبه لها يعمل فيها لتجديدها المستمر. هو لا يتغير، ولا يحتاج إلى تغيير، لأن كماله مطلق ليس له حدود. خلق البشرية قابلة للتغير، لكي من جانب، يهبها حرية الإرادة، من حقها أن تنمو على الدوام، وفي قدرتها أن تهبط بكيانها حتى إلى الدمار. هذا ومن جانب آخر، فإن البشرية إن لم تكن تحمل إمكانية التغير تبقى في حالة جمود، ولا يكون للحياة طعم . فهو يجددها على الدوام إن أرادت، دون أن يتغير هو من جانبه.
v الله غير قابل للتغير كما كُتب في المزامير: "تغيرهن فتتغير، وأنت هو كما أنت" (مز 27:102)، وفي سفر الحكمة: "تبقى في ذاتها وتجدد كل شيء" (حك 27:7).
القديس أغسطينوس
v من أهم واجباتنا هو تمييز الأزمنة والأوقات، حتى نتمكن من ممارسة الفضيلة. كان الطوباوي بولس يعلم تلميذه أن يلاحظ الوقت، قائلاً: "أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب (2 تي2:4)، حتى إذا ما عرف الوقتين – المناسب وغير المناسب – يستطيع أن يصنع الأمور التي تناسب مع الوقت ويتحاشى ما هو غير مناسب.
وهكذا فإن إله الكل نفسه يعطي كل شيء في وقته كقول سليمان الحكيم (جا 7:3)، مريدًا بذلك أن يعم خلاص البشر في كل مكان في الوقت المناسب.
وهكذا "حكمة الله" (1 كو 24:1)، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، أوجد في الأوقات المناسبة، من النفوس المقدسة أنبياء وأحباء الله (حك 27:7). وبالرغم من أن كثيرين قد قدموا صلوات لأجله (لكي يأتي مسرعًا ليقدم الخلاص) قائلين: "ليأتِ من صهيون خلاص الله" (مز 14:7)، أو كما جاء في سفر نشيد الأناشيد على لسان العروس قائلة "ليتك كأخ لي الراضع ثدي أمي" (نش 1:8)، أي ليتك كنت كبني البشر تحمل آلام البشرية من أجلنا. بالرغم من كل هذه الصلوات فإن إله الكل، خالق الأزمنة والأوقات، الذي يعرف ما هو لصالحنا أكثر منا، فإنه في الوقت المناسب، في ملء الزمان، وليس في أي وقت ما اعتباطًا، أعلن كطبيب ماهر طريق شفائنا، إذ أرسل ابنه لكي نطيعه قائلاً: "في وقت القبول وفي يوم الخلاص أعنتك". (إش 8:49)[324]
v لا يستخدم الله طريقة واحدة للعلاج، بل بكونه غنيًا يستخدم طرقًا كثيرة لأجل خلاصنا بكلمته، الذي هو ليس بمحدودٍ ولا مقيدٍ ولا معوقٍ في طرق علاجه التي يقدسها لنا، إنما هو غنى، وقادر أن يشكل نفسه حسب احتياجات وقدرة كل نفس.
إنه كلمة الله وقوته وحكمته كما يشهد سليمان عن الحكمة قائلاً: "وهي واحدة وقادرة على كل شيء وثابتة في ذاتها ومجددة الكل ومنتقلة إلى النفوس القديسة في أجيال الأجيال وتجعل أحباء وأنبياء لله" (حك 27:7).
فبالنسبة للذين لم يبلغوا بعد طريق الكمال، يكون (الكلمة) بالنسبة لهم (1 كو 2:3) كقطيعٍ يقدم لهم لبنًا. وهذا ما خدم به بولس إذ يقول: "سقيتم لبنًا لا طعامًا".
أما بالنسبة للذين تقدموا وتعدوا دور الطفولة الكاملة، ولكنهم لازالوا ضعفاء إذ هم يطلبون الكمال، هؤلاء أيضًا يكون (الكلمة) بالنسبة لهم كطعامٍ قدر طاقة احتمالهم. وقد خدم به بولس أيضًا، إذ قال "أما الضعيف فيأكل بقولاً" (رو 2:14).
وبالنسبة للإنسان الذي يبدأ في السلوك في طريق الكمال، فإنه لا يعود يأكل من الأشياء السابقة بل يكون "الكلمة" للخبز، والجسد للطعام، إذ مكتوب: "أما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة" (عب 14:5).
بالحري عندما تبذر الكلمة لا تأتي بثمر متساو في كل الناس، بل يأتي ثمر كثير ومتنوع، يأتي بمائة وستين وثلاثين (مت 8:13)، كما علمنا المخلص باذر النعمة وواهب الروح.
وهذا ليس بأمر مشكوك فيه، ولا بمحتاجٍ إلى من يؤيده، إنما يمكننا أن نتطلع إلى الحقل الذي يزرع فيه (الرب)، إذ نجد أن الكلمة واضحة ومثمرة في الكنيسة، ليس فقط بالعذارى وحدهن يتزين الحقل، ولا بالرهبان وحدهم، بل وأيضًا بالمتزوجين زواجًا مكرمًا، وبعفة الجميع…
لقد أعد الرب منازل كثيرة عند أبيه (يو 2:14)، لكن بالرغم من أن مكان السكنى نجد فيه درجات متنوعة حسب تقدم كل واحدٍ، غير أننا جميعًا سنكون في داخل الحصون، محفوظين في داخل نفس السياج حيث يطرد العدو (الشيطان) وكل جماعته خارجًا[325].
البابا أثناسيوس الرسولي
v أي شيء مستحيل على الحكمة التي كتب عنها: "إذ هي قديرة وساكنة تجدد كل شيء فيها" (راجع حك 7: 27)؟ نقرأ عن الحكمة ليس كمن تقترب بل تقطن. هكذا لكم السلطان الذي لسليمان الذي يعلمكم عن كلية القدرة التي للحكمة وأبديتها، وأيضًا صلاحها إذ كُتب: "أما الحكمة فلا يغلبها الحقد" (راجع حك 7: 30)[326].
القديس أمبروسيوس
v سلم الابن نفسه، لكي بكونه البرّ يطرد ما فينا من جورٍ. وتسلم الحكمة ذاتها لكي ما تطرد الجهالة[327].
القديس جيروم
v النفس التي ترجع إليه، طالبة رحمته، وهي محتاجة إلى حمايته، ويحضرها إلى حالة سعيدة، حالة التحرر من الشهوات، وحالة الثبات المستمر في كل فضيلة بتجديد الذهن[328].
v لا يتصور أحد أن نفسه قد استنارت كلها مرة واحدة استنارة كلّية. فلا يزال يوجد قدر من الخطية في الداخل، ويحتاج الإنسان إلى تعب وكدّ كثيرين على حساب النعمة المُعطاة له[329].
القديس مقاريوس الكبير
لأن الله لا يحب إلاَّ من يُساكن الحكمة. [28]
حكمة الله يريد أن يكون المؤمنون أيقونة له، يتسمون بالحكمة التي يقتنونها به، فيلتصقوا به، ويسكن فيهم. لذا يليق بنا أن نطلبها منه.
v هذا هو الفردوس الذي لا ينضب، بل يفيض بغير حدود، يعطي شبعًا قدر ما نقبل، يترجّى الكل أن يقبلوه مستعطّفًا: "أنا واقف على الباب أقرع؛ إن فتح لي أحد أدخل وأتعشّى معه"، وإن لم يفتح لي، ألح مرّة ومرّات لعلّ قلبه يلين ويفتح لي، لأنّي أحبّه!
جاء متجسّدًا، حتى يعيد إلى النفس سعادتها ويملأ جوانبها، وينزع القلق منها.
يا نفسي المسكينة، ماذا تطلبين؟!
إن أردت الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!
القديس أغسطينوس
فإنها أبهى من الشمس،
وأسمى من كل مجموعة نجوم،
وإذا قيست بالنور ظهر تفوُّقُها. [29]
v الآن هيئة الفضائل عجيبة ومدهشة، خاصة جمال الحكمة كما تخبرنا كل الأسفار المقدسة. فإنها أبهى من الشمس، ومتى قورنت بالكواكب لا يضاهيها أية مجموعة منها. يمكن لليل أن يتغلب على نور مجموعة من الكواكب، لكن الشر لن يقدر أن يهزم الحكمة (حك 7: 29-30)... ليس من شركة بينهما وبين الرذيلة، إنما هي في اتحاد مع بقية الفضائل بلا انفصال[330].
القديس أمبروسيوس
v فرح نفس عبدك... اُدخل إلى نفسي أيّها الفرح الحقيقي، حتى تبتهج بك! اُدخل إليها أيّها العذوبة الحقيقيّة، أَفِضْ عليها شعاعك أيّها النور الأبدي، حتى تعرفك وتدركك وتحبّك!...
أيها النور الذي يضيء النفس، أيّها الحق البهي، أيّها البهاء الحقيقي الاستضاءة، يا من تضيء لكل إنسانٍ آتٍ إلى العالم. أتيت إلى العالم، والعالم لم يحبّك!
إلهي... بدّد الظلمة الكثيفة التي تخيّم على نفسي، حتى تراك عند إدراكها إيّاك. وتعرفك عند تقبُّلها لك، وتحبّك عند معرفتها لك.
القديس أغسطينوس
لأن النور يعقبه الليل.
أما الحكمة فلا يغلبها الشر. [30]
v أسْرِع أيّها النور، الذي بدونه لا أقدر أن أرى!
عَضِّدْني أيّها المجد الأبدي، يا فرحي، اِكْشِفْ لي ذاتك يا إلهي حتى أحيا!
القدِّيس أغسطينوس
من وحي الحكمة 7
لتدخل أيها الحكمة الإلهي إلى أعماقي!
v سليمان سبق الجميع وطلبك ليتمتع بك!
حسب عرشه وقضيب ملكة كلا شيء!
سكناك أشبع نفسه، فحسب الذهب قليلاً من الرمل.
ورأي الفضة طينًا بجوارك.
أنت مجده وكنزه وغناه!
v علمني أن أقتدي به،
علمني كيف أطلبك!
أنا أعلم أنك واقف على الباب تقرع.
لتدخل، ولتملك، ولا يملك آخر عليِّ سواك.
v لتدخل، وبروحك القدوس تجدد على الدوام طبيعتي.
أراك تطلب جمال نفسي، الذي هو من صنع روحك النادي.
فكيف أفسد فكري وطاقاتي ووقتي في البحث عن جمال الجسد الخارجي؟
اقتنيك أيها الطبيب السماوي والدواء العجيب،
فيهرب كل مرضٍ من نفسي.
أنت أثمن من صحة جسدي!
v بماذا أدعوك يا حكمة الله؟
أنت الخير الأعظم، مصدر كل الخيرات،
أنت ينبوع الغنى الذي لا ينضب!
أقتنيك، فتفتح أبواب قلبي،
لأقدم لإخوتي مما وهبتني.
أود أن يتمتع الكل بك،
فتصير البشرية كلها مخازن حبٍ لا تفرغ!
v هب لي مع سليمان حبيبك أن أدعو الكل للتمتع بالحكمة.
أعطني فهمًا وكلمة لأنطق عنك،
يا من لا تستطيع لغة أن تعبَّر عنك!
v لتقتنيك كل البشرية،
فلا يوجد بها خامل ولا متهاون.
يعمل الكل حسب مواهبه!
تشرق على العقول، فتدرك الكثير من الأسرار،
وتنمو المعرفة، ويزداد العلم،
ويسعى الكل في البحث في كل شيء بروح التواضع.
يكتشفون أسرار الطبيعة الظاهرة والخفية!
v اسمح لي أن أتكلم عنك يا بهاء النور الإلهي.
أنت روح، تريد أن تهب كل البشرية أن يعيشوا حسب الروح لا الجسد!
أنت العقل الإلهي، تود أن تقدس عقولنا بك!
أنت قدوس، تشتهي أن نتقدس بك!
أنت ابن الله الوحيد، تقدم لنا التبني للآب بروحك القدوس في مياه المعمودية.
أنت لطيف ورحوم حتى في غضبك،
تؤدب لا لكي نهلك، بل لكي نحيا بك.
أنت ثابت، تدخل إلى كل نفسٍ تقيم منها مسكنًا لك.
أنت متحرك، تعمل على الدوام، لكي ما تحملنا إلى حضن أبيك.
أنت طاهر، تملأ الكل دون أن يمسك دنس!
أنت واضح، لا تبخل علينا بالإعلان عن ذاتك.
أنت كامل وسليم، لا تتجزأ؛
تملأ السماء والأرض،
كامل في كل موضع.
أنت محب للخير، لأنك الخير الأعظم،
تود أن يصير المؤمنون بك محبين للخير حتى بالنسبة لمقاوميهم.
أنت حاد، حازم، لأنك لا تهاون الشر، ولا تقبل الفساد!
أنتَ حرّ، بذلت ذاتك لكي تحررنا من عبودية إبليس، ومن كل خطية.
أنت المحسن، محب البشر، تقيم منا محبين لكل البشرية.
لن نستريح حتى يستريح إن أمكن الكل!
أنت ثابت في ذاتك، لن تتغير،
تجددنا لكي نتغير فنصير إلى الأفضل.
أنت آمن مطمئن، بك نتمتع بالأمان؛
تمتلئ نفوسنا بالرجاء فتتهلل،
حيث لنا بك موضع في حضن أبيك.
أنت القدير، بك نستطيع كل شيءٍ،
فلا نُصاب بالعجز ولا الفشل!
أنت الديان تراقب حتى أفكارنا ونياتنا الخفية.
لا لتترصد أخطاءنا،
بل لتقدسنا وتكافئنا وتمجدنا!
أنت تنفد إلى جميع الأرواح،
لأنك حياتها، بدونك ليس لها حياة!
أنت الحاضر في كل مكانٍ،
أينما وُجدنا نجد شهادة حية عنك.
هوذا الطبيعة تصرخ شاهدة لك.
هوذا التاريخ يعلن رعايتك الدائمة.
هوذا الأحداث تؤكد أنك ضابط الكل.
هوذا أعماقي تعلن لي بأنه لا ملجأ لي سواك.
v أخيرًا ماذا أطلب منك يا أيها النور الأبدي.
لأقتنيك، فلا تتسلل الظلمة إليّ.
كل أنوار العالم تنطفئ يومًا ما، أما نورك فأبدي.
أنت نوري ومجدي،
أنت كنزي وغناي،
أنت فرحي وسروري،
أنت شبعي ومجدي،
أنت الكل لي!
الحكمة قرينة حياتي
في الأصحاح السابق رأينا حكمة الله بكونه القدير، صانع الخيرات، محب البشر، الحال في كل مكان، الدائم الحركة لأجل بنيان الإنسان ومجده. هنا يؤكد الحكيم حب الحكمة الإلهي، إنه لم يقف عند خلقته لنا، لكنه في حبه ورعايته وعنايته الإلهية يدبر كل شيء للفائدة. هو القدير العامل في كل إنسانٍ، يهتم بالبشرية ككل ولكن ليس على حساب إنسانٍ ما، مهما كان عمره أو قدراته أو مواهبه. إنه محب للجميع، ويريد أن يتحد الجميع معه، يتمتعون به، وينعمون بغناه وعمله فيهم، وتدخل بهم إلى الخلود.
1. الحكمة معينة للجميع1.
2. الحكمة عروس مثالية2-3.
3. الحكمة واهبة الغنى 4-5.
4. الحكمة عاملة في قرينها6-8.
5. عروس واهبة المجد على الأرض وفي السماء9-16.
6. الحكمة عروس خالدة17-21.
1. الحكمة معينة للجميع
إنها تمتد بقوةٍ،
من أقصى العالم إلى أقصاه،
وتدبر كل شيء حسنًا. [1]
الحكمة الإلهي مصدر نظام المسكونة، فهو إله نظام وليس إله تشويش (1 كو 14: )، غير أن هذا النظام يُقدم لحساب بنيان الإنسان. كثيرًا ما استخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة لتأكيد رعاية حكمة الله أينما وُجدنا وتدبيره الدائم لأجلنا.
v كلمة الله الذي هو أيضًا ابن الله، شريك الآب في الأزلية، قوة الله وحكمته (1 كو 24:1). يمتد بقدرته في تناسق ينظم كل الأشياء، من أعظمها تعقلاً إلى أقل الخليقة المادية، الخليقة الظاهرة والخفية، دون أن يُحد أو ينقسم أو يتضخم، إنما هو حاضر بكامله دون وجود أبعاد له[331].
v ماذا إذن أيها الاخوة؟ "كل شيء به كان". لقد أدركنا بهذا أنه بواسطة الابن قد صُنعت كل الخليقة. لقد صنعها الآب بكلمته، صنعها الله بقوته وحكمته. هل يمكن أن نقول إنه عند خلقه الأشياء "كل شيء به كان"، وأما الآن فلا يصنع الآب كل شيء بواسطته؟ حاشا لله! فلتطرد مثل هذه الأفكار بعيدًا عن قلوب المؤمنين. لتطرد بعيدًا عن أفكار الأتقياء وفهم المتدينين! لا يمكن أنه يكون به خلق الآب ولا تدبر الخليقة بواسطته. حاشا لله أن لا يدبر ما قد أوجده، تلك التي بواسطته خُلقت وصار بها وجودها! لترى بواسطة شهادة الكتاب المقدس ذاته أنه ليس فقط كل الأشياء به خُلقت إذا اقتبسنا من الإنجيل "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان"، بل أن كل الأشياء التي صُنعت تًدبر وتًنظم بواسطته أيضًا. إنكم تعرفون أن المسيح قوة الله وحكمته، فلتعلموا أيضًا ما قد قيل عن الحكمة: "وتمتد من أقصى إلى أقصى بقوة وتدبر ( باقتدار) الكل حسنًا" (حك 8: 1) إذن فلا نشك في أن كل الأشياء تُدبر بواسطة ذاك الذي به كل الأشياء صُنعت. هكذا لا يصنع الآب شيئا بدون الابن ولا الابن بدون الآب[332].
القديس أغسطينوس
يتساءل البعض: إن كان الابن قد أُرسل إلى العالم، ألم يكن موجودًا في العالم قبل تحقيق هذه الإرسالية؟ لقد كان في العالم بقوة لاهوته، أما إرساليته فهي تخص تجسده ليحقق الخلاص بالصليب والقيامة؟
v لقد جاء إلى العالم، وكان في العالم. إذن قد أرسل إلى حيث كان هو موجودًا. لاحظوا أيضًا ما قد كًتب بالنبي: "أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب" (إر 24:23)... ذاك الذي يقول: "أنا املأ السماوات والأرض" كان في كل موضعٍ... إن قيل إن هذا يخص الآب، فكيف يُمكن أن يوجد الآب دون كلمته ودون حكمته التي "تمتد بقدرة من أقصى العالم إلى أقصاه، وتدبر كل شيء بعذوبة" (حك 1:8)؟[333]
القديس أغسطينوس
إنه واضع النظام والتدبير، خلاله ليس فقط نتلامس مع عظمة قدرته، وإنما أيضًا عذوبة محبته العاملة لحسابنا في هذا التدبير للكون. إنه يود أن يبقي النظام عاملاً لحسابنا، لكنه قد يكسر أحد القوانين الطبيعية إن كان ذلك لبنياننا، ففي محبته يفعل هذا، ليس لاستعراض معجزاته وآياته وغرائبه، وإنما لإعلان حبه وحنوه وعذوبة تدبيره كل شيء لحسابنا.
كثيرًا ما استخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة لتأكيد وجود الله وحضوره في كل مكان، وتدبيره ورعايته المستمرة وفي كل موضع.
فظهور الله لموسى على جبل سيناء حيث النار والدخان (خر 18:19- 19)، لا يعني أن الله - سواء الثالوث القدوس أو أحد الأقانيم - كان محدودًا في حضوره بمكانٍ معينٍ دون غيره، فمن أجل إمكانية موسى لرؤية الله ظهر هكذا في موضع معين وبطريقة يمكن بها رؤيته. لكنه هو حاضر في كل العالم[334].
لا نعجب إن قرأنا: "كان جبل سيناء كله يُدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار..." (خر 18:19). وأيضًا "ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعه من العقيق الأزرق الشفاف" (خر 10:24).
أيضًا بقول الله لموسى، "تنظر ورائي، وأما وجهي فلا يُرى" (خر 23:33)، وعندما يقول الرسول بولس إننا نراه وجهًا لوجه (1 كو 12:13)، وقول الرسول يوحنا: "ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 2:3). هذه العبارات وأمثالها لا تعني أن الله له أعضاء أو يمكن تجزئته أو يُوجد في مكانٍ ما وليس في مكانٍ آخر، وإنما هو تنازل منه لكي نتمتع به ويمكننا رؤيته والحديث معه[335].
مرة أخرى إذ تحدث القديس أغسطينوس عن الشباك التي ينصبها الشيطان للبشر، فإن حكمة الله تمتد في كل العالم وتدبر كل شيءٍ بعذوبة، فتحول شرور إبليس ومكائده لنفع الإنسان ومجده[336].
2. الحكمة عروس مثالية
وهي التي أحببتُها والتمستُها منذ حداثتي،
وسعيت أن أَتخذها لي عروسًا،
وصرت لجمالها عاشقًا. [2]
لا تُقتنى الحكمة بالمجهود البشري ذاته، إنما توهب كعطية الله.
v من الإرادة تنبع الحكمة، هذه التي يدخل معها الحكيم في زواجٍ، قائلاً: "سعيت أن أتَّخذها لي عروسًا" (حك 8: 2). هذه الإرادة إذن التي كانت قبلاً ضعيفة وفاترة بحمى الشهوات المتنوعة قامت بعد ذلك خلال خدمة الرسل قوية لخدمة المسيح[337].
القديس أمبروسيوس
v إنه سليمان الذي يقول إنه يشتاق أن يجعل الحكمة عروسه (حك 8: 2). وفي موضع آخر يقول مرة أخرى عن الحكمة: "حبَّها فتحضنك، احتضنها فتحفظك" (راجع أم 4: 6، 8). ليتنا نحن أيضًا نأخذها لنا زوجة! لنتمسك بها في أذرعنا، ولا نتركها تترك أحضاننا، ولن نجعلها تهرب من أذرعنا. إن كانت هذه العروس دومًا في حضننا فسنلد منها أبناء (أي ثمر الروح لا الجسد)[338].
القديس ﭽيروم
يرى العلامة أوريجينوس أن سارة تشير إلى الحكمة، لذا فقد التصق بها رجل الله البار إبراهيم، بكونها عروسه الأميرة التي يسمع إليها في كل ما تقوله.
v أعتقد أن "سارة" التي تعني "أميرة حاكمة," تمثل arete التي هي فضيلة النفس. فهذه الفضيلة إذًا تصاحب الإنسان الحكيم والمؤمن وتلتصق به, تمامًا مثل ما قال الرجل الحكيم عن الحكمة: "وددت أن آخذها لي زوجة" (حك 8: 2) لهذا قال الرب لإبراهيم: "في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها" (تك 21: 12). هذا القول، على أي الأحوال لا يناسب الزواج الجسدي، فكما هو معروف أنه قد أعلنت العبارة من السماء التي قيلت للمرأة: "إليه يكون ملجأكِ، وهو يتسلط عليكِ" (راجع تك 3: 16) فإن قيل عن الزوج أنه سيد زوجته, فكيف يُقال لإبراهيم," في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها". أما إذا كان متزوجًا بالفضيلة, ففي كل ما تشير به عليه, فليستمع إليها[339].
v في الواقع, يميز الله تقدم القديسين مشبهًا إياه بالزواج. ففي إمكانك أنت أيضًا, إذا رغبت, أن تصير زوجًا من هذا القبيل. فعلى سبيل المثال, إن كنت تمارس كرم الضيافة, فستبدو وكأنك قد أخذت هذه الفضيلة زوجة. فإن أضفت إلى ذلك التعاطف مع الفقراء, فقد صار لك زوجة ثانية. أما إذا اكتسبت لنفسك أيضا الصبر والرقة وغيرها من الفضائل, فستبدو وكأن لك زوجات بعدد الفضائل التي اكتسبتها[340].
العلامة أوريجينوس
إنها تُمجد أصلها الكريم باشتراكها في حياة الله،
وقد أحبها سيد الجميع. [3]
ما هو الأصل الكريم الذي للحكمة، سوى أنها الأقنوم الإلهي الثاني، المولود من الآب أزليًا، نور من نورٍ، إله حق من إله حقٍ، واحد معه في ذات الجوهر.
هذا هو حكمة الله الذي تجسد لكي يعكس علينا كرامة وعزة من قبل أصله الكريم، إذ وهو الابن الوحيد الجنس وهبنا البنوة للآب في مياه المعمودية بروحه القدوس، فصرنا نعتز بهذه البنوة.
وأما عن اشتراك الحكمة في حياة الآب، فيقول السيد المسيح نفسه للآب: "كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (يو 17: 9).
بتجسده قدم لنا حياة الشركة مع الله، باتحادنا مع الآب بالروح القدس في استحقاق دم السيد المسيح المبذول. صار لنا حق التمتع بالسماويات والإلهيات كهبات إلهية ننالها خلال مصالحتنا مع الآب بالصليب.
وأما عن حب سيد الجميع للحكمة، فيقول السيد المسيح: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو 17: 24)؛ وقد جاء ليحملنا إلى أبيه فنتمتع بحبه. "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26).
كأن الحكيم يسألنا أن نقتني حكمة الله فنقتني الآتي:
أ. انعكاس أصله الكريم علينا، فيرفعنا من المزبلة لنجلس مع أشراف أشراف شعبه.
ب. التمتع بالشركة مع الله، أو الشركة في الطبيعة الإلهية، فنسلك بالحق كأبناء لله.
ج. نحمل الحكمة فنصير بالحق موضع حب الله الفائق، كما تصير لنا إمكانية الحب لله سيد الجميع.
3. الحكمة واهبة الغنى
فهي مطَّلعةٌ على معرفة الله،
والمُحبَّة لأعماله. [4]
د. التمتع بعلم الله الذي يفوق العقل البشري. إذ يعلن لنا عن الأسرار الإلهية.
إذ الحكمة هي أقنوم إلهي "حكمة الله"، لا يمكن فصلها عن الآب، لأنه لم يكن قط بلا حكمة، هذه الحكمة التي – أن صح التعبير- هي مخازن المعرفة الإلهية وعمله وخطته الفائقة، تكشف عن أعمال الله وما ورائها من أسرار فائقة.
إذا كان الغِنى مِلْكًا مرغوبًا فيه،
فأي شيء أغنى من الحكمة،
التي تعمل كل شيءِ؟ [5]
هـ. التمتع بالغنى الحقيقي، ليس الممتلكات الزمنية الزائلة، بل حب الله ورعايته وعنايته التي لا تتوقف.
حكمة الله ليست إدراكًا جامدًا أو معرفة نظرية، لكنها دائمة الحركة، حركة الحب الداخلية، والتي تعمل كل شيء أيضًا، لأنها خالقة وقديرة وضابطة الكل. إنها لا تنفصل عن العناية الإلهية بكل الخليقة السماوية والأرضية.
4. الحكمة عاملة في قرينها
وإن كانت الفطنة هي التي تعمل،
فمن أمهرُ منها في هندسة الكائنات؟ [6]
و. التمتع بالتعقل والمهارة. لقد خلق الله الإنسان، ووهبه عقلاً قادرًا على الابتكار والاكتشاف والتقدم المستمر. إنه فريد بين كل المخلوقات الأرضية، يتقدم على الدوام.
تمتعنا بالحكمة الإلهي يقدس العقل، ويهب قوة وقدرة للعمل في جدية، فيصير الإنسان بالحق ماهرًا في الوزنات التي وهبه الله إياها.
الحكمة هو الخالق، الفنان، مهندس الكون. فإذ نتحد بالحكمة نحمل روح الابتكار في تواضعٍ.
"الرب بالحكمة أسس الأرض، اثبت السماوات بالفهم، بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى" (أم 3 : 19-20).
وإذا كان إنسان يحب البرّ
فأتعابُها هي الفضائل،
لأنها تعلِّم ضبط النفس والفطنة والبرّ،
والشجاعة التي لا شيء للناس في الحياة أنفع منها. [7]
ز. التمتع بالفضائل في بداية السفر ربط الحكيم بين الحكمة والبرّ العملي. الآن إذ يعلن الحكيم عن رغبة الكثيرين في أن يكونوا أبرارًا، فإنه ليس من طريق للتمتع بالحياة البارة الفاضلة، سوى باقتناء الحكمة الإلهية.
تنتج الحكمة الإلهية في أولاد الله أربع فضائل عملية هامة ورئيسية:
1. القناعة.
2. الفطنة، أو التعقل العملي.
3. البرّ.
دُعي السيد المسيح، حكمة المتجسد، "شمس البرٌ" (مل 2:4). من يشرق عليه ينيره ويهبه البرٌ الفائق، أما الذين لا يتمتعون بنوره فيُحرمون من البرٌ، ويعيشون في ظلمة الخطية.
v أولئك الذين لم تُشرق عليهم "شمس البرٌ" (مل 2:4)، أي المسيح، والذين لم تنفتح أعين نفوسهم، وتستنير بالنور الحقيقي، لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية وتحت نفس تأثير الشهوات، وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب