حكمة سليمان

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

لأقتنيك يا أيها البهاء الأزلي!

إلهنا! بلاد الحكمة أين موقعها؟! أين آثار طريقها؟!

من يعبر البحر ويشتريها بذهبٍ نقيٍ؟!

من يصعد فوق السحاب وينزلها؟!

الإنسان الفاني لا يعرف طريقها، إنها منسية من كل البشر!

إنها مختفية عن الملائكة!

الذين يحصلون عليها ينالون نعمة، والذين يبغضونها يحبون الموت!

إنها أبهى من الشمس وكل الكواكب!

إنها نور الآب، كائنة معه منذ الأزل!...

تتمشى الحكمة في طريق العدل، وتتحرك في سبيل الحق، لتهب الذين يعرفونها غنى، وتملأ خزائنهم فرحًا.

وهبها الله لأبينا يعقوب، ثم ظهرت علي الأرض ومشت كإنسانٍ.

هوذا قد بنت الحكمة لها بيتًا، وأسست أعمدتها السبعة، ذبحت ذبائحها،

سكبت خمرها، وأعدت مائدتها!...

بيتها هو الكنيسة الجامعة الرسولية، وأعمدتها السبعة هي أسرار الله المحيية...

الحكمة هي مخلصنا يسوع المسيح، الذي فدانا بذبيحة جسده، واشترانا بسفك دمه، واختارنا لملكوته الأبدي!

قسمة الحكمة

للقديس أبيفانيوس أسقف سيلاميس

 

منذ سنوات تمتعت بقراءة "قسمة الحكمة" للقديس أبيفانيوس أسقف سيلاميس، إذ سحبَت كل كياني. شعرت كمن وجد صلاة ثمينة تفوق كل اللآلئ، حيث يصرخ قلبي مشتهيًا اقتناء الحكمة المتجسد، ربنا يسوع المسيح، فبه تستنير عيناي لتتعرف على خطة الله نحو البشرية كلها، وبه اغتني جدًا، فلا أكون معوزًا إلى شيءٍ، وبه تستقر نفسي في الأحضان الإلهية.

والعجيب أنني كلما صليت بهذه القسمة أجد كثيرين يطلبون نسخة منها لتكون سندًا لهم في صلواتهم الخاصة.

والآن من بين الأسفار الإلهية أرجو أن أتمتع ويتمتع معي كثيرون بالحكمة لاقتنائها، والحياة بها على مستوى أبدي!

هذا السفر ومعه سفر "يشوع بن سيراخ" يشبهان سفر "الجامعة"، يقدمان نظرات عميقة داخلية نحو الحياة العملية اليومية في الرب.

لأقتنِ حكمة الله المحب واهب الخلود!

مع كل سفرٍ من أسفار الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، تنسحب قلوبنا بالأكثر نحو رب المجد يسوع لنتعرف عليه بالأكثر، فتلتهب نيران محبتنا نحوه في داخلنا، ونترقب بشوقٍ شديدٍ مجيئه ليحملنا معه إلى أحضان الآب، ونتمتع بسرّ الله الفائق!

يؤكد السفر انشغال الله الخالق بشئون البشر. ففي إتمامه بنا يهبنا الحكمة الإلهية لحفظنا في هذا العالم، ولكي نحمل فكرًا خلاّقًا، وبها يهبنا الخلود.

يقدم لنا سفر الحكمة شخص ربّنا يسوع المسيح، حكمة الله، محي جميع البشر، القادر وحده أن يضمنا إليه، فننعم بالشركة معه، ونبقى معه أبديًا، لن يقدر الموت أن يقترب إلى نفوسنا، ولا الفساد أن يحل بأجسادنا القائمة معه من الأموات. إنه بحق سفر الخلود!

ننعم بالسيد المسيح – حكمة الله – محب كل البشريَّة، فيتسع قلبنا بالحب نحو كل إنسانٍ، مشتهين أن يشاركنا الكل عذوبة الحياة الخالدة المجيدة.

إنه سفر التمتع بأيقونة السيد المسيح، فنحيا به ومعه إلى الأبد، نحمل شركة الطبيعة الإلهية.

القمص تادرس يعقوب ملطي


 

 

-

- مقدمة

 

الباب الثالث الأصحاحات [10 -19]

- الباب الأول  الأصحاحات [1- 6]

 

الأصحاح العاشر (عمل الحكمة في التاريخ)

الأصحاح الأول (حث على طلب الحكمة والبرّ)

 

الأصحاح الحادي عشر (غاية الحكمة للأبرار والأشرار)

الأصحاح الثاني (سخرية الأشرار بالأبرار)

 

الأصحاح الثاني عشر (زنابير تتقدم جيشك)

الأصحاح الثالث (تحدِّي الأبرار حتى للموت المبكر)

 

الأصحاح الثالث عشر (تأليه الطبيعة وتأليه المصنوعات البشرية)

الأصحاح الرابع (بين مصيري الأبرار والأشرار)

 

الأصحاح الرابع عشر (ما وراء عبادة الأصنام)

الأصحاح الخامس (صيحات النصرة وصرخات الندم)

 

الأصحاح الخامس عشر (الوثنية وانحطاط البشرية)

الأصحاح السادس (حديث ختامي)

 

الأصحاح السادس عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 1)

- الباب الثاني الأصحاحات [7- 9]

 

الأصحاح السابع عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 2)

الأصحاح السابع (شخصية سليمان - الحكمة للجميع!)

 

الأصحاح الثامن عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 3)

الأصحاح الثامن (الحكمة قرينة حياتي)

 

الأصحاح التاسع عشر (حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 4)

الأصحاح التاسع (هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك)

 

 

 


 

مقدمة

في

حكمة سليمان

عنوان السفر[1]

ورد في كتابات القديس إكليمنضس السكندري والعلامة ترتليان والقديس كبريانوس باسم "حكمة سليمان"، كما ورد في كتابات القديس كبريانوس تحت اسم "سليمان"، وورد في بعض النسخ اللاتينية تحت اسم "الحكمة". دعاه القديسان أبيفانيوس أسقف سلاميس وأثناسيوس الرسولي "سفر الحكمة الفُضلى".

الكاتب

يكشف عنوان السفر "حكمة سليمان" عن موضوع السفر، وهدفه، كما عن الكاتب.

يرى البعض أنه نُسب للملك سليمان (970-931ق.م)، لأن اليهود يتطلعون إليه مثالاً لكل الحكماء، وأن كثيرًا من الأمثال والكلمات الحكيمة ترجع إليه.

ويرى آخرون أن سليمان الحكيم كتب الأصحاحات الأولى، بينما قام يهودي حكيم آخر – غالبًا من الإسكندرية – بتكملة السفر. يعتمدون في ذلك على بلاغة الأسلوب في النص اليوناني، لكن بعض الدارسين يرون أن أصله عبري، تُرجم إلى اليونانية، وانتشر في القرن الثاني وبداية القرن الأول ق.م في مصر.

لقد أثبتت الدراسات الحديثة وِحدة السفر، وأن الذي كتبه شخص واحد[2]. أغلب النُقاد منذ كتب[3] Grimm مدافعًا عن وحدة المؤلف، رأوا أن العوامل المشار إليها للادعاء بأن أكثر من كاتب اشترك في هذا السفر تُعتبر ليست ذات قيمة بجانب الالتحام المشترك بين أقسام السفر[4]. يقول Robert C. Denton: [بالرغم من عدم إنكار وجود اختلافات بين الأقسام التي للسفر. فإن التشابه في الأسلوب والمفردات والأفكار لا تزال تبدو لأغلب للدارسين أنها أقوى بكثير من الاختلافات. ففي غياب وجود برهان أكيد على عكس هذا يظهر أنه يجب التعامل مع هذا العمل كنتاج كاتبٍ واحدٍ[5].]

سجَّل الأصحاح التاسع حديث الكاتب معلنًا أن الله اختاره ملكًا على شعبه، وقاضيًا، وأن الله أمره ببناء هيكل في جبل قدسه ومذبح في المدينة، وهذه كلها لا تنطبق إلاَّ على شخصية سليمان.

هذا بجانب أن السفر مكمّل لبقية أسفار سليمان:

v     سفر الأمثال: يقدم لنا كيف يسلك المؤمن في حياته.

v     سفر الجامعة: من يسلك في شركة مع الله يدرك بطلان الحياة الزمنية.

v     سفر النشيد: إذ يدرك المؤمن حقيقة تغرُّبه في هذا العالم، يشتاق إلى الاستقرار في أحضان عريسه السماوي، مترنمًا بتسابيح العرس.

v     سفر حكمة سليمان: إذ تستقر النفس في حضن عريسها، تقتنيه بكونه حكمة الله واهب الخلود.

مكان كتاباته

 يرى البعض أنه كُتب في مصر، إذ كثيرًا ما يهتم الكاتب بالشئون المصرية. بينما يرى آخرون أنه ليس من المقبول أن يُكتب السفر في مصر وهو يهجوها. أما عن هجومه على الوثنية كدليلٍ على كتابته في مصر التي أذلت شعب الله، فقد كانت الوثنية موضوع قلق اليهود عبر العصور المختلفة. لكنه تُرجم إلى اليونانية في الإسكندرية ليسند اليهود ضد الأفكار اليونانية الوثنية السائدة هناك.

غايته

1. يوجه الملك سليمان أو الكاتب حديثه هنا إلى الملوك "الذين يحكمون الأرض" (1:1)، مشتهيُا أن يتمتع كل أصدقائه الملوك بما تمتع به، ألا وهي "الحكمة"! والمؤمن الحقيقي، إذ يتمتع بالملوكية (رو 6:1)، يود أن يرى كل البشر كأنهم ملوك أصحاب سلطان، حكماء في تصرفاتهم. في حديث الكاتب مع الله يؤكد أن الله خلق الإنسان ليكون ملكًا، إذ يقول: ""يا إله الآباء، ويا رب الرحمة، يا صانع كل شيء بكلمتك، ومكوِّن الإنسان بحكمتك، لكي يسود الخلائق التي صنَعتَها. ويسوسَ العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم باستقامة النفْس". (9: 1-3) هكذا يدعونا الكاتب لطلب الحكمة السماوية كعطية إلهية، وعدم الاتكال على الفلسفات البشرية، خاصة في إدراك سرّ خطة الله من نحو الإنسان، وتدبيره الخفي من أجل محبته لكل البشرية.

2. ربما كان هدفه دعوة اليهود الذين ارتدوا عن الإيمان المُسلم لهم وانحرفوا إلى الوثنية، أن يرجعوا إلى الله.

3. واضح من السفر نفسه أن الدافع عليه هو مساندة اليهود الذين انهاروا أمام الضيقات التي تحل بالأبرار دون تدخل الله السريع لمجازاة الأشرار الظالمين. أو الذين أغوتهم الحياة الرغدة التي كان يعيشها الأشرار. لهذا جاء هذا السفر يؤكد الخلود، والمكافأة الأبدية ومجازاة الأشرار المصرِّين على شرهم أبديًا. وهو في هذا يعالج مشكلة "العدالة الإلهية" التي تسمح أحيانًا بنجاح الأشرار، وطول العمر، وكثرة الأبناء، والحياة المترفة، والتي يبدو فيها أنهم ناجحون، وكأن الله لا يبالي بحياة البشرية.

4. أوضح الكاتب أن خلود الإنسان لا يقوم على طبيعته، بل على علاقته بالله، مصورًا مكافأة الأبرار في عبارات توضح مشاركته في الحياة الملائكية (5:5)[6].

5. يدعو الكاتب المؤمنين ألاَّ يحسدوا الوثنيين على فلسفاتهم، فإنهم يتمتعون بالفلسفة الحقيقية[7]. فالفلسفة ليست مجرد سمات معينة يتمتع بها الإنسان، يتعلمها خلال الالتقاء بالفلاسفة، أو دراسة فلسفاتهم، أو خلال خبرة الحياة، لكنها أولاً وقبل كل شيءٍ هي عطية إلهية، حيث يتمتع المؤمن بشخص "حكمة الله" الخالق، الذي يسكب بهاءه عليه فيستنير. يربط الكاتب بين أقنوم الحكمة وروح الله محب جميع الناس.

6. يقدم الكاتب نظرة جديدة، وفهمًا عميقًا للأحداث الواردة في أسفار موسى الخمسة، متطلعًا إليها من خلال نظرته لله المحب لجميع الناس، حتى الأشرار ليجتذبهم للتوبة ويهبهم الخلود.

7. يدعو السفر الوثنيين التخلي عن العبادة الوثنية ورجاساتها، التي تحمل في طياتها الجهل والحماقة والشر.

8. الكشف عن أصل العبادة الوثنية ونتائجها.

9. إبراز أن ما يحل بالأشرار ليس عن نقمة الله عليهم، ولا عن كراهية، إنما تحمل الخطية في داخلها ميكروب الموت والفساد والعذاب.

10. الربط بين الإلهيات والسلوك الإنساني والإمكانيات البشرية العقلية، فهو يوَّحد بين العمل الإلهي والعقل المقدس في الرب والسلوك الروحي في تناغم رائع بالإتحاد مع الحكمة الإلهي[8].

سماته

1. لعل من أبرز العقائد التي اهتم بها هذا السفر "عقيدة الخلود"، فكثيرًا ما يكرر السفر أن مصير الأبرار هو الخلود، حتى إن ماتوا فقراء أو مظلومين. غاية التصاقنا بالحكمة الإلهية أننا ننعم بالخلود أو عدم الموت وعدم الفساد.

"اعتبرت في قلبي أن في قربى الحكمة خلودًا" (8: 17).

"أما الأبرار فسيحيون للأبد" (5: 15).

"أما سرّ خلودهم فهو تمتعهم بالبرّ الأبدي، "لأن البرّ خالد" (1: 15).

2. الكاتب كارز أكثر منه لاهوتي. يكرز بالله الحال في كل مكان، يعمل دومًا، يعرف كل شيءٍ، ويحب كل الخليقة. هو يكافئ كما يعاقب، غير أن مكافأته ليست بالخيرات الزمنية. كما أن مصدر الشر في العالم هو حسد إبليس.

3. يربط السفر بين الحكمة والبرّ، وبين الشر والوثنية.

v     عمل الحكمة هو البرّ، لأنها تحول عطيتها من المعاندين وغير المؤمنين إلى المؤمنين شعب الله المطيع. على أي الأحوال من المفيد هنا أن نراعي باهتمام هذه الملاحظة: "تُعرف الحكمة بأعمالها" (راجع مت 11: 19)[9].

القديس هيلاري أتسقف بواتييه

v     ما هو نفع الحكمة، إن كانت تفشل في أن تجعل الذين يسمعونها حكماء؟[10]

القديس إكليمنضس السكندري

v     إن كان لدى شخص ما معرفة وينقصه الحب، فإنه ليس فقط لا يقتني شيئًا آخر، بل وأيضًا سيسقط مما هو عليه[11].

v     ليس من هو أكثر حكمة من الشخص الذي يحيا حياة فاضلة. يقول أحدهم، لاحظوا كيف أنه حكيم. إنه يعطي ما له، إنه رحوم، محب للجميع. إنه يفهم تمامًا أنه يشارك الطبيعة البشرية العامة مع الآخرين. إنه يفكر كيف يستخدم ثروته بحكمةٍ. إنه يُدرك موقفه من الثروة التي لا تجعله في مركزٍ فريدٍ. إنه يعرف أن أجسام أقربائه أثمن من ثروته. من يستخف بالمجد (الزمني) هو حكيم بكماله، إذ يفهم الشئون البشرية. هذه هي الفلسفة الأصلية، معرفة الأمور الإلهية والبشرية. فهو يفهم ما هو إلهي، وما هو بشري[12].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v  قال: "والحكمة تبررت من جميع بنيها" (لو 7: 35). إن سألت من هم هؤلاء البنين، نقرأ المكتوب: "أبناء الحكمة هم كنيسة الأبرار" (سي 3: 1)[13].

القديس أغسطينوس

4. يتسم السفر بغنى مفرداته واتساعها، فالكاتب كما هو واضح أنه ذو مركز عالٍ، يتسم بثقافةٍ عاليةٍ سواء على المستوى اليهودي أو ثقافات الأمم وفلسفاتهم؛ حكيم؛ متدين جدًا؛ ولكن غير حرفي في مفاهيمه.

5. يحمل السفر أفكارًا يهودية تقوية، مثل التطلع إلى "القلب" بكونه عرش التفكير. لم يستخدم الكاتب التعبير اليوناني "العقل".

6. يتسم السفر بالتنسيق، منظم في تفكيره، ينهي كل موضوع بملخص له.

7. يحمل السفر وحدة واحدة كما يرى الدارسون المحدثون، فلا يوجد أي أثرٍ لخلاف بين أقسامه سواء لاهوتيًا أو فلسفيًا أو من جهة اللغة والمفردات[14].

الحكمة والحكيم

يرى بعض العلماء أن أغلب الحيوانات والطيور لا تحتاج إلى التعلم كثيرًا من الوالدين، فبعد ولادة الحيوان ربما بدقائق يصير قادرًا على المشي، أو بعد ساعات أو أيام يكون الطائر الصغير قادرًا على الطيران، أما الإنسان فيبقى إلى شهور، وأحيانًا تمتد إلى سنوات ليتعلم المشي. هذا لأن الإنسان في حاجة إلى التعلم، خاصة من والديه، فيعيش في بدء حياته عاجزًا عن الاعتماد على نفسه، لكي فيما هو يتعلم المشي والكلام والأكل حتى طريقة الشرب، تكون له فرصة أكبر ليتمتع بالاحتكاك بأسرته، فيتعلم الحياة ذاتها والسلوك والحكمة والفهم.

هذا وقد انتشرت الأمثال منذ بدء التاريخ البشري، لكي يتعلم الإنسان الحكمة بكلمات قليلة.

وقد عرف الإنسان حتى في ظل نظام القبائل البدائية وجود حكيم للأسرة أو القبيلة أو القرية يلجأ إليه الكل، يطلبون المشورة، ويتلمسون حكمته في كل أمور حياتهم.

ووُجد حكماء في كل العصور على كل المستويات، خاصة لدى الملوك والأباطرة يدربون أبناء الأسرة الملكية ليسلكوا بفكرٍ معينٍ ونظامٍ معينٍ يليق بالأسرة الملكية... وإلى وقت قريب كنا نسمع هذه العبارات: "هذا ابن عزّ"، "هذا تربية ملوك".

عندما التقى فرعون بيوسف قال لعبيده: "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله"، ثم قال ليوسف: "بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك" (تك 41: 38-39). وقيل عن يهوناثان عم داود النبي: "كان مشيرًا ورجلاً مختبرًا وفقيهًا" (1أي 27: 32). وقيل عن دانيال في السبي إن حكمته تساوي "عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة الذين في كل مملكته" (دا 1: 20).

الحكيم والأبوة

لا نعجب إن كان روح الله قد خصص أسفارًا كاملة لتقديم حِكم وأمثال مثل أسفار الأمثال والحكمة وابن سيراخ... حتى يقدم للمؤمنين الحكمة حسب الفكر الإلهي، وليس حسب الخبرات البشرية المجردة، دون لمسات إلهية مقدسة.

في الأسفار الحكمية غالبًا ما يتحدث الكاتب مع المؤمنين، لا كمن هو على كرسي التعليم في كبرياء وتشامخ، وإنما كأبٍ محبٍ لأبنائه، فكثيرًا ما يردد: "يا ابني" (أم 23: 19، 26؛ 24: 13، 21؛ سي 2: 1؛ 3:1، 12، 17؛ 4: 1).

فالحكيم يتحدث مع المؤمنين، ويسلك كأب يحمل ظل أبوة الله لهم. فالحكمة في جوهرها التقاء مع الله في داخل دائرة حبه، واستقرار في الأحضان الإلهية للتعرف على أسرار الله وخطته من نحوه، وحبه وحنوّه عليه، فيسلك كابنٍ لله وسفيرٍ له!

الحكيم الناجح هو القادر أن يدخل بالنفس البشرية إلى أحضان الله لتنهل من حكمته. وكما يقول يعقوب الرسول: "إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاءٍ ولا يعيِّر، فسيُعطى له" (يع 1: 5). فالحكمة هي عطية تُمنح بواسطة الروح القدس (1كو 12: 8).

عمل الحكيم هو مساندة المؤمن ليتكشف حب الله وأبوته ويتعرف عليه، ويتمثل به كابنٍ له. فتصير الحكمة بالنسبة له ليس مشورة لتحقيق مكاسبٍ أيا كانت سوى اقتناء الله نفسه.

الحكمة والمعرفة

الحكمة هي إعلان الله عن ذاته لنا، نقتنيه، فنحمل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية. يرى القديس أغسطينوس أن الحكمة هي القدرة على تذوق الحقائق الروحية، والتمتع بالحق يؤدي إلى مجد الله والتعبد له بمخافة البنين. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحكمة هي الإنجيل، أي التمتع بخطة الله الخلاصية المفرحة. أما العلم فهو الحيدان عن الشر (أي 28: 28)، وتقديم كلمة الخلاص للبشر.

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هدف الإنسان الروحي (الغنوسي) أن يتعرف على الله (الحق) ويراه[15] وجهًا لوجه، أي يعبر إلى كمال المعرفة بالإلهيات من خلال الإيمان، وذلك خلال خبرة الحياة النقيّة والتأمّل الدائم. فإن كنّا قد عبرنا من الوثنيّة إلى الإيمان، فيليق بنا أن نعبر من الإيمان إلى المعرفة[16]، لنرى الله ونعرفه. هذه المعرفة هي هبة إلهيّة نتقبّلها خلال الابن، وذلك بقبولنا إيّاه وتشبّهنا به؛ أي خلال نقاوة القلب، نعاين الله وندرك ما يبدو للآخرين غير مدرك[17].

v     الغنوسية التي هي المعرفة وإدراك الأمور الحاضرة والمستقبلية والماضية، كأمور أكيدة وموثوق فيها، يمنحها ابن الله الذي هو "الحكمة" ويعلنها[18].

القديس إكليمنضس السكندري

يرى القديس إكليمنضس السكندري أنه بالحكمة نتمتع بالمعرفة التي تشمل معرفة كل الأشياء، أما القديس أغسطينوس فيميز بين الحكمة والمعرفة. فيقول: "تشير الحكمة إلى معرفة الإلهيات، والمعرفة إلى العلوم البشرية[19].

الحكمة والبصيرة

v     يقول الرواقيون أنه يوجد اختلاف بين الحكمة والبصيرة. يقولون: "الحكمة هي معرفة الأمور الإلهية والبشرية، وأما البصيرة فهي معرفة ما هو مائت وحده".

بحسب هذا التمييز ينطبق تعبير بولس "الحكمة" على ما هو غير منظور وما هو منظور، والبصيرة على ما هو منظور وحده[20].

القديس جيروم

"المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3)

كشف العهد الجديد عن الحكمة التي صارت لنا في المسيح يسوع، إذ هو نفسه حكمة الله، يهبنا ذاته.

v     هو نفسه يعطي الحكمة والمعرفة. الآن بقوله "كنوز" (كو 2: 3) يظهر عظمتها، بقوله "كل" يظهر أنه لا يجهل شيئًا، وبقوله "المخفية" يظهر أنه وحده يعرفها[21].

v     عجبًا! أية صداقة هذه؟! إذ يخبرنا بخفاياه، إذ يقول "بسرّ مشيئته"، لأن أحدًا يقول بأنه عرّفنا بالأشياء التي في قلبه. هنا حقًا السرّ المملوء حكمة وفطنة. فأية حكمة مثل هذه؟ الذين كانوا لا يساوون شيئًا رفعهم في لحظة إلي الغنى والفيض. أي تدبير حكيم هكذا؟! الذي كان عدوًا ومُبغضًا في لحظة ارتفع إلي العلا... هذا تم في الوقت المعين؛ إنه عمل الحكمة، تحقق بواسطة الصليب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إنه لا يخفي كنوز الحكمة والمعرفة لكي يحرمنا منها، وإنما لكي يثير اشتياقنا إلى ما هو مخفي[22].

v     نحترس، بوجه خاص، لئلا ونحن نجاهد في طلب للحكمة، التي هي كائنة في المسيح وحده المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة – أقول نحترس لئلا باسم المسيح ذاته، يخدعنا الهراطقة أو أية أحزاب فاسدة الذهن ومُحبة لهذا العالم[23].

القديس أغسطينوس

v     يجب أن يختفي الرب في أعماق نفوسنا لنقبل حقيقة الحكمة السماويَّة في داخلنا[24].

القديس أمبروسيوس

v     صارت الأذهان الجديدة حكيمة بحكمة جديدة، جاءت هذه الأذهان إلى الوجود خلال العهد الجديد حيث نزعت الغباوة القديمة[25].

القدِّيس إكليمنضس السكندري

v     يا ربنا يسوع المسيح، حكّم عبيدك في تجارب الشياطين المردة. هب لهم معرفة حكمة ربوبيتك، ولتلبسهم قوتك المقدسة، بها يذلون ذخر الشياطين، ويقهرونهم بقوتك المقدسة في كل قتالهم معهم. آمين[26].

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

v    طوبى لهم حقًا، الذين في احتياجهم لابن الله، قد تجاوزوا الحاجة إليه كطبيب لشفاء أمراضهم، أو كراعٍ، أو كفادٍ، وصار احتياجهم إليه كحكمة ولوغوس، أو كأحد الألقاب الأخرى التي يقدمها لأولئك الذين لهم الفصح الروحي الذي يهيئهم لأسمى النعم.

v     "يشبِه ملكوت السماوات كنزًا مُخفى في حقل" (مت 13: 44)... الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدَّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيَّة الأفكار؛ فإنها عظيمة ومتنوعة هي نباتات الكلمات التي في كل الكتاب! أمّا الكنز المُخفى في الحقل فهو الأفكار المختومة والمخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفية في سِرّ، المسيح "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (1كو 2: 3).

يقول آخر أن الحقل هو مسيح الله الذي بالحقيقة مملوء... أمّا الكنز المُخفى فيه فهو ما قال عنه بولس إنها مخفية في المسيح: "المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم"، الأمور السماويّة[27].

العلامة أوريجينوس

v     لقد نزل كلمة الله من السماء، لكي يصير عريسًا للطبيعة الإنسانية، فأخذها مسكنًا له، لكي يخطبها ويقودها إليه فتلد ثمار الحكمة الروحية.

القديس كيرلس الكبير

v     من يؤمن حقًا يتحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيه كل هذه والتي ليست فيمن لا يؤمن. فإنه بدون ابن الله لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القوي بلا قوة، والحكيم بلا حكمة. لأن المسيح هو "قوة الله وحكمة الله" (1كو24:1)، فإن من يظن أنه يرى الله الواحد بلا قوة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي إما أنه لا يرى شيئًا بالمرة أو بالتأكيد يرى ما هو شر[28].

v     عندما خلق الله كل الأشياء... لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوة الله وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة الله وحكمة الله به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1)[29].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

أقنوم الحكمة

إن كان غاية اقتناء الحكمة بنيان النفس روحيًا، وتحصينها بالحكمة الإلهية عن الارتداد وإغراءات العالم، حيث يمارس الإنسان بنوته لله، فإن هذا لن يتحقق إلاَّ بتمتعه بأقنوم الحكمة، الذي هو بعينه قوة الله، وهو ابن الله الأزلي بالطبيعة. لذا أبرز هذا السفر الحكمة كأقنومٍ إلهي، يليق بالمؤمن أن يقتنيه.

1. يعرف الحكمة بكونها الكلمة الخالق تبنى النفس بطريقة ديناميكية مستمرة: "مكوِّن الإنسان بحكمتك" (9: 2). كان مع الآب في أثناء الخلق: "إن معك الحكمة العليمة بأعمالك، والتي كانت حاضرة حين صنعت العالم" (9: 9)

2. يعّرف الحكمة بكونها بهاء الله: "لأنها انعكاس للنور الأزلي" (7: 26).

3. أحد أقانيم الثالوث القدوس: الحكمة هو أقنوم إلهي، يُحقق الإرادة الإلهية في العالم.

الأسفار الحكمية مثل الأمثال والجامعة حتى أيوب تقدم الحكمة بصفة ذاتية، كأقنوم إلهي. أما في هذا السفر فيحتل هذا الأمر مكانًا أكبر، لهذا يراه بعض الدارسين أنه قريب نسبيًا من الفكر الوارد في إنجيل يوحنا عن الكلمة الإلهي. وقد اقتبست الكنائس الرسولية الكثير من هذا السفر في القراءات الليتورجية والمناسبات الكنسية. "ومن الذي علِم بمشيئتكَ، لو لم تؤت الحكمة، وترسل من العُلى رُوحك القُدوس؟" (9: 17)

v     يسوع هو الحكمة ذاتها، ليس من أجل أعماله، وإنما من أجل طبيعته ذاتها (1 كو 1: 24؛ أم 8)[30].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

v  لم يبذل الابن ذاته بدون إرادة الآب، ولا بذل الآب ابنه بدون إرادة الابن... قدم الابن ذاته بكونه البرّ لكي ينزع عما الإثم الذي فينا. أعطى الحكمة ذاته لكي يطرد الجهل[31].

القديس جيروم

v     كل حكمة وتعقل تكون فارغة بلا قيمة وهزيلة بدون المسيح[32].

الأب ماريوس فيكتورينوس

v  يلاحظ سليمان في سفر الجامعة "الحكيم عيناه في رأسه" (جا 2: 14). أدرك بولس أهمية الرئاسة. لقد عرف أن العينين في الرأس. فإن كان المسيح هو رأس المؤمن، فبالتبعية تكون كل حواسنا وعقلنا وفكرنا وكلماتنا ومشورتنا في المسيح (إن كنا حكماء)[33].

القديس جيروم

4. الديان: "هب لي الحكمة، الجالسة معك إلى عرشك". (9: 4)

5. المخلص: "هكذا قُومت سُبل الذين على الأرض، وتعلَّم الناس ما يُرضيك، وبالحكمة نالوا الخلاص". (9: 18)

v     فن الطب – حسب ديموقريطوس Democritus - يشفي أمراض الجسد، والحكمة تحرر النفس من هواجسها. أما المعلم الصالح – الحكمة – الذي هو كلمة الآب الذي أخذ جسدًا بشريًا، فيهتم بكل طبيعة خليقته.

إنه طبيب البشرية الذي فيه كل الكفاية. المخلص، الذي يشفي الجسد والنفس معًا[34].

القديس إكليمنضس السكندري

v     قضيت زمانًا طويلاً في الباطل، وأضعت تقريبًا كل شبابي أبحث عن نوعٍ من الحكمة هي جهالة عند الله. فجأة مثل إنسانٍ قام من نومٍ عميقٍ فتحت عيني على نور حق الإنجيل العجيب، فأدركت عدم نفع حكمة رؤساء هذا العالم التي تزول (1 كو 2: 6). سكبت دموعًا كثيرة على حياتي البائسة وطلبت أن أنال هداية كي ألتصق بتعليم الدين الحقيقي.

القديس باسيليوس الكبير

6. سماوي، نطلب التمتع به: "هب لي الحكمة" (9: 4) "فأرسلها من السماوات المقدسة" (9: 10).

v     يحدث أن الذين كانوا قبلاً يجهلون السماويات، إذ يتقبلون تعليم الحكمة يتحدثون في الحال عن الحق الإلهي[35].

الأب لاكتانتيوس

7. يدعوها الكاتب "محب البشر":

"إن الحكمة روح يحب الإنسان" (1: 6).

"حرً، مُحسنًا، محبًا للبشر" (7: 22).

"إنها تمتد بقوةٍ، من أقصى العالم إلى أقصاه، وتدبر كل شيءٍ للفائدة" (8: 1).

8. يصفها الكاتب بسمات هي ذات سمات الله، وذلك لكي يُهيئ الكاتب لرجال العهد الجديد أن يُدركوا أن السيد المسيح هو حكمة الله، الذي يوهب لنا. وكما يقول الرسول بولس: "ومنه أنتم بالمسيح يسوع، الذي صار لنا حكمة من الله وبرًّا وقداسة وفداءً" (1 كو 1: 29-30).

v     الله لم يجعلنا مجرد حكماء وأبرارًا وقديسين في المسيح. أنه أعطانا المسيح لأجل خلاصنا[36].

القديس يوحنا الذهبي الفم

الحكمة والإنسان

طلب الحكمة هو قمة ما يبلغه الإنسان، إذ بنواله إياها يقترب منها، أي من الله.

مما يجدر ملاحظته أن الكاتب يدعو الحكمة الإلهية "العناية الإلهية" (14: 3)، أو الحب الإلهي، أعمالها ليست عقيمة (14: 5). فمن يقتني حكمة الله يقتني الحب العملي نحو الله والناس! لكن الإنسان شوَّه حتى اسم "الحكمة"، فكثيرًا ما تُستخدم الكلمة للتعبير عن المكر والخداع، أو المداهنة والمحاباة. فالإنسان بفساد قلبه أفسد حتى لنظرة إلى المقدسات الإلهية.

بين سفريّ الحكمة والجامعة

يرى بعض الدارسين أن هذا السفر جاء في مقابل سفر الجامعة، لكنه في الحقيقة هو مكمل له، فإن كان سفر الجامعة يؤكد بطلان العالم، وليس من جديد تحت الشمس، إذا بهذا السفر يوضح إمكانية استخدام العالم للبنيان خلال التمتع بحكمة الله.

1. "الموضوع الرئيسي لسفر الجامعة هو تثقيف الشاب، وإعداده ليحيا إنسانًا تقيًا غير مُستعبد لملذات العالم وشهوات الجسد وإغراءات المادة. أما بالنسبة لسفر الحكمة فهو مقدم للحكام أو للبالغين، كي يعيشوا بروح الحكمة السماوية، أتقياء ومقدسين للرب.

2. سفر الجامعة يركز بالأكثر على الجانب الأخلاقي السلوكي، أما سفر الحكمة فيركز الأنظار على الله، حكمة الله، للشركة معه.

سفر الحكمة والعهد القديم

مع أنه يتحدث عن إسرائيل كمركز خطة الله، إلا أنه لا يشير إلى الذبائح والطقوس اليهودية. هذا ويؤكد السفر مرارًا أن الله يرحم الجميع، وفي عدله لا يحابي أمة على أمة، ولا جنسًا على جنسٍ آخر.

سفر الحكمة والعهد الجديد

1. قدم لنا الدكتور مراد كامل في مقدمته للأسفار القانونية الثانية ونيافة الأنبا مكاريوس في كتابه "تفسير حكمة سليمان" أمثلة لمقتطفات من سفر الحكمة وردت في أسفار العهد الجديد. لكن لم يقتبس أي سفر في العهد الجديد من سفر الحكمة نصوصًا كما هي، وإنما جاء صداه قويُا في أسفار العهد الجديد، خاصة في إنجيل يوحنا ورسائل القديس بولس الرسول[37]. واضح أن القديس بولس كان على دراية بالسفر، وإن كان لم يقتبس منه مباشرة (راجع رو 1: 19-32 مع حك 13، 14؛ عب 1: 3 مع حك 7: 26؛ أف 6: 13-17 مع حك 5: 17-19).

2. قدم لنا السفر رموزًا للسيد المسيح، منها اضطهاد الأشرار للبار، كرمز لاضطهاد اليهود للسيد المسيح البار (حك 2: 12-20). وأيضًا الصديق الذي يعتبر الأشرار موته هوانًا سيدينهم في نهاية الأيام (حك 4: 1-5، 18: 24)، رُمز للسيد المسيح الذي يدين جميع الأشرار ببرّه في يوم الدينونة الأخير.

3. هيأ هذا السفر لتمجيد الحياة البتولية المكرسة لله، الأمر الذي كان يصعب على اليهودي قبوله. يذكر السفر أن العاقر والخِصيْ الطاهرين وإن لم ينجبا على الأرض إلاَّ أن مكافأتهما عظيمة في السماوات (حك 3: 13-15).

4. من يتلامس مع هذا السفر يستطيع – إن صح لنا القول – أن يضمِّه إلى أسفار العهد الجديد، إذ يحمل الكثير من روحه ومن أفكاره، فقد حمل السفر اتجاهًا إنجيليًا. أهم الأفكار المشتركة مع أسفار العهد الجديد هي:

أ. الإشارة إلى الثالوث القدوس، وشخصية الحكمة كأقنومٍ إلهيٍ.

ب. التركيز على الخلود والنفس البشرية.

ج. الموت وبقية الشرور هي من عمل الشيطان، لكنه لا يلزم الإنسان إنما يحاول إغوائه.

د. تتناغم لهجته مع العهد الجديد في النظرة نحو العناية الإلهية عبر التاريخ.

فقد كشف عن محبة الله نحو كل البشريَّة، الأمم مع اليهود، أذكر على سبيل المثال:

"لأن كل العالم أمامك" (11: 22).

"لكنك ترحم جميع الناس" (11: 23).

"إنك أشفقت على أولئك أيضًا لأنهم بشر" (12: 8).

"إذ ليس سواك إله يعتني بجميع الناس" (12: 13).

فإنك تسوُس جميع الناس" (12: 15).

5. كما أن الله محب لكل البشريَّة هكذا يليق بالأبرار، كأبناء لله، أن يكونوا كاملين مثل أبيهم السماوي، يحملون الحب لكل البشريَّة. "وبأعمالك هذه علَّمت شعبك أن البار يجب عليه أن يكون محبًا للناس" (12: 19).

6. يكشف لنا هذا السفر عن الله بكونه محب البشريَّة، فإنه حتى في تأديبه للأشرار يؤدب تدريجيًا لكي يعطيهم فرصًا للتوبة. فلو أنه يريد هلاك الأشرار لسمح بالعقوبات السريعة المفاجئة.

"لذلك فإنك تُوبخ شيئًا فشيئًا الذين يزلون وتنذرهم مذكرًا إياهم بما يخطئون فيه، لكي يُقلعوا عن الشر، ويؤمنوا بك أيها الرب" (12: 2).

"ومع ذلك فإنك أشفقت على أولئك أيضًا لأنهم بشر، فبعثت بالزنابير تتقدم جيشك لكي تبيدهم شيئًا فشيئًا... بإجـراء حـكمك شيئًا فشيئًا منحتهم مهلة للتوبة" (12: 8، 10)

7. إذ أشرق نور العهد الجديد على قلب الحكيم رأى شعب الله في مركز عجيب، فدعاهم بألقاب تحمل بركات العهد الجديد نذكر منها.

ا. قديسون يتمتعون بنور عظيم (18: 1، 5)، إذ يتقدسون بالله.

ب. أبناء الله، الذين يود الأشرار أن يحبسوهم (18: 4).

ج. الأبرار (18: 20)، أو الصديقون الذين آمنوا بالله ليتمتعوا ببرِّه عاملاً فيهم.

سفر الحكمة والليتورجيات[38]

اتسمت الليتورجيات الكنسية القبطية بالفكر الإنقضائي أو الأخروي (الإسخاتولوجي)، حيث ما يشغل فكرها هو انطلاق الكل معًا كعروسٍ سماويةٍ تتمتع بشركة أمجاد عريسها السماوي. وإذ اهتم هذا السفر بالفكر الأخروي والخلود، فلا نعجب إن اقتبست الليتورجيات الكثير من هذا السفر، نذكر على سبيل المثال:

1. في قسمة القديس أبيفانيوس عن الحكمة، والتي تستخدمها الكنيسة خاصة في فترة صوم الميلاد، جاءت القسمة تلخص كل السفر في صرخات قلب عميقة للتمتع بالسيد المسيح الحكمة، الذي لا يحتاج إلى أحد يصعد إليه ليُنزله إلينا أو ينزل إلى الأعماق ليأتي إلينا به.

2. اقتبست صلاة الصلح في القداس الباسيلي من السفر ما ورد في الأصحاح 2 (23-24).

3. نقلاً عن سفر الحكمة (9: 1-4) جاء في صلاة الحجاب الثانية في القداس الباسيلي: "اعطني في هذه الساعة قلبًا حكيمًا فهيمًا... لكي استحق أن اقترب إلى مذبحك المقدس، وأقدم لك هذه القرابين التي نقدمها لك بالروح الصالح الكامل الذي لنعمتك".

4. اقتبست صلاة الحجاب للقداس الكيرُلُّسي ما ورد في حك 11: 27 "أعطني روحك القدوس الناري."

5. اقتبست قطع صلاة باكر من حك 16: 28: "سبقت عيناي وقت السحر لأتلو في جميع أقوالك".

6. في سرّ حلول الروح القدس في القداس الكيرُلُّسي ورد: "وأرسل إلى أسفل من عُلوّك المقدس، ومن مسكنك المُستعد، ومن حضنك غير المحصور، ومن كرسي مملكة مجدك (حك 9: 10)... البارقليط روحك القدوس.

7. في تسبحة نصف الليل في لبش الهوس الأول اقتبست الكنيسة من سفر الحكمة (19: 7-8). (طريق ممهد في البحر الأحمر)

8. أيضًا في قراءات البصخة المقدسة تقرا فصول من سفر الحكمة.

v     الساعة السادسة من اثنين البصخة (حك 1: 1-9).

v     الساعة الحادية عشر من ليلة الأربعاء (حك 8: 24 الخ).

v     باكر الجمعة العظيمة (حك 2: 12-22).

الطبيعة الخادمة لخطة الله

لعل من أروع ما سجله لنا هذا السفر تفسيره للأحداث خاصة الخروج، كيف يستخدم الله الطبيعة لتخدم خطته، لأجل حث الأشرار على التوبة، وتقديم مساندة لكنيسته المقدسة وسط الضيق. إنه إله المستحيلات، الذي خلق الطبيعة بكل قوانينها ونواميسها كعملٍ عجيبٍ، وهو بنفسه عند الضرورة يكسر هذه القوانين، ويحركها لخدمة خطته الإلهية.

نذكر هنا أمثلة لما ورد في هذا السفر:

1. لم تعد أرض مصر المعروفة بخصوبتها تثمر لهم نباتات وترعى فيها الحيوانات، فصار المصريون الوثنيون في مجاعة وضيق شديد، بينما تقدم البرية الجافة القفر منًا وسلوى لشعبه (16: 1-4). لم يستطع الأولون على ضفاف النيل أن يأكلوا أو يشربوا، بينما وجد كل مؤمنٍ من الشعب وسط البرية منًا نازلاً من السماء، يشبع تذوقه الخاص به، والصخرة تقدم له ماءً نقيًا.

2. لم يكن لدى اليهود في البرية نباتات ومراهم تُستخدم كأدوية، لكن بكلمة الله شفاهم، إذ وهبهم أن يُشفوا من لدغات الحيات القاتلة بمجرد التطلع إلى الحية النحاسية بإيمانٍ. سرّ الشفاء ليس في الحية ذاتها، إنما في الوعد الإلهي (16: 5-8). هكذا خلق الله لنا النباتات التي تُستخرج منها مواد لشفاء الجسد، ووهبنا العقل البشري للأبحاث الكيمائية والطبية، لكن يبقى هو طبيب النفوس والأجساد، واهب الشفاء (16: 12-15).

3. في تأديبه للأشرار يسمح بضربة تكسر قوانين الطبيعة، حيث تشتعل النار بقوة وسط البرد وسيول الأمطار الغزيرة على خلاف الطبيعة (حك 16:16). فمتى نزل البَرْد لا تكون سيول أمطار، وحيث تنزل سيول الأمطار تطفئ النيران. وكأن قوى الطبيعة تلاحمت معًا حتى بكسر قوانينها لأجل تأديب الأشرار وحماية الأبرار.

4. مرة أخرى لاحظ الحكيم أن الله وهبهم منًا من السماء له سمات غريبة، متى أشرقت الشمس عليه يذوب المن في الصباح المبكر، وتتشربه رمال البرية كأنه ماء يرويها، بينما إذا ما وُضع على النار لا ينحل، بل يحتفظ بشكله وطعمه، حيث يجد كل شخص المذاق الذي يستعذبه.

5. فقد المصريون القساة نور الشمس وتحولت بيوتهم إلى حبسٍ أو سجنٍ، وصاروا كأنهم مربوطون بسلاسل يخشون الحركة داخل البيت أو خارجه لئلا يسقطوا (حك 17: 15). كانوا كأسرى يعانون من العزلة والوحدة مع الخوف الشديد. بينما كان القديسون في البرية حيث العزلة الخارجية يرافقهم الله كعمود نورٍ. صاروا في ضيافته حتى وسط الليل، يشرق عليهم بنور الفرح الإلهي السماوي (18: 13-14). شتان ما بين السكنى في المدن مع الحرمان والعزلة، والتحرك في البرية لكن في ضيافة الله نفسه القائد لهم في رحلتهم، والمشرق بنوره عليهم طوال أربعين عامًا.

6. الوسيلة التي اُستخدمت لتأديب الأشرار هي بعينها اُستخدمت لمكافأة أبناء الله. لقد أراد الأشرار إهلاك أطفال القديسين، وإذ وضع في النهر صارت المياه لا لهلاكه بل لانتشاله وإعداده لخلاص الشعب من العبودية. المياه التي أنقذت موسى وشعبه، أغرقت فرعون وجنوده (حك 18: 5).

7. صدر الأمر من فرعون بذبح أطفال القديسين خفية، وإذا بأبكار المصريين يقتلون علانية (18: 6، 10).

8. عُرف وادي النيل بخضرته وخصوبة تربته، حوَّلها الجراد إلى قفرٍ مهلك، وعلى خلاف الطبيعة صار قاع البحر الأحمر بالنسبة للمؤمنين طريقًا ليس فقط للعبور خلاله، وإنما حوله الله كما إلى جنة أو مرج أخضر. صار قاع البحر حديقة مبهجة يتمتع بها المؤمنين أثناء عبورهم فيه (19: 7)، وعلى خلاف قوانين الجاذبية الأرضية وقوانين السوائل وقف الماء على الجانبين كسورٍ يحمي المؤمنين العابرين فيه.

9. بينما ذاق المصريون الوثنيون المرارة من الظلام والخيالات والرعب داخل بيوتهم، أثناء ضربة الظلام وضربة قتل الأبكار، إذا بالمؤمنين يتمتعون بفرحٍ شديدٍ في البرية (19:19)، فكانوا يسبحون الله على أعماله المجيدة معهم (خر 15). بعد خروجهم من البحر الذي أغرق فرعون جنوده، شعروا بالحرية الموهوبة لهم، حتى وإن كانت في البرية. صاروا كخيل يرعى في مرعى خصيب، أو كحملان تقفز وتلعب بسرورٍ.

 10. ضُرب المصريون بالذباب (جاء النص العبري يعني حشرات صغيرة تطير، لذا يرى البعض أنها بعوض) يضايقهم كما يضايق حيواناتهم. هذا ما أنتجته لهم الأرض الزراعية. عوض أن تكون مرعى للحيوانات النافعة التي تقدم لبنًا وصوفًا ولحمًا (19: 10).

11. إن كانت الأرض قدمت بعوضًا مؤذيًا عوض الحيوانات النافعة، فإن النهر فاض عليهم بالضفادع لتملأ بيوتهم وتتحول إلى أكوام نتنة في كل أرض مصر، يصعب التخلُص منها، وذلك بدلاً من الأسماك الشهية الطعم (19: 10).

12. إن كان الله قد سمح للأشرار بهجومٍ برِّي من البعوض وبحري من جيوش الضفادع، فقد أظهر عنايته بالمؤمنين، حيث انطلقت أسراب ضخمة من السلوى (السمان) مهاجرة؛ وكانت في نهاية رحلتها تطير بالقرب من البحر فرأوها كأنها خارجة من البحر، حيث تطير على مستوى منخفض. كانت هذه الطيور مُجهدة تطير ببطءٍ، فأمسكوا بها، وقد أشبعت كل الشعب البالغ حوالي المليونين.

13. يقدم الحكيم مقارنة غريبة بين عمل الله مع غير المؤمنين وعمله مع المؤمنين. فمع غير المؤمنين حول الحيوانات شبه المائية (الضفادع) كما إلى حيوانات برية إذ تركت الضفادع المياه وانطلقت إلى بيوت المصريين ودخلت مخادعهم. وعلى العكس فإنه بالنسبة للمؤمنين حول لهم الحيوانات التي معهم كما إلى أسماك مائية تسير في قاع البحر تعبر من الشاطئ الشرقي إلى الغربي في أمان (19: 18-20). هذا العمل الإلهي الفائق يُظهر عظمة الله الذي يحرك خليقته ويغير قوانينها لصالح أولاده كمن يعزف على قيثارته أنشودة الحب الفائق (19: 17).

14. يرى الحكيم أن عمود النور الذي كان يحمي شعبه صار عازلاً شعبه عن المصريين غير المؤمنين. كان النور يسير وسط المياه والمؤمنون ومواشيهم في أمان بينما صارت خيول المصريين في انزعاج شديد، وكانت قوة النار تحرقهم. وكأن النار وهي وسط المياه من الجانبين صارت أشد حرارة مما هو خارج الماء. هذا والنار التي أزعجت الخيول لم تضر الأسماك والحيوانات البحرية التي كانت تسبح في المياه التي على الجانبين (حك 19:19-20).

أقسام السفر

يمكننا تقسيم هذا السفر إلى ثلاثة أقسام رئيسية مترابطة معًا:

1. الحث على طلب الحكمة والبٌر 1-6.

2. يا لعظمة الحكمة! 7-9.

3. شهادة التاريخ لحكمة الله محب جميع الناس 10-19.

1. الحث عن طلب الحكمة والبرّ (1-6)

يبدأ السفر بالكشف عن مركز حياة الإنسان، فلا يقدمها بكونها مجرد القدرة على تفهم الأمور وأخذ القرار السليم، لكنها هي حياة شركة مع الله البار القدوس، فتهب البرّ والقداسة، بهذا يتمتع المؤمن بالخلود، فإن لم يحمل سمة البرّ يموت. بمعنى آخر يربط الكاتب بين الحكمة والبرّ أو الحياة المقدسة؛ وبين الجهالة والشر. فإن كانت الحكمة لا تنفصل عن الإيمان والبرّ، فإن المؤمن إذ يطلب الحكمة الإلهية يتمتع بالبرّ الإلهي. بالحكمة الإلهية يكتشف المؤمن خطة الله الخفية بالنسبة للمتألمين والعواقر والذين يُصابون بالموت المبكر، موضحًا أن المكافأة هي الخلود، وليس الترف الزمني.

أما الأشرار ففي غباوتهم يقتنون الموت ويدخلون معه في عهدٍ، ويصيرون حلفاء له!

2. يا لعظمة الحكمة (7-9)

بعد أن تحدث عن الحكمة كحياة مُعاشة، وخبرة عملية خلال الشركة مع القدوس والتمتع بالبرّ الإلهي يوضح لنا سليمان الحكيم أن الحكمة التي تمتع بها ليست مُقدمة لأناس معينين، كأن الحكماء من طبيعة أخرى غير عامة البشر. فسواء كان الكاتب سليمان نفسه أو آخر، جاء هذا القسم يكشف عن تمتع سليمان الحكيم بالحكمة كمثالٍ لكل إنسانٍ دون محاباةٍ. فهي عطية إلهية، مُقدمة لجميع البشر، لكنها لا تُعطى قسرًا، بل لمن يحبها ويشتهيها ويطلبها في جدية، معبِّرًا عن طلبته بكل وسيلة ممكنة، وليس بمجرد صلاة اللسان وحده.

أ. سليمان ليس من طبيعة خاصة، إنما هو إنسان كسائر البشر، ما تمتع به يمكن أن يتمتع به كل إنسانٍ جادٍ في طلب الحكمة (7: 1-6).

ب. سرّ قوة سليمان هو تركيز أنظاره على الحكمة العلوية. صلى فنال الحكمة والغنى (7: 8-12).

ج. سليمان يصلي لكي يهبه الله إمكانية الحديث عن الحكمة (7: 13-22).

د. طبيعة الحكمة وعظمتها!

هـ. طلب سليمان الحكمة مصدر المعرفة الحقيقية (8: 1-8).

د. طلب الحكمة كمشيرٍ له، يهبه الراحة (8: 9-16).

و. تحقق سليمان أن الحكمة هبة إلهية (8: 17-21).

ز. صلاة سليمان من أجل الحكمة (9).

3. شهادة التاريخ لحكمة الله محب جميع الناس (10-19)

يقدم الكاتب أمثلة عملية على المستوى الشخصي والجماعي، موضحًا من خلال التاريخ الطويل إمكانية الفرد (كما الجماعة) أن يتمتع بحكمة الله وينتفع بعمله بكونه محب جميع البشر.

يهتم الله بالأبرار كما بالأشرار، ويطلب خلاص الكل. حتى في تأديبه للأشرار يحذر وينذر ويؤدب تدريجيًا، وفي هذا كله يترقب توبتهم ورجوعهم إليه. تخَّلص الحكمة مالكها (10).

يقدم الكاتب عدة مقابلات لتوضيح اهتمام حكمة الله بالأبرار كما بالأشرار:

أ.الماء من الصخرة مقابل الدم في نهر النيل (11: 6-14).

ب.السلوى مقابل وباء الحيوانات الصغيرة (11: 15-16: 15).

ج.المن النازل من السماء مقابل الجراد والمجاعة في مصر.

د.عمود النار مقابل ضربة الظلمة (17: 1-18: 4).


 

من وحي الحكمة

هب لي الحكمة الجالسة معك إلى عرشك

 

v     أقمتني ملكًا وكاهنًا،

لكي أسوس العالم بقداستك و برّك.

لم تبخل عليَّ بشيءٍ،

ووهبتني ذاتك يا حكمة الله السماوي.

انشقت السماوات، ونزلت إليّ!

ماذا بعد أطلب منك؟

 

v     قدِّس عقلي وفكري وقلبي  كليتي ولساني،

فأصير بكليتي لك.

لن أسلك إلا بك، يا أيها الحكمة السرمدي!

 

v     أقتنيك، فأقتني الخلود!

أتمتع بك، فأصير أيقونة لك.

أحملك في داخلي، فتحملني إلي سماواتك.

 

v     بك أسلك في طريق البرّ،

ينفتح لي حضن أبيك فأستقر فيه.

بك أتعرف علي أسرار الحب الإلهي،

فأسبح في لجة رعايتك الفائقة.

بك ينفتح قلبي فأحب كل البشرية،

علي مثالك يا أيها العجيب في حبه!

 

v     اقتناك سليمان، فاستخف بالعرش والصوالجة،

وصار الذهب والفضة والحجارة الكريمة كلا شيء في عينيه.

ورأى السماوات ليست ببعيدة عنه.

 

v     لأقتنيك، فيُسر الآب بي فيك،

وتتهلل الطغمات السماوية لعمل نعمتك فيَّ.

ويسقط إبليس من السماء كالبرق،

ولا يكون للموت موضع فيَّ!

 

v     أقتنيك، فأشتهي أن يكون كل البشر حكماء،

يتمتعون بك، فتتحول الأرض إلي سماءٍ!

و تشتهي الطغمات السمائية أن تخدمهم،

تترقب يوم نزولك علي السحاب لتحمل الكل،

ويصير كل المؤمنين في عرسٍ مفرحٍ لا ينقطع!

 

ملاحظة

اعتمدت في النص على:

1. الترجمة اليسوعية.

2. Samuel Bagster and Sons Ltd: The Septuagint Version… London.

3.Bruce Metzger: The Oxford Annotated Apocrypha, Oxford University, 1965.

4. The Catholic Bible, Good Counsel Publishers, Chicago. Illinois, 1970.

5. The Holy Bible, Douay Version, Catholic Truth Society, London.

6. القمص قزمان البراموسي: ترجمة حديثة لأسفار عزرا الأول...، 1978.

<<


الباب الأول

 

 

 

الحث على طلب الحكمة والبٌر

حك 1 – حك 6

 

1. حث على الحكمة والبٌر 1.

2. سخرية الأشرار بالأبرار 2.

3. تحدِّي الأبرار حتى للموت المبكر 3.

4. بين مصيري الأبرار والأشرار 4.

5. ندم الأشرار بلا نفع 5.

6. حديث ختامي 6.


 

الحكمة والحياة التقوية (البرّ)

يشبه هذا القسم سفر أيوب إذ يعالج موضوع: لماذا يتألم الصالحون وينجح الأشرار؟

كثيرًا ما يتعثر الناس مما يجري في العالم، حيث يظن الأشرار أنهم قادرون على كل شيءٍ، يستخدمون كل وسيلة للظلم لحسابهم الخاص، وكأنه ليس من عدالة إلهية تقمعهم.

إذ يرفض الفلاسفة الماديون الإيمان بالحياة الأخرى، لا يجدون حلاَّ للمشكلة، أما المؤمنون فينتظرون يوم الدينونة لينال الصالحون حياة أبدية والأشرار عقابًا أبديًا. الخلود هو مكافأة الحياة الحكيمة التقوية.

هنا يرفعنا الكاتب إلى الخلود، لنرى حب الله الفائق الذي يطيل أناته على الأشرار لنفع الطرفين: لتذكية الأبرار في تحملهم للظلم، وإعطاء فرصة للأشرار للتوبة. بهذه النظرة يطلب الأبرار أن يتمتعوا بالحكمة السماوية الملازمة للبرّ الحقيقي من أجل المكافأة السماوية. لهذا دُعي هذا القسم (حك 1-6) بالكتاب الاسخاتولوجي أو الأخروي أو الانقضائي، حيث يحملنا إلى ما وراء انقضاء هذا الدهر.

<<


 

الأصحاح الأول

حث على طلب الحكمة والبرّ

لا ندهش إن افتتح الكاتب السفر بالحث على محبة البٌر، إذ يربط بين ثلاثة أمور لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وهي: الحكمة، والبُر، والإيمان بالله محب البشر؛ كما لا يمكن الفصل بين الجهل والخطية والتجديف على الله. فهو يدعو المؤمنين أن يحبوا البٌر ويطلبوا الحكمة، فيتمتعوا بإعلان الله عن نفسه لهم، واقترابهم إليهم.

يربط السفر بين الحكمة والحياة المقدسة أو التقوية في الرب. "إن الحكمة لا تدخل النفس الخبيثة، ولا تسكن الجسد المُستعبد للخطية" (4:1). ويربط بين البرّ والخلود. "فإن البرّ خالد" (15:1). هذا وإن "الله لم يصنع الموت، ولا يُسر بهلاك الأحياء" (13:1).

1. الحكمة والبرّ مع الإيمان1-5.

2. الحكمة والحب6.

3. اهتمام الله بالبشرية 7-11

4. قتل النفس وخلود البرّ12-15.

5. المجدفون وميثاق الموت 16.

1. البٌر والحكمة مع الإيمان

أحِبُّو البرّ يا أيها الذين يحكمون الأرض،

وفكروا في الرب تفكيرًا صالحًا،

والتمسوه ببساطة قلوبكم. [1]

يربط الحكيم بين محبة البرّ، والتفكير الصالح في الرب، وطلب الرب. وكأنه يفتتح السفر بالدعوة إلى ثلاثة أمورٍ: الحب والتفكير المقدس والطلبة.

يقصد بالبرّ الاستقامة أو الفكر الفاضل والعمل الجاد.

يحذرنا الكاتب من عدم التفكير الصالح أو البسيط في الله، ولعله يقصد هنا عدم التذمر على أحكام الله، وتجاهل عنايته الإلهية وخطته الخفية من نحو محبوبه الإنسان. وذلك بسبب طول أناته على الأشرار، وسماحه للأبرار بالتجارب والضيقات.

يتطلع الحكيم إلى الحكمة أنها ليست مجرد التمتع بخبرات بشرية زمنية والقدرة العقلية في التصرف وتدبير الأمور، لكنها مع تقديس الخبرات البشريَّة والعقل البشري فهي في جوهرها تمتع بالشركة مع "حكمة الله" بكونها أقنومًا إلهيًا، يسكن في النفس، ويقودها في الطريق الإلهي بإرادة مقدسة. خلال هذا المفهوم، يرى الحكيم وجود علاقة قوية بين الحكمة والإيمان والبرّ والخلود، ومن الجانب الآخر بين الحرمان من الحكمة والتجديف والإثم والموت الأبدي.

ليس من فصل بين الحكمة والإيمان بالله القدير الصانع الخيرات، وبين الحكمة والسلوك بالبرّ حسب إرادة الله، فخلال هذه الحياة المقدسة يختبر المؤمن عربون الأبدية، ويعرف كيف يسلك في الحياة كقائدٍ نجحٍ، يسوس العالم. في حديث الكاتب مع الله يقول: "مٌكون الإنسان بحكمتك، لكي يسود الخلائق التي صنعتها، ويسوس العالم بالقداسة والبٌر، ويجرى الحكم باستقامة النفس" (9: 2-3)

v     يا لغباوة الباحثين عن الله بهذه العيون الخارجية، إذ لا يُرى الله إلا بالقلب، وذلك كما هو مكتوب في موضع آخر "التمسوه بقلب سليم (بسيط)" (حك 1:1)، لأنه ما هو القلب النقي سوى القلب السليم والبسيط. وكما أن هذا النور لا يُرى إلا بعيون نقية، هكذا لا يُرى الله ما لم يكن ذاك الذي يراه (أي القلب) نقيًا[39].

v     لا تسلموا بالتفكير في النظر إلى وجهٍ جسديٍ، لئلا في شوقكم الملتهب نحو رؤيته تهيئون وجهكم الجسدي لرؤيته، وبهذا تبحثون عن وجه (جسدي) في الله. لكن إذا تصورنا الله روحًا على الأقل دون أن نتصوره جسديًا - هذا الموضوع الذي سبق معالجته بتوسع بالأمس[40]، إن كنت قد نجحت في إزالة تلك الصورة البشرية من قلوبكم كما من هيكل الله، إذا كان الرسول يعبر عن مضايقته من هؤلاء الذين "بينما هم يزعمون أنهم حكماء، صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى" (رو 1: 22-23). إن كان هذا قد دخل إلى أعماق أفكاركم، وامتلك قلوبكم الداخلية، إن كنتم تنفرون من هذا الكفر، وتحفظون لله هيكله نقيًا، إن كنتم تريدونه يأتي، ويجعل له مسكنًا فيكم، "تفطنوا في الرب بفطنة صالحة واطلبوه ببساطة قلب" (حك 1: 1)[41].

v     من يرغب في أن يحب الله، ويحذر من أن يخطئ في حقه، عليه أن ينقي نيته المستقيمة التي لقلبه من كل ثنائية. بهذا الطريق يفكر في الرب صالحًا ويطلبه ببساطة قلبٍ (راجع حك 1: 1)[42].

القديس أغسطينوس

v     تعبيره "عينا القلب" (أف 1: 18) يشير إلى تلك الأمور التي لا يمكننا أن نفهمها بدون الحس والتعقل... فالإيمان يرى ما هو وراء رؤية العيون الجسدية. فإن العيون الجسدية توجد ليس فقط في رأس الحكماء، بل وفى غير الحكماء[43].

القديس جيروم

v     المؤمنون شركاء في الحكمة الإلهية[44].

الأب أمبروسياستر

v     حيث توجد خداعات كثيرة هكذا وأخطاء للأشرار، والفاسدين المتذمرين على الحكمة، فكم نحتاج إلى عين طاهرة بسيطة لكي تجد طريق الحكمة؟ أن تهرب من كل هذه، إنما هو أن تبلغ إلى الضمان الكامل للسلام وإلى سكنى الحكمة غير المتغيرة[45].

القديس أغسطينوس

ما هو القلب السليم أو البسيط سوى القلب النقي الذي يطلب الله لا لهدفٍ ماديٍ أو زمني، وإنما لأجل الله نفسه، يود أن يقتنيه ويحيا به ومعه إلى الأبد.

إنه يدعو كل قائد سواء كان أبًا أو أمًا أو رئيسًا أو خادمًا، بل وكل مؤمن أيا كان عمره أو إمكانياته أن يحب البرّ الإلهي، فيتطلع إلى كل الأمور من منظور صادق، أي في الرب.

لأنه يكشف نفسه للذين لا يجربونه،

ويتجلى للذين لا يرتابون فيه. [2]

من يحب البٌر، ويفكر في الله حسنًا، ويشتهي التمتع بسكنى الله في قلبه، يتهيأ لإعلان الله له، فهو يتجلى في المؤمنين السالكين في البٌر والجادين في التمتع بنعمة إقامة الملكوت في داخلهم. أما الذين يكفرون بالله سواء بعدم الإيمان داخليًا أو خلال الكلام أو خلال السلوك، فتحل بهم الظلمة، ولا يختبرون رؤية الله بالإيمان في قلوبهم.

v     من له القلب النقي يرى الله (مت 5: 8). أما من ليس له القلب النقي فلا يرى ما يراه الآخرون. أعتقد أنه يلزمنا أن نفهم شيئًا مثل هذا بخصوص المسيح أيضًا حين نُظر في الجسد. فإنه ليس كل من ألقى بنظره عليه كان قادرًا أن يراه. لقد رأوا جسمه، لكنه لم يقدروا أنه يروه من حيث أنه هو المسيح. أما تلاميذه فرأوه ونظروا عظمة لاهوته[46].

العلامة أوريجينوس

فإن الأفكار المعوجة تُبعِدُ عن الله،

وقوته إذ امتُحنت، تُخزي الأغبياء. [3]

إذ يتحدث عن محبة البرّ الإلهي والقلب النقي البسيط، وتجلي الله فيه يحذرنا من الخطية، خاصة أفكار المكر والخداع، فإنه ليس من شركة بين الحق والكذب؛ وبين الحب الإلهي والخداع، والقداسة والخطية. فالإنسان الذي يطلب الخطية ويعتز بالشر لا يستريح روح الله فيه. بالأفكار المعوجة تبتعد النفس عن الله، لأنها لا تحتمل الاستقامة. أما إذا اختبر المؤمن قوة الله، فيتحدى الأغبياء المقاومين للحق الإلهي.

من هو حكمة الله إلا الطريق والحق والحياة؟ فالحكمة تحفظنا من الطرق المعوجة التي تدمر حياتنا، وكما يقول الحكيم: "إذا دخلت الحكمة قلبك، ولذت المعرفة لنفسك، فالعقل يحفظك والفهم ينصرك؛ لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب، التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة، الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر، الذين طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبـلهم" (أم 2: 10- 15). كما قيل عن الأشرار: "طريق السلام لم يعرفوه و ليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة، كل من يسير فيها لا يعرف سلامًا" (إش 59: 8).

v     امشِ معه، فتصل إلى الله. به تسير، وإليه تذهب.

 لا تتطلع إلى أي طريق آخر به تذهب إليه.

 لو لم يقبل بنعمته أن يصير الطريق لبقينا في تيهٍ دائمٍ.

 لست أقول لكم أن تتطلعوا على الطريق، فالطريق نفسه جاء إليكم؛ قوموا؛ سيروا[47].

v     أنت تسمع السيد يصلي، تعلم أنت أن تصلي. لقد صلى لهذا السبب، لكي يُعلمك أن تصلي[48].

v     يا أبناء السلام، أبناء الكنيسة الواحدة الكاثوليكية (الجامعة) سيروا في طريقكم، ورنموا مادمتم تسهرون. فإن المسافرين يفعلون هكذا ليحفظوا روحهم عالية. فهل تَّسبح وأنت في الطريق. أتوسل إليك بذات الطريق (المسيح) الذي أنت سائر فيه أن تسبّح في الطريق، سبح أنشودة جديدة.

ليته لا يسبح أحد بتسابيح قديمة، بل بتسبيح الحب الذي لوطنك (السماوي). ليته لا يسبح أحد بالقديم. هوذا الطريق جديدة والمسافر جديد، والأغنية جديدة[49].

القديس أغسطينوس

إن الحكمة لا تدخل النفس الخبيثة،

ولا تسكن الجسد المُستعبد للخطية. [4]

هنا يشخصن الحكمة، كما جاء في (أم 1: 20-33؛ 8: 1-36؛ 9: 1-6؛ أي 28؛ با 3: 9-4: 4، سي 24: 1-21). هي شخص، ليس منفصلاً عنه بل واحد معه، تحمل ذات سماته الإلهية.

لم يتبنَ سفر الحكمة الفكر الأفلاطوني كما ظن البعض، لأنه لا ينظر إلى الجسم كشرٍ. فلا ينسب هنا الخطية للجسد، إذ هو خليقة صالحة (14:1)، إنما يستخدم الإنسان الجسد لممارسة الشر خلال الإرادة الشريرة.

يعلق القديس أمبروسيوس على ما ورد في سفر التكوين عن دخول أبرام (إبراهيم) في ميثاق مع الله حيث أخرجه الرب إلى خارج وقال له انظر إلى السماء (تك 15: 5).

v     ما هو إذن معنى هذا التعبير: "أخرجه إلى خارج"؟ كأن النبي قد اُقتيد إلى الخارج، فصار خارج الجسد، ورأى محدودية الجسد الذي هو ثوبه، وتشّرَّب بالروح القدس الذي أظهر نوعًا من التنازل. هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نخرج من تخوم مسكننا الزمني. يلزمنا أن نطهر الموضع الذي تسكنه نفوسنا من كل دنسٍ، ونطرد كل غضن للشر إن أردنا أن نتقبل روح الحكمة، لأن "الحكمة لا تدخل نفس شـريرة" (حك 1: 4)[50].

القديس أمبروسيوس

v     من يبغي الوصول إلي المعرفة النظرية (التأمل في الإلهيات)، يلزمه أولاً أن يتبع المعرفة العملية (الاختبارية) بأقصى ما يمكن، لأن هذه المعرفة العملية يمكن أن تُطلب دون النظرية، أما النظرية فيستحيل اقتناؤها بدون العملية. إذ توجد مراحل معينة محددة ومرتبة يصعد بها تواضع الإنسان إلي العلي... فلا يقدر أن يطير الإنسان إلي المرحلة الثانية ما لم يبدأ بالأولى. باطلاً يجاهد الإنسان من أجل رؤية الله، ما لم تزُلْ عنه آثار الخطية، لأن "الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة. لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة وينهزم إذا حضر الإثم" (راجع حك 4:1-5)[51].

يعلق كروماتيوس صديق كل من روفينيوس والقديس جيروم على قول الإنجيلي: "طلبوا أن ينصرف عن تخومهم" (مت 8: 34)، قائلاً:

v     مثل هؤلاء الناس يوجدون أيضًا بيننا. فخلال عدم الإيمان يُلزمون الرب مخلص العالم أن يفارق تخوم قلوبهم، فإنه بحسب الكتاب المقدس: "الروح القدس لا يدخل نفسًا عنيدة، ولا يسكن في جسم مُستعبد للخطية" (راجع حك 1: 4- 5)[52].

الأب كروماتيوس

v     لا يوجد طريق لبلوغ المعرفة الروحية غير ذلك الطريق الذي وصفه النبي بدقة قائلاً: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلّمكمْ البرّ" (هو 12:10). يلزمنا أولاً أن نزرع بالبرّ، أي بأفعال البرّ نوسع الكمال العملي. بعد ذلك يجدر بنا أن نحصد رجاء الحياة، أي عن طريق نزع الخطايا الجسدية نجمع ثمار الفضائل الروحية. وهكذا سوف ننجح في إضاءة أنفسنا بنور المعرفة.

 يرى المرتل بالمزامير أيضًا أن هذا النظام يلزمنا إتباعه إذ يقول "طوباهم الذين بلا عيب في الطريق، طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته" (مز1:119-2). فإنه لا يقول في الأول "طوبى للذين يفحصون عن شهاداته" وبعد ذلك "طوباهم الذين هم بلا عيب"، إنما يبدأ بالقول "طوباهم الذين هم بلا عيب"، مظهرًا أنه لا يستطيع الإنسان أن يأتي إلى فحص شهادات الله بلياقة ما لم يسلك في طريق المسيح بلا عيب بحياته العملية[53].

الأب نسطوريوس

فإن الروح القدس المؤدِّب يهرُبُ من الخداع،

ويبتعد عن الأفكار الغبية،

وينهزمُ (يترك الإنسان) إذا حضر الإثم. [5]

يدعو الحكيم روح الله الذي يصفه فيما بعد أنه محب لجميع الناس، بروح التأديب القدوس. فليس من طريق للتمتع بروح الحكمة والنمو فيها دون التأديب الأبوي الإلهي.

كان العهد القديم يهيئ الأذهان للتعرف تدريجيًا على الثالوث القدوس حتى ندرك عمله الخلاصي، وقد تحدث سفر الحكمة عن:

* الله الآب الذي يليق بنا أن نفكر فيه صالحًا (2:1).

* الحكمة بكونها أقنوم الحكمة، أو الابن، أو الكلمة، وهو يسكن النفس المقدسة (4:1). فالحكمة ليست مجرد سمة، لكنه روح يحب الإنسان (6:1)، ديان عارف بأسرار الإنسان الخفية (6:1) ويملأ المسكونة (7:1).

* الروح القدس (5:1).

v     من يلتصق بقطيع المسيح خلال علاقة جسدية فقط بقلبٍ مخادعٍ، لا يمكن أن يُقال عنه إنه في الكنيسة، وإنه في شركة الروح. لأن "الروح القدس المؤدب يهرب من الخداع" (حك 1: 5)[54].

القديس أغسطينوس

في كتابه الذي بعث به القديس أغسطينوس إلى فينسينتوس فيكتور Vincentius Victor يؤكد له أنه إذ يدَّعي بأنه عضو في الكنيسة الجامعة دون أن يقبل إيمانها يكون مخادعًا، ويفارقه الروح القدس الذي يهرب من المخادعين[55].

2. الحكمة والحب

إن الحكمة روح مُحب،

فلا يبرئ المُجدِّفِ على أقوال فمه،

لأن الله شاهد لكُليتيه،

ورقيب صادق لقلبه،

وسامع للسانه. [6]

هنا يتحدث عن الحكمة كأقنومٍ إلهيٍ، هو روح، محب للبشر، وديان عارف بما يدور في الكلي والقلوب وما تتفوه به الألسنة.

لا ندهش أنه إذ يعلن الحكيم عن هروب الروح القدس من الإنسان الغاش، وعن صاحب الأفكار السفيهة أن يبدأ بعدم تبرئة المُجدف مما ينطق به، وأنه يهتم بكل كلمة تصدر من الإنسان. الله المهتم بخلاص الإنسان وتقديسه ليتهيَّأ للمجد السماوي ينشغل بكل كلمة تصدر عنه. الفم كما القلب يشيران إلى تقديس الإنسان في حياته العملية كما في حياته الداخلية. فلن يتمتع أحد بالنقاوة دون تقديس اللسان كما النيَّة أو الإرادة الداخلية.

يتحدث عن الكلى كعرشٍ للعواطف، والقلوب كعرشٍ للفكر، واللسان كعرشٍ للحياة الداخلية المترجمة كلام الكلام.

يهتم الحكيم باللسان، سواء ما ينطق به علنًا أو خلال النية الداخلية.

v     يليق بنا أن نفهم الكليتين بمعنى الأفكار العميقة والرغبات الداخلية... أتطلع دومًا إلى الكليتين أنهما تشيران إلى الإدراك الحسِّي والفكر السليم... هذه هي عادة الكتاب المقدس عندما يقصد الإعلان عن أمر سرِّي مخفي وسرائري يقول: "يا فاحص القلب والكلى، يا الله" (راجع مز 7: 10)[56].

القديس يروم

3. اهتمام الله بالبشرية

إن روح الرب يملأ العالم،

والذي به يتمسك كل شيء،

له علم بكل كلمة. [7]

في حديثه هنا عن روح الرب الذي يملأ المسكونة لا يعلن هذا لتأكيد أنه موجود في كل مكان، كأن الله محتاج إلى الكشف عن سماته، إنما يقول هذا ليشهد عن اهتمام الله بالبشرية كلها واحتضانه لها فهو في كل العالم، "يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون". كل الأشياء به قائمة، وبدونه ليس لها وجود، وهو يعرف كل كلمة خفية لا ليحاسبهم، وإنما ليطمئن المظلومين ويحث الأشرار على التوبة.

v     هذا العالم به ابن الله، وبه الروح القدس، كما يقول النبي: "بكلمة الرب صُنعت السماوات، وبنسمة فيه كل جنودها" (مز 33: 6). وفى موضع آخر قيل بنفس الطريقة: "روح الرب يملأ المسكونة" (حك 1: 7). لتسمع أيضًا ماذا يقول المسيح لك: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 2). أما عن الروح القدس فقيل: "إني أسكب روحي على كل بشرٍ، فيتنبأون" (راجع يوئيل 2: 28)[57].

v     "روح الرب يملأ كل الخليقة" (انظر حك 1: 7)، فبه نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بولس لأهل أثينا (أع 17: 28). وأيضًا القول: "أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب" (إر 23: 24). فإنه بالقوة هو قريب لكل الأشياء (إر 23: 23)، فلا تصعد الصلوات إذن إلى إله من بعيد (إر 23: 23)[58].

العلامة أوريجينوس

v     خلق (الروح القدس) كل هذه؛ ويملأ الكل بجوهره، ويحتوي الكل. إنه يملأ المسكونة (حك 1: 7) بالنظر إلى جوهره، ولا تحدّه المسكونة بالنسبة لقدرته... يُقدِّس (1 كو 6: 11) بطبيعته ولا يُقدَّس... يقيس ولا يُقاس. (يو 3: 34)، يُشترك فيه (رو 8: 15) ولا يشترك، يملأ (حك 1: 7) ولا يُملأ، يحتوي ولا يُحتوى، يؤخذ ميراثًا (أف 1: 13-14)، يُمجد (1كو 6: 19-20)، معدود مع الآب والابن (مت 28: 19)[59].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     الرب هو الذي يملأ كل الأشياء، وهذا أيضًا ما نقرأه عن الروح: "روح الرب ملأ كل المسكونة" (حك 1: 7). إنكم تجدون أنه قيل عن الذين رافقوا الرسل: "امتلأوا من الروح القدس، وتكلموا بكلمة الرب بكل شجاعةٍ" (أع 4: 31).

ها أنتم ترون أن الروح القدس يعطي الملء والشجاعة. وهذا ما جعل رئيس الملائكة يبشر مريم، قائلاً: "الروح القدس يحل عليكٍ" (لو 1: 35)[60].

القديس أمبروسيوس

فلذلك لا يَخْفى عليه ناطقٌ بسوءٍ،

ولا ينجو من العدل عندما يُعاقب. [8]

إذ يعلق الوحي الإلهي أن روح الله يملأ كل العالم، وله علم بكل كلمة تُقال، ولا يُخفى عليه شيء، لا يعني أنه إله يتلقط الأخطاء للبشر، لكنه مهتم بتقديسهم، يود لهم أن يكونوا أيقونة له، مؤكدًا: "وتكونون لي قديسين، لأني قدوس أنا الرب" (لا 20: 26).

إدراكنا لتدقيق الله من جهة حياتنا وسلوكنا وكلماتنا حتى أفكارنا إنما علامة اهتمام الله الفائق نحونا، هذا يدفعنا للتمتع بمخافة الرب، لا مخافة العبيد الذين يخشون اللقاء معه، وإنما مخافة البنين الذين لن يقبلوا إلاَّ أن يكونوا أيقونة روحية لأبيهم السماوي.

بقوله: "لا يخفي عليه ناطقً بسوءٍ"، إنما يؤكد أنه وان أطال أناته جدًا على الظالمين الذين يهينون اخوتهم، ويخططون ضدهم بالسوء، فإنهم غير مخفيين عنه، وسيدينهم إن لم يرجعوا عن شرورهم. فلا ينجو مُتهم بالظلم من العدالة الإلهية إلا باللجوء إلى المراحم الإلهية بالتوبة الصادقة.

سيحقِّق في نيَّات الشرير،

وصوت أقواله يبلغ إلى الرب برهانًا على آثامه. [9]

بعد أن تحدث عن كلمات المجدف يتحدث هنا عن أفكار المنافق، وجاء في ترجمة أخرى "غير المؤمن".

لا يهرب أحد من الدينونة الإلهية كما يظن الظالمون القساة، وأيضًا سيعلن الخفيات في يوم الرب فتنفضح النيات الشريرة التي للمجدفين على الله. إن صوت نياتهم الخفية تبلغ إلى الرب، وتشهد ضدهم على آثامهم.

لأن الأذن الغَيورة تسمع كل شيءٍ،

وضجيج التذمُّرات لا يُخفى عليها. [10]

كثيرًا يتحدث الكتاب المقدس عن غيرة الله، فهو كالعريس الذي يغير على عروسه، لن يقبل أن يحتل آخر مكانًا في قلبها. كما يقدم لها ذاته، يطلب أن تقدم ذاتها بالكامل له.

في غيرته تنصت أُذن الله إلى كل كلمة تصدر من عروسه، فإنه يود أن يناجيها: "أريني وجهك، واسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف ووجهك جميل" (نش 2: 14). يود أن يرى وجهها دائم البشاشة، ولسانها دائم الشكر، لذا يحذرها من التذمر.

يضيف إلى مجموعة الظالمين المتذمرين الذين يضجرون في قلوبهم، حتى ولو لم ينطقوا بكلمة. فالظالمون يهينون الله خلال ظلمهم لاخوتهم، والمتذمرون يهينون الله خلال جحودهم له وعدم شكرهم على رعاية الظاهرة والخفية.

"اشكري لله نعمته عليك، وباركي إله الدهور حتى يعود فيشيد مسكنه فيك,  يرد إليك جميع أهل الجلاء، وتبتهجي إلى دهر الدهور" (طوبيا 13: 12).

"اللهم علي نذورك أوفي ذبائح شكر لك" (مز 56: 12).

"لان رجاء من لا شكر له يذوب كجليد شتوي، ويذهب كماءٍ لا منفعة فيه" (الحكمة 16: 29)

"صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، صوت القائلين: احمدوا رب الجنود، لأن الرب صالح، لأن إلى الأبد رحمته، صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب، لأني أرد سبي الأرض كالأول يقول الرب" (ار 33: 11).

"مستغنين في كل شيء لكل سخاء ينشئ بنا شكرا لله . إن خدمتهم هذه تسد أعواز القديسين، وتسبب الشكر الجزيل لله" (2 كو 9: 11).

v     (الغنوسي) يقدم تشكرات لأجل رحلته ويبارك الله عند رحيله، مرحبّا بسكناه في السماء[61].

 القديس إكليمنضس السكندري

فاحذروا من التذمر الذي لا خير فيه،

وكفوا ألسنتكم عن النميمة،

لأن الكلمة التي تُقال في الخفية لا تذهب سُدى،

والفم الكاذب يقتُل النفس. [11]

ليس من ذبيحة يقدمها الإنسان لله مثل ذبيحة الشكر، فإن عصب العبادة القداس الإلهي، الذي هو سرّ الإفخارستيا أو سرّ الشكر، حيث تتقدم الكنيسة كهنة وشعبًا لتقدم للآب ذات ذبيحة الصليب غير المتكررة لتعلن بالخلاص الإلهي الذي وهبها حق الدخول إلى السماء لتشارك السمائيين ذبيحة التسبيح والحمد والشكر بلا انقطاع.

يحذرنا الحكيم من التذمر الذي لا خير فيه، إذ يحرم النفس تقديم ذبيحة الشكر. التذمر في الواقع هو ختم وتأكيد أن الإنسان قد تعلق تمامًا بالعالم وتحول قلبه عن أبيه السماوي، ولم يعد ينشغل بالعرس الأبدي المُعد له. "العبد الحكيم يخدمه الأحرار، والرجل العاقل لا يتذمر" (سيراخ 10: 28).

كما يحذرها من الثلب أي إدانة الآخرين والنميمة.

يؤكد الحكيم أن الله يسمع كلمات التذمر الخفية الصادرة عن القلب، ولا يطيق كلمات اللسان الكاذبة التي تقتل النفس. يدعونا أن نهرب من خطايا اللسان الظاهرة والخفية، مثل التذمر الداخلي على الله، والنميمة ضد الاخوة، والكذب.

"الفم الكاذب يقتل النفس"، لأن اللسان عرش الحياة إن عبٌر عن شركته الداخلية مع الله، ومصدر الموت إن سلك كما يسلك إبليس الكذاب وأب الكاذبين.

v     "أبغضت كل فاعلي الإثم، تهلك المتكلمين بالكذب" (مز 5: 5-6)... الذي يفعل الشر يبغضه الله، الكذاب يهلك. دعونا نرى أيهما في حالة أشر، أن يبغضه الله أم أن يهلك. الإنسان الذي يبغضه الله غير سعيد حقًا، لأنه يعيش في عداوة مع الله، لكنه لا يزال حيًّا، أما الكذاب الذي يهلك فلا يوجد بعد. الإنسان الذي يكذب في حال أمرَّ عن الذي يفعل الإثم[62].

v     إن افترى أحد عليك لا يؤذيك، أنت تؤذي نفسك إن افتريت على الآخرين... إن كان لنا عدو ونظن أننا نفعل شيئًا ضده، فإن كل ما نفعله هو ضد أنفسنا. إننا نذمه، نذهب هنا وهناك نتحدث عنه مع كل أحدٍ. هل نظن أننا نؤذيه؟ إننا لا نفعل شيئًا ضده، إنما نقتل أنفسنا، لأننا نكذب. "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11)[63].

القديس يروم

v     الجسد يتكلم هكذا فهو حي. ولكنني أسأل هل الروح حية أيضا؟ هوذا الجسد يتكلم وبذلك فهو حي ولكن بماذا يتكلم ؟ كما قلت عن الأقدام أنها تسير وبذلك فإن الجسد حي. وعندئذ سألت أين تسير هذه الأقدام؟ حتى أفهم عما إذا كانت النفس حية أيضًا، هكذا عندما أسمع إنسانًا يتكلم أعلم. أن الجسد حي، فأسأل أيضا بماذا يتكلم حتى أعلم إن كانت النفس حية أيضًا. إنه يتكلم بالكذب. إن كان كذلك فالنفس ميتة. كيف نبرهن على هذا؟ لنسأل الحق نفسه الذي يقول: "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11) إنني أسأل: لماذا ماتت النفس؟ أسأل كما سألت الآن: لماذا مات الجسد؟ لأنه قد رحلت حياته أي النفس. لماذا ماتت النفس لأن الله حياتها قد تركها[64].

v     عن أي فم يتكلم، هذا موضع تساؤل. بصفة عامة عندما يتحدث الكتاب المقدس عن الفم، يعني ذات كرسي الفهم في القلب، الذي يُصدَّق ويحكم عليه. فمن يكذب في قلبه يحقق ذلك بالكذب[65].

v     "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11). ولئلاَّ يظن أحد أن هذا يمكن فهمه باستثناء بعض الكذابين، فليقرأ في موضع آخر: "تُهلك المتكلمين بالكذب" (مز 5: 6). في موضع آخر يقول الرب بفمه: "ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت 5: 37). لهذا فإن الرسول أيضًا إذ يعطي وصية عن خلع الإنسان القديم، يقصد به كل الخطايا تحت اسمه، يقول للحال: "لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق" (أف 4: 25)[66].

v     ذاك الموت الذي يخافه الناس في غباوة ولا يخافون الخطية، يقتل الجسم لا النفس، كما يعلمنا الرب في الإنجيل. إنه يحثنا ألاَّ نخاف هذا الموت (مت 10: 28)، بل نخاف اللسان الذي يكذب، فيقتل النفس لا الجسم[67].

v     يستمر الرسول قائلاً: "هو (اللسان) شر لا يُضبط، مملوء سُمًا مميتًا" (يع 3: 8). فهو يقصد أن هذا العضو يفوق في تأثير سمومه على سموم الوحوش والزحافات، لأن الوحوش قد تقتل الأجساد، أما اللسان فإنه يقتل النفس. "الفم الكاذب يقتل النفس" (حك 1: 11)... عندما ينضبط لسان أحدٍ من البشر ويتذلل، لا ينسب هذا إلى نفسه، بل إلى معونة الله ومراحم نعمته[68].

v     الموت بالنسبة لجسدك هو فقدانه حياته، وموت نفسك هو فقدانها حياتها. حياة جسدك هو نفسك، وحياة نفسك هي الله. إذ يموت الجسد يفقد النفس التي هي حياته، وهكذا تموت النفس بفقدانها الله حياتها[69].

القديس أغسطينوس

v     إيّاك والكذب فهو يطرد خوف الله من الإنسان.

v     هكذا كل ابنٍ مؤمنٍ يريد أن يتعلم شكل الطهارة: يجب عليه بالحقيقة أن لا يكون فيه شيءٌ من كلام الكذب.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

v     النفس لها إفراز من إحساسها العقلي تعرف به الفرق بين الصدق والكذب، كما يميِّز الفم بين الخمر والخلّ وإن كانا متشابهين في اللون، هكذا النفس من الإحساس العقلي تعرف الفرق بين المنح الروحية والتخيلات الشيطانية.

v     إذن، فلندعُ الله بإيمانٍ مليءٍ بالثقة متكلين على رحمته حيث إنّ عندنا مواعيده المكتوبة قائلةً: "مَنْ يقرع يُفتَح له" (مت7: 8)، وأيضًا: "سـأسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كو 6: 16). إنّ البشر تشدّهم ربوات من الاهتمامات وتُظلم التجارب حياتهم وتُجبرهم على الكذب بكثرةٍ حتى حينما يرتبطون بعقودٍ مكتوبةٍ، فهم يكونون أحيانًا غير قادرين على ألاّ يظهروا مخادعين حتى لو أرادوا، ولكنّ الله الذي - على العكس تمامًا - لا يكذب، يتمِّم وعده لنا بأن يُرسل لنا نعمة وموهبة الروح القدس (اُنظر لو 11: 13)[70].

القديس مقاريوس الكبير

v     لنرفض شرف العالم وكراماته لنتخلّص من المجد الباطل، ولنستعمل اللسان في ذكر الله والحق لنتخلّص من الكذب، ولنحب طهارة القلب والجسد لننجو من الدنس، لأنّ هذا كله يحيط بالنفس ويضبطها عند خروجها من الجسد، فمَنْ كان حكيمًا ويتصرّف بحكمةٍ لا ينبغي أن يترك نفسه بدون أعمالٍ صالحةٍ حتى يخلص من تلك الشدّة. فلنحرص بقدر طاقتنا وربنا يُعين ضعفنا، لأنه يعلم شقاء الإنسان، لذلك وهب له التوبة ما دام في هذا الجسد.

القديس أنبا موسى الأسود

v     سألوا أيضًا أنبا يؤنس: "مَنْ هو الراهب؟" فقال: "الراهب هو الذي يتعب ويكدّ ويغصب نفسه في كل شيء، ولا يعمل حسب هواه، ولا يتمسك بكلمته في أي شيء، وأيضًا ينبغي على الراهب ألاّ يقول شيئًا من الكذب، ولا يحلف إطلاقًا، ولا يكون سمّاعًا ولا ثرثارًا ولا يتذمر ولا يدين أحدًا".

بستان الرهبان

4. قتل النفس وخلود البرّ

لا تسعوا إلى الموت بتضليل حياتكم،

ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أياديكم. [12]

بينما يغير العريس السماوي على عروسه لكي تتمتع بالحياة الأبدية، إذا بالبشر يطلبون الموت، ويقيمون عهدًا معه، ويتحالفون معه كحزب له، استعاضوا بالموت عن الحياة الأبدية، وبالظلمة عوض النور، وبإبليس عوض الله.

في جهالة يظنون في إبليس عدوهم ومدمر حياتهم صديقًا لهم، مع أنه يُعد لهم سم الموت في الخطية.

لأن الله لم يصنع الموت،

ولا يُسر بهلاك الأحياء. [13]

واضح أن الكاتب لا يعني هنا الموت الجسماني بل الروحي، الموت الثاني (رؤ 2: 11؛ 21: 8)، حيث انفصال النفس عن الله، والموت الجسدي حيث انفصال النفس عن الجسد. فالله خالق النفس والجسد لم يخلقهما ليموتا، ولم يهب البشرية الحياة ليهلكها.

v     بالحق لم يكن الموت جزءً من طبيعة الإنسان، وإنما صار أمرًا طبيعيًا، لأن الله لم يؤسس الموت في البداية، لكن قدمه كعلاجٍ. لنحذر إذن لئلا يظهر لنا ما هو خلاف ذلك. فلو كان الموت صالحًا، فلماذا كُتب أن "الله لم يصنع الموت" (حك 1: 14)، إلا لأنه بشرِّ البشر دخل إلى العالم؟[71]

القديس أمبروسيوس

v     لأن غاية الله من خلقته لا أن يهلك الإنسان بل يحيا إلى الأبد، وهذه الغاية لا تزال كما هي، وإذ يرى أن يشع فينا صلاحه ولو بشرارة خفيفة من الإرادة الصالحة، فإنه يضرمها كما لو كانت خارجة من الحجر الصوان الصلد الذي لقلوبنا. انه يثيرها ويتعهدها ويقويها بنسمته "الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون" (1تي4:2). لأنه "هكذا ليست مشيئَةً أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤُلاءِ الصغار" (مت14:18)...

 الله صادق ولا يكذب، إذ يقسم قائلاً: "حيّ أنا يقول السيد الرب إني لا أُسَرُّ بموت الشرير، بل بأن يرجع الشرير عن طريقهِ ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة. فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟!" (حز11:33) إنه لا يريد أن يهلك أحد أصاغره، فكيف لا نكون مجدفين إن كنا نتصور أنه لا يريد كل البشر يخلصون بل بعضهم؟!

فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته، وهو يشهد ضد كل واحدٍ منهم يومًا فيومٍا قائلاً: "ارجعوا، ارجعوا عن طرقكم الرديئَة، فلماذا تموتون" (حز 11:33). وأيضًا: "كم مرَّةٍ أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت37:23)، "فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا" (إر 5:8).

إذن نعمة المسيح حاضرة بين أيدينا في كل يوم، وإذ هي تريد أن "جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" تدعو الجميع بغير استثناء قائلة: "تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت28:11).

فلو لم يدعُ الجميع بل البعض فقط، لكانت النتيجة أن يكون الكل مثقلاً بالخطايا الأصلية (الجدية) والخطايا الفعلية، وإلا صار القول التالي غير صادق: "إذ الجميع أخطأُوا وأعوزهم مجد الله" (رو23:3)، وما كنا نصدق أن الموت قد عبر إلى جميع الناس (رو12:5). وإذ الهالكون يهلكون بغير إرادة الله، لهذا يمكننا أن نقول بأن الله ليس بصانع الموت، وذلك كشهادة الكتاب المقدس القائل: "إذًا ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسرَّه" (حك13:1)[72].

الأب شيريمون

v     إننا أبناء، لنسرع نحو الآب (لو 15: 20). ليتنا لا نخاف لأننا بددنا ميراث الكرامة الروحية لكي ما ننال الملذات الأرضية (لو 15: 13). فإذ منح الآب الابن الكنز الذي له، فإن غنى الإيمان لن يكون بلا نفع (رو 4: 14). إنه وإن كان قد أعطى الكل، فهو لا يزال يملك الكل، ولا يفقد شيئًا مما يمنحه. لا تخافوا بأنه ربما لا يقبلكم، فإنه ليست مسرة الرب في هلاك الأحياء (حك 1: 13) فإنه إذ يلتقي بكم على الطريق، يقع على عنقكم، لأن الرب يقيم الساقطين. إنه يقبلكم، أي يهبكم عربون التقوى والحب[73].

القديس أمبروسيوس

v     في موضع آخر قلت: "الله لا يطلب موت أحدٍ". هذا يُفسَّر هكذا: جلب الإنسان الموت لنفسه بهجره الله، فمن لا يرجع إلى الله يجلب الموت على نفسه، كما هو مكتوب: "لأن الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13)[74].

v     "الله لم يصنع الموت" (حك 1: 13)، مع أنه مكتوب في موضع آخر: "الموت والحياة هما من الرب الإله" (سي 11: 14). عقاب صانعي الشر الذي هو من الله يُحسب شرًا بالنسبة لصانعي الشر، لكنه يُحسب من الأعمال الصالحة التي لله، لأنه من العدالة أن يُعاقب صانعو الشر، وكل ما هو من العدالة بالتأكيد هو صالح[75].

القديس أغسطينوس

فإنه خلق كل شيء لكي يكون،

وإن أجيال العالم شُفيت،

وليس فيها سَمٌ مهلك،

ولا مُلْكَ للموت على الأرض. [14]

كانت نظرة الحكيم نحو الموت لا تقف عند اعتزال النفس الجسد، وإنما حرمان الإنسان ككلٍ من الله مصدر الحياة والخلود. الله لم يخلق الإنسان ليموت، بل للخلود (1: 14)، لكنّه بممارسته الخطية في مكرٍ جلب الموت بيديه وبكلماته، ودخل معه في عهدٍ عوض دخوله في عهدٍ مع الله (1: 16). يطلب الله ألا يكون موت للبشر جميعًا، لكن هذا السم المميت بثته الحية القديمة، إبليس.

v     إن وُجد فينا شيء سامٍ، فإن الله هو الذي خلقه، ولكننا نحن أوجدنا الشر والخطايا لأنفسنا[76].

العلامة أوريجينوس

لأن البرّ خالد. [15]

يربط الحكيم دومًا بين الحياة الداخلية والسلوك الظاهر. فبتضليل الحياة يعني اقتناء الموت خلال الخطايا الخفية في القلب، يُجلب الهلاك خلال أعمال اليد، أي السلوك الظاهر. إن كان الإثم قد دخل بنا إلى الموت خلال حسد إبليس، فإن بٌر الله يردنا إلى الخلود. يقصد بالخلود هنا الوجود اللانهائي مع الله، والتمتع بالحياة الطوباوية السماوية.

5. المجدفون وميثاق الموت

لكن الأشرار دَعَوا الموت بأعمالهم وأقوالهم،

عدُّوه صديقًا فاضمحلوا،

ثم عاهدوه، لأنهم أهل لأن يكونوا من حِزبه. [16]

لعله يشير هنا إلى آدم وحواء، إذ دخلت حواء في حوار مع الحيَّة القديمة، وأقامت معها ميثاقًا، وصارت هي وزوجها في تحالفٍ معه، كما من حزبه. يقول إشعياء النبي: "لأنكم قلتم قد عقدنا عهدًا مع الموت، وصنعنا ميثاقًا مع الهاوية" (إش 28: 15).

يعتبر الكاتب أن سلوك الأشرار العملي بمثابة حديث ودِّي مع الموت، ودخول معه في ميثاق.

حينما يتحدث الأبرار عن الموت، إنما يعنون به موت النفس، لأن هذا هو ما يخافونه. أما الأشرار فيتحدثون عن موت الجسد، وهذا هو ما يخشونه.

يدخل المؤمنون أبناء إبراهيم حسب الروح في عهدٍ وميثاق صداقة مع الله، أما غير المؤمنين فيقيمون عهدًا وتحالفًا مع الموت كصديقٍ ملازمٍ لهم. كما أن الله من نصيب المؤمن البار وهم من نصيبه (مز 5:16، 73:26، 142: 6، تث 9:32، 2مل 1:26، زك 16:2)، هكذا الجاحدون هم من نصيب الموت، والموت من نصيبهم، إنهم من حزبه، ينتمون إليه بفساد إرادتهم وشرها.

 


 

من وحي حك 1

لأقتنيك فأقتني الخلود

 

v     أتيت إلينا يا أيها القدوس البار، فالتهب قلبنا شوقًا إلي البرّ.

تسمرت أعيننا عليك، فصرنا نطلبك ببساطة قلب صالح!

رأيناك، فتقدست أفكارنا بك، وانفتح لساننا يطلبك!

 

v     ماذا نطلب سوى اقتنائك، فبك نصير ملوكًا يا ملك الملوك،

و بك نتمتع بالاستقامة التي لك يا أيها القدوس وحده!

لن ينحرف قلبنا عنك يمينًا ولا يسارًا،

بل في بساطة نراك وننعم بالشركة معك.

 

v     لسنا نريد أن نراك هنا بعيوننا الجسدية!

أغسل عيوننا الداخلية لكي ببساطة القلب نراك.

هب لنا نقاوة القلب فننعم بمعاينتك.

انزع عنا كل خبث، فلا نسلك في طرق معوجة،

بل تكون أنت هو طريقنا الأوحد، فأنت هو الطريق والحق والحياة.

لأسلك بك وأذهب إليك، يا أيها الطريق العجيب!

 

v     قدّسني بالتمام، قدس نفسي وجسدي، فلا تحمل نفسي روح الخبث،

ولا يُستعبد جسدي للشهوات.

تقدسني، فأتأهل للسلوك حسب إرادتك، يا أيها الحكمة الإلهي!

قدس كليتيي وقلبي ولساني، فأصير بكليتي مكرسًا لحساب ملكوتك.

 

v     روحك القدوس يملأ العالم كله، يطلب القرب من كل إنسانٍ،

يبسط حبه على كل شخصٍ، يود أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون.

ليعطني روحك حياة الملء، وليهبني قوة الرجاء،

فاتحًا أبواب السماء أمامي، وليطر بي إلى الأحضان الإلهية.

 

v     روحك القدوس يعلم نيات القلب والكلمات الخفية.

إنه يطيل أناته على المفترين والظالمين، ينتظر توبتهم لينعموا بالمراحم الإلهية،

فيفرح بهم حتى الذين سقطوا تحت ظلمهم.

 

v     أشرق بنورك عليّ، فلن يبقى أثر للتذمر في قلبي.

عوض التذمر تخرج تقدمات شكر خفية وتسابيح قلب غير منقطعة.

تقبلها ذبائح شكر، فتسر بها، يا أيها العريس السماوي.

 

v     خلقتني، مشتاقًا أن أحيا إلي الأبد، لكن عدو الخير بحسده أدخل الموت إلي العالم.

وفي غباوتي قبلت الموت صديقًا لي، دخلت معه في عهدٍ، وصرت من حزبه.

من يمزق هذا العهد إلا عهدك الثمين.

من يحررني من البنوة لإبليس إلا البنوة لله أبيك!

لتملك يا أيها القيامة والحياة علي، فلن يستطيع أن يتسلل الموت إليّ.

أنت هو قيامتي وحياتي الخالدة.

<<


 

الأصحاح الثاني

سخرية الأشرار بالأبرار

ختم الحكيم الأصحاح الأول بالحديث عن اختيار الأشرار للموت صديقًا لهم، ودخولهم معه في ميثاقٍ وتحالفٍ، وذلك بجحودهم الإيمان وسلوكهم الشرير. الحياة الشريرة في حقيقتها موت، لأنها تحرم الإنسان من الله مصدر حياته. الآن ماذا يحمل هؤلاء الأشرار من اتجاهات، أو ما هو حديثهم الخفي؟

إذ يصب الأشرار كل رجائهم في ملذات هذه الحياة والمقتنيات الزمنية يشعرون دومًا بعدم الطمأنينة، لأنها يومًا ما تزول. لهذا تسيطر على عقولهم كما على قلوبهم نظرة تشاؤمية مظلمة. هذا يدفعهم لا إلى مراجعة أنفسهم لإدراك حقيقة الحياة الخالدة، بل إلى استخدام كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة لبلوغ مكاسب سريعة، وتحقيق أكبر قدر من الملذات، ولو على حساب الأتقياء البسطاء. فتصير شريعتهم الخفية التي يعشقونها هي شريعة الغاب، ويحملون روح البغضة والكراهية ضد كل إنسانٍ بارٍ، لأنه يبكتهم بسلوكه واتجاهاته، سواء من جهة حبه لاخوته، أو وداعته أو ترقبه الحياة الأبدية الخالدة.

لم يقتبس الحكيم عبارات من أقوال بعض الجاحدين للإيمان ،المعاصرين له أو السابقين، وإنما يقدم اتجاهاتهم التي تكمن في قلوبهم، والتي يترجمونها غالبًا في أحاديثهم كما في سلوكهم.

1. نظرتهم السوداوية للحياة 1.

2. حياة في مهب الرياح 2-4.

3. غايتهم اللذة الزمنية 5-9.

4. شريعتهم شريعة الغاب 10-11.

5. بغضهم للأبرار 12-18.

6. مقاومة الأبرار حتى الموت 19-20.

7. إنكارهم الخلود 21-24.

1. نظرتهم السوداوية للحياة

فإنهم فكروا (الأشرار) تفكيرًا خاطئًا،

فقال بعضهم لبعض:

"قصيرةٌ ومملة حياتنا،

وليس من دواءٍ لنهاية الإنسان،

ولم يُعلَم قط أنَّ أحدًا رجَع من القبر. [1]

واضح أن الكاتب سليمان الحكيم، فإنه حتى عصره لم يسمعوا عن شخصٍ ميتٍ قام، أما في أيام إيليا وأيضًا أليشع، فقد أقام الأول ابن الأرملة بعد صراخه إلى الرب (1 مل 20:17-22)، كما قام الميت الذي لمس عظام أليشع النبي (2 مل 13: 21).

ربما يقول أحد: ألم تكن هكذا نظرة أيوب الصديق حيث سبَّ اليوم الذي وُلد فيه (أي 3)؟

شتان ما بين حديث أيوب عن قصر الحياة وحديث الأشرار، فإنه وإن كان أيوب قد اشتدت به المرارة جدًا بسبب ثقل التجارب، واتهامات أصدقائه له وعداوتهم له، فإنه كان يشتهي الموت، لكنه كثيرًا ما ترجى الدينونة الإلهية العادلة، والقيامة من الأموات. أما الأشرار ففي نظرتهم السوداوية للحياة أنكروا القيامة.

قصر الحياة أمر لا يقدر إنسان ما أن ينكره، لكن البار يتطلع إلى حياته كقنطرة للعبور إلى الأبدية بفرحٍ وسرورٍ، أما الشرير فتحطمه الظلمة التي في قلبه، فيسيطر اليأس عليه، وعوض الأعداد للحياة الأبدية بالتمتع ببرّ المسيح، يسلك بروح الأنانية.

لقد تجسد الكلمة الإلهي، وسلك طريق حياتنا الوقتية، وقبِل الموت في حداثة سنه، لكي بقيامته نترجي القيامة، وبحسب قصر حياتنا على الأرض عطية إلهية مفرحة.

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح ظهر للرسل بعد قيامته لا لهدف إلا ليؤكد قيامة الجسد. [لم يرد أن يعلمنا شيئًا سوى أنه يلزمنا أن نؤمن بقيامة الأموات[77].]

v     حقًا إن إيماننا بقيامة ربنا من بين الأموات وصعوده إلى السماوات تسند إيماننا برجاءٍ عظيمٍ. لأن هذه العقيدة تُظهر لنا بقوة كيف أنه بإرادته ذاك الذي له القوة أن يرفع حياته إلى فوق قد نزل بها من أجلنا. يا لعظمة الثقة التي يوحيها رجاء المؤمنين عندما يدركون عظمة الأمور التي احتملها من أجل البشر الذين لم يكونوا بعد مؤمنين عندما كان متوقعًا أن يأتي من السماء كديان الأحياء والأموات كان المهملون في رعب شديد، ولكن إذ كرسوا حياتهم بجهادٍ عظيمٍ امتلأوا شوقًا نحوه، سالكين في حياة مقدسة عوض خوفهم من مجيئه بسبب شر حياتهم[78].

v     إنه رجاء أكيد صار بالفعل حاضرًا واقتنيناه عمليًّا، حياتنا المستقبلة قد تحققت الآن في رأسنا ووسيطنا القائم من الأموات، الإنسان يسوع المسيح[79].

القديس أغسطينوس

v     إن كنتم تؤمنون أن المسيح قد قام من الموت، فلابد لكم أن تؤمنوا أنكم قد قمتم بالمثل معه. وإن كنتم تؤمنون أنه جالس عن يمين الآب في السماوات فلابد أن تؤمنوا أنكم لم تعودوا فيما بعد في المشهد الأرضي، بل في السماوي. وإن كنتم تؤمنون أنكم قد مُتم مع المسيح، فيجب أن تؤمنوا أنكم سوف تحيون معه. وإن كنتم تؤمنون أن المسيح ميت للخطية وحيّ لله، فأنتم أيضًا يجب أن تكونوا أمواتًا للخطية وأحياء لله.

هذا لأن الإنسان الذي (يضع ذهنه في ما هو فوق) يُظهر إيمانه بمن أقام يسوع من الموت. وفيما يتعلق بهذا الإنسان، "فسيُحسب له الإيمان بّرًا". فإن كنا قد قمنا مع المسيح الذي هو البّر، ونمشي في جدّة الحياة، ونحيا بحسب البرّ، فالمسيح قد قام لنا، حتى نتبرر إذ قد اتخذنا حياة جديدة على مثال قيامته."

العلامة أوريجينوس

v     الفكر غير البسيط يُفقد الإنسان رجاءه في مجيء الرب الأخير (الباروسيا) مما يدفعه نحو السلوك الشرير[80].

القديس إكليمنضس الروماني

v     ظهر ليضع حدًا لخطايا اليهود ونخلص نحن عن طريق الوارث الرب يسوع الذي أُعد ليأتي إلى العالم، فيخلص بمجيئه نفوسنا السائرة في شعاب الموت والمستسلمة للطريق الشرير[81].

رسالة برناباس

2. حياة في مهب الرياح

إننا وُلدنا اتفاقًا،

وسنكون من بعد كأننا لم نكن قط،

لأن النَسمة في أنوفنا دُخان،

والنطق شرارة من ضربات قلوبنا. [2]

يعتنق الأشرار بسلوكهم إلحادًا عمليًا، حيث يتطلعون إلى حياة الإنسان أنها وليدة صدفة بحتة، ليس من موضعٍ لخطة الله في أذهانهم، وينظرون إلى الموت الجسماني كنهاية للحياة، ليس من حياة أخرى ولا من قيامة.

نظرة الأشرار للحياة أنها تمتع بالملذات والمرح الزمني، إذ يحطم عدم الإيمان كل رجاء في البشر، فيشعرون وجودهم كأنه عدم؛ أرواحهم ليست من الله، بل هي دخان سرعان ما يتبدد بلا عودة، وأجسادهم تتحول إلى رمادٍ يتبدد كما بالرياح.

من أهم النقاط في فكر أوريجينوس الأخروي هو فهمه الرجاء المسيحي في القيامة. ففي مقدمة كتابه De Principiis ذكر بين التعاليم المحددة في كرازة الكنيسة هو الإيمان بأن للنفس مادتها وحياتها، التي تستمر بعد الموت، لتختبر مكافأة أو عقوبة على تصرفاتها، وتتوقع أنه سيأتي وقت للقيامة من الأموات[82] . كما تحدث بعد ذلك في نفس العمل عن قيامة الجسد[83]، ويرى أن هذا الجسد سيقوم جسدًا روحيًا يختلف تمامًا في هيئته عما هو عليه حاليًا[84].

في الفصل النهائي للكتاب برهن بطريقة إيجابية عن خلود النفس حاسبًا أنه لأمر شرير أن ما في الإنسان على مثال الله مثل الذهن البشرى يمكن أن يفنى تمامًا[85].

فإذا انطفأت عاد الجسمُ كالرماد،

وتبدد الروح كالهواء الفارغ [3]

يمثل هذه الأفكار التي يحولها الأشرار إلى فلسفات، غايتها تبرير الإنسان لممارسة الشرور بلا ضابط. كان كثير من الفلاسفة يعتقدون بفناء الجسد والنفس تمامًا.

إذا ما عزل الإنسان نفسه عن الله يرى نفسه تافهًا لا قيمة له، أشبه بالعدم، أما في الله فيرى نفسه موضع حب خالق السماء والأرض الذي أقامه رئيسًا يسوس العالم بالبرّ والقداسة، يرى نفسه الابن العزيز جدًا عند أبيه السماوي.

v     (المسيح) كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الشخص البشري بإقامته إلى الحق. إنه يحثنا على الخلاص الذي يبطل الفساد وينزع الموت[86].

القديس إكليمنضس السكندري

تحدث العلامة أوريجينوس بوضوح أن أي شخص يحتقر قيامة الأموات كما تؤمن الكنيسة لا يكون له رجاء في المسيح، ما لم يؤمن أن النفس تحيا وتنتعش ولا تتقبل هذا الجسد في القيامة بل جسدًا من نوعٍ سامٍ[87]. غير أن آباء الكنيسة يؤكدون أن الجسد القائم هو ذات الجسد الذي جاهد مع النفس في هذا العالم لكنه يحمل طبيعة مجيدة تليق بالحياة الأبدية.

v     يليق بنا ألا نشك أن جسدنا المائت سيقوم ثانية في نهاية العالم... هذا هو الإيمان المسيحي، هذا هو إيمان الكنيسة الجامعة، هذا هو الإيمان الرسولي[88].

القديس أغسطينوس

v     كما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى مختفية في النفس إلى يوم القيامة، حيث تُغمر أجساد الخطاة بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور والصورة السماوية – يسوع المسيح – يضيء الآن سرًا داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين. إنه مخفي عن عيون الناس، لكن عيني النفس وحدها تنظران المسيح حقًا حتى يأتي يوم القيامة، حيث يغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الإنسان[89].

v     كما أن النار التي كانت تتقد على المذبح في أورشليم دُفنت في حفرة، أثناء فترة السبي، وعندما حلّ السلام ورجع المسبيون إلى أورشليم، تحددت هذه النار عينها واشتعلت كما كانت سابقًا فبل السبي (2مل19:1)، هكذا الآن تعمل النار السماوية في هذا الجسد الذي ألفناه – هذا الذي في انحلاله (بالموت) يتحول إلى نتانة – فتجدد هذا الجسد، وتقيمه بعد أن فسد. فإن النار الداخلية التي تسكن الآن في القلب ستُستعلن حينئذ من الخارج وتحقق قيامة الجسد[90].

القديس مقاريوس الكبير

ويُنسى اسمُنا مع الزمن،

ولا يذكر أحد أعمالنا،

وتزول حياتنا كأثرِ سحابة،

وتتبدد مثل ضبابٍ،

تسوقُه أشعة الشمس،

ويسقط بِحرارتها. [4]

يرى الأشرار غير المؤمنين أن حياتهم أشبه بضباب يسوقه شعاع الشمس، ثم يتكثف بحرارة الشمس، ويتحول إلى ماء يسقط على الأرض، فتتشربه ولا يصير له وجود. فمع زوال الحياة التي يُشبهها الأشرار بالسحابة تعبر لتظهر الشمس، يعتقدون بأنه لا يبقى للإنسان حتى ذكرى وسط الأجيال القادمة. يرى الشرير أنه لا خلاف بين نصيب الأشرار أو الأبرار بعد الموت.

يؤكد الكتاب المقدس: "ذِكرُ الصديق للبركة، واسم الأشرار ينخر" (أم 10: 7). كما يقدم الرب وعدًا للأبرار: "إني أعطيهم في بيتي وفى أسواري نصيبًا، واسمًا أفضل من البنين والبنات؛ أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 5). مثل هذا الوعد لا مكان له في فكر الشرير أو في قلبه.

3. غايتهم اللذة الزمنية

فإن أيامَنا مُرور الظل عينه،

ونهايتنا بلا رجعةٍ،

لأنه مختومٌ عليها، فمَا من أحدٍ يعود. [5]

يرى الأشرار أن حياتهم تمر مرور الظل، وهنا لا يقصدون مجرد قصر الحياة الزمنية، وإنما زوالها تمامًا بلا شيء، تكونت كالظل من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء، مما يدفعهم إلى الانغماس في الملذات. أما يعقوب الرسول فإذ يقول: "لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل" (يع 4:4)، فباضمحلالها في هذا العالم نتمتع بحياة جديدة أبدية، لذا يضيف "فمن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل، فذلك خطية له" (يع 4: 17). شعور الأشرار بقصر الحياة يفسدهم، وشعور الأبرار بذلك يدفعهم لجهادٍ أعظم.

في يأسٍ شديدٍ يعتقد الأشرار في قصر الحياة، حيث لا هروب من الموت، ولا عودة من القبر. أما الصديقون، فإذ يؤمنون بعناية الله الفائقة وخطته، يدركون أن "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت" (جا 1:3)، فالحياة ليست وليدة مصادفة، والأحداث لا تتم بلا تدبيرٍ إلهيٍ. الحكيم يدرك أن خلقته هي عطية إلهية، ولحياته رسالة مجيدة تحقق خطة الله من نحوه.

فتعالوا نتمتع بالطيِّبات الحاضرة،

وننتفع من الخليقة بحَمِيَّة الشباب. [6]

يركز الأشرار على الطيبات الحاضرة، أو الملذات الوقتية عوض الأمجاد الأبدية. وكأن حياتهم القصيرة هي فرصة للانتفاع بالخليقة بكل وسيلة في حمية الشباب، أي كمن هم أصحاب قوة وقدرة، يتمتعون بالخيرات قبل حلول الشيخوخة والعجز.

لنسكر من الخمر الفاخرة والعطور،

ولا تفتنا زهرةُ الربيع. [7]

مع إدراكهم أن الأمور الزمنية مؤقتة وزائلة، لكن بسبب شعورهم بأنهم في طريقهم إلى العدم، وليس من خلود للإنسان، فلا مجال للجهاد من أجل الحياة المقدسة في الرب، وإنما الترف واللذة هي متعتهم قبل حلول الفساد سواء للمادة أو لهم هم أنفسهم. فرحهم ينصب في اللذة. أما المؤمن فيتلمس حب الله الخالق في العالم الجميل الذي أوجده له، لكن يجد متعته في تقديم الشكر للخالق على عطاياه، وليس في الاستعباد للمادة. إنه يعتز بممارسته الحرية التي وهبت له، فيبقى دائمًا السيد للمادة وليس عبدًا لها.

يقول القديس إكليمنضس السكندري إن الطعام ليس هدفاً نشتهيه، بل وسيلة حياة، فتقودنا كلمة الله لا شهوة الطعام، للتمتع بالأبدية.

v     لا يكون الطعام هو شغلنا الشاغل، ولا هو متعتنا وهدفنا في الحياة، بل هو وسيلة لحياتنا التي يدبرها الرب "الكلمة" ليقودنا إلى الأبدية...

لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يعيش ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة...

لقد خُلقنا لا لنأكل ونشرب، بل لنكرس أنفسنا لمعرفة الله فإن البطن الشرير لا يشبع أبداً (أم 5:13)، إذ تملأه الشهية التي لا تشبع ولا ترتوي[91].

v     يلزم أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يختص بالطعام، فيكون الطعام بسيطاً، عادياً جداً، مناسباً لأولاد بسطاء يمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. هذا يتفق مع كون الطعام بسيطاً بلا تعقيد، فيكون سهل الهضم، يجعل الجسد خفيفاً رشيقاً، يحقق النمو والصحة.

فن الطهي التعس يفسد التذوق، كما يحدث في فن صناعة الحلوى والفطائر.

لا يكتسب الجسم البشري أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام، بل على العكس من ذلك فإن الذين يستخدمون الحد الأدنى من الطعام هم أكثر قوة وأفضل صحة وأكثر شرفاً وكرامة، فنرى الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أكثر صحة في البدن من أصحاب الأملاك[92].

v     الفلاسفة أحكم من الأغنياء، لأنهم لا يدفنون العقل تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذات والمتع، ولكن وليمة المحبة "أغابي" هي في الطعام السماوي، وفي وليمة العقل والتفكير السليم...

النهِم يكون كمن يدفن عقله في بطنه[93].

القديس إكليمنضس السكندري

أما عن السكر بالخمر ووضع أكاليل من الزهور على الرؤوس فقد كانت ضمن الطقوس الوثنية ترتبط بممارسة الرجاسات والعبادة للأصنام.

ولنتكلَّل ببراعم الورد قبل ذبوله. [8]

كانت المسارح والملاعب تُستخدم عادة للاحتفالات الخاصة بالآلهة الوثنية أو بالحاكم أو الإمبراطور كإله، وكان لها طقوسها الخاصة، مثل إنارة مشاعل ووضع أكاليل من الزهور على رؤوسهم. وقد اضطر بعض المسيحيين في القرون الأولى ، بسبب البسطاء أو الضعفاء في الإيمان، رفض استخدام الزهور، ليس لأنها دنسة، ولكن لأنها ارتبطت بعبادة الشيطان والأوثان. مع هذا يقول الشهيد يوستين (110- 165):

[كل شيء يُولد كعطية الله التي لا تُنتهك حرمتها، لا يُمكن انتهاكها بعمل بشري (حتى وإن استخدمت في طقوس وثنية). على أي الأحوال، نحن نمتنع عن استخدامها حتى لا يعتقد أحد أننا نخضع للشياطين الذي من أجلهم يُشرب الخمر، أو أننا نخجل من ديانتنا.

بالتأكيد زهور الربيع مبهجة لنا، فإننا نختار وردة الربيع والسوسنة وغيرها من الزهور ذات الألوان المبهجة للغاية والرائحة الذكية، ونستخدمها سواء كلٍ منها بمفردها أو ننثر أوراقها أو ننسجها معًا كأكاليل نزين بها رقابنا[94].]

ويقول مونيكوس فيلكس Minucius Felix (القرن الثاني أو الثالث) إن الزهور نافعة لحاسة الشم حيث تستقبل الأنف رائحة زكية[95].

يقول القديس إكليمنضس السكندري: [الذين تعلموا بواسطة اللوغوس يمتنعون عن ارتداء أكاليل (الزهور). إذ يحسبون أنه ليس من الضروري أن يقيدوا أذهانهم التي في رؤوسهم، ليس لأن الإكليل رمز لحياة السكر الجامحة، وإنما لأنها ترتبط بالوثنية[96].]

ولا يكن فينا من لا يشترك في قصفِنا.

لنترك في كل مكان علامات ابتهاجنا،

فإن هذا حظُّنا، وهذا نصيبُنا. [9]

إذ لا يشغلهم شيء سوى حياة القصف أو العربدة الصاخبة revelry والخلاعة wanton. فإنهم يدعون أقرباءهم وأصدقاءهم إلى الشركة في هذه الحفلات الماجنة، متطلعين أنها الحياة بعينها والبهجة، وأن هذا هو نصيب الإنسان المفرح. بدونها تُحسب لحياة موتًا، لا طعم لها.

4. شريعتهم شريعة الغاب

لَظلُمِ البارَّ الفقير،

ولا نشفق على الأرملة

ولا نَهَبْ شَيبة الشيخ الكثير الأيام. [10]

الأشرار في انحلالهم يريدون أن يبكموا صوت الحكمة والعدالة، يقاومون الحكماء ولا يبالون بخبرة الشيوخ المتعقلين.

فقدان الأشرار الرجاء في الخلود لا يدفعهم إلى اللذة فحسب، وإنما يجدون متعتهم في اغتصاب الآخرين حتى الفقراء والأرامل والشيوخ. لقد فقدوا الشعور بالحب والحنو، فصار قانونهم الظلم والسلب غير مبالين باحتياجات الفقير أو مرارة نفس الأرملة أو ضعف الشيخ. رأوا أن من حقهم ممارسة القوة، وأن في هذا التصرف عدالة.

باعتزالهم الله مصدر الحب والحنو والنموذج العملي للقيم السليمة والمبادئ فقدوا كل إحساس وعاطفة، واختلت موازينهم الداخلية، صاروا أبشع من الوحوش المفترسة تحركها الغريزة والشهوة، تقسو بعنفٍ دون أن تدري.

بل لتكن قوتنا شريعة العدل،

فإنه من الثابت أن الضعف لا يُجدي نفعًا. [11]

شريعة الأشرار ومبدأهم ليس ناموس الله، بل شريعة القوة، بكونها فوق الحق. شريعتهم هي شريعة الغاب. يرون في الحب وطول الأناة والاحتمال ضعفا وخنوعًا لا يليق بهم.

v     يا أيها المتعالون والمتكبرون والمتعجرفون، تذكروا الموت، الذي سيحطم تعاليكم ويحل أعضاءكم ويفك المفاصل ويحل الفساد بالجسم وكل أشكاله. بالموت ينحط المتعالون، والعنفاء القساة يُدفنون في ظلمته...

يا أيها الجشعون المغتصبون والسالبون لزملائكم تذكروا الموت، ولا تضاعفوا خطاياكم. ففي ذلك الموضع لا يتوب الخطاة، ومن سلب ممتلكات رفيقه لا يملك حتى ماله، بل يذهب إلى الموضع الذي لا تُستخدم فيه الثروة، ويصير بلا شيء، تعبر عنه كرامته، وتبقى خطاياه لتقف ضده يوم الدينونة[97].

القديس أفراهاط

5. بغضهم للأبرار

ولنكمُن للبار فإنه يُضايقنا،

يُقاوم أعمالنا،

ويلومنا على مخالفاتنا للشريعة،

ويتَّهمنا بأننا نسيء إلى تعليمنا. [12]

لم يقف الأشرار عند الانهماك في الشهوات واستخدام العنف والظلم حتى مع الفقراء والمساكين، بل يحاولون الإيقاع بالأبرار، ونصب شباكٍ وفخاخٍ لهم، لأنهم يرفضون الشركة معهم في شرورهم، ولأنهم يوبخونهم على تصرفاتهم الخاطئة، إن لم يكن بالكلام فبسلوك الأبرار. بهذا يصير منظر البار ثقيلاً للغاية عليهم، لأنه يوبخهم.

يرى البعض أن هذه العبارات تحمل نبوات واضحة عن ربنا يسوع المسيح البار الذي بتصرفاته كما بتعاليمه وبَّخ الكتبة والفريسيين، فلم يحتملوه، إنما كمنوا لقتله والتخلص منه بالصليب.

والعجيب أن الأشرار لا يحتملون البار حتى بعد موته، فتبقى ذكراه موبخًا لهم. هذا حدث مع السيد المسيح حتى بعد موته وقيامته، إذ لم تستطع القيادات اليهودية أن تسمع اسم يسوع، وكان الاتهام الموجه ضد المسيحيين هو اتهام الاسم. وكانت صرخات القيادات ضدهم أنهم يجلبون هذا الاسم عليهم.

النور الإلهي المشرق في حياة البار لا تحتمله الظلمة الكامنة في قلوب الأشرار. فالعالم بظلمته لا يقبل النور، وكما قال السيد المسيح في صلاته الوداعية عن تلاميذه: "العالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم" (يو17: 14).

يرى القديس أمبروسيوس أن يوسف وجد اخوته في دوثان (تك 37: 17) والتي تعني "الهجران"، بهذا يمثلون النفوس التي تهجر الله، ولا تريد أن تأتى إليه لتجد فيه راحة (مت 11: 28). هؤلاء إذ رأوا يوسف قادمًا من بعيد ثاروا ضده وأرادوا قتله (تك 37: 28). لقد ثاروا وهو بعيد عنهم، هكذا عندما جاء السيد المسيح إلى خاصته ليقترب إليهم رفضوه ودبروا قتله، قائلين ما ورد في سفر الحكمة: "ولنكمن للبار، فإنه يضايقنا" (حك 2: 12)[98].

v     لنهرب من سلام الأشرار، فإنهم يتآمرون ضد الإنسان البار. يجتمعون معًا، ليضغطوا على من هو بار[99].

القديس أمبروسيوس

v     إذ كانت أفكار اليهود هي أن يصنعوا بالرب ظلمًا... نسوا أنهم كانوا يجلبون الغضب ضد أنفسهم لهذا بكى الرب عليهم (على لسان النبي) قائلاً: "لماذا ارتجت الأمم، وتفكرت الشعوب في الباطل" (مز 1:2).

حقًا باطل هو تفكير اليهود، إذ يفكرون في الموت ضده الحياة، ويشيرون بأمور غير معقولة ضد كلمة الآب!

ومن يتطلع الآن إلى تشتيتهم وخراب مدينتهم يقول: "الويل لهم، فقد فكروا شرًا ضد أنفسهم"

حسن هو هذا يا اخوتي، لأنهم إذ أخطأوا في حق الكتاب المقدس لم يعرفوا أن "من يحفر هوة يقع فيها، ومن ينقض جدارًا تلدغه حية" (جا 8:10)[100].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     قيدوا يسوع وأحضروه إلى دار رئيس الكهنة، أتريد أن تعرف كيف سبق أن كُتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء: "ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لنفسهم شرًا، قائلين: لنقيد البار، لأنه مغلق لنا" (راجع إش 3: 9، حك 2: 12) نعم ويل لنفوسهم.

لترى كيف هذا، فإن إشعياء نُشر إلى أجزاء، وبعد ذلك انصلح الشعب. إرميا طُرح في جب من طين، لكن جرح اليهود شفي، إذ أن آثامهم كانت قليلة لأنها موجهه ضد إنسان. لكن عندما أخطأ اليهود إلى الله المتأنس قيل: "ويل لنفوسهم... لنقيد البار!"

ألم يكن قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟! قد يقول قائل: الذي حل لعازر من رباطات الموت في رابع يوم، وأطلق سراح بولس من قيود السجن الحديدية، أما كان قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟

لقد وقفت الملائكة مستعدة تقول: "لنقطع قيودهم" (مز 2: 3)، لكنهم أحجموا، لأن سيدهم شاء أن يقبل هذا.

اقتيد إلى المحكمة أمام الشيوخ. وهذه شهادة عن ذلك "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 3: 14)[101].

القديس كيرلس الأورشليمي

يزعُمُ أن عندهُ علم الله،

ويُسمي نفسه ابن الرب. [13]

إذ بكَّت يسوع البار اليهود في مواضعٍ كثيرةٍ (مت25؛ يو8)، وكشف لهم عن مرضهم، لم يحتملوا هذا العالم بل طلبوا أن يقتلوه، "لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا إن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله" (يو 5: 18).

صار لَومًا على أفكارنا. [14]

يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الله لا يعزل الأبرار عن الأشرار، بل يسمح باختلاطهم معًا لصالح الطرفين. فالأشرار يتطلعون إلى الأبرار، فيوبخهم برّ الأبرار، ومن الجانب الآخر يُحسب هذا مكسبًا للأبرار حيث يكونون سببًا لتوبة بعض الأشرار.

وحتى منظره ثقُل علينا.

لأن سيرته لا تُشبه سيرة الآخرين،

وسُبُله مختلفة. [15]

صار في أعينهم شاذًا، فالبٌر بالنسبة لهم ضعفًا وتخاذلاً، والعنف والسلب قوة وشهامة. صار الخير في أعينهم شرًا، والشر خيرًا.

v     يوجد نفع للأشرار باختلاطهم بالصالحين، فإنه يشعرون بارتباك، ويخجلون، ويستحون في حضورهم. فإنهم حتى وإن لم يمتنعوا عن الشر، لكنهم لا يجسرون على فعل ما يصنعونه في سرية. وهذا أمر ليس هينًا، ألاَّ يرتكبوا معصية علانية. تصير حياة الآخرين مُتهمًا لشر أولئك. اسمعوا على الأقل ما يُقال عن الإنسان البار. "صار خطرًا علينا حتى منظره" (حك 2: 14) إنها بداية ليس هينة للإصلاح خلال التعذيب بحضور (الإنسان البار)[102].

v     يكره السارق النور.

مجرد التطلع إلى الإنسان البار أمر بغيض بالنسبة للخطاة. "حتى منظره مُحزن لنا" (حك 2: 15). إذ لا يحتملون بهاءه، وذلك مثل العيون المريضة التي لا تحتمل أشعة الشمس.

ولكن بالنسبة لكثيرين محزن لهم لا أن يروه فحسب، بل وحتى أن يسمعوا عنه[103].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أمسَينا في عينيه شيئًا مُزيَّفًا،

ويتجنبُ طُرُقنا تجنب النجاسات.

يُغبِّطُ آخرَةَ الأبرار،

ويتباهى بأن الله أبوه. [16]

لا يليق بالبار أن يستخف بالخطاة، ولا أن يدينهم، وإن كان لا يقبل شرورهم، ولا يسلك في طرقهم. لا يليق به أن يهينهم ولو بنظراته، بل أن يترفق بهم ويحبهم في الرب طالبًا خلاصهم. لكن الأشرار وهم عالمون فساد طرقهم ورفض البار السلوك معهم في ذات الطريق، يدركون أنه يعلِّمهم أن طريقهم باطل ومزيف، وأنه يتجنب طرقهم، لأنه يطوِّب نهاية الأبرار، ويعتز بروح البنوة لله، هذه الروح التي قدمتها له نعمة الله الغنية في مياه المعمودية.

لكن ما هو ردّ فعل الأشرار المصرِّين على شرهم؟ يقولون:

فلننظر هل أقواله صادقة،

ولنختبر كيف تكون عاقبته؟ [17]

عوض الاقتداء بالبار، يسخرون منهم، كما سخروا بالقدوس البار ابن الله الوحيد.

6. مقاومة للأبرار حتى الموت

فإن كان البارُّ ابن الله،

فهو يعينه وينقذه من أيدي مقاوميه. [18]

يعتز الأشرار بقوتهم الغاشمة ويظنون أنه ليس من قوة تقدر أن تقف أمامهم، حتى الله نفسه. وإذ يسيئون إلى البار يسخرون به قائلين: "إن كان الصديق ابن الله فلينصره وينقذه من أيدي مقاوميه". هكذا يتحدون الله نفسه إن كان يستطيع أن ينقذ البار من أيديهم.

هنا نبوة واضحة عن السيد المسيح، حيث سخروا منه، حتى قال اللصان: "خلَّص آخرين، أما نفسه فلم يقدر أن يخلصها". وقيل عنه: "إن كان ابن الله، فلينزل عن الصليب فنؤمن به". لم يدركوا أنه بالصليب انتصر السيد المسيح على الشيطان، وبموته داس الموت، خلص البشرية كلها حتى تنتصر وتتكلل به.

فلنمتحِنْهُ بالشتْمِ والتعذيب،

لكي نعرف حلمه ونختبر صبره. [19]

هذا التحدي كان قائمًا بين الشيطان  شخصيًا أو خلال حزبه الذي دخل معه في عهدٍ والله في أشخاص مؤمنيه من رجال العهدين القديم والجديد، وقد بلغ القمة عند مجيء ابنه الوحيد الجنس، فظن عدو الخير أنه قادر على الخلاص منه تمامًا بالصليب، حيث جهل العدو تواضعه وخطته لخلاص العالم. ويبقى هذا التحدي قائمًا بين العالم الذي وُضع في الشرير وبين كنيسة الله، يتزايد ليبلغ القمة بمجيء ضد المسيح في آخر الأيام، حيث يدرك عدو الخير أن نهايته قد اقتربت جدًا.

ولنحكم عليه بميتَةِ عارٍ،

فإنه سيُفتَقدُ بحسب أقواله". [20]

يرى كلاً من القديس أغسطينوس والعلامة أوريجينوس أن الأشرار يحكمون على البار – ربنا يسوع – بموت العار، أي بالصليب، ولم يدركوا أنه بالصليب كان في قمة المجد خلال حبه وتواضعه.

v     ها نحن نرى هذه النبوة (حك 2: 12-21) في شكل اشتياق وصلاة، تحققت في يسوع المسيح[104].

القديس أغسطينوس

v     لقد تمجد عندما جاء إلى الصليب وعندما احتمل الموت. أتريدون أن تعرفوا أنه قد تمجد؟ قال بنفسه: "أيها الآب، قد أتت الساعة؛ مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1). احتمال الصليب كان مجدًا له، لكن مجده لم يكن في منظرٍ جميلٍ، وإنما في تواضعٍ. فقد قيل عنه: "تواضع حتى الموت، موت الصليب" (راجع في 2: 8). وقد تنبأ النبي عن ذلك، قائلاً: "ولنحكم عليه بميتة عارٍ" (حك 2: 20). ويقول عنه إشعياء: "من الضغطة ومن الدينونة أُخذ" (إش 53: 8)[105].

العلامة أوريجينوس

وكما أراد العدو الخلاص من السيد المسيح بالصليب، هكذا لا يكف عن أن يجاهد في قتل المؤمنين وتحطيمهم منذ ولادتهم. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها" (خر 22:2)، قائلاً:

[أترون بماذا يأمر رئيس هذا العالم خدامه؟ إنه يأمر بسرقة أولادنا، وإلقائهم في النهر، ونصب الشباك على الدوام منذ ولادتهم. يأمر بالهجوم عليهم منذ يبدأون في لمس ثديي الكنيسة ويطلب نزعهم عنها ومطاردتهم حتى تبتلعهم أمواج العالم...

تأمل الخطر الذي يهددك منذ ولادتك، بل بالأحرى منذ ولادتك الجديدة، أي منذ نوالك المعمودية مباشرة... فقد أُصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس (مت 1:4).

هذا هو أمر فرعون لشعبه بخصوص أولاد العبرانيين، أي الهجوم عليهم واقتناصهم في لحظة ولادتهم وإغراقهم... لكن المسيح انتصر حتى يفتح لك طريق النصرة، انتصر وهو صائم حتى تدرك أنت أيضًا كيف تخرج هذا الجنس بالصوم والصلاة (مر 29:9)[106].]

7. إنكارهم الخلود

هكذا فكروا،

ولكنهم ضلُّوا،

لأن شرَّهم أعماهُم. [21]

يمنعهم كبرياؤهم عن مراجعة أنفسهم، فثبتوا في الجهل والضلال والعمى الروحي.

توغلهم في الشر أعماهم عن رؤية حكمة الله في طول أناته ليهبهم فرصة للتوبة، وكيف يزكي الأبرار باحتمالهم الآلام لينالوا أكاليل مجدٍ في السماء. لم يدركوا القوة العاملة في حياة أولاد الله والتي تهبهم سلامًا وسط الضيقات، وشعور بمعية الله، فيفرحوا ويتهللوا وسط الآلام.

v     هؤلاء ينتعشون في سعادة هذا العالم، ويهلكون في قوة الله. ليس فيما هم ينتعشون يهلكون بذات الأمر؛ لأنهم ينتعشون إلى حين، ويهلكون أبديًا. ينتعشون في خيرات غير حقيقية، ويهلكون في عذابات حقيقية[107].

القديس أغسطينوس

فلم يعرفوا أسرار الله،

ولم يرْجوا جزاءً للبرّ،

ولم يقدِّروا تكريمَ النفوس التي بلا لومٍ. [22]

لا يعرف الأشرار أسرار الله، أي حكمته ومقاصده من نحو الإنسان، إذ لا يختبرونها في حياتهم. كما لا يبالون بما ورد في الشريعة عن مجازاة الأبرار وهلاك الأشرار. لم يعرفوا أو تجاهلوا ما ورد في سفر التكوين عن الإنسان أنه صورة الله، وخُلق على مثاله (تك 27:1). إنهم إذ لا يذوقون عربون السماء هنا، لا يكون لهم نصيب مع الأبرار في المجد الأبدي، بل ولا حتى يؤمنون به.

v     أولئك الذين يرضون بالإثم لا يكون لهم نصيب بين الخالدين[108].

القديس أنطونيوس الكبير

 

فإن الله خلق الإنسان لعدم الموت،

وجعله صورة ذات أبديته. [23]

v     لم يكتفِ الله بأن يخلقنا من العدم، ولكنه وهبنا أيضًا بنعمة الكلمة إمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي، وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فسادٍ بالموت. لأنهم كانوا – كما ذكرت سابقًا - فاسدين، لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين. ولأن الكلمة سكن فيهم، لم يمسهم فسادهم الطبيعي، كما يقول سفر الحكمة: "الله خلق الإنسان لعدم الموت، وجعله على صورة أزليته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم".

وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون. هذا من جهة الوقت إذ بدأ الفساد يسود عليهم[109]...

البابا أثناسيوس الرسولي

لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم،

فيختبرُه الذين هم من حِزبه. [24]

"الموت" هنا هو الموت الروحي الذي يسقط تحته الأشرار.

ليس للإنسان عدو حقيقي إلاَّ إبليس الذي لا ييأس من العمل الدائم ليضم أكبر عدد ممكن من البشرية إليه، لا لهدفٍ سوى مشاركته للهلاك الذي يحل به. يستخدم إبليس كل وسيلة، تارة خفية وأحيانًا علانية، كتشكيك الإنسان في الله، وجذبه بالملذات.

v     ماذا يعني بالقول: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم"؟ أنتم ترون أن هذا الوحش الشرير رأى أن الإنسان الأول قد خُلق خالدًا، فبسمته الشريرة قاده إلى عصيان الوصية، وبها جلب لنفسه الموت. إذن الحسد سبب خداعًا، والخداع عصيانًا، والعصيان موتًا[110].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     الحسد دائمًا ما يتبع طريق الفضيلة. وكما يقول هورس Horace بأنه حتى قمة الجبل تُضرب بالبرق. ليس بالأمر المدهش أن أعلن ذلك للرجال والنساء، عندما نرى حسد الفريسيين قد نجحوا في صلب ربنا نفسه. كل القديسين لهم من يكنون لهم رغبات شريرة، حتى الفردوس (الجنة) لم يكن خاليًا من الحية التي من خلال حقدها جاء الموت إلى العالم (رجع 2: 24)[111].

القديس جيروم

v     في الواقع يوجد صراع بين الفضيلة وحسد (إبليس). واحدة لضبط كل عصب ليقهر الصلاح، والثانية تحتمل كل شيء لكي يعيش الإنسان غير خاضعٍ. واحدة تعمل لتُسهل طريق الرذيلة، والثانية تتمسك بالصلاح حتى وإن عانى الإنسان متاعب أكثر من الآخرين[112].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24). قدم الشيطان الموت لنا، لكن ليس من إلزامٍ على الإنسان أن يقبله، لأنه ليس للشيطان أن يجلب عليك شيئًا. موافقتك يا أيها الإنسان قادتك إلى الموت[113].

v     الآن إذ جاء الموت إلى الناس من إبليس، ليس لأنهم ذريته، وإنما لأنهم تمثلوا به، لذلك أضاف في الحال: "والذين صاروا من حزبه تمثلوا به" (راجع 2: 24)[114].

القديس أغسطينوس

v     إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي... فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين، إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة، إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريضًا أصلاً. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات "لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى، فتلدغكم يقول الرب" (إر17:8).

بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت... فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه" (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ يزيفون الحقيقة على الدوام، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلاً، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه، بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين.

الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه: "أَنه يقف قدام الحاسد" (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته[115].

 الأب بيامون

 


 

من وحي الحكمة 2

حياتي بين يديك!

v     كل العالم يعلم أن حياة الإنسان قصيرة،

لكن إذ أتحد بك تمتد حياتي إلي الخلود.

حياتي مملوءة بالأشواك ، لكنها ليست مملة،

لأني أراك رفيقا لي وسط الآلام.

الشوك الذي توج رأسك، يعطي لآلامي عذوبة!

موتك من أجلي، أمات الموت الذي حطمني!

قيامتك قدمت لي الحياة المقامة.

 

v     كنت أظن أنني جئت إلي العالم مصادفة،

لكنني أدركت أنك مشغول بي حتى قبل خلقتي.

اسمي منقوش علي كفيك،

أنت مشغول بي، و تبقي تعمل لأجلي،

حتى حيث تكون أنت أكون معك!

حياتي ليست للهو والمزاح،

لكن لي غاية سماوية، وضعتها لي العناية الإلهية.

 

v     نفسي ثمينة جدًا في عينيك،

حتى جسدي، إذ يعود إلي التراب،

ترده ليحمل أمجادًا سماوية!

حملتني بكليتي من الفساد إلى عدم الفساد.

نقلتني من دائرة الموت إلى الخلود!

 

v     لست أعيش هنا لأتمتع بلذة الأكل والشرب،

فأنت هو أكلي وشربي، وقمة سعادتي.

أترقب، متى أتمتع بك، يا أيها المن السماوي!

 

v     سخر بك الأشرار، لأنك قدوس.

حياتك صارت ثقلاً عليهم، لأنها تدينهم.

صمموا أن يتخلصوا منك،

دبروا قتلك فقتلوا أنفسهم.

 

<<


 

الأصحاح الثالث

تحدِّي الأبرار حتى للموت المبكر

في الأصحاح الأول أبرز الحكيم الحكمة بكونها حياة معاشة، تهب مقتنيها البرّ الإلهي، وتدخل به إلى الحياة الخالدة، فلا يستطيع الموت أن يحطمه. هذه الحكمة هي في حقيقتها شركة مع حكمة الله، كلمة الله، ابن الله الوحيد. وفي الأصحاح الثاني يكتب في مرارة عن الجهلاء الذين لا يقبلون الحكمة، فتضيق الحياة بهم ويسيطر اليأس على قلوبهم، مع مقاومتهم الشديدة للبار القدوس والمؤمنين به. الآن في الأصحاحين  الثالث والرابع يكشف عن خطة الله من نحو العالم، أو يد الله العاملة لحساب نفوس الصديقين. فإن تدابير الله لأولاده خفية، تعمل لبنيانهم.

يعالج هذا القسم مشكلة الألم في حياة الأبرار، والعواقر اللواتي حُرمن من إنجاب نسلٍ لهن، وأيضًا الذين يعانون من الموت المبكر، مقدمًا مقارنة بين مصير الأبرار ومصير الأشرار، مع إبراز قوة الأبرار وتحدِّيهم لكل الظروف – مهما بدت مُرة وقاسية - حتى للموت المبكر.

يقدم لنا عدة أمثلة عملية ليكشف لنا الحكيم عن كيفية مواجهة البار لما يظنه العالم ضيقًا، وهي:

أ. التأديب الإلهي: يمحص الله أولاده كالذهب في النار، ويقبلهم كذبيحة محرقة (6:3)، فتتحول الضيقة إلى بركة، يتقبلها البار بفرح من أجل نقاوته الداخلية، وتزكيته أمام الرب.

ب. العقر: تطويب المرأة العاقر أو الرجل الخصي إن كان بارًا. فالبرّ أفضل من أطفالٍ كثيرين. يسمح الله أحيانًا بالعقر مع الطهارة كأمرٍ مطوّب، أما ذرية الأثيم فتنقرض (13:3-16). البتولية مع الفضيلة أجمل، فإن معها ذِكرًا خالدًا، لأنها تبقى معلومة عند الله والناس (1:4).

ج. يسمح أحيانًا بالموت المبكر: فإن الصديق، وإن تعجله الموت يستقر في الراحة (7:4).

د. الشيخوخة المُكرمة: شيب الإنسان هو الحكمة، وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب (9:4).

1. بين مصيري الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار1-12.

2. تحدِّي العقم13-16.

3. تحدِّي الموت المبكر17-19.

1. بين مصيري الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار

أما نفوس الأبرار فهي بيد الله،

فلا يمسُّها أي عذاب. [1]

إن كان الأشرار يذهبون بعد الموت إلى العذاب الأبدي، فنفوس الأبرار لا يصيبها عذاب أو أذى، بل تستقر وتستريح في يد الله، تتمتع بسلامٍ كاملٍ وتنال الخلود.

لقد انطلقت نفوس المؤمنين في العهد القديم إلى الجحيم كمكان انتظارٍ، لأنه لم يكن بعد قد تم الفداء، لكنها لم تكن منزعجة، إنما في سلامٍ حقيقي كانت تترقب مجيء المخلص ليحطم متاريس الجحيم، وينطلق بها إلى الفردوس مع اللص اليمين. أما بعد الفداء، الآن تنتقل نفوس الأبرار بعد ترك الجسد إلى الفردوس حيث الاستقرار والراحة والتمتع بالأمجاد إلى يوم الرب العظيم، حيث تدخل الكنيسة المقدسة كلها إلى الملكوت الأبدي في السماء.

بقوله إن نفوس الأبرار في يد الله يعلن الحكيم ليس فقط أنه لا يمسها عذاب، وأنها تجد راحة واستقرارًا، وإنما هي موضع اعتزاز الله واهتمامه، يحفظها في يده بكونها ثمينة جدًا في عينيه.

"فهي بيد الله" (3: 1) تعني إنها في حمايته، كما جاء في تثنية "جميع قديسيك في يدك" (تث 33: 3)، وفى إشعياء عن صهيون: "وتكونين إكليل جمالٍ بيد الرب" (إش 62: 3).

v     فإن الله يجد نفـوس الأبرار (إر 51: 35)، لأن نفوس الأبرار في يد الله (حك 3: 1)، أما تلك النفوس التي للأشرار فتُحسب كلا شيء[116].

العلامة أوريجينوس

v     نفوس الأبرار في يد الله وهم هنا يحملون معه الصليب، وهي في يده أيضًا بعد انطلاقهم من العالم، وقد استراحت نفوسهم من الآلام، وتوقفت معارك إبليس، وصاروا في فردوس النعيم.

v     لا يمكن الفصل بين الحياتين، فمع ما نجابهه من معارك روحية في هذه الحياة تشرق عناية الله علينا، ويكشف عن حبه الفائق وتدبيره لأمجادنا الأبدية.

فنعيش هنا نتحدى الألم والمرض، بل وإبليس بكل جنوده، والموت، أيا كانت وسيلته. نحيا بروح القوة لا الفشل، وبروح الرجاء لا اليأس.

v     يختفي عناء كل السنين الطويلة لهذه الحياة الحاضرة عندما ننظر إلى أبدية المجد العتيد، وكل أحزاننا ستتلاشى بالتفكير في البركة العظيمة، وتصير كالبخار الذي يضمحل وكأنها لم تكن؛ تشبه البرق الذي حالما يختفي[117].

القديس يوحنا كاسيان

v     لا نخاف من الفقر أو المرض أو أية ضيقة كهذه، فإننا نعرف أننا في طريقنا إلى حياة أفضل، والتي هي منيعة ضد الموت والدمار، ومتحررة من كل ظلمٍ[118].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     أفرح أنا بآلامي لكي يفرحني بإشراقه.

إذ أحمل سماته في أعضائي (غل17:6)، ابتهج لأن ما احتملته قائم فيّ[119].

v     تحصل علي عالم النور عوض ألمٍ مريرٍ تتحمله لأجله ليومٍ واحدٍ.

إن صبرت علي الجوع قليلاً من أجل حبه، تلتهب عندئذٍ رغبتك لرؤية وجهه.

إن ظهرت الظلمة علي وجهك من الأعمال لأجله، يجمّلك بمجده إلي أبد بلا نهاية.

إن تعريت مما هو لك، يلبسك نوره، ويخفي عنك ما هو لك.

إن تركت ما تملكه، تقتنيه في نفسك أبديًا[120].

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

في أعين الأغبياء يبدو أنهم ماتوا،

وحُسِب رحيلهم تعاسة، [2]

يتطلع الأشرار عادة إلى نهاية الأبرار أنها عقوبة، هذه النظرة مختلفة عن خطة الله بخصوص المكافأة والمجازاة، كما تفسد التطلع إلى الحياة المقدسة.

يرى الأشرار في رحيل الأبرار كارثة لهم، لأنهم لم ينعموا بالحياة الزمنية، وليس من عالمٍ آخر يتمتعون به. لكن الحقيقة أنهم يصيرون مع الله في سلام. يبدو الأبرار أنهم ماتوا، لكنهم بالحقيقة هم أحياء مع الله.

أما الأبرار فيترجون بفرح انطلاقهم من هذا العالم لكي يروا الرب وجها لوجه، ويشعروا بالحق أنهم في يد الله، فإنهم حتى الآن وهم في جهادهم ووسط الآلام يشعرون بعذوبة عربون الحياة السماوية. يرى العلامة أوريجينوس أن الكتاب المقدس هو في جوهره رحلة النفس البشرية من العالم إلي الأحضان الإلهية. بهذا وسط الجهاد يدركون لمسات يد الله الفائقة.

تطلع القديس غريغوريوس النزينزي إلى أخته الأكبر منه القديسة جورجونيا كنموذجٍ حيٍّ للمسيحي، وقد تأثر بها جدًا إذ كان مغرمًا بتقواها وورعها. وأوضح كيف استعدت للموت بلا خوفٍ، بل اشتاقت إليه:

v     موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب 22:12، 23)... التي يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين في السماء...

v     كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته في أماكن أمينة. لم تترك شيئًا وراءها سوي جسدها. لقد فارقت كل شيءٍ من أجل الرجاء العلوي. الثروة الوحيدة التي تركتها لأبنائها هي الاقتداء بمثالها، وأن يتمتعوا بما استحقته.

v     هنا أتكلم عن موتها وما تميزت به وقتئذٍ لأوفيها حقّها... اشتاقت كثيرًا لوقت انحلالها، لأنها علمت بمن دعاها وفضّلت أن تكون مع المسيح أكثر من أي شيء آخر على الأرض (في 23:1).

تاقت هذه القديسة إلى التحرر من قيود الجسد والهروب من وحل هذا العالم الذي نعيش فيه. والأمر الفائق بالأكثر أنها تذوقت جمال حبيبها المسيح إذ كانت دائمة التأمل فيه.

كانت تعلم مسبقًا ساعة رحيلها عن هذا العالم، الأمر الذي ضاعف من فرحتها. ويبدو أن الله أعلمها به حتى تستعد ولا تضطرب حينئذٍ.

قضت كل حياتها لتغتسل من الخطية وتسعى لإدراك الكمال. ونالت موهبة التجديد المستمر بالروح القدس وصارت ثابتة فيه بحسب استحقاق حياتها الأولى

لم تغفل عن التضرع من أجل زوجها أيضًا حتى يُدرك الكمال، وقد استجاب الله لطلبتها، إذ أرادت أن يكون كل ما يمت لها بصلة في حالة الكمال الذي يريده الله منا، فلا يكون شيء ناقصًا أمام المسيح من جهتها. وإذ جاءت النهاية أدلت بوصيتها لزوجها وأولادها وأصدقائها كما هو المتوقع من مثل هذه القديسة المحبة للجميع.

كان يومها الأخير على الأرض يوم احتفال مهيبًا، ولا نقول أنها ماتت شبعانة من أيام بني البشر، فلم تكن هذه رغبتها، إذ عرفت أنها أيام شريرة تلك التي بحسب الجسد وما هي سوى تراب وسراب. وبالأحرى كانت شبعانة من أيام الله وهكذا تحررت، بل الأفضل أن نقول أنها أُخذت إلى إلهها أو هربت أو غيرت مسكنها أو أسلمت وديعتها عاجلاً.

في وقت نياحتها خيّم صمت مهيب، وكأن مماتها كان بمثابة مراسم دينية.

رقد جسدها وكأنه في حالة شلل بعد أن فارقته الروح، فصار بلا حراك.

لكن أباها الروحي الذي كان يلاحظها جيدًا أثناء هذا المنظر الرائع شعر بها تتمتم واسترق السمع، وإذ به يسمعها تتلو كلمات المرتل: "بسلامة اضطجع أيضًا وأنام" (مز8:4). مبارك هو من يرقد وفي فمه هذه الكلمات.

هكذا ترنمتِ أيتها الجميلة بين النساء، وصارت الترنيمة حقيقة. ودخلتِ إلى السلام العذب بعد الألم، ورقدتِ كما يحق للإنسانة المحبوبة لدى الله التي عاشت وتنيحت وسط كلمات الصلاح.

كم ثمين هو نصيبكِ! إنه يفوق ما تراه العين في وسط حشدٍ من الملائكة والقوات السمائية، إنه مملوء بهاءً ونقاوة وكمالاً!

يفوق كل هذا رؤيتها للثالوث القدوس، فلم يعد ذلك بعيدًا عن الإدراك والحس اللذين كانا قبلاً محدودين تحت أسر الجسد.

أرجو أن تقبل روحك هذا المديح مني كما فعلت مع أخي قيصريوس. فقد حرصت على النطق بالمديح لاخوتي.

القديس غريغوريوس النزينزي

وتركهم لنا دمارًا تامًا،

لكنهم في سلام. [3]

يتساءل البعض: هل ستكون نفوس الأبرار مرتبطة بنفوس الأشرار في موضعٍ واحدٍ، لكن الأولين يكونون مملوءين سلامًا والآخرين مملوءين مرارة وضيقًا، أم سينفصل كل طرف في موضعٍ مستقلٍ عن الطرف الآخر؟

ما نعرفه أن السيد المسيح بنزوله إلى الجحيم حطم بصليبه متاريس الهاوية، وحمل الذين ماتوا على الرجاء كغنائم دخل بها إلى الفردوس، ينعمون بأمجادٍ فائقةٍ. لكن في يوم الرب العظيم تتم دينونة عامة، يزداد مجد الأبرار بانطلاقهم مع عريسهم على السحاب كعروس واحدة مجيدة تتمتع بالدخول إلى حضن الآب.

v     يا للعجب الذي يفوق الطبيعة حقًا! وقائع مذهلة!

الموت الممقوت والمشجوب قبلاً، قد أحاطت به المدائح واعتُبر سعيدًا! فبعد أن كان يجلب الحداد والحزن والدموع والغم الكئيب، ها قد ظهر علة فرحٍ، ومحط عيد احتفالي!

بالنسبة إلى جميع خدام الله أُعلن موتهم سرورًا! فإن خاتمة حياتهم هي وحدها تعطيهم اليقين بأنهم قُبلوا من الله. لهذا طوَّب موتهم لأنه يختم كمالهم، ويُظهر غبطتهم؟، حيث يطغي عليهم رسوخ الفضيلة كقول الوحي: "لا تعتبر أحدًا سعيدًا قبل موته" (سيراخ 11: 28).

لا نطبق عليكِ (يا مريم) هذا القول، لأن غبطتك لا تأتي من الموت، وموتك لم يتمم كمالك... ليس عند موتك، بل منذ هذا الحبل عينه تُغبطين من جميع الأجيال. لا، ليس الموت أبدًا من جعلكِ مغبوطة، بل أنتِ طرحتِ الموت وبددتِ كآبته وأظهرتِ أنه فرح (بالمسيح الذي ولدتيه)[121].

v     الآن، لتفرح السماوات ولتصفق الملائكة!

الآن لتبتهج الأرض (مز 96: 11، 97: 1)، وليهتز البشر فرحًا!

ليدوِّ الجو بأناشيد البهجة، وليُطرح الليل الحالك الظلام الكئيب ومعطفه الحدادي، لا بل بما أنه تلألأ، فليقتدِ بلمعان النهار، بومضات النور.

ها إن المدينة الحية التي للرب إله القوات قد رُفعت إلى الأعالي، والملوك يأتون بتقدمة مُتعذر تقديرها من هيكل الرب، من صهيون الشهيرة (مز 68:30) في أورشليم العليا، التي هي حرة، وهي أمهم (غل 4: 26). وأولئك الذين أقامهم المسيح رؤساء على كل الأرض، أي الرسل، يواكبون والدة الإله الدائمة البتولية[122].

v     اليوم استُردت المدينة الحية من أورشليم الأرضية إلى أورشليم العليا (غل 26:4، رؤ 10:21)!

v     هذا القبر وكونه أعز من الخيمة القديمة، قد حوى المنارة الروحية الحية المتألقة بالنور الإلهي، والمائدة الحاملة الحياة التي اقتبلت لا خبز الوجوه بل الخبز السماوي، لا النار الهيولية بل نار الألوهية غير الهيولية.

v     لتأخذ مريم التي هي الكنيسة الدف في يديها، ولتنشد التسبحة الخاصة بالعيد. لتخرج فتيات إسرائيل الروحي بدفوفٍ ورقصٍ (خر 15: 20)، مُطلِقَات صيحات الفرح![123]

الأب يوحنا الدمشقي

وإذ كانوا في عيون الناس قد عوقبوا،

فرجاؤهم كان مملوءًا خلودًا. [4]

يبدو عذابهم بأي نوعٍ أثناء ووجودهم على الأرض هو عقوبة من الله، لكنه في الحقيقة هو تأديب أبوي، أو اختبار لتزكية إيمانهم يهيئهم بالأكثر للتمتع بملكوت الله.

كثيرًا ما يردد الكاتب أن الأبرار يترجون الخلود أو الأبدية، ويطلبونها من الله (3: 4؛ 4: 1؛ 8: 13)، فهي نعمة مجانية يقدمها لهم الله. فالصديق يموت وهو على رجاء التمتع بالحياة الدائمة، هذه التي يُحرم منها الجهلاء الذين لا يترجون شيئًا بعد الموت.

يرى البعض أن كلمة "الخلود" تظهر هنا لأول مرة في الكتاب المقدس.

v     لخدام الله سلام وحرية وراحة هادئة، فعندما ننسحب من زوابع هذا العالم نبلغ ميناء مدينتنا وأمننا الأبدي، عندما يتحقق هذا الموت نبلغ الخلود[124].

الشهيد كبريانوس

وبعد تأديبٍ يسير سيكون لهم مكافأة عظيمة،

لأن الله امتحنهم،

فوجدهم أهلاً له. [5]

تنفتح السماوات أمام المتألمين ليقفوا أمام عرش الله القدير، فيدركوا أن شئون البشر لا تسير بطريقة عشوائية، وإنما بتدبير إلهي عجيب، فالله ضابط الكل يهتم بكل ما يمس حياة الإنسان. هذا هو سّر تعزيتنا وسط الضيق. فيرددوا القول: "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 19:94)، "لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزياتنا أيضًا" (2 كو 5:1).

v     طريق وصايا الله ضيقة، وأما قلب من يجري فيها فرحب ومتسع، لأنه مسكن الآب والابن والروح القدس، يسلكها جاريًا بقلبٍ متسعٍ... وأما طريق مساوئ الأشرار فمتسعة وقلوبهم ضيقة، لأنه لا موضع لله فيها[125].

أنثيموس أسقف أورشليم

v     الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 14:7)، وأما القلب الذي يطوف فيه بجولة حسنة، أي في طريق وصايا الله، فمتسع ورحب بالكلمة الإلهية، وهو مقدس ويرى الله.

وعلى العكس فإن الطريق "الواسع والرحب يقود إلى الهلاك" (مت 13:7). أما القلب (الذي يسلكه) فضيق، لا يقبل أن يقيم فيه منزلاً للآب والابن (يو 23:14)، بل يتجاهل الله بسبب جهالته. هذا الإنسان يجعل قلبه ضيقًا بسبب قسوته.

لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على لوحي قلبنا (أم 4:3؛ 3:7؛ 20:22)، معلنًا بأن "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم 20:1). بقوله "الخارج" لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها الله[126].

العلامة أوريجينوس

كالذهب في التنُّور محَّصهم،

وكذبيحة محرقة قبلَهم. [6]

لا ينكر الحكيم تأديب البار، لكن إلى حين. فالألم غايته ليست التدمير بل التطهير، لإزالة كل أثر للزغب فيتنقى المعدن. بهذا يصير هذا المعدن الثمين (الإنسان) على صورة الله القدوس. حتى الذهب يمكن أن يتنقى، لكن التنقية تطلب وجود فرنٍ أو نارٍ فإن الذبائح صالحة، لكنها تُحرق بالنار لكي تُقدم ذبيحة محرقة.

وسط آلامنا يقبل الله محرقاتنا الروحية، إذا ما أشعل في نفوسنا بروحه القدوس نار الحب الإلهي التي تلهب قلوبنا داخلنا، ولا تقدر مياه كثيرة أن تطفئها. يهب داخلنا قوة القيامة ونصرتها على الألم والموت وبهجتها الأبدية.

v     امتحن الله المحب فضيلة (إبراهيم) البار إلى فترة تبلغ الثلاثين عامًا. وعندما رأى الله أنه قد تنقى مثل الذهب في الأتون (حك 3: 6) إلى فترة زمنية طويلة جُعلت فضيلة هذا البار أكثر بهاءً وتألقًا، يقول الكتاب: "ولما كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الله مرة أخرى" (راجع تك 17: 1)[127].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إن كان الذي أعلى منك صالحًا فإنه يكون منعشًا لك، وأما إذا كان شريرًا فسيكون مجرمًا ضدك، في الحالة الأولى تقبل الانتعاش بسرور، وفي التجربة أظهر نفسك صادقًا. كن ذهبًا. أنظر إلى هذا العالم ككور الصائغ، ففي مكان ضيق توجد ثلاثة أشياء: ذهب وقش ونار. تستخدم النار للشيئين الأولين فالقش يحترق، والذهب يتنقى. يستسلم إنسان للتهديدات، وينقاد إلى معبد الأوثان. واحسرتاه! إنني أندب القش. إنني أرى الرماد. وآخر لا يذعن للتهديدات أو الأهوال، فيُساق أمام القاضي ويعترف بثبات دون أن يخضع لصورة التمثال. ماذا تفعل اللهب معه؟ أما تنقي الذهب؟ لتقفوا بثباتٍ في الرب أيها الاخوة، لأن الذي دعاكم له قوة أعظم. لا تخافوا من تهديدات الأشرار. احتملوا أعداءكم، ففيهم تجدون من تصلون من أجلهم. لا ترتعبوا منهم بأية طريقةٍ كانت.

هذه هي الصحة المخَّلصة. أخرجوا من هذا الينبوع إلى هذه الوليمة، أشربوا هنا حيث تشبعون، وليس من الولائم الأخرى التي بها تختبلون. أثبتوا في الرب. إنكم فضة وستكونون ذهبًا. هذا التشبيه ليس مني، بل من الكتاب المقدس، فقد قرأتم وسمعتم "محصهم كالذهب في البودقة وقبلهم كذبيحة محرقة" (حك 3: 6). انظروا ماذا تكونون بين كنوز الله. كونوا أغنياء بتلامسكم مع الله ليس كما لو كنتم تجعلونه غنيًا، بل تصيروا أغنياء بواسطته. دعوه يُشبعكم. لا تُدخلوا سواه في قلوبكم[128].

القديس أغسطينوس

في وقت افتقادهم يتلألأون،

وكالشَرَر بين القش يركضون. [7]

بعد الموت يتحقق الأشرار من مكافأة الأبرار الذين يمجدهم الله أبوهم السماوي. وينفضح الأشرار، لأنهم عاشوا مع هؤلاء الأبرار على الأرض في ذات ظروفهم، بل وربما نالوا خيرات أكثر منهم، ومع ذلك لم يؤمنوا بالله، ولا سلكوا بروحه القدوس.

بعد الانطلاق من هذا العالم يتلألأ الأبرار ككواكبٍ بهيةٍ، ويتمتعون برؤية الله، وشركة المجد السماوي.

إذ يتحدث عن نيران التجارب المطٌَهرة يرى في الصديقين أنهم يتلألأون بالأكثر خلال هذه النيران التي لا تحرقهم، وإنما تحرق الجزامة (التبن) الذي فيهم وسط ليل هذا العالم للتدفئة والإنارة. هذه هي خبرة الفلاحين في ذلك الحين.

هذا ومن جانب آخر، فإن نار التجارب تحٌَول الأبرار إلى أشبه بمشاعلٍ تتقد نارًا، فتحول ظلمة ليل هذا العالم إلى نهارٍ. بينما يعاني الأشرار من هلاك الظلمة، يتمتع الأبرار بالبهاء المفرح.

ومن جانب ثالث، فإنهم إذ يصيرون مشاعل ملتهبة وسط الأشرار، يشعلونهم بالنار فيهلكوا ماداموا مصممين على شرورهم. هذا ما قيل بعوبديا النبي عن بيت يعقوب وبيت يوسف، كيف يدمرون بيت عيسو كما بنارٍ مشتعلةٍ! ويكون بيت يعقوب نارًا، وبيت يوسف لهيبًا، وبيت عيسو قشًا، فيشعلونهم ويأكلونهم، ولا يكون باقٍ من بيت عيسو، لأن الرب تكلم" (عو 18).

"افتقاد" تعبير كتابي يشير إلى التدخل الإلهي، هنا يشير إلى تدخله في يوم الدينونة العظيم[129].

"يتلألأون" صورة رائعة للنصرة.

v     النور أيضًا هو بهاء السماء للذين يتطهرون هنا، حينما يشرق الأبرار مثل الشمس (مت 13: 34)، ويقف الله في وسطهم (حك 3: 7)، الآلهة والملوك يقضون ويميزون رتب تطويب السماء[130].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     الله المحب الرحوم أطلق بنفسه الجسد من أسره وحرره من عبودية الهلاك، العبودية المرة المميتة، ومنحه الخلود في الأبدية. بذلك منح الجسد البشري عطية الأبدية المقدسة، فجعله خالدًا غير مائت إلى الأبد[131].

 القديس إكليمنضس الإسكندري

v     حقًا سيكونون ممجدين وينعمون بالسمو الملائكي لكنهم مع هذا يبقون بشريين. فيبقى الرسول بولس هو بولس ومريم هي مريم[132].

v     إن كان الوعد لنا أن نكون كالملائكة، ولا يوجد بين الملائكة جنسان متمايزان، فإننا سنكون بلا تمايز جنسي كالملائكة. على أي الأحوال، فإننا إذ نقوم من الأموات نحمل الجنس الذي لنا لكننا لا نمارس وظيفة الجنس[133].

القديس جيروم

v     إذ تنزع كل شهوة جسدية ولا يكون فيهم موضع للملذات الجسدية يشابهون الملائكة، مقدمين خدمة روحية غير مادية، فيصيرون كأرواح مقدسة، وفي نفس الوقت يُحسبون مستحقين لمجد يتمتع به الملائكة[134].

القديس كيرلس الكبير

v     لقد دُوّن هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة "لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت (1 كو 53:15).

إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد ويشكل جديدًا. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا، هذا الجسد سيقوم لكنه لن يمكث كما هو الآن.

إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه. إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير "حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (مت 43:13)، "وكالقمر – وكضياء الجلد (دا 3:12).

فالله العالم بعدم إيمان الناس، أعطى الديدان الصغيرة أن تخرج من جسمها شعاعات من نور حتى أنه مما نرى نصدق ما نتوقعه.

لأن الله الذي يعطي الجزء، قادر أن يعطي الكل أيضًا.

والذي جعل الدودة متألقة بالنور، يجعل بالأحرى الإنسان النقي يضيء![135]

القديس كيرلس الأورشليمي

v     في الحياة الأبدية يتغذى الجميع على طعام البرّ ومشروب الحكمة، ويلتحف الجميع بالخلود، ويعيشون في بيتهم الأبدي، وتكون الأبدية ذاتها هي صحة الجميع وسلامهم وسعاتهم حيث لا خصام ولا مرض ولا موت[136].

القديس أغسطينوس

يدينون الأمم ويتسلطون على الشعوب،

ويملك الرب عليهم للأبد. [8]

الخلاص في ذهن كثير من اليهود هو تمتعهم كأمةٍ بالسيطرة على العالم كله، فيتسلطون على الشعوب في العصر المسياني. لقد فهموا مثل هذه العبارة التي في أيدينا بالمعنى الحرفي، إذ يظنون أنهم أبرار سيسيطرون على كل الشعوب الشريرة، ويلزمونهم بالتهود.

الذين يدركون أن نفوسهم في يد الله [1]، يتمتعون بروح القوة، فيشعرون أنهم ملوك في يد ملك الملوك. حياتهم تتلألأ بانعكاس مجد الله عليهم، فيصيرون ديانين للأمم الرافضة التمتع بمعية الله، ويتسلطون على الشعوب التي تظن أنها صاحبة سلطان على الأبرار.

هذا ويمكننا القول بأننا إذ نُوجد في يد الله نحكم على ما في داخلنا من أمم ونتسلط على ما في داخلنا من شعوب. نحمل سلطانًا على أفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا. بسلطانٍ نقول للأفكار الشريرة أن تخرج فتخرج، ولكل دنس أن يفارقنا فيهرب منا. كما بسلطان نطلب العواطف المقدسة والأحاسيس المملوءة حبًا وبرًا فتسمع لنا.

v  لم يأتِ بهدف تحقيق عدم إيمان اليهود... كان التدبير الإلهي رائعًا... فقد استخدم خطية اليهود، ليدعُو الأمم إلى ملكوت الله بواسطة المسيح رغم كونهم غرباء عن عهود الموعد (أف 12:2)[137].

نقول نحن المسيحيين إن اليهود، بالرغم من سابق تمتعهم بعطف الله إذ كانوا محبوبين منه أكثر من غيرهم، إلا أن هذا التدبير والنعمة الإلهيين قد تحولا إلينا، عندما نقل يسوع السلطان العامل بين اليهود إلى مؤمني الأمم[138].

العلامة أوريجينوس

المتوكلون عليه سيدركون الحق،

والأمناء في المحبة سيقطنون معه،

لأن النعمة والرحمة لقديسيه،

وهو يرعى مختاريه. [9]

إذ ندرك أن نفوسنا في يد الله، لن نطلب أقل من أن نعرف الحق الإلهي.

"الحق" هنا يشير إلى المعرفة الحقيقية لله، والتمتع بالحكمة السماوية.

وإذ نعرف "الحق" الإلهي نمارس الحب كعطية روحه القدوس فينا. نسلك بأمانة فنتأهل للسكنى مع الله، ونختبر نعمته ورحمته.

v     بالسخاء ذاك الذي يعطينا أعظم كل العطايا، حياته ذاتها[139].

القديس إكليمنضس السكندري

v  (إذ صار إنسانًا) صرنا الآن قادرين أن نقتنيه، نقتنيه هكذا بالعظمة، وبذات طبيعته (من جهة الناسوت) التي كان عليها، إن كنا نعد له مكانًا لائقًا في نفوسنا.

v     المسيح الذي هو كل فضيلة، يأتي ويتكلم على أساس أن ملكوت الله في داخل تلاميذه وليس هو هنا وهناك[140].

العلامة أوريجينوس

أما الأشرار فسينالهم العقاب المُناسب لأفكارهم،

فهم الذين لم يُبالوا بالبار،

ونسوا الرب. [10]

مقابل نهاية الأبرار العظيمة نرى نهاية الأشرار المرة، حيث ينالون العقاب الأبدي لإصرارهم التام لعدم قبول عمل نعمة لله، ومقاومتهم للحق الإلهي، ورفضهم للوصية الإلهية. الأولون يتقدمون بثمر الحب في تواضع، والأخيرون يقدمون ثمر الكراهية والظلم والأنانية ورفضهم التام لحكمة الله، وسلوكهم في ضلال الشر. يقول القديس الأنبا أنطونيوس الكبير في الرسالة السادسة إن الشياطين بلا أجساد، لكننا إذ نقبل أفكارهم في داخلنا نتجاوب معهم، إنما نصير أشبه بأجسادٍ لهم. بهذا يحول عدو الخير أعماقنا إلي جحيم، ويحمل سلوكنا طبيعة عدو الخير.

v  ينبغي أن تعرفوا بأننا نصير أجسادًا لهم (الشياطين) حينما تقبل نفوسنا أفكارهم المظلمة الشريرة، وعندما يصيرون هم ظاهرين بواسطة جسدنا الذي نسكن فيه[141].

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

لم يرد القديس يوحنا الذهبي الفم أن يتحدث عن موضع جهنم سوى أنها "خارج هذا العالم[142]. لكنه تحدث في شيء من التفصيل عن لعناتها. ففي إحدى عظاته يقول عنها:

[إنها بحر من النار، ليس بحرًا من ذات النوع بالأبعاد التي نعرفها هنا، بل أعظم وأعنف، بأمواج نارية، نيران غريبة مرعبة. توجد هناك هوة عظيمة مملوءة لهيبًا مرعبًا. يمكن للإنسان أن يرى النار تخرج منها من كل جانب مثل حيوان مفترس...

هناك ليس من يقدر أن يقاوم، ليس من يقدر أن يهرب.

هناك لا ُيرى وجه المسيح الرقيق واهب السلام في أي موضع.

وكما أن الذين صدر عليهم الحكم بالعمل في المناجم هم أناس عنفاء، لا يرون بعد عائلاتهم، بل الذين يسخرونهم، هكذا يكون الأمر هناك، ولكن ليس بالأمر البسيط هكذا، بل ما هو أردأ بكثير. لأنه هنا يمكن أن يقدم الإنسان التماسًا للإمبراطور طالبًا الرحمة وقد ُيعفي عن السجين، أما هناك فلن يحدث هذا. إنهم لن يخرجوا بل يبقوا، يحتملون عذابات لا يُمكن التعبير عنها[143].]

مرة أخرى يقول إن النيران هناك لا تُفني الإنسان ولا تعطى نورًا بل تحرق على الدوام[144]. إذ تتحول الأجساد المقامة المُدانة إلى عدم الموت لهذا تبقى تعانى العذابات أبديًا[145].

بالرغم من كل هذه العذابات فإن العذاب الرئيسي للمُدانين هو حرمانهم من حضرة الرب وشركة القديسين في السماء[146].

درجات العذابات مختلفة في الجحيم، تعتمد على مدى خطايا الإنسان[147]، لكن الكل يسقط تحتها أبديًا[148].

يقول: [مستحيل أن تكون عذابات جهنم غير موجودة[149].]

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذه العذابات ليست لمجرد تحقيق العدل الإلهى، لكنها وضعت لحث البشرية على التوبة والامتناع عن الخطية[150].

[إن كان اللّه يهتم ألاّ نخطئ وإن ندخل في متاعب كهذه لتصحيحنا، فواضح أنه يعاقب الخطاة ويكلل الأبرار[151].]

يقول إنه يهدد بجهنم، حتى لا ُيلقى أحدًا في جهنم[152].

ماذا يعني بقوله: "العقاب المناسب لأفكارهم

لعله يجيب هنا على تساؤلات البعض: إن كان الله حبًا، فكيف يعاقب الناس الأشرار بنار جهنم الأبدية؟ أين هي محبة الله اللانهائية للبشر؟ هل يبقى الإنسان في عذابٍ أبديٍ مقابل خطايا أو شرور ارتكبها لفترة زمنية؟

الإجابة على هذه التساؤلات هي أن الله الكلي الحب، وهب الإنسان كمال الحرية، وهذه أعظم عطية، بدونها يفقد الإنسان أهم سمة رئيسية تميزه عن بقية المخلوقات الأرضية. خلال هذه الحرية يُعطى إمكانية للتغير المستمر بين قبوله الحياة مع الله أبديًا، أو اعتزال الله نهائيًا. فمن يختار الشركة مع الله بجديةٍ يعطيه الله سؤل قلبه، ومن يصر على رفض الشركة مع الله لا يُلزمه بها، بل يتمم له شهوة قلبه، فيتركه ينال ما قد اختاره.

يقدم البعض أمثلة لذلك:

لو أن أبًا بذل كل الجهد مع ابنه ليحيا في جدية، لكن الابن أصر على العصيان في استهتار وتحدٍ، فإنه متى بلغ سن النضوج بشخصية غير سوية، لا يقدر أن يلوم والده، إذ أضاع الفرص لإعداد نفسه ليكون ناضجًا.

لو قدمت النصائح لصبيٍ كي يكون جادًا في دراسته مع تحذيرات كثيرة، وقد صمم على الكسل واللعب، فإذ يبلغ السن الخاص بالدراسة يجد نفسه غير كفء لمهنة لائقة، وقد ضاعت عليه فرص الدراسة، وصار الجهل ملازمًا له!

إن حذرت الأم ابنها مرة ومرات من لمس أي شيء ساخن، وفي لحظات إذ تركته حاول أن يمسك قطعة حديد ملتهبة، فإنه لا يقدر أن يلوم والدته لأن النار أصابته، وقد يبقى إلى سنوات يعالج ما ارتكبه في ثوانٍ! وربما تبقى آثار ذلك في يده كل أيام حياته!

هنا أيضًا لا ينصب اللوم إلا على الأشرار أنفسهم، لأنهم يذوقون أبديًا ما اختاروه لأنفسهم. وماذا اختاروا؟

V      الاستخفاف بالبار [10].

V      نسيان الرب [10].

V      احتقار الحكمة والتأديب [11].

ثلاثة أمور خطيرة تحطم الأشرار تمامًا، الأمر الأول أنهم "لم يبالوا بالبار"، أي وجدوا لذة في ممارسة الظلم على البار، وبذلوا كل الجهد للخلاص منه بأي ثمن. وهم بهذا يحرمون أنفسهم من الشركة مع الأبرار والقديسين، يطلبون موضعًا آخر ليس في بار أو صديق. بهذا اختاروا جهنم وليس ملكوت الله!

أما الأمر الثاني فهو أنهم "نسوا الرب"؛ أي أعطوه القفا لا الوجه، فكيف يمكنهم أن يلتقوا به في ملكوته، أو كيف يسعدون باللقاء بمن يرفضونه بكل قلوبهم؟

والأمر الثالث هو احتقارهم للحكمة والتأديب، كما نرى في العبارة التالية:

فالذي يحتقر الحكمة والتأديب شقيّ:

باطل رجاؤهم وغير مفيدةٍ أتعابهم،

وغير مثمرةٍ أتعابهم، وغير نافعةٍ أعمالهم. [11]

إن كانت الحكمة هي تمتع بحكمة الله الأبدي، واقتناء البرّ الخالد، فإن من يرفض الحكمة، ولا يقبل خطة الله بالنسبة له، ويتذمر على التأديب، إنما يختار لنفسه الشقاء، ويفقد كل رجاء، ويصير كل تعبه بلا نفع ولا ثمر!

احتقار الحكمة والتأديب لا يقف أثره على توجيه حياة الإنسان هنا على الأرض، بل يمتد إلى الحياة الأبدية، التي هي في جوهرها قبول شركة المجد مع حكمة الله الأبدية.

من يرفض الحكمة هنا لا يطيقها هناك؛ ومن يظن أن سعادته في اللهو مع تذمره على تأديب الرب له هنا يفقد السعادة الأبدية.

نساؤهم غبيات،

وأولادهم أشرار،

وذريتهم ملعونة. [12]

"الغباوة" في الأسفار الحكمية ترتبط بالشر، فالغبي يعادل الشرير. يلتصق الأشرار بنساء غبيات أو شريرات، تنجبن أبناء وبنات يسلكون كوالديهم.

إن كان البار يطلب الحكمة عروسًا أبدية، يقترن بها، وينعم بعذوبتها وجمالها وخلودها، فإن الشرير يطلب الجهل قرينًا له، ويصير الموت رفيقه، يتحد به ويصير من حزبه.

أولاد الأبرار المقترنين بالحكمة هم ثمر الروح من محبة وفرح وسلام وصلاح ووداعة وتعفف الخ (غل 3: 23). أما أبناء الأشرار المقترنين بالجهل فهم البغضة والمرارة والتذمر والارتباك والكبرياء وكل رذيلة.

2. تحدِّي العقم

ولكن طوبى للعاقر التي بلا دنس،

والتي لم تعرف مضجعًا خاطئًا،

فإنه سيكون لها ثمر عند افتقاد النفوس. [13]

كان إنجاب الأبناء عند اليهود علامة مسرة الله بالإنسان، والعقم إشارة للعنة.

كانت كل سيدة في العهد القديم تترجى أن يأتي المسيا المخلص من نسلها، فإن كانت عاقرًا حسبها الناس غير مستحقة للبركة الإلهية. لكن الحكيم وقد انكشفت أمامه عظمة البتولية فضَّل الذين يحيون دون أولادٍ حسب الجسد مع تكريس قلوبهم وطاقاتهم لمحبة الله وخدمته على الأرض من أجل العرس السماوي عن الزواج مع إنجاب أطفالٍ.

ما يقوله عن البتول الفتاة يكرره بالنسبة للفتى، فالخصي الذي لا يستطيع الزواج وإنجاب البنين مع عدم كسره للوصية افل بممارسة الشرور يترقب المكافأة في السماء.

الإنسان البتول روحيًا هو من أحب الله من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل قدرته، فلم يعد للعالم أثر قط في أعماقه، بل تهيأت نفسه كعروسٍ بتولٍ لا تستريح إلاَّ في حضن عريسها السماوي.

v     الإنسان الذي ينظر نظرة روحية صافية من خلال أوهام هذه الحياة مرتفعًا فوق صراعها مقدرًا تفاهتها مبتعدًا بالكلية عنها بامتناعه عن الزواج. هذا الإنسان تصبح ليس له شركة بعد مع شرور البشرية كالحقد والحسد والغضب والكراهية وكل شيء من هذا القبيل، إنه مُعفى من هذا كله، ويستمتع بالحرية ويعيش في سلام. لا يوجد شيء يستثير حسد جاره، فهو لا يمتلك من حطام هذه الحياة ما يتجمع حوله حسد الآخرين.

لقد ارتفع بحياته الخاصة فوق هذا العالم وصارت الفضيلة مقتناه الثمين الوحيد. سوف يقضي أيامه في هدوء وسلام غير ممزوج بالمرارة، لأن الفضيلة ثروة يشترك في ملكيتها الجميع كل حسب قدرته، وهي متوفرة لكل الذين يعطشون إليها، علي عكس ملكية الأرض في هذا العالم التي يقسمها الناس أجزاء. وكلما أضاف أحدهم لنصيبه أرضًا جديدة قلَّ نصيب فرد آخر منها بالتالي. يربح الواحد علي حساب خسارة زميله، ومن هنا تنشأ المعارك. يريد الواحد أن يحصل علي نصيب الأسد، وبذلك يجلب لنفسه بغض الآخرين إذا خدعهم. ولكن الذي يقتني البتولية لا يحسده أحد أبدًا إن من يمتلك منها نصيب الأسد لا يسبب أي ضرر لمن يطالب لنفسه بنصيبٍ مماثلٍ. وطالما أن كلاً منهما يستطيع أن يحصل علي هذه الحياة، فكل منهما يمكنه أن ينال ما يتمناه لنفسه منها. إن ثروة الفضائل لا تنضب أبدًا[153].

v     أنا أعتبر أن البتولية هي المنهج العلمي في علم الحياة السمائية تزود الإنسان بالقوة ليتحد مع الطبائع الروحية[154].

v     تهدف البتولية إلي أن تخلق في النفس نسيانًا كاملاً للشهوات الطبيعية، إنها ستمنع عملية النزول باستمرار لتلبية الرغبات الجسمية. ومتى تحررت النفس مرة من مثل هذه الأمور لا تخاطر بالمباهج السمائية غير الدنسة لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به إن نقاء القلب الذي يسود الحياة هو وحده الذي يأسر النفس حينذاك.

الشهيد كبريانوس

وطوبى للخصيّ الذي لم تفعل يده إثمًا،

ولم يفكر أفكارًا شريرة على الرب!

فإنه سينال لأمانته عطية سامية،

ونصيبًا شهيًا في هيكل الرب. [14]

بعد أن تحدث عن بتولية الفتاة تحت تعبير "العاقر التي بلا دنس"، ليعلن أن الثمر الروحي الدائم ليس مجرد إنجاب أولاد حسب الجسد، وإنما إنجاب أبناء في الرب خلال الشهادة العملية للعرس الروحي بين النفس البشرية والله، الآن يتحدث عن بتولية الشاب تحت تعبير "الخصي الذي لم تفعل يده إثمًا". وقد قدم لنا السيد المسيح دعوة للبتولية بقوله: لأنه يوجد خصيان وُلدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله؛ من استطاع أن يقبل فليقبل (مت 19: 12). يميز السيد المسيح بين البتولية التي عن عجز طبيعي، والبتولية عن استعباد، كأن يُلزم السيد عبده بذلك، أو يُلزمها بعض الفلاسفة جبرًا حيث يجعلون بعض الخاضعين لهم في ضعفٍ جنسيٍ لأجل ممارسة عبادة وثنية. وأما الثالثة فهي التي يعنيها سفر الحكمة، أي البتولية من أجل ملكوت الله، يختارها الإنسان متى كان مدعوًّا لها، قادرًا على ممارستها روحيًا كما جسديًا.

البتولية ليست غاية في ذاتها، لكنها تحدي للطبيعة البشرية خلال نعمة الله الفائقة، حيث يقبل المؤمن أن يتحدى متطلبات الجسد، ليس إذلالاً له ولا تدنيسًا للزواج، حاشا! وإنما يمارسها الإنسان كإعلانٍ عن بيع كل شيء ليقتني شركته مع عريسه السماوي على أعلى مستوى. يقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن، فيكرس كل أفكاره لمجد الرب. يقول الحكيم: "فإنه سينال لأمانته عطية سامية، ونصيبًا شهيًا في هيكل الرب" [14]. هذا أيضًا ما أكده إشعياء النبي في أناشيده للكنيسة  البكر، ولكل عضوٍ يتمتع ببتولية القلب والفكر والنفس:

"ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد.

انشدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب.

اَوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك.

لا تُمسكي. أطيلي أطنابك، وشددي أوتارك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أممًا، ويعمر مدنًا خربة" (إش 54: 1-3).

"لا يقل الخصي: ها أنا شجرة يابسة، لأنه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي، ويختارون ما يسرني، وستمسكون بعهدي.

إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نُصبًا، واسمًا أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 3-5).

جاء في (إش 54: 1 الترجمة السبعينية) "اصرخي وافرحي أيتها التي لم تمخض". ويرى القديس كيرلس الكبير[155] وأيضًا ثيؤدورت أسقف قورش أنه كان من عادة القابلة أن تطلب من السيدة التي تجد صعوبة في الطلق للولادة وهي في ألم شديد أن تصرخ، ليساعدها ذلك في الولادة.

هنا نبوة عن كنيسة الأمم التي كانت وثنية بلا عريس، إذ قبلت السيد المسيح عريسًا لها تصرخ في جهادها، ولكن بروح الترنم والفرح، فتنجب أبناء كثيرين مقدسين للرب.

هكذا يليق بالبتول ألاّ يتوقف عن الجهاد بصرخات روحية قوية مع تهليل عظيم، فيلد أبناء كثيرين للرب، خلال شهادته الحية العملية.

v     "لا يقل الخصي: ها أنا شجرة يابسة" (إش56: 3). في هذه العبارة يحث الخصيان على الفضيلة، ويسحق عجرفة الذين يتكئون على كثرة الأبناء لنوال المجد.

ثيؤدورت أسقف قورش

v     وُعد الغنى (الروحي) للمؤمنين، وكما قيل لنا: "لم يوجد شخص واحد ضعيف بين القبائل" (راجع مز 128: 3). والآن يُقال حتى للخصيان: "لا تقل: ها أنا شجرة يابسة". فإنه عوض الأبناء والبنات لك موضع في السماء. الآن يطوِّب الفقراء... الآن يحسب الضعيف قويًا[156].

القديس جيروم

v     البتولية أقوى من الموت، وهذا الكيان يُسمى بحقٍ غير مائتٍ، لأنه لا يقدم خدمته إلى عالمٍ مائتٍ، ولا يتهالك كي يصبح وسيلة نسل مائت. في جسمٍ كهذا قد توقفت عوامل التلف والموت، الذي دخلت في الإنسان الأول[157].

v     البتولية ليست جهادًا ينتهي بإخضاع الجسد، لكنها تتسع في مداها حتى تشمل كل شيءٍ في النفس. إنها حالة الصحة الكاملة للنفس حتى يكون العريس الحقيقي نصيبها. لا تبتعد عن كل نجاسات الجسد فحسب، بل تجعل من هذا الزهد مجرد بدء لعملية نقاوتها على أوسع نطاق، فتحفظ ذاتها في أمانٍ من السقوط في أي ألمٍ من آلام النفس أثناء مسيرها[158].

القديس غريغوريوس النيسي

لأن ثمرة الأتعاب الصالحة مجيدة،

وأصل الحكمة لا يزول. [15]

إذ يقارن الحكيم بين ما يتمتع به الأبرار الذين نفوسهم في يد الله والأشرار محتقري الحكمة ومقاومي الحق والبرّ، الناسين الرب، يعلن أن ثمرة الأتعاب الصالحة مجيدة، وأن ما يناله الحكماء بركات أصيلة لن تزول، بل تصير إكليل مجدٍ له في السماء.

v     مجيدة هي ثمرة الأتعاب الصالحة، إن كان هذا يُحسب أهلاً للصراع من أجلها وأنها جزء من السعادة الحقيقية[159].

القديس غريغوريوس النزينزي

أما أولاد الزناة فلا يبلُغون كمالهم،

 وذرية المضجع الأثيم تنقرض. [16]

هنا يدعو الحكيم الجهلاء الأشرار زناة، لأنهم تركوا الحكمة العروس المحبوبة الجميلة والتصقوا بالشهوات الدنسة.

يرى العلامة أوريجينوس أن الزناة هنا هم الذين تنكب نفوسهم على شهوات الجسد وملذاته، وتترك ارتباطها بالروح، فتكون قد انحرفت عن عريسها الله بروح الزنا. مثل هذه النفوس تسمع القول المخزي: "جبهة امرأة زانية كانت لكِ، أبيتِ أن تخجلي" (إر 3: 3)[160].

v     يوجد زني بالجسد، وزني آخر للنفس حينما تقيم شركة مع الشيطان. فالنفس إما أن تكون شريكة وشقيقة للشيطان أو لله والملائكة. فإن كانت تزني مع الشيطان فلا تصلح للعريس السماوي[161].

القديس مقاريوس الكبير

ربما يقصد بأولاد الزناة هنا أعمالهم التي لن تدوم، بل تبيد ويهلك معها الزناة أنفسهم.

3. تحدِّي الموت المبكر

وحتى إن طالت حياتهم،

فإنهم يُحسبون كلا شيء،

وفي أواخرهم تكون شيخوختهم بلا كرامة. [17]

إذ يلتصق الأبرار بالبرّ الخالد، ففي حكمة سماوية يتمتعون لا بطول الحياة على الأرض، بل بالخلود السماوي. أما الأشرار الزناة، فإن حياتهم وإن طالت على الأرض وصاروا شيوخًا ولهم نسل وفير، فإن هذا كله يُحسب كل شيء، ويصيرون في يوم الرب بلا كرامة.

وإن ماتوا سريعًا فلا يكون لهم رجاء،

ولا تعزية في يوم الدين. [18]

إن طال زمن حياة الأشرار أو قصر، فالزمن يعبر حتمًا، ويقفون في يوم الرب العظيم في عذاب شديد بلا تعزية، إذ لا رجاء لهم.

لأن عاقبة الجيل الشرير شاقَّة. [19]

سرعان ما يعبر زمن الملذات والكرامات الزمنية، ويقف الشرير ومن تمثَّل بشره من أولاده في شقاوة، يطلبون الجبال أن تسقط عليهم والآكام أن تغطيهم.

 


 

من وحي حك 3

في يدك أتمتع بروح القوة، فأسمو فوق الألم

وأتمتع بأمجادك

 

v     نفسي في يدك يا أيها القدير.

تتهلل بك، يا من أنت تحفظها.

وسط الضيقات أتحدى الألم بك،

ولا أخشى المتاعب!

لأني مستقر في يديك.

هنا في وسط وادي الدموع تستريح نفسي بك،

وهناك في الأبدية لا يشغلني أحد سواك.

 

v     أي مرعى أشهى من يدك، يا خالق الكل.

في يدك ألمس قدرتك، فأستطيع بك كل شيء.

في يدك أغوص كما في محيط حبك اللانهائي.

 

v     أي ألم أخشاه، وأنا في يدك المجروحة لأجلي!

كيف أخشى الفقر أو المرض أو الظلم أو حتى الموت،

وأنا في يد واهب القيامة؟

في يدك يلذ لي الصليب، وأختبر قوة قيامتك.

 

v     في يدك أتحول إلى كوكبٍ منيرٍ،

ليس لي، ليس لي،

إنما هو انعكاس بهاء مجدك عليّ.

في يدك أحيا بروح القوة،

فليس للظلمة سلطان عليّ.

 

v     إني أعجب يا أيها الخالق كيف تهتم بي.

أنا في يدك، ماذا أطلب بعد.

لن أطلب أقل من أن أعرفك، يا أيها الحق،

لن انشغل إلا بحبك الذي يهبني الأمانة في الحب.

ترعاني بنعمتك حسب غنى نعمتك.

تحملني بيديك، وكأنني أثمن ما لديك.

مشغول بي يا من السماء والأرض لا تسعانك!

 

v     ما لي أرى الأغبياء لا يرون يدك،

يظنونني وحدي، تحلّ بي الآلام من كل جانبٍ.

يحسبونني بائسًا وشقيًا.

ليتهم يذوقون معي عذوبتك،

ويختبرون بهجة العشرة معك.

 

v     في غباوة لا يدركون شقاءهم وحرمانهم وفراغهم.

حقًا أن نار تأديبك تحرقهم كالقش،

لكنها تنقى الذهب المُقدس لك.

تأديباتك تحوَّل أبرارك إلى كواكبٍ بهيةٍ وسط ظلمة هذا العالم.

 

v     شتان ما بين الذين في يدك والذين خارجها.

الذين في يدك لهم سلطان،

والذين في الخارج ينهارون.

الأولون يقدمون ثمارًا تبقى معهم إلى الأبد،

والآخرون يطلبون طول الحياة وكثرة الأبناء والأحفاد،

لكنهم يثمرون لعنة ومرارة.

الأولون يشتهون بتولية النفس زينة صادقة،

والآخرون ينشغلون بالنسل الجسدي ويعلمونهم الشر.

 

v     يرى الأشرار في الموت عقوبة و دماراً،

وأنا أجده انطلاقة للاستقرار في أحضانك.

رحيلي من العالم هبة ومتعة.

 

v     ذقت سلامك العجيب وأنا في العالم،

كم يكون هذا السلام في العالم الآتي.

نفسي مشتاقة أن تتمتع بشركة أمجادك.

 

v     يشمت الأشرار بموتي، ويحسبونه عقوبة،

أما أنا فأفرح به، إذ طال انتظاري للقاء معك!

رأيتك بالإيمان في قلبي،

لأراك في الفردوس وجهاً لوجهٍ.

 

v     سمحت لي بضيقات، فصرت كما في آتون نار.

لكن ماذا تفعل النار بالذهب؟

تحرق الشوائب وتعطي بريقاً رائعاً لنفسي!

 

v     نار التجارب تهيئني لكي أتلألأ بانعكاس بهائك عليَ.

تهبني وسط الضيق قوة و سلطاناً.

أصير كملكٍ، أسيطر بنعمتك على أفكاري.

وأصير بكليتي مملكة لك!

ترعاني وتهتم حتى بعدد شعر رأسي.

نعمتك لا تفارقني ورحمتك تغمرني.

 

v     لست أطلب من العالم شيئاً!

ليكن قلبي مكرساً بالتمام لك!

اقبلني كعروسٍ تدخل بي إلى حجالك!

 

v     أخيرًا ليس لي ما أطلبه،

سوى أن استقر في يدك هنا وفي الدهر الآتي.

 

<<


 

الأصحاح الرابع

بين مصيري الأبرار والأشرار

أشار الحكيم في الأصحاح السابق إلى مجد البتولية بطريقة غير مباشرة خلال الحديث عن العاقر والخِصي، أما هنا فيتكلم عنها في صراحة، ويمجدها عن الزواج. حسب الحكمة البشرية الزواج أفضل حيث إنجاب الأبناء، وتخليد الذكرى لأجيالٍ طويلةٍ. أما البتولية فتخلد الذكرى على مستوى سماوي.

هنا يربط الحكيم البتولية بالفضيلة، فبتولية الجسد دون بتولية الروح وتكريس النفس لعريسها السماوي تُحسب كلا شيء.

1. ذكرى الأبرار وذكرى الشرير1-6.

2. كرامة الإنسان بقداسته لا بعمره7-20.

1. ذكرى الأبرار وذكرى الشرير

خلق الله الإنسان ليعيش خالدًا لا يمسه الموت، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، واختار الإنسان بكامل إرادته أن يقيم عهدًا مع الموت، لا مع الله واهب الحياة. الآن إذ شعر الإنسان بفقدانه للخلود تثور في أعماقه مشاعر قوية، ورغبة عارمة نحو تخليد ذكراه. استخدمت البشرية كل وسيلة لتحقيق هذا الهدف مثل إقامة أقواس النصر الفخمة، أو النحت على المعابد، أو إقامة تماثيل ثمينة، وفوق هذا كله صار الإنسان يتطلع إلى ذريته أنها خير ما يحقق دوام ذكراه. من هنا صار عدم الإنجاب - في أذهان الكثيرين - علامة لعنة وغضب الله على الإنسان. هذا بجانب ما كان ينتظره كل يهودي أن يأتي المسيا المخلص من نسله، فإن حُرم من النسل انقطع عنه هذا الرجاء.

خير الحرمان من الأولاد، والحصول على الفضيلة،

فإن في ذكرها خلودًا،

لأنها معروفة عند الله والناس. [1]

هنا يقارن الحكيم بين شرير له أبناء وأحفاد كثيرون يعتز بهم، ويظن أنهم يخّلدون ذكراه، وبين بارٍ ليس له نسل، لكنه وضع قلبه في الحياة المقدسة في الرب بكونها مقتنياته الحقيقية وموضوع خلوده في السماء.

ذرية الأشرار تشبه ثمارًا لا تدوم، حتى إن عاشوا إلى الشيخوخة يحيون حياة مخزية، أو يموتون صغار السن دون رجاء في الخلود (3: 16-19). فالأفضل أن يهتم البار بالثمار الروحية، أي بالفضيلة، بكونها نسله الروحي، ورصيده الدائم في السماء. إذ هي مكرمة وجزاؤها الخلود المطوّب. هذا ما دفع البعض إلى حياة البتولية لتكريس كل طاقاتهم للرب.

v     كيف تستطيع النفس الغارفة في ملذات الجسد والمنشغلة بالاشتياقات الإنسانية فقط أن توجه نظرها إلي النور العقلي، خالية من المشاغل؟... إن عيني الخنزير اللتين تنظران دائمًا إلي أسفل لا تستطيعان رؤية عجائب السماء. وهكذا أيضًا النفس التي يدفعها الجسد إلي أسفل، لا تستطيع أن ترفع بصرها لترى الجمال العلوي، بل تتجه إلي الأشياء الوضيعة الحيوانية.

النفس التي تريد أن تكرس نظرها للتمتع بالمباهج السماوية، تلقي بما هو أرضي وراء ظهرها، ولا تشترك فيما يورطها بالحياة الدنيوية. إنها تحيل كل قوى الحب فيها من الأمور المادية إلي التأملات العقلية في الجمال اللامادي. إن بتولية الجسد تفيد في تحقيق اتجاهات مثل هذه النفس.

تهدف البتولية إلي خلق نسيانٍ كاملٍ للشهوات الطبيعية في النفس، فتمنع عملية النزول المستمر لتلبية الرغبات الجسمية. ومتى تحررت النفس من مثل هذه الأمور لا تخاطر بالمباهج السماوية غير الدنسة لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به... إن نقاء القلب الذي يسود الحياة هو وحده الذي يأسر النفس حينذاك[162].

الشهيد كبريانوس

ارتبطت البتولية في ذهن القديس غريغوريوس النيسي بالحياة السماوية، تسند الإنسان لممارسة بتولية النفس والقلب والذهن والحواس والرغبات، ينعم بها المؤمنون بالروح القدس واهب الشركة مع الآب السماوي، مقدس نفوسنا وأرواحنا وأجسادنا.

v     البتولية هي باب ضروري لحياة القداسة...

هي القناة الذي تجتذب اللاهوت للشركة مع الإنسان.

إنها تقدم جناحين يسندان رغبة الإنسان في الانطلاق نحو السماويات.

هي رباط الوحدة بين ما هو إلهي وما هو بشري، بواسطتها يتم التوافق بعد حدوث هوَّة عظيمة بينهما[163].

v     لقد تبرهن أن اتحاد النفس مع اللاهوت غير الفاسد لا يمكن أن يتحقق بطريق آخر مثل دخول الإنسان في هذه النقاوة العظمى. بهذا يتشبه الإنسان بالله لينال البتولية العاكسة لنقاوة الله كما في مرآة، فتمتزج صورته بالجمال خلال تلاقيه بالجمال الأمثل وتأمله فيه[164].

القديس غريغوريوس النيسي

v     لا تكرم البتوليّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله[165].

القديس أغسطينوس

إذا حضرَت يُقتدى بها،

وإذا غابت يُؤسف عليها،

وفي الأبدية تُستقبل استقبال الظافر مُكللة أبديًا،

وبعد انتصارها في مباراةٍ،

لا تشوب صراعاتها شائبة. [2]

يا له من تصوير رائع للإنسان المقدس للرب، خاصة البتول الذي باع كل شيء حتى ما هو من حقه حسب الطبيعة ليقتني الاتحاد مع الله.

الإنسان الفاضل في الرب موضع إعجاب الناس في هذا العالم حتى إن قاوموه، وموضع دهشة في السماء، حيث يدخل الأبدية كملكٍ ظافرٍ انتصر في معركته ضد إبليس وملائكته بالمسيح يسوع العامل فيه.

بقوله: "إذا حضرت يقتدي الناس بها" يكشف الحكيم أن موضوع إعجاب الناس ليس الإنسان البار في ذاته، لكن الفضيلة التي تحضر معه وتتقدمه، فيشتهي كثيرون أن يقتنوها، يرونها متجلية في البار، فيقتدون به ليتمتعوا بها.

وبقوله: "وإذا غابت يشتهونها"، يشير الحكيم إلى فاعلية الفضيلة أو القداسة، فإنه حتى إن لم يروا البار بعد، ففي غيابه عنهم يشعرون كأن الفضيلة ذاتها غابت عنهم فيشتهوها. وربما يقصد هنا أن الأشرار يقارنون بين حضور الفضيلة في البار وغيابها منهم، فيشتهوها ويطلبون أن يقتنوها.

لما كانت الفضيلة في حقيقتها هي "شخص السيد المسيح" كما يقول العلامة أوريجينوس، فإنه في يوم الرب العظيم يستقبل السمائيون الكنيسة المقدسة، المنتصرة على الشر، فيرون مسيحها متجليًا فيها، حاسبين نصرتها هي نصرة المسيح. ويعتبرون إكليلها كأنه إكليل للسيد المسيح!

بمعنى آخر حياتنا على الأرض أرض معركة، طرفاها السيد المسيح وإبليس، هو يسمح لنا بالمعركة الروحية، وهو الذي يهبنا قوة الجهاد، وهو الذي ينتصر فينا، وهو الذي يُقدم لنا الإكليل، وهو الذي يُكلل فينا!

v     أن تنشد المسيح, هو مثل أن تنشد الكلمة والحكمة والعدل والحق والقدرة الكلية لله. فالمسيح هو كل هذه[166].

v     كما أن المخلِّص هو "البِّر" والحق والقداسة في واحدٍ, فهو أيضا "الثبات" (إرميا 17: 3 LXX). فمن غير الممكن أن تصير بارًا أو مقدسًا بدون المسيح. كما أنه من المستحيل أن "تثبت" بغيره, فهو "ثبات إسرائيل"[167].

v     أنت هو البِّر, وقد تبعناك بصفتك البِّر, وأيضًا بصفتك القداسة والحكمة والسلام والحق والطريق المؤدي إلى الله, الحياة الحقيقية[168].

العلامة أوريجينوس

أما ذرِّية الأشرار الغفيرة فإنها لا تزهو،

وهي نسل نغول،

فلا تمدُّ جُذورًا عميقة،

ولا تقوم على ساقٍ راسخةٍ. [3]

بعد أن صوَّر لنا مصير الأبرار، وأن ذكراهم وإن دامت على الأرض، لكن ما هو أعظم أنها تبقى خالدة في السماء، يصيرون بالحق ملوكًا متوَّجين أبديًا، الآن يحدثنا عن مصير الأشرار.

كثيرًا ما يفتخر الأشرار بإنجابهم كثرة من الأبناء الشرعيين، وكأنهم قد حققوا النجاح في كل شيءٍ، حتى في إنجاب من يخلدون ذكراهم. لكن إذ لم يقبل الأشرار الله أبًا لهم والكنيسة أُمًا لهم يصير أبناؤهم نغول، أي أبناء غير شرعيين. يورثونهم الأمور الزمنية الفانية، ولا يقدمون لهم جذور الإيمان الحي، فلا يتمتعوا بالميلاد الجديد، الذي يقدم ساقًا راسخة وثمارًا روحية فائقة. لهذا كثيرًا ما يسلك أولاد الأشرار في الشر مثل آبائهم، وأحيانًا يزدادون عنهم في الشر. لكننا لا ننكر أن بعض الأبناء أخذوا من والديهم درسًا، وأصروا على الحياة مع الله.

وإن أخرجت فروعًا إلى حين،

فإنها لعدم رسوخها،

تزعزعها الريح،

وتقتلعها قوة الزوبعة. [4]

يفرح الأشرار إذ يرون أبناءهم وكأنهم فروع ثابتة في الشجرة، ولكن مادام الأصل نفسه غير ثابتٍ، ماذا نتوقع للفروع سوى أن تقتلها الزوابع، لذلك يقول: "إلى حين".

يشبَّه الحكيم الأشرار بالجذور التي بلا عمق في الأرض، فلا تجد غذاءً روحيًا ينعشها، لذا غالبًا ما يتشرب الأبناء أو الفروع الشر عن والديهم، فيصيروا كفروعٍ تزعزعها الرياح، وتقتلعها العواصف قبل أوان الثمر. إن أثمرت فهي لا تأتي بثمر صالح للأكل.

هكذا يحذر الحكيم الأشرار ليس فقط من الاعتماد على كثرة المال والسلطة بل وحتى على كثرة الأبناء، فإن هذه جميعها بلا نفع ما داموا ليسوا في شركة مع الله.

"الابن الجاهل غم لأبيه، ومرارة للتي ولدته" (أم 17: 25).

"الابن الجاهل مصيبة على أبيه" (أم 19: 13).

"أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي" (خر 20: 5).

"حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكنه لن يبرئ إبراء مفتقد إثم الآباء في الأبناء وفي أبناء الأبناء في الجيل الثالث والرابع" (خر 34: 7).

"الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة، لكنه لا يبرئ، بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع" (عد 14: 18).

"لا تسجد لهن و لا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك، إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث و الرابع من الذين يبغضونني" (تث 5: 9).

أقوال الرب هنا لا تعني أن الله ينتقم لنفسه في الأبناء عما فعله آباؤهم. لكنه يريد أن يؤكد طول أناته، فإنه يترك الأشرار للتوبة سنة فأخرى، وجيلاً فآخر، وإذ يصمم الإنسان على عمل الشر يؤدب في الجيل الثالث أو الرابع، ليس من أجل خطايا آبائهم، لكن من أجل إصرار الأبناء على السلوك الشرير بمنهج آبائهم.

فتنقصفُ فُروعها الصغيرة قبل نموِّها،

ويكون ثمرها غير نافع،

وغير ناضجٍ للأكل،

ولا يصلح لشيءٍ. [5]

يترقب الأشرار نمو أبنائهم، إذ هذا هو رجاؤهم، لكن كثيرًا ما يفسد هؤلاء الأبناء ويصيرون عبئًا على والديهم، لا يرون فيهم الثمر المطلوب، أي تحقيق خلود ذكراهم؛ حتى وإن نجحوا في ممارسة بعض أعمالهم، فإن هذا الثمر غير نافع ولا يصلح للأكل ولا لشيء آخر. هذا هو ثمر الشر في حياة الأشرار، كما في حياة أبنائهم، إن سلكوا في طريق آبائهم الشرير.

v     يليق بنا أن نتذكر أنه في العالم العتيد لا يتطهر أحد من أقل أخطائه ما لم يكن يتأهل ذلك بالتطهير خلال أعماله الصالحة (النابعة عن الإيمان) التي مارسها في هذه الحياة[169].

البابا غريغوريوس (الكبير)

فإن المولودين من النوم الأثيم يشهدون

عند التحقيق بشرِّ والديهم. [6]

الأبرار حتى في علاقاتهم بزوجاتهم يحكمهم قانون العفة والطهارة، فتكون العلاقة الجسدية تعبيرًا عن الحب الطاهر النقي، والاحترام المتبادل بينهما. أما الأشرار فحتى في علاقاتهم بزوجاتهم الشرعيات يحكمهم قانون الشهوة العنيفة، وما يشغل كلاً من الزوجين هو إشباع رغبات جسدية بحتة، لهذا كثيرًا ما يتأثر الأبناء الذين هم ثمرة هذه الشهوات بشر آبائهم.

2. كرامة الإنسان بقداسته لا بعمره

يُلاحظ أن بعض الأبرار يموتون في سنٍ مبكرٍ. هنا يعطينا الله طمأنينة أنهم يتركون عالم التعب، أو وادي الدموع، ليعبروا إلى الراحة الأبدية حيث يستقرون في حضن الآب.

بهذا فإن الشيخوخة المكرَّمة ليست في كثرة السنوات، بل في ممارسة البرّ والتمتع بالحياة مع الله. فبعض الشباب من جهة السن لهم حكمة الشيوخ ووقارهم التي اكتسبوها من الله، كما أن بعض الشيوخ مع طول أعمارهم يسلكون في غباوة.

من يحب الله يتمتع بالحكمة الإلهية وينال السعادة الحقيقية، حتى في موته ينال سعادة أفضل، لا يُعبر عنها.

من يتكل على الله يهبه تحقيق حياة كاملة تفوق عمره، ويتأهل لأمجاد سماوية، بمعنى آخر يحقق في سنوات قليلة أكثر مما يحققه غيره في سنوات طويلة، ويُقال عنهم بحقٍ "مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة" (أف 5: 16).

أما البار، فإنه وإن تَعجَّله الموت،

يستقرُّ في الراحة. [7]

سبق فوعد الله الأبرار بالشيخوخة الصالحة، وهدد الأشرار بالموت المبكر الشرير. وكان يليق بالمؤمنين أن يدركوا هذا الوعد وذاك التحذير روحيًا. فالبار وإن عاش يومًا واحدًا فيُحسب عند الرب كألف سنة، والشرير وإن عاش ألف سنة تكون في عين الرب كيومٍ واحدٍ بلا ثمر.

هنا لأول مرة في العهد القديم يعالج مشكلة موت أبرارٍ صغار السن، لأنه منطلق من وادي الدموع إلى الراحة مع الله. فإنه وإن مات صغير السن لكنه يُحسب كشيخٍ وقورٍ حكيمٍ مكرم بالفضائل المقدسة.

كتب القديس جيروم رسالة إلى صديقه القديم هيليودورس Heliodorus أسقف Alrirum لفقدانه ابن أخته الكاهن الصغير السن نيبوتيان Nepotian جاء فيها:

v     يا ليسوع الصالح! كيف كان يئن ويتنهد! كيف أسرع وهرب من عيون الكل! فإنه للمرة الأولى والوحيدة غضب مع خاله مشتكيًا من ثقل المسئولية الملقاة عليه، الثقيلة جدًا، وأن صغر سنه لا يتناسب مع الكهنوت. ولكن قدر ما قاوم هذا بالأكثر التصق بقلوب الجميع. رفضه للكهنوت لم يجعل منه إلا أن يكون مستحقًا للعمل الذي رفض أن يحمل مسئوليته. صار بالأكثر مستحقًا إذ أعلن عن شعوره بعدم الاستحقاق. نحن أيضًا في أيامنا تيموثاوسنا (أي أشبه بتيموثاوس الشاب تلميذ الرسول بولس وقد سيم أسقفًا)، وأيضًا رأينا فيه الحكمة الصالحة كالشعب الأشيب[170].

القديس جيروم

لقد أعطى الكاتب ضوءً على ذلك من خلال قصة أخنوخ الذي أرضى الرب فنقله (تك 5: 21-24).

لم يخشَ المؤمنون الموت حتى إن جاء متعجلاً، أو تمّ بأية صورة. لم يهز الموت إيمان المسيحيين، إذ يقول المدافع تاتيان Tatian:

[وإن دمّرت النيران جسدي...

وإن بُعثر بين الأنهار والبحار،

ومزقته الوحوش الكاسرة إلى قطع،

فإنني أُجمع في مخازن الله الغنية...

وعندما يريد الله الملك سيعيد كياني المنظور بالنسبة له وحده إلى حالته الأصلية[171].]

v     إن موت الأبرار صار رقادًا، بل صار هو الحياة.

 القديس باسيليوس الكبير

v     كثيرون من شعبنا يموتون بهذا الموت (الجسدي)، فيتحرروا من هذا العالم. هذا الموت الذي يحسبه (أهل العالم) كارثة، يراه عبيد الله رحيلاً إلى الخلاص.

يموت الأبرار كالأشرار بلا تفرقة... .لكن الأبرار يُدعون إلى الراحة، والأشرار إلى العقاب.

سلام عظيم يوهب للمؤمنين، وعقاب لغير المؤمنين[172].

v     من جهة الراحة، ماذا نجد في العالم سوى حرب دائمة مع الشيطان، وصراع في معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم.

ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم في كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر علي حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد انسجامه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته.

هكذا تعاني الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه، ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تُضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيرًا هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلاً:لاً "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلي فرح" (يو20:16).

من منّا لا يرغب في أن يكون بلا حزن؟!

من منّا لا يتوق إلى الإسراع لنوال الفرح؟!

لقد أعلن الرب نفسه أيضًا عن وقت تحويل حزننا إلي فرح بقوله: "ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 20:16). مادام فرحنا يكمن في رؤية المسيح... فأي عمى يُصيب فكرنا، وأيسخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذي لا ينزع عنا؟![173]

الشهيد كبريانوس

لأن الشيخوخة المكرَّمة لا تقوم على طول الزمن،

ولا تُقاس بعدد السنين. [8]

يشمت الأشرار في الأبرار الذين يموتون صغار السن، فيحسبونهم أنهم لم يتمتعون بملذات الحياة، وفي نفس الوقت لم ينالوا كرامة الشيوخ.

يحسبون أن كرامة الشيخ في شعره الأبيض وطول سنواته وخبراته، غير أن الكرامة لا تُقاس بعمر الإنسان، ولا بمجرد خبراته، فقد تكون خبراته شريرة ويتمسك بها، حاسبًا إياها الحكمة بعينها.

v     الشيخ هو من يسبق أولاً ويسمع عن العمل.

الشيخ هو من يحيا عمرًا عظيمًا في الإيمان.

الشيخ هو من يكون عمره موضع تقدير، وزمانه الطويل بلا غضن[174].

القديس أمبروسيوس

ولكن الحكمة هي شباب الإنسان،

وسن الشيخوخة هي الحياة المنزَّهة عن العيب. [9]

يشير الكتاب المقدس إلى شباب الإنسان كعلامة للقوة والحيوية، فيقول: "يتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). فالمؤمن لا يشيخ روحيًا، أي لا يلحق به الضعف والعجز. كما يشير أحيانًا إلى الشيخوخة بكونها علامة الحكمة والاتزان في التصرف، فالمؤمن يحمل روح الشباب في العمل، وروح الشيوخ في أخذ قراراته.

هنا يعلن الحكيم أننا لكي نحمل هذا الروح نتطلع إلى الحكمة بكونها قائدة لنا في عملنا، فنعمل بقوةٍ، ولكن ليس بطيشٍ، ونتطلع إلى الحياة المنزهة عن العيب بكونها سندًا لنا في أخذ قراراتنا الحكيمة؛ إذ لا انفصال بين الحكمة والبرّ.

يقدم لنا القديس بالاديوس صورة رائعة لعدم اتكال القادة الروحيين على شيخوختهم، فقال عن الشيخ العظيم مقاريوس السكندري: [انتهزتُ فرصةً في أحد الأيام، وجلستُ عند باب الشيخ الذي كان حينئذٍ قد تقدّم جدًا في أيامه إذ بلغ المائة عام. وكنتُ أتصور أنه أكبر سنًّا من جميع الناس وأكثرهم قداسةً، وكان قد فقد أسنانه كلها. كان بمفرده إلاّ أنني ظللتُ أُنصتُ، فسمعته يتكلم ويتحرك إذ كان يصارع مع نفسه ومع الشيطان. فكان يقول لنفسه: ’ماذا تريد أيها العجوز الشرير؟ لقد صار لك زيتٌ وخمرٌ فماذا تريد أيضًا أيها العجوز الأشيب الشَّرِه؟‘ هكذا كان ينتهر ذاته. ثم يقول للشيطان أيضًا: ’هل أنا لا زلتُ مدينًا لك بشيء؟ إنك لن تجد فيَّ شيئًا يخصك! ابعد عني‘. وكما لو كان يُهمهِم ما انفكّ يقول لنفسه: ’تعال أيها الأشيب العجوز الشهواني أيها الفرس الخائن، إلى متى أبقى معك‘؟[175]]

v     كما أن ليس كل الشباب متشابهين من جهة غيرتهم في الروح أو متساوين في تعلمهم التعاليم والآداب القويمة، كذلك أيضًا ليس كل الشيوخ متشابهين في الكمال والفضيلة.

 فالغنى (الروحي) الحقيقي لا يقاس بشيبة الرأس، بل بالجهاد منذ الصغر وحسب أكاليل أعمالهم السابقة...

لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام، ولا تقدر بعدد السنين. "ولكن شيب الإنسان هو الفطنة، وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب" (حك 9:4)...

على ذلك فليس لنا أن نقتدي بأي شيخ غطى الشيب رأسه... بل نتبع آثار أولئك الذين امتازوا منذ صباهم بالحياة اللائقة المستحقة كل ثناء، الذين تدرّبوا حسب تقاليد الآباء، وليس حسب ذواتهم.

عبر البعض إلى الشيخوخة بالفتور والكسل، هؤلاء يوبخهم الله بالنبي قائلاً: "أكَلَ الغرباء ثروته وهو لا يعرف، وقد رُشَّ على الشيب، وهو لا يعرف" (هو 7: 9)... هؤلاء يستخدم الشيطان شيبتهم لخداع الشبان، عن طريق مظهر وقارهم الخاطئ، خادعًا من كان يلزم أن يجتهدوا في طريق الكمال بواسطة نصائحهم... مسقطًا إياهم (الشبان) في عدم الاكتراث أو اليأس المميت، وذلك عن طريق تعاليم أمثال هؤلاء الشيوخ وأعمالهم[176].

الأب موسى

أصبح مرضيًا عند الله، فكان محبوبًا،

وإذ كان يعيش بين الخاطئين، نُقِل [10]

يتحدث هنا عن أخنوخ الذي كان بارًا، فأحبه الرب، ونقله من بين الخاطئين. ويقول الكتاب: "من وجه الشر يُضم الصديق" (إش 57: 1).

يقول عنه ابن سيراخ:

"لم يُخلق على الأرض أحد مثل أخنوخ، الذي نُقل عن الأرض" (سيراخ 49: 16).

"أخنوخ أرضى الرب فنُقل، وسينادي الأجيال إلى التوبة" (سيراخ 44: 16).

v     صالحة هي أجنحة الحب، الأجنحة الحقيقية التي ترفرف على أفواه الرسل؛ أجنحة النار التي تنطق بالكلام النقي (أع 2: 2-3). على تلك الأجنحة طار أخنوخ حين أُختطف إلى السماء (تك 5: 24) [177].

v     طلب أخنوخ الله في رجاءٍ، ومن ثم يُظن أنه قد نُقل، هكذا يبدو الإنسان "إنسانًا" فقط حين يضع رجاءه في الله. أيضًا المفهوم الواضح والحقيقي للنص (تك 5: 18-24) هو أن من يضع رجاءه في الله، لا يسكن على الأرض، بل يُنتقل، ومن ثم يلتصق بالله[178].

القديس أمبروسيوس

v     يظهر هذا الحدث (نقل أخنوخ) أن إنسانًا واحدًا بارًا أكثر معزَّة لدى الله من خطاةٍ كثيرين[179].

القديس أغسطينوس

نعم، خُطِفَ لكي لا يُفسد الشر فهمه،

ولا يُغويَ الغش نفسه. [11]

كثيرًا ما يسمح الله بموت شخصٍ في سنٍ مبكرة، لأن الله يحبه ويراه قد نضج روحيًا وتأهل للإكليل. وأيضًا إذ يرى الشر يتفاقم حوله، يختطفه حتى لا يُفسد الشر أفكاره ومفاهيمه. وإذ يحاصره الغاشون المخادعون، لا يتركه حتى لا يتسلل الخداع إليه. ما يشغل قلب الله لا مدة حياة الإنسان على الأرض، بل استعداده للمجد الأبدي.

يرى بعض الآباء أن بقتل هابيل تحطمت نفسية آدم لذلك أراد الله أن يعزيه فسمح له أن يرى أخنوخ البار يُنقل من الأرض إلى السماء كإنسانٍ محبوب لدى الله، وعزيز لديه جدًا.

v     يقول البعض إنه بينما كان آدم يتطلع (إلى أخنوخ) نقله الله إلى الفردوس، لئلا يظن آدم أن أخنوخ قد قُتل مثل هابيل فيحزن عليه. حدث هذا أيضًا لكي ما يتعزى آدم بابنه البار هذا، ويدرك أن كل من يتمثلون به، سواء قبل الموت أو بعد القيامة، فسيكون لقاؤهم في الفردوس[180].

القديس مار أفرآم السرياني

v     تخص هذه العبارة الذين بعد أن تعمدوا، ونموا في الحياة التقوية لم يُسمح لهم بالبقاء زمانًا طويلاً على الأرض – إذ صاروا كاملين ليس خلال طول السنوات، وإنما خلال نعمة الحكمة السماوية[181].

القديس أغسطينوس

v     هذا كان مسرًا في عينيّ الله أن أخنوخ قد تأهل أن ينطلق من سُم هذا العالم. لكن يعلمنا الروح القدس أيضًا خلال سليمان أن الذين يسرون الله يؤخذون من هنا في سن مبكر، ويتحررون سريعًا، لئلا خلال بقائهم لزمنٍ طويلٍ في هذا العالم يفسدون بواسطة التعامل مع العالم[182].

الشهيد كبريانوس

v     إن كان لا يحزن أحد على أخنوخ الذي انتقل (تك 5: 24) حينما كان العالم في سلامٍ، ولم تكن الحروب قد اشتعلت، وإنما بالحري يهنئه، كما يقول الكتاب عنه: "خُطف لكي لا يُفسد الشر فهمه" (حك 4: 11)، فكم بالأكثر يمكن أن يُقال هذا بأكثر تبرير حيث كثرت مخاطر العالم للحياة غير المستقرة؟

لقد خُطف لكي لا يسقط في أيدي البرابرة، لقد أُخذ لكي لا يرى دمار الأرض كلها، ونهاية العالم، ودفن أقربائه، وموت زملائه المواطنين، وفوق كل هذا وأكثرهم مرارة من أي موت، لئلا يرى العذارى والأرامل القديسات يُفسدن[183].

القديس أمبروسيوس

لأن سحر الباطل يغشِّي الخير،

وتجوال الشهوة يفسد العقل البسيط. [12]

يقدم لنا الرسول بولس تحذير لكي يكون لنا روح التمييز فلا ندخل في خلطه مع الأشرار، ولا نسكن معهم تحت سقف واحد، لكن نحبهم ونخدمهم ونطلب خلاصهم بالصلاة والصوم، دون أن نسقط في إدانتهم.

يعلم الله خطورة الشر والفساد، وكيف يتعرض بعض الأشخاص للسلوك في الشر خلال احتكاكهم بالأشرار. وكما يقول الرسول: "لا تضلوا فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 15: 33). فالشر كالسحر يحاول أن يفسد الخير، ويسيطر على العقول البسيطة.

قدم لنا القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه: "ضد الوثنيين" عرضًا عن الشهادة العملية من خلال حياة الآلهة عن الفساد والشهوات والخسة التي اتسمت بها، وقد ذكر أمثلة كثيرة لذلك[184].

v     إننا نرى أناسًا هادئين ووقورين عندما دخلوا في صداقة مع شعبٍ مشاغبٍ ومعيب، فسدت أخلاقهم الصالحة خلال المناقشات الشريرة. يتحولون إلى أناسٍ من ذات نوعية المنحدرين بكل نوعٍ. هذا يحدث أحيانًا مع أناسٍ ناضجين، برهنوا على أنهم عاشوا في شبابهم في أكثر طهارة من حياتهم وهم في سنٍ متقدمة حيث حانت لهم الفرصة لحياة متسيبة[185].

v     أبذل كل الجهد أن تعتزل الشخص الشرير، فإنه ما أن يرحل عنك حتى يسكن المسيح فيك[186].

العلامة أوريجينوس

بلغ الكمال في زمن قليل،

استوفى زمانًا طويلاً. [13]

مع اشتياق الله إلى حفظ حياة أبنائه الأبرار حتى لا يتسلل إليها الشر، فإن هؤلاء الأبرار استطاعوا البلوغ إلى الكمال في زمنٍ قصيرٍ، فحققت حياتهم رسالتها، وصارت في عينيّ الله كأنها حياة طويلة؛ إذ يوم عند الرب كألف سنة (مز 90: 4).

كتب القديس جيروم إلى سالفينا Salvina يعزيها في موت رجلها نيبريديوس Nebridius وهو من رجال القصر الملكي، وكان صغير السن، لكن ما فعله جعله مع صغر سنه شيخًا وقورًا. جاء فيها: [رقد في الرب، رقد مع آبائه، مملوء أيامًا ونورًا كمن في شيخوخة صالحة. لأن "الحكمة هي شيبة الشعر عند البشر" (راجع حك 4: 9). في وقت قصر حقق زمنًا طويلاً (راجع حك 4: 13).

وكانت نفسه مرضية عند الرب،

ولذلك فقد أخرجه سريعًا من بين الشرور.

وأبصر الشعب ولم يفْقَه،

ولم يخطر بفكره. [14]

إذ كانت حياته موضع سرور الله ورضاه، أسرع الرب بإخراجه من وسط الشرور، حتى وإن لم يدرك شعبه سرّ انتقاله السريع.

أخيرًا فإن موت الأبرار في سنٍ مبكرٍ هو نعمة ورحمة من قبل الله، وافتقاد إلهي لهم.

كتب القديس جيروم إلى السيدة ثيؤدورا يعزيها في وفاة رجلها البار لوسينيوس Lucinius جاء فيها:

v     كما ورد في سفر الحكمة، قد أُخذ لئلا يغير الشر فهمه، لأن نفسه تسر الرب، وفى وقت قصير حقق زمنًا طويلاً (راجع حك 4: 11-14). بحقٍ يليق بنا أن نبكي نحن على حالنا أننا في كل يوم نصارع مع خطايانا، إذ نتلطخ برذائل، وتحل بنا جراحات ونحن نقدم حسابًا عن كل كلمة بطالة (مت 12: 39). الآن وهو منتصر ومتحرر من كل قلقٍ، يتطلع إلينا إلى أسفل وهو في العلا، يعيننا في جهادنا؛ لا بل ويعد لكِ مكانًا بجواره، فإن حبه لكِ وحنوه عليكِ لا يزالا كما هما. لا يتطلع إليكِ بكونه زوجًا، بل كما قرر أن يتعامل معكِ حتى وهو على الأرض كأختٍ له[187].

v     ربما قد أُخذ (انتقل)، لئلا يَّغير الشر فهمه... لأن نفسه قد سرَّت الرب، لذلك أسرع أن يأخذه من بين الناس (راجع حك 4: 14)، لئلا في رحلة حياته الطويلة يدخل في متاهات غير مطروقة.

بالحق يلزمنا أن نحزن على الموتى، لكن فقط على الذي تتلقفهم جهنم ويفترسهم الجحيم.

أما نحن إذ في رحيلنا نكون في رفقة ملائكة حراس، ونلتقي بيسوع المسيح، يلزمنا بالأحرى أن نحزن أننا نمكث طويلاً في خيمة الموت (2 كو 5: 4). فإننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب" (2 كو 5: 6). شوقنا الوحيد هذا الذي عبَّر عنه المرتل: "ويل لي، فإن غربتي طالت عليّ..."[188].

القديس جيروم

أن نعمته ورحمته لقديسيه،

وافتقاده لمختاريه. [15]

يتميز أولاد الله بالحكمة الحقيقية، فيدركوا مقاصد الله، وتتكشف لهم خطته من نحوهم، أما الأشرار المتمسكون بخطاياهم والمعتمدون على عقولهم وحدها وعواطفهم فيعجزون عن إدراك مقاصد الله.

يتمادى الأشرار في شرهم فيخطئون في تقييمهم لأحداث الحياة. يرون في الحياة البارة والعبادة والخدمة حرمانًا من التمتع بشهوات العالم كما يتمتعون هم، فيتهمون الأبرار بالجهالة والغباوة، لأنهم لا يشاركونهم ملذاتهم. بينما هم يتمادون في شرورهم، إذا بالرب من السماوات يستهزئ بجهلهم.

v     قد يظن الشعب الذي من خارج الكنيسة أننا حزانى، لكن في الواقع نحن دائمًا فرحون. نبدو كأننا فقراء، وفي الحقيقة لدينا غنى لا يُعد روحيًا وماديًا. كالعادة الحياة المسيحية هي النقيض تمامًا لما يظهر على السطح[189].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     روح الإنسان القديس تنتعش بالتفكير في الأمور التقوية وممارستها، فإن الروح تكافح من أجل ما هو صالح (وتجد فيه مسرتها)[190].

القديس ديديموس الضرير

لكنه إذ يحل الموت يتغير الوضع تمامًا، لا تعود توجد فرصة للإصلاح، فيحل اليأس بالأشرار، ويمتلئون بؤسًا ومرارة، ويطأطئون رؤوسهم في خزي، لأن الموت قد اقتلعهم من شهواتهم وأفكارهم الشريرة التي لم تنفعهم. تصير ذكراهم على الأرض نفسها عارًا وخزيًا.

لحظات الموت بالنسبة للأشرار مفزعة للغاية، إذ تحل لحظة الكشف عن الحقيقة ورفع الستار عن كل خداع.

بعد الموت يصير الأشرار في فزعٍ يتقدمون من خوفٍ إلى خوفٍ؛ تستد أفواههم لتنطق آثامهم نفسها شاهدة ضدهم.

لكن البار الذي مات يَدين الأشرار الباقين أحياء،

والشيبة التي انقضت بسرعة،

تحكم على شيخوخة الأثيم الكثيرة السنين. [16]

أبرز بركات الموت المبكر بالنسبة للأبرار حديثًا وعن فاعلية هذا الأمر وأثره على الأشرار، إذ في موت الأبرار المبكر تبكيت لهم، فمع سرعة انتقالهم، إلا أنهم قاموا بأعمال لم يقم بها الشيوخ الأشرار. لقد انتهت حياتهم على الأرض سريعًا، لكنها تبقى شاهدة على الشيخوخة الأثيمة التي لم تقدم ثمرًا لائقًا.

فإنهم يبصرون آخرةَ الحكيم،

ولا يفقهون ماذا أراد الرب في شأنه،

ولماذا جعله في أمان. [17]

يتطلع الشيوخ الأشرار إلى الأبرار في مرارةٍ، ويقارنون أنفسهم بهم، هؤلاء الذين ماتوا في حداثة سنهم. فإنهم وهم شيوخ يخشون الموت ويرهبونه، بينما كان الأبرار في أمانٍ وسلامٍ حتى في تسليم أرواحهم.

يقف الأشرار في دهشة، وكما يقول المرتل: "لتبكم شفاه الكذب المتكلمة على الصديق بوقاحة بكبرياء واستهانة" (مز 31: 18). "لأن سواعد الأشرار تنكسر وعاضد الصديقين الرب" (مز 37: 17). ويقول الحكيم: "الصديق ينجو من الضيق ويأتي الشرير مكانه" (أم 11: 8)، "لا يثبت الإنسان بالشر، أما أصل الصديقين فلا يتقلقل" (أم 12: 3). "لا يصيب الصديق شر، أما الأشرار فيمتلئون سوءا" (أم 12: 21).

v     إن أثبت أحد أن عمله باق (1 كو 3: 14)، فسينال أجرته. سيكون مثل الثلاثة فتية في أتون النار (دا 3: 1-10)، ينال أجرته حياة سماوية مع مجدٍ[191].

v     أولئك الذين يُدعون في سلام يلزمهم أن يهدفوا نحو طول الأناة حتى لا تُكسر قوانين السلام[192].

الأب أمبروسياستر

v     الإنسان الذي سلاحه من ذهب يعبر خلال نهرٍ من النار، ويخرج مضيئًا بأكثر بهاءٍ، أما الذي يعبره ومعه قش، فسيفقده وهو نفسه يهلك معه[193].

v     إذ تتكثف محبتنا لمجيء الله لا يوجد أي نوع من الخطايا لا يدمر![194]

القديس يوحنا ذهبي الفم

يُبصرون ويَزدرون،

ولكن الرب يهزأ بهم. [18]

يدخل الأشرار في صراع بين تلامسهم مع أمان الأبرار وسلامهم الداخلي، وبين ادعائهم أنهم يتظاهرون بالسلام، وقد فقدوا كل شيء! يستخفون بحياة الأبرار، فيهزأ الرب بهم. وكما يقول المرتل: "الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم" (مز 2: 4).

وبعد ذلك يصيرون جُثة حقيرة،

وعارًا بين الأموات أبد الدهور.

فإنه يُحطمهم صامتين مُطرِقين برؤوسهم،

ويُزعزعهم من أسسهم،

ويُتركون بورًا حتى النهاية،

ويكونون في العذاب وذكرهم يزول. [19]

مهما طل عمرهم فإنهم يومًا ما يصيرون جثة حقيرة، يموتون بلا رجاء في التمتع بالأمجاد الأبدية. يدخلون القبور في عارٍ وخزيٍ، في صمتٍ يطرقون رؤوسهم إلى أسفل، إذ ليس لديهم حجة للشر الذي ارتكبوه. يزعزع الموت أساساتهم، إذ وضعوا كل رجائهم في الزمنيات، ويصيرون أشبه بصحراءٍ قفرٍ بلا ثمر. يدخلون إلى العذاب الذي ينتظرهم، وتزول ذكراهم نهائيًا.

يضيف هنا مصير الأشرار بعد الموت وقبل حلول يوم الدينونة، الأمر الذي كثيرًا ما صوره سفر إشعياء النبي:

"وأما أنت فقد طُرحت من قبرك كغصنٍ أشنع كلباس القتلى، المضروبين بالسيف، الهابطين إلى حجارة الجب، كجثةٍ مدوسةٍ" (إش 14: 19).

"ويخرجون ويرون جثث الناس الذين عصوا عليَّ، لأن دودهم لا يموت، ونارهم لا تُطفأ، ويكون رذالة لكل ذي جسدٍ" (إش 66: 24).

وإذا حُسبَت خطاياهم يأتون خائفين،

وآثامهم تتهمهم في وجوههم. [20]

يترقبون يوم الدينونة في رعبٍ شديدٍ، لأن الذي يدينهم هو آثامهم. إن كان الرب هو الديان، لكنه رحوم، ويطلب خلاص الكل! أما هم فأعطوا الله القفا، وأعطوا الآثام الوجه، فسقطوا في ثمر الآثام التي اختاروها بإرادتهم الحرة.

هنا يقدم لنا سفر الحكمة مفهومًا رائعًا لغضب الله ودينونته للأشرار، فإنه ما كان يريد هلاك أحدٍ، لكنه يقدس حرية الإرادة، فمن يلقي بنفسه في الهلاك بإرادته يجني ما اشتهاه.

v     "أدخلوا إلى الملكوت، لأني كنت جوعانًا فأطعمتموني" لذلك ستدخلون إلى الملكوت ليس لأنكم لم تخطئوا، بل لأن بإحسانكم أزلتم خطاياكم. كذلك للآخرين: "اذهبوا إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته". هم أيضا خطاة إذ أنهم متأصلون في خطاياهم ومتأخرون في خوفهم منها. عندما يعرضون خطاياهم أمام عقولهم، هل يستطيعون من أية جهة أن يتجاسروا فيقولوا إنهم يُدانون بغير حقٍ، وأنه قد أعلنت هذه العبارة الصادرة من قاضٍ بارٍ كهذا ضدهم بدون استحقاق؟ فبالنظر إلى ضمائرهم وكل جراحات أرواحهم، كيف يجسرون فيقولوا إننا نُدان ظلمًا؟ لقد قيل عنهم في سفر الحكمة: "آثامهم تتهمهم في وجوههم" (حك 4: 20) سيرون بلا شك أنهم يدانون بعدل عن خطاياهم وشرورهم. ومع ذلك مكانه يقول لهم أنه ليس بسبب ما تفكرون فيه بل "لأني كنت جوعانا فلم تطعموني" فلو ابتعدتم عن كل أعمالكم هذه والتفتم إليّ لخلصتم من كل جرائمكم وخطاياكم باحساناتكم، لخلصتكم الآن احساناتكم وبرأتكم من الخطايا العظيمة لأن "طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون" (مت 5: 7) ولكن الآن "اذهبوا إلى النار الأبدية، لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة" (يع 2: 13)[195].

القديس أغسطينوس


 

من وحي حك 4

لأقتنيك يا أيها البرّ الخالد!

v     خلقتني على صورتك،

فتشتاق نفسي إلى الخلود.

لكن امتدت يدي لتسجل عهدًا مع الموت!

عوض العهد معك يا أيها الحياة،

اخترت بإرادتي أن أنضم إلى حزب الموت،

وصارت الظلمة مع الفساد والظلم دستوري.

 

v     أتيت إليّ، وشاركتني طبيعتي.

أحببتك، لأنك بادرت بالحب نحوي.

لأقتنيك، يا أيها الخالد.

لست أطلب طول عمر،

ولا كثرة ذرية،

ولا ذكريات على الأرض.

فأنت كل كفايتي وشبعي!

 

v     أقدم لك نفسي بكل طاقتها،

وجسدي بكل أعضائه وأحاسيسه،

فأصير بالحق بتولاً.

روحك القدوس يجددني ويجٌَملني،

يهيئني كعروسٍ سماوية خالدة!

 

v     تشرق بنورك عليٌ،

فتصير أنت بٌَري، وقداستي، وخلاصي!

اشتهيت أن أقتنيك بكل كياني،

فتهرب الخطية من أعماقي.

تحلّ فيّ بنعمتك،

فلا أعرف غير النصرة الدائمة،

مع السلام الداخلي وسط المعركة،

والشبع بك.

 

v     أصير بنعمتك شاهدًا لعمل خلاصك،

فيود الكثيرون أن يقتنوك!

ويرجع كثير من الأشرار إليك!

 

v     قلبي لن يستريح،

حتى تستريح أنت في البشرية.

تحزن نفسي على من وضعوا قلوبهم في ذريتهم.

وسكبوا روح الشر فيهم،

صاروا فروعًا بلا ساقٍ ثابت.

صاروا عصافة تبددها الريح.

عوض تخليد ذكرى والديهم،

صاروا غمًا ومرارة لهم.

 

v     لست أطلب ذكرى في العالم،

ولا أشتهي طول العمر هنا.

يوم واحد معك تحسبه كألف سنة.

نعمتك الغنية تقيم مني عجبًا!

ليأتِ الموت، فإنه لن يرعبني!

ها أنت تُعد لي الراحة الأبدية!

 

v     لست اطلب وقار الشيخوخة الظاهري،

إنما أطلب نعمتك واهبة الحكمة.

تهبني بروحك القدوس قوة الشباب،

وبه أتمتع بحكمة الشيوخ.

 

v     أرفع عيني، فأرى حبيبك أخنوخ عندك،

نقلته إليك، لأنه التصق بك.

حملته من وسط الأشرار،

حتى لا تتعذب نفسه بأفعالهم الأثيمة

خطفته من بين معاصريه،

لتحفظه لعملٍ عظيمٍ يوم مجيء ضد المسيح.

افتقدته نعمتك لينعم بأمجادٍ عظيمة!

 

v     أخيرًا ماذا أطلب سوى أن أستقر في حضنك.

احفظني فيك، يا من بادرتني بحبك.

<<


 

الأصحاح الخامس

صيحات النصرة وصرخات الندم

عالج الحكيم في الأصحاح السابق موضوع "الموت المبكر لبعض الأبرار"، وكيف يسمح به الله أحيانًا من أجل إنقاذهم، وعدم تسلل الشر والخبث إليهم، وأن هذا الموت يصير دينونة للأشرار الذين حتى في شيخوختهم يخشون الموت. الآن إذ يدين موت الأبرار الأشرار، يندم الأشرار، لكن للأسف كثيرًا ما لا يبالي الأشرار بذلك، فلا يرجعون إلى الرب.

الآن في هذا الأصحاح يؤكد أن دينونة الشرير نهائية ومرة. تعبر حياة الشرير كالظل، أشبه بالأثر الذي تتركه السفينة السائرة وسط الأمواج يختفي سريعًا، وكالطريق الذي يشقه الطير في الهواء فلا يترك علامة له، أو كطريق سهمٍ يخترق الهواء ولا يعرف ممره، أو كغبار تذهب به الريح الخ.

1. الأبرار يدينون الأشرار1-7.

2. مراجعة يائسة 8-14.

3. أكاليل الأبرار15-23.

1. الأبرار يدينون الأشرار

حينئذ يقوم البار بجرأة عظيمة،

في وجوه الذين ضايقوه،

واحتقروا أتعابه. [1]

إنه لأمر طبيعي أن يسخر الأشرار بالإنسان البار، فقد قيل عن لوط أنه "كان كمازحٍ في أعين أصهاره" (تك 19: 14).

يفتح هذا الأصحاح الستار عن الأبرار بعد خروجهم من هذا العالم. فإنهم يقفون في جرأة أمام الأشرار الذين ضايقوهم. لقد اتهمهم الأشرار بالغباوة والجهل، بل والجنون، حين كانوا يبذلون حياتهم من أجل الحياة المقدسة في الرب وممارسة البنوة لله وانتظارهم للمجد الأبدي.

سيكتشف الأشرار أن الله لا ينسى كأس ماء بارد قدمه بار من أجل حبه لله، وأنه سيمسح كل دمعة من عينيه. ومن الجانب الآخر، يدركون أن الله قد أطال أناته جدًا عليهم وقد امتلأ كأس الغضب عليهم.

مما يزيد الأشرار مرارة في يوم الدين أنهم يرون الأبرار - موضوع سخريتهم وظلمهم - يتمتعون بالخلاص وشركة الأمجاد. يكتشفون خطأ نظرتهم إليهم كما يدركون خطأ نظرتهم لحياة الشرير وسلوكه.

يتطلع الحكيم إلى يوم الرب العظيم، فيرى البار يقوم في جرأة عظيمة كابن لله، يترقب التمتع بكمال المجد. يراه الذين ضايقوه واستخفوا به وبأتعاب جهاده، فتتغير الأوضاع حيث يصير هو في مجدٍ فائقٍ، ويحل الخزي بمقاوميه.

v     لا يعرف الذين يسبوننا من نحن، بكوننا مواطني السماء، وأننا مُسجَّلون في المدينة العليا، رفقاء خوارس الشاروبيم. لهذا ليتنا لا نحزن، ولا نحسب إهانتهم لنا إهانة، فلو عرفونا لما أهانونا. هل يحسبوننا فقراء ومُحتقرين؟ لا نحسب هذا إهانة!

اخبرني، لو أن مسافرًا بصحبة خدمه، سبقهم وأقام في فندق لمدة بسيطة ينتظرهم، وأن صاحب الفندق أو بعض المسافرين تصرفوا معه بطريقة فظة وشتموه، أما يسخر بجهلهم له؟ أما يسبب له خطأهم مسرة؟ أما يشعر بنوعٍ من الكفاية كأن الشتيمة موجهة إلى شخصٍ آخرٍ غيره؟

لنسلك نحن هكذا. فإننا نحن أيضًا جالسون في فندق ننتظر أصدقاءنا الذين يسلكون ذات الطريق، عندما نجتمع كلنا معًا، عندئذ سيعرفون من هو هذا الذي شتموه. هؤلاء الرجال سوف يطأطئون رؤوسهم ويقولون: "هوذا الذي كما نحن الأغبياء نسخر به (راجع حك 5:3)[196].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أما ما يعزي الأبرار هنا، أنهم يشاركون البار القدوس الذي جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 11). يقول عنه الإنجيلي: "ولما سمع أقرباؤه، خرجوا ليمسكوه، لأنهم قالوا إنه مختل" (مر 3: 21). كما يشارك الرسول بولس القائل عن نفسه ومن معه من الكارزين: "لأننا إن صرنا مختلين فلله، أو كنا عاقلين فلكم" (2 كو 5: 13).

ففي يوم الرب العظيم يأتي السيد المسيح كديان، لا يقدر الذين استخفوا أن يتطلعوا إليه. وهكذا يقف الأنبياء والرسل وكل الكنيسة الذين اضطهدهم الأشرار في العالم ليدينوا الشر والأشرار. وكما يقول السيد المسيح: "فقال له يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيا، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (مت 19: 28). "لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (لو 22: 30).

للقديس مار يعقوب السروجي تصوير غربب عن يوم الدينونة، ولعله إذ يرى أن الرب كلي الحب لذلك لا يُسمح للأشرار أن يلتقوا به حتى لا يطلبوا رحمته، بل يُسمح لهم برؤية الرسل الممجدين مما يزيدهم مرارة، ويقوم الرسل بإبلاغ الحكم على الأشرار.

v     مخيف هو اليوم الذي تصير فيه الدينونة الأخيرة، وفيه يشرق ابن الله بمجدٍ عظيمٍ (يوئيل 2: 1-11)،

من يمينه ومن يساره بروق النار...

يستقيم عرش الدينونة ببرٍّ، ويجلس عليه البكر بمجدٍ عظيمٍ ليدين الشعوب،

ويلقي بغضبٍ وُيبعد بحنق الشعب الملعون الذي صرخ في المحكمة: اصلبه، اصلبه (متى 27: 22-23)،

يقف حجاب النار بينه وبينهم لئلا ينظروا إليه لئلا تصير[197] عليهم المراحم،

ولا يتركونهم ينظرون إلى العلا، لئلا يروا ضياءه وينالوا منه الرجاء،

كل إنسانٍ يستوجب حكم الموت لو رأى وجه الملك لن يموت،

الشعوب الذين أحبوه، واعترفوا باسمه يدخلون إلى خاصته،...

يُهيأ اثنا عشر كرسيًا ويجلس الرسل ليدينوا الشعب الملعون الذين لم يؤمنوا به (لو 22: 28-30)،

وإذ رأوا كم أنه أهانه واحتقره وحطه لأنه كفر به بحيث لم يؤهله ليدخل إلى المحكمة مثل الشعوب،

حكمُ البشر قاس على البشر، لذا اسلم حكمهم للبشر، لأنهم يستحقون هكذا (2 صم 24: 14)[198].

القديس مار يعقوب السروجي

فإذا رأوه يضطربون من شدة الجزع،

ويَذهلون من خلاصٍ لم يكونوا يتوقعونه. [2]

مما يزيد من ضيق الأشرار ليس العذابات المُعدة لهم فحسب، وإنما المجد الذي يتمتع به الأبرار، والذي لم يكن في مخيلتهم، فإنهم يذهلون من خلاصهم!

لا يستطيع الأشرار أن يتطلعوا إلى الديان حين يرون عينيه لهيب نار، فيخشونه كديانٍ، قائلين للجبال أن تسقط عليهم وللآكام أن تغطيهم، لأنهم صاروا في عريٍ وخزيٍ كما كان الأبوان الأولان في الجنة يستتران بأوراق الشجر. لكن من أين يأتون بالشجر وقد تجردوا من كل شيءٍ حتى الجبال والآكام قد زالت. ومما يزيدهم مرارة أن ذاك الذي يرونه مصدر رعبٍ لهم إذا به يحتضن الأبرار بكونهم الملكة التي تتهلل بملكها السماوي الذي يدخل بها إلى حضن الآب وتستقر فيه أبديًا.

كما يتلألأ برّ المسيح وشركة سماته التي لبسها الأبرار كثوب مجدٍ لهم، هكذا في خزيٍ يرتدي الأشرار أفعالهم الرديئة، خاصة تهكمهم على أولاد الله، وسخريتهم بهم، فيدركون حينئذ أنهم قد ارتدوا الغباوة والبطلان والفساد ثيابًا تزيدهم عريًا وفضيحة. حقًا سيُفصل الأبرار الممجدون عن الأشرار الهالكين أبديًا بلا محاباة.

v     لما كان ربنا يُعَلِمْ قال: من بيتٍ واحدٍ سيؤخذ واحد، وسيُترك آخر (مت 24: 40)،

 لو لم تجرّ الأعمال الإنسان إلى الكرامة، لا يفيده ربوات الأبرار الذين يسكنون معه.

 الابن البار لا ينفع أباه الذي أثم، والابن الخاطئ لا يحتمي بالأب البار.

 البتول الطاهرة لا تخلص الأم التي زنت، والأخ الكامل لا يفيد أخاه المتراخي.

 من هذه الأمور التي علمها ربنا تعلم بأن واحدًا يأخذونه والآخر يتركونه بتمييز (مت 24: 40).

 الخوف يرعب الأختين في بيت واحد، ولا تقدران أن تستفسرا سوية عن السبب.

 العلا يخطف تلك الكاملة لتطير في الهواء، واللجة تسحب الأثيمة لتتعذب فيها.

 الواحدة تؤخذ للقاء العريس كما قيل، وتُترك الأخرى لتعود إلى الهاوية كما كُتب (مت 24: 40).

 الصوت يُرجف البنت وأمها المطمئنتين، فتخافان وترتجفان لما تُفصلان لتنتقلا،

 يُفصل الاخوة كالأعضاء من بعضها بعضًا، ويلقي الانقسام في وحدتهم ويبعثرها.

 يُسقط ويؤخذ الأبناء كالأمعاء، ولا مجال لبطن الأم لكي يحبهم.

 تُقطع محبة النساء من رجالهن، ولن يعرف الشريك (شريكه) بسبب الخوف.

 المرأة تُعتبر مثل غريبة من قبل رجلها، وإذ كانت خاصته لم تعد خاصته لأنها فُصلت عنه.

 المتزوجون لن يعودوا إلى الزواج، والأبوّة لن تحب أحباءها.

 ومحبة الاخوة لن تثبت كما كانت لأن تلك المساواة تُفصل من الاختلاط.

 الخوف يقطع الخبر الوارد بين الأختين، ولن تنتهي تلك القصة التي تابعتاها.

 ولو كانتا مربوطتين سوية في رحى واحد، ستُفصلان من وحدتهما كما هو مكتوب (مت 24: 41).

 ولن تكتمل كلمة المحبة عندهما، لأن الخوف المرعب يبطل كلماتهما.

 يقطع حديث البنت الحبيبة مع أمها، ويبطل كلام الملافنة (المعلمين) والباحثين.

 ينكسر القلم في يد المعلم بصورة غير اعتيادية ولن تُسجل به كتابة إلى الأبد،

 يترك الصبيان المدرسة المجتمعين فيها، ولن يُقدموا أيضًا في صباح آخر حتى يتعلموا.

 تغيب وتزول الحكَم من الحكماء، ولن يعرف أحد سوى الخوف من الانبعاث.

 تهجم الحيرة على الفلاسفة في أفكارهم ولن يتذكروا إلا أن يقولوا فقط: الويل لنا.

 تنقطع قصة النظريات والاستفسارات ولن يُفسر هناك شيء ماعدا الويل.

 تتعثر الكلمة وتسقط من اللسان، ويرعد فقط صوت النحيب من جهنم.

 لن يتسلى أحد ولا يُسلى رفيقه لأن كل واحدٍ سيشرب المرارة وهو يتعذب.

 الشاب لن يسند الشيخ وهو يتألم، والأب لن يشجع ابنه لئلا يكتئب.

 ينفصل كل واحدٍ عن رفيقه بخوف عظيم، ويقع الرعب حتى ينتقل الواحد عن رفيقه.

 هوذا ربنا قد تكلم عن الدينونة الأخيرة: يأخذون الواحد ويتركون الآخر كما قلنا (مت 24: 41)[199].

القديس مار يعقوب السروجي

ويقول بعضهم لبعضٍ نادمين ومتنهدين: [3]

يندم الأشرار على تصرفاتهم التي سلكوها في هذا العالم، لكن إذ جاء يوم الدينونة، ضاعت منهم فرصة الرجوع إلى الله.

v     "لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك؟" (مز 6: 5). يعرف (المرتل) أيضًا أنه الآن وقت للرجوع إلى الله، فإنه إذ تعبر هذه الحياة لا يبقى سوى المجازاة حسب استحقاقاتنا... ذاك الغني الذي يتحدث عنه الرب، والذي رأى لعازر في راحة، ندب حاله في العذابات، واعترف في الهاوية، نعم وقد أراد أن يحذر اخوته حتى يتحفظوا من الخطية، من أجل العقوبة التي تحل في جهنم ولا يعتقدون بها[200].

القديس أغسطينوس

"هوذا الذي كُنا حينًا نجعله ضُحكة،ً

وموضوع تهكم.

نحن الأغبياء!

لقد حسِبنا حياته جُنونًا،

وآخرتَه بلا كرامة. [4]

يكتشف الأشرار غباوتهم ولكن بعد فوات الأوان. يتطلعون إلى الذين كانوا يسخرون بهم ويحسبونهم أضحوكة، ينعتونهم بالجنون، وكانوا يتطلعون إلى آخرتهم بكونها هوانًا بلا كرامة، وإذا بهم في أمجاد فائقة، يتمتعون بما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسانٍ (1 كو 2: 9).

فكيف أصبح في عداد بني الله،

وصار نصيبه مع القديسين؟ [5]

لا يستطيع الأشرار أن يروا ما يراه الأبرار، ولا أن يسمعوا ما يسمعه هؤلاء، لكن ما يحطمهم تمامًا أنهم قد فقدوا الفرصة للتمتع بالبنوة لله والشركة مع السمائيين.

يصور الكاتب كيف صار خلاص الأبرار عقابًا للظالمين لهم والساخرين بهم. يُصعق الأشرار حينما يرون الأبرار موضوع سخريتهم قد صاروا في عداد أبناء الله الممجدين، نصيبهم مع الطغمات السمائية المقدسة. إذ يصير الأبرار بينهم وكأنهم إحدى الطغمات السمائية. وهذه هي المكافأة التي ينالونها حيث يصيرون معهم في حضرة الله والشركة معه في السماويات.

الحالة الفردوسية التي يتمتع بها المؤمن الحقيقي عند القديس غريغوريوس النيسي هي حالة تناغم وانسجام بينه وبين السمائيين بكونهم خليقة الله المملوءة حبًا. [وُجد وقت كانت فيه الخليقة العاقلة جوقة (خورس) واحدة، تتجه نحو قائد الخورس، وتتحرك متجهة نحو ذاك الانسجام الغالب النابع عن القائد وعن وصيته.]

يقول أيضًا القديس غريغوريوس النيسي إن هذا الانسجام كان على مستوى المسكونة، بين السماء والأرض، حيث تمتع الأبوان الأولان بصحبة الملائكة؛ لكنهما فسدا بالخطية، فُطردا من مجتمعهما هذا، وصار نسلهما كما في عالمٍ غريبٍ يترقبون اللحظة التي فيها يعودون إلى التمتع بالاتحاد مع الجوقة الإلهية[201].

إننا نحن الذين ضللنا عن طريق الحق،

ولم يُضئ لنا نور البرّ،

ولم تُشرق الشمس علينا. [6]

يعترف الأشرار بضلالهم، إذ حلت بهم الظلمة الأبدية، لأنهم رفضوا شمس البرّ، ولم يدعوها تشرق عليهم، فصاروا أبناء الظلمة. فقدوا الحق، واقتنوا الباطل.

أمام مجد الأبرار يقف الأشرار في ندمٍ شديد، لأنهم تركوا الله الحق، ورفضوا حبه وخلاصه. ضاعت كل مقتنياتهم وملذاتهم بل وضاعت حياتهم، فصاروا في مرارة، لكن لم يعد بعد طريق للرجوع إلى الله.

يعلق القديس أمبروسيوس على كلمة "الظهر" في العبارة: "وهيأوا الهدية إلى أن يجيء يوسف عند الظهر" (تك 43: 25)، مظهرًا أن يوسف كرمز للسيد المسيح – شمس البرّ- بمجيئه يحل نور النهار كأنه ظهيرة، ولا يكون للظلمة أو لليل موضع. يقول: [أسرع إيمان بولس للمجيء عند الظهر. قبلاً كان بولس أعمى، وفيما بعد بدأ يرى نور البرّ، فإنه إذ يفتح أحد طريقه للرب ويترجاه، يحضر الرب برَّه كالنور، وحكمه كالظهيرة (راجع مز 37: 5-6). وعندما ظهر الله لإبراهيم عند بلوطات ممرا كان ذلك في الظهر، وأشرق النور الأبدي الذي لحضرة الله عليه (تك 18: 1). كان الوقت ظهرًا عندما دخل يوسف بيته ليأكل. يزداد اليوم إشراقًا عندما نحتفل بالأسرار المقدسة (حيث نتناول جسد الرب ودمه)[202].]

v     لا تشرق الشمس الروحية سوى على الصالحين والقديسين، إذ نرى في سفر الحكمة الأشرار يبكون قائلين: "لم تشرق علينا الشمس" (حك 6:5)، كما لا يروي المطر الروحي غير الصالحين، لأنه قصد بالشرير تلك الكرمة التي قيل عنها: "وأوصي الغيم أن لا يمطر عليهِ مطرًا" (إش 6:5)[203].

القديس أغسطينوس

v     عندما اظلم العالم بظلمة إبليس، وحلت الظلمة بواسطة الخطية التي سقطت على العالم في المرحلة الأخيرة، أي عندما حلّ الليل، منحت هذه الشمس أن تشرق بميلاده.

أولاً قبل ظهور النور، أي قبل إشراق شمس البرّ، حيث أرسل الوحي الإلهي خلال الأنبياء أشبه بالفجر، كما قيل: "أرسلت أنبيائي قبل النور" (راجع إر 7: 25). لكنه بعث بعد ذلك بأشعته، أي ببهاء رسله، وأشرق على الأرض بنور الحق حتى لا يتعثر أحد بظلمة إبليس[204].

مكسيموس أسقف تورين

شبِعنا في سبل الإثم والهلاك،

واجتزنا براري لا طُرق فيها،

وأمَّا طريق الرب فلم نعرفه. [7]

يظن الأشرار أن الشر قادر على إشباع احتياجاتهم، ولا يدركون أن نهايته الدمار الشامل. وكما يقول الرسول: "فأي ثمرٍ كان لكم حينئذٍ من الأمور التي تستحون بها الآن، لأن نهاية تلك الأمور هي الموت" (رو 6: 21).

هل أشبعهم طريق الإثم والهلاك؟ يشير هنا إلى طريق الأشواك الأبدي، فإنهم يصيرون كمن هم وسط أشواكٍ لا حصر لها.

كان الأشرار في العالم يطلبون الشبع في سبل الإثم والهلاك، فاجتازوا براري قفر ليس فيها الطريق الذي يحملهم إلى السماء؛ إذ لم يتعرفوا على الرب بكونه الطريق.

يتحدث عن طرق الشر بصيغة الجمع أما طريق الرب فبصيغة المفرد. فإن الشياطين تقدم سبل كثيرة لتحدر الإنسان إلى الدمار الأبدي. أما الله فيقدم لنا كلمة الله وحكمته ربنا يسوع بكونه الطريق الوحيد به ننطلق كما بجناحي حمامة إلى السماء.

v     يقول إشعياء: "ما أجمل على الجبال قَدَمَيّ المبشر المخبر بالسلام، المبشر بالخير" (إش 7:52). إنه يرى كم هو جميل وملائم، إعلان الرسل الذين قد ساروا معه، وهو القائل “أنا هو الطريق”. ويمتدح أقدام السائرين في الطريق العقلي ليسوع المسيح، ويذهبون من خلاله إلى السماء. إنهم يعلنون عن الخيرات، عن الأقدام الجميلة - أي يسوع[205].

العلامة أوريجينوس

v     إن كان مجرد تذكار حالة عبوديتكم السابقة تجلب لكم عارًا، فكم بالأكثر يكون عار تلك الحقيقة ذاتها (العبودية للإثم)[206].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     سيُعاقب الأشرار؛ "نسل الأشرار ينقطع" (مز 37: 28). كما أن نسل الآخرين سيتبارك، هكذا نسل الأشرار سينقطع، لأن نسل الأشرار هم أعمال الأشرار... فإنها لا تحمل ثمارًا؛ آثارها إلى وقت قصير؛ بعد هذا يطلبونها فلا يجدون مكافأة لما تعبوا فيه[207].

القديس أغسطينوس

v     الموت هو في رفقة النفس في حالة الخطية وهي في الجسد، والحياة هي اعتزال للخطية[208].

القديس إكليمنضس السكندري

استخدم القديس يهوذا في رسالته تشبيهات مقاربة، بخصوص حياة الأشرار الزائلة. "هؤلاء صخور في ولائمكم المحببة، صانعين ولائم معًا بلا خوف، راعين أنفسهم. غيوم بلا ماء، تحملها الرياح، أشجار خريفية بلا ثمر، ميتة مضاعفًا مقتلعة. أمواج بحر هائجة مُزبَّدة بخزيهم، نجوم تائهة، محفوظ لها قتام الظلام إلى الأبد" (يه 12-13).

2. مراجعة يائسة

فماذا نفعَتْنا الكبرياء؟

وماذا أفادنا الغنى الذي كنا نفتخر به؟ [8]

يكتشف الأشرار بطلان الكبرياء والتشامخ، وأيضًا بطلان الغنى والثروات التي كانوا يحسبونها رصيد كرامتهم.

من بين كل طرق الأشرار ورذائلهم يبكي الأشرار على كبريائهم الذي هو طريق إبليس الذي حطمه هو وملائكته. وأيضًا محبة الغنى، لأن محبة المال اصل لكل الشرور (1 تي 6: 10). فالكبرياء يدفع الأشرار إلى الغباوة فيتشامخوا حتى على الله نفسه، إن لم يكن باللسان فبلغة التذمر والتمرد ورفض الوصية الإلهية، و محبة الغنى تفسد القلب فلا يقدر الحب أن يملك عليه لأنه يصير دستوره الظلم والجشع والبغضة.

v     إنه الكبرياء الذي يحولّ الإنسان عن الحكمة، وصارت الغباوة ثمرة التحول عن الحكمة[209].

القديس أغسطينوس

حياة الأشرار الخالية من كل فضيلة هي بلا معنى أمام الله. تنتهي حياتهم ولا تدوم ذكراهم على الأرض ولا في السماء. لا تترك حياتهم أي أثر صالح بعد موتهم، بل وحتى الآثار السيئة بعد مرور زمنٍ ما لا يعود يذكرها الكثيرون، أما فضائل الأبرار أو حبهم فيرافقهم في السماء، لأن المحبة لا تسقط أبدًا.

قد مضى ذلك كُله كالظل،

وكإشاعة تمر بسرعة، [9]

مسكين الإنسان الذي يجعل من ظل سحابة علامة لطريقه، فسرعان ما يمضي الظل، ويفقد الإنسان طريقه. كل أمور العالم الحاضر وشهواته تمضي كالظل، فلا ترفع قلب الإنسان إلى الله مصدر حياته وسعادته الأبدية.

من ينشغل بالكرامة الزمنية و تُمتص كل أفكاره في إقامة ذكريات له، إنما كمن يسير وراء إشاعة كاذبة سرعان ما ينكشف كذبها وعدم وجود حقيقة صادقة لها.

مسكين الإنسان الشرير الذي عوض ارتباطه بسحابة من الشهود (عب 12: 1) ينشغل بظلها. تطلع الرسول بولس إلى هذه السحابة لا ليشغل نفسه بمنظرها، بل أن يلتحق بها، فيصير جزءً لا يتجزأ من السحابة المقدسة الحاملة للسيد المسيح.

ظهر الرب كسحابه لشعبه القديم ليظللهم من الحر ويقودهم في النهار مشتاقا أن يصير شعبه نفسه سحابة نيِّره تتمتع بحضوره وتجليه فوقها، فيصيروا عرشه.

مسكين الشرير الذي عوض طلب الحق الإلهي فينعم بأسرار الله ويختبر السماويات، كل ما يشغله أن تصير حياته إشاعة سرعان ما تزول!

v     "لا تغرب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26)، ومع هذا فقد غابت الشمس مرارًا كثيرة. اتركوا غيظكم أيضًا، حيث نحتفل الآن بأيام الشمس العظيم، هذه الشمس التي يقول عنها الكتاب المقدس "لكم... تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها" (مل 4: 2). ماذا يقصد بـ "في أجنحتها"؟ أي في حمايته، إذ قيل في المزامير: "وبظل جناحيك استرني" (مز 17: 8). وأما أولئك الذين يندمون في يوم الدينونة، ولكن بعد مضي الوقت، والذين سيحزنون ولكن بلا فائدة، فقد سبق أن تنبأ في سفر الحكمة عن ما سيقولونه عندما يندمون ويتأوهون من عذاب الروح "فماذا أنفعتنا الكبرياء وماذا أفادنا افتخارنا بالغنى. قد مضى ذلك كالظل، لقد ضللنا عن طريق الحق، ولم يضئ لنا نور البرّ، ولم تشرق علينا الشمس" (حك 5: 8، 9، 6). تلك الشمس تشرق على الأبرار فقط، وأما هذه الشمس التي نراها يوميًا فإن الله يشرق شمسه على الأشرار والصالحين" (مت 5: 45). يطلب الأبرار رؤية تلك الشمس وهي تقطن في قلوبنا بالإيمان. فإن كنتم تغضبون لا تدعوا هذه الشمس تغرب في قلوبكم على غيظكم "لا تغرب الشمس على غيظكم"، لئلا تكونوا غضوبين، فتغرب شمس البرّ عنكم وتمكثون في الظلام[210].

القديس أغسطينوس

أو كالسفينة الجارية على أمواج الماء،

التي لا تجد أثر مُرورها،

ولا خطَّ لقاعها في الأمواج. [10]

التشبيه الثالث الذي يقدمه لنا الحكيم عن حقيقة حياة الأشرار هو الاهتمام بالتطلع إلى الخط الذي يظهر وسط الأمواج بعبور سفينة سريعة وسط البحر. فانه سرعان ما يختفي هذا الخط ولا يبقى له اثر على أمواج المياه المتحركة. مسكين الإنسان الذي عوض أن يدخل سفينة المسيح أي كنيسته لكي يتمتع بغنى عطاياه! يقف متفرجا من الخارج فلا ينعم بالخلاص الأبدي.

يقول المرتل عن حياة الأشرار: "كالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض" (مز 1: 4). أما عن الصدِّيقين فيقول الرسول: "اُنظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم" (عب 13: 7).

فلك نوح كسفينة في الحقيقة هو خطة إلهية، فيها دبر الله خلاص الإنسان، فقد أغلق الله بنفسه باب الفلك وحفظه حتى نهاية الطوفان. هكذا أيضًا كنيسة العهد الجديد هي تدبير إلهي، فبالنعمة الإلهية نتقبل عضويتنا الكنسية، ويقوم الروح القدس بغلق أبوابنا الداخلية، فلا تتسرب مياه الشر إلى سفينة حياتنا وتفقد توازنها. إن كانت السفينة تشير إلى الكنيسة كملجأ للخلاص، فإن الأشرار لا يشغلهم أن يدخلوا الكنيسة كأعضاءٍ فيها، إنما يكتفون بالتطلع إليها من بعيد لينتقدوها. يتتبعون الخط الذي يظهر وسط الأمواج بعبور الكنيسة وسط بحر هذا العالم، فيفقدوا خلاصهم.

أشار القديس أغسطينوس إلى فلك نوح كرمز للكنيسة قائلاً[211]: [الفلك بلا شك هو رمز مدينة الله في رحلتها عبر التاريخ.]

v     جسم الكنيسة ككل يشبه السفينة،

يحمل أناسًا من أجناس متنوعة،

وسط عاصفة عنيفة...

الله "الآب" هو صاحب السفينة.

والمسيح قبطانها.

الأسقف يشبه الملاحظ،

والكهنة هم البحارة،

والشمامسة هم المجذفون،

ومعلمو الموعوظين هم المضيفون[212].

العظات المنسوبة لإكليمنضس

v     من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح[213].

v     لا يكون مسيحيًا من هو ليس داخل كنيسة المسيح[214].

v     إذ كيف يمكن أن يكون أحد مع المسيح إن كان لا يسلك داخل عروس المسيح، وإن لم يوجد في كنيسته؟![215]

v     من ليس له الكنيسة أمًا، لا يقدر أن يكون الله أباه![216]

القديس كبريانوس

v     البحر هو العالم، نزلت إليه الكنيسة حتى العمق لكنها لم تهلك لأن قبطانها المسيح ماهر.

إذ تحمل صليب الرب إنما تحمل الغلبة على الموت في داخلها...

البحارة هما العهدان (القديم والجديد).

والحبال المحيطة بها هي محبة المسيح التي تربط الكنيسة.

الشبكة التي معها هي جرن الميلاد الجديد الذي يجدد المؤمنين.

الروح القدس حال فيها كبحار ماهر يختم به المؤمنون...

لها مراسٍ من حديد تحتفظ بها. هي وصايا المسيح نفسه، قوية كالحديد!

بها نوتيه على اليمين واليسار، خدام كالملائكة القديسين يديرون الكنيسة ويحفظونها.

السلم الذي نصعد به إلى ظهر السفينة هو تذكار آلام المسيح، به ترتفع قلوب المؤمنين إلي السماء.

القلاع المرتفعة فوق السفينة هي شركة الأنبياء والشهـداء والرسل الذين يدخلون راحتهم[217].

 الأب هيبوليتس

v     لا يمكن عبور البحر إلا إذا بقيت علامة النصرة ـ أي الصاري ـ على السفينة دون أن يصيبها ضرر[218].

 الشهيد يوستين

أو كطائر يطير في الجو،

فلا تجد دليلاً على مسيره.

يضرب الريح الخفيفة بجناحيه،

ويشُقَّها بصفيرٍ شديدٍ،

ويعبرُ مرفرفًا جناحيه،

ثم لا تجد لمروره من علامة. [11]

ذكراهم على الأرض تكون كأثر سفينة تشق مياه البحر يظهر سريعًا ثم يختفي. أما في السماء فلا وجود لذكرى الأشرار لأن حياتهم تشبه طائرُا يحرك جناحيه ليضرب بهما الهواء، لكن بعد مروره لا نجد أثرًا في الهواء، ولا يتحرك خطًا يُظهر طريق سيره؛ أو مثل سهم يعبر في الهواء لا يترك خطًا يُعلن عن طريق مسيره.

يبحث الشرير عن الأثر الذي يتركه طائر مسرع في طريق طيرانه، فإذا به تضيع حياته وراء سراب لا يروي و أثار لا وجود لها عوض الانشغال بالتطلع إلى الخط الذي سلكه الطائر. يليق بالمؤمن أن يصير هو نفسه طائرًا يصعد بروح الله القدوس في غنى النعمة الإلهية من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18) لعله يبلغ حياة قامة ملء المسيح السماوي (أف 4: 13).

v     هكذا يا اخوتي هو وجودنا، نحن الذين نعيش في حياة مؤقتة. هكذا هي تسليتنا على الأرض. جئنا إلى الوجود من العدم، وبعد الوجود الانحلال. إننا أحلام وهمية... مثل طيران طيرٍ عابرٍ، ومثل سفينة لا تترك أثر طريقها في البحر (حك 5: 10)، ذرة من التراب، بخار، ندى مبكر، زهرة سرعان ما تظهر وبسرعة تجف. فالإنسان أيامه مثل العشب، وكزهرة الحقل، هكذا يزهو[219].

القديس غريغوريوس النزينزي

أو كسهمٍ يُرمى إلى الهدف،

فيُخرق به الهواء، ولوقته يعود إلى حاله،

فلا يعرفُ ممرُّ السهم. [12]

ما هو السهم الذي ينشغل الأشرار بالبحث عن أثره في الهواء حين يلقيه رامي السهم نحو الهدف؟ أظن أنه السيد المسيح الذي يوجهه الآب إلى قلوب المؤمنين فيصرخ كل منهم بفرح: "إني مجروحة حبا" (نش 2: 5)

v     مدحت العروس رامي الرمح على تصويبه الدقيق، لأنه رماها بسهمه. فقالت العروس: "إني مجروحة حبًا" (نش 5:2). تعني هذه الكلمات أن سهام العريس قد نفدت إلى داخل قلبها. إن مُصوّب هذه السهام هو الحب (1 يو 8:4)، الذي يرسل "سهمه المختار" (إش 2:49)، الابن الوحيد، إلى هؤلاء الذين يخلصون، ثم يغمس سن السهم الثلاثي في روح الحياة. وسن السهم هو الإيمان، وبواسطته يقدم الله مُصوّب السهم وكذلك السهم معًا إلى القلب، كما يقول السيد المسيح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبى وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو 23:14).

لذلك فالنفس التي ارتفعت إلى درجات إلهية عليا ترى بداخلها سهم الحب العذب الذي جرحها، وتفتخر بهذا الجرح قائلة: "إني مجروحة بالحب". أيها الجرح الجميل، والسهم العذب، الذي أدخل الحياة إلى قلبي! فلقد فتح نفاذ السهم بابًا ومدخلاً للحب، وهو التحول الخيالي من رمي السهام إلى فرح العرس.

كلنا يعرف كيف يقبض رامي السهام على القوّس وتعمل يداه المضبوطة، فتمسك اليد اليسرى بالقوّس، بينما تجذب اليد اليمنى الوتر المرن، وهكذا يتحرك السهم إلى الخلف بطرفه المشقوق. ثم توجه اليد اليسرى السهم إلى الهدف. ذكرنا سابقًا أن العروس كانت الهدف، والآن ترى نفسها كأنها السهم في يديّ صاحب القوس. فيمسك بيده اليمنى بطريقةٍ ما، وبطريقة أخرى بيده اليسرى...

الله هو العريس ومصوّب السهم، وهو يعامل النفس النقية كالعروس، يصوبه سهمه نحو هدف طيب. لذلك فهو يسمح لعروسه أن تشارك أبديته التي بلا فساد، وينعم عليها بسنين وحياة طويلة بيده اليمنى. ويعطيها بيده اليسرى هبة حياته الأبدية، وعظمة الله التي لا يشاركه فيها من يبحثون عن العظمة في العالم. من أجل ذلك تقول العروس: "شماله تحت رأسي: (نش 6:2). لأن هذه هو الطريقة التي يُصوب بها السهم إلى هدفه. "ويمينه تعانقني". وكأن العروس تقول إن يمين الله تستقبلني وتسحبني إلى الخلف، لكي تريح رحلتي إلى أعلى حيث يوجهني دون أن أنفصل عن يد حامل القوس. وفي نفس الوقت سوف أُحمل بعيدًا بعمله في التصويب وإني أشعر براحة بين يدي حامل القوس: تقول الأمثال عن صفات هذه الأيادي: "في يمينها طول أيام، وفي يسارها الغنى والمجد" (أم 16:3)[220].

القديس غريغوريوس النيسي

يمكننا في إيجاز أن نقارن بين البار والشرير.

·        البار يشتهي أن ينضم إلى سحابة الشهود المنيرة، والشرير ينشغل بظل سحابة سرعان ما تختفي.

·        البار يود أن يسجل اسمه في كتاب الحياة الأبدية، والشرير تصير حياته أشبه بإشاعة تعبر فلا يكون لها وجود أو ذكرى.

·        البار يُسر بالإبحار في سفينة المسيح ليتمتع بالخلاص، والشرير يكتفي بالتطلع إلى الخط الذي يظهر بإبحارها إلى حين ثم يختفي.

·        البار يود أن يكون كالنسر، يحلق في السماويات، والشرير يبحث في أثر طيران النسر فلا يجد له وجودًا.

·        البار يتلقف ضربة السهم الإلهي، فتتهلل نفسه بجراحات الحب الإلهي، بينما ينشغل الشرير بالتطلع إلى الهواء يبحث عن أثر ممر السهم.

كذلك نحن ما إن وُلدْنا حتى نبدأ نتوارى،

ولم يكن لنا أن نُبدي علامة فضيلة نظهرها،

بل فنينا في شرِّنا. [13]

يصور الحكيم حياة الإنسان أنها ما أن تبدأ حتى يرافقها الشعور بالموت، فيترقب متى يحل الموت به، ويتوارى عن العالم. هذا ومن جانب آخر، إذ فسدت الطبيعة البشرية، لا يجد الإنسان علامة يمسك بها ليُظهر بها فضيلة ما، بل شعوره الدائم بالضعف يفني حياته.

إن رجاء الشرير كعُصافةٍ تذهب بها الريح،

وكزَبَدٍ رقيقٍ تُطارده الزوبعة.

إنه يتبدد كدخانٍ في الهواء،

ويمضي كذِكْرِ ضيف ليومٍ واحد. [14]

إذ يضع الشرير رجاءه في خيرات العالم وملذاته وشهوات الجسد، سرعان ما يفقد رجاءه، إذ يحسبه كعصافة يبددها الريح العاصف، أو مثل الزُبد الذي يظهر وراء السفينة المسرعة فتطرده الزوابع، أو كدخان يتبدد في الهواء، أو كذكرى إنسان يستضيفه لمدة يومٍ ولا يعود.

v     سحاب بلا ماء، هؤلاء الذين ليس فيهم الكلمة الإلهي لحامل الثمار. إنهم أموات موتًا مضاعفًا: أولاً، لأنهم أخطأوا آثمين. مرة أخرى أنهم يسلمون للعقوبات التي أعدها الله لهم. يمكن أن يُقال عن إنسانٍ أنه ميت وهو حي، لكنه لا ينعم بميراثه.

القديس إكليمنضس السكندري

3. أكاليل الأبرار

إن كان الأشرار ليس لهم ذكر دائم، فإن الأبرار يحيون مع السيد المسيح إلى الأبد، هذا الذي يطوِّبهم، قائلاً: "طوبى للحزانى الآن لأنهم يتعزون" (مت 5: 4). ويقول الرسول: "ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا" (عب 12: 1)، حتى ننعم بأمجاد السماء التي لا يُعبر عنها.

أما الأبرار فسيحيون للأبد،

وعند الرب ثوابهم،

ولهم عناية من لدن العليَّ. [15]

يحاول الحكيم أن يصور الحالة المطوَّبة التي يتمتع بها الأبرار في يوم الرب. من بين ما يتمتعون به:

أ. الحياة الأبدية، "سيحيون للأبد" ما هي هذه الحياة الخالدة التي لا يقدر الموت أن يقترب إليها، إلا ذاك الذي قال: "أنا هو الحياة". هذا الذي مات مرة واحدة بالجسد بإرادته، إذ قال: "لي سلطان أن أضعها" (يو 10: 18). ما كان يمكن للموت أن يقترب إليه، لو لم يسلم نفسه خلال حبه لكل البشرية وطاعته للآب ليدخل – كما يقول القديس مار أفرآم السرياني - إلى معدة الموت ويفجِّرها، ويُخرج الذين سبق فأسرهم إبليس في الجحيم.

نناله هنا على الأرض، فلا يقترب الموت إلى نفوسنا، ونلتقي معه وجهًا لوجه، فلا يقدر الموت بعد أن يلمس أجسادنا المجيدة التي على صورة جسد ربنا القائم من الأموات.

ب. "عند الرب ثوابهم"، فإن أعظم ما يناله المؤمن، أنه يجد ثوابه هو الرب نفسه، يقدم له مما عنده، حيث يتمتع بالشركة في المجد السماوي.

ج. لعل إدراك المؤمن المكلل في السماء أنه يكتشف في أعماق جديدة عناية الله التي ليس فقط لا تتوقف في السماء، بل يبقى المتمتعون بالسماء يدركون دفء الحضن الإلهي، ويبقون إلى الأبد يتمتعون بأسرار جديدة تتكشف أكثر فأكثر!

فلذلك سينالون مملكة مجيدة،

وتاج الجمال من يد الرب،

لأنه بيمينه يستُرهم ،

وبذراعه يحميهم. [16]

يكمل الحكيم حديثه عن الحياة السماوية المطوَّبة فيقول:

د. "سينالون مملكة مجيدة"، حيث يصير الكل ملوكًا أو ملكات، أو يصير الكل الملكة الجالسة عن يمين الملك (مز 45: 9). إنها مملكة مجيدة! تزداد عظمة كل إنسان بعظمة اخوته. ففي ممالك هذا العالم متى تسلم أحد كرسي الحكم يحزن المنافسون له، ويحسده كثيرون. أما في السماء فإن كل إنسان يتمتع بهذا المركز لا ينفرد به، بل يدرك أن سرّ مجده وكرامته وفرحه أن الكل من مؤمني العهدين القديم والجديد يشاركونه هذا المجد.

هـ. "تاج الجمال من يد الرب"، إنه تاج الجمال الحقيقي، لأنه من يد الرب، يحمل انعكاس مجد الرب وبهائه.

و. "لأنه بيمينه يسترهم"، كأن الحكيم يرى كل الكنيسة، وقد صارت الملكة العروس الواحدة، الجالسة عن يمين الملك، وإذ يشرق منهم انعكاس بهاء العريس يحتضنهم، كمن يسترهم.

ز. "بذراعه يحميهم"، ممن يحميهم؟ لم يعد بعد يوجد عدو يقاوم، ولا خطية تتسلل إلى الفكر، فلماذا يحميهم؟ تبقى الكنيسة وهي تتمتع بالسلام السمائي والفرح الإلهي تسبح الرب الذي حفظها في برية العالم ودخل بها إلى كنعان السماوية، وأغلق الباب، حتى تبقى معه وفيه محفوظة بحبه الفائق.

4. الرب الديَّان

يتخذ غيرته سلاحًا كاملاً،

ويُسلِّح الخليقة ليصُدّ أعداءه. [17]

ما هي غيرة هذا البار إلاَّ حبه الفائق لعروسه؛ هذا هو السلاح الذي به حطَّم إبليس وكل مملكة الظلمة بصليبه.

إنه يُسلح عروسه بذات سلاحه الذي هو غيرة الحب، فلا يجد إبليس – الذي لا يعرف الحب بل الكراهية والبغض – له شيئًا في العروس السماوية.

يصوِّر لنا القديس يعقوب السروجي منظرًا خطيرًا، وهو أنه ما أن تنتقل نفس من هذا حتى ينطلق إبليس إليها لعله يجد له موضعًا فيها، وإذ لا يجد موضعًا يمتلئ غيظًا ومرارة. فإن كل ما يشغله أن تشاركه البشرية هلاكه الأبدي.

يلبس البرّ درعًا،

والحكم الصادق خوذةً. [18]

بعد أن تحدث عن الصديقين بصيغة الجمع الآن يتحدث عن البار بصيغة المفرد، إذ يركز نظره على البار الواحد، ربنا يسوع المسيح، الإله المتجسد، إذ حملنا فيه ليهبنا ما له، ولكي يفتح لنا طريق المجد.

يأتي السيد المسيح في يوم القيامة لكي يكافئ الأبرار ويجازي الأشرار بغيرة عظيمة.

أيضًا كل مؤمن يتحد بالبار القديس يحمل برّه، ويصير السيد المسيح تُرسًا له، يحميه من سهام العدو.

السبيل الوحيد للنصرة على إبليس هو الاتحاد مع الله والالتصاق بالحق وحفظ وصاياه فيشهد المؤمن للحق عمليًا بحياته.

ليس من طريق للشهادة للقدوس السماوي إلاَّ بأن نحمل روح القداسة ونختبر مع الرسول بولس الجلوس في السماويات. فبدون القداسة يحل بنا الغضب، أو نشرب من الكأس التي نملأها لأنفسنا بعدم قداستنا.

الطبيعة نفسها لا تحتمل شر الإنسان، فالبروق والغيوم والسيول والبرد هذه كلها تتكاتف أرض البشرية التي أفسدت الطبيعة ونجَّست الأرض.

v     أن تخدم المسيح هو أن تخدم الحكمة، التي هي خدمة البرّ، وهي خدمة الحق وكل الفضائل المتعلقة به[221].

العلامة أوريجينوس

ويتخذ القداسة تُرسًا لا يُقهر. [19]

كيف تُحسب القداسة تُرسًا لا يُقهر؟

كلمات "قداسة" أو "قديس" أو "قدوس" مأخوذة عن اليونانية "أجيوس"، وتحمل معنى اعتزال لما هو أرضي، أي ليس للأرض موضع في الشخص. هذا هو الجانب السلبي، أما الإيجابي، فإن الله قدوس، أي فيه كل الشبع، لا يحتاج إلى شيء خارجه. والقديس هو من يقتني هذا القدوس الذي يملأ كل كيانه الداخلي، فلا يشعر قط بفراغٍ، ليس للعالم موضع في أعماقه، بل يملأ الله كل قلبه ومشاعره وأحاسيسه.

يصوِّر الحكيم المؤمن كجندي روحي صالح، يحمل أسلحة البرّ، ويتمتع بإكليل الغلبة والنصرة، يستلمه من يد الرب نفسه، وفي نفس الوقت لا ينسب لنفسه النصرة، بل يستتر في يمين الرب، ويحتمي بذراعه الإلهية. الآن وقد لبس سلاح الله الكامل، الذي تحدث عنه الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس 6: 10-18، يقدم له الرب غيرته الإلهية عاملة فيه، وكأنه يقوم بتسليح خليقته لكي تستطيع أن تحتمي من إبليس، الذي يحمل روح العداوة ضد الرب نفسه.

بمعنى آخر إن كان الرب يُسلح خليقته البشرية، فهو لا يريدها أن تدخل طرفًا في المعركة، إنما يدخل الرب نفسه من خلالها ليحطم إبليس المقاوم.

يشحذُ (يجعله حادًا) غضبَه الذي لا ينثني سيفًا،

والعالَم يُحارب معه الأغبياء. [20]

حب الله الفائق نحو البشرية لا يعني مهادنته للأشرار أو تهاونه معهم، إذ لا يطيق الخطية والشر.

يستخدم الله القدوس خليقته سواء السماوية أو الأرضية لتأديب الأشرار هنا على الأرض. أما في يوم الدين فيرى القديس يعقوب السروجي أن الله يقيم الرسل ليدينوا، ليس من عندهم أو حسب أفكارهم، وإنما حسب فكر الله الذي لن يرى الأشرار مجده، حتى لا يتمتعوا به، ولكي لا يطلبوا رحمتهّ. وقد أشرت إلى ذلك أثناء تعليقي على العبارة الأولى من هذا الأصحاح.

فتنطلق البروق كسهامٍ مُحكمة التسديد،

ومن السحب كمن قوسٍ مُحكم التوتير،

تطير إلى الهدف. [21]

كثيرًا ما يصوِّر الكتاب المقدس الطبيعة الجامدة وهي تتحرك لتشهد لخالقها القدوس، فتقف في عداوة ضد الأشرار الأغبياء.

يرى الحكيم أن البروق قد تحولت إلى سهام في يد الخالق، يصوبها ضد الشر والأشرار، يطلقها من بين السحب، كما تنطلق السهام من القوس.

يورد هنا صورًا مختلفة من ثورة الطبيعة ضد الأشرار مقاومي القدوس الخالق. وهي أشبه بضربات تحل عليهم لتكشف ما في داخلهم من فسادٍ ودمارٍ:

أ. البروق المرعبة [21].

ب. البَرَد القاتل [22].

ج. أمواج مياه ثائرة [22].

د. طوفان أنهار لا ترحم[23].

ه. زوابع رملية في القفر [23].

غاية هذه الضربات وغيرها أن يكتشف الإنسان حقيقة أعماقه، لعل يدرك ما بلغه من خطر، فيرجع إلى الخالق مخلص النفوس.

فالبروق المصوَّبة من السحب كالسهام ترمز للإنسان الذي يقذف من فمه سهام الغش والكذب، فتكون ألسنتهم سهامًا مملوءة سمًا قاتلاً. كان المحاربون يدهنون السهام بمواد سامة، حتى متى اخترقت جسم إنسان تسممه حالاً.

والبَرَد الساقط كالحجارة يقتل العشب، يشير إلى دمار قلب الإنسان أي كرم الرب، فعوض أن يرتوي بمياه الروح ليثمر أشجارًا روحية مُشبعة، يتحول القلب إلى ارضٍ بورٍ مملوءة أعشابًا، يقتلها البَرَد.

والأمواج الثائرة، تشير إلى نفوس لا تعرف السلام والهدوء، بل في حالة اضطراب دائم.

وطوفان الأنهار يشير إلى التطرف في كل شيء، فلا يسلك الإنسان بحكمة لهلاكه بسبب تطرفه.

أما الزوابع الرملية فتشير إلى القلب الذي لم يقبل مياه الروح، فيتحول إلى قفرٍ قاتلٍ.

تبدأ ثورة الطبيعة بالبروق المصاحبة للرعود، ويرى العلامة أوريجينوس في الرعود والبروق إشارة إلى التعاليم الإلهية الصادرة من السماء والتي بها يؤدب الإنسان لكي يتعرف على أخطائه[222].

v     "أرسل سهامه فشتَّتهم" (مز 18: 14). لقد أرسل الإنجيليين يعبرون طرقًا مستقيمة على أجنحة القوة، ليس بقوتهم الذاتية، وإنما بقوة من أرسلهم. "فشتتهم"، عند الذين أرسلهم إليهم ليصيروا لبعضهم رائحة حياة لحياة، ولآخرين رائحة موت لموتٍ (2كو 2: 16). "وبروقًا كثيرة فأزعجهم" (مز 18: 14)، إذ ضاعف من العجائب وأزعجهم[223].

القديس أغسطينوس

وحبَّات بردٍ مليئة بالسُخط،

تُقذف من قذَّافة،

ومياه البحر تثور عليهم،

والأنهار تغمرهم بوحشية. [22]

إذ لا يسمع الإنسان الشرير لصوت التعاليم السماوية ويقبل استنارتها، غير مبالٍ بالرعود والبروق، تحل به ضربة البَرَد النازل من السماء كحجارةٍ ثقيلةٍ، وكأنها تقذف من العلا على زراعتهم وحيواناتهم، بل وحتى عليهم هم أنفسهم. وكما يقول المرتل: "أهلك بالبَرَد بهائمهم، ومواشيهم للبروق" (مز 78: 47-48).

يتساقط البَرَد القاتل للمزروعات، يحمل معه علامات الغضب ضد الشر، وكأنه قذائف يُحكم توجيهها.

وأيضًا يعلن البحر عن غضبه فيهيج، وتثور الأمواج ضد الأشرار.

والأنهار التي تروي الزراعة والحيوانات والبشر تفيض لتهلك بطوفانها دون رحمة.

إذ نقف هنا أمام القذائف التي تصدر مع البَرَد، نذكر ضربة المصريين الخاصة بالبَرَد والنار معًا. "فأعطى الرب رعودًا وبردًا، وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بَرَدًا على أرض مصر، فكان بَرَد ونار متواصلة في وسط البَرَد. شيء عظيم جدًا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة" (خر 9: 24-25). وللقديس مار أفرآم السرياني تعليق على هذا المنظر الغريب.

v     بّرَد ونار سقطا معًا. لم يطفئ البَرَد، ولا أذابت النار البَرَد كما في أدغالٍ، وتحول البَرَد إلى اللون الأحمر كأنه حديد في النار، يلتهب في البَرَد[224].

v     بأصوات الرعد والبرق، عاقب الرب المصريين الذين كانوا يستعبدون شعبه. والمسيح، برسله الاثنى عشر وبأصوات تعاليمه، عاقب الشياطين.

من السماء كانت أصوات الرعد تفزع المصريين؛ والرسل القديسون بتعاليمهم السماوية، صوّتوا وأفزعوا الشياطين.

ضرب الرب المصريين بالبَرَد والنار. وهذا العجب العظيم أن النار والماء كانا مختلطين ضربةً للمصريين. والمسيح برسله القديسين، ضرب الشياطين بمياه المعمودية المقدسة التي فيها يجتمع الماء ونار الروح القدس معًا. الماء لغسل وسخ الجسد، ونار الروح القدس لغسل وسخ النفس...

معمودية الروح، إن صح هكذا، هي البَرَد والنار اللذان بهما يضرب المسيح الشياطين كل حين على يد تلاميذه وخلفائهم إلى الأبد[225].

القديس مار أفرآم السرياني

يرى القديس أغسطينوس[226] أن ضربة البَرَد القاتلة هي فقدان الإنسان لمحبته لأخيه، إذ تجعله في برود قلب شديد وسط ظلمة ليل الجهالة.

يختم حديثه عن الضربات التي ستحل بالأشرار على الأرض بريح خطيرة تهب عليهم، فتذريهم كالزوبعة، وتحول حياتهم التي صارت أرضًا وليس سماءًَ إلى قفر، تفقدهم ما حسبوه عروشًا وكرامات.

في تفسير القديس هيبوليتس الروماني للريح الشرقية المدمرة (هو 13: 15)، يرى أنها ضد المسيح الذي يظهر في آخر الأيام ليقتنص إن أمكن حتى المختارين، ويضلوا عن الحق.

v     ما هي هذه الريح الحارقة القادمة من الشرق ويُجفف مجاري المياه وثمار الأشجار في زمانه، إذ يضع الشعب قلبه في أعماله؟ إذ يعبدونه في فساده[227].

القديس هيبوليتس

يروي ثيؤدورت أسقف قورش ما حدث في أيامه في حرب عام 441م قائلاً: [هذا ما حدث في زماننا، ففي الحرب التي حدثت مؤخرًا أهلك بالبَرَد والنار المتوحشين القادمين من الشمال يهاجموننا. حديثًا آثار الفارسيون حربًا علينا من الشرق، وكانوا يتوقعون الاستيلاء على مدننا بدون سفك دم، لكن مات بعضهم، والبعض طردهم ليقدموا تقارير عما حدث[228].]

وريح قدرة تهبُّ عليهم،

وتُذرِّيهم كالزوبعة.

والإثم يجعل من الأرض كلِّها قفرًا،

وارتكابُ الشرور يقلب عُروش القادِرين. [23]

تتحول الأرض إلى صحراء قفر مملوءة بالزوابع والعواصف الرملية المدمرة.

 


 

من وحي الحكمة 5

احملني في سفينتك فأنجو!

v     تتوق نفسي إلى يوم مجيئك!

يقف أولادك في جرأة أمام الذين سخروا منهم وضايقوهم!

يرونك فينعكس بهاؤك عليهم،

يلتصقون بك كموكبٍ سماويٍ،

فينعمون بأمجاد أبديه!

 

v     يا لبؤس الأشرار!

لا يقدرون على معاينة مجدك.

يصير مجيئك بؤسًا لهم.

 يتطلعون إلى أولادك فيجزعون!

 يُذهلون من خلاص بنيك الذي استخفوا به،

ولم يكونوا يتوقعونه!

 

v     يندمون ويتنهدون، ويعترفون أنهم كانوا أغبياء!

 وسط الظلمة الحالكة يبكت كل واحدٍ منهم الآخر،

 لكن، لم يعد أحدهم قادرًا على التطلع إلى شمس البُر.

 

v     يصرخون معترفين أنهم اختاروا الإثم والفساد،

 واستخفوا بطريق الرب!

 فقدوا كل شيء حتى حياتهم!

 تحولت ملذاتهم إلى علة مرارة أبدية!

 تحولت عجرفتهم إلى مذلة لا يُعبر عنها!

 مضت حياتهم الزمنية على الأرض،

 ولم يستطيعوا أن يقتنوا نصيبًا مع السمائيين!

 

v     الآن أصرخ إليك يا إلهي قبل فوات الأوان.

 هب لي مع الأبرار أن أعرفك، يا أيها الحق الإلهي،

 فلا تصير حياتي كلها كظلٍ عابرٍ وباطلٍ!

 هب لي أن أكون سحابة خفيفة تحملك،

 وليس ظلاً لسحابة يذهب ولا يعود

 سجل اسمي في كتابك مع بنيك،

 فلا تصير حياتي كإشاعة تعبر وتزول.

 احملني في سفينتك فأنجو،

 ولا أقف انشغل بأثر مرورها وسط الأمواج، دون أن أدخل فيها.

 هب لي جناحي روحك القدوس،

 فأطير, أكون معك في السماء،

ولا أقف متفرجًا أتطلع إلى قديسيك كحمامٍ طائرٍ!

 صوبٌَ سهم حبك في قلبي،

فتصرخ نفسي مترنمة:

 "إني مجروحة حبًا!"

 جراح حبك تشفيني وتعزيني.

 ليدخل سهمك الإلهي في أعماقي،

 ولا أنشغل بالبحث النظري عن ممره في الهواء.

 

v     هب لي أسلحة الروح يا أيها القائد الإلهي.

 فأدخل بك إلى المعركة،

 ويسقط إبليس العدو كالبرق من السماء.

 أتمتع بملكوتك الأبدي،

 وأتزين بالتاج الذي تقدمه لي يداك.

 بك وحدك انتصر وأتكلل،

ففي يمينك تسترني بنعمتك،

 وبذراعيك المبسوطين على الصليب تحميني وتحتضنني.

 

v     إلهي، تعاليمك ترعد في قلبي،

 فأمتلئ بخوفك ممزوجًا بالحب.

لتلقي بالبَرَد على خطاياي فتهلكها،

 ولا يكون لها سلطان فيٌ!

لتسمح لأمواج البحار أن تهدأ،

 فأتمتع بسلامك السماوي.

 لا أعود أخشى الطوفان،

 فإني مع نوح في داخل الفلك.

ولا أضطرب من الزوابع الرملية،

لأنك حولت بريتي إلى جنة مغلقة،

 لا تقدر زوابع العالم أن تقترب إليها وتقتحمها.

 لك المجد يا أيها العجيب في عطاياه!

<<


 

الأصحاح السادس

حديث ختامي

لم يكن سليمان يتطلع إلى نفسه بكونه ملكًا ورث العرش عن أبيه داود الملك العظيم، الذي أقام مملكة عظيمة وغلب أممًا كثيرة، لكنه حسب نفسه خادمًا لله. وها هو يطلب من كل الملوك الذين حوله، لا أن يركزوا أنظارهم على عروشهم وعظمتهم، بل على رسالتهم كخدام لملكوت الله، يحكمون بالصواب حسب فكر الله وحكمته، ويحفظون الشريعة كسائر الشعبٍ.

1. تحذير نهائي للقادة1-11.

2. الحكمة تأتي لمُلاقاة الإنسان12-21.

3. سليمان يصف الحكمة22-25

1. تحذير نهائي للقادة

فاسمعوا أيها المُلوك وافهموا!

وتعلموا يا قُضاة أقاصي الأرض![229] [1]

يعود سليمان فيؤكد أنه يوجه حديثه للملوك والقضاة وأصحاب السلطة والكرامات الزمنية، كما بدأ السفر. وكما قلنا في بداية السفر إن الحديث موجه إلى كل إنسانٍ، لأن الله خلق البشر ليكونوا ملوكًا وعظماء وأصحاب سلاطين. لم يخلق الإنسان ليكون عبدًا أو في مذلة، لكن بدخول البشرية في دائرة الخطية سقطت تحت قانونها الذي هو الاستغلال والاستبداد وتجاهل حقوق الغير وكرامتهم. فيليق بالمؤمن – أيا كان مركزه أو قدراته أو إمكانيته - أن يذكر ما خلقه الله عليه كصاحب سلطان، وأن يتطلع إلى كل بشرٍ، حتى وإن كان طفلاً صغيرًا أو مصابًا بعاهة ما، كشخصٍ له كرامته وتقديره حتى في عيني الله نفسه.

اصغوا أيها المتسلطون على الجماهير،

والمفتخرون بكثرة أممكم! [2]

كثيرًا ما يخشى الحكيم من إساءة استخدام السلطة سواء المدنية أو الدينية، فيربطها بالأبوة والحب للخاضعين لهم.

يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبودية ليست في خطة الله الأصلية[230].

ويُعلن اللاهوتي الكبادوكي القديس غريغوريوس النزينزي أن العبودية هي تمييز بين البشر أثيم، ومع ذلك فهي جزء من الواقع الحاضر[231].

وبنفس الروح يقول القديس باسيليوس الكبير إنه ليس أحد بالطبيعة عبدًا. لكنه في نفس الوقت لم يطلب مقاومة نظام المجتمع، إذ يقول: [وإن كان إنسان ما يُجعل سيدًا والآخر عبدًا، مع هذا فخلال نظرتنا الخاصة بالمساواة في الرتبة، نحن جميعًا قطيعًا لخالقنا، اخوة عبيد[232].]

إن كان هذا ما يليق بالقادة المدنيين، كم بالأكثر يليق بالقادة الروحيين أن يكونوا آباء محبين، يسندون أبناءهم بكل وسيلة، لا أصحاب سلطة، يأمرون ويتسلطون.

v     "وإن كان لكم ربوات من المرشدين... لكن ليس آباء كثيرون" (ا كو 15:4)... لا يطلب بولس هنا أية كرامة، بل بالأحرى يظهر عمق حبه. فالكرامة خاصة بالمرشد، والحب علامة الأب[233].

v     لقد رأيتم إنسانًا (بولس الرسول) جاب الأرض كلها، لأن طموحه وهدفه هما أن يقود كل إنسانٍ إلى الله. وقد حقق هذا الطموح بكل ما ادخره من قوة، وكأن العالم كله قد صاروا أبناءه، لهذا كان على عجلة من أمره.

كان دائم التجوال، كان دائم الحماس لدعوة كل البشرية لملكوت السماوات، مقدمًا الرعاية والنصح والوعود والصلاة والمعونة وانتهار الشياطين، طاردًا الأرواح المصرة على التحطيم.

استخدم إمكاناته الشخصية ومظهره والرسائل والوعظ والأعمال والتلاميذ وإقامة الساقطين بجهده الشخصي. فكان يسند المجاهدين ليثبتوا في جهادهم، ويقيم كل من طُرح ساقطًا على الأرض.

كان يرشد التائبين، ويعزي المتألمين، ويحذر المعتدين، ويراقب بشدة المقاومين والمعارضين.

شارك القائد والطبيب الشافي في الصراع، فمدّ يد المعونة ليهاجم أو يدافع أو يرشد حسب الحاجة في ساحة العمل، فكان كل شيءٍ للمنشغلين بالصراع...

في عظمته كان أكثر توهجًا وغيرة من أية شعلة نارٍ. ومن جهة إكليل كل الفضائل فقد فاق في المحبة (كل الفضائل). وكما ينصهر الحديد في النار فيصير الكل نارًا ملتهبة، هكذا انصهر بولس في المحبة، حتى صار هو نفسه محبة متجسدة.

صار كأنه أب عام للعالم كله. نافست محبته محبة الآباء بالجسد، أو بالأحرى فاقهم جميعًا في المحبة الجسدية والروحية، وفي الاهتمام والرعاية باذلاً كل ماله وكلماته وجسده وروحه، بل وكل كيانه من أجل الذين يحبهم[234].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن سُلطانكم أعطي لكم من الرب،

وسيادتكم من العليّ

وهو الذي سيفحص أعمالكم،

ويستقصي مشوراتِكم. [3]

لقد سبق فطلب داود أبوه من الملوك أن يتعقلوا، أي يسلكوا بفهمٍ وحكمةٍ وأدبٍ، ويسألهم أن يعبدوا الرب بمخافة مع تهليل. "فالآن يا أيها الملوك تعقلوا؛ تأدبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا برعدة" (مز 2: 10-11).

v     يحث داود الطوباوي الملوك والخاضعين له أن يجروا نحو المخلص، ويحتضنوا شرائعه المخلٍّصة، فيحصدوا نفعًا خلال إرشاد هذه الشرائع وتعاليمها (راجع مز 2: 10)...

إنه ملكنا كلنا، هذا الذي كانوا يظنون أنه ملك اليهود وحدهم. "اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا (تهللوا) برعدة" (مز 2: 11). بمعنى أن أولئك الذين يتهللون ويفرحون بخلاصهم يلزمهم ألاَّ يتكلوا على الرأفة وحدها، بل يلزمهم أن يكونوا في مخافة ورعدة مع البرَ المرتبط بهما. يقول الكتاب المقدس: "إن كنت تظن أنك قائم، فلتنظر أن لا تسقط" (راجع 1 كو 10: 12)... الآن بقوله: "برعدة" يعني "بندامة"، لئلا تتحول البهجة التي في الرب إلى بهجة في العالم[235].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

يقول دانيال النبي: "يعزلُ ملوكًا ويُنصِّب ملوكًا. يعطي الحكماء حكمة ويُعلم العارفين فهمًا" (دا 2: 20-21).

يُقصد بالسلطان هنا القوة وما يتمتع به الإنسان سواء من جهة المادة أو المركز أو العلم أو الذكاء. هذه جميعها يُمكن استخدامها للبنيان أو الهدم. لهذا فالحكمة خير من القوة، لأن الحكمة قادرة على توجيه القوة للبنيان. بالحكمة الإلهية يتمتع المؤمن باتحاده مع الله، فتتحول حتى الطبيعة لحسابه، ويشتهي السمائيون خدمته. بالحكمة التي هي السيد المسيح نقول مع الرسول بولس: "أستطيع كل شيء بالمسيح يسوع الذي يقوِّيني".

بالمسيح يسوع يتحدى المؤمن إبليس وكل قوات الشر، حتى أعداؤه يسالمونه. كما تتحول الشرور والضيقات لخيره. "كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله".

كلما زادت إمكانيات المؤمن وقدراته ومسئولياته يحتاج بالأكثر إلى التواضع ليغرف من حكمة الله القادرة وحدها على توجيهه ومساندته.

v     جميعنا متساوون بالطبيعة[236].

v     (خلقت البشرية في الأصل متكاملة) لكل واحد سلطان أن يدير حياته بلا سيد يلزمه، أن تكون له حياة بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد إلا أن تُستعبد؟![237]

v     ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشرية إلى عبيد وسادة[238].

v     الله وهب البشرية حق تقرير مصيرها (ليس للسيد أن يتحكم في حياة العبد)[239].

v     هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون هو مساو لك في كرامة الطبيعة[240].

v     أن تُقسم الخليقة التي يليق بها بحق الطبيعة أن تمارس المساواة، إلى عبيد وقوة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله[241].

v     (العبودية هي) افقدان لتكامل الكائن الحي[242].

v     حالة الاستقلال والحرية هي ميل الحكمة وتحرك لإرادة الإنسان[243].

v     أسمى مشكلة للحرية هي أن يكون الإنسان سيد نفسه[244].

القديس غريغوريوس النيسي

فإنكم أنتم خدام لملكه،

لم تحكموا بالصواب،

ولم تحفظوا الشريعة،

ولم تسيروا بحسب مشورة الله. [4]

يقدم الحكيم الشريعة أو الوصية الإلهية للقادة كي يدركوا أنهم خدام الله، وأن يتمموا إرادته في عملهم القيادي. فالملك، كما كل مؤمنٍ حقيقيٍ، هو خادم الله للصلاح، يشعر بأن رسالته لا أن يسيطر، بل أن يسند كل إنسان إن أمكن على حفظ الوصية الإلهية.

فسيطلَعُ عليكم مطلعًا مُرعبًا وسريعًا،

لأن حُكمًا لا يُشفِقُ يُجرى على الوُجهاء. [5]

هنا يوجه الحكيم حديثه للقيادات العاملة باسم الله، فإنهم يمثلون وكالة الله، ويليق بهم أن يسلكوا في المسيح يسوع، أي في حكمة الله. فيخضعوا لإرادة الله ويمارسوا وصيته ويقودوا إخوتهم للسلوك في المسيح يسوع.

إن ظن الملوك أنهم أصحاب سلطة فليدركوا أنه سيأتي ملك الملوك ورب الأرباب، هذا القادم سريعًا، يأتي في رهبة عظيمة ليحاكم العظماء كما العامة، لكن في غير محاباة سيكون حازمًا بالأكثر مع أصحاب المعرفة والسلطة، فهو لا يشفق على من لم يشفق على الخاضعين له.

فإن الصغير أهل للرحمة.

أما أرباب القوة فبقوةٍ يفحَصون. [6]

ينذر الحكيم العاملين في كرم الرب أن صاحب الكرم، الله نفسه يأتي فجأة ويدين العالم مبتدأ بالقيادات. فمن كان صغيرًا أي متواضعًا يستدر رحمة الله، أما من كان مستغلاً لسلطانه في كبرياء وتشامخ فيسقط تحت دينونة أبدية، فإن الحكم بلا رحمة لمن لم يستعمل الرحمة. بينما يُقال عن الرحماء "طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون" (مت 5: 7).

v     لا يُدان كل البشر في كل الأمور دون تمييز بينهم، إذ يقال: "القادرون يُعذبون بأكثر قوة" (راجع حك 6:6).وأيضًا: "الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد... يُضرب كثيرًا" (لو 12: 47). فالمعرفة الأكثر هي أساس لعقابٍ أشدٍ. لهذا إن مارس الكاهن نفس الخطأ الذي يرتكبه من هم تحت رعايته، فإنه لا يحتمل ذات العقوبة، بل عقوبة أخطر[245].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إن كان يمكن القول: "أرباب القوة فبقوة يفحصون" (حك 6: 6)، فإن ما يُطلب مني أكثر مما يطلب من الشماس، وما يطلب من الشماس أكثر من العلماني، أما من يحتل مركز القيادة الكنسية فوقنا جميعًا فيُطلب منه ما هو أكثر[246].

العلامة أوريجينوس

إذ تراجع الراهب هليودورس Helgiodorus عن الحياة النسكية الكاملة، وانفصل عن القديس جيروم الذي صحبه معه إلى الشرق، كتب له رسالة شديدة اللهجة يوبخه على هذا التصرف. وقد كان لهذه الرسالة أثرها القوي في الغرب حتى حفظها البعض عن ظهر قلب، مثل فابيولا Fabiola جاء فيها: [من يعهد له الله بالكثير، فإنه سيُطالَب أكثر (لو 12: 48). "فإن أرباب القوة بقوة يُعذبون" (راجع حك 6:6). لا يمكن لإنسانٍ أن يفتخر في يوم الدينونة لمجرد أنه طاهر جسديًا، فسيعطي الناس حسابًا عن كل كلمة بطالة (مت 12:36)[247].]

v     هل تظن أن حنانيا وقيافا ويهوذا الخائن جريمتهم ليست بأعظم من جريمة بيلاطس الذي أُلزم بغير إرادته أن يحكم على ربنا؟ خطية يهوذا تتناسب مع استحقاقه السابق، وكلما كانت الجريمة أكثر بشاعة كانت العقوبة أشد، "لأن أرباب القوة بقوة يُعذبون" (راجع حك 6:6)[248].

القديس جيروم

وسيدُ الجميع لا يتراجع أمام أحدٍ،

ولا يهابُ عظمة إنسانٍ،

لأن الصغير والكبير هو صَنَعَهما،

وهو يعتني بالجميع على السواء. [7]

لا يفلت من الدينونة العامة أحد، بل يقف الكل أمام الديان العادل. إذ هو خالق الكل والمهتم بالجميع، لذا فإنه يدين الكل بلا محاباة، فالكل موضع حبه ورعايته.

وكما كتب القديس باسيليوس الكبير إلى عذراء ساقطة يطالبها أن تذكر أنها لن تفلت من الدينونة، مثلها كسائر البشر.

v     اذكري يومكِ الأخير، فإنك بالتأكيد لن تختلفين عن كل بقيَّة النساء فتعيشين (هنا) إلى الأبد.

اذكري تلك الكارثة، حشرجة الموت وساعته، كلمة الله الرهيبة، إسراع الملائكة في طريقها، ارتعاب النفس خائفة.

اذكري لحظة الاحتضار حين تتألَّم النفس بسبب الشعور بالخطيَّة، حزينة على تلك الحياة الحاضرة مع ضرورة وجودها في الحياة الطويلة (الأبديَّة)...

صوِّري لي- كما تتخيَّلين – نهاية الحياة البشريَّة عندما يأتي ابن الله في مجده مع ملائكته "يأتي إلهنا ولا يصمت " (مز 50: 3). يأتي ليدين الأحياء والأموات، ويعطي كل واحد حسب أعماله، فعندما يبوِّق ذلك البوق المرعب يخرج كل أولئك الذين رقدوا عِبْر الأجيال، فيأتي الذين صنعوا الصالحات إلى قيامة الحياة، وأما الذين صنعوا السيِّئات فإلى قيامة الدينونة (يو 5: 29).

تذكَّري رؤية دانيال كيف أوضح يوم الدينونة أمامنا "كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي... وعرشه لهيب نار، نار متَّقدة نهر نار جرى وخرج من قدَّامه ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدَّامه فجلس الدّين وفتحت الأسفار..." (دا 7: 9-10).

سيعلن علنًا أمام الناس والملائكة الصالحات والسيِّئات، الأمور العلانيِّة والخفيَّة، أعمال الكل وأقوالهم وأفكارهم.

إذن ماذا يفعل أولئك الذين يعيشون حياة شرِّيرة؟!

أين تختبئ تلك النفوس التي ينفضح خزيها أمام الجميع؟!

بأيّ جسد يحتمل هؤلاء ما لا يُحتمل من الآلام في النار التي لا تُطفأ والدود الذي لا يموت، في أعماق الهاوية حيث الظلمة والرعب والنحيب المر والعويل والبكاء وصرير الأسنان الذي بلا نهاية؟!

هناك لا يوجد مجال للانطلاق من هذه الويلات بعد الموت، فلا نصيحة ولا وسيلة للهروب من الألم[249].

القديس باسيليوس الكبير

لكن المُقتدرين ينتظرُهم تحقيق شديد. [8]

سيدين الله كل إنسان حسب قدراته ومواهبه ومركزه، الأمور التي وُهبت له للعمل بها لحساب إخوته في البشرية، لا أن يستخدمها بروح الأنانية كإمتيازٍ خاص به. وقدر ما نال من الإمكانات ينتظره تحقيق أو محاسبة تتناسب مع ما تمتع به.

فإليكم أيها الملوك أُوجِّه كلامي،

لكي تتعلموا الحكمة ولا تزِلوا. [9]

يدعو الحكيم الملوك للتعلم والتمتع بالحكمة عوض التشامخ بالسلطة والقوة، حتى لا يسقطوا في الشر، وتحت الدينونة.

يبقى الإنسان الحكيم متعطشًا للتعلم مادام بعد في هذه الحياة، حتى وإن كان ملكًا أو قائدًا روحيًا. فإنه ليس من إنسان ليس في حاجة إلى التعلم المستمر، مادام لا يزال بعد في الجسد.

فإن الذين يحفظون بقداسةٍ ما هو مُقدَّسٌ،

يُشهد لهم بالقداسة،

والذين يتعلمونَه يجدون فيه دفاعًا. [10]

سلاح الملوك هو القداسة، ليتمثلوا بملك الملوك القدوس. فبالقداسة الحقيقية يقفون أمام القدوس في الدينونة متهللين. وكما يقول القديس بولس: "لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه" (1 تس 3: 13)، "اتبعوا السـلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب 12: 14).

يدعوهم أيضًا إلى الاستماع للنصيحة التي يقدمها لهم لكي يتأدبوا، أي يقبلوا تأديب الرب بفرحٍ ليحملوا صورة القدوس.

v     من يحلم أنه قادر على الدخول إلى السماء دون طهارة القلب وبرّ الحياة وقداسة الجسد يموت في هذا الوهم ليستيقظ فيجد نفسه في خزي وعار أبدي.

القديس ايريناؤس

فارغبوا في كلماتي،

واصْبوا إليها تتأدَّبوا. [11]

إذ يتحدث الحكيم بروح الحب في شوقٍ حقيقيٍ لنموهم ونجاحهم، يسألهم بروح الأخوة الصادقة أن يرغبوا في كلماته، ويصبوا إليها أو يشتاقوا إليها، فتصير لهم معرفة صادقة أو تعاليم لائقة.

إنه لا يسألهم الطاعة، كمن يأمر فيلتزموا بالخضوع والتنفيذ. وإنما بروح الحب يُرشد ويكشف عن أسرار الحياة الناجحة وعن الطريق الذي يبلغ بهم إلى الأمجاد الأبدية، لهذا يترجاهم مراجعة الأمر لتلتهب قلوبهم شوقًا نحو الحق.

2. الحكمة تأتي لمُلاقاة الإنسان

الحكمة مجيدة لا تذبُل،

نعم! تسهُلُ مشاهدَتُها على الذين يُحبونها،

ويجدها الذين يلتمسونها. [12]

هنا يعلن الحكيم عن طبيعة الحكمة، فهي من جانب مجيدة، وأمجادها ليست وقتية بل دائمة وأبدية، لا تذبل. ومن الجانب الآخر تسعى نحو الإنسان، وتعلن عن حضورها، وتكشف عن ذاتها لمن يحبها. إنها سهلة المنال وبسيطة للغاية، وحاضرة على الدوام.

حقًا إنها لا تقحم نفسها ولا تحتل قلب إنسان عنوة بغير إرادته، فإنه إن التمسها وطلبها يجدها أمامه، مشتاقة للسكنى فيه.

هنا يتحدث عن الحكمة بكونها الأقنوم الثاني، الكلمة الإلهي، المجيد، ومجده سرمدي، وحاضر في كل مكان، مسرته أن يثبت فينا ونحن نثبت فيه.

تسبق فتُعرِّف نفسها إلى الذين يرغبون فيها. [13]

مع بهاء الحكمة العجيب ونضرتها الفائقة، أي إثمارها الذي لا ينقطع فإن الذين يحبونها ويتلمسونها يتعرفون عليها، معرفة الخبرة العملية والحياة.

لم يقل يمكننا معرفة الحكمة، إنما هي تُعرف نفسها إلى من يرغبها. فالإنسان بقدراته البشرية الطبيعية يعجز عن معرفة الحكمة الإلهي. فلا يستطيع أحد أن يقول عن المسيح ربًا إلاَّ بالروح القدس. لا يختبر أحد عذوبة حكمة الله وقدراته وإمكانياته إلاَّ من تنسكب المحبة في قلبه بالروح القدس (رو 5: 5).

من يقتني السيد المسيح يتعرف عليه ويحيا به ويتمتع بحكمته الإلهية، ويصير بالحق سفيرًا له.

ومن بَكَّر في طلبها لا يتعب كثيرًا،

لأنه يجدها جالسة عند أبوابه. [14]

يدعونا الحكيم أن نشتاق إلى الحكمة ونبتغيه، فيتجلى في قلوبنا كما على جبل تابور. سرّ تعبنا وعدم قدرتنا على اكتشاف شخص السيد المسيح وتمتعنا به أننا لا نبكر إليه. "أنا احب الذين يحبونني والذين يبكرون إلي يجدونني" (أم 8: 17). ليكن هو الأول في قلوبنا وأفكارنا وحواسنا، لن يحتل أحد ما ولا شيء ما مركزه فينا.

الحكمة أو السيد المسيح من جانبه جالس على أبوابنا الداخلية يستأذن بدخوله. "هنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي، وفتح الباب أدخل اليه وأتعشى معه وهو معي (رؤ 3: 20).

v     لقد أعطانا الله الروح القدس حليفًا وحارسًا قديرًا، ومعلمًا عظيمًا للكنيسة، وبطلا قويًا لإعانتنا. فلا تخف إذن من الأبالسة ولا من الشيطان لأن الذي يحارب عنا أقوى منهم.

لنفتح له أبوابنا، إذ يبحث عمن يستحقونه ويفتش عمن يستطيع أن يهبهم مواهبه[250].

القديس كيرلس الأورشليمي

يدعونا الحكمة إلى التبكير في طلبه، فما كان يمكن لأحد من الشعب في البرية أن يتمتع بالمن النازل من السماء ما لم يبكر ويجمعه قبل شروق الشمس.

إنه سبق فبادر بالحب، جاء إلينا بنفسه. إنه في محبة يطلب من النفس البشرية قائلاً: "افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل، وقُصصي من ندى الليل" (نش 5: 2). فإذا ما استخفت به، وفضلت النوم عليه، وفي خمول رفضت ترك سريرها لتفتح له الباب، تفقد فرصة اللقاء معه، فنقول: "فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحوَّل وعبر، نفسي خرجت عندما أدبر، طلبته فما وجدته، دعوته فما أجابني" (نش 5: 6).

فالتأمل فيها كمال الحكمة،

ومن سهر لأجلها سرعان ما يخلو من الهُموم. [15]

لنفتح لمخلصنا أبوابنا الداخلية بخلوتنا في هدوء نتأمل حاجتنا إليه، ونسأله أن يدخل ويعلن ذاته فينا. نسهر ونرفض أن ننام، قائلين مع أبينا يعقوب: "لا أطلقك إن لم تباركني" (تك 32: 26).

فالطريق للحكمة بين أيدينا، بل في داخلنا، والتمتع بها سهل للغاية، إن كنا نبكر إليها، وننسى كل شيء من أجلها. ونصغي إلى صوتها قبل كل صوتٍ آخر.

يسألنا الحكيم حياة السهر الروحي، أي الاهتمام بالالتصاق بالرب، فلا يقدر الهمّ أن يلتصق بنا، بل نتحرر منه، ونصير في شركة مع السمائيين.

لأن الذين أهل لها هي التي تجول في طلبهم،

وفي السبل تظهر لهم بعطفٍ،

وفي كل فكر لهم تأتي لمُلاقاتهم. [16]

يؤكد الحكيم حقيقة الحب الإلهي الفائق، فالحكمة الإلهي وإن كان لا يقتحم نفوسنا بغير إرادتنا، إلا أنه واقف على الباب يطلب الدخول فينا. نحن من جانبنا نبكر إليه معلنين رغبتنا في قبوله، وهو من جانبه يجول كمن يبحث عنا، ويظهر لنا وسط كل ظروفنا كمن في وسط الطرق يطلب إلينا أن نقبله، بل ويعلن ذاته في أفكارنا لكي نشتاق إليها ونشتهي سكناه فينا.

فأولها الحقيقي هو الرغبة الصادقة في التأديب،

والاهتمام بالتأديب هو المحبة. [17]

يقدم لنا الحكيم السلم الذي نصعد به لنتمتع بالحكمة، درجات السلم الخمس هي:

أ. قبول التأديب: المؤمن المشتاق للحكمة يكره الخطية، فيقبل بفرح ما يحل به من تأديب بسماح إلهي، حتى تتمرر الخطية في فمه ولا يجد فيها أية لذة.

ب. بقبوله تأديب الرب له في إخلاص وبساطة قلب، ينفتح قلبه بالأكثر لمحبة الله. فلا تشغله ملذات العالم ولا يرتبك لأتعاب الحياة الزمنية، إنما تُمتص كل طاقاته في الحب الإلهي.

ج. إذ يحب الله يحفظ وصاياه، وكما يقول السيد المسيح: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني" (يو 14: 13).

د. من يحفظ الوصية الإلهية، تحفظه الوصية فيحمل برّ المسيح ويظهر أمام الآب متبررًا مجانًا، في طهارة ونقاوة.

هـ. إذ يتمتع المؤمن بالنقاوة يلتصق بالرب ويراه. "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8).

والمحبة هي حفظ شرائعها،

ومُراعاة الشرائع هي ضمان عدم الفساد. [18]

وعدم الفساد يجعلنا متقرِّبين إلى الله. [19]

تهب الحكمة الناس الخلود والشركة في ملكوت الله.

ليس ما يشغل قلب الحكيم مثل التقرب لله، والوجود معه أبديًا، لذا كثيرًا ما يتحدث عن الخلود وعدم الفساد أو عدم الموت في الحياة الأبدية.

v     الإنسان فانٍ بطبيعته، لأنه خُلق من العدم، إلا أنه بسبب خلقته على صورة الله الكائن، كان ممكنًا أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي، ويبقى في عدم فناء، لو أنه أبقى الله في معرفته، كما تقول الحكمة: "حفظ الشرائع تحقق عدم البلى" (حك 6: 18). وبوجوده في حاله عدم الفساد كان ممكنًا أن يعيش منذ ذلك الحين كالله (خالدين)، كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك إذ يقول: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6، 7)[251].

البابا أثناسيوس الرسولي

فالرغبة في الحكمة تقود إلى الملكوت. [20]

v     هذه العواطف (الاشتياقات) تكون شريرة إن كان الحب شريرًا، وصالحة إن كان الحب صالحًا. لنبرهن على هذا من الكتاب المقدس. فالرسول يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 1: 23). وقيل "انسحقت نفسي شوقًا إلى أحكامك" (مز 119: 20). وأيضًا "الرغبة (اشتهاء) في الحكمة تقود إلى الملكوت" (حك 6: 20)[252].

القديس أغسطينوس

فإن طابت لكم العروش والصوالجة يا ملوك الشعوب،

فأكرموا الحكمة لكي تملكوا للأبد. [21]

يوجه الحكيم أنظار الملوك إلى الملكوت الأبدي، وطريقه هو التمتع بالحكمة.

حقًا أقامنا لله هنا لنكون ملوكًا وسادة، لكن إذ نختبر مالنا من سلطان روحي وإمكانيات في المسيح يسوع، يرتفع قلبنا إلى السماء لننعم مع ملك الملوك ورب الأرباب بالأمجاد الملوكية السماوية.

هنا نملك حيث يكون لنا سلطان على الفكر والقلب واللسان وكل الحواس، وهذا عربون الملكوت السماوي الحقيقي.

يوجه الحكيم أنظار الملوك إلى الملكوت الأبدي: "لكي تملكوا للأبد

إذ هاجمت بعض الفرق العهد القديم وادعت أنه لم يشر إلى ملكوت السماوات الأبدي أشار القديس أغسطينوس إلى العبارة التي بين أيدينا مع عبارات أخرى اقتبسها من العهد القديم ليؤكد دعوته للملكوت الأبدي.

v     لقد قيل حقًا: "أحبوا الحكمة لكي تملكوا للأبد" (راجع حك 6: 21). لو أن الحياة الأبدية لم تُعرف بوضوح في العهد القديم، لما قال الرب لليهود غير المؤمنين: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي" (يو 5: 39). ولنفس الهدف جاءت كلمات المرتل: "لا أموت، بل أحيا وأحدث بأعمال الرب" (مز 118: 17). مرة أخرى يقول: "أنر عينيَّ لئلا أنام نوم الموت" (مز 12: 3). مرة أخرى نقرأ: "نفوس الأبرار هي بيد الرب، فلا يمسها أي عذابٍ" (حك 3: 1). ويتبع ذلك فورًا: "إنهم في سلامٍ، وإن عانوا من عذاب من بشر، فرجاؤهم مملوء خلودًا، وبعد متاعبٍ يسيرة سيكون لهم مكافأة عظيمة". مرة أخرى يقول في موضع آخر: "أما الأبرار فسيحيون للأبد، وعند الرب ثوابهم، ولهم عناية من لدن العليّ، فلذلك سينالون مملكة مجدٍ وتاج جمالٍ من يد الرب" (حك 5: 15-16).

هذه العبارات وكثير من أمثالها عن الحياة الأبدية في صراحة أكثر أو أقل توجد في هذه الكتابات. حتى قيامة الجسد تحدَّث عنها الأنبياء[253].

القديس أغسطينوس

3. سليمان يصف الحكمة

وأنا أخبركم ما هي الحكمة وكيف نشأت،

ولا أكتم عنكم الأسرار.

لكني أتقصَّاها من أول نشأتها،

وأجعل معرفتها بيِّنة،

ولا أحيد عن الحق. [22]

يعّرف الكاتب نفسه أنه سليمان الذي تمتع بعطية الحكمة، فلا يقدر أن يكتم أسرارها، لئلا يُحسب جاحدًا لعطية الله، أو غير محبٍ لإخوته إنه يود أن يتعرف كل إنسان عليها فيحبها ويطلبها من الله مصدرها ويقتنيها معه!

الحكيم الحقيقي يسلك بالبرّ الذي لا موضع للأنانية في قلبه، فيشتهي أن يتمتع الكل معه فيما ناله.

الحكمة ينبوع مياه حية كلما شرب الغير منها حفظ الينبوع نقاوة مياهه حيث يفيض بها دون توقف، فلا تصير مياهه راكدة تتعرض للتلوث بالطحالب والميكروبات.

يود الكاتب أن يكشف عن الحكمة الصادرة عن الله، لأنه قد حدث تشويش في أفكار كثير من الناس، فيحسبون اللذة هي الحياة السعيدة، وبالتالي تنصب الحكمة في ملذات الجسد والتمتع بالعطايا الزمنية واللهو، أما الإلهيات والسماويات ففي ذهنهم هي خيال ووهم، تفقد الإنسان تعقله وحكمته.

v     التعريف العادي للحكمة هو طلب ما هو صالح وتجنب الشر. لذلك فإن الرسول على حق في وصفه لحكمة الجسد (كعداوة لله)، بكونها اشتياقًا للخيرات التي لا تدوم مع الإنسان حيث يوجد خوف من فقدان هذه الأمور يومًا ما حيث يتركها خلفه. مثل هذه الحكمة لا تقدر أن تخضع لناموس الله. يجب أن تُحطم لكي ما تحتل مكانها حكمة الروح هذه التي لا تضع رجاءها في الخيرات الأرضية ولا تخشى الشرور العالمية. فإن طبيعة النفس الواحدة لها حكمة الجسد متى طلبت الأمور الدنيا كما لها حكمة الروح متى طلبت الأمور العليا، وذلك كطبيعة الماء الواحدة التي تتجمد في البرد وتذوب في الحر[254].

القديس أغسطينوس

v     مادام الجسد يحيا... لا يمكن لمؤمنٍ أن يسر بإرادة الله ويتممها بنشاط في حياته[255].

القديس غريغوريوس النيسي

v     الحكمة الجسدية موت، لأن الخطية خطيرة، وخلال الخطية جاء الموت. إنها تُدعى حكمة مع أنها جهالة. لأنه بالنسبة للناس العالميين الخطية -  سواء بالفكر أو بالعمل - تُحسب حكمة، المدركة مع أنها ضد ناموس الله، خاصة وأن الذين يخطئون ممتلئون نشاطًا وذكاءً[256].

أمبروسياستر

ولا أسير مع الذي يذوب حسدًا،

لأنه لا شركة له في الحكمة. [23]

يحثنا الحكيم على محبة نور الحكمة، فالعالم نوره قائم على الشمس التي تنير الأمور الظاهرة، أما نور الحكمة فيهب النفس استنارة لترى الخفيات وتتعرف على أسرار السماء، ويكون لها الحكم الصائب.

يحذرنا الحكيم من الحسد الذي يفسد عيوننا عن رؤية النور الحقيقي. ليس من شركة بين الحكمة التي هي في ذاتها حب لله والناس وبين الحسد الذي لا يحمل حبًا لله والناس. ليس من عدوٍ يفسد الحكمة في حياة الإنسان مثل الحسد، الذي لا حظَّ له في الحكمة، أو لا شركة له معها.

تحدث القديس أغسطينوس عن حسد راحيل الجميلة الحادة البصر لليئة صاحبة العينين الضعيفتين، لأن الأولى كانت عاقرًا والثانية فتح الرب رحمها لتثمر فتصير محبوبة من رجلها[257]. إن استعرنا ما كتبه القديس أغسطينوس في هذا الأمر في شيء من التصرف نقول بأن راحيل تمثل الإنسان الذي يكرس كل طاقاته في حياة التأمل وحدها، له البصيرة الحادة ليتمتع برؤية أسرار إلهية، لكنه لا يخدم. وليئة تمثل الإنسان الروحي الجاد والعامل في كرم الرب فيأتي بأبناء كثيرين للملكوت. فإنه لا غنى للإنسان عن الحياتين معًا، لكي يتمتع برؤية أسرار الله ويعمل في كرمه. هذا وأنه لا يليق بمن يكرس الجانب الأكبر لحياته للتأمل أو للخدمة أن يحسد الآخر، بل يكمل أحدهما الآخر، ويطلب كل منهما ما هو للغير بروح الحب.

إن كثرة الحُكماء خلاصُ العالم،

والمَلِك الحكيم ثباتُ الشعب. [24]

ليس من خلاصٍ للعالم بدون المؤمنين الحقيقيين الذين يتمتعون بالحكمة. جاء في الرسالة إلى ديوجنيتس:

[يقيم المسيحيّون في العالم كما تقيم الروح في الجسد.

الروح منتشرة في أعضاء الجسد انتشار المسيحيّين في مدن العالم.

الروح تقيم في الجسد، إلاَّ أنّها ليست من الجسد المنظور...

الجسد يكره الروح ويقاومها، وإن لم ينله منها أذى، سوى أنّها تحول دون انغماسه في حمأة اللذات. والعالم يكره المسيحيّين، لا لأنّهم أساءوا إليه، بل بكونهم يتصدّون لما فيه من شهوات منحرفة فاسدة. تحب الروح الجسد الذي يبغضها، كما يحب المسيحيّون مبغضيهم.

الروح سجينة الجسد، ولولاها لما كان للجسد من حياة، والمسيحيّون موثقون في سجن العالم، ولولاهم لا قيام ولا حياة للعالم.]

هكذا فإن الحكيم الحقيقي إذ يحمل السيد المسيح في قلبه يصير محبًا للبشرية (للعالم) مشتاقًا إلى خلاص الجميع.

فالحكمة ليست معرفة نظرية لكنها حب عملي لكل العالم، وشوق إلى بنيان كل نفسٍ وتمتعها بالمجد الأبدي. فبقوله "تأدبوا بأقوالي" يسألنا ألاَّ يتحول هذا الحديث إلى فكر فلسفي مجرد، وإنما إلى حياة عملية ونفع حقيقي.

v     "إن كثرة الحكماء خلاص العالم" (حك 6: 24). هكذا يشتهي الرسول لمن يحدثهم أن يكونوا هكذا: "أريد أن تكووا حكماء للخير، وبسطاء للشر" (رو 16: 19). الآن، إذ لا يستطيع أحد أن يُوجد بذاته هكذا لا يقدر أن يكون حكيمًا بذاته، وإنما بالاستنارة بفيض ذاك الذي كُتب عنه: "كل حكمة هي من عند الرب" (سي 1:1)[258].

القديس أغسطينوس

فتأدبوا بأقوالي تستفيدوا منها. [25]

يختم الحكيم حديثه هنا بالكشف عن غايته، إنه لا يطلب لنفسه شيئًا، بل ما هو لنفعهم وبنيانهم.

 


 

من وحي الحكمة 6

هب لي روح الأبوة الحكيمة

v     طأطأتَ السماوات ونزلت إلينا، يا ملك الملوك ورب الأرباب.

نزلت لتخدمنا نحن عبيدك الخطاة،

ولم تطلب خدمة لنفسك.

أحببتنا، وتواضعت لكي ترفعنا.

يا لعظم تواضعك وحبك!

 

v     انزع عني روح التسلط ومحبة المجد الباطل.

هب لي أن أقتنيك،

فأقتني روح التواضع والوداعة والحب الحقيقي.

أحب كل إنسانٍ، وأحترم كل إنسانٍ،

أيا كان عمره، ولو كان يومًا واحدًا،

ومهما كانت قدراته وإمكانياته ومركزه،

ولو كان معدمًا في كل شيء.

لتكن شريعتك هي ناموس حياتي،

وحكمتك هي القائد والمرشد لأعماقي، كما لسلوكي وكلماتي.

 

v     وهبتني الكثير، فسأُطالب بالكثير.

اعترف لك بكسلي وتهاوني وعدم أمانتي.

من يُصلح من أمري سواك؟

من يجددني غير روحك القدوس؟

من يعينني سوى نعمتك الفائقة؟

 

v     إني مشتاق إلى سرعة مجيئك،

فإني أعلم أنك أب رحوم،

تقدم لنا شركة أمجادك السماوية.

إن حاكمتني، كيف أتبرر قدامك؟

ليس في جسدي شيء صالح.

لكن لي ملء الثقة في غنى نعمتك، وقوة صليبك!

تعال, وليُعِدَني روحك الناري بالتقديس،

فألتقي بك يا أيها القدوس.

 

v     إلهي، اقف في دهشة أمام مبادرتك بالحب وتنازلك!

أراك حاضرًا على الدوام,

تود أن تتجلى أمام كل نفسٍ,

وتطلب كل إنسانٍ لتهبه ذاتك، يا أيها الحكمة الإلهي!

نعم إنك لست ببعيد عن أحدٍ،

بل قريب إليه، أقرب من والديه أو أبنائه.

أنت تبكر إلينا،

هب لنا أن نبكر إليك.

أنت جالس عند أبوابنا،

تفضل واسترح في أعماقنا.

 

v     أنت تسهر على خلاصنا،

ليس ما يشغلك في السماء سوى أبديتنا.

هب لنا أن نسهر لأجل أنفسنا.

أنت تجول الطرق كمن يبحث عنا.

هب لنا أن نشتاق إليك وننعم باللقاء معك.

هب لي أن أتعرف على حبك فأحبك.

هب لي بالحب أن أحفظ وصاياك،

فاقترب إليك، وتسكن أنت في.

هب لي أن تحملني فيك، فأنعم بملكوتك.

 

v     أقتنيك يا ملك الملوك، فأحسب كل ما في العالم نفاية.

أحبك فأملك معك إلى الأبد.

أقتنيك يا حكمة الله، فأتعرف عليك وأدرك أسرارك.

احمل روحك، فتجعلني حكيمًا،

وبالحكماء تخمر عجين هذا العالم كله.

 

<<


 

الباب الثاني

 

 

 

 

يا لعظمة الحكمة!

حك 7 – حك 9

 

1. الحكمة للجميع 7.

2. الحكمة العروس الخالدة 8.

3. صلاة سليمان 9.


 

الحكمة بين يديك

في القسم السابق (حك 1- حك 6)، يدعو الحكيم كل إنسانٍ، خاصة الملوك والرؤساء والقادة، إلى طلب الحكمة.

مقارنة بين الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار

بعد أن كشف عن التكامل بين الحكمة والبٌر واهب الخلود، وعن دور الحكمة في حياة الإنسان، قدٌَم مقارنة عملية بين الحكماء الأبرار والجهلاء الأشرار:

1. يتمتع الحكماء بالبٌر واهب الخلود، بينما ينغمس الجهلاء في الملذات الزمنية الفانية.

2. يحمل الحكماء روح الحب، ويحمل الجهلاء روح الكراهية والبغضة نحو الأبرار، لأنهم يدينوهم حتى وسط آلامهم وفي صمتهم.

3. يتعرف الحكماء على خطة الله من نحو الإنسان، خاصة ما يسمح به من تأديبات، بينما يسخر الجهلاء من الأبرار، حاسبين أنهم فقدوا الحياة بعدم مبالاتهم بالملذات الزمنية.

4. يتمتع الحكماء الأبرار بالفضائل كثمار حية ترافقهم، حتى وإن لم يكن لهم أبناء، أما الأشرار فيركزون على كثرة النسل تخليدًا لذكراهم، ولكن بلا جدوى.

5. لا يرهب الحكماء الموت، لأن نفوسهم بيد الله هنا على الأرض وفي الأبدية، وأما الجهلاء فيتطلعون إلى موت الأبرار المبكر أو حرمانهم من أبناءٍ يخلدون ذكراهم، أو دخولهم في ضيقات، أنها جزاء عادل لهم.

6. تتركز أنظار الحكماء على السماء، مما يسكب عليهم روح التهليل، أما الجهلاء فيحملون نظرة سوداوية، فيفقدون كل رجائهم، ويسخطون على حياتهم مهما تمتعوا من بركات زمنية.

7. ليس من وجهٍ للمقارنة بين مصير الحكماء الأبرار الأبدي ومصير الجهلاء الأشرار. فيقف الأولون بجرأة أمام من كانوا يضطهدونهم، ويرتعب الجهلاء، مدركين أنهم كانوا أغبياء، حرموا أنفسهم من التمتع بالتبني لله.

v     عند صوت البوق ترتعد الأرض وشعوبها وأما انتم فتفرحون.

سيولول العالم عند مجيء الرب للدينونة، وستضرب قبائل الأرض صدورها.

للحال يرتعب الملوك في عريهم، لكنك يا من تبدو فقيرًا و قرويًا ستكون ممجدًا و ضاحكًا، وتقول :"تطلع يا ربي المصلوب، تطلع يا من تقضي إلي[259]ّ".

القديس جيروم

8. بينما يتمتع الحكماء الأبرار بشركة الأمجاد السماوية، يُغلق الباب أمام الجهلاء الأشرار، فندمهم لا يدفعهم إلى التوبة والرغبة في الرجوع إلى الله.

أخيرًا يختم الحكيم القسم الأول بتحذير ختامي للملوك والقادة وكل إنسانٍ لئلا يفقدوا فرحتهم في طلب الحكمة.

تساؤلات عن الحكمة

بعد أن رفعنا سليمان الحكيم كما إلى السماء لنطلب الحكمة، أو شخص ربنا يسوع المسيح بكونه بٌرنا واهب الأمجاد، يجيب في القسم الثاني على بعض التساؤلات، مثل:

v     هل الله يحابي الوجوه، يعطي البعض، ويحرم البعض الآخر؟

v     لماذا نال سليمان الحكمة، بينما لم ينلها بعض الملوك؟

v     ما هو دور الحكمة وعملها في حياة سليمان الملك؟

v     كيف يمكننا نوال الحكمة؟

v     كيف صلي سليمان لطلب الحكمة، فنالها؟

تجيب هذه التساؤلات على الذين يدعون أنهم يطلبون الحكمة من الله ولم ينالوها.

هذا هو موضوع القسم الثاني من السفر (حك 7 - حك 9). هذا ويُلاحظ أن الملك سليمان يمتدح الحكمة ويكشف عن ماهيتها، ويعلن عنها أنها عطية الله، تُقدم لسائليها. يعالج هذا القسم الحكمة كشخصٍ له سماته وعمله في الخليقة. وقد جاء هذا القسم مطابقًا لما ورد في أمثال 8.

يخصص الكاتب هذا الفصل كله لإبراز الحاجة إلى الحكمة ومدى عظمتها. فبعد وصفه لها، وشرحه لدورها في حياة الأبرار والأشرار، يقدم لنا صورة رائعة عن عظمة الحكمة، وكيف ركز سليمان صلواته على طلبها.

1. سرّ نوال سليمان الحكمة (حك 7)

كملك عظيم لا يختلف سليمان عن أي إنسان في الحبل به ومولده ومماته. يشارك الكل ذات الهواء وذات الأرض...

أما لماذا طلب سليمان الحكمة من الله ونالها، فإنه لم يتحقق هذا عن محاباة له، إنما لأنه طلبها بكل قلبه، إذ كان يدرك قدرها:

أ. فضَّلها عن العرش والغنى (8:7).

ب. أحبها فوق الصحة والجمال، واتخذها نورًا له، "لأن ضوءها لا يغرب" (7: 10).

ج. حسبها أم ومصدر كل البركات (12:7).

د. أدرك أنها تُقدم له معرفة بالكون (17:7). فهي "مهندسة كل شيء، هي علمتني" (21:7).

هـ. تحل في النفوس القديسة، فتُنشئ أحباء لله وأنبياء" (27:7)، وتهبهم المعرفة الصادقة.

و."فيها روح الفهم القدوس" (22:7).

ز. تعٌَرف على سماتها الحقيقية، فصارت لها مكانتها في قلبه في وفكره، تحتل مركز الصدارة في أعماقه.

2. العروس الجميلة الخالدة (حك 8)

 بعد أن تحدث عن سرٌ نواله الحكمة، كشف لنا الحكيم عن مدى ارتباطه بها. إنها عروسه المحبوبة لديه جدًا، يعشقها، وهي لا تكف عن أن تعمل في حياته بلا توقف.

إنها تبلغ من غاية إلى غاية بالقوة، وتدبر كل شيء بالرفق (1:8).

"اتخذتها لي عروسًا، وصرت لجمالها عاشقًا، فإن في نسبها مجد، لأنها تحيا عند الله، ورب الجميع قد أحبها" (2:8، 3).

"لأنها تعلم العفة والفطنة والعدل والقوة التي لا شيء للناس في الحياة أنفع منها" (7:8).

"مفرجة لهمومي وكربي" (9:8).

"أنال بها الخلود" (13:8).

"ليس في معاشرتها مرارة، ولا في الحياة معها غمّ، بل سـرور وفرح" (8: 16).

3. صلاته من أجل نوال الحكمة (حك 9)

أخيرًا، يقدم لنا صلاة سليمان كمثالٍ عمليٍ لنا، حتى نطلب الحكمة الإلهية، ونمارس طلبتنا لها من الله بذات الروح.

"هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك" (4:9).

<<


 

الأصحاح السابع

شخصية سليمان

كثيرًا ما سُئلت: كيف يُمكن اعتبار سليمان الملك أحد رجال الإيمان؟ لكنني إذ أقف أمام هذا الأصحاح انحني بكل تقدير لهذه الشخصية. فإنه وإن كان سليمان قد مرّ بمرحلة مُرة خلال زواجه بأجنبيات لكسب الملوك المحيطين به، فدفعن إياه إلى عبادة آلهتهن الوثنية (1 مل 11: 1-8)، فإن هذا الأصحاح يقدم لنا صورة فريدة عن هذه الشخصية:

أولاً: ما كتبه عن نفسه بكونه إنسانًا لا يختلف في قليلٍ أو كثيرٍ عن أي فقير يكشف عن تواضع هذا الملك الذي نال شهرة فائقة، ليس في عصره فقط، وإنما إلى عصور كثيرة.

تحدث عن تصويره في بطن أمه كثمرة علاقة زوجية، وثمرة لذة، أمر يخجل أي صبي صغير أن يذكره عن نفسه. ولست أظن أنه كان يُمكن لأي كاتب أن يتحدث هكذا عن هذا الملك العظيم، لو لم يسجل بنفسه هذا بروح التواضع.

ثانيًا: يقدم لنا هذا الأصحاح صورة رائعة عن مشاعر هذا الملك وأحاسيسه من جهة تقديره للحكمة. لقد فضلها عن العرش والصولجان والغنى والصحة والجمال، وحسبها أمًا للخيرات، ومصدرًا لها.

ثالثًا: تمتعه بالحكمة ونواله شهرة حتى بين الملوك لم يدفعه إلى التشامخ، بل اشتهى بكل قلبه أن يتمتع كل الملوك والقادة بما يتمتع به.

رابعًا: مع شهرته بالحكمة والقدرة على الكلام، حسب نفسه غير أهلٍ للحديث عنها، ما لم يلهمه الله القدرة على الكلام.

خامسًا: حديثه عن سمات الحكمة تكشف عن ما تمتع به سليمان من إشراقة العهد الجديد عليه، ليتعرف على الحكمة كأقنومٍ إلهيٍ، هو كلمة الله وحكمة الله، وكأنه قد التقى بالسيد المسيح وتعرف عليه وتمتع بالشركة معه.

الحكمة للجميع!

إذ ذاق سليمان الحكيم الحكمة الحقيقة التهب قلبه حبًا نحو كل البشرية، فاشتهى أن يفصح عن سٌر تمتعه بالحكمة، بروح التواضع المملوء حبًا، حتى ينفتح باب السماء أمام الجميع. كشف الحكيم عن حقيقة هامة، وهي أنه وإن كان ابن داود الملك العظيم البار، لكنه لا يحمل طبيعة تختلف عن طبيعة أي إنسان. دخل إلى العالم بذات الطريق الذي يدخله كل إنسانٍ. ألا وهو أنه ثمرة الزواج بين والديه، وتربى كطفلٍ في قماط، ولم ينجُ من الصرخات التي يصرخها أبناء الفقراء الُمعدمين، وسيخرج من العالم كما يخرج سائر البشر، خلال طريق الموت.

أما عن انفراده بما ناله من حكمة فائقة فسرٌه هو تقديره لها وشوقه العملي نحوها. لقد فضلها عن كل شيء في العالم!

والآن يطلب من الله أن يهبه الحكمة السماوية ليتكلم عن الحكمة، فإن اللسان البشري يعجز عن أن يُعبِّر عن حقيقتها. كما يعترف سليمان أن كل ما تمتع به من علوم ومعرفة هي عطايا من الحكمة الإلهية.

وأخيرًا يتحدث الحكيم عن الحكمة بكونها بهاء النور الإلهي.

1. سليمان ليس إلا إنسانًا 1-6.

2. تقدير سليمان للحكمة 7-14.

3. طلب الإلهام الإلهي للحديث عنها 15-17.

4. العلوم والمعرفة عطايا الحكمة الإلهية 17-21.

5. الحكمة بهاء النور الإلهي22-30.

1. سليمان ليس إلاَّ إنسانًا

إني أنا أيضًا إنسان قابل للموت،

مساوٍ لجميع الناس،

مُتَّحّدِّرٌ من أولِ من جُبِلَ من الأرض، [1]

من جهة حياته الزمنية يعترف الحكيم أنه ينتسب إلى آدم، الإنسان الأول، مثله مثل كل البشر، وليس من أصل آخر حتى يحابيه الله. وهو بهذا يفتح باب الرجاء للكل.

ربما يتساءل البعض: هل لدى الله محاباة، فأعطى سليمان الحكمة بهذه الصورة الفائقة؟ أو كان لسليمان طبيعة بشرية تَختلف عن طبيعتنا حتى يتمتع بهذه الحكمة؟

يعلن سليمان الحكيم أن ما تمتع به من حكمة سامية ليس لامتياز في طبيعته، فإن كل البشر أيا كانت إمكانياتهم أو قدراتهم أو مركزهم أو ثقافتهم أو عمرهم أو جنسياتهم متساوون يحملون ذات الطبيعة البشرية.

بنفس الروح تساءل البعض: هل كان للرسول بولس طبيعة مختلفة عن سائر البشر، حتى يبلغ هذه القامة الروحية العالية، ويحتل مركز الصدارة في خدمة الأمم، ويعمل به الروح القدس كما بطريقة فريدة؟

وما نتساءله بخصوص سليمان الحكيم والرسول بولس نتساءله بخصوص كثيرين كاختيار إبراهيم أبًا لجميع الأمم، وداود الملك ليأتي من نسله السيد المسيح مخلص العالم وغيرهم.

 كثيرًا ما أجاب القديس يوحنا الذهبي الفم على مثل هذه التساؤلات.

v     يلزمنا حينما نُحث على ممارسة فضيلة ما ألاَّ نقول أن هؤلاء كانوا شركاء لطبيعة غير طبيعتنا، أو أنهم ليسوا بشرًا. لهذا قيل عن العظيم إيليا: "كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا" (يع 5: 17). هل تدركون أن إيليا قد أظهر من ذات شركته للآلام أنه إنسان مثلنا؟ مرة أخرى قيل: "إني أنا أيضًا إنسان لي ذات الآلام مثلكم" (راجع حك 7: 1). هذا يعطي طمأنينة من جهة شركة الطبيعة[260].

v     لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر.

الآن، أين هؤلاء المعترضون على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟

فهذا الرجل يدينهم بكلماته: "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدىٍ" (2 كو17:4).

فإن كانت ضيقاته مُحتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟[261]

القديس يوحنا الذهبي الفم

يعلن الكاتب أن الحكمة للجميع، وأن الحكيم الحقيقي يشتهي أن تتمتع كل البشرية بالحكمة معه. هذا على خلاف ما كان يعتنقها كثير من الوثنيين والفلاسفة حيث يحسبون أن الفلسفة أو محبة الحكمة قاصرة على فئة مختارة. ويحرص كثيرون منهم على تخبئة ما يظنون أنها حكمة، وكأنها ملكية خاصة بهم لا يُقترب إليها.

v     لنستخف بهذا كله وننال روح الحكمة الذي ليس فيه همّ، ونسرع لنوال الثروة التي ليس فيها خداع، ونذهب إلى الملذات التي يُقال عنها "فردوس النعيم"[262].

العلامة أوريجينوس

وقد صُوِّرتُ جسدًا في بطن أمٍّ،

وفي مُدة عشرةِ أشهرٍ تكوَّنتُ في الدم، من زرع رجلٍ.

ومن اللذة التي تصاحب النوم. [2]

بقوله "صُورت جسدًا في بطن أمٍّ"، يبرز الحكيم يٌد الخالق الخفية العاملة في أحشاء كل أمٍ، فإنه وإن كان الجنين هو ثمرة علاقة جسدية تحمل لذة بين الزوجين، لكنها ليست علاقة أثيمة، بل يباركها الله نفسه الذي أسس الزواج. فالجنين هو من خلقة الله الذي يهتم به، ولكن يتحقق بناموس الزواج الطبيعي. جاء في إرميا النبي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب" (إر 1: 5).

اعتبر مدة الحمل به عشرة أشهر حيث استخدم في حساباته التقويم القمري (الشهر القمري يعادل 28 يومًا) لا الشمسي.

ولما وُلدتُ تنفستُ أنا أيضًا الهواء المُشتَرَك،

وسقطت إلى الأرض،

كما هي طبيعة الإنسان،

وكان البُكاء صُراخي الأول،

كما هو لجميع الآخرين. [3]

لا ينسى سليمان الحكيم عطايا الله العامة والتي لا تقدر بثمن، يشترك فيها الغني والفقير، ويتمتع بها الطفل منذ ولادته، مثل الهواء الذي يتنسمه، والأرض التي يعيش عليها، بل وحتى الصرخة الأولى بعد ولادته مباشرة، التي بدونها لا تنفتح الرئتان لتعملا.

ما أجمل أن نتذكر العطايا الإلهية المجانية والمشتركة بين كل البشر.

يرفع كثير من آباء الكنيسة  قلوبهم بالشكر لله الذي لم يأتمن إنسانًا على العطايا الثمينة بل قدمها عامة ومشتركة للجميع، مثل الماء والهواء والشمس الخ، بينما ترك الكماليات مثل الذهب والفضة والحجارة الكريمة والثياب الثمينة للملكية الخاصة، حتى يمارس الأغنياء فضيلة العطاء، والفقراء فضيلة الشكر للذين يعطون لهم إياها.

v     أقمت لي السماء سقفًا، وثبت لي الأرض لأمشي عليها...

 القداس القديس غريغوريوس اللاهوتي

v     ماذا يعنى الرسول عندما يقول: "بل الله الحي الذي يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع" (ا تي 6: 17)؟ يعطينا الله بفيض كل الأشياء الضرورية أكثر من المال مثل الهواء والماء والنار وأشعة الشمس والأشياء التي من هذا النوع. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الغني لديه أشعة شمس أكثر من الفقير، ولا يمكن القول بأن الغني يتنفس هواء أكثر من الفقير. كل هذه الأشياء مُتاحة للكل بطريقة مشتركة وبالتساوي. لماذا خلق الله الأشياء الأعظم والأهم، تلك التي تمدنا بالحياة، مشتركة للجميع، بينما الأشياء الأقل والدنيئة جدًا أي المال ليس مشاعًا للناس. هذا هو ما أود أن أسأله. لكي يصون حياتنا ويفتح أمامنا طريق الفضيلة، ومن ناحية أخرى لو لم تكن ضروريات الحياة مشتركة، لاستولى عليها الأغنياء بطمعهم المعتاد، وحرموا منها الفقراء. لأنهم إن كانوا قد فعلوا هذا مع الأموال، فكم بالأحرى كانوا يفعلون ذات الأمر مع هذه الأشياء. ومن ناحية أخرى لو كان المال مشاعًا ومتاحًا للجميع، لما كانت توجد فرصة لتقديم الصدقات، ولما وُجد حافز لعمل الخير.[263]

القديس يوحنا الذهبي الفم

ورُبِّيتُ في القُمُطِ والهموم. [4]

من العجيب أنه لم يفارق فكر سليمان، أعظم ملك في عصره، صورته وهو رضيع في قماط، يحمله الناس حسبما يريدونه. هذا المنظر يثَّبت فيه روح التواضع، وينزع عنه أية عجرفة.

فإنه ليس لملِكٍ بدءْ وجودٍ غير هذا. [5]

يدعو الحكيم جميع الملوك ليراجعوا أنفسهم كيف بدأوا الحياة، فيسلكون مع الشعب بروح الأخوة أو الأبوة الحانية، لأن الكل لهم ذات البداية، بلا تمييز بين هذا وذاك.

بل مدخل واحدٌ للجميع إلى الحياة،

وواحد لخروجهم. [6]

ما هو المدخل للحياة سوى أننا وُلدنا عراه، وما هو مخرجنا سوى باب الموت، حيث نخرج من العالم عراه كما دخلنا. وكما قال أيوب: "عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك" (أي 1: 21).

v     [في رسالة تعزية إلى الكسندرة، إذ فقدت ابنها كتب:]

القرار الإلهي نزعه عنا، ونقله إلى الحياة الأفضل، لذلك إنني انزع سحابة الحزن عني، وأحثكِ أيتها الصديقة العزيزة[264] أن تبددي ألم أحزانك بقوة التعقل، وأن تأتي بنفسكِ في ساعة الاحتياج هذه إلى سحر كلمة الله...

أنا أعلم كيف أن هذا الأمر محزن ومؤلم للغاية. عندما يختبر الإنسان قيمة الشيء الذي يحبه وفجأة يُحرم منه، ويسقط في لحظة من حالة السعادة إلى البؤس.

أما بالنسبة للذين وُهبوا الإحساس الصالح ويستخدمون طاقاتهم بتعقلٍ سليمٍ، فإنهم لا يتوقعون حلول أي حدث بشري غير منظور. فإنه ليس أمر بشري مستقرًا، ليس شيء دائمًا، لا الجمال ولا الثروة ولا الصحة والكرامة. ليس شيء من كل هذه الأمور بالنسبة للذين من طبقات عالية جدًا... أنا اعلم أيتها الصديقة العزيزة أنك تعرفين هذا كله. وأرجوك أن تتأملي الطبيعة البشرية، فستجدينها قابله للموت، وقد تسلمت مصير الموت منذ البداية.

قال الله لآدم: "أنت تراب، وإلى تراب تعود" (تك 19:3)...

يخبرنا الكتاب المقدس: "مدخل واحد للجميع إلى الحياة، وواحد لخروجهم" (تك 6:7)

وكل واحدٍ يولد يترقب القبر. ليس الكل يعيشون ذات الفترة الزمنية. فالبعض يبلغون النهاية بسرعة شديدة، وآخرون في أثناء حيوية الرجولة، والبعض بعد أن يختبروا الشيخوخة[265].

ثيؤدورت أسقف قورش

2. تقدير سليمان للحكمة

أ. تفضيلها عن العرش والغنى

لذلك صليت فأوتيتُ الفهم،

ودعوت فأتاني روح الحكمة. [7]

ما يتميز به سليمان الحكيم أنه رجل صلاة، يؤمن أنه ليس من يملأ كيانه سوى الله، وليس ما يشبع حتى احتياجاته العقلية سوى الله واهب الحكمة والفهم، لذا لا يكف عن الصلاة إلى أبي النور.

يقول القديس يعقوب الرسول: "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار، الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع  1 :  17).

v     يدعو يعقوب الله "أب الأنوار العقلية"، بمعنى أنه المنير للكائنات العاقلة، فهو واهب هذه العطايا الإلهية يقدمها للكائنات البشرية، وكما يقول يعقوب إنها العطايا الأفضل التي بلا عيب وهي كاملة دون شك[266].

القديس ديديموس الضرير

v     لا يستحق إنسان ما أن ينال شيئًا من أبي الأنوار الذي من عنده كل عطية صالحة إلا أنه ينال ما لا يستحقه[267].

v     هذه هي الحكمة التي تلجم اللسان، نازلة من فوق، ولا تنبع عن قلبٍ بشري. هل يجسر أحد أن ينتزعها عن نعمة الله، بغير زهو الكبرياء، ويجعلها في سلطان إنسان؟[268]

القديس أغسطينوس

يرى العلامة أوريجينوس أن حياة المؤمن رحلة من هذا العالم إلى السماويات حيث يحتاج إلى نور السيد المسيح حكمة الله، الذي يشرق عليه تدريجيًا في هذا العالم، فيدخل من مجدٍ إلى مجدٍ، ويختبر الحياة السماوية حتى يبلغ إلى السماوي نفسه، خالق الكل وواهب كل عطية صالحة.

v     تصعد النفس تدريجيًا إلى السماوات بعد القيامة. إنها لا تبلغ أعلى نقطة فورًا، وإنما خلال مراحل متعددة، حيث تستنير في تقدمٍ بنور الحكمة حتى تبلغ أبى الأنوار نفسه[269].

العلامة أوريجينوس

الصلاة هي طريق التمتع بالحكمة، لأنها هي شركة مع حكمة الله ربنا يسوع المسيح نفسه. ليس من يقدر أن يبلغ إليه ويتعرف عليه ويتحد معه إلا بروح الله القدوس.

ففضلتها على الصوالجة والعروش،

وعدَدَتُ الغنى كلا شيء بالقياس إليها. [8]

إذ يقتني الإنسان الحكمة الإلهي، يصير بالحق ملكًا روحيًا متحدًا مع ملك الملوك. فيستخف بكل كرامةٍ زمنيةٍ تُقدم له، أو سلطان أو غنى. يجد في مسيحه كل كرامةٍ داخليةٍ ومجدٍ وغنى، لهذا يتغنى المرتل قائلاً: "مجد ابنة الملك في خدرها، منسوجة بذهب ملابسها" (مز 13:45).

إذ قبلنا السيد المسيح - حكمة الله - جسدًا له، وصار هو رأسنا، لهذا نتمتع بكرامةٍ عظيمةٍ، إذ رأسنا هو ملك الملوك ورب الأرباب. بهذا ننال كرامة تفوق حتى كثير من السمائيين، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

v     أتدركون "غنى مجد ميراثه"؟ هل تدركوا عظمة قدرته الفائقة نحو الذين يؤمنون به (أف 19:1)؟ أتدركون رجاء دعوتكم؟

لنكرم رأسنا، فينعكس ما هو للرأس على الجسد، الرأس الذي تخضع له كل الأشياء. بهذا التصوير يلزمنا أن نكون أفضل من الملائكة، وبهذا نُكرم أكثر منهم جميعًا...

لأنه لا يًوضع على رؤوسنا تاج، بل ما هو أعظم، المسيح صار بنفسه رأسنا، ومع هذا نحن لا نبالي بهذا.

الملائكة يكرمون هذا الرأس، وأيضًا رؤساء الملائكة وكل تلك القوات العلوية. فهل نحن الذين هم جسده، لا نهابه لسبب أو آخر؟[270]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     لا يريد الله أن يعطي ثروات للإنسان الخارجي ويترك الإنسان الداخلي في عوزٍ، إنه يقدم الغنى غير المنظور بطريقة غير منظورة[271].

القديس أغسطينوس

ولم أعادل بها أي حجر كريم،

لأن كل الذهب بإزائها قليل من الرمل،

والفضة عندها تُحسب طينًا. [9]

يقول سليمان الحكيم:"

لأن الحكمة خير من اللآلئ، وكل الجواهر لا تساويها" (أم 8: 11).

"قنية الحكمة كم هي خير من الذهب، وقنية الفهم تختار على الفضة" (أم 16: 16).

المؤمن الحقيقي يتمتع بالشركة مع حكمة الله، فيرى الأمور السماوية غير المنظورة ويستخف بالزمنيات.

إذ يشرق حكمة الله بنوره على النفس البشرية تستنير، فتدرك حقيقة الأمور أنه ليس من وجه للمقارنة بين الحكمة الإلهي وبين الأمور الزمنية، فيرى الإنسان نفسه غنيًا جدًا، ليس في عوزٍ أن يجمع شيئًا ما، بل ويحسب الحجارة الكريمة كلا شيء، والذهب كأنه رمل، والفضة كأنها طين.

v     يرى الإيمان ما وراء رؤية العين الجسدية. العيون الجسدية ليست في رؤوس الحكماء وحدهم، بل وحتى غير الحكماء[272].

 القديس جيروم

ب. تفضيلها عن الصحة والجمال

وأحببتها فوق العافية والجمال،

وآثرت أن اَتَّخذها قبل النور،

لأن النور الصادر منها لا يخفت. [10]

في رسالة بعثها القديس يوحنا الذهبي الفم إلى صديقه في الحياة النسكية ثيؤدور،  إذ أغواه جمال امرأة شابة حسنة الصورة  تدعى  Hermoine، فسقط في حبها ورغب في الزواج منها. أشار فيها إلى اهتمام الإنسان بجمال الجسد، بينما يطلب الله جمال النفس الفائق، وهو في قدرة المؤمن بالنعمة الإلهية.

v     حقًا لقد ثبَّت الله الجمال الجسدي في حدود الطبيعة (أي لا يقدر الإنسان على تشكيل جسده)، أما نعمة الروح فتُعتق من الحبس والعبودية، صاعدة من هذه الحالة، بقدر ما تسمو كثيرًا عن أي تناسق جسدي، وهي تعتمد في ذلك علينا (أي إرادتنا) وعلى نعمة الله.

فسيدنا، بكونه رحيمًا، شرّف جنسنا في هذا الطريق الخاص، تاركًا للطبيعة أن تختص بتشكيل الأمور الصغيرة (الجسد) التي لا تساهم كثيرًا في نفعنا. تحت سلطانها أمور غير هامة، أما نحن فجعلنا فنانين فيما يختص بالأمور التي هي بحق هامة  (أي بإرادتنا نُسلِّم لنعمة الله أن تشكل النفس وتجمِّلها).

فلو ترك الله لنا أن نشكل أجسادنا، لأصبحنا في قلق متزايد، وأضعنا كل أوقاتنا في أمور لا تنفع، وبالتالي كنا نهمل الروح إهمالاً زائدًا.

وبالرغم مما نحن عليه، من عدم إعطائنا هذا السلطان (في اختيار وتشكيل أجسادنا)، نقوم بمجهودات جبارة، وإذ لا نقدر أن نحصل على جمال جسداني حقيقي، ندبِّر بدهاء تقليدات كثيرة، باستخدام المساحيق والأصباغ، والتزين بشعر مستعار، والحُليّ، واستخدام أقلام للحواجب... وكثير من الحيل. فلو أعطيت لنا القدرة على تشكيل الجسد تشكيلاً حقيقيًا، فهل سيكون لنا الوقت الذي نخصصه للنفس وللأمور الخطيرة؟!

لو فرضنا أن هذا هو عملنا، ما كان لنا عمل آخر، بل كنا نقضي كل زماننا فيه، نزين الجارية (الجسد) بزخارف لا حصر لها، تاركين سيدتها (النفس) في حالة مشوهة ومهملة. لهذا السبب أعفانا الله من العمل غير المفيد، واضعًا فينا قوة العمل في العنصر النبيل (النفس).

فمن لا يقدر أن يغير جسده القبيح إلى شكل جميل، يستطيع أن يسمو بالنفس، حتى ولو كانت قد انحدرت إلى أقصى حدود القبح، ليصل بها إلى قمة الجمال. ولا يجعلها محبوبة ومرغوبًا فيها من الصالحين فحسب بل ويجعلها من الله ذاته سيد الكل وإلههم يقول المرتل عندما نطق بخصوص هذا الجمال: "فيشتهي الملك حسنك"  (مز45: 11)[273].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إننا ندرك أن الحكمة الإلهي يطلب جمال النفس الفائق الذي من عمله، فلا ننشغل بجمالنا الجسدي.

v     تسترسل العروس في حديثها مع تلاميذها، فتتحدث عن حقيقة مدهشة عن نفسها حتى نستطيع أن نعلم مدى عظمة حب العريس لبنى البشر الذي أضفي جمالاً على العروس المحبوبة من خلال مثل هذا الحب. تقول: "لا تتعجبوا أن الحق أحبني". بالرغم من أني صرت سوداء بسبب الخطية ومكثت في الظلال بسبب أعمالي، فإن العريس قد جعلني جميلة من خلال حبه، إذ استبدل جماله بعاري (إش 2:53-3؛ في 7:2). بعد أن حمل دنس خطيتي، سمح لي أن أشاركه في طهارته وأضفى عليَّ جماله. حوّل منظري المنفر إلى جمالٍ، أظهر لي حبه...

بالرغم من إننا صرنا ظلمة بسبب الخطية فإن الله قد أضفى علينا جمالاً وبهاءً من خلال نعمته الفائقة. عندما يسود الليل ويكتنف الظلام كل شيءٍ نجد أنه رغم أن بعض الأشياء تصير مضيئة بالطبيعة إذ حل النهار فإن مقارنتها بالظلمة لا تنطبق على الأشياء التي كانت معتمة قبلاً بالسواد. وهكذا تعبر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة. انتقل بولس الرسول عروس المسيح من الظلمة إلى النور، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس (1 تي 13:1)، كما العروس لوصيفتها، إنه قد صار مستحقًا أن يكون جميلاً، لأنه كان قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا ومظلمًا. ويقول بولس الرسول أيضًا إن المسيح جاء إلى العالم لينير للذين في الظلمة. إن المسيح لم يدعُ أبرارًا بل خطاة إلى التوبة، الذي جعلهم يضيئون كأنوار في العالم (في 15:2)، بحميم الميلاد الثاني الذي غسلهم من صورتهم السوداء الأولى...

تشجع العروس بنات أورشليم بحماس إذ تصف لهم صلاح العريس الذي يستلم النفس السوداء ويردها إلى صورة الجمال الأول بالشركة معه. إذن من كان  "كخيام قيدار" يصير مسكنًا مضيئًا لسليمان الحقيقي، أي يسكن فيه ملك السلام. لذلك يقول النص: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم"[274].

القديس غريغوريوس النيسي

إذ نتمتع بالنور الإلهي الأبدي - حكمة الله – نحسب كل نور في العالم كلا شيء.

v     مصباحًا واحدًا أنظر، وبنوره أستضيء، والآن أنا في ذهول، أبتهج روحيًا، إذ في داخلي ينبوع الحياة، ذاك الذي هو غاية العالم غير المحسوس!

v     احمل نير ربّك في قلبك، وعجب عظمته في عقلك دائمًا، فينسكب فيك نور ربّك الوهَّاج الذي يضيء قلبك!

الشيخ الروحاني

v     أيّها النور غير المنظور!

أيها البهاء الذي لا يراه بهاء آخر!

أنت هو النور الذي تختفي أمامك كل الأنوار المخلوقة!

أنت البهاء الذي ينطفئ قدّامه كل بهاء خارجي!

أنت هو "النور" مصدر كل الأنوار، و"البهاء" ينبوع كل بهاء!

أنت هو النور والبهاء، أمامك تصير كل الأنوار ظلمات، وكل ضياء بالنسبة لك ليس إلاَّ ظلامًا!

أنت هو البهاء الذي بك تصير الظلمة نورًا، وبك يتلألأ الظلام لمعانًا!

أنت هو النور الأسمى، لا تحجبك سحابة ما، ولا يعوقك بخار، يعجز الليل عن أن يسدل بظلامه عليك، لا يعوقك حاجز ولا تُغرٍقك ظلال!

أخيرا، أنت النور الذي ينير الخليقة الداخليّة على الدوام، ابْتَلِعْني في هوّة جلالك، حتى أعاين كل أعماقك، بقوّة بهاء لاهوتك ذاته، وعمل البهاء المنعكس عليَّ منك!

لا تتركني قط، لئلاَّ يتزايد جهلي وتكثر شروري، فبدونك أصير فارغًا وبائسًا!

بدونك لا يكون لأحد صلاح، إذ أنت هو الحق والصلاح الحقيقي وحده!

هذا ما أعترف به؛ وهذا هو ما أعرفه، يا الله إلهي، أنَّه حيثما وُجٍدْتُ بدونك لا يكون لي غير الشقاء - في الداخل كما في الخارج - لأن كل غني غير إلهي إنّما هو بالنسبة لي فقر مدقع!

القدِّيس أغسطينوس

ج. إدراك مخازنها

فأتتني معها جميع الخيرات،

وفي يديها غنى لا يُحصى. [11]

يعلق الأب ماريوس فيكتورينوس على قول الرسول "حكمة الله المتنوعة (أف 10:3)، قائلاً: الوعود عظيمة هكذا: غفران الخطايا، والوعد بالسماء، والحياة الأبدية والتمجيد، وميراثنا مع المسيح نفسه في قيامته من الموت، بل في وموته نفسه (كهبةٍ لنا). هذا كله يجعل حكمة الله متنوعة[275].

v     بدون الرب يسوع وعمل قوته الإلهية، لا يستطيع أحد أن يعرف أسرار الله وحكمته، أو أن يحصل على الغنى الحقيقي، ويصير مسيحيًا. فإن الحكماء المحاربين الشجعان وفلاسفة الله هم أولئك الذين ينقادون بالقوة الإلهية ويتغذون بها وينضبطون في الإنسان الناطق بها[276].

 القديس مقاريوس الكبير

فسُررت بهذه الخيرات كلِّها،

لأن الحكمة تتقدمها،

ولم أكن عالمًا بأنها أُمٌّ لها. [12]

v     لألتصق بك، فأنت هو الخير وحده، وبدونك ليس للخير وجود! لتكن أنت كل سعادتي، يا كلي الصلاح!

v     ألست أنت هو الخير الفائق، وكل خير إنّما هو مستمدّ منك؟!

v     القلب الذي لا يبتغيك، ماذا يطلب؟! أيطلب الغني الذي لا يملأ العالم أم يبتغي أشياء مخلوقة... وما هذه الرغبة في الأشياء المخلوقة إلاَّ مجاعة دائمة؟! من يقتنيها تبقى نفسه بلا شبع، لأنَّها لا تقدر أن تشبع إلاَّ بك يا إلهي، إذ أنت خلقتها على صورتك...

أيها الرب إلهي... أيّها الفائق القدرة... لقد عرفت الآن موضع سرورك. أنَّها النفس المخلوقة على صورتك كشبهك، تلك التي لا تطلب غيرك، ولا تشتاق إلاَّ إليك!...

القدِّيس أغسطينوس

وما تعلمتُه بإخلاصٍ أُشرِكُ فيه بسخاء،

ولا أكتم غناها. [13]

v     ماذا تطلبين يا نفسي المسكينة؟!

إن أردتِ الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!

وإن طلبتِ القوّة والقدرة، فهو القدير!

إن بحثتِ عن اللذّة والسرور، فهو ينبوع الفرح الحقيقي!

إن اشتقتِ إلى السكر، فمحبّته تسكر النفس!

إن جُعتِ إلى الخبز، فهو خبز الحياة!

وإن شغفتِ بالغني، فهو خالق الكل!

وإن أردتِ الراحة، تجدين فيه وحده راحتك!... اقبليه فليس لك من يشبعكِ غيره.

القدِّيس أغسطينوس

د. إدراك أنها طريق الصداقة مع الله

فإنها كِنزٌ للناس لا ينفد،

والذين اقتنوه صاروا أصدقاء الله،

وقد أوصَته بهم،

المواهب الصادرة عن التعلم. [14]

إذ يبرر سليمان عظمة الحكمة، وتقديره لها افضل من العرش الجالس عليه والغنى، يربط الحكمة بالتأديب. فلا يقدر الإنسان أن ينعم بالحكمة ما لم يتقبل تأديبات الرب لبنيانه.

v     عندما نفرح في الصلاة، يهدأ فكرنا لا بمقتنيات العالم بل بنور الحق... تفرح نفوسنا بالله، ولا تكون بعيدة عنه، لأنَّه كما يقول: "به نحيا ونتحرّك ونوجد" (أع 17: 28)، ولكنّه كأخ وكقريب، كصديق لي! (مز 35: 14).

القدِّيس أغسطينوس

v     لا توجد قرابة أو رابطة مثل قرابة النفس لله، أو قرابة الله للنفس[277].

القديس مقاريوس الكبير

3. طلب الإلهام الإلهي للحديث عنها

ليهب لي الله أن أتكلم كما يليق،

وأن أُجريَ في خاطري ما يليق بما نلته من المواهب،

فإنه هو دليل الحكمة ومرشد الحكماء. [15]

إذ عبَّر سليمان عن رغبته في مشاركة الناس له للتمتع بالحكمة لنفعهم، فإنه قبل أن يصف لهم الحكمة رفع قلبه لله طالبًا أن يهبه كلمة تسنده للحديث عن الحكمة.

v  ربما يعترض قارئ يقظ قائلاً: "إن كان بولس يعرف جزئيًا ويتنبأ جزئيًا، ويرى الآن كما في مرآة في لغزٍ (1 كو 12:13)، فكيف أُعلن له سرٌ الله كما لأهل أفسس بكل حكمة وفطنة (أف 9:1)؟... إنهم لم يتعلموا هذا السرٌ بأنفسهم في كل حكمة وفطنة، وإنما الله الذي في كل حكمة وفطنة يعلن لنا السرٌ قدر ما نستطيع أن نقتبس[278].

 القديس جيروم

وفي يده نحن وأقوالنا،

وكل حكمةٍ وكل علمٍ من عُلوم الصناعة. [16]

v     لتكن أحاديثنا مُعِينَة لكنّ ( أيتها الأرامل)، وليكن كل شيءٍ مخصص لنعمة الله، كما هو مكتوب: "وفي يده نحن وأقوالنا" (حك 7: 16)[279].

القديس أغسطينوس

4. العلوم والمعرفة عطايا الحكمة الإلهية

فهو الذي وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات،

حتى أعرف نظام العالم وفاعلية العناصر [17]

ومبدأ الأزمنة ومُنتهاها وما بينهما،

وتَعاقُب الاعتدالاتٍ وتغير الفصول. [18]

ودوائر السنة ومركز النجوم، [19]

وطبائع الحيوانات وغرائز الوحوش،

وعنف الرياح وخواطر البشر،

وأنواع النبات وخواص الجذور. [20]

يدين سليمان لله بتمتعه بالحكمة وروح المشورة، وأيضًا التعرف على كثير من العلوم مثل الفلك، والفنون، والصناعات. وقد جاء في ملوك الأول: "كان صيته في جميع الأمم حواليه. وتكلم بثلاثة آلاف مثلٍ؛ وكانت نشائده ألفًا وخمسًا،، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط؛ وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك؛ وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته" (1 مل 4: 31-34). تعرف سليمان على طبائع الحيوانات وغرائزهم، وجاء في التقليد اليهودي والفلكلور الشعبي اليهودي، أنه كان يفهم لغات الحيوانات والطيور. كما كان يفهم عاداتهم، وقد وضع أمثالاً مستعينًا بعاداتهم.

v  ها أنتم ترون أن قلب الإنسان الذي يمكنه أن يدرك هذا كله ليس بصغيرٍ. لتتحققوا أن عظمته لا تُقاس بحجم الجسم بل بقوة إدراكه. إنه قادر إن يدرك معرفة عظيمة كهذه للحق![280]

العلامة أوريجينوس

فعرفتُ كل ما خفي وكل ما ظاهر، [21]

ينسب سليمان الحكيم معرفته لعادات الحيوانات والطيور وما يجري في الطبيعة إلى الله نفسه بكونه المهندس الأعظم والخالق العارف بكل أسرار الطبيعة، وقد وهبه حكمة ليتعرف على هذه الأمور.

أما ما في قلوب البشر وأذهانهم فلم يكشفها الله لسليمان، هذه لا يأتمن الله كائنًا ما عليها إلا في حدود ضيقة للغاية لتحقيق خطته. إنه يستر على البشرية فلا يفضح ما في ضمير الإنسان وعواطفه وأفكاره؛ لكنها ستنفضح في يوم الدينونة متى رفض الإنسان أن يستر على نفسه بمراحم الله ونعمته خلال رجوعه إلى الله بالتوبة.

v  [في حديثه عن أولاد شيث الذين هم أبناء الله الذين رأوا البنات اللواتي من نسل قايين، فالتهبت فيهم الشهوة بسبب جمالهن] هؤلاء سقطوا من الدراسة الحقيقية للفلسفة الطبيعية التي تسلموها من أسلافهم، حيث تتبع الرجل الأول (آدم) دراسة كل الطبيعة واستطاع أن ينالها بوضوح، وسلّمها إلى خلفه على أسس أكيدة، وذلك قدر ما رأى العالم في بدء نشأته، حيث كان لا يزال الإنسان في رقته وبساطته كمن فيه ليس فقط كمال الحكمة هذه، بل ونعمة النبوة التي وهبت له بالوحي الإلهي، حتى أنه بينما كان ساكنًا في هذا العالم غير متعلم أعطى أسماء لكل الكائنات الحية، ولم يعرف فقط ثورة كل أنواع الحيوانات والثعابين وسمومها، بل وميّز بين أنواع النباتات والأشجار وطبائع الأحجار وتغيير الفصول التي لم يكن بعد قد اختبرها.

استطاع أن يقول حسنُا: "الرب وهب لي علمًا يقينًا بالكائنات حتى أعرف نظام العالم، وفاعلية العناصر، ومبدأ الأزمنة ومنتهاها وما بينها، وتعاقب الاعتدالات وتغيير الفصول، ودوائر السنة ومراكز النجوم، وطبائع الحيوانات وغرائز الوحوش، ونغمات الأرواح وخواطر البشر، وأنواع النبات وخواص الجذور، فعرفت كل ما خفي وكل ما ظهر" (حك 17:7-21)[281].

الأب سيرينوس

5. الحكمة انعكاس للنور الإلهي

لأن مُهندسة كلِّ شيء علمتني،

وهي الحكمة.

فإن فيها روحًا فَطِنًا قدوسًا،

وحيدًا مُتشعِّبًا لطيفًا،

مُتحركًا ثاقبًا طاهرًا،

واضحًا سليمًا مُحبًا للخير حادًا. [22]

حُرًا مُحسنًا مًحبًا للبشر،

ثابتُا آمنًا مُطمئنًا،

يقدِر على كل شيء،

ويراقب كل شيء،

ينفذ إلى جميع الأرواح،

الفهمة منها والطاهرة والأشد لطافة. [23]

يرى البعض أن سليمان الحكيم يقدم في الآيتين 22، 23 واحد وعشرين سمة للحكمة تكشف عن كمالات الله. فان كان رقم 7 يشير إلى الكمال، ورقم 3 إلى الأقانيم الإلهية فان رقم 21 (7×3) يشير إلى كمال الله[282].

حين يقدم لنا الكتاب المقدس سمات عن أقنوم إلهي مثل حكمة الله أو ابن الله، إنما يقدم بلغتنا البشرية ما لا يُمكن التعبير عنه بأية لغة. لان الله لا يمكن الحديث عنه بلغةٍ بشريةٍ يقدم لنا السمات التي نتلامس معها ونتفاعل معها ونحيا بها.

هذه السمات هي:

1. روح (ع 22).

v     إننا لسنا نعتقد أنه إذ أخلى نفسه، أنه وهو روح صار شيئًا آخر. بل بالأحرى ترك إلى حين كرامة عظمته، مرتديًا جسدًا بشريًا. فقط بكونه صار في شكل بشري أمكنه أن يصير مخلصًا للبشرية. لاحظوا أنه عندما تتغطى الشمس بسحابة يُعاق بهائها لكنها لا تظلَّم. نور الشمس الذي ينتشر على كل الأرض، يخترق الكل بإشراقه البهي، يحجب بواسطة سحابة صغيرة تعوقه لكنه لا يُنزع. هكذا أيضًا هذا الإنسان الذي صار إليه يسوع المسيح (لبسه) بكونه مخلصنا بمعنى أن الله وابن الله لم ينقص لكنه أخفى لاهوته فيه إلى لحظات[283].

 غريغوريوس أسقف الفيرا

2. فطن أو عاقل (ع 22).

يقدم لنا حكمة الله ذاته، لكي نقتنيه، وبه نصير حكماء، به نتعرف على الله ونعرف أسراره الإلهية، ونأتي إليه.

v     يقول الرسول إن قوة الله سرمدية ولاهوته (رو 20:1). إذ مكتوب أن المسيح هو قوة الله وحكمة الله (1 كو 24:1)... مكتوب: "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو6:14). فما تدركونه بخصوص الآب... ما كان يمكنكم أن تدركوه البتة بدون معونة الابن، ولا يمكن لأي فهم أن يصعد إلى معرفة الآب إلا بالابن[284].

القديس أمبروسيوس

3. قدوس، لا يتسرب إليه شيء نجس (ع 22، 25).

v     وجهت الكلمات "كن كاملاً" لإبراهيم، هذا الذي أُعطي له روح الحكمة، القدوس العجيب في لطفه، الطاهر... من ينال الحكمة لا يمكن إلا أن يكون صالحًا وكاملاً، إذ يقتني كل فضيلة ويكون أيقونة للصلاح[285].

v     إن كان الروح ليس فيه خطية، فهو الله. كيف يمكن أن يخطئ من هو نفسه غافر الخطايا (يو 20: 22) لذلك فهو لا يرتكب خطية، وإن كان بلا خطية فهو ليس مخلوقًا، لآن كل مخلوق يتعرض لإمكانية الخطية، أما اللاهوت السرمدي فوحده بلا خطية وقدوس[286].

القديس أمبروسيوس

v     بواسطة الصلاة تتولد الشركة في قداسة الله في أولئك الذين يُحسبون أهلاً لها... الإنسان الذي يغصب نفسه كل يوم للمواظبة على الصلاة، فإنه يشتعل بالحب الإلهي، ويتقد برغبة نارية من الحب الروحي نحو الله، وينال نعمة كمال تقديس الروح[287].

القديس مقاريوس الكبير

v     إن كان أحد يكرس نفسه لله، إن كان أحد لا يرتبك بأمورٍ دنيويةٍ لكي يرضي من جنده، إن كان أحد يعتزل الذين يعيشون في حياة جسدانية والمنهمكين في الأمور الدنيوية، إن كان لا يطلب ما هو على الأرض بل ما في السماء (كو 3 : 1-2) مثل هذا الإنسان يستحق أن يدعى مقدسًا[288].

العلامة أوريجينوس

v     لا يحسب القول (بأن إنسانًا ما كامل أو قديس) فيه مبالغة إن كان الإنسان يسلك بلا لوم ولم يكن بعد قد بلغ بالفعل إلى نهاية رحلته، وإنما لا يزال يعبر نحو النهاية بطريقه غير معيبة، متحررًا من الخطايا المميتة وفي نفس الوقت يطهر خطاياه غير الإرادية بالعطاء، فان الطريق الذي نسلكه وبه نبلغ إلى الكمال يتطهر بالصلاة النقية[289].

القديس أغسطينوس

4. وحيد (ع 22): حكمة الله هو ابن الله الوحيد، نزل إلينا ليرفعنا من روح العبودية إلى روح التبني. إذ وهو الابن الوحيد ضمنا إليه وجعلنا أبناء للآب بالتبني وذلك خلال مياه المعمودية، أما هو فالابن الوحيد بالطبيعة منذ الأزل.

الآن وان كنا لسنا أهلاً أن نُدعى عبيدًا لله، لكنه الله يدعونا أبناء له، و شتان ما بين الابن والعبد.

v     كما يحدث أن إنسانًا عنده خيرات عظيمة، وله أولاد وعنده أيضًا خدم، فهو يعطي للخدم نوعًا من الطعام يختلف عن الطعام الذي يعطيه لأولاده المولودين منه. لأن الأولاد هم ورثة أبيهم، يأكلون معه، لأنهم يشبهون آباءهم. هكذا المسيح أيضًا رب البيت الحقيقي، الذي خلق كل الأشياء بنفسه، فإنه ينعم على الأشرار وغير الشاكرين. أما الأولاد الذين ولدهم منه، والذين منحهم نعمته، والذين يتصور هو فيهم، هؤلاء يزودهم - أفضل من الآخرين - بتنعمٍ وغذاءٍ مخصوص طعامًا وشرابًا. وإذ يذهبون مع يسوع أبيهم في كل مكان، فإنه يعطيهم ذاته، كما يقول الرب: "من يأكل جسدي، ويشرب دمي، يثبت فيٌ وأنا فيه"، وأيضًا: "لا يرى الموت" (يو 56:6؛ 51:8). فأولئك الذين يمتلكون الميراث الحقيقي، قد وُلدوا كبنين للآب السماوي، ويقيمون في بيت أبيهم، كما يقول الرب: العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقي إلى الأبد" (يو 35:8)[290].

 القديس مقاريوس الكبير

5. متشعب (ع 22): يعلن عن ذاته بطرق متنوعة.

v     إلهي... ليتني أعرفك، يا من أنت تعرفني، ليتني أعرفك يا قوّة نفسي! اِكشف لي عن ذاتك، يا معزّي نفسي!

ليتني أعاينك يا ضياء عينيَّ!

أسْرِع يا بهجة نفسي، لأتأمل فيك يا سرور قلبي!

ألهمني حبّك، فأنت هو حياتي!

اَشرِق عليَّ، ففيك يكمن فرحي الحقيقي. فيك عذوبة راحتي. فيك حياتي. فيك كمال مجدي!

القديس أغسطينوس

6. لطيف (ع 22): غير مادي ولا هيولي، لا يُمكن للإنسان أن يتعرف على أسراره بدون إعلاناته. هذا ما دفع الابن أن يتجسّد بيننا، يُعلن ذاته لنفوسنا، ويقدّم نفسه فردوسًا لمن حُرموا منه. ربّنا يسوع - الكلمة المتجسّد - جاء ينادي في كل مناسبة "أنا هو... كلمات إله محب يقدّم نفسه لنفوس جهلته؛ لو نطق آخر غيره لكان إنسانًا متكبرًا متعجرفًا يقدّم ذاته للنفوس البشريَّة ليغتصب مكانة الله الخالق المشبع لنفوس خليقته.

v     عَضِّدْني أيّها المجد الأبدي، يا فرحي، اِكْشِفْ لي ذاتك يا إلهي حتى أحيا!

القديس أغسطينوس

7. متحرك (ع 22، 24).

يقول السيد المسيح: "آبي يعمل حتى الآن، وأنا أيضا أعمل" (يو5: 17). إنه يبقى يعمل، فهو البداية في حياتنا الروحية، وهو النهاية. يبدأ معنا عاملاً فينا، ويسير معنا بكونه الطريق، ويحملنا في النهاية إليه حيث نشاركه مجده.

v     المسيح هو بداية فضيلتنا هو بداية الطهارة... المسيح هو بداية التدبير. إذ صار فقيرُا مع أنه الغني (1 كو 9:8). هو بداية الصبر، فعندما شُتم لم يشتم، وعندما ضُرب لم يضرب. هو بداية التواضع، إذ اخذ شكل العبد، مع أنه في عظمة قوته مساوٍ لله الآب. فيه أخذت كل فضيلة أصلها[291].

القديس أمبروسيوس

8. ثاقب، ينفذ إلى جميع الأرواح، ويجتاز إلى النفوس المقدسة (ع 22، 24، 27).

9. طاهر (ع 22).، لا يمسه دنس بالرغم من وجوده في كل مكان ويعمل لتقديس الخطاة.

10. واضح (ع 22).

11. سليم (ع 22).

v     يسوع الذي يقضي على النقائص في داخلنا، ويسقط أكثر ممالك الشر فسادا[292].

العلامة أوريجينوس

12. محب للخير ومحسن (ع 22، 23).

إذ يقدم حكمة الله ذاته كنزًا لنا، ينير نفوسنا ويشبع قلوبنا ويدخل بنا إلى غنى المجد الأبدي، لذا دعي بالخير الأعظم. فهو محب للخير، محسن على خليقته، يود أن يقدم ذاته لكل إنسانٍ، ليحمله فيه كمصدر الخيرات، ولا يعوزه شيء قط.

v     والآن فلنعتبر ما تقوله الأناجيل في ضوء الوعود بالخيرات. ولابد لنا من القول أن الخيرات التي يعلن عنها الرسل في هذه الأناجيل هي ببساطة: يسوع. فأحد الخيرات التي يعلنونها هي القيامة. ولكن القيامة - على وجه ما - هي يسوع، فهو القائل: أنا هو القيامة[293].

v     الأمور السماوية، حتى الملكوت السماوي أو المسيح ذاته، ملك الدهور هي في مجملها ملكوت السماوات المُشَبهَّةً بكنزٍ مُخفي في الحقل" (متى 44:13).

أي كنوز؟ قارن الكلمات "المُذَخَّرُ فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 3:2). فتلك الكنوز هي في المسيح. فمن نَبْعِهِ يأتي "الروح" بأنواع مختلفة من المواهب: فللبعض مواهب حكمة، وللبعض مواهب علم أو مواهب إيمان، ولآخرين أياً من نعَم الله (1 كو 8:12)[294].

العلامة أوريجينوس

v     إن وُجد فيَّ شيء صالح، إنّما مصدره أنت، فالخير الذي هو فيَّ هو خيرك أنت أيّها الصالح، منكَ قد تقبَّلتُهُ!

من يُعينني على الوقوف إلاَّ أنت يا إلهي؟!

وما الذي يُسْقِطُني غير اتّكالي على ذاتي؟!

إنَّني سأبقى غارقًا في الطين ما لم تجتذبني!

وأبقى أعمى ما لم تفتح عينيّ!

وأبقى ساقطًا لا أقوم قط ما لم تُعينني يداك! إنَّني أهلك تمامُا ما لم تحرسني عنايتك!

القدِّيس أغسطينوس

13. حاد (ع 22): أي حازم وعادل مع كثيرة محبته ورحمته اللانهائية.

14. حر (ع 23).

الحكمة الإلهي حر، لا سلطان للموت عليه، يشتاق أن يرى كل إنسانٍ متحررًا من كل فكرٍ خاطئٍ ومن كل ومن كل خطيةٍ، فلا يكون للموت الأبدي ولا لإبليس سلطان عليه.

v     حسنًا دُعي حرًا ذاك الذي له سلطان أن يقيم نفسه... وحسنًا دُعي حرًا ذاك الذي نزل لكي يخلص الآخرين[295].

القديس أمبروسيوس

v     اتبع العريس السماوي، لتصمد أمام الأعداء غير المنظورين، لتثر حربًا ضد الرئاسات والسلاطين (أف 6: 12)، فتسحبهم أولاً عن نفسك فلا يكون لهم نصيب فيك، وبعد ذلك تطردهم عن أولئك الذين يطيرون إليك طالبين الحماية بمشورتك. اطرحهم تحت قدميك كقائدٍ لهم ومدافع عنهم. لتجحد تلك المجادلات التي ضد الإيمان بالمسيح.

حارب بكلمة التقوى ضد المشورة الشريرة الرديئة. وكما يقول الرسول: "هادمين ظنونًا وكل علوٍ يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 1.: 5). ضع ثقتك، فوق الكل، في ذراع الملك العظيم، الذي بمجرد رؤيته يخاف أعداءه ويرتعدون[296].

القديس باسيليوس الكبير

15. محب البشر (ع 23).

حكمة الله، ربنا يسوع، محب للبشر قدم ذاته ذبيحة من أجل خلاصهم، وهو يترفق بنا حتى في غضبه وتأديبه لنا.

v     تذكَّر الراعي الذي يتبعك وينجِّيك...

أذكر مراحم الله، كيف يشفي (كالسامري الصالح) بزيتٍ وخمرٍ.

لا تيأس من الخلاص، مسترجعًا إلى ذاكرتك ما ورد في الكتاب المقدَّس أن الذي يسقط يقوم، والضال يعود (إر 8: 4) والمجروح يُشفي، والفريسة تهرب (من الوحش)، ومن يعترف بخطيَّته لا يُحتقر.

الرب لا يشاء موت الخاطي، بل بالأحرى أن يعود ويحيا (حز 18: 32)[297].

القديس باسيليوس الكبير

v     غضب الله ليس انفعالاً، وإلاّ كان يحق للإنسان أن ييأس لعدم قدرته على إطفاء لهيب غضب الله المشتعل بسبب أعماله (أي الإنسان) الشريرة. لكن الله بطبيعته خالٍ من الانفعال حتى إن عاقب وإن انتقم، فإنه لا يصنع ذلك حنقًا، بل عن اهتمام بنا، ففيه حنان وعفو عظيم. وهذا يدفعنا إلى أن تكون لنا شجاعة عظيمة صالحة، وأن نثق في قوة التوبة...

الذين أخطأوا ولو في حقه، لا يرغب في معاقبتهم انتقامًا لنفسه، لأنه لا يصيب لاهوته ضرر، إنما يفعل ذلك لأجل نفعنا، لكنه يمنع انحرافنا الذي يتزايد باستهتارنا وعدم مبالاتنا به.

فكما أن الذي يبقى خارجًا بعيدًا عن النور، لا يضر النور في شئ، بل تقع الخسارة العظمى عليه بكونه في الظلام، هكذا ممن اعتاد أن يحتقر القوة القادرة، لا يضر القوة بل يضر نفسه بأكبر ضرر ممكن.

لهذا السبب يهددنا الله بالعقوبات، بل وقد يصبها علينا، ليس انتقامًا لنفسه بل كوسيلة لجذبنا إليه[298].

v     هذا هو حنو الله أنه لن يُدير وجهه عن توبة صادقة، فحتى إذا كان الإنسان قد اندفع إلى أقصى حدود الشر، عندما يعود إلى طريق الفضيلة، يقبله الله ويرحب به، ويصنع معه كل شيءٍ إلى أن يعيده إلى حالته الأولى.

فالله يعمل إلى أقصى حدود الرحمة، حتى ولو لم يُظهر الإنسان توبة كاملة، فهو لا يتجاهل أمرًا صغيرًا أو زهيدًا، بل يعطى عن هذا جزاءً عظيمًا. ويظهر ذلك من قول النبي إشعياء: "من أجل إثم مكسبه غضب وضربته، استترت وغضبتُ، فذهب عاصيًا في طريق قلبه. رأيت طرقه وسأشفيه وأقوده وأرد تعزيات له ولنائحيه" (إش 17:57، 18).

وسنقتبس مثلاً آخر، وهو أشر الملوك كفرًا، الذي كان يخطئ بتأثير زوجته، لكنه ما أن تأسف ولبس المسوح، ودان أخطاء،ه حتى ربح لنفسه مراحم الله... فقد قال الله لإيليا: "هل رأيت كيف نُخس قلب آخاب أمام وجهي، لا أجلب الشر في أيامه لأنه بكى أمامي" (راجع 1 مل29:21)[299].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     ينظر الله إلى الناس، ويهتم بهم بنوع خاصٍ، ويقود كل الأشياء بتدبير عنايته بحسب الحكمة[300].

القديس مقاريوس الكبير

16. ثابت في ذاته، غير متغير (ع 23، 27).

مسيحنا هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد (عب 13: 8), غير متغير، يقدم ذاته كصخرةٍ ثابتةٍ، تبنى عليها كنيسته، فلا تقدر أمواج بحر هذا العالم أن تحطمها، ولا يقدر الزمن أن يجعلها تشيخ وتضعف.

v     ليتكم تُبنون على الصخرة إن كنتم تريدون ألا يهدمكم مجرى الماء أو الرياح أو الأمطار. إن أردتم أن تتسلحوا ضد التجارب في هذا العالم، فليكن شوقكم إلى أورشليم الأبدي يبنيكم ويقوي قلوبكم[301].

v     أخلي نفسه، ليس لأنه تغير عن كونه الحكمة الأزلي. فإن الحكمة الأزلي لن يتغير مطلقًا. بالأحرى دون أن يتغير اختار أن يصير معروفًا للبشرية في شكلٍ متواضعٍ[302].

v     خير لي الالتصاق بالله (حك 27:7). فإنني إن لم استقر فيه، لا استقر في نفسي، أما هو فثابت في ذاته ويجدد كل الأشياء. وأنت هو الرب إلهي، حيث انت قائم ولست في حاجة إلى صلاحي (مز 2:16)[303].

v     من هو مثال كلمتك، ربنا القائم في ذاته دون أن يشيخ، ويجدد كل الأشياء[304].

القديس أغسطينوس

v     الذي يحاكيه هو صخرة[305].

العلامة أوريجينوس

v     الله غير المحدود، مع بقائه غير متغير، أخذ جسدًا، وحارب الموت، محررًا إيانا من الآلام، محررًا بآلامه!... هو نفسه قيٌَد القوي، ونهب أمتعته (مت 12: 21) - أي أخذنا نحن منه، نحن الذين صرنا في انحطاطٍ في كل شرٍ، وجعلنا أوانٍ لائقة باستخدام السيد، حيث صارت إرادتنا الحرة مستعدة لكل عملٍ صالحٍ[306].

 القديس باسيليوس الكبير

17. آمن (ع 23).

18. مطمئن (ع 23).

إذ حكمة الله فوق كل شيء، لن يمسه أذى، بل ويهب من يرتبط معه الأمان والطمأنينة. إنه يحتضن مؤمنيه، كما تحت جناحيه، يظللهم من حر التجارب ويهبهم روح الغلبة والنصرة.

v     نحن نعيش تحت ظل نعمة المسيح[307].

v     لم يفتخر أحد بانتصاره، أو عزاه إلى شجاعته الشخصية، لعلمهم أن يسوع هو مانح النصرة، "لا يسن أحد لسانه" (سي 21:10). وقد تفهم الرسول ذلك عندما قال: "لا أنا بل نعمة الله التي معي (1 كو 10:15)".

فليت الله يرشدني (بعد فوزي بمعركة الحياة) ... أن لا أعزو انتصاري إلى فضل مني، بل إلى صليبه[308].

العلامة أوريجينوس

19. قدير (ع 23، 25، 27).

v     إنه هو الذي كان والكائن ويبقى دومًا... الابن الحقيقي، الثابت، غير القابل للتغيير، لأنه هو الله وابن القدير الكلي القدرة، مع هذا تنازل لأجل خلاصنا، لكي يرفعنا ونحن مطروحون[309].

 لوسفير

20. ضابط الكل ويراقب كل شيءٍ (ع 23، 8: 1)، يملأ المسكونة (8: 1).

إنه فاحص القلوب والكلى، العالم بكل أفكارنا ونياتنا، يأتي ليديننا حسب نياتنا الداخلية وكلماتنا وسلوكنا.

v     لنبغض خطايانا لأجل ذاتها ولنحب ذاك الذي يأتي ليعاقب خطايانا. إنه آتٍ، إن أردنا أو لم نرد[310].

القديس أغسطينوس

21. ينفذ إلى جميع الأرواح (ع 23).

لأن الحكمة أكثر حركة من كل حركة،

فهي لطهارتها تخترق وتنفذ كل شيء. [24]

يكشف الإيمان بالثالوث القدوس حقيقة الله، أنه ليس بالكائن الأزلي الجامد، تحرك فقط عندما خلق السمائيين والأرضيين، إنما هو حركة حب أزلية قائمة في داخله بين الثالوث القدوس، لم تكن يومًا ما قوة كامنة بلا فعل، إنما فعل الحب كان قائمًا منذ الأزل.

هذا الإله الذي هو الحب العامل يتحرك دومًا، فيخترق النفس البشرية ليطهرها ويقدسها، ويقيم منها أيقونة له، حية وفعالة.

حكمة الله حاضر دومًا، إذ يقول: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 20:28). وسنكون معه أيضًا في العالم الآخر.

هنا ننعم بحضوره معنا وشركتنا معه، وهناك ننعم بوجودنا في أحضانه، نتمتع برؤياه وجهًا لوجه وتكون لنا شركة معه في المجد الأبدي.

v     لا يكفي أن يقول: "أريد أن هؤلاء يكونون حيث أكون" (راجع يو 24:17)، إنما أضاف: "يكونون معي". فإنه حتى الإنسان البائس يمكن أن يوجد حيث يوجد الله، فإنه أينما وجد البائس فالله أيضًا موجود. أما الطوباويون فهم وحدهم مع الله، فإنهم به وحده يمكنهم أن يكونوا مطوَّبين. ألم يُقل عن الله: "إن صعدتُ إلى السماء فأنت هناك، وإن هبطتُ إلى الهاوية فأنت حاضر" (مز 139: 8)؟ أليس المسيح هو حكمة الله التي تخترق كل مكان من أجل نقاوتها (حك 7: 24)؟ فالنور يشرق في الظلمة، والظلمة لم تدركه (يو 1: 3)[311].

v     إن كانت الحكمة هي الله، خالق كل الأشياء، كما يشهد السلطان الإلهي والحق (حك 7: 24-27)، فالفيلسوف هو محب الله[312].

القديس أغسطينوس

فإنها نفحَة من قدرة الله،

وانبعاث خالصُ من مجد القدير.

فلذلك لا يتسرب إليها شيء نجس. [25]

في الرد على فستوس (من أتباع ماني الذين يتطلعون إلى المادة خاصة الجسد كشيء دنس) يؤكد القديس أغسطينوس أن الجسد في ذاته ليس دنسًا لأنه من صنع الصالح. كل شيء طاهر للطاهرين ، فكم بالأكثر يتطلع القدوس الطاهر إلى كل الخليقة انه ليس فيها شيء دنس أو نجس في ذاتها.

v     يقول الرسول: "كل شيء طاهر للطاهرين" (تي 15:1). إن كان هذا حقيقيًا بالنسبة للبشر الذين قد ينقادون إلى الشر بواسطة إرادة فاسدة، فكم بالأكثر يكون كل شيء طاهرًا بالنسبة لله، الذي يبقى على الدوام غير قابل للتغيير ولا للدنس!... قيل عن الحكمة الإلهية: "لا يتسرب إليها شيء دنس، وتتحرك في كل موضع لطهارتها" (راجع حك 24:7). إنها لسخافة شديدة أن تجد خطأ في التوالد البشري (إذ يرون في العلاقات الجسدية بين الزوجين نجاسة)، الذي وضعه الله، الذي كل شيء طاهر بالنسبة له[313].

v     مع أن كل الأشياء التي أقامها هي فيه، إلا أن من يخطئ لا ينجسه، الذي قيل عن حكمته: "تلمس كل الأشياء بطهارتها، ولا يهاجمها شيء نجس". فإنها تدفعنا للإيمان بأن الله غير قابل للفساد ولا للتغيير، وهكذا فهو غير فاسدٍ[314].

 القديس أغسطينوس

لأنها بهاء النور الأزلي،

ومرآة صافية لقوة الله،

وصورة لصلاحه. [26]

يدعى السيد المسيح - حكمة الله- بهاء مجد الآب، لأنه إن كان الله نورًا، فلا يمكن أن يوجد نور بدون بهاء، ولا بهاء بدون النور. وليس من زمنٍ يفصل بين النور والبهاء. لهذا وإن كان حكمة الله هو واحد مع الآب في ذات جوهره، ويدعو نفسه: "أنا هو نور العالم"، لكنه يُدعى أيضًا "بهاء النور". يشرق على النفوس، فتتلامس مع النور وتتعرف عليه. "الابن الذي في حضن الآب هو خبٌَر". إنه كلمة الآب، يحدثنا لا خلال مقاطع كلمات بل بإشراق الحكمة علينا.

v     هل تبحث عن الابن بدون الآب؟ أعطني نورًا بدون الآب؟ أعطني نورًا بدون بهاء. إن كان قد وُجد وقت لم يكن فيه الابن، فإنه يكون فيه الآب نورًا قاتمًا[315].

v     إن كنت بالحقيقة تستطيع أن تفصل البهاء عن الشمس فلتفصل الكلمة عن الآب[316].

v     ما يفعله الآب، إنما يفعله بالابن، بحكمته وقوته يعمل، فلا يفعل بما هو خارج عنه. إنه يظهر للابن ما يراه هو، ولكن في الابن نفسه يظهر ما يفعله[317].

v     إن كنتم ترون أنه لا يوجد انفصال في النور، فلماذا تطلبون انفصالاً في العمل (عمل الثالوث القدوس)؟ انظروا إلى الله، انظروا كلمته الذي لا يتجرأ... فالمتكلم لا ينطق بمقاطع كلمات، إنما حديثه هو إشراق لبهاء الحكمة، ماذا يُقال عن الحكمة ذاتها؟ "إنها بهاء النور الأزلي". لاحظوا بهاء الشمس في السماء، وتنشر بهاءها على كل الأراضي وعلى كل البحار مع أنها في بساطة هي نور حسي. إني أتحدث عن الشمس، لننظر إلى مصباحٍ واحدٍ صغير بشعاعٍ هزيل، يمكن أن ينطفئ بنفخة واحدة، يبسط نوره على كل ما هو قريب منه، من اللهيب المنتشر. ترون الانبعاث منه وليس انفصال. إذن لتفهموا أيها الإخوة المحبوبون أن الآب والابن والروح القدس متحدون معًا في ذواتهم بلا انفصال. لكن هذا الثالوث هو الله الواحد، وكل أعمال الله الواحد هي أعمال الآب والابن والروح القدس[318].

v     نقرأ: "الله نور، وليس فيه ظلمة البتة" (1 يو 5:19)، وأيضًا: "الله الذي قال أن يشرق في قلوبنا" (2 كو4: 6). أيضًا في العهد القديم أعطى اسم "بهاء النور الأزلي" (حك 26:7) لحكمة الله، التي بالتأكيد لم تُخلق، بل بها خُلق كل شيء. وعن النور الذي يصدر عن هذه الحكمة قيل: "لأنك أنت تضيء سراجي يا رب، إلهي أنت تنير ظلمتي" (مز 28:18). بنفس الكيفية، في البدء، حيث كانت ظلمة على الغمر، قال الله: "ليكن نور فكان نور" (تك 2:1)، حيث هو النور معطي النور، الله نفسه استطاع وحده أن يفعل ذلك[319].

القديس أغسطينوس

v     يقول النبي: "بنورك نعاين النور" (مز 36: 9). وأيضًا: "الحكمة هي بهاء النور الأزلي ومرآة صافيه لعظمة الله، وصورة لصلاحه" (حك 7: 26). انظروا أية أسماء عظيمة تُعلن! "بهاء"، لأنه في الابن يشرق مجد الآب بوضوح. "مرآة صافية"، إذ يُرى الآب في الابن (يو 12: 45). "صورة صلاحه" لأنه ليس بجسدٍ ينعكس على آخر، بل كل قوة اللاهوت في الابن[320].

القديس أمبروسيوس

v     الذي عنده استنارة هو أعظم من الذي له عقل ومعرفة. لأن الإنسان المستنير قد نال عقله استنارة أكثر من الذي له معرفة فقط. كما يظهر من رؤيته لرؤى داخل نفسه، لا يمكن أن تكون موضع شك. ولكن الإعلان هو شيء أعلى من الرؤى. فإن أمور الله العظيمة وأسراره إنما تُعلن للنفس بواسطة الإعلان والوحي[321].

v     كما تنظر عيوننا الشمس، كذلك ينظر المستنيرون صورة النفس، ولكن قليلاً من المسيحيين يبلغون إلى هذه الاستنارة[322].

v     يتعلم المسيحيون لغة واحدة جديدة، وجميعهم يتهذبون بحكمة واحدة هي حكمة الله... وعندما يسير المسيحيون في هذه الخليقة الجديدة، فإنهم ينالون استنارة سماوية جديدة وأمجادًا وأسرارًا يحصلون عليها من رؤية الأشياء الظاهرة التي يبصرونها بحواسهم[323].

القديس مقاريوس الكبير

v     لنأخذ في اعتبارنا من هو مخلصنا: بهاء المجد. بهاء المجد مولود... مخلصنا هو حكمة الله (1كو 1: 24). والحكمة هي بهاء النور الأزلي (حك 7: 26). فإن كان المخلص مولود دائمًا، لهذا يُقال: "قبل كل التلال يلدني"... فهو دائمًا مولود بواسطة الآب.

العلامة أوريجينوس

تَقدِرُ على كل شيء،

وهي وحدها،

وتجدد كل شيء،

وهي ثابتة في ذاتها،

وعلى مر الأجيال تجتاز إلى نفوس قدِّيسة،

فتنشئ أصدقاء لله وأنبياء. [27]

لا يستعرض حكمة الله القدير قدرته أمام خليقته، لكنه بحبه لها يعمل فيها لتجديدها المستمر. هو لا يتغير، ولا يحتاج إلى تغيير، لأن كماله مطلق ليس له حدود. خلق البشرية قابلة للتغير، لكي من جانب، يهبها حرية الإرادة، من حقها أن تنمو على الدوام، وفي قدرتها أن تهبط بكيانها حتى إلى الدمار. هذا ومن جانب آخر، فإن البشرية إن لم تكن تحمل إمكانية التغير تبقى في حالة جمود، ولا يكون للحياة طعم . فهو يجددها على الدوام إن أرادت، دون أن يتغير هو من جانبه.

v     الله غير قابل للتغير كما كُتب في المزامير: "تغيرهن فتتغير، وأنت هو كما أنت" (مز 27:102)، وفي سفر الحكمة: "تبقى في ذاتها وتجدد كل شيء" (حك 27:7).

 القديس أغسطينوس

v     من أهم واجباتنا هو تمييز الأزمنة والأوقات، حتى نتمكن من ممارسة  الفضيلة. كان الطوباوي بولس يعلم تلميذه أن يلاحظ الوقت، قائلاً: "أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب (2 تي2:4)، حتى إذا ما عرف الوقتين المناسب وغير المناسب يستطيع أن يصنع الأمور التي تناسب مع الوقت ويتحاشى ما هو غير مناسب.

وهكذا فإن إله الكل نفسه يعطي كل شيء في وقته كقول سليمان الحكيم (جا 7:3)، مريدًا بذلك أن يعم خلاص البشر في كل مكان في الوقت المناسب.

وهكذا "حكمة الله" (1 كو 24:1)، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، أوجد في الأوقات المناسبة، من النفوس المقدسة أنبياء وأحباء الله (حك 27:7). وبالرغم من أن كثيرين قد قدموا صلوات لأجله (لكي يأتي مسرعًا ليقدم الخلاص) قائلين: "ليأتِ من صهيون خلاص الله" (مز 14:7)، أو كما جاء في سفر نشيد الأناشيد على لسان العروس قائلة "ليتك كأخ لي الراضع ثدي أمي" (نش 1:8)، أي ليتك كنت كبني البشر تحمل آلام البشرية من أجلنا. بالرغم من كل هذه الصلوات فإن إله الكل، خالق الأزمنة والأوقات، الذي يعرف ما هو لصالحنا أكثر منا، فإنه في الوقت المناسب، في ملء الزمان، وليس في أي وقت ما اعتباطًا، أعلن كطبيب ماهر طريق شفائنا، إذ أرسل ابنه لكي نطيعه قائلاً: "في وقت القبول وفي يوم الخلاص أعنتك". (إش 8:49)[324]

v     لا يستخدم الله طريقة واحدة للعلاج، بل بكونه غنيًا يستخدم طرقًا كثيرة لأجل خلاصنا بكلمته، الذي هو ليس بمحدودٍ ولا مقيدٍ ولا معوقٍ في طرق علاجه التي يقدسها لنا، إنما هو غنى، وقادر أن يشكل نفسه حسب احتياجات وقدرة كل نفس.

إنه كلمة الله وقوته وحكمته كما يشهد سليمان عن الحكمة قائلاً: "وهي واحدة وقادرة على كل شيء وثابتة في ذاتها ومجددة الكل ومنتقلة إلى النفوس القديسة في أجيال الأجيال وتجعل أحباء وأنبياء لله" (حك 27:7).

فبالنسبة للذين لم يبلغوا بعد طريق الكمال، يكون (الكلمة) بالنسبة لهم (1 كو 2:3) كقطيعٍ يقدم لهم لبنًا. وهذا ما خدم به بولس إذ يقول: "سقيتم لبنًا لا طعامًا".

أما بالنسبة للذين تقدموا وتعدوا دور الطفولة الكاملة، ولكنهم لازالوا ضعفاء إذ هم يطلبون الكمال، هؤلاء أيضًا يكون (الكلمة) بالنسبة لهم كطعامٍ قدر طاقة احتمالهم. وقد خدم به بولس أيضًا، إذ قال "أما الضعيف فيأكل بقولاً" (رو 2:14).

وبالنسبة للإنسان الذي يبدأ في السلوك في طريق الكمال، فإنه لا يعود يأكل من الأشياء السابقة بل يكون "الكلمة" للخبز، والجسد للطعام، إذ مكتوب: "أما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة" (عب 14:5).

بالحري عندما تبذر الكلمة لا تأتي بثمر متساو في كل الناس، بل يأتي ثمر كثير ومتنوع، يأتي بمائة وستين وثلاثين (مت 8:13)، كما علمنا المخلص باذر النعمة وواهب الروح.

وهذا ليس بأمر مشكوك فيه، ولا بمحتاجٍ إلى من يؤيده، إنما يمكننا أن نتطلع إلى الحقل الذي يزرع فيه (الرب)، إذ نجد أن الكلمة واضحة ومثمرة في الكنيسة، ليس فقط بالعذارى وحدهن يتزين الحقل، ولا بالرهبان وحدهم، بل وأيضًا بالمتزوجين زواجًا مكرمًا، وبعفة الجميع

لقد أعد الرب منازل كثيرة عند أبيه (يو 2:14)، لكن بالرغم من أن مكان السكنى نجد فيه درجات متنوعة حسب تقدم كل واحدٍ، غير أننا جميعًا سنكون في داخل الحصون، محفوظين في داخل نفس السياج حيث يطرد العدو (الشيطان) وكل جماعته خارجًا[325].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     أي شيء مستحيل على الحكمة التي كتب عنها: "إذ هي قديرة وساكنة تجدد كل شيء فيها" (راجع حك 7: 27)؟ نقرأ عن الحكمة ليس كمن تقترب بل تقطن. هكذا لكم السلطان الذي لسليمان الذي يعلمكم عن كلية القدرة التي للحكمة وأبديتها، وأيضًا صلاحها إذ كُتب: "أما الحكمة فلا يغلبها الحقد" (راجع حك 7: 30)[326].

القديس أمبروسيوس

v     سلم الابن نفسه، لكي بكونه البرّ يطرد ما فينا من جورٍ. وتسلم الحكمة ذاتها لكي ما تطرد الجهالة[327].

 القديس جيروم

v     النفس التي ترجع إليه، طالبة رحمته، وهي محتاجة إلى حمايته، ويحضرها إلى حالة سعيدة، حالة التحرر من الشهوات، وحالة الثبات المستمر في كل فضيلة بتجديد الذهن[328].

v     لا يتصور أحد أن نفسه قد استنارت كلها مرة واحدة استنارة كلّية. فلا يزال يوجد قدر من الخطية في الداخل، ويحتاج الإنسان إلى تعب وكدّ كثيرين على حساب النعمة المُعطاة له[329].

القديس مقاريوس الكبير

لأن الله لا يحب إلاَّ من يُساكن الحكمة. [28]

حكمة الله يريد أن يكون المؤمنون أيقونة له، يتسمون بالحكمة التي يقتنونها به، فيلتصقوا به، ويسكن فيهم. لذا يليق بنا أن نطلبها منه.

v     هذا هو الفردوس الذي لا ينضب، بل يفيض بغير حدود، يعطي شبعًا قدر ما نقبل، يترجّى الكل أن يقبلوه مستعطّفًا: "أنا واقف على الباب أقرع؛ إن فتح لي أحد أدخل وأتعشّى معه"، وإن لم يفتح لي، ألح مرّة ومرّات لعلّ قلبه يلين ويفتح لي، لأنّي أحبّه!

جاء متجسّدًا، حتى يعيد إلى النفس سعادتها ويملأ جوانبها، وينزع القلق منها.

يا نفسي المسكينة، ماذا تطلبين؟!

إن أردت الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!

القديس أغسطينوس

فإنها أبهى من الشمس،

وأسمى من كل مجموعة نجوم،

وإذا قيست بالنور ظهر تفوُّقُها. [29]

v     الآن هيئة الفضائل عجيبة ومدهشة، خاصة جمال الحكمة كما تخبرنا كل الأسفار المقدسة. فإنها أبهى من الشمس، ومتى قورنت بالكواكب لا يضاهيها أية مجموعة منها. يمكن لليل أن يتغلب على نور مجموعة من الكواكب، لكن الشر لن يقدر أن يهزم الحكمة (حك 7: 29-30)... ليس من شركة بينهما وبين الرذيلة، إنما هي في اتحاد مع بقية الفضائل بلا انفصال[330].

القديس أمبروسيوس

v     فرح نفس عبدك... اُدخل إلى نفسي أيّها الفرح الحقيقي، حتى تبتهج بك! اُدخل إليها أيّها العذوبة الحقيقيّة، أَفِضْ عليها شعاعك أيّها النور الأبدي، حتى تعرفك وتدركك وتحبّك!...

أيها النور الذي يضيء النفس، أيّها الحق البهي، أيّها البهاء الحقيقي الاستضاءة، يا من تضيء لكل إنسانٍ آتٍ إلى العالم. أتيت إلى العالم، والعالم لم يحبّك!

إلهي... بدّد الظلمة الكثيفة التي تخيّم على نفسي، حتى تراك عند إدراكها إيّاك. وتعرفك عند تقبُّلها لك، وتحبّك عند معرفتها لك.

القديس أغسطينوس

لأن النور يعقبه الليل.

أما الحكمة فلا يغلبها الشر. [30]

v     أسْرِع أيّها النور، الذي بدونه لا أقدر أن أرى!

عَضِّدْني أيّها المجد الأبدي، يا فرحي، اِكْشِفْ لي ذاتك يا إلهي حتى أحيا!

القدِّيس أغسطينوس


 

من وحي الحكمة 7

لتدخل أيها الحكمة الإلهي إلى أعماقي!

v     سليمان سبق الجميع وطلبك ليتمتع بك!

حسب عرشه وقضيب ملكة كلا شيء!

سكناك أشبع نفسه، فحسب الذهب قليلاً من الرمل.

ورأي الفضة طينًا بجوارك.

أنت مجده وكنزه وغناه!

 

v     علمني أن أقتدي به،

علمني كيف أطلبك!

أنا أعلم أنك واقف على الباب تقرع.

 لتدخل، ولتملك، ولا يملك آخر عليِّ سواك.

 

v     لتدخل، وبروحك القدوس تجدد على الدوام طبيعتي.

أراك تطلب جمال نفسي، الذي هو من صنع روحك النادي.

فكيف أفسد فكري وطاقاتي ووقتي في البحث عن جمال الجسد الخارجي؟

اقتنيك أيها الطبيب السماوي والدواء العجيب،

فيهرب كل مرضٍ من نفسي.

أنت أثمن من صحة جسدي!

 

v     بماذا أدعوك يا حكمة الله؟

أنت الخير الأعظم، مصدر كل الخيرات،

أنت ينبوع الغنى الذي لا ينضب!

أقتنيك، فتفتح أبواب قلبي،

لأقدم لإخوتي مما وهبتني.

أود أن يتمتع الكل بك،

فتصير البشرية كلها مخازن حبٍ لا تفرغ!

 

v     هب لي مع سليمان حبيبك أن أدعو الكل للتمتع بالحكمة.

أعطني فهمًا وكلمة لأنطق عنك،

يا من لا تستطيع لغة أن تعبَّر عنك!

 

v     لتقتنيك كل البشرية،

فلا يوجد بها خامل ولا متهاون.

يعمل الكل حسب مواهبه!

تشرق على العقول، فتدرك الكثير من الأسرار،

وتنمو المعرفة، ويزداد العلم،

ويسعى الكل في البحث في كل شيء بروح التواضع.

يكتشفون أسرار الطبيعة الظاهرة والخفية!

 

v     اسمح لي أن أتكلم عنك يا بهاء النور الإلهي.

أنت روح، تريد أن تهب كل البشرية أن يعيشوا حسب الروح لا الجسد!

أنت العقل الإلهي،  تود أن تقدس عقولنا بك!

أنت قدوس، تشتهي أن نتقدس بك!

أنت ابن الله الوحيد، تقدم لنا التبني للآب بروحك القدوس في مياه المعمودية.

أنت لطيف ورحوم حتى في غضبك،

تؤدب لا لكي نهلك، بل لكي نحيا بك.

أنت ثابت، تدخل إلى كل نفسٍ تقيم منها مسكنًا لك.

أنت متحرك، تعمل على الدوام، لكي ما تحملنا إلى حضن أبيك.

أنت طاهر، تملأ الكل دون أن يمسك دنس!

أنت واضح، لا تبخل علينا بالإعلان عن ذاتك.

أنت كامل وسليم،  لا تتجزأ؛

تملأ السماء والأرض،

كامل في كل موضع.

أنت محب للخير،  لأنك الخير الأعظم،

تود أن يصير المؤمنون بك محبين للخير حتى بالنسبة لمقاوميهم.

 أنت حاد، حازم، لأنك لا تهاون الشر، ولا تقبل الفساد!

أنتَ حرّ، بذلت ذاتك لكي تحررنا من عبودية إبليس، ومن كل خطية.

أنت المحسن، محب البشر، تقيم منا محبين لكل البشرية.

لن نستريح حتى يستريح إن أمكن الكل!

أنت ثابت في ذاتك، لن تتغير،

تجددنا لكي نتغير فنصير إلى الأفضل.

أنت آمن مطمئن، بك نتمتع بالأمان؛

تمتلئ نفوسنا بالرجاء فتتهلل،

حيث لنا بك موضع في حضن أبيك.

أنت القدير، بك نستطيع كل شيءٍ،

فلا نُصاب بالعجز ولا الفشل!

أنت الديان تراقب حتى أفكارنا ونياتنا الخفية.

لا لتترصد أخطاءنا،

بل لتقدسنا وتكافئنا وتمجدنا!

أنت تنفد إلى جميع الأرواح،

لأنك حياتها، بدونك ليس لها حياة!

أنت الحاضر في كل مكانٍ،

أينما وُجدنا نجد شهادة حية عنك.

هوذا الطبيعة تصرخ شاهدة لك.

هوذا التاريخ يعلن رعايتك الدائمة.

هوذا الأحداث تؤكد أنك ضابط الكل.

هوذا أعماقي تعلن لي بأنه لا ملجأ لي سواك.

 

v     أخيرًا ماذا أطلب منك يا أيها النور الأبدي.

لأقتنيك، فلا تتسلل الظلمة إليّ.

كل أنوار العالم تنطفئ يومًا ما، أما نورك فأبدي.

أنت نوري ومجدي،

أنت كنزي وغناي،

أنت فرحي وسروري،

أنت شبعي ومجدي،

أنت الكل لي!         

<<


 

الأصحاح الثامن

الحكمة قرينة حياتي

في الأصحاح السابق رأينا حكمة الله بكونه القدير، صانع الخيرات، محب البشر، الحال في كل مكان، الدائم الحركة لأجل بنيان الإنسان ومجده. هنا يؤكد الحكيم حب الحكمة الإلهي، إنه لم يقف عند خلقته لنا، لكنه في حبه ورعايته وعنايته الإلهية يدبر كل شيء للفائدة. هو القدير العامل في كل إنسانٍ، يهتم بالبشرية ككل ولكن ليس على حساب إنسانٍ ما، مهما كان عمره أو قدراته أو مواهبه. إنه محب للجميع، ويريد أن يتحد الجميع معه، يتمتعون به، وينعمون بغناه وعمله فيهم، وتدخل بهم إلى الخلود.

1. الحكمة معينة للجميع1.

2. الحكمة عروس مثالية2-3.

3. الحكمة واهبة الغنى 4-5.

4. الحكمة عاملة في قرينها6-8.

5. عروس واهبة المجد على الأرض وفي السماء9-16.

6. الحكمة عروس خالدة17-21.

1. الحكمة معينة للجميع

إنها تمتد بقوةٍ،

من أقصى العالم إلى أقصاه،

وتدبر كل شيء حسنًا. [1]

الحكمة الإلهي مصدر نظام المسكونة، فهو إله نظام وليس إله تشويش (1 كو 14: )، غير أن هذا النظام يُقدم لحساب بنيان الإنسان. كثيرًا ما استخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة لتأكيد رعاية حكمة الله أينما وُجدنا وتدبيره الدائم لأجلنا.

v     كلمة الله الذي هو أيضًا ابن الله، شريك الآب في الأزلية، قوة الله وحكمته (1 كو 24:1). يمتد بقدرته في تناسق ينظم كل الأشياء، من أعظمها تعقلاً إلى أقل الخليقة المادية، الخليقة الظاهرة والخفية، دون أن يُحد أو ينقسم أو يتضخم، إنما هو حاضر بكامله دون وجود أبعاد له[331].

v     ماذا إذن أيها الاخوة؟ "كل شيء به كان". لقد أدركنا بهذا أنه بواسطة الابن قد صُنعت كل الخليقة. لقد صنعها الآب بكلمته، صنعها الله بقوته وحكمته. هل يمكن أن نقول إنه عند خلقه الأشياء "كل شيء به كان"، وأما الآن فلا يصنع الآب كل شيء بواسطته؟ حاشا لله! فلتطرد مثل هذه الأفكار بعيدًا عن قلوب المؤمنين. لتطرد بعيدًا عن أفكار الأتقياء وفهم المتدينين! لا يمكن أنه يكون به خلق الآب ولا تدبر الخليقة بواسطته. حاشا لله أن لا يدبر ما قد أوجده، تلك التي بواسطته خُلقت وصار بها وجودها! لترى بواسطة شهادة الكتاب المقدس ذاته أنه ليس فقط كل الأشياء به خُلقت إذا اقتبسنا من الإنجيل "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان"، بل أن كل الأشياء التي صُنعت تًدبر وتًنظم بواسطته أيضًا. إنكم تعرفون أن المسيح قوة الله وحكمته، فلتعلموا أيضًا ما قد قيل عن الحكمة: "وتمتد من أقصى إلى أقصى بقوة وتدبر ( باقتدار) الكل حسنًا" (حك 8: 1) إذن فلا نشك في أن كل الأشياء تُدبر بواسطة ذاك الذي به كل الأشياء صُنعت. هكذا لا يصنع الآب شيئا بدون الابن ولا الابن بدون الآب[332].

القديس أغسطينوس

يتساءل البعض: إن كان الابن قد أُرسل إلى العالم، ألم يكن موجودًا في العالم قبل تحقيق هذه الإرسالية؟ لقد كان في العالم بقوة لاهوته، أما إرساليته فهي تخص تجسده ليحقق الخلاص بالصليب والقيامة؟

v     لقد جاء إلى العالم، وكان في العالم. إذن قد أرسل إلى حيث كان هو موجودًا. لاحظوا أيضًا ما قد كًتب بالنبي: "أما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب" (إر 24:23)... ذاك الذي يقول: "أنا املأ السماوات والأرض" كان في كل موضعٍ... إن قيل إن هذا يخص الآب، فكيف يُمكن أن يوجد الآب دون كلمته ودون حكمته التي "تمتد بقدرة من أقصى العالم إلى أقصاه، وتدبر كل شيء بعذوبة" (حك 1:8)؟[333]

القديس أغسطينوس

إنه واضع النظام والتدبير، خلاله ليس فقط نتلامس مع عظمة قدرته، وإنما أيضًا عذوبة محبته العاملة لحسابنا في هذا التدبير للكون. إنه يود أن يبقي النظام عاملاً لحسابنا، لكنه قد يكسر أحد القوانين الطبيعية إن كان ذلك لبنياننا، ففي محبته يفعل هذا، ليس لاستعراض معجزاته وآياته وغرائبه، وإنما لإعلان حبه وحنوه وعذوبة تدبيره كل شيء لحسابنا.

كثيرًا ما استخدم القديس أغسطينوس هذه العبارة لتأكيد وجود الله وحضوره في كل مكان، وتدبيره ورعايته المستمرة وفي كل موضع.

فظهور الله لموسى على جبل سيناء حيث النار والدخان (خر 18:19- 19)، لا يعني أن الله - سواء الثالوث القدوس أو أحد الأقانيم - كان محدودًا في حضوره بمكانٍ معينٍ دون غيره، فمن أجل إمكانية موسى لرؤية الله ظهر هكذا في موضع معين وبطريقة يمكن بها رؤيته. لكنه هو حاضر في كل العالم[334].

لا نعجب إن قرأنا: "كان جبل سيناء كله يُدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار..." (خر 18:19). وأيضًا "ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعه من العقيق الأزرق الشفاف" (خر 10:24).

أيضًا بقول الله لموسى، "تنظر ورائي، وأما وجهي فلا يُرى" (خر 23:33)، وعندما يقول الرسول بولس إننا نراه وجهًا لوجه (1 كو 12:13)، وقول الرسول يوحنا: "ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 2:3). هذه العبارات وأمثالها لا تعني أن الله له أعضاء أو يمكن تجزئته أو يُوجد في مكانٍ ما وليس في مكانٍ آخر، وإنما هو تنازل منه لكي نتمتع به ويمكننا رؤيته والحديث معه[335].

مرة أخرى إذ تحدث القديس أغسطينوس عن الشباك التي ينصبها الشيطان للبشر، فإن حكمة الله تمتد في كل العالم وتدبر كل شيءٍ بعذوبة، فتحول شرور إبليس ومكائده لنفع الإنسان ومجده[336].

2. الحكمة عروس مثالية

وهي التي أحببتُها والتمستُها منذ حداثتي،

وسعيت أن أَتخذها لي عروسًا،

وصرت لجمالها عاشقًا. [2]

لا تُقتنى الحكمة بالمجهود البشري ذاته، إنما توهب كعطية الله.

v     من الإرادة تنبع الحكمة، هذه التي يدخل معها الحكيم في زواجٍ، قائلاً: "سعيت أن أتَّخذها لي عروسًا" (حك 8: 2). هذه الإرادة إذن التي كانت قبلاً ضعيفة وفاترة بحمى الشهوات المتنوعة قامت بعد ذلك خلال خدمة الرسل قوية لخدمة المسيح[337].

القديس أمبروسيوس

v     إنه سليمان الذي يقول إنه يشتاق أن يجعل الحكمة عروسه (حك 8: 2). وفي موضع آخر يقول مرة أخرى عن الحكمة: "حبَّها فتحضنك، احتضنها فتحفظك" (راجع أم 4: 6، 8). ليتنا نحن أيضًا نأخذها لنا زوجة! لنتمسك بها في أذرعنا، ولا نتركها تترك أحضاننا، ولن نجعلها تهرب من أذرعنا. إن كانت هذه العروس دومًا في حضننا فسنلد منها أبناء (أي ثمر الروح لا الجسد)[338].

القديس يروم

يرى العلامة أوريجينوس أن سارة تشير إلى الحكمة، لذا فقد التصق بها رجل الله البار إبراهيم، بكونها عروسه الأميرة التي يسمع إليها في كل ما تقوله.

v     أعتقد أن "سارة" التي تعني "أميرة حاكمة," تمثل arete التي هي فضيلة النفس. فهذه الفضيلة إذًا تصاحب الإنسان الحكيم والمؤمن وتلتصق به, تمامًا مثل ما قال الرجل الحكيم عن الحكمة: "وددت أن آخذها لي زوجة" (حك 8: 2) لهذا قال الرب لإبراهيم: "في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها" (تك 21: 12). هذا القول، على أي الأحوال لا يناسب الزواج الجسدي، فكما هو معروف أنه قد أعلنت العبارة من السماء التي قيلت للمرأة: "إليه يكون ملجأكِ، وهو يتسلط عليكِ" (راجع تك 3: 16) فإن قيل عن الزوج أنه سيد زوجته, فكيف يُقال لإبراهيم," في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها". أما إذا كان متزوجًا بالفضيلة, ففي كل ما تشير به عليه, فليستمع إليها[339].

v     في الواقع, يميز الله تقدم القديسين مشبهًا إياه بالزواج. ففي إمكانك أنت أيضًا, إذا رغبت, أن تصير زوجًا من هذا القبيل. فعلى سبيل المثال, إن كنت تمارس كرم الضيافة, فستبدو وكأنك قد أخذت هذه الفضيلة زوجة. فإن أضفت إلى ذلك التعاطف مع الفقراء, فقد صار لك زوجة ثانية. أما إذا اكتسبت لنفسك أيضا الصبر والرقة وغيرها من الفضائل, فستبدو وكأن لك زوجات بعدد الفضائل التي اكتسبتها[340].

العلامة أوريجينوس

إنها تُمجد أصلها الكريم باشتراكها في حياة الله،

وقد أحبها سيد الجميع. [3]

ما هو الأصل الكريم الذي للحكمة، سوى أنها الأقنوم الإلهي الثاني، المولود من الآب أزليًا، نور من نورٍ، إله حق من إله حقٍ، واحد معه في ذات الجوهر.

هذا هو حكمة الله الذي تجسد لكي يعكس علينا كرامة وعزة من قبل أصله الكريم، إذ وهو الابن الوحيد الجنس وهبنا البنوة للآب في مياه المعمودية بروحه القدوس، فصرنا نعتز بهذه البنوة.

وأما عن اشتراك الحكمة في حياة الآب، فيقول السيد المسيح نفسه للآب: "كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (يو 17: 9).

بتجسده قدم لنا حياة الشركة مع الله، باتحادنا مع الآب بالروح القدس في استحقاق دم السيد المسيح المبذول. صار لنا حق التمتع بالسماويات والإلهيات كهبات إلهية ننالها خلال مصالحتنا مع الآب بالصليب.

وأما عن حب سيد الجميع للحكمة، فيقول السيد المسيح: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو 17: 24)؛ وقد جاء ليحملنا إلى أبيه فنتمتع بحبه. "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26).

كأن الحكيم يسألنا أن نقتني حكمة الله فنقتني الآتي:

أ. انعكاس أصله الكريم علينا، فيرفعنا من المزبلة لنجلس مع أشراف أشراف شعبه.

ب. التمتع بالشركة مع الله، أو الشركة في الطبيعة الإلهية، فنسلك بالحق كأبناء لله.

ج. نحمل الحكمة فنصير بالحق موضع حب الله الفائق، كما تصير لنا إمكانية الحب لله سيد الجميع.

3. الحكمة واهبة الغنى

فهي مطَّلعةٌ على معرفة الله،

والمُحبَّة لأعماله. [4]

د. التمتع بعلم الله الذي يفوق العقل البشري. إذ يعلن لنا عن الأسرار الإلهية.

إذ الحكمة هي أقنوم إلهي "حكمة الله"، لا يمكن فصلها عن الآب، لأنه لم يكن قط بلا حكمة، هذه الحكمة التي – أن صح التعبير- هي مخازن المعرفة الإلهية وعمله وخطته الفائقة، تكشف عن أعمال الله وما ورائها من أسرار فائقة.

إذا كان الغِنى مِلْكًا مرغوبًا فيه،

فأي شيء أغنى من الحكمة،

التي تعمل كل شيءِ؟ [5]

هـ. التمتع بالغنى الحقيقي، ليس الممتلكات الزمنية الزائلة، بل حب الله ورعايته وعنايته التي لا تتوقف.

حكمة الله ليست إدراكًا جامدًا أو معرفة نظرية، لكنها دائمة الحركة، حركة الحب الداخلية، والتي تعمل كل شيء أيضًا، لأنها خالقة وقديرة وضابطة الكل. إنها لا تنفصل عن العناية الإلهية بكل الخليقة السماوية والأرضية.

4. الحكمة عاملة في قرينها

وإن كانت الفطنة هي التي تعمل،

فمن أمهرُ منها في هندسة الكائنات؟ [6]

و. التمتع بالتعقل والمهارة. لقد خلق الله الإنسان، ووهبه عقلاً قادرًا على الابتكار والاكتشاف والتقدم المستمر. إنه فريد بين كل المخلوقات الأرضية، يتقدم على الدوام.

تمتعنا بالحكمة الإلهي يقدس العقل، ويهب قوة وقدرة للعمل في جدية، فيصير الإنسان بالحق ماهرًا في الوزنات التي وهبه الله إياها.

الحكمة هو الخالق، الفنان، مهندس الكون. فإذ نتحد بالحكمة نحمل روح الابتكار في تواضعٍ.

"الرب بالحكمة أسس الأرض، اثبت السماوات بالفهم، بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى" (أم 3 : 19-20).

وإذا كان إنسان يحب البرّ

فأتعابُها هي الفضائل،

لأنها تعلِّم ضبط النفس والفطنة والبرّ،

والشجاعة التي لا شيء للناس في الحياة أنفع منها. [7]

ز. التمتع بالفضائل في بداية السفر ربط الحكيم بين الحكمة والبرّ العملي. الآن إذ يعلن الحكيم عن رغبة الكثيرين في أن يكونوا أبرارًا، فإنه ليس من طريق للتمتع بالحياة البارة الفاضلة، سوى باقتناء الحكمة الإلهية.

تنتج الحكمة الإلهية في أولاد الله أربع فضائل عملية هامة ورئيسية:

1. القناعة.

2. الفطنة، أو التعقل العملي.

3. البرّ.

دُعي السيد المسيح، حكمة المتجسد، "شمس البرٌ" (مل 2:4). من يشرق عليه ينيره ويهبه البرٌ الفائق، أما الذين لا يتمتعون بنوره فيُحرمون من البرٌ، ويعيشون في ظلمة الخطية.

v     أولئك الذين لم تُشرق عليهم "شمس البرٌ" (مل 2:4)، أي المسيح، والذين لم تنفتح أعين نفوسهم، وتستنير بالنور الحقيقي، لا يزالون تحت نفس ظلمة الخطية وتحت نفس تأثير الشهوات، وهم تحت العقاب بعينه، إذ ليس لهم إلى الآن عيون لينظروا بها الآب[341].

 القديس مقاريوس الكبير

4. الشجاعة أو الصبر:

 لم يعد الله مؤمنيه الذين ينالون الحكمة السماوية بالطريق الواسع السهل، والحياة المدللة، بل وعدهم بالطريق الضيق لكي يشاركوه صليبه وآلامه، بل وموته. فالإنسان الحكيم روحيًا يواجه حروبًا كثيرة من الخارج كما من الداخل، ولكن مع كثرة المعارك يتمتع بإمكانيات إلهية جبارة، بها يغلب ويكلل.

v     الإنسان الذي رفض العالم حقًا، وطرح عنه ثُقل هذه الأرض، وألقى عنه الشهوات الباطلة الجسدية، وشهوات المجد والكرامات البشرية، وابتعد عنها جميعًا بكل قلبه... ووضع في قلبه بثباتٍ أن يخدم الرب ويعبده ويلتصق به بكل كيانه، جسدًا ونفسًا، مثل هذا الإنسان، أقول إنه يكتشف وجود المقاومة، أي الأهواء الخفية - والقيود غير المنظورة والحرب الخفية - أي المعركة والصراع الداخلي، وهكذا إذ يتوسل إلى الرب، ينال السلاح السماوي، سلاح الروح القدس، الذي وضعه الرسول المبارك بقوله: "درع البٌر وخوذة الخلاص وترس الإيمان وسيف الروح" (أف 6: 14). وإذ يتسلح بهذه الأسلحة يستطيع أن يقف ضد خداعات إبليس بالرغم من كونه محاطًا بالشرور... يصير قادرًا أن يحارب ضد رئاسات هذا العالم. وبانتصاره على القوات المعادية بمساعدة الروح القدس مع سعيه وغيرته في كل فضيلة يصير مُعدًا للحياة الأبدية[342].

 القديس مقاريوس الكبير

يرى القديس مقاريوس الكبير أن الله قد يؤجل استجابة الصلاة ومساندة الإنسان بسرعة في حربه، حتى يزداد شوقًا نحو الخيرات الأبدية، ولكي يتدرب على الصبر والجهاد بشجاعة.

v     الذي لا ينال النعمة سريعًا بسبب تأني الله، يشتعل شوقًا بالأكثر، ويزداد كل يومٍ اشتياقًا واجتهادًا، ويزداد ركوضًا وسعيًا، ويزداد في كل فضيلة، ويظهر جوعًا وعطشًا إلى ما هو صالح... ولا يتحول إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر. من الجهة الأخرى لا يسلم نفسه إلى الكسل تحت ستار التظاهر بالصبر قائلاً: "في يوم أو آخر سأحصل على نعمة الله"... إنما ينبغي عليه أن يكون أكثر حرصًا واجتهادًا، ولا يكلٌ أو يفشل، بل يطلب عطية الله، إذ يثق بأن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، فهو الذي وعد أن يعطي نعمته لأولئك الذين يطلبون بإيمان بكل صبرٍ إلى النهاية[343].

 القديس مقاريوس الكبير

ولعل من أروع قصص الشجاعة الملتحمة بالحكمة، موقف القديس يوحنا الذهبي الفم[344] عام 387م حين فرض الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير ضريبة جديدة إضافية، لمواجهة الإنفاق على الاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور ثيؤدوسيوس وخمس سنوات على اشتراك ابنه الشاب أركاديوس معه في السلطة.

ثار أهل أنطاكية، لأنهم يعلمون جشع جباة الضريبة وإساءة استخدام مثل هذا القرار، فقد هرب كثيرون إلى البراري من وجه جباة الضرائب. والتجأ الشعب إلى الحاكم الذي لم يكن ممكنًا أن يشفع عنهم لدى الإمبراطور خوفًا على مركزه. التجأوا إلى رئيس الأساقفة فلابيانوس (فلافيان)، لكن بسبب شيخوخته تهٌَرب من الموقف.

وسط جموع شعبية تضم من كل صنفٍ سرعان ما سرت صرخات لتثمر بينهم هياجًا فثورة. وفي لمح البصر, دون أي تفكير وبغير أي ضابطٍ، انطلق البعض يحطم تماثيل الإمبراطور والإمبراطورة وابنهما. ورموها في الأوحال والقاذورات.

كل هذا تم في لحظات مملوءة ثورة حماسية تبعها هدوء حيث أفاقوا من سكرتهم وأحسوا ببشاعة جريمتهم, وباتوا خائفين يتوقعون مصيرهم ومصير مدينتهم من عقابٍ شديدٍ. فقد ارتبكت المدينة بأسرها, كبيرها مع صغيرها, ولم يعرف أحد ماذا يكون العمل.

صدر الأمر بحرق المدينة بأسرها، لكن القديس يوحنا الكاهن حث رئيس الكهنة أن يقطع مسافة أكثر من ألف كيلومتر ليلتقي بالإمبراطور، ليحصل منه على العفو، كما فعل موسى النبي عندما شفع لدى الله (خر 32:32). سأله ألا يرجع بدون هذا العفو. غالبًا ما أعد له ما يتكلم به لدى الإمبراطور بروح التواضع، لكن بقوة وشجاعة. وقف الكاهن القديس يقول للشعب: "إن أسقفكم انطلق مثل شابٍ شجاعٍ كأن له جناحين... أنا متأكد من أن مجرد ظهور الأسقف أمام الإمبراطور التقي، سيهدئ ثورة غضبه علينا، لأن النعمة الإلهية تشع ليس فقط من كلام القديس، بل في وجهه أيضًا".

بروح الشجاعة قال الأسقف للإمبراطور: "إن تاجك يا سيد روما والعالم هو رائع. وهو دليل استحقاقك، ولكنه يرمز إلى جود الذي نقله إليك. أما تاج إنسانيتك فيرجع الفضل فيه إلى حكمتك فقط. يُعجب الناس بالحجارة الكريمة اللامعة التي على جبينك، فكم يكون بالأكثر إعجابهم بالنصرة التي تحرزها على قلبك!" لقد أكّد له أنه إن عفا عن الأنطاكيين سينال مجدًا عظيمًا لا يمحوه مرور الأجيال، كما قال له: "ستنضم جماهير غفيرة إلى الدين المسيحي، إذ يقولون: انظروا إلى الديانة المسيحية، لقد أطفأت غضب إنسانٍ ليس له في العالم معادل".

بلغ البطريرك أو أسقف إنطاكية القسطنطينية، فأسرع إلى البلاط الملكي بالرغم من شدة تعبه , والتقى الإمبراطور ليقول له: "إني لست رسولاً لشعب إنطاكية بل أيضًا سفير الله. جئت إليك باسمه أنبئك: إن غفرت للناس سيئاتهم وهفواتهم، يغفر لك أبوك السماوي سيئاتك وزلاتك... أذكر ذلك اليوم الرهيب حين نلتزم جميعًا بتقديم حساب عن أعمالنا... يمثل كل السفراء بين يديك ببهاء الذهب وكثرة الهدايا ووفرة المال, أما أنا فلا أقدم لك غير شريعة يسوع المسيح المقدسة, والمثال الذي أعطانا إياه على الصليب لكي نستحق غفران خطايانا..."

امتلأ قلب الإمبراطور من مخافة الرب عند سماعه هذا الخطاب، فقال: "إن كان ربنا وسيدنا يسوع المسيح قد صار لأجلنا عبدًا، وأسلم ذاته للصليب، وإن كان قد سأل أباه المغفرة لصالبيه, فكيف أتجاسر مترددًا في المغفرة لأعدائي؟"

يرى القديس جيروم أن هذه الفضائل الأربع التي يقدمها لنا الله هي الخيول التي تقود المركبة التي ترتفع بنا إلى السماء.

v     لتكن هذه الأربعة هي أركان أفقك، ولتكن الأربعة خيول التي تعمل معًا لكي تحملك، مركبة المسيح الذي تجري بأقصى سرعتها لتبلغ بك إلى الهدف. ليس من قلادة يمكن أن تكون أثمن من هذه، ولا جوهرة أكثر بهاء من هذه المجرة من الكواكب. إنها هي زينتك، تطوِّقك فتحميك من كل جانبٍ. إنها خط الدفاع لك ومجدك، فإن كل جوهرة منها تتحول إلى ترس![345]

القديس جيروم

في رسالة بعث بها القديس جيروم إلى السناتور باماخيوس ذكر أن أسرة المرسل إليه يتمتعون بهذه السمات الأربع، لكن مع تمتع كل عضو بالسمات كلها، إلا أن لكل واحد سمه خاصة متفوق فيها، إذ كتب له: [كل منكم يقتني الأربع (فضائل)، لكن لكل واحد (فضيلة) مميزة. أنت تتميز بالتعقل، ووالدتك بالبرّ، وأختك البتول بالجلد (الصبر)، وزوجتك بالقناعة. أتحدث عنك كحكيم، لأنه من يمكنه أن يكون أحكم من ذاك الذي يحتقر غباوة العالم ويتبع المسيح قوة الله وحكمة الله (1 كو 1: 24)؟][346]

وإذا كان أحد يرغب في خبرة واسعة،

فهي تعرف الماضي وتتكهن بالمستقبل،

وتحسن صَوغَ الحِكمِ وحل الألغاز،

وتَعلَمُ بالآيات والخوارق قبل حدوثها،

وبتعاقبِ الأوقات والأزمنة. [8]

التمتع بالسيد المسيح يرفع الإنسان إلى ما فوق الطبيعة، فيحمله إلى الماضي لا كزمن قد عبر وانتهت وإنما إلى حياة وخبرة حيث يلتمس في ماضيه نعم الله الفائقة له، فتتهلل نفسه. وينعم بالحاضر كمن في عرسٍ، في اتحاد مع العريس السماوي، أما عن المستقبل فليس بمجهولٍ بالنسبة له، لأنه يرى مسيحه يُعد له أمجادًا أبدية فائقة. بمعنى آخر، يرى في الماضي حياة متهللة بالرب وفي المستقبل سماوات مفتوحة.

بمعنى آخر يضيف السيد المسيح إلى عمر الإنسان حياة فائقة، فيصير اليوم بالنسبة له كألف سنة، ويحسب كل لحظة من لحظات عمره لها تقريرها الخاص، إذ يضيف إلى حياته الزمنية الفانية حياة السيد المسيح الأبدي.

بجوار هذه العطايا الفائقة يهبه حكمة الله عقلاً مقدسًا، فلا تكون في حياته الغاز غامضة، إنما تصير حياته طريقًا مستقيمًا واضحًا يعبر به إلى أحضان الآب.

في محبة الحكمة الإلهي لنا لا يخفي عنا شيئًا مادام لنفعنا وبنياننا، فندرك أسرارًا فائقة، تنبع عن سرّ حب الله لنا.

في اختصار يقدم لنا حكمة الله إمكانيات جبارة لنعبر وادي الدموع ونحن في أحضانه نستعذب صليبه ونختبر قوة قيامته، وننعم بالسماويات، كأن قلبنا قد صعد معه وأبى أن يفارقه.

5. عروس واهبة المجد على الأرض وفي السماء

لذلك عزمتُ أن اَتخذَها قرينة لحياتي،

عالمًا بأنها تكون لي مشيرةً للخير،

ومشددة في الهموم والحزن. [9]

يقول سليمان الحكيم: "الحكمة صالحة مثل الميراث، بل أفضل لناظري الشمس" (جا 7: 11). وأيضًا: "إذا دخلت الحكمة قلبك ولذت المعرفة لنفسك، فالعقل يحفظك والفهم ينصرك" (أم 2: 10-11).

سبق أن تحدث عن سعيه ليتخذ الحكمة عروسًا له، يعشق جمالها الروحي، ويتهلل باتحاده معها (8: 2)، الآن يتحدث عنها بكونها قرينة لحياته، تحتل مركز القيادة في داخله، فتشير عليه بالخير، وتسنده وتشدده وسط الضيقات والأحزان.

يقول الحكيم: "ويل لمن هو وحده، إن وقع ليس ثانٍ ليقيمه" (جا 4: 10)، فماذا إن كان هذا الثاني هو السيد المسيح، حكمة الله، الساكن في داخله، قادر على الإقامة حتى من الموت، وأن يهب الخلود حتى إن فسد الجسد!

فيكون لي بها مجدٌ عند الجموع،

وكرامة لدى الشيوخ مع صغرِ سني. [10]

طلب أحشويرش من وشتيَ الملكة الجميلة لتحضر في حفل ماجن، ليفتخر بجمالها. أما المؤمن فيفتخر بالجمال الحقيقي، حكمة الله، الأبرع جمالاً من بني البشر. سرّ مجد المؤمن وكرامته وقدرته هو حكمة الله التي تدير كل حياته الداخلية.

قيل عن ملك يوناني إنه قال ذات يوم: هذا الطفل يحكم العالم. وإذ دُهش الحاضرون، سألوه: كيف هذا؟ أجاب الملك: "اليونان تحكم العالم، وأثينا تحكم اليونان، وأنا أحكم أثينا، وزوجتي تحكمني، وهذا الطفل يحكم زوجتي!" هكذا يشير الملك إلى القوة الخفية للأسرة كيف يكون لطفل كهذا أثرةً على العالم[347].

إن كان طفل كهذا يحكم العالم، كم يكون عمل السيد المسيح الذي نتحدث به، وقادر أن يوجه كل حياتنا!

بتسليم عجلة القيادة للحكمة يدخل إلى حياة مجيدة وسط الجموع، فلا تقدر الظروف أيا كانت أن تفسد مجده الداخلي أو تنزع عنه كرامته. يحمل سمات الشيوخ الحكماء بالرغم من صغر سنه.

ويجدونني ثاقب الفكر في إجراء الحكم،

ويعجبون بي أمام العظماء. [11]

عرف سليمان الحكيم بقدرته على الفصل في القضايا بحكمة نادرة.

قيل عن المرأة الفاضلة إن زوجها معروف في الأبواب حين يجلس بين مشايخ الأرض (أم 31: 23) يحكم في القضايا.

هكذا من يتحد بالسيد المسيح واهب الفضيلة يتمتع بالقدرة على الجلوس بين الشيوخ ليصدر الأحكام خلال نعمة عريسه السماوي. ويقول ابن سيراخ: "كثيرون يثنون على فهمه، فهو لا يُمحى للأبد. ذكره لا يزول، واسمه يحيا من جيلٍ إلى جيلٍ. أمم تتحدث بحكمته، والجماعة تشيد بمجده. إن طال عمره خلَّف اسمًا أكثر من ألف، وإن دخل إلى الراحة اكتفى بذلك" (سي 39: 9- 11).

وإذا صمتُّ ينتظرونني،

وإذ تكلمت يُصغون،

وإذا أفضت في الكلام،

يضعون أياديهم على أفواههم. [12]

متى تمتع المؤمن بالاتحاد مع حكمة الله، يتحول صمته كما كلماته للبنيان. إن صمت الحكيم، ففي صمته حديث بليغ تفهمه قلوب الحاضرين وعقولهم. لا يملون من صمته، بل يجدون في صمته بركات تحل عليهم، وفي نفس الوقت يترقبون كلماته كأنها جواهر ثمينة تستحق كل اعتزازٍ وتقديرٍ.

يقول الحكيم: "كلمات فم الإنسان مياه عميقة، نبع الحكمة نهر مندفق" (أم 18: 4). إن تكلم الحكيم يصغون إليه، لأن المتكلم هو الرب العامل فيه، ومهما أفاض في الكلام يطلبون المزيد. يضعون أياديهم على أفواههم إشارة إلى صمتهم في وقارٍ وتقديرٍ للمتكلم (أي 29: 9). إنهم لا ينطقون ليس خوفًا منه، ولا لأنه يرفض الحوار، وإنما لكي يستغلوا كل لحظة من اللحظات كي يتكلم هو.

وأنال بها الخلود،

وأُخلِّف عند الذين بعدي ذِكْرًا مُؤبَّدًا. [13]

سبق أن أعلن الحكيم أن البرّ خالد، فمن يقتني الحكمة يقتني البرّ، ومن يقتني البرّ يعيش مع القدوس إلى الأبد. حتى قبل حلول يوم الدينونة تبقى سيرة الحكماء ذكرًا عبر الأجيال ينتفع الكثيرون منها.

v     من يجسر ويرفض أن يعرف (السيد المسيح) أنه خالد، إن كان هو نفسه يجعل الآخرين خالدين. فقد كُتب عن حكمة الله "بها أنال بعدم الموت" (راجع حك 8: 13). لكن خلوده حسب طبيعته شيء، وخلودنا نحن شيء آخر. ليس من مقارنة بين ما قابل للهلاك والإلهيات.

اللاهوت وحده الجوهر الذي لا يقدر الموت أن يمسه. ولهذا فإن الرسول مع معرفته بان النفس البشرية والملائكة خالدين يعلن أن الله وحده له الخلود (1 تي 6: 17)[348].

القديس أمبروسيوس

أحكم الشعوب، وتخضع لي الأمم. [14]

سبق أن أعلن الحكيم أن الله خلق الإنسان ليسوس العالم بالقداسة والبرّ. بالحكمة يحكم المؤمن الشعوب وتخضع له الأمم، ليس خلال سلطان مدني أو عسكري، وإنما خلال سلطان الروح، إذ يشتهي الكثيرون الاقتداء به، فتصير سيرته وحياته دستورًا لهم.

بالحكمة تخضع كل طاقات الإنسان وقدراته وتعمل معًا بتناغم عجيب، فيعيش المؤمن كملكِ صاحب سلطان على أعماقه من عواطفٍ وأفكارٍ وأحاسيسٍ.

يسمع بي ملوك مرهوبون فيخافون،

وأظهر في الجمع صالحًا،

وفي الحرب شُجاعًا. [15]

تسكب علينا الحكمة نوعًا من المهابة، فيخشى الملوك والعظماء الإنسان البار الحكيم، لأنه رجل الله.

يتسم الحكيم بالوداعة فتحبه الجموع، ومع الوداعة أيضًا يتسم بالشجاعة والصبر فلا يخشى مقاومة الآخرين له، بل يقول "إن قام عليّ جيش فلا أخاف شرًا".

وإذا دخلت بيتي استرحت إلى جانبها،

لأن ليس في معاشرتها مرارة،

ولا في الحياة معها أي ألم،

بل سرور وفرح. [16]

حلول السيد المسيح في الأسرة يكسب عليها بهجة وسرور. كل عضو يتعامل مع بقيه الأعضاء في المسيح يسوع، ويتنافس الكل في البذل والعطاء، لا في الأخذ والسيطرة. تتحول الأسرة إلى كنيسة مقدسة مملوءة سلامًا وتهليلاً.

6. الحكمة عروس خالدة

وبعد أن فكرت في نفسي بهذه الأمور،

واعتبرتُ في قلبي أن في قربي الحكمة خُلودًا. [17]

فكر سليمان في نفسه أن نُبل مولده كابن لداود الملك ليس ما يهيئه لنوال الحكمة، إنما هي عطية إلهية، تحتاج إلى الاقتراب من الله بالصلاة وسؤاله لنوالها. وبنواله للحكمة لا يعود يشغله شيء إلا من خلال تمتعه بالأبدية (الخلود).

باقترابنا إلى السيد المسيح، ودخولنا في شركة معه يرتفع قلبنا إلى السماء، ونختبر عربونها. نقول مع الرسول بولس: "أجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 6).

"القلب" عند اليهود يشير إلى عرش الفكر والتعقل كما سبق فأشرنا، بينما اليونانيين يستخدمون تعبير "العقل Nous" للتعبير عن الفكر والتعقل.

وفي صداقتها لذة طاهرة،

وفي أتعاب يديها غنى لا يفنى،

وفي خبرة مُعاشرتها فطنة،

وفي التحدث إليها سُمعةً طيبة،

أخذت أطوف طالبًا كيف اَتخذها لنفسي. [18]

إذ تلتصق النفس بالسيد المسيح، يدخل الإنسان معه في صداقة لذيذة سامية. لن يعاني من الشعور بالعزلة، حتى إن تركه الجميع. وكأنه يقول مع مخلصه: "تتركوني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي".

التصاقنا به يحثنا على العمل والجهاد، ونحسب كل تعب هو غنى ومجد، لأننا نعمل معه وبه ولأجله. فتحمل آلامنا مسحة عذوبة داخلية.

التصاقنا به يسكب علينا فطنة، فمع السلوك ببساطة القلب كالأطفال الصغار نحمل حكمة الشيوخ، أو كما يقول السيد المسيح: "كونوا بسطاء كالحمام وحكماء كالحيات" فترتبط البساطة بالحكمة والتعقل.

التصاقنا به يدفعنا إلى التواضع، لأنه تواضع من أجلنا، وفي تواضعه رفعنا وسكب علينا كرامة فائقة.

أمام كل هذه العطايا من تمتع بالسماويات والصداقة اللذيذة والعذوبة وسط الجهاد، والحكمة والتعقل مع البساطة، وسكب مجد داخلي وكرامة وسُمعة طيبة حتى بين السمائيين، من لا يطوف يطلب الالتصاق به؟ لهذا تقول النفس البشرية عن عريسها السماوي، حكمة الله: "وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي، وحجرة من حبلت بي" (نش 3: 4).

كنت كطفلٍ حسَنَ الطباع،

ورُزقت نفسًا صالحة، [19]

يعود الكاتب إلى حالة الإنسان الأولى عند خلقته، فقد خلق الله الإنسان كائنًا صالحًا، "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 1: 27).

هنا أيضًا يود الكاتب أن يؤكد أن الجسد في ذاته صالح وغير دنس، إذ ظهرت عبر القرن فلسفات كثيرة تنسب للجسم الفساد بطبعه. لذلك كثيرًا ما يؤكد آباء الكنيسة أن فساد الإنسان نابع عن فساد إرادته وليس عن طبيعة الجسم.

بل كنت بالأحرى صالحًا،

فأتيت في جسدٍ غير مُدنس. [20]

لا يعني الكاتب هنا أن للنفس البشرية وجودًا مسبقًا، ولأنها صالحة نالت جسدًا غير دنسٍ، وإنما تفهمها من خلال السفر ككل إنه يود تأكيد دور النفس القيادي حتى على الجسد. لم يكن موضوع الخطية الأصلية في ذهن الكاتب نهائيًا[349].

يرى العلامة أوريجينوس أن المتحدث هنا يسوع المسيح الذي وحده كان في أحشاء أمه بجسد ليس من زرع بشر، ولم يحمل فساد آدم فيه[350].

ولما علمت بأني لا أكون صاحب حكمة،

ما لم يهبها لي الله - وقد كان من الحكمة أن أَعلم ممن هذه النعمة –

صلَّيت إلى الرب وسألته،

وقلت من كل قلبي: [21]

تحدث الحكيم عن اشتياقه للحكمة فطلبها من الله، مدركًا أنه لن يستطيع التمتع بها ما لم تُوهب له من الله. ما تحدث به هنا ينطبق على كل فضيلة صادقة وحقيقية، لأن الفضيلة ليست إلا تمتعًا بالشركة مع البار القدوس.

هذا ما عبَّر عنه القديس أغسطينوس في اعترافاته حين تحدث عن العفة بذات الروح.

في مناجاة رائعة يتحدث القديس أغسطينوس إلى الله بيقين أنه مهما بدت وصاياه صعبة فهي في متناول يدنا، مادام الله يهبنا تنفيذها.

v     كل رجائي هو في مراحمك العظيمة الفائقة. لتعطني ما توصيني به، ولتوصِ كما تشاء. أنت تفرض علينا العفة. يقول أحدهم: "ولما علمت بأني لا أقدر أن أحصل عليها ما لم يهبها لي الله... فهذه هي الحكمة أن أعلم ممن هذه النعمة[351].

v     أنت تطلب الحكمة يا ابني، لكي تكون ثابتًا في هذا السباق، فقد دخلت فيه منذ البداية بتأثير الحكمة. ليكن نصيب من حكمتك هو أن تعرف ممن هذه النعمة (العطية). "سلّم للرب طريقك وأتكل عليه وهو يُجري، ويُخرج مثل النور برّك، وحقك مثل الظهيرة" (مز 37: 5- 6)[352].

v     أما عن العفة، فقد ظننت أنها في قدرتي (مع أنني لم أجد فيّ هذه القدرة). لقد كنت غبيًا، إذ لم أكن أعرف المكتوب: "لا يقدر أحد أن يكون عفيفًا ما لم تعطه إياها"، وأنك أنت تريد أن تعطيها لي إن كنت أقرع بتنهداتي الداخلية على باب آذانك، وبالإيمان المستقيم أركز اهتمامي عليك[353].

v     بلا شك قيمة عطية العفة كانت معروفه لدى القائل: "علمت أنه لا يكون أحد عفيفًا ما لم يهبه الله (هذه) العطية". إذن ليس فقط عرف عظمة نفع العفة، وكيف يلزم التوق إليها وأن تكون موضع اشتياق، وإنما ما لم يهبها الله لا يمكن أن يكون لها وجود. فقد علمته الحكمة هذا[354].

v     يقول: "ولما علمت بأنه لا يكون أحد عفيفًا ما لم يهبه الله (العفة)، وهذه هي من الحكمة، ليعلم ممن هذه العطية (النعمة) (حك 8: 21). هاتان العطيتان – الحكمة والعفة - عظيمتان. حقًا بالحكمة تتشكل حسب معرفة الله، وبالعفة لا نتشكل حسب هذا العالم[355].

v     عندما يأمرنا، قائلاً: "لا تسيروا وراء شهواتكم" (سي 18: 30)، فقول له: "نحن نعلم أنه لا يقدر أن يكون إنسان عفيفًا ما لم يهبها له الله" (راجع حك 8: 21)؛ ماذا نقول سوى: اَعطنا ما أمرت به"[356].

v     لا يستطيع أحد أن يكون عفيفًا ما لم يمنحه الله هذه العطية، ولا تنسكب محبة الله في قلوبنا من ذواتنا، بل بالروح القدس المُعطى لنا (رو 5:5)[357].

v     الحكمة والعفة هما عطيتا الله، أي ليست من آخرين[358].

v     بالتأكيد ما كان يمكن أن تُعطى مثل هذه الوصايا لو لم يكن للإنسان حرية الإرادة، بها يُطيع الوصايا الإلهية، فهي لازمة لحفظ وصايا العفة. لهذا قيل في سفر الحكمة: "علمت بأنه لا يمكن لأحدٍ أن يكون عفيفًا ما لم يهبها له الله – وقد كان من الحكمة أن يعلم ممن هذه النعمة" (راجع حك 8: 21)[359].

v     إن كان حتى في الجسد، أقل عنصر في طبيعتها، كل الأمور السامية، مثل الجمال والحيوية والصحة وهكذا، هي من عمل الله، كم بالأكثر تكون الأمور السامية الخاصة بالنفس[360].

v     أنه لأمر عظيم جدًا أن نهدف إلى الحديث عن ما يهبه (الله)، ففي المركز الأول نقول ونؤكد أن العفة هي عطية من الله (حك 8: 21). مكتوب في سفر الحكمة أنه لا يستطيع أحد أن يكون عفيفًا ما لم يمنحه الله هذا[361].

القديس أغسطينوس


 

من وحي الحكمة 8

لتقترن نفسي بك،

يا أيها الحكمة الإلهي!

v     أنت خالق الكل، وبدونك لم يكن شيء مما كان.

أنت مالئ الكل، وبكليتك تُوجد في كل مكان.

عيناك ترعيان كل البشرية يا محب الجميع.

من يدبر شئون الكون غيرك يا ضابط الكل القدير!

 

v     وأنت مالئ المسكونة بلاهوتك،

طأطأت السماوات ونزلت إلينا.

تجسدت وصرت في عالمنا، يا من لم تفارق العالم قط!

حبك أنزلك إلينا كإنسان لتجتذبنا.

 

v     لأقترن بك يا أيها الحكمة الإلهي!

من يشبع قلبي غيرك، يا أيها الجمال الفائق!

من يروي نفسي سواك يا أيها المحب!

 

v     أتحد بك، فأنت ابن الآب الوحيد.

وهبتني روح البنوة، فاعتز بالحياة معك.

سكبت بهاءك على أعماقي،

لكن في غباوتي أعود إلى الوحل والتراب!

ردني إليك، فانعم بالشركة معك!

 

v     بماذا أدعوك يا شهوة قلبي!

أنت كنزي الأبدي، أية كنوز في العالم تُقارن بك؟

أنت غناي الحقيقي، افتقرت فأغنيتني!

أنت قوتي، تعمل فيّ وبي بغنى نعمتك!

أنت هو الفنان الأعظم، أقتنيك، فأدرك أمورًا تفوق عقلي!

أنت البرّ ذاته، لأتحد بك، فأستتر أمام الآب، وبك أتبرر.

أية فضيلة تشتهيها نفسي، سوى أن تنعم بك.

بك أتمتع بالعفة، لأنك تشبعني، فلا اشتهي شيئًا سواك!

بك أتمتع بالفطنة، فتقود بنفسك حياتي وتديرها.

بك أنعم بالبرّ الذي لا وجود له بدونك.

بك اقتني الصبر والشجاعة وطول الأناة!

أنت الكل لي!

 

v     بك أتطلع إلى الماضي، فالمس عملك لخلاصي!

بك أعيش في الحاضر، كما في عربون السماء!

بك أتطلع إلى المستقبل، فأراك تنتظرني،

لتدخل بي إلى حضن أبيك.

حولت كل حياتي إلى عرسٍ لا ينقطع!

الماضي مفرح، والحاضر ثمين، والمستقبل مملوء تهليلاً!

 

v     أتطلع حولي، فالمس عمل يديك من أجلي.

من أجلي خلقت المسكونة.

من أجلي وضعت قوانين الطبيعة،

ولأجلي لا تمتنع عن كسر ناموسها مادام لبنيان نفسي.

أنت بالحق إله العجائب والمعجزات!

أنت إله المستحيلات،

إني اعتز بالتصاقي بك واتحادي معك!

 

v     لي شكوى لا أعرف لمن أقدمها،

فإنه ليس من يقدر أن يهبني الراحة سواك.

اشتكي لك لساني، إن تكلم وإن صمت!

من يروض لساني غيرك؟!

من يقدس صمتي إلا أنت؟!

 

v     قدسني، فأعمل بك.

تستريح نفسي وسط الطريق الضيق.

تحول لي مرارة الصليب إلى بهجة القيامة.

تحملني من القبر الذي نحّته لنفسي،

وترفعني إلى الخلود وعدم الفساد!

 

v     اختم حديثي معترفًا لك.

بدونك لن اقتني الحكمة.

بدونك لا وجود للعفة في حياتي.

بدونك ليس لي حياة.

 

<<


 

الأصحاح التاسع

هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك

في ختام القسم الثاني من السفر يقدم لنا الحكيم صلاته التي رفعها لله لأجل طلب الحكمة. وفي عرضه للصلاة يكشف لنا عن نظرة الله للإنسان، وحاجة الإنسان إلى الحكمة الإلهية. فقد خلق الله الإنسان ليسود على الخليقة الأرضية، ولا يستطيع أن يمارس هذا العمل كما يليق دون التمتع بالحكمة الإلهية. هنا يعترف سليمان بتكريم الله للإنسان ليكون سيدًا يسوس العالم، وفى نفس الوقت يعترف بعجزه الكامل بدون الحكمة الجالسة مع الآب في عرشه. بدون الحكمة يصير الإنسان كلا شيء. أما الأمر الثاني فهو أن لسليمان كما لكل إنسانٍ رسالة خاصة تسلمها من الله. فرسالة سليمان هي أن يبني لله هيكلاً في جبل قدسه، ومذبحًا في المدينة المقدسة، مع رعايته للشعب. فهو محتاج على وجه الخصوص إلى الحكمة السماوية لتكشف له عن خطة الله وتعلمه ما يسره.

امتاز سليمان الحكيم بشعوره بالالتزام، فلم يكن دوره كملكٍ استلم المملكة وهو صبي، وقد أعد له داود الملك كل الإمكانيات لبناء هيكل الله في المدينة المقدسة نابعًا عن رغبة في نوال كرامة زمنية أو مجدٍ بشري. ما كان يشغله كرجل إيمان أن يحقق الرسالة التي عهد الله له بها بكل أمانة. لقد أدرك هذا الحكيم حاجته إلى "الحكمة الجالسة إلى العرش" لتهيئته لتحقيق الغاية التي من أجلها خلقه الله.

1. الله يقيم الإنسان سيدًا1-3.

2. الحاجة إلى الحكمة الإلهية4-6.

3. لكل إنسانٍ رسالة7-8.

4. صرخة ثانية لطلب الحكمة 9-16.

5. صرخة ثالثة17-19.

1. الله يقيم الإنسان سيدًا

"يا إله آبائي، ويا رب الرحمة،

يا صانع كل شيء بكلمتك. [1]

يوجه سليمان في بداية حكمه وجهه نحو الله ليطلب منه التمتع بالحكمة. هنا يدعو الله بالألقاب التالية:

أ. إله الآباء

يقصد بالآباء البطاركة إبراهيم واسحق ويعقوب، ولعله كان في ذهنه أيضًا نوح وموسى النبي ويشوع بن نون وبعض القضاة وداود الملك وغيرهم. جميعهم قادة عظماء، لكل منهم شخصيته المتمايزة، لكن كل واحدٍ يكمل الآخرين، فالله هو القائد الأعظم للقادة.

يدعو القادة آباء، وينسب الله نفسه للآباء: "إله الآباء". فالقيادة في ذهن سليمان الحكيم ليست إلاَّ أبوة وحنوُا وترفقًا بالغير، فيصير الكل بالنسبة له كمن في موضع الأبناء. يمارس القيادة لا من موقع السلطة حيث الأوامر والنواهي، وإنما من موقع الأبوة!

إن كان خالق السماء والأرض يقدم نفسه لخليقته كإله للآباء، كم بالأكثر يليق بالقادة المدنيين والدينيين أن يفتحوا قلوبهم للآخرين بنوعٍ من الأبوةٍ.

القيادة ليست مجرَّد مركز كنسي أو إدارة لأعمال معيَّنة أو مجرَّد طقوس وواجبات تنفَّذ كيفما كان، لكنَّها أولاً وقبل كل شيء هي أبوَّة، ينال الخادم هبة من الرب الذي دعاه.

والله في تقديمه الأبوَّة لأولاده الخدَّام، يقدِّم لهم جوهرها وعمادها – الحب – الذي بدونه لا يمكن أن نتذوَّق حقيقة الأبوَّة أو نشعر بوجودها. إنه يدرِّب أولاده أيضًا وينمِّيهم في مدرسة الحب منذ الطفولة، لكي يكونوا مشابهين لله، فلا يكونوا آباء جافِّين، يغيظون أولادهم ويهلكونهم. لهذا نقول أن المدرسة الوحيدة التي يتخرَّج منها خدَّام الله الحقيقيُّون في العهد القديم والجديد - والتي لا تزال وستبقى هكذا حتى يتخرَّج فيها رجال الله الأمناء - هي مدرسة الحب المسيحي.

v     أيها المعلِّم شفيع الأسرار الإلهيَّة تكلَّم بالحب.

الذي يعلِّم ولا يحب يرتدع بالسكوت، لأنَّه باطلاً يتعب بتصنيف الكلام غير المربح.

الماهر العظيم إن شاء أن يربح سامعيه فليحب كثيرًا ويتكلَّم قليلاً مع تلاميذه.

مار يعقوب السروجي

v     أعلِّم أن الرجل المتقدِّم على الجماعة والمتسلِّط عليهم، لا يؤيِّده ويفخِّمه مثل إظهاره الحب العميق لمرؤوسيه.

فالأب لا يكون أبًا لمجرَّد ولادته للبنين بل لحبُّه إيَّاهم، هكذا إن كانت الطبيعة تقتضي ضرورة هذه المحبَّة، فكم بالأكثر البنوَّة التي بالنعمة؟! أعني إن كان يلزم على الشخص أن يحب أولاده الطبيعيِّين، حتى يُدعى أبًا طبيعيًا فكم بالأكثر يحب أولاده بحسب النعمة، الروحيِّين المتعمِّدين، لئلاَّ يصيروا في جهنَّم معاقبين.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     مجيئه (المسيح) قد سكب على البشرية عطية عظمى للنعمة الأبوية[362].

القديس إيريناؤس

v     يا لعظمة حب الله للبشر! فقد منح الذين ابتعدوا عنه وسقطوا في هاوية الرذائل غفران الخطايا ونصيبًا وافرًا من النعمة، حتى أنهم يدعونه أبًا، قائلين: "أبانا الذي في السماوات". السماوات هي هؤلاء الذين يحملون صورة العالم السماوي، والذي يسكن الله فيهم ويقيم[363].

القديس كيرلس الأورشليمي

ب. رب الرحمة

مادام سليمان يتحدث مع الله طالبًا منه الحكمة التي تهبه روح الأبوة نحو شعبه، بل ونحو كل بشر، فإنه يدعو الله "رب الرحمة". إذ لا يستطيع الإنسان أن ينعم بروح الحنو واللطف والترفق بالغير ما لم يهبه الله الرحوم هذه العطية.

فالرحمة في جوهرها ليست عاطفة مؤقتة نحو إنسانٍ متألمٍ أو محتاجٍ، وإنما هي شركة في سمه خاصة بالله "الحب" الحقيقي، واهب الرحمة كسمة داخلية في النفس، فيرحم الإنسان حتى الذين يقاومونه، كما يرحم الحيوانات، ويترفق بكل شيءٍ.

v     "طوبى للرحماء لأنهم يرحمون"... أعطى للرحماء رحمة لأنهم يقبلون مشورة حقيقية رائعة، فيعاملهم الأعظم منهم (الله) بنفس المعاملة التي يعاملون بها من هم أقل منهم "طوبى للرحماء لأنهم يرحمون"[364].

القديس أغسطينوس

v     لنكن رحومين، كما هو مكتوب لكي يكون الله رحيمًا بنا (مت 5: 7)[365].

v     قاد موسى قطيع يثرون حميه، وأُختير من رعاية الغنم إلي رعاية شعبه، وكراعٍ صالحٍ قادهم. حمل موسى عصاه على كتفه، وتقدم شعبه الذي يقوده، ورعاهم أربعين عامًا، وكان ساهرًا يتعب من أجل قطيعه، كان راعيًا صالحًا. عندما أراد ربه أن يهلكهم بسبب خطاياهم، إذ عبدوا العجل، صلى موسى لأجلهم وطلب من ربه قائلاً: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). هذا هو الراعي الساهر للغاية، يسلم نفسه لحساب قطيعه. هذا هو القائد الممتاز الذي يبذل ذاته من أجل قطيعه. هذا هو الأب الرحوم الذي يحتضن بنيه ويربيهم[366].

القديس أفراهاط الحكيم الفارسي

ج. خالق الكل بكلمته:

يوجه سليمان صلاته إلى الله خالق الكل بكلمته أو حكمته. لا يكفي أن يكون القائد أبًا رحومًا، وإنما يلزم أن يقتدي بالله الخالق الذي أوجد كل الأشياء بكلمته الذي هو حكمة الله. فيكون القائد عاقلاً وحكيمًا.

إذ يسيء البعض حتى بالنسبة لأبنائهم حيث يقدمون الحنو والعاطفة المتأججة بغير تعقل وفي غير تمييز وحكمة. لذا يحدثنا الأب غريغوريوس (الكبير) عن الرعاية أو القيادة أنها فن.

v     يكون دواءً حقيقيًا عندما نعالج مرضًا كائنا في الجسد وفي نفس الوقت نداوي حاجات البدن السائدة. إن كان دواءُ البدن يمكن تركيبه ووصفه ليخدم غايات متباينة، أليس حريًا بدواء الروح الذي يأتي في طيات التعليم الواحد والذي هو فن الفنون الرفيعة الذي يعالج الأمور التي لا ترى أن يقهر الشرور الأخلاقية المتنوعة؟[367]

v     العلاج في غير الوقت المناسب يجعل الجروح أكثر إيلامًا. وإذا كانت الأدوية غير مناسبة فمن المؤكد أنها لا تصلح لغرض الشفاء[368].

v     ينبغي على راعى النفوس أن يميز بحكمة وعناية ما بين الفضائل والرذائل، لئلا يتمكن البخل من قلبه، وهو يبالغ في الظهور بمظهر المدبر، أو يفخر بكرمه كما لو كان فضيلة وهو في الحقيقة مبذر ومتلف. أو يتغاضى عما يجب أن ينتقده بشدة، فيجلب على رعيته العقاب الأبدي، أو يعاقب الأخطاء بدون رحمة، فيخطئ بذلك خطأ أكبر، أو عندما يفسد ما كان يمكن أن يفعله بوقار واستقامة بتوقعاته المتعجلة والطائشة. كذلك فإن تأجيل عمل صالح قد يحوله إلى عملٍ شريرٍ[369].

الأب غريغوريوس (الكبير)

ومكوِّن الإنسان بحكمتك،

لكي يسود الخلائق التي صنَعتَها. [2]

د. القائد الإلهي الذي يقيم قادة لا عبيدًا

يقف الحكيم في دهشة أمام حكمة الخالق التي تتجلى ليس فقط في خلقة الإنسان بهذا الإبداع الفائق، ولا باهتمامه به حيث خلق العالم من أجله، لكن ما هو أعظم الحكمة التي وهبه إياها ليسود الخليقة الأرضية. من العجيب أن يهب الخالق الإنسان هذا السلطان، ويقدم له الحكمة، ليقيم منه قائدًا يسود على العالم. إذ قال الله لآدم موصيًا إياه وزوجته ونسلهما من بعدهما: "تسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض، وكل شجرٍ فيه ثمر شجرٍ يبذر بذورًا" (تك 1: 29).

ويسوسَ العالم بالقداسة والبرّ،

ويجري الحكم باستقامة النفْس. [3]

هـ القدوس البار يقيم قديسين أبرارًا يحكمون بالعدل لا بالظلم

إن كان الله بحكمته كون الإنسان حكيمًا يعرف كيف يسود على الخليقة، فإنه إذ هو القدوس البار الذي بلا خطية وهب الإنسان أن يكون مقدسًا وبارًا حتى يسود العالم بالقداسة والبرّ، ويحكم في كل الأمور باستقامة نفسٍ أو استقامة قلبٍ.

أقام الله الإنسان ليكون بالحق أيقونة للقدوس البار، ويصير هو نفسه هيكلاً للقدوس بلا عيب، يسكنه الله. بل ويشتهي أن يرى كل إخوته وأخواته مقدسين وأبرارًا، فيرى كل واحدٍ وواحدة في الجميع صورة الله الباهرة.

بهذا ليس ما يشغل  قلب المؤمن الحقيقي مثل أن يكون مقدسًا وبارًا في الرب، وأن يرى كل البشرية قد صارت مقدسة وبارة بلا لوم أمام الله.

2. الحاجة إلى الحكمة الإلهية

هب لي الحكمة الجالسة معك إلى عرشك،

ولا تنبذني من بين أبنائك. [4] 

تطلع الحكيم إلى الله واهب الحكمة فرآه:

·        أب الآباء، واهب الأبوة الصادقة.

·        رب الرحمة، واهب الحنو واللطف.

·        الخالق بكلمته، وحكمته واهب الحكمة والتميز.

·        القائد الإلهي، يقيم قادة لا عبيدًا.

·        القدوس، المقيم قديسين شهودًا له، يحكمون بالبرّ والقداسة.

هذا من جانب الله، فما هو دور الإنسان ليتمتع بحكمة الله؟

هنا يقف سليمان ليرى حكمة الله، الأقنوم الثاني الجالس على العرش، فمن يقدر أن يبلغ إليه. ليس من طريقٍ للعبور إليه، بل بتواضعه ينزل إلينا، وبروح التواضع نلتقي معه لنقتنيه.

هو جالس على العرش، لكنه ليس ببعيدٍ عنا، إذ يبادر بالحب العملي، يطأطئ السماوات وينزل، ليقف عند أبواب قلوبنا يطلب الدخول. لا يقتحم قلوبنا أو أفكارنا بغير إرادتنا، إنما ينتظر أن ندعوه! من جانبنا ندرك أنه بنزوله أقامنا أبناء له، وقد فتح لنا باب المعمودية ودفع الثمن بالصليب. علينا أن نسأله في رجاء ودالة ألا ينبذنا فإننا أبناؤه.

هو يقرع أبواب قلوبنا بحبه الفائق وتواضعه، ونحن نقرع أبوابه بالصلاة  بروح التواضع مع الرجاء والدالة!

إن كان الله قد خلق الإنسان ليسود على الخلائق ويسوس العالم بالقداسة والبرّ، فمن يقدر أن يهبه هذه الإمكانيات سوى الحكمة الجالسة على العرش الإلهي. فهي تقيم من الإنسان سيدًا حكيمًا وقادرًا على العمل بقدرةٍ وحكمة، في قداسةٍ وبرٍ. فمهما بلغ كمال الإنسان ومواهبه وقدراته وإمكانياته، بدون الحكمة الإلهية يُحسب الإنسان كلا شيء.

v     يلزم أن تُطلب من الله وحده الحكمة وليس من الفلاسفة أو المنجمين. الله يهب الحكمة كينبوعٍ لن تتوقف منه المياه، ويروي كل واحد يدخل به؛ أما حكمة الفلاسفة والوكالات البشرية الأخرى فلا تُعطى بسخاءٍ، وسرعان ما تجف[370].

هيلاري أسقف آرل

v     أي بركة لا يقتنيها ذاك الإنسان الذي يطلب هذه الحكمة ويتقبلها من الرب؟ هذه تعطيك فهمًا. أية نعمة هي هذه؛ فلو أن هذه الحكمة هي من عندنا لما كانت من فوق، ولما كنا نطلبها من الله الذي خلقنا[371].

القديس أغسطينوس

فإني أنا عبدك وابن أمتِك،

إنسان ضعيف قصير الحياة

قليل الإدراك للقضاء والشرائع. [5]

يعترف سليمان الملك أنه عبد للرب وابن أمته، ما يناله من الله إنما من قبيل نعمته المجانية ومحبته السخية، وليس عن استحقاق ذاتي. بروح التواضع يعلن الملك عجزه عن تحقيق رسالته التي ائتمنه الله عليها، فأيامه قصيرة وإدراكه قليل، ليست له معرفة ولا علم ولا خبرة، فهو في عوزٍ لنعمة الله واهبة الحكمة والإدراك والفهم.

v     الضعفاء في الجسد، والذين وهم حكماء في العالم يهجرون معرفتهم... يصيرون كأطفالٍ بمحض إرادتهم فيتعلمون الحكمة التي لا تقتنى بتعب الدراسة[372].

القديس مار اسحق السرياني

v     يمنح الله الحكمة لكي ما نفهمها كما يليق[373].

ثيؤدرت أسقف قورش

v     الذين يريدون أن يعودوا إلى رتبتهم الأولى، لن يمكنهم هذا إلا بالتواضع. لأن الكبرياء هو سبب السقوط في البداية من السماء. وهكذا فإن من ينقصه التواضع العميق من كل القلب والفكر والروح والجسد، لا يرث ملكوت الله[374].

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

فلو كان إنسان في بني البشر كامل،

ولم تكن معه الحكمة التي منك،

يحسب كلا شيء. [6]

أدرك سليمان أن الشعور بالاكتفاء الذاتي وعدم الجوع والعطش إلى الله يحرم الإنسان من كل عطية روحية إلهية، حتى وإن بدا في أعين البشر ناجحًا وصالحًا وكاملاً.

v     كل ما لدى الشخص خلال الخليقة الطبيعية، عندما يمارسها، ينال ما هو خلال نعمة الله. بهذا يكون لديه فيض ويصير في حالة أقوى فيما لديه. هذا ليس فقط بخصوص الحكمة، وإنما في كل أمرٍ صالحٍ يلزمنا أن نفكر مليًا في كلمات سليمان: "فلو كان في بني البشر أحد كامل، ولم تكن معه الحكمة التي منك فلا يُحسب شيئًا[375].

العلامة أوريجينوس

v     الإنسان الحكيم حسب مقاييس العالم هو بالحقيقة جاهل جدًا، لأنه لا ينزع عنه التعليم الفاسد. فإن التعليم القليل أمر خطير، إذ يجعل الذين يقتنونه غير راغبين في التعلم بالأكثر. غير المتعلمين مستعدون بالأكثر للتعلم؛ إنهم ليسوا هكذا جهلاء مثل الذين يظنون في أنفسهم أنهم حكماء[376].

القديس يوحنا الذهبي الفم

3. لكل إنسانٍ رسالة

قد اخترتني أنت لشعبك ملكًا،

ولأبنائك وبناتك قاضيًا. [7]

سليمان صلى ونال، لأنه مع إدراكه بإمكانات الله الفائقة، واحتياجه إلى التمتع بحكمة الله ونعمته، أدرك أيضًا أن له رسالة خاصة متميزة لن تتحقق بإمكانات بشرية، إنما بنعمة الله المستعدة للعمل. فبجانب الرسالة العامة التي يلتزم بها كل بشرٍ، لكل إنسانٍ رسالة خاصة، يليق به إن يتعرف عليها ليحققها حسب خطة الله ومسرته الإلهية. فسليمان أُقيم ملكًا على شعب الله لرسالة حسب خطة الله.

وأمرْتني أن أبني هيكلاً على جبل قُدسك،

ومذبحًا في مسكنك،

على مثال الخيمة المقدسة،

التي هيأتها مُنذ البدء. [8]

لم يكن ممكنًا لموسى النبي أن يقيم خيمة الشهادة حسب فكره البشري، إنما أقامها حسب المثال الذي أظهره له الرب في السماء، لكي تكون أيقونة السماء. فقد قيل: "الذين يخدمون شبه السماويات وظلها كما أوحي إلى موسى، وهو مزمع أن يصنع المسكن، لأنه قال: "أنظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل" (عب 8: 5).

والآن لم يكن في ذهن سليمان أن يبني الهيكل المقدس مطابقًا لخيمة الاجتماع، وإنما حسب الخيمة المقدسة التي هيأها الله منذ البدء، أي القائمة في السماء.

هذه هي رسالة كل مؤمن حقيقي أن يقيم بروح الله القدوس والحكمة الإلهية هيكلاً للرب على مثال السماء عينها. كما يقول الكتاب المقدس:

"أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟" (1 كو 3: 16).

"إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله، لأن هيكل الله مقـدس الذي أنتم هو" (1 كو 3: 17).

"أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم" (1 كو 6: 19).

"من يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج وأكتب عليه اسم الهي، واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد" (رؤ 3: 12).

"الجالس على العرش يحل فوقهم" (رؤ 7: 15).

v     كل من تقوده كلمة الله إلى الكفاح معًا في طريق التقوى، يكون حجرًا ثمينًا في هيكل الله العظيم الواحد. لذلك يقول بطرس الرسول: "كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارةٍ حيةٍ، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله، بيسوع المسيح" (1 بط 5:2). ويقول أيضًا بولس الرسول: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه، حجر الزاوية" (أف 20:2). كما يوجد ما يشبه ذلك بتلميحٍ خفي في تلك الفقرة من إشعياء التي يخاطب فيها أورشليم: "هأنذا أبني بالأثمد حجارتكِ، وبالياقوت الأزرق أؤسسكِ، وأجعل شُرَفَكِ ياقوتًا، وأبوابكِ حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة، وكل بنيك تلاميذ الرب، وسلام بنيكِ كثيرًا" (إش 11:54-14).

إذن يوجد بين الأبرار من هم أثمد، ومن هم ياقوت أزرق، وآخرون بهرمان، أو حجارة كريمة، أي فيهم كل الأنواع للاختيار

العلامة أوريجينوس

4. صرخة ثانية لطلب الحكمة

إن معك الحكمة العليمة بأعمالك،

والتي كانت حاضرة حين صنعت العالم،

 وهي عارفةٌ ما المرضيُّ في عينيك،

والمُستقيم بحسب وصاياك. [9]

يتطلع سليمان الحكيم إلى العرش الإلهي فيرى أقنوم الحكمة الإلهي الجالس عليه موضع سرور الآب ورضاه. وكأنه قد سبق فسمع صوت الآب السماوي أثناء عماد السيد المسيح كما أثناء تجليه: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 17؛ 17: 5؛ مر 1: 11؛ لو 3: 22؛ 2 بط 1: 17).

أدرك سليمان عجز الإنسان عن أن يكون موضع سرور الآب، بعد أن اختار برضاه العصيان، وفي كبرياء قبل مشورة إبليس عوض تصديق الوعود الإلهية.

لقد اشتاق سليمان أن يقتني الحكمة الإلهي، ويختفي فيه، فيصير به موضع سرور الآب، بل ويُسر سليمان نفسه بالله.

لقد عبرَّ الكتاب المقدس عن المسرة المشتركة بين الله والإنسان في المسيح يسوع المصلوب، والذي قدم المصالحة بين الآب والإنسان. لهذا كثيرًا ما قيل عن ذبيحة المحرقة، رمز الصليب: "محرقة للرب رائحة سرور وقود هو للرب" (خر 29: 18؛ راجع خر 29: 15، 41؛ لا 1: 9، 17 الخ). هذا عن سرور الله بنا في المسيح موضوع سروره. أما من جانبنا، فقد قيل: "مخافة الرب مجد وفخر وسرور وإكليل ابتهاج" (سي 1: 11). "العبادة تحفظ القلب وتبرره وتمنح السرور والفرح" (سي 1: 18).

هذا ما دفع سليمان نحو طلب الحكمة، إذ خلال أقنوم الحكمة يصير موضع سرور الله، ويتمتع هو بالمسرة والفرح. يقول ابن سيراخ عن الحكمة: "من أحبها أحب الحياة، والذين يبكرون إليها يمتلئون سرورًا. "ملكها يرث مجدًا، وحيثما دخلت فهناك بركة الرب" (سي 4: 12- 13).

v     اجعلنا سعداء يا إلهي في انشغالنا بك فلا نفقدك[377].

v     أقول سعيد هو من يقتني الله[378].

القديس أغسطينوس

فأرسلها من السماوات المُقدسة،

وابعثها من عرش مجدك،

لكي تقف إلى جانبي وتتعب معي،

وأعلم ما هو المرضيُّ لديك. [10]

كان سليمان يتوق إلى مجيء السيد المسيح، الكلمة السماوي. يطلب أن ينزل حكمة الله من السماوات المقدسة لكي يحمله إلى السماء وينعم عليه بالحياة المقدسة. وأن يبُعث من عرش المجد لكي يدخل به إلى العرش.

جاء حكمة الله ليقف إلى جانبنا ضد إبليس، ويعمل فينا وبنا ومعنا، ويكشف لنا عن مسرة الآب بنا.

v     يظهر يعقوب (1: 6) أن أساس كل حكمة بشرية هو الإيمان. هنا يهاجم سيمون الساحر الذي سأل الرسولين أن يهباه الروح القدس، ولم يسأل أن ينال الإيمان[379].

هيلاري أسقف آرل

v     اليوم "ابن النجار"... صنع له سلمًا حيًا نصب قاعدته في الأرض، وارتفع رأسه نحو السماء، عليه يستريح اللَّه.

إنها هي التي تأمل يعقوب صورتها (تك12:28)، بها نزل اللَّه في ثباته، أو بالأحرى انحنى بتنازل و"تراءى على الأرض، وتحدث مع البشر" (با38:2)[380].

الأب يوحنا الدمشقي

v     كيف يأخذ الله الحكماء بحيلتهم؟ (أي 5: 13) بأن يُظهر لهم وهم يظنون أنهم قادرون أن يعملوا بدون الله، أنهم بالأكثر محتاجون إليه. إنهم يدخلون في ضيق حتى يظهروا أنهم أقل من صيادي السمك والأميين، وحيث لا يقدرون أن يعملوا بدون حكمتهم[381].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فإنها تعلم وتفهم كل الأشياء،

فتقودني في أفعالي بحكمة،

وبمجدها تحميني. [11]

من يعرف الآب إلا الابن، ومن يُعلن له. فالابن "الحكمة"، وحده قادر أن يكشف لنا عن الأسرار الإلهية، ويهبنا فهمنا، ويمسك بأيدينا ليقودنا إلى المجد السماوي، حافظًا إيانا من العدو الشرير.

v     الحكمة الروحية هي علة كل عملٍ كاملٍ. هذه هي الحكمة السماوية، وعندما نتقوى بها يمكننا أن نفعل كل شيء بكمالٍ[382].

ثيؤفلاكت

v     يحق لنا أن نكون هناك في حضرة الله في السماوات، نحن الذين حفظنا الدرس بينما كنا على الأرض، وذهبنا هناك إلى السماء كي نكون في محبة الله الآب، ذاك الذي عرفناه ونحن على الأرض، ولأن الله الكلمة القدوس صنع كل شيء وعلمنا ويعلمنا كل شيء، وهو يدربنا في كل الأمور الصالحة[383].

القديس إكليمنضس الإسكندري

فتُصبح أعمالي مقبولةً،

وأحكم لشعبك بالبرّ،

وأكون أهلاً لعرش أبي. [12]

بدون السيد المسيح لن تُقبل أعمالنا، ولا تتحقق رسالتنا.

v     هل تسلمون بهذا أيضا أن المسيح "قوة الله وحكمة الله"؟ تجيبون: "نسلم بهذا".

اسمعوا إذن "روح البار كرسي الحكمة" (حك 1). نعم لأنه ما هو كرسي الله سوى المكان الذي يسكنه. وأين يسكن الله إلا في هيكله؟ "لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو" (1 كو 3: 17).

اسهروا في استقبالكم لله. "الله روح، والذين يسجدون لله فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 24).

ليدخل تابوت العهد قلوبكم وليسقط داجون إن أردتم" (1 صم 5: 3).

لتصغوا الآن. ولتتعلموا أن تشتاقوا إلى الله. كونوا مستعدين لأن تتعلموا كيف ترون الله. أنه يقول "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله"[384].

القديس أغسطينوس

فأي إنسانٍ يعلم قضاء الله،

أو من الذي يتصور ما هي إرادة الرب؟ [13]

مسيحنا يعلن فينا الإرادة الإلهية، ويهبنا القدرة على تنفيذها عمليًا.

v     إن لم أكن مخطئًا لم يذكر في أي موضع أنه (يسوع المسيح) صلى مع تلاميذه. في كل موضع كان يصلي وحده، لأن الصلوات البشرية لا يمكنها أن تستحوذ مشورات الله (حك 9: 13؛ إش 40: 13)، ولا يستطيع أحد أن يشترك في أسرار المسيح الداخلية[385].

القديس أمبروسيوس

لأن أفكار البشر القابلين للموت بائسة،

وخواطرنا غير راسخة [14]

يعترف سليمان الحكيم أنه محتاج إلى الحكمة الإلهي هذا الذي يعلن مشيئة الآب ويحققها فينا، بل ويهبنا الثبات فيه، فلا تكون أفكارنا كالعاصفة في مهب الرياح، ولا اشتياقاتنا وخواطرنا مذبذبة.

v     يترنم المرتل: "اقتربوا إليه واستنيروا، ووجوهكم لا تخجل" (مز 34: 5). نقترب إلى الله بالإيمان، والإيمان هو عمل الروح لا الجسد. ولكننا إذ لا نعرف أية درجة للكمال يبلغها الجسم الروحاني، إذ نتحدث هنا عن أمر ليس لنا خبرة فيه، إنما على مسئولية الكتاب المقدس لا نتكلم بطريقة محددة، يلزمنا أن نستعين بكلمات سفر الحكمة: "أفكار البشر مترددة، وخواطرنا غير راسخة" (حك 9: 14)[386].

القديس أغسطينوس

فإن الجسد الفاسد يُثقِّل النفس،

والخيمة الترابية عبء للعقل الكثير الهموم. [15]

يرى العلامة أوريجينوس أن الذي يحبون الله بكل نفوسهم ويرغبون في الاتحاد معه يسحبون أنفسهم من ثقل (شهوات) الجسد وكل الأمور المادية، مصلين مع الرسول بولس: "ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟" (رو 7: 24). إنهم يئنون في هذه الخيمة (التي للجسد) إذ هم مثقلون بالجسد القابل للفساد (2 كو 5: 4)[387].

v     لماذا إذن نتردد ونشك في خلع الإنسان الفاسد الذي يعوقنا ويثقل على النفس، الخيمة الأرضية التي تملأ العقل باهتمامات كثيرة، فنتحرر من رباطاتنا، ونرجع عن الأمواج العاصفة التي هي من نصيب الجسد والدم؟ فإننا بهذا ننعم بالمسيح يسوع، الراحة التي تصحب التطويب، ونتأمل فيه بكماله، الكلمة المحيية. وإذ نقتات به ندرك الحكمة المتنوعة فيه، ونُختم بالحق عينه، وتستنير عقولنا بنور المعرفة الحقيقية غير الواهنة ونتمتع برؤية تلك الأمور التي تُرى بواسطة العيون المسـتنيرة بوصية الرب (مـز 19: 8؛ أف 1: 18)[388].

العلامة أوريجينوس

v  قيل لنا بالنبي أن نمزق قلوبنا لا ثيابنا (يوئيل 2: 13)، الأمر الذي يمكننا أن نفعله عندما نتذكر أننا نحن أنفسنا غالبًا ما نخطئ على الأقل بالفكر إن لم يكن بالعمل. لأن الخيمة الترابية تمثل العقل المهموم (حك 9: 15)، ولا تتوقف أرضنا عن إنتاج أشواك وحسكٍ لنا. إننا نعجز عن أن نأكل خبزنا ما لم نتعب بالجهد وعرق جبيننا[389].

الأب فولجينتيوس

v     وإن كان ترابنا يرتبط إلى حدٍ ما بالشر، والخيمة الأرضية تضغط على النفس الطائرة إلى العلا (حك 9: 15)، والتي خلقت لكي تحلق في الأعالي؛ لكن لتغتسل الصورة من الدنس وترفع الجسد الشريك معها في النير، ترفعه بجناحي العقل[390].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     يلزمنا ألا ننسب الانحراف في تيه القلب إلى الطبيعة البشرية أو خالقها، فإنه بالحق يقول الكتاب المقدس "إن الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا 29:7). اختلاف الأفكار يتوقف علينا نحن، لأن الفكر الصالح يقترب من الذين يعرفونه والإنسان العاقل يجده. فأي أمر يخضع لتمييزنا وعملنا يمكننا أن نصل إليه، فإذا لم نبلغه يرجع هذا إلى كسلنا وإهمالنا لا إلى خطأ في طبيعتنا.

لو لم يكن هذا الأمر في قدرتنا لما وبّخ الرب الفرّيسيّين قائلاً: "لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم؟" (مت 4:9). ولمَا كلف النبي ليقول: "اعزلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ" (إش 16:1)، "إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!" (إر 14:4)، ولما كان لنوع أفكارنا اعتبار في يوم الدينونة إذ يهدد الله بواسطة إشعياء قائلاً: "وأنا أجازي أعمالهم وأفكارهم" (إش66: 18). فما كان من الصواب أن نجازي أو نعاقب حسب شهادة أفكارنا في ذلك الامتحان الرهيب المميت، إذ يقول الرسول المبارك: "شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة. في اليوم الذي فيهِ يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي" (رو 15:2،16)[391].

الأب سيرينوس

v     هل سنكون صغارًا أم شيوخًا عندما نقوم؟ إن كنا نموت صغارًا (كأطفالٍ) ونقوم صغارًا، فإننا سنحتاج في القيامة إلى مربيات. على أي الأحوال إذ متنا صغارًا وقمنا شيوخًا، فالأموات لا يقومون نهائيًا، سيتحولون إلى كائنات جديدة.

هل سيكون هناك تمييز في الجنس في العالم العتيد؟ أم سوف لا يوجد هذا التمييز؟ إن استمر التمييز فسيوجد زواج وعلاقات جسدية وإنجاب أطفالٍ. أن كان لا يستمر هذا فان الأجساد التي ستقوم سوف لا تكون هي بذاتها. قيل: "الخيمة الترابية عبء للعقل الكثير الهموم" (حك 9: 15). لكن الأجساد التي لنا في السماء ستكون رقيقة وروحية كقول الرسول: "يُنزع جسمًا حيوانيًا، ويُقام جسمًا روحانيًا" (1 كو 15: 44)[392].

القديس جيروم

v     ساهموا معي في تعبي، لأنكم ترون ما قد تعهدت به، ومن أكون أنا الذي قد تعهدت به. إنكم ترون ما أرغب الحديث عنه، وأين وما هو حالي سوى أني في "الجسد البالي يثقل النفس، والمسكن الأرضي يثقل العقـل الكثير الاهتمام" (راجع حك 9: 15). لهذا أجرد فكري من الأشياء العديدة، وأجمعه في الإله الواحد، الثالوث غير القابل للانقسام، حتى أستطيع أن أرى شيئًا أتحدث عنه. فليعرفوا أنني في ذلك "الجسم (الذي) يثقل النفس" أستطيع أن أقول إليك يا رب أرفع نفسي" (مز 27:9 LXX) (لكي ما أستطيع أن أحدثكم عن أمور جديرة في الموضوع). فليساعدني الرب وليرفع نفسي معي. لأنني ضعيف جدًا بالنسبة له، وهو قدير جدًا بالنسبة لي"[393].

v     (الأبرار) الذين ماتوا قد تجردوا بالحقيقة من الجسد الفاسد الذي يثقل النفس (حك 9: 15). لكنهم لا يزالون ينتظرون خلاص أجسادهم (رو 8: 23)، حيث تستريح أجسادهم على رجاءٍ (أع 2: 26)، لكنها لم تشرق بعد بعدم الفساد العتيد أن يتحقق[394].

v     لنحمل في أذهاننا أننا في هذا الجسم الذي يثقل النفس (حك 9: 15) نحيا حياة بائسة[395].

v     إننا بشر نحمل جسدًا، يسير في هذه الحياة؛ وإن كنا قد وُلدنا مرة أخرى من زرع كلمة الله، إلاَّ أننا في المسيح تجددنا بطريقة لا نزال لم نتخلص تمامًا من آدم. فإنه بالحق الجزء القابل للموت وللفساد يثقل النفس (حك 9: 15)، مظهرًا نفسه أنه موجود، ويعلن أنه من آدم، ولكن ما هو روحي فينا ويقيم النفس فهو عطية الله ومن رحمته، هذا الذي أرسل ابنه الوحيد ليشاركنا موتنا ويقودنا إلى عدم موته[396].

v     لنرفع نفوسنا إلى الله، وليس ضد الله، فقد قيل: "إليك يا رب رفعت نفسي" (مز 25: 1). لنرفعها بمعونته، لأنها ثقيلة. وما هو علة ثقلها؟لأن الجسم الفاسد يثقل النفس (حك 9: 15)، والخيمة الترابية تضغط عليها، وهي تنشغل بأمورٍ كثيرة[397].

v     إذ نحن مثقلون بحملٍ ثقيلٍ جدًا هكذا، حيث نئن تحته، كيف أرفع نفسي ما لم يرفعها هو معي، هذا الذي سلَّم نفسه لأجلي؟[398]

v     من جانب فإن جسمنا الفاسد هو ثقل على نفوسنا، ومن جانب آخر فإن علة هذا العائق ليس في طبيعة الجسم وجوهره. لذلك إذ نعرف فساده لا نرغب في أن نتعرّى من الجسم بل بالأحرى أن يلبس عدم فساده. في الحياة الخالدة سيكون لنا جسم، لكنه لن يصير بعد ثقلاً إذ لا يكون بعد فاسدًا... لقد تثقلنا إذن بهذا الجسم الفاسد. لكننا إذ نعلم أن حالة الثقل هذه ليست من طبيعة الجسم وجوهره إنما من فساده، لذا فإننا لا نرغب في أن نتخلص منه بل أن نلبسه مع عدم فساده. عندئذ سيوجد جسم، لكنه لا يعود يكون ثقلاً لأنه لا يعود يكون فاسدًا[399].

v     هذا الجسد الميت بسبب الخطية يحيا، هذا الذي بلاشك قابل للفساد وهو ثقل على النفس (حك 9: 13)[400].

v     أُضيفت كلمة "الفاسد" لتظهر أن النفس تثقَّل لا بأي جسم أيَّا كان، بل بالجسم الذي يصير إلى هذا الحال خلال ثمر الخطية[401].

v     إن كانت كل خطية هي شر، فمن يقدر أن يقاوم؟ نجيب: إن طبيعة الإنسان صالحة وفي نفس الوقت أيضًا قادرة أن تتحرر من الشر. لهذا نصلي بشغفٍ: "نجنا من الشرير" (مت 6: 13). لا يتحقق هذا الخلاص بالكامل مادامت النفس مثقلة بالجسد الذي يسرع نحو الفساد (حك 9: 15). على أي الأحوال تتحقق هذه العملية بالنعمة خلال الإيمان، حتى يُقال: "أين جُهدك يا موت؟ أين شوكتك يا موت؟ أما شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس" (راجع 1 كو 15: 55-56)[402].

v     صلاة مدينة الله كلها وهي في حالة تغرُّب تصرخ إلى الله بفم جميع أعضائها: "اغفر لنا ما علينا كما نغفر نحن لمن لنا عليهم" (مت 6: 12). هذه الصلاة فعَّالة ليس من أجل الذين لهم إيمان ميِّت بدون أعمال (يع 2: 17)، بل من أجل الذين إيمانهم عامل بالمحبة (غل 5: 6). فإنهم وهم خاضعون لله مثقَّلون بالجسد الفاسد (حك 9: 15)، مادام قابلاً للموت، وليس له سلطان كامل على الرذيلة. لهذا فإن هذه الصلاة يحتاج إليها الأبرار. فإنهم وإن كانوا يمارسون سلطانًا، لكن الرذائل لا تخضع دون مقاومة[403].

القديس أغسطينوس

يخشى القديس أغسطينوس من أن يسقط المؤمن في اليأس عندما يُحارب بشهوة جسدية أو فكر جسداني يثقل على النفس، فإنه مادام الإنسان في هذا العالم يبقى الجسد القبل للفساد يقاوم، لكن شتان بين المقاومة وبين الاستسلام.

v     مع أن كل جريمة هي خطية، فإنه ليس كل خطية هي جريمة. وهكذا نقول إن حياة القديسين قد لا تشوبها جريمة، ولكن كما يقول يوحنا الرسول: "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا، وليس الحق فينا" (1يو 1: 8). بل حتى الجرائم نفسها مهما كانت عظيمة يمكن أن تُغفر في الكنيسة المقدسة، ولا يأس من رحمة الله للذين بالحق يتوبون، كل حسب قياس خطيته[404].

القديس أغسطينوس

ونحن بالجهد نتكهن بما على الأرض،

وبالكاد نهتدي إلى ما بين أيدينا،

فما في السماوات من يقدر أن يكتشفه؟ [16]

بالجهد يمكن للإنسان أن يتعرف على بعض أسرار العالم المنظور، وإن كان لا يزال يقف على شاطئ محيط العلم، فكيف يستطيع أن يتعرف على أسرار الله السماوي والسماويات؟ أليس في حاجه إلى الحكمة الإلهي ليعلن بنفسه عن نفسه وعن أبيه وروحه القدوس؟

v     بينما لا يقوى السيرافيم حتى على مشاهدة الله الذي لا يتجلى لهم إلا كتنازلٍ منه حسب ضعفهم، نرى أناسًا يتجاسرون متصورين في عقلهم الطبيعة عينها التي يعجز السيرافيم عن إدراكها. إنهم يزعمون أنهم قادرون على التطلع إليها بوضوح وبغير حدود، ارتعدي أيتها السماوات واندهشي أيتها الأرض[405]".

v     "حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يمكن الدنو منه. لهذا فهو يتنازل ليظهر بالطريقة التي وردت في الرؤيا. الله الذي لا يحده مكان ولا يجلس على عرش... من قبيل محبته لنا يظهر جالسًا على عرش وتحيط به القوات السمائية.

إذ ظهر على العرش وأحاطت به هذه القوات لم تقدر هذه القوات على معاينته ولا احتملت التطلع إلى بهاء نوره، فغطت أعينها بأجنحتها، ولم يعد لها إلا أن تسبح وترنم بتسابيح مملوءة مجدا ورعدة مقدسة، وأناشيد تشهد لقداسة الجالس على العرش[406]".

القديس يوحنا الذهبي الفم

5. صرخة ثالثة

ومن الذي علِم بمشورتكَ،

لو لم تؤتِ الحكمة،

وترسل من العُلى رُوحك القُدوس؟ [17]

مسيحنا هذا الذي أحبنا حتى الموت لكي يخلصنا ويدخل بنا إلى الاتحاد معه، يقدم لنا في ليلة آلامه معزيًا آخر، إذ يقول:

وأمَّا المعزّي الروح القدس الذي سيرسلهُ الآب باسمي فهو يعلِّمكم كلَّ شيءٍ ويذكّركم بكلّ ما قلتهُ لكم". (يو 14: 16-18، 26)

"ومتى جاءَ المعزّي الذي سأُرسِلهُ أنا إليكم من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يو 15: 26).

"وأما متى جاءَ ذاك روح الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنهُ لا يتكلم من نفسهِ، بل كلُّ ما يسمع يتكلَّم بهِ ويخبركم بأمورٍ آتية. ذاك يمجّدني، لأنهُ يأخذ ممَّا لي ويخبركم" (يو 16: 13-14).

v     لا يكون للإنسان حكمة وفهم ومشورة وجَلَدْ ومعرفة وتقوى ومخافة الله ما لم يتقبل روح الحكمة والفهم والمشورة والجلد والمعرفة والتقوى ومخافة الله، وذلك لقول الرسول (2 تي 1: 7؛ إش 11: 2-3)[407].

v     هذه هي الحكمة التي تروض اللسان، النازلة من فوق (يع 3: 17)، وليست نابعة عن قلب بشري. هل يجسر أحد أن ينتزعها عن نعمة الله، وفى خيلاء الكبرياء، يجعلها في سلطان إنسانٍ؟[408]

القديس أغسطينوس

v     تعطى الحكمة ليست خلال كتابٍ بتعلمه، وإنما خلال استنارة الروح القدس[409].

الأب امبروسياستر

v     إذ تتحد (النفس) مع الروح المعزي بألفةٍ لا توصف، وتختلط بالروح تمامًا تُحسب أهلاً أن تصير هي نفسها روحًا، في اختلاطها معه حينئذ تصير كلها نورًا وعينًا وفرحًا وراحة وبهجة ومحبة وأحشاء وصلاحًا ورأفات[410].

القديس مقاريوس الكبير

هكذا قُومت سُبل الذين يعيشون على الأرض،

وتعلَّم الناس ما يُرضيك،

وبالحكمة نالوا الخلاص". [18]

كنا في حاجة إلى تجسد الله - الابن الكلمة، الأقنوم الثاني - ليتقدم الإله المتجسد في أعماق محبته لي حاملاً الموت عنِّي في جسده. وإن كان العقل يعجز عن إدراك أعماق حب الله له... الله الكلمة يصير جسدًا وهو المالئ الكل بلاهوته!! الله الكلمة يتجسَّد ليتألم ويحمل العار!!

v     لو أنهم قدموا تشكرات لله الذي أعطى هذه الحكمة، لما نسبوا شيئًا لأنفسهم. لهذا سلمهم الرب لشهوات قلوبهم وصنعوا ما لا يليق[411].

القديس أغسطينوس

v     "لنا سلام مع الله" (رو 1:5)، من خلال ربنا يسوع المسيح الذي صالحنا مع الله خلال ذبيحة دمه... جاء المسيح لكي يُهْلِك الأعداء، ويصنع السلام، ويصالحنا مع الله الذي فَصَلْنَا عنه حاجز الشر الذي أقمناه بخطايانا[412].

العلامة أوريجينوس

 


 

من وحي الحكمة 9

لأقتنيك يا أيها الجالس على العرش

v     أصرخ إليك يا أب الآباء.

تريد أن تقيم مني أبًا يحب كل البشرية.

تريد أن تسكب رحمتك فيّ،

فأصير بك رحومًا، يا رب الرحمة.

تود أن تهبني الحكمة والتعقل، يا خالقي!

 

v     خلقتني لأسوس العالم بالقداسة والبرّ.

قدسني فأتقدس، وأشتهي أن أرى العالم كله مقدسًا لك.

بررني فأتبرر، فلا أكف عن الصلاة والعمل الدائم،

حتى يتبرر الكل بك.

لم تخلق الإنسان عبدًا بل حرًا.

خلقته لينفتح قلبه بالحب لكل البشرية.

يسود، لا بالتسلط ولا بالأوامر،

وإنما باتساع القلب والبذل والعطاء!

 

v     إن تطلعتُ حولي،

اشتهي أن أحب كل إنسانٍ بلا استثناء.

لكن من يستطيع أن يعطي اتساعًا لقلبي سواك؟

أرفع عيني قلبي إلى عرشك،

فامتلئ بالعزة، وأدرك اعتزازك بي،

أشعر أنني ابن وسط أبنائك!

ترفعني من التراب إلى السماء.

تقيمني من الضعف إلى القوة،

 

v     اعترف لك إنني ضعيف،

وأيامي قليلة ومعدودة.

وإدراكي للأمور واهن.

لكن ليس من موضعٍ لصغر النفس فيّ.

فإني عبدك وابن أمتك.

تحملني بيديك إلى أحضانك.

تهبني إمكانيات فائقة من لدنك!

 

v     تسبحك نفسي، يا من اخترتني لك!

وهبت لي أن أسلمك كل كياني،

فتقيم مني هيكلاً مقدسًا،

حتى جسدي يصير خيمة روحية!

خلقتني لرسالة من قِبَلكْ.

عرفني: ماذا تريد أن أفعل؟

قدني كل الطريق بحكمتك.

بدونك لن أعرف كيف أبدأ!

بدونك لن استمر في العمل!

بدونك لن أبلغ المنتهى! 

 

v     لتقدس فكري، فأعرف إرادتك.

ولتقدس إرادتي، فتتناغم مع إرادتك.

لتعمل بي، فيهرب مني كل ما لا يرضيك!

ولا يستطيع عدو الخير أن يضللني،

ولا محبة العالم أن تغويني،

ولا شهوات الجسد أن تحطم روحي،

ولا الخيمة الترابية أن تثقلني بالهموم.

 

v     أصرخ إليك يا أيها الحكمة الإلهي،

أشرق بنورك عليّ،

فتستنير نفسي، وتدرك أسرارك.

تنفتح أمامي أبواب السماء،

وأنعم برؤيتك.

تحملني إليك، فأنعم بشركة المجد.

لك الخلاص يا مخلص العالم!

 

<<


 

الباب الثالث

 

 

 

 

رعاية الحكمة للأبرار والأشرار

في التاريخ

الحكمة 10 – 19

 

1. عمل الحكمة في التاريخ 10.

2. غاية الحكمة للأبرار والأشرار11.

3. زنابير تتقدم جيشك 12.

4. بين تأليه الطبيعة وتأليه المصنوعات البشرية 13.

5. ما وراء عبادة الأصنام 14.

6. الوثنية وانحطاط البشرية 15.

7. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 1           16.

8. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 2           17.

9. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 3           18.

10. حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 4         19.


 

في الباب الأول يحثنا الكاتب على طلب الحكمة بالصلاة والتوسل إلى الله، ليس فقط باللسان، إنما بكل كياننا، حيث نطلب البرّ، فنتحول إلى لهيب نار، يتوق إلى الحكمة السماوية المقدسة.

وفي الباب الثاني يدعونا الكاتب إلى اكتشاف عظمة الحكمة وقدرتها الفائقة، هذه التي فضلها سليمان الحكيم عن عرشه وعن كل غنى، فهي تهب الإنسان شركة مع الله ليحمل سمات فائقة تؤهله لتحقيق خطة الله من نحو البشرية ككل، ومن نحوه هو على وجه الخصوص، كما فعلت مع سليمان الملك باني الهيكل المقدس.

أخيرًا في هذا الباب (الثالث) يكشف لنا الكاتب عن دور الحكمة عبر الأجيال من آدم إلى دخول الشعب في أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلاً.

يستعرض هذا القسم (حك 11-19) عمل الحكمة في حياة الشعب أثناء الخروج، ليبرز حماية الله لشعبه ورعايته لهم، مقدمًا مقابلات بين حماية الحكمة للشعب وهلاك الوثنيين الذين حادوا عن الحكمة، ولم يتمتعوا بالإيمان. لم يحدث هذا عن محاباة، إنما عن كمال حرية الإنسان، إذ يقول عن الأشرار الهالكين: "كانوا على أنفسهم أثقل من أنفسهم" (حك 17: 21). فما حلّ بهم من ظلمة خارجية ليس إلا صدى لثقل الظلمة الداخلية الأشد مرارة وتدميرًا من الظلمة الخارجية.

جاءت هذه الأصحاحات تفسيرًا لما ورد عن قصة الخروج في شكل عظة تكشف عن رعاية الله لشعبه، وكيف يحول حتى الضربات التي يسقط تحتها الأشرار لخير أولاده كما لخير الأشرار أنفسهم إن تابوا ورجعوا إليه. يقدم الكتاب هذا العرض لتطبيقه في الحياة اليومية المعاصرة، سواء على مستوى الجماعة المقدسة أو العضو.

يعتبر هذا القسم عظة تشرح ما وراء تاريخ الشعب، خاصة بخصوص الخروج. تظهر رعاية الله الفائقة وخطته التي تختفي وراء الأحداث.

يرى بعض الدارسين أن الأصحاحين (10، 11) هما حديث تمهيدي[413] ليهيء للحديث الوارد في الأصحاحات 12 حتى 19. لكن يمكننا القول بأن الأصحاح العاشر (10: 1-14) يكشف عن دور الحكمة فيمن يقتنيها كأشخاصٍ وتكملة السفر عن دورها في الكنيسة ككل، ولا فصل بين الشخص والكنيسة، لأنه هو عضو فيها بدونها لا كيان له، وبدونه لا وجود للكنيسة. فالعضو يحتاج إلى الجسم ككل، بدونه لا يمارس حياته ووجوده كعضوٍ حي، وبدون العضو تفقد الكنيسة جمالها ودورها، حتى وإن كان فقيرًا أو ظن أنه قليل المواهب والقدرات. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم شعر الجفن لا يساوي شيئًا إن نُزع عن الجفن، بل يلقى في المزبلة، وبدونه يفقد الإنسان كله جماله!

يقدم لنا الكاتب خلال أمثلة وردت في العهد القديم كيف أن الحكمة مخَّلصة لذويها، كما يقدم عدة مقابلات.

 

<<


 

الأصحاح العاشر

عمل الحكمة في التاريخ

يقدم الكاتب أمثلة عن حكمة الله العاملة في حياة الأبرار، دون أن يذكر أسماءهم، إنما غالبًا ما أشار إلى الشخص بلقب "البار". هذا ما يشغل حكمة الله أن تجد إنسانًا بارًا فتعمل فيه لحسابه كما لحساب الآخرين.

لعبت الحكمة دورًا رئيسيًا في حياة الأبرار منذ بدء الحياة البشرية. هنا يضرب أمثلة بآدم وهابيل وأخنوخ ولوط الخ. وقد اهتم بالأحداث الواردة في الكتاب المقدس من منظار دور الحكمة في حياتهم. هذا وعدم ذكر الأسماء يعطي هذا الأمر نوعًا من الموضوعية، فالأمر لا يخص أشخاصًا معينين، بل كل إنسانٍ يمكن أن تكون له ذات الخبرة مع الحكمة. هذا مع إعطاء نوعٍ من السرائرية والإجلال لهذا الأمر[414]. أراد الكاتب أن يركز على الحكمة ذاتها لهذا تجاهل ذكر أسماء الأبطال, الذين هم معروفون للقارئ اليهودي.

الحكمة تخلص ذويها، فقد كانت سندًا لآدم، وبدونها قتل قايين أخاه، وهي التي خلصت نوحًا بخشبة الفلك، ولوطًا من نيران سدوم وعمورة... وعبرت بالشعب البحر الأحمر، ووهبتهم التسبيح لله. لأن الحكمة فتحت أفواه البُكم وجعلت ألسنة الأطفال تفصح (21:10).

يقدم الحكيم صورًا بهية لعمل الحكمة في حياة شخصيات رائعة في إيجابية مفرحة، كما يحذرنا من الجانب السلبي، أي الانحراف عن الحكمة وعدم اقتنائها.

1. دور الحكمة في حياة آدم 1-2.

2. دور الحكمة في حياة هابيل 3.

3. دورها في حياة نوح 4.

4. دورها في حياة إبراهيم 5.

5. دورها في حياة لوط 6-9.

6. دورها في حياة يعقوب 10-12.

7. دورها في حياة يوسف 13-14.

8. دورها في حياة الشعب 15-21.

1. دور الحكمة في حياة آدم

هي التي سهِرت على أول من جُبِل أبي العالم،

بعد أن خُلق وحيدًا،

وأنقذته من زلته. [1]

من الصعب أن ندرك دور الحكمة الإلهية في حماية آدم وهو في جنة عدن، لكن إعطاء آدم الأسماء للحيوانات لأول مرة دون تمتعه بخبرات لأسلافٍ له (تك 2: 18–20) يحتاج إلى حكمة عظيمة وسلطان. هذا وعندما سقط آدم بسبب عصيانه، لم يتخلَّ الله عنه بل تبنى قضيته، وقدمت له حكمة الله طريق الخلاص.

v     حينما تعدى آدم وصية الله، وأطاع الحية الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان، فاكتست النفس – تلك الخليقة الحسيّة التي صورّها الله على صورته الخاصة – اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: "إذ جرَّد الرئاسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب" (كو 2: 15)، وهذا هو الغرض الذي من أجله الرب أتى (إلى العالم)، لكي ما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان[415].

القديس مقاريوس الكبير

v     حل آدم رئيس المسبيين من رباطه، لأن المخلص سمع صوت الأسير، فنزل وأنقذه من تحت الأرض، لكي يصعده إلى علو السماء[416].

القديس يعقوب السروجي

أما كونه "وحيدًا"، فربما تعني أنه الوحيد الذي خلقه لله من التراب ونفخ فيه نسمة حياة، أما حواء فجاءت من جنبه، وأبناؤهما ولدوا منهما. ولعلها تعني أنه فريد، أُعطى سلطانًا على جميع الخلائق (تك 1: 26-28؛ حك 9: 2-3).: يرى البعض أن آدم حين كان وحيدًا، قبل خلقة حواء التي قامت بدورها في تجربته.

وأعطته قُوة ليتسلط على كل شيءٍ. [2]

يتطلع القديس غريغوريوس النيسي إلى الإنسان ككائنٍ فريدٍ، موضع حب الله الفائق، الذي خلقه دون غيره على صورته ومثاله. أقامه ملكًا... لذا لم يجبله إلا بعد خلقة العالم كله بكونه قصرًا ملوكيًا للملك المحبوب، الإنسان! خلقه ليشهد له بمشاركته صلاحه، فيحمل شركة السِّمات الإلهية، خاصة الحب والقداسة... كما أعطاه سلطانًا. وعندما سقط بإرادته، واختار الشر الذي ليس من صنع الله بل غياب للفضيلة لم يتركه، بل جاء الكلمة الإلهي متجسدًا ليرد إليه صورته الأولى، ويدخل به إلى البنوة لله، ويعيد إليه حالته الفردوسية... إنه غاية عمل الله الخلاصي.

v     كل العالم متقن حسنًا وهو ينتظر الإنسان، اصدري أمرك أيتها القدرة العاملة ليأتي ويستولي على مُلكه.

v     وضع فوق رأسه خصلة الشعر كالتاج، ليكون معروفا من قِبل براياه بأنه ملك.

v     وقف (آدم) صورة [الابن] وحده، وهو مليء جمالاً، فخافت البرايا من الصورة وأطاعتها،

ظهر شبه الابن في الوارث الذي تكوّن، فخضعت له الأعالي والأعماق وكل البرايا،

المسيح الجديد؛آدم الذي صار صورة للابن وقف في العالم، وكل العالم ركع وسجد له.

اشتاق النور إليه، لان صورة النور كانت مصورة على وجهه، وفرحت السماء وأسرع نورها لخدمته،

ابتهج به البحر فهيأ أسماكه ليقدمها له، وسُرّت الأرض وركعت وسجدت مع أشجارها،

الشمس والقمر قدّما له أشعتهما، وبشروقهما كان يجملان للسيد الجديد،

الزحافات الجديدة وما في المياه، والطير الطائر في الهواء، كانت تسجد له أزواجًا أزواجًا، وتتباهى به،

كل البهائم والحيوانات والأجناس التي صارت، أحنت الكتف ليضع النير على رقابها،

أتت المقتنيات أمام القاني جوقات جوقات، وجماعات جماعات، وأفواجًا أفواجًا، وأزواجًا أزواجًا،

أتت ساجدة، وممتلئة أمانًا ومحبة، ورأس الحيوانات المفترسة منحن لتخضع له،

صُورت على آدم صورة اللاهوت العظمى، وحالما رآه العالم خضع له كله،

كل أجناس البهائم والحيوانات تقدمت، وسجدت له فألقى طابعه على مقتنياته.

القديس يعقوب السروجي

2. دور الحكمة في حياة هابيل

ولما اِرتد عنها ظالمُ في غضبه،

هلك في حنَقِه الذي قَتلَ به أخاه. [3]

يقصد بـ "الظالم" قايين (تك 4: 8-13)، فبسبب ظلمه لأخيه وسفكه دمه مات روحيًا (هلك).

رُفضت تقدمة قايين بسبب عدم نقاوة قلبه، وإذ تخلى قايين عن الحكمة، انهزم من غضبه، وجرّ على حياته شقاءً وبؤسًا.

في عدم حكمة استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذا به يستهين بالله نفسه في حديثه معه. فإن كل خطية تصوب نحو إخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. بالحقيقة إن ازدرى أحد بالآخر، إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير. لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله[417].]

v     أنت تعلم يا عزيزي أن علامة التقدمة المقبولة من الله هي نزول نار من السماء وحرق التقدمة. عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معًا، نزلت النار الحيَّة التي تخدم أمام الله (مز 104: 4)، والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته وقايين رفض تقدمته. لقد عُرفت ثمار قلب قايين بعد ذلك حين اُختبر ووجد أن قلبه مملوء غشًا، حين قتل شقيقه، وهكذا فما حبل به في فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته.

القديس أفراهاط الحكيم الفارسي

لقد ارتكب قايين جريمة بشعة للغاية، ومع هذا لو أنه طلب حكمة الله لأزال عنه غباوته وقدم توبة تنقذه كما يقول القديس مار افرام السرياني.

v     ظهر الله لقايين بلطفٍ، حتى إذا ما تاب يُعفى عن خطية القتل التي ارتكبتها أصابعه وذلك بندامة شفتيه. إن لم يتب. يسقط عليه الحكم بعقوبة مرة تتناسب مع غباوته الشريرة[418].

القديس مار افرام السرياني

3. دورها في حياة نوح

ولما غمرَ الطوفان الأرض بسببه،

عادت الحكمة فخلصتها.

إذ هدَتِ البارَّ بخشبٍ تافهٍ. [4]

البار هنا هو نوح الذي نجا من الطوفان بالفلك.

لأول مرة يذكر الكتاب المقدس أن الطوفان نتيجة للشر الذي تضاعف في الأرض بسبب قايين، وأن الله أبقى على العالم من أجل نوح البار وعائلته بواسطة خشب حقير، أي الفلك بكونه رمزًا للصليب علامة الخزي والعار واللعنة عند اليهود.

ينسب الطوفان إلى الظالم "قايين" إذ يحسبه قدوة، تمثل به الأشرار في أيام نوح. وقد جاء في يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن الأشرار هم أبناء قايين حسب التقليد اليهودي[419]، وإن كان هذا لم يرد في الكتاب المقدس.

نسب الطوفان إلى خطية قايين يبدو أنه نوع من المغالاة, لكن الكاتب يتطلع إلى بشاعة هذه الخطية مع طول أناة الله على نسل قايين، وإذ امتلأ الكيل حدث الطوفان.

إن كان الأشرار بسبب عدم تمتعهم بالحكمة الإلهية فسدوا في شرورهم وتعرضوا للطوفان، فإن نوحًا في المقابل تمسك بحكمة الله، فتمتع برمز الصليب والكنيسة، أي الفلك، وخلص من الهلاك.

v     كان ذلك الفلك إشارة إلى الكنيسة عروس المسيح، التي هي جماعته المقدسة، وذلك مثل الفلك المجتمع بعضه إلى بعضٍ بالمسيح من أجناس كثيرة وبلدانٍ وألسنة كثيرة. جمعهم المسيح إلى الإيمان به، وجعل الكل واحدًا بروحه، مجتمعين بمحبته وحفظهم وصاياه كاجتماع خشب السفينة بعضه إلى بعض بالتسمير ووضع القار. كذلك مخافة المسيح ومحبته لدى جمع المؤمنين الخائفين والمحبين له، ولبعضهم البعض وتسميرهم بالمحبة الروحية، واتحادهم معًا. بحفظ الوصايا، حتى يكون الجميع فلكًا واحدًا، جسدًا واحدًا للمسيح. لكل منهم كما أعطاه الله من المواهب يخدم غيره ممن لم ينلها... قال الله لنوح أن يضع القار من داخل ومن خارج، أي تكون المحبة داخل قلوبهم بعضهم لبعض، تطّهر خارجهم بخدماتهم وعنايتهم وتعزيتهم بعضهم لبعض، متسمرين بمسامير مخافة الرب، وتسترهم المحبة من دخول الشيطان إليهم، كما يحمي القار السفينة من دخول الماء إليها.

وكما لا يمكن أن تجمع ألواح السفينة بعضها إلى بعضٍ إلاّ بالمسامير، كذلك  لا تجتمع الجماعة بألفة إلى بعضها البعض إلاّ بخوف المسيح إلهنا... ولكون الكنيسة مؤمنة بالثالوث، أشار إلى ذكر الثالوث في السفينة مكررًا من كل ناحية الطبقات الثلاث وارتفاع الثلاث مائة والثلاثين ذراعًا[420].

القديس مار افرام السرياني

4. دورها في حياة إبراهيم

ولما أجمعتِ الأمم على الشرِّ فأُخزيَت معًا،

فهي التي عرَفت البارَّ،

وصانته بلا عيبٍ أمام الله،

وحفظته أقوى من عاطفته الحانية لولده. [5]

يشير هنا إلى البابليين الذين تكاتفوا معًا لبناء برج بابل خوفًا من تكرار الطوفان فينجوا منه. إنهم يتطلعون إلى الله كعدوٍ، بهذا جانبتهم الحكمة، فظنوا أنهم قادرون على الهروب من الله. عالجوا الأمر بالحكمة البشرية عوض الحكمة الإلهية التي تدعونا إلى الهروب من الغضب الإلهي بالارتماء في حضن الله والتمتع برحمته بالتوبة. حرمانهم من الحكمة دفع بهم إلى الخزي، حيث تبلبلت ألسنتهم، وتشتتوا في العالم (تك 11).

v     صفّقت الشعوب والجموع برأي واحد للبدء في عمل الإثم بقلبٍ قاسٍ،

 هلموا نتسلط على البلد، ونسكنه بجبروتٍ، مثل جمع حاشد لئلا يتبدد على الأراضي،

 لنتمسك بعضنا مع بعضٍ لئلا نضيع في البلدان. لنصير شعبا ولا نُسمى شعوبًا على الأرض،

 لنبنِ قرية لا يتغلب عليها الطوفان، ولنشيّد بناءً لا تجرفه الأمواج،

 لنبدأ بعملٍ لا تخترقه الأنهار، ولنصنع حصنا يقدر أن ينقذ من الطوفان،

 لنبنِ برجا لو خرجت المياه على الأرض وتصطدم به لا تُسقطه أمواجها،

 لنضع أساسًا لو انفتح البحر الكبير لا يحطمه أو يؤذيه بالأمواج القوية،

 لنؤكد ونبنِ شيئًا جديدًا لا يسقط، ولو انفتحت اللجة لا تصله،

 وبالحرفة لنبنِ حصنًا كبيرًا باسم الجبروت الرهيب ونصعد إلى السماء،

 لنصعد ونكن جيران الشمس في موضعها العالي وليكن مسكننا عندها وقريبا منها،

 لنصعد ونستقر في السبيل التي يعمل فيها القمر، وننظر إلى تغيير الأزمنة وهي تدور،

 هلموا نصعد إلى كواكب النور في سبلها، وهلموا نصنع لنا اسمًا يشتهر أكثر من اسمها،

 هلموا نرتفع إلى حيث تعبر القوات، ولنكن رفاقًا للمجرة الحاملة الأزمان،

 لنبنِ مقصورة هي بداية ونهاية: لم يكن مثلها ولن يصير ما يعادلها قط على الأرض،

 هلموا نصنع لنا قرية تصل إلى السماء، ونسكن هناك في الموضع العالي عن المضرات،

 لنصنع مصعدًا عجيبًا بواسطة جمعنا، وبه نصعد من الأرض إلى على الهواء،

 لنترك الغيوم ونتسلط على مكان فوقها، ولنترك الرياح ثم نرتفع إلى الأعالي،

 لنصنع اللبنات ولنحرقها بالنار، ولنقم عمارة من حجر لا تنهدم.

القديس مار يعقوب السروجي

على نقيض ذلك عاش إبراهيم وسط شعوب وثنية، حتى قبيلته كانت تعبد القمر، لكن الحكمة حفظته ليكون أبا لكل المؤمنين (حك 10: 5). بالحكمة قدم إبراهيم ابنه ذبيحة لله، حاسبًا محبته لله أعظم من محبته لوحيده، فتمتع بالبرّ.

وهب الله الإنسان العقل كعطية إلهية يليق تقديسها لبنيانه في كل جوانب حياته. لكن أهل أرض شنعار أساءوا إلى العطية لأنهم لم يطلبوا حكمة الله لتقديسهم، وفي كبرياء ظنوا أنهم قادرون على مواجهة تأديبات الله بطرق بشرية. أرادوا أن يقيموا برجًا رأسه في السماء، فانحدروا بالأكثر إلى الهاوية. صورة مؤلمة لمن يرفض حكمة الله، ويتكل على حكمته البشرية الذاتية.

v     انظروا ما أشر العظمة والكبرياء بالحكمة! كان الجميع مجتمعين متفقين. تعظموا ففرَّقهم الله. وهكذا تفرِّق العظمة شمل كل المفتخرين... نزل الرب ليرى فعلهم. هكذا سبق فتنبأ عن نزوله بالجسد من أجل خطايا الناس في آخر الزمان... ذكر النزول لبني إسرائيل ليدربهم على ذلك ويتدرج  بهم، حتى لا ينكروا النزول الحقيقي بتجسده[421].

القديس مار افرام السرياني

يقارن الحكيم هنا بين شعب اعتمد في كبرياء على حكمتهم البشرية فتفرقوا، وبين إبراهيم الذي آمن بالله وأحبه، فقدم ابنه الوحيد ذبيحة محرقة. عاد معه اسحق الذي منه جاء من تتبارك به كل الأمم.

v     بالإيمان لم يتردد إبراهيم عندما قدم وحيده، الذي فيه نال المواعيد، إذ حسب أن الله قادر أن يقيمه من الأموات (عب 11: 17- 19).

هكذا يقدم لنا الرسول تقريرًا عن أفكار الإنسان المؤمن، أن الإيمان بالقيامة كان قد تثبت في ذلك الحين في إسحق. لذلك ترجى إبراهيم إقامة إسحق، وآمن بما سيحدث في المستقبل ولم يكن بعد قد حدث.

الآن كيف لا يؤمن أولاد إبراهيم بما يحدث فعلاً في المسيح وقد آمن به إبراهيم أنه سيحدث وذلك في إسحق؟

بالأحرى أتكلم بأكثر وضوح أن إبراهيم عرف نفسه أنه رمز لصورة الحق المقبل.

لقد عرف أن المسيح سيولد من زرعه، هذا الذي سيُقدم ذبيحة حقيقية عن العالم كله وأنه يقوم من الأموات[422].

العلامة أوريجينوس

بحكمة الله، وليس بقدراته الذاتية أو فهمه أدرك إبراهيم الأمور المقبلة كأنها حاضرة في حياته.

v     عندما قدم إبراهيم ابنه إسحق، كان رمزًا لله الآب، بينما كان إسحق رمزًا لربنا ومخلصنا[423].

الأب قيصريوس أسقف آرل

5. دورها في حياة لوط

وهي التي أنقذت البار لما هلك الأشرار،

وكان هاربًا من النار الهابطة على المدن الخمس. [6]

البار هنا هو لوط والمدن الخمس Pentapolis التي في السهل هي: سدوم وعمورة وأدمه Admah حبوييم وبالع أو صوغر (تك 14: 2).

للقديس جيروم تعليق جميل على شخصية لوط إذ يقول إنه إذ كان إيمان لوط قليلاً ذهب إلى صوغر فأنقذ بلدًا صغيرًا من الدمار، ولو كان له إيمان أعظم لأنقذ مدنًا أكثر وأكبر[424].

أنقذت الحكمة لوطًا من النار الهابطة والدخان الصاعد من المدن الخمس والتي لم ينجً منها سوى صوغر التي صفح عنها الله لكي يسكنها لوط. وإذ فقدت امرأته الحكمة تطلعت إلى الوراء، فصارت عمود ملح.

يذكر فيلون اليهودي السكندري أنه حتى أيامه كان المكان لا يزال ينبعث منه الدخان، ويرجح أن يكون في الطرف الجنوبي من البحر الميت حيث تمتد سلسلة من الجبال إلى مسافة تبلغ 8 كم، يتراكم الملح على أغليها وتُسمى جبال سدوم، كما توجد إلى الآن بعض أعمدة ملح، يطلق على إحداها امرأة لوط.

لقد عاش لوط في سدوم التي اتسم شعبها بالشرور والفساد، وكما يقول بطرس الرسول: "وأنقذ لوطًا البار، مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البـارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7- 8). كان ساكنًا في وسطهم، لكنه كان هاربًا بقلبه منهم حتى لا يشترك في آثامهم. لهذا عندما خرج لوط لم يفكر قط أن يتطلع إلى خلف نحو شعب سدوم. هرب من شرورهم، وبالتالي هرب من النار الهابطة عليهم. وقد حثنا القديس أمبروسيوس أن نقتدي به، هاربين من محبة العالم الشرير والانغماس في الشر.

v     ليتنا نهرب مثل لوط الذي خاف من جرائم شعب سدوم أكثر من العقوبات التي تحل بهم.

بالتأكيد الإنسان القديس يختار أن يغلق منزله أمام رجال سدوم، ويهرب من عدوى معاصيهم. عندما سكن معهم لم يتعرف عليهم، لأنه لم يعرف شرورهم، وهرب من خزيهم. عندما هرب لم يتطلع خلفه نحوهم، إذ لم يرد أن يشترك معهم.

من يعتزل الرذائل ويجحد طريق حياة مواطنيه (الأشرار) يكون في حالة هروب مثل لوط. مثل هذا الإنسان لا يتطلع خلفه، بل يدخل المدينة العليا خلال طرق أفكاره، ولا ينسحب منها حتى موت رئيس الكهنة الحامل خطايا العالم[425].

حقًا لقد مات  (مسيحنا رئيس الكهنة) مرة واحدة، لكنه يموت من أجل كل شخصٍ يعتمد في موت المسيح، حتى نُدفن مع بعضنا البعض معه، ونقوم معه، ونسلك الحياة الجديدة (كو 2: 12؛ رو 6: 4).

هروبك صالح إن كان قلبك لا يعمل بمشورة الخطاة وخطهم. هروبك صالح إن كانت عيناك تهربان من رؤية الكؤوس وأواني الشرب، حتى لا تتثبتان مشتاقتين إلى الخمر. هروبك صالح أن كنت لا تجاوب الجاهل على غباوته (أم 23: 33 LXX) هروبك صالح أن كانت خطواتك بعيدة عن طرق الجهلاء. حقًا سرعان ما ينحرف الإنسان بالمشورات الشريرة، لكنك إن أردت أن يكون هروبك صالحًا، لتكن طرقك بعيدة عن كلماتهم[426]

القديس أمبروسيوس

ولا تزال هُناك للشهادة على شرِّهم،

أرضٌ مُقفرةٌ يسطع منها دُخان،

ونبات يُثمرُ ثمرًا لا ينضج في أوانه،

وعمودٌ من ملحٍ قائمٌ تذكارًا لنفس لم تؤمن. [7]

دخان: ربما من أجل السديم أو الضباب الخفيف الصاعد من حوض البحر الميت، أو الصهد بسبب الجو القاري.

أما عن هذا النبات فيشير إليه يوسيفوس[427]، ويدعو تفاح سدوم، نبات يظهر في تلك المنطقة يبدو للعيان أنه يؤكل، لكن داخله بودرة سوداء لا يمكن أكلها.

يقول القديس أمبروسيوس أن الشيطان وسدوم كلاهما خلف الإنسان، لذا وجب على المؤمن أن يتطلع إلى قدام، لا إلى خلف، حتى يبلغ مع لوط إلى الجبل ولا يصير مثل زوجة عمود ملح[428].

يرى العلامة أوريجينوس في لوط رمزًا للنفس الجادة في خلاصها والتي تتطلع إلى الأمام، أما زوجته فترمز للجسد الذي يود أن يعوق النفس عن اشتيقاتها الروحية وجديتها.

v     عندما تسير النفس نحو الخلاص، يتطلع الجسد إلى الوراء، ويطلب الملذات. قال أيضًا الرب عن هذا: "ليس أحد يضع يده على المحراث، وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). يضيف: "اذكروا امرأة لوط". فإنه بالحقيقة صارت عمود ملح، يظهر كعلامةٍ واضحةٍ عن الغباوة. الملح يمثل الحكمة التي فقدتها[429].

العلامة أوريجينوس

v     يتطلع الله بدقة إلى الهدف الداخلي الواقعي، وذلك مثل امرأة لوط التي كانت الوحيدة بكامل إرادتها قد اتجهت نحو شر العالم. لقد تركها جامدة بلا إحساس وجعلها شبع عمود ملح، وتركها بلا قوة عاجزة عن الحركة، كتمثالٍ، ولكن ليس بدون نفع، بل صارت (مثالاً) حتى يمكن أن تُملح من لهم مدارك روحية[430].

القديس إكليمنضس السكندري

والذين حادوا عن الحكمة،

لم يقتصر ضررُهم على عدم معرفة الخير،

ولكنهم تركوا خلفهم للعالم ذِكْرًا لحماقتهم،

بحيث لا يستطيعون كتمان عثراتِهم. [8]

لكن الحكمة أنقذت خدَّامها من أتعابهم. [9]

بعد أن ذكر أمثلة عن عمل الحكمة في حياة الناس منذ آدم إلى لوط، وأثر الحرمان منها، قدم في العبارتين 8 و9 حديثًا عن خطورة عدم الحكمة الصادرة عن  الحماقة وكيف أن الحكمة أنقذت خدامها من أتعابهم.

على هذا المنهج جاء في قوانين الرسل حديث للقديس يعقوب بن زبدي أشبه بمناجاة لله، حيث يعلن بركات عمل (حكمة) الله في بعض رجال العهد القديم ودمار من يتجنبها:

[أنت هو المعرفة الأبدية، البصيرة الدائمة، السماع غير المولود، الحكمة الطبيعة... أخضعت كل الخليقة له (لآدم) ووهبته الحرية أن يجلب الطعام لنفسه بعرقه وتعبه، بينما أنت الذي جعلت ثمار الأرض تنبت وتنمو وتنضج... دعوته للإصلاح مرة أخرى وأن تفك رباطات الموت، ووعدته بالحياة بعد القيامة. ليس له وحده فقط بل وعندما نما بفيض إلى جمع لا يُحصى فإن الذين استمروا معك مجدتهم، والذين جحدوك عاقبتهم.

بينما قبلت ذبيحة هابيل (تك 4) كإنسانٍ مقدس، رذلت عطية قايين قاتل أخيه، كبائسٍ ممقوتٍ.

بجانب هذا قبلت من شيث أنوش (عطيتهما)، ونقلت أخنوخ، لأنك خالق البشر وواهب الحياة وسند المحتاجين ومعطي الشرائع ومجازٍ الذين يحفظونها ومؤدب الذين يعصونها.

أنت الذي جلبت الفيضان على العالم بسبب جموع الأشرار (تك 6-7)، وخلصت نوحًا البار من الطوفان بالفلك (1 بط 3: 20) مع ثماني أنفس حيث نهاية جيل سابق وبداية جيل لاحق.

أنت أشعلت نارًا مخيفة ضد الخمس مدن لسدوم وحوَّل الأرض المثمرة إلى بحيرة ملح للأشرار الساكنين هناك (حك 10: 6، تك 19، مز 107: 34). لكنك انتزعت لوطًا القديس من الحريق الهائل.

أنت الذي خلصت إبراهيم من شر أسلافه، وأقمته وارثًا للعالم، وكشفت له عن مسيحك، وعينت ملكي صادق مقدمًا كرئيس كهنة للعبادة لك (تك12 الخ).

أنت الذي عوضت خادمك الصبور أيوب الغالب للحية التي هي ممثلة للشر.

أنت الذي جعلت اسحق ابنًا للموعد، يعقوب أبًا لاثنى عشر ابنًا[431]…]

6. دورها في حياة يعقوب

وهي التي هَدَتِ البارَّ،

الهارب من غضب أخيه سُبلاً مُستقيمة،

وأرته ملكوت الله،

وآتته معرفة المُقدَّسات،

وأنجحته في أتعابه،

وكثَّرت ثمرَ أعماله. [10]

لم ينسب الحكيم ليعقوب الحكمة حين استخدم وسائل الخداع لنوال البكورية والبركة أو الحصول على نصيب أوفر من خاله لابان، وإنما يتحدث عنها حين قابل غضب أخيه عيسو بروح التواضع والعطاء بسخاء.

بالحكمة تمتع بالسماء المفتوحة والرؤى السماوية المعزية مقابل بغض عيسو له ومحاولة قتله.

يشير هنا إلى حـلم يعقوب الهارب من وجه عيسو أخيه (تك 27: 41-28: 17)، حيث رأى السماء بكونها "ملكوت الله"، وهو تعبير إنجيلي يندر استخدامه في العهد القديم[432]. لقد تمتع يعقوب برؤيا أخروية، حيث يملك الله على المؤمنين، ويقيم منهم ملكوته الإلهي.

"المقدسات": تشير إلى المقدس السماوي أو إلى السمائيين المقدسين في الرب.

v     تأملوا ناسكًا (يعقوب)؛ كان يجري هاربًا من إنسانٍ عنيفٍ للغاية، كان هاربًا من أخيه، ووجد عونه في حجرٍ، هذا الحجر هو المسيح. هذا الحجر هو عون لكل الذين يعانون من الاضطهاد، أما بالنسبة لليهود غير المؤمنين فهو حجر عثرة وصخرة خزي (رو 9: 33؛ 1 بط 2: 8؛ إش 8: 14؛ 28: 16). هناك رأى يعقوب سلمًا قائمًا من الأرض ورأسه تبلغ السماء، وفي السماء الرب متكئ عليه، ورأى ملائكة صاعدين ونازلين (تك 28: 12- 13). انظروا لقد رأى ملائكة صاعدين، لقد رأى بولس صاعدًا. ورأى ملائكة نازلين، يهوذا الخائن يسقط بتهورٍ. رأى ملائكة صاعدين، رأى قديسين يصعدون من الأرض إلى السماء، ورأى ملائكة نازلين الشيطان وكل جيشه منطرحين من السماء[433].

القديس جيروم

ونصرته على طمع مُضايقيه وأغنته. [11]

ووقته من أعدائه،

وحمته من الكامنين له،

ووهبته النصرة في قتالٍ شديدٍ،

لكي يعلم أن التقوى أقدر من كل شيء. [12]

هنا يشير إلى فترة خدمته لخاله لابان الذي كان استغله وخدعه وكان يطمع أن يصرفه فارغًا. أما أعداؤه فهم عيسو ورجاله أو لابان واخوته (تك 31: 23).

يقصد بالقتال الشديد صراعه في عبر مخاضة يبوق مجاهدًا مع الله (تك 32: 22-29).

سلاح يعقوب في معركته وقتاله الشديد هو التقوى التي هي أقدر من كل شيء.

يحدثنا الحكيم عن أبينا يعقوب الذي وسط أتعابه وجد حجرًا يضعه تحت رأسه. ما هو هذا الحجر إلا  حكمة الله المتجسد، الذي نتكئ عليه برؤوسنا لكي يقدسها، ويرفع أفكارنا إلى السماء وسط متاعبنا في هذا العالم؟ هكذا "الحكمة أنقذت خدامها من أتعابهم" [9].

v     الحجر الذي تحت رأسه كان المسيح. لم يضع حجرًا من قبل تحت رأسه، وإنما فقط عندما جاء الوقت الذي فيه كان هاربًا من مضطهده. عندما كان في بيت أبيه وتمتع بوسائل الراحة للجسد، لم يكن له حجر لرأسه. لكنه ترك بيته فقرًا ووحيدًا خرج وليس معه غير العصا، وللحال في ذات الليلة وجد حجرًا ووضعه تحت رأسه[434].

القديس جيروم

v     لم نقرأ عن الطوباوي يعقوب أنه رحل ومعه خيول أو حمير أو جمال، إنما نقرأ فقط انه حمل عصا في يده...

أظهر يعقوب عصاه ليأخذ لنفسه زوجة (تك 32: 10)، وحمل المسيح خشبة الصليب ليخلص الكنيسة.

إذ نام يعقوب وضع حجرًا تحت رأسه ورأى سلمًا ممتدًا إلى السماء، بينما اتكأ الرب على السلم[435].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     السلم المُثبت على الأرض ويبلغ السماء هو صليب المسيح، خلاله وهب لنا الوصول إلى السماء، بل بالفعل يقود إلى السماء. هذا السلم يحوي درجات متنوعة من الفضائل، خلالها نرتفع نحو السماء. الإيمان والبرّ والطهارة والقداسة والصبر والتقوى وكل بقية الفضائل هي درجات هذا السلم[436].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وهب الله يعقوب ذكاءً، واستطاع أن يحاور خاله الذي خدعه، لكن تعرض يعقوب للخطر حين تعقبه خاله ومن معه من أقربائه. هنا لم يكن ممكنًا للحكمة البشرية أن تحفظ يعقوب، إنما تدخل الله نفسه، وحذر لابان من أن يفعل يعقوب سوءً (تك 34: 24 الخ).

v     عجيب هو صلاح الرب. فإذ رأى الله لابان مصممًا على محاربته والدخول مع الرجل الصالح في معركة، قال له كمن يطلب منه مراجعه نيته: "احترز من أن تكلم يعقوب بخيرٍ أو شرٍ" (تك 31: 25). يقول له لا تحاول أن تضايق يعقوب ولا بكلمة قاسية بل لاحظ نفسك، راجع هجومك الشرير، اكبح غضبك، لجِّم أفكارك الثائرة... أسألكم أن تلاحظوا رأفة الله. عوض أن يأمر الله لابان أن يرجع إلى موضعه، اكتفى بتوجيهه ألا يستخدم كلمات قاسية وعنيفة مع الإنسان الصالح. ما هو السبب لذلك؟ كي يتعلم الإنسان الصالح ويختبر مدى عناية الله به.

ألا ترون أنه لو رجع لابان كيف كان يمكن للرجل الصالح وزوجته أن يعرفوا هذا؟ سمح الله للابان أن يذهب ويشهد بشفتيه بالكلمات التي قيلت له من الله... هذه بالحقيقة هي علامة حكمة الله الخلاَّقة، أن يحول أعداء الحق هم أنفسهم إلى شهودٍ للحق، فيحاربون بأفواههم لجانب الحق[437].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v     يعقوب الذي طهرَّ قلبه من كل المظاهر، مظهرًا تصرفات مملوءة سلامًا، أولاً طرد كل ماله وبقى في الخلف، وصارع مع الله (تك 32: 23- 25). لأن من يترك الأمور العالمية يقترب من صورة الله ومثاله. ما هو الصّراع مع الله سوى الدخول في صراعٍ لأجل الفضيلة، وإن يجاهد مع من هو أقوى منه يصير في حالة أفضل بإقتدائه بالله أكثر من الآخرين؟ إذ كان إيمان يعقوب وتكريسه لا يُهزمان، أعلن الرب له أسراره الإلهية بلمس حق فخذه (تك 32: 26). فإنه من نسله يولد الرب يسوع من عذراء، ويسوع ليس غير مشابه ولا بأقل من الله (الآب)[438].

القديس أمبروسيوس

بالحكمة الإلهية جاهد يعقوب مع الله والناس وغلب. لقد صارع حتى الفجر حيث بدأ نور شمس البرّ يشرق عليه. أما المكافأة التي نالها فهي شهوة قلب كل مؤمن حقيقي، إذ لم يُعد يُدعى يعقوب الذي يعني "يتعقب" بل "إسرائيل" وتعني "رؤية"، وكما يقول القديس أغسطينوس "اسم عظيم يحمل بركة عظيمة"[439].

v     يقول الرب قي الإنجيل: "ملكوت السماوات يغتصب والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12)... يقول ليعقوب: "أطلقني لأنه قد طلع الفجر" (تك 32: 26)، أجابه: "لا أطلقك إن لم تباركني". وبارك يعقوب؛ كيف؟ بتغيير اسمه... انظروا إنه إنسان واحد، من جانب لًمس وجفَّ (يعقوب)، ومن جانب آخر تبارك لينال قوة (رؤية الله)[440].

القديس أغسطينوس  

يرى القديس كيرلس الكبير أننا مادمنا في ليل هذا العالم نصارع، لكن إذ يحل فجر الأبدية لا يوجد بعد مجال للصراع بل لرؤية الله.

v     أنتم ترون كيف أنه لم يستمر في الصراع عند بدء النهار. في الواقع لا يوجد صراع للذين بالفعل عاشوا في النور. فالذين جاءوا إلى مثل هذه العظمة يليق بهم أن يقولوا: "يا الله إلهي أترقبك من النور" (مز 62: 2 LXX). وأيضًا: "في الصباح تسمع صوتي، انتظرتك وستراني" (مز 5: 4 LXX). عندما يشرق نور البرّ، أي المسيح في عقولنا ويُقدم بهاءه في قلوبنا، عندئذ ننتظر كنفوسٍ نبيلةٍ، ونتأهل  للاهتمام الإلهي: "عينا الرب على الأبرار" (مز 34: 15). عند الفجر يتوقف الصراع[441].

القديس كيرلس الإسكندري

7. دورها في حياة يوسف

وهي التي لم تترك البارَّ الذي باعوه،

بل نشلته ُمن الخطيئة، ونزلت معه في الجب. [13]

إذ سلم يوسف نفسه للحكمة بروح التقوى، أنقذته من الجب، ونشلته من إغراءات امرأة فوطيفار وسندته في السجن، وصعدت به إلى العرش، وقدمت له مجدًا عظيمًا!

لم يتعلم يوسف الحكمة البشرية والسحر، لكنه بالتقوى غلب الحكماء والمشيرين والسحرة، وصار شاهدًا لعمل حكمة الله في أرض غريبة! صار بسيرته وسلوكه، معلمًا الشيوخ الحكمة (مز 105: 17-22).

ماذا يعنى الحكيم بقوله إن "الحكمة لم تترك البار [13]، ولم تفارقه [14]؟

حين بيع يوسف البار وحين وضع في القيود، كانت الحكمة ملازمة له، لأنه كان رمزًا للسيد المسيح الذي بيع كعبدٍ خلال خيانة تلميذه يهوذا له، ووضع في القيود حين قُدم للمحاكمة. جاءت حياة هذا البار تحمل صورة رائعة كرمز للسيد المسيح من جوانب متعددة، يكفي أن أذكر ما كتبه القديس أفراهاط كمثالٍ لما ورد في كتابات الآباء في هذا الشأن.

v     كان يوسف مضطَهدًا، وكان إخوته هم المضطهِدِين. يوسف تمجد، ومضطِهدوه سجدوا له، فتحققتِ أحلامه ورؤياه.

كان يوسف المُضطَهد رمزًا ليسوع المُضطَهد.

يوسف ألبسه والده قميصًا بألوان كثيرة، ويسوع ألبسه أبوه جسدًا من البتول.

يوسف أحبه أبوه أكثر من إخوته، ويسوع هو العزيز المحبوب لدي أبيه.

رأي يوسف رؤى وحلم أحلامًا، وتحققت الرؤى والأنبياء في يسوع.

كان يوسف راعيًا مع إخوته، ويسوع هو رئيس الرعاة.

عندما أرسله أبوه ليفتقد إخوته رأوا يوسف قادمًا وخططوا لقتله، وعندما أرسل الآب يسوع ليفتقد إخوته قالوا: "هذا هو الوارث، هلم نقتله" (مت 21: 38).

ألقي إخوة يوسف أخاهم في الجب، ويسوع أنزله إخوته ليسكن بين الموتى.

يوسف صعد من الجب، ويسوع قام من بين الأموات.

يوسف بعد أن قام من الجب صار له سلطان على إخوته، ويسوع بعد أن سكن بين الأموات أعطاه أبوه اسمًا عظيمًا ممجدًا (في 2: 9) ليخدمه إخوته ويخضع أعداؤه تحت قدميه.

يوسف بعد أن عرفه إخوته خجلوا وخافوا واندهشوا أمام عظمته، وعندما يأتي يسوع في آخر الزمان، ويعلن عظمته سيخجل إخوته ويخافون ويرتعبون أمامه لأنهم صلبوه.

علاوة على هذا فإن يوسف بيع إلي مصر بناء على مشورة يهوذا، ويسوع سُلم لليهود بيدي يهوذا الإسخريوطي.

عندما باعوا يوسف لم يجب إخوته بكلمة، ويسوع أيضًا لم ينطق ولا أجاب على القضاة الذين حاكموه.

يوسف سلمه سيده للسجن ظلمًا، ويسوع أدانه أبناء شعبه ظلمًا.

سلم يوسف ثوبيه، واحد في أيدي إخوته، والآخر في يد زوجة سيده، ويسوع سلم ثيابه وقسمت بين الجند.

يوسف إذ كان في الثلاثين من عمره وقف أمام فرعون وصار سيد مصر، ويسوع إذ بلغ الثلاثين جاء إلي الأردن ليعتمد وقبل الروح وخرج يكرز.

يوسف عال مصر بالخبز، ويسوع عال العالم كله بخبز الحياة.

يوسف أخذ ابنة الكاهن الشرير النجس زوجة له، ويسوع خطب لنفسه الكنيسة من الأمم النجسين.

مات يوسف ودُفن في مصر، ومات يسوع ودُفن في أورشليم.

عظام يوسف أصعدها إخوته من مصر، ويسوع أقامه أبوه من مسكن الموت ولبس جسده وارتفع به إلي السماء في غير فساد[442].

القديس أفراهاط الحكيم الفارسي

ولم تُفارقه في القيود،

حتى أتته بصولجان المُلك،

وبسلطانٍ على الذين كانوا مُتسلطين عليه،

فكذَّبت الذين كانوا يأخذون عليه المآخذ،

وآتته مجدًا دائمًا. [14]

لازمته الحكمة في قيوده لتدخل به إلى المجد، فعوض كونه سجينًا صار صاحب سلطان، يمد الذين تسلطوا عليه بالمؤنة، ولعله يقصد هنا فوطيفار وأهل بيته، والسجان ومن معه، وأيضًا اخوته الذين كانوا يطلبون قتله وباعوه عبدًا.

كان البعض يتطلعون إليه كمجرمٍ مُلقى في السجن، ويحسبون ما حلّ به علامة شره وغضب الله عليه، لكن حكمة الله (الله الكلمة) كشف عن برِّه، أعلن أن آلامه وضيقاته لم تكن إلا لمجده في هذا العالم كما في العالم العتيد، إذ "أتته مجدًا أبديًا.

v     أنظروا كيف حدث فجأة أن السجين يصير ملكًا على كل مصر؛ الذي أُرسل إلى السجن بواسطة رئيس الشرطة رفعه الملك إلى أعلى مرتبة.

تطلع سيده السابق، فرأى فجأة أن الرجل الذي ألقاه في السجن كزانٍ قد كوفئ بنوال سلطانٍ على كل مصر. ألا ترون أهمية احتمال التجارب بشكر؟ لهذا يقول بولس: "الضيق ينشئ صبرًا، والصـبر تزكية، والتزكية رجاءً، والرجاء لا يخزى" (رو 5: 3- 5). لاحظوا: يوسف احتمل الضيق بصبرٍ، والصبر قدم له تزكية، والتزكية عملت في رجاءٍ، والرجاء لم يجعله يخزى[443].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     ما هو معنى الخاتم الذي وضع في إصبعه (تك 41: 42)؟ إنه فقط لكي نفهم أن مركز الأسقفية بالإيمان قد منح له حتى يستطيع أن يختم آخرين. وماذا عن الثوب إلا أنه ثوب الحكمة؟ هذا وحده الذي التفوق في الحكمة الذي وهبه له ملك السماء.  يظهر طوق الذهب ليمثل الفهم الصالح. والمركبة (تك 41: 43) أيضًا تشير إلى الأعالي المجيدة التي تأهل لها[444].

القديس أمبروسيوس

v     "أسرعوا به من السجن، فحلق رأسه، وأبدل ثيابه" (تك 41: 14)، حينئذ أمكن دخوله إلى الملك. هكذا من كان مربوطًا في حبس الخطية، وأسيرًا في شهوات العالم، بعيدًا عن الله، لا يمكنه أن يصل إليه حتى يخرج من ذاك الحبس النجس، أعني يترك فعل الخطية، ويحلق فضولات شعر رأسه التي هي أفكار عقله المحبة للخطية، ويستبدل ثيابه التي هي أعماله الرديئة بأعمال صالحة. فمن نقى قلبه من الأفكار الرديئة هكذا، وأبدل أعماله الخاطئة بأعمالٍ بارة، يستحق الدخول إلى المسيح، ملك الملوك، والتناول من جسده ودمه الكريم[445].

القديس أفرام السرياني

8. دورها في حياة الشعب

يختم السفر كله بحديثٍ مسهب يوضح به كيف حفظت العناية الإلهية الشعب خلال أحداث الخروج بكونها أهم حدث في تاريخ الشعب، كرمز للخروج الذي يتمتع به العالم خلال المصلوب. أوضح الكاتب العناية الإلهية خلال أمثلة تحمل مقابلات. جاء هذا الفصل أشبه بعظة أو مجموعة عظات تفسيرية لسفر الخروج.

وهي التي أنقذت شعبًا بارًا،

وذرية لا عيب فيها،

من أمة مضايقين. [15]

بعد أن تحدث عن عمل حكمة الله في حياة الأفراد، ليكشف عن اهتمامه بكل شخص، يتحدث عن الحكمة الإلهي الذي ينقذ الشعب المقدس.

يدعو الله شعبه "شعبًا مقدسًا، "ذرية لا عيب فيها"، لأنه يقدس شعبه ويطهرهم من كل خطية. ويدعو مصر التي سخرتهم وأذلتهم "أمة مضايقين".

حقًا لا يكف العالم عن أن يمرر حياة الكنيسة الحقيقية بالظلم في قسوة (خر 1: 14)، لكن الله يعتز بها بكونها كنيسته المقدسة المتألمة التي بلا لوم، فيدعوها: كلكِ جميل يا حبيبتي، ليس فيك عيبه" (نش 4: 7). فإنها لن تسمع هذا المديح من الفم الإلهي ما لم تشارك عريسها – حكمة الله – آلامه وصلبه.

v     يقول العريس: "أذهب إلى تل المر وإلى جبل اللبان" (نش 6:4)... بعد ما ذاق المسيح الموت عن الخطاة (رو 8:5). خلصت الطبيعة البشرية من وصمة الخطية بعد أن رفع حمل الله خطية العالم وحطم الإثم (يو 29:1). لذلك يقول النشيد "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة" ويضيف إلى ذلك سرّ الانفعال الذي يرمز إليه المرّ ثم يذكر خليط الأعشاب العطرة والبخور التي تُشير إلى ألوهية المسيح. أن الذي يشارك المسيح في المرّ سوف يحصل على رائحة الأعشاب العطرة والبخور، لأن الذي يتألم معه سينال المجد معه (رو 17:8). وعندما يكون في المجد الإلهي سيحصل على الجمال الكامل ويكون بعيدًا جدًا عن كل عيبٍ بغيضٍ. بواسطة المسيح ومن خلال المسيح تنفصل عن الخطية. إنه مات وقام من الأموات لأجلنا[446].

القديس غريغوريوس النيسي

هكذا أنقذ حكمة الله الشعب بقبوله الصلب، حتى يُصلب الشعب معه، ويقوم معه في مجدٍ فائق، ويتأهل المؤمنون الحقيقيون للسماء.

لقد أذل فرعون الشعب وسخره للعمل في الطين وبناء ثلاث مدن، مستعبدًا إياهم. وهو في هذا يمثل عمل عدو الخير مع البشرية، بني آدم.

v     كان فرعون يستعبد بني إسرائيل في بناء مدنٍ له. كان فرعون يوكل مسخرين من جنوده ببني إسرائيل، يستحثونهم على أعماله. وكان إبليس يوكل ببني آدم شياطين يستحثونهم على أعماله الرديئة في أعمال الخطية.

كان فرعون يوكل جنوده ليستعبدوا بني إسرائيل على عمل الطوب، وكان إبليس يستحث بني آدم في الأعمال الأرضية السفلية.

ذكر الكتاب المقدس أن بني إسرائيل بنوا لفرعون مدنًا عظيمة (خر 1: 11)... وتستحث الشياطين بني آدم ليقيموا خطايا عظيمة هي أصل كل الشرور: محبة الفضة، وشهوات الجسد، والمجد الباطل[447].

القديس مار افرام السرياني

حقًا ماذا نتوقع من قلب فرعون الترابي المملوء وحلاً إلا أن يصدر أوامره بتسخير بني إسرائيل في عمل الطين؟[448]

v     فإن الشيطان الذي يؤذي الناس ويفسدهم يهتم بشدة بألا يتطلع رعاياه إلى السماء، بل أن ينحنوا إلى الأرض ويصنعوا الطوب اللبن – داخل أنفسهم - من الطين. ومن الواضح للجميع أن ما ينتمي إلى المتعة المادية يتكون بالتأكيد من التراب والماء، وينطبق هذا على من يهتم بشهوة الطعام أو شهوة المال والثروة.

يتحول مزيج هذين العنصرين – التراب والماء - إلى طين. ومن يشتاقون إلى الملذات يكونون كمن يشتاقون إلى الطين، ويظلون يملأون أنفسهم منه، ومع ذلك لا يمتلئون أبدًا، ويصبح المكان الذي يستقبل الطين فارغًا قبل أن تصب فيه المرة التالية. وبنفس الطريقة يظل صانع الطوب يصب مزيدًا من الطين في القالب والقالب يفرغ باستمرار. ويمكن للجميع بسهولة أن يفهموا معنى هذه الصورة البلاغية بالنظر إلى الجانب الشهواني للنفس.

الذي يتبع رغباته وما يشتهيه إذا حقق رغبة له ثم تحول برغبته إلى شيء آخر يجد نفسه فارغًا مرة أخرى من ناحية هذا الشيء، وإذا امتلأ منه يعود فارغًا كإناء فارغ في طلب شيء آخر وهكذا. ونحن لا نتوقف عن هذا إلى أن نرحل من هذه الحياة المادية.

وبالنسبة للقش والتبن الذي كان يجب على الخاضعين لأوامر الطاغية أن يخلطوه بالطوب اللبن، فإن كلا من الإنجيل المقدس والصوت السامي للرسول (بولس) يفسرانهما بأنهما مواد للحرق (حز 5: 4؛ مت 3: 12)[449].

القديس غريغوريوس النيسي

وحلت في نفسَ عبدٍٍ الربَ،

وقاومت مُلوكًا مرهوبين بخوارق وآيات. [16]

إن كانت حكمة الله قد أقامت موسى النبي قائدًا لخلاص شعبه، فإن سرّ القوة لا في شخص موسى، وإنما في حكمة الله التي حلت في نفسه بكونه عبد الرب، أما مقاومة فرعون ورجال جيشه فلم تكن عن حكمة موسى البشرية، ولا خططه، ولا قدراته، إنما الذي صد الهجمات المستمرة هو "حكمة الله".

ما حدث مع موسى النبي لتحقيق الخروج كان رمزًا لتحقيق خروجٍ من أسر إبليس إلى الحضن الإلهي. إنه رمز لما يتمتع به المؤمنون بالمسيح يسوع مخلص العالم، والنصرة الفائقة لهم على إبليس ومملكته.

وما تم من آيات وعجائب مثل الضربات العشر، هي من عمل حكمة الله. أما وسيلته للتمتع بعمل الحكمة فهي الإيمان مع الصلاة. 

استخدم صيغة الجمع يشير إلى مقاومة الملوك المحيطين بهم أثناء تجولهم في البرية بجانب مقاومة فرعون لهم وهم في مصر وبعد خروجهم مباشرة. وربما يقصد بالملوك حكام أقاليم مصر.

v     بالفصح خرج هؤلاء من عبودية فرعون، ونحن في يوم الصلب نخلص من عبودية الشيطان.

هم ذبحوا حملاً من القطيع، وبدمه نجوا من المفسد، ونحن خلصنا بدم ابن مختار من أعمال الفساد التي عملناها.

كان لهم موسى قائدًا، ونحن لنا يسوع هاديًا ومخلصًا.

شق لهم موسى البحر وأجازهم، وأما مخلصنا فشق الجحيم وحَّطم أبوابه، ودخل إلي الداخل وفتحها. ورسم الطريق أمام كل الذين يؤمنون به.

وهبهم موسى الماء من الصخرة، وأجرى لنا مخلصنا الماء الحيّ من صدره.

وعدهم موسى بأرض الكنعانيين ميراثًا، ووعدنا ربنا بأرض الحياة ملكًا.

رفع موسى حية نحاسية، كل من ينظر إليها يبقى حيًا بالرغم من لدغة الحية. وعلق يسوع نفسه وكل من يتطلع إليه ينجو من جرح الحية التي هي الشيطان.

صنع لهم موسى الخيمة الوقتية ليقدموا فيها الذبائح والقرابين، فيطهروا من خطاياهم. وأقام يسوع خيمة داود الساقطة (عا 9: 10؛ أع 15: 16) وقام. وقد قال لليهود: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19). وقد فهم تلاميذه إنه تحدث عن جسده الذي يقيمه بعد ثلاثة أيام حين يقتلونه. ففي هذه الخيمة وعدنا بالحياة وبها تطهر خطايانا.

دعا خيمتهم خيمة وقتية، لأنها تخدم زمنًا قصيرًا، ودعا خيمتنا هيكل الروح القدوس الذي يدوم إلي الأبد (1 كو 3: 16؛ 6: 19)[450].

v     أخرج موسى شعبه من خدمة فرعون، وخلّص يسوع الشعوب من خدمة الشيطان.

ترَّبي موسى في بيت فرعون، وتربي يسوع في مصر حين هرب به يوسف إلي هناك.

وقفت مريم على حافة النهر حين طاف موسى فوق الماء، وحملت مريم بيسوع حين بشرها الملاك جبرائيل.

حين ذبح موسى الحمل قتل أبكار المصريين، وصار يسوع الحمل الحقيقي حين صلبوه، وبموته مات الشعب القاتل.

أنزل موسى المن لشعبه، ووهب يسوع جسده للشعوب.

بالخشبة حلَّى موسى المياه المرة، وبصليبه حلَّى يسوع مرارتنا بخشبة شجرة صليبه.

أنزل موسى الناموس لشعبه، ووهب يسوع عهوده للشعوب.

قهر موسى عماليق عندما بسط يديه، وقهر يسوع الشيطان بعلامة الصليب.

أخرج موسى لشعبه مياهًا من الصخرة، وأرسل يسوع سمعان صفا ليحمل تعليمه بين الشعوب.

رفع موسى البرقع عن وجهه وتكلم مع الله، وأنتزع يسوع البرقع عن وجه الشعوب ليسمعوا تعليمه ويقبلوه.

وضع موسى يده عل رسله فقبلوا الكهنوت، ووضع يسوع يده على رسله فنالوا الروح القدس.

صعد موسى الجبل، ومات هناك، وصعد يسوع إلي السماء، وجلس عن يمين الآب[451].

القديس أفراهاط الحكيم الفارسي

v     عندما رأى موسى أن جميع الرعية (المصريين) كانوا متفقين مع قائدهم (فرعون) في شره، أوقع ضربة على كل المصريين ولم ينجُ أحد من الكوارث (خر 7: 17 الخ). وكانت عناصر الكون كلها – الأرض والماء والهواء والنار التي تدخل في كل شيء في الوجود - تتعاون معه في هذا الهجوم على المصريين، وكأنها جيش ينفذ الأوامر، وغيرت هذه العناصر قوانينها الطبيعية لخدمة الأغراض البشرية[452]. ففي نفس الوقت والمكان وبنفس القوة كان الخطاة يعاقبون وغير الخطاة لا يعانون من شيء[453].

القديس غريغوريوس النيسي

وجازتِ القديسين ثواب أتعابهم،

وهَدَتْهم طريقًا عجيبًا،

وكانت لهم ملجأً في النهار،

وضياءَ نُجومٍ في الليل. [17]

يشير هنا حتى إلى الجزاء المادي حيث اخذوا الأشياء الثمينة التي للمصريين مقابل استعبادهم وحرمانهم من حقوقهم (خر 3: 21- 22؛ 11: 2-3؛ 12: 35-36). ولعله يشير بالمجازاة التحرر من العبودية.

"ملجأ في النهار"، حيث كانت السحابة مرشدًا لهم وفى نفس الوقت ملجأ لحمايتهم من حرّ الشمس. "يخلق الرب على كل مكانٍ من جبل صهيون وعلى محفلها سحابة نهارًا، ودخانًا ولمعان نار ملتهبة ليلاً، لأن على كل مجدٍ غطاء؛ وتكون مظلة للفيء نهارًا من الحرّ ، وملجأ ومخبأ من السيل ومن المطر" (إش 4: 5-6).

فسر الحكيم هنا ظهور ظهور الرب كسحابة تظللهم نهارًا وعمود نار يضيء لهم ويقودهم أنه هو الحكمة أو حكمة الله (الذي تجسد فيما بعد ليخلص العالم).

v     أرسلت القوة الإلهية سحابة تقود الشعب (خر 13: 21-22)، ولم تكن هذه سحابة عادية، لأنها لم تكن مكونة من أبخرة كالسحب العادية ولم تكن تشكيلاً ضبابيًا تكون من ضغط الرياح على الأبخرة، بل كانت شيئًا يتجاوز الفهم البشري. ويشهد الكتاب المقدس بأنه كان هناك شيء غير عادي في هذه السحابة، فعندما كانت أشعة شمس الظهيرة تسطع بحرارةٍ شديدةٍ، كانت السحابة مأوى للشعب تظلل من تحتها، وترطب حرارة الجو النارية بندى خفيف. وأثناء الليل كانت تتحول إلى نار تقود الإسرائيليين – كما في موكبٍ - بضوئها من الغروب إلى الشروق[454].

القديس غريغوريوس النيسي

وعبرت بهم البحر الأحمر،

وجازت بهم غزيرَ المياه. [18]

الطريق الذي اختارته الحكمة للخروج من مصر والعبور إلى أرض الموعد هو العبور بهم البحر الأحمر واجتيازهم مياه غزيرة. لم يكن هذا هو الطريق بحسب المنطق البشري، إذ وُجد طريق سهل وممهد في ذلك الحين، الذي في جهة العريش حيث يبلغون الأردن مباشرة. لم يكن يدرك أحد السرّ في ذلك، إذ لم يكن ممكنًا لهم دخول أرض الموعد إلاَّ من خلال هذا الطريق للأسباب التالية:

1. عبور البحر الأحمر كرمز للتمتع بالمعمودية، حتى يعبر المؤمنون إلى كنعان السماوية.

2. الدخول في ضيقات وحروب، فيهلك فرعون وجنوده إشارة إلى هلاك إبليس وملائكته. وينهزم عماليق وغيرهم من الأمم، بكونهم رمزًا للخطايا التي يجب أن يسحقها بقوة الصليب خلال جهادنا بنعمة الله.

3. بقاء الشعب أربعين عامًا حتى ينسوا تمامًا كل خبرة الوثنية التي تلامسوا معها في مصر

4. لكي يموت موسى ويتسلم يشوع القيادة، فإنه لا دخول إلى الأبدية ما لم تمت حرفية الناموس ونحيا بالروح تحت قيادة ربنا يسوع (يشوع).

5. التمتع بخبرة التسبيح وسط البرية.

6. التمتع بالمنّ السماوي كرمز للتناول من جسد الرب ودمه.

7. التمتع بالاحتماء تحت جناحي الرب (السحابة) والاستنارة بروحه القدوس (عمود النار ليلاً).

v     في ذلك العبور كان عمود السحاب مرشدًا. وقد أحسن من قبلنا بتفسير عمود السحاب على أنه رحمة الروح القدس، الذي يرشد المستحقين نحو الخير، ومن يتبع الروح القدس يعبر المياه، حيث أن المرشد يصنع له فيها طريقًا، وبهذه الطريقة يقوده بأمان إلى الحرية، أما الذي يطارده ليعيده إلى العبودية فيهلك في الماء. لا يجب أن يجهل من يسمعون هذا سرّ الماء. فالذي ينزل الماء مع جيش العدو يخرج وحده تاركًا جيش العدو يغرق في الماء[455].

القديس غريغوريوس النيسي

أما أعداؤُهم فأغرقتهم،

ثُم قذفتهم من قاع العمق. [19]

v     كان موسى يراقب السحابة بنفسه وعلَّم الشعب كيف تظل في مجال الرؤية بالنسبة لهم (خر 14: 16-22). وبعد أن أرشدتهم السحابة طوال مسارهم، وصلوا إلى البحر الأحمر، حيث أحاط المصريون القادمون من خلفهم بكل جيشهم بالشعب. ولم يكن هناك مهرب من هذا الرعب متاحًا أمام الإسرائيليين من أي اتجاه لأنهم كانوا محصورين بين أعدائهم والمياه. وعندئذ قام موسى – مدفوعًا بقوة إلهية - بتنفيذ أعجب عمل لا يكاد يُصدق على الإطلاق، فقد اقترب من الشاطيء وضرب البحر بعصاه. وانشق البحر من الضربة، تمامًا كما يسري شرخ يحدث في الزجاج عند أية نقطة إلى الحافة. انشق البحر كله بهذه الطريقة من أعلى بفعل العصا، وسرى الشق في المياه حتى وصل الشاطيء المقابل. وفي المكان الذي انشق فيه البحر نزل موسى إلى العمق مع كل الشعب دون أن يبتلوا، وكانت أجسامهم مازالت مغمورة بضوء الشمس. وبينما كانوا يعبرون الأعماق سيرًا على الأقدام على القاع الجاف، لم يقلقوا من منظر الماء الممتد إلى أعلى بهذا القرب منهم على الجانبين، لأن البحر كان قد ثبت مثل جدارٍ على كلا الجانبين.

وعندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا وراءهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلاً عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات[456].

v     من هو ذاك الذي لا يعرف أن الجيش المصري بجياده ومركباته وسائقيها ورماته (بالقلاع والأقواس) وجنوده المسلحين بأسلحة ثقيلة وباقي قوات العدو في خط المعركة هم رمز للأهواء المختلفة للنفس التي تستعبد الإنسان[457]، فإن الدوافع الفكرية والميول الحسية غير المنضبطة للمتعة والألم والجشع مشابهة تمامًا للجيش الذي ذكرناه. والسباب والشتيمة هما مثل الأحجار التي ترمى بالقلاع، والتهور هو سن الرمح المتحرك. أما حب المتعة فهو يتمثل في الجياد التي تجر المركبة بدافع لا يمكن مقاومته.

نقرأ في التاريخ بسفر الخروج أن المركبة كان بها ثلاثة يقودونها يسمون "القادة[458]"، وحيث أنك قد تعلمت من قبل سرّ قائمي الباب وعتبته العليا، فتدرك أن هؤلاء الثلاثة الذين تحملهم المركبة يماثلون التقسيم الثلاثي للنفس: العقلاني والعاطفي والروحي.

يندفع كل الجيش في الماء مع الإسرائيليين الذين تقدموه في العبور المهلك (للجيش). عندئذ نجد عصا الإيمان تقود الطريق وعمود السحاب يعطي ضوءً، ويعطي الماء والحياة لمن يجدون فيه ملجأً، ويهلك مطارديهم[459].

يعلمنا التاريخ (الكتاب) هنا عن نوع الناس الذين سيعبرون الماء ولا يأخذون معهم أيًا من جيش الأعداء وهم يخرجون من الماء. فإنه لو خرج العدو معهم من الماء فسيستمرون في العبودية بعد خروجهم حيث أحضروا الطاغية حيًا معهم ولم يغرقوه في الماء. وإذا أراد أحد توضيح الرمز في هذه الصورة فإن الواضح هو أن الذين يمرون في ماء المعمودية المقدس يجب أن يقتلوا جيش الشر كله، هذا الجيش الذي يشمل الجشع والرغبات غير المنضبطة وأفكار الطمع وأهواء الغرور والصلف، والتهور، والغضب، والحقد والحسد وكل هذه الأشياء. وحيث أن الأهواء بطبيعتها تتبع طبيعتنا، فإننا يجب أن نقتل في الماء الميول الوضيعة للعقل والأعمال التي تنتج عنها[460].

القديس غريغوريوس النيسي

ولذلك فالأبرار سلبوا الأشرار،

وأشادوا باسمك القدوس أيها الرب.

وحمدوا بقلبٍ واحدٍ يدك التي حمتهم. [20]

لم يذكر سفر الخروج مصير جيش فرعون بعد غرقه في البحر. هنا يذكر أن الجثث بعد أن غاصت إلى الأعماق طفت فوق المياه, وقام الإسرائيليون بسلب ما بالجثث الميتة.

جاء هذا التقليد في يوسيفوس[461]، ألا وهو سلب العبرانيين ما كان لدى المصريين الذي ماتوا غرقى في البحر الأحمر، الأمر الذي لم يرد في سفر الخروج.

v     عندما طاردهم فرعون والمصريون ونزلوا ورائهم في البحر في الممر الذي انشق حديثًا، انضمت جدران الماء مرة أخرى، واندفع البحر ليأخذ شكله السابق، وأصبح كتلة مائية واحدة (خر 14: 23-31). وفي ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد بلغوا الضفة الأخرى بعد السير الطويل والمُجهِد في البحر، وعندئذ أنشدوا تسبحة النصرة لله الذي صنع فعلاً عظيمًا بدون سفك دم من ناحيتهم، حيث دمر كل جيش المصريين في الماء، كل الخيل والمشاة والمركبات[462].

القديس غريغوريوس النيسي

لأن الحكمة فتحت أفواه الخرس،

وأوضحت ألسنة الأطفال. [21]

جاء في الترجوم أن بعض أطفال العبرانيين الذين هُددوا بالموت في مصر حملتهم ملائكة إلى البرية، واشتركوا فيما بعد في الرحلة في البرية.

لعل الأطفال اشتركوا مع الشعب في التسبيح (خر 15).


 

من وحي الحكمة 10

حبك فائق يا أيها الساهر على شعبك!

v     خلقت كل شيء لتعد القصر لأبي آدم،

أتيت به إلى جنة عدن كقصرٍ ملوكيٍ.

أحببته وقدمت له كل سلطان.

وعندما سقط لم تتخلَ عنه.

قدمت له الوعد بالخلاص.

أتيت من أجله ومن أجل بنيه،

وحملت صليب العار لأجل خلاصهم.

لك المجد يا آدم الثاني، أب البشرية!

 

v     أرسلت نارًا التهمت ذبيحة هابيل،

تنسمتها رائحة سرور ورضى.

لكن أخاه التعس اعتزلك.

فملك الغضب عليه، وقتل أخاه!

هب لي ألا أسحب يدي من يدك.

ولا أغلق باب قلبي أمامك.

فأحب إخوتي حتى المقاومين لي.

 

v     فاحت رائحة الفساد والرجاسات في العالم.

ولم يُعد من أملٍ للإصلاح،

إذ كانت البشرية تستخف بخالقها.

تطلعت من السماء فاحتضنت نوحًا البار.

أعددت له فلكًا، وأغلقت عليه بنفسك.

وسط الطوفان كان نوح محفوظًا في قلبك.

وسط الدمار الشامل،

كان الفلك موضع إعجاب السمائيين.

احملني في صليبك فلك الخلاص،

ليس من ينقذني سوى صليبك،

يدخل بي إلى الكنيسة، سفينتك المقدسة!

 

v     أعطى الشعب ظهورهم لك،

عوض الحكمة الإلهية، طلبوا المكر البشري.

قرروا أن يبنوا برجًا رأسه في السماء،

يحميهم من طوفانٍ قادمٍ مدمرٍ!

يا للغباوة! تشتتوا وتفرقوا.

عوض انطلاقهم إلى السماوي،

صاروا أممًا متحاربة بلا سلام!

 

v     وسط العالم كله وُجد إبراهيم خليلك.

أحبك واقتناك.

بفرح أراد تقديم ابنه الوحيد ذبيحة محرقة.

فأقمت من ابنه شعبًا لك.

وتجسدت من العذراء مريم التي من نسله.

لك المجد يا من بك تتبارك كل الأمم.

 

v     وسط سدوم الفاسدة عاش لوط وعائلته.

كان البار يعذب نفسه بأعمالهم الأثيمة.

اقتناك، فلم يستطع أن يشترك معهم في شرورهم.

وحين أخرجته منها، وأنزلت نارًا عليها،

لم يفكر قط في التطلع إليها،

ولا حتى من أجل حب الاستطلاع.

عاش وسطهم وقلبه في عزلة من فسادهم،

فكيف بعد خروجه ينظر إليهم؟

امرأته حرمت نفسها منك.

رجع قلبها إلى سدوم، ونظرت إلى خلف.

فقدت كل إحساس، فصارت عمود ملحٍ.

صارت تمثالاً يشهد عن كل نفس تُحرم من الاتحاد بك!

في حماقتها صارت هي نفسها شهادة للحماقة والجهالة!

 

v     اقتناك أبونا يعقوب واتكأ عليك.

وسط ضيقاته المرة وجدك حجر الزاوية،

وضع رأسه عليك، فانفتحت بصيرته.

رأى صليبك سلمًا يصعد به إلى السماء.

بك تحولت البرية له إلى سماءٍ مفتوحة.

أبغضه أخوه، فشاهد ملائكة نازلين إليه يرافقونه.

ورأى ملائكة صاعدين به ليتمتع بك.

تحولت مرارة نفسه إلى عذوبة فائقة.

 

v     لم يقتنك لابان خاله وحماه،

فوضع في قلبه أن ينتقم من يعقوب.

عوض روح الانتقام أقمت منه شاهدًا

على حبك وعملك مع يعقوب!

لم تأمره أن يرجع مع رجاله إلى حيث كان،

بل أمرته أن يلتقي بيعقوب،

ويشهد لك أنك ترعاه وتحفظه.

يا للعجب، فإنك تحول المقاومين إلى شهود لحبك.

 

v     حولت قيود يوسف في السجن،

إلى طريق للعبور إلى العرش.

صار السجين الرجل الثاني في المملكة.

وقف رئيس الشرطة في ذهول.

ذاك الذي دخل به إلى السجن،

الآن يسأله خبزًا له ولأسرته.

التي أرادت أن تشبع شهوات جسدها،

دخلت به إلى السجن.

الآن هوذا جسدها يحتاج إلى خبزٍ، من يقدمه لها غيره؟

صيَّرت السجين مصدر شبع لكل مصر وللبلاد المحيطة بها.

صار رمزًا لك يا مشبع النفوس.

أشرقت عليك ليدرك مجدك الأبدي.

 

v     سمعت أنين شعبك فأنَّت أحشاؤك عليه.

أرسلت لهم قائدًا،

حفظته لهم في قصر فرعون نفسه،

وهبته أن تتكلم على فمه،

وأعطيته  أن يصنع عجائب وآيات باهرة.

 

v     راعيت شعبك بنفسك.

ظللتهم كسحابةٍ في النهار،

وكنت قائدًا لهم كعمود نارٍ بالليل

 

v     عبرت بهم وسط البحر،

وجزت بهم في موكب فريد.

أما الذين رفضوك، فصار الطريق قبرًا لهم.

رفضوك يا أيها الحياة فتلقفهم الموت.

 

v     حولت شعبك إلى خورس ملائكة.

يسبحونك وسط البرية،

ويتهللون من أجل فيض حبك!

 

<<


 

الأصحاح الحادي عشر

غاية الحكمة للأبرار والأشرار

يكشف المعلم الروحي الماهر عن ما وراء أحداث الخروج, مبرزًا دور الحكمة الإلهية الفائق بالنسبة للمؤمنين كما بالنسبة للوثنيين عبدة الأصنام.

إن كان الله هو مصدر الحكمة، بل هو الحكمة ذاتها، ففي اقترابنا منه ننال رحمته. والبعد عنه هو حرمان من الرعاية الإلهية وفقدان للأبدية.

بحكمةٍ يسقط المؤمن تحت التأديب الصادر عن أبيه، أما الشرير فيسقط تحت العقاب كما من ملك يقضي عليه (10:11-11). ومع هذا فإن الله ليس عنده محاباة: "لكنك ترحم الجميع، لأنك قادر على كل شيءٍ، وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا، لأنك تحب جميع الكائنات، ولا تمقت شيئًا مما صنعت، فإنك لو أبغضت شيئًا لما كوِّنته... إنك تشفق على كل شيءٍ، لأن كل شيءٍ لك أيها السيد المحب للحياة" (25:11-27).

1. إقامة قائدٍ1-3.

2. المقابلة الأولى: ماء للموت في مصر وآخر للحياة في البرية 4-9.

3. الله الأب والحاكم!10-14.

4. حلم الله في معاملته مع مصر15.

5. المقابلة الثانية: سلوى في البرية مقابل ضربة الحشرات16-20.

6. ما وراء حِلم الله21-26.

1. إقامة قائدٍ

وأنجحت مساعيهم بيد نبيٍ قديسٍ. [1]

بعد أن تحدث عن عمل الحكمة في حياة الآباء الأولين يسجل لنا الآن عن عملها مع الشعب تحت قيادة موسى "نبي قديس"، قائد مسيرة الخروج. وكما قيل عنه: "إن كان منكم نبي للرب، فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي، فمًا إلى فمٍ وعيانًا أتكلم معه، لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين" (عد 12: 6-8).

كما تحاشى ذكر أسماء الأبرار السابقين، تجنب هنا أيضًا اسم موسى النبي القديس.

في كل عصر يرسل الله قادة قلوبهم ملتهبة بالروح، يعملون على الدوام لحساب ملكوت الله. يختار الله القائد المناسب لكل عصر، كما يؤهله بسماتٍ وإمكاناتٍ تتناسب مع ظروف العصر. فأرسل موسى ليقود الشعب في رحلة الخروج. وأعدّ الله يشوع رمزًا ليسوع المسيح، ليدخل بهم إلى أرض الموعد، وأقام داود ليُصلح ما أفسده شاول، وأعدّ سليمان لبناء الهيكل، وأرسل القديس أثناسيوس لمقاومة آريوس، والقديس كيرلس الكبير لمقاومة نسطور.

v     بعد أن أُعطي موسى سلطانًا من الثيؤفانيا (رؤية الله) التي ظهرت له، تلقى أمرًا بأن يحرر مواطنيه العبرانيين من عبودية المصريين. ولكي يتحقق أكثر من القوة التي وضعها الله فيه، اختبر الأمر الإلهي بالأشياء التي في يديه (خر 4: 1-7)، فعندما سقطت العصا من يده دبت فيها الحياة[463]، وعندما أمسكها بيده مرة أخرى عادت إلى ما كانت عليه. وعندما أخرج يده من صدره (عُبَّه) صارت برصاء كالثلج، وعندما وضعها مرة ثانية في صدره عادت إلى لونها الطبيعي[464].

v     بعد أن اكتسب موسى قوة من الضوء الذي تجلى له، وجاء أخوه كحليفٍ ونصيرٍ له، أعلن للشعب بجرأة بشرى الحرية، وذكَّرهم بعظمة آبائهم. وعبَّر عن رأيه بالنسبة للطريقة التي يمكن أن يخلصوا بها من العمل الشاق في صنع الطوب اللبن (خر6).

ماذا نتعلم من هذا؟

يجب أن نتعلم أن مَنْ لم يعد نفسه بهذا النوع من التدريب الروحي ليُعَلِم الجموع لا يجب أن يتحدث إلى الناس. فإننا نرى أن موسى عندما كان مازال صغيرًا ولم ينضج بعد ويصل إلى درجة رفيعة في الفضيلة، لم يبالِ الرجلان اللذان كانا يتشاجران بنصيحته السليمة ولم يقبلاها. ومع ذلك فبعد نزوله من الجبل خاطب عشرات الآلاف بنفس الطريقة.

إن تاريخ موسى يوضح لنا بجلاء أنه يجب ألا نتجرأ على إعطاء النصائح لسامعينا في تعليمنا لهم إلا إذا اكتملت فينا القدرة على ذلك بالتدريب الطويل والشاق مثلما كان لموسى[465].

القديس غريغوريوس النيسي

فساروا في بريَّة غير مسكونة،

ونصبوا خيامهم في أماكن لم تطأها قدم. [2]

كان قائد رحلة الخروج الحقيقي هو حكمة الله، فلم يكن للشعب وللقائد خبرات سابقة في رحلة شعب وسط برية مقفرة فلا ضمانات، في طريق مرعبة خاوية ليس بها أثر للحياة.

واجهوا في رحلتهم أعداء جبابرة مثل عماليق وغيرهم، ولم يكونوا رجال حرب، ولا معهم أسلحة، فجاءت النصرة هبة إلهية قُدمت لهم.

تجنب أيضًا الإشارة إلى أسماء معينة مثل هرون ومريم وغيرهما، فإن ما قدمته حكمة الله هو لكل الجماعة إن تقدست في الرب.

وقاوموا مُحاربيهم، وردُّوا أعداءهم. [3]

ليس من وجه للمقارنة بين شعب عاش في عبودية، لم يمارس الحياة العسكرية مطلقًا، وليس لديه أسلحة، وبين أعداء أقوياء أصحاب خبرة في القتال. لكن حكمة الله، أو كلمة الله كان القائد الخفي، واهب النصرة.

2. المقابلة الأولى: ماء للموت في مصر وآخر للحياة في البرية

إذ عطشوا دعوا إليكَ،

فأُعطوا ماءً من صخرة الصوان،

وشفاءً لغليلهم من حجر صلد. [4]

فرغ الماء من أوعيتهم في وسط صحراء قاحلة، هؤلاء الذين عاشوا كل أيامهم يعتمدون على مياه النيل، وبالمنطق البشري ليس من سبيل للحياة، لكن حكمة الله عملت، ووُهب لهم ينبوع ماء يتفجر من صخرة صلبة ترافقهم (خـر 17: 1-7؛ عد 20: 2-13)، دون مجهود بشري. إذ لم يطالبهم بحفر آبار يشربون منها. هذه العطية المجانية لا تُقدر بثمنٍ، فهي موضوع حياة أو موت؛ موضوع وجود للشعب أو دمار لهم. لذا صارت هذه الصخرة رمزًا للسيد المسيح واهب القيامة. "وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1 كو 10: 4).

إذ أراد الكاتب منا أن نعطش إلى ماء الحياة، فنشرب من ينابيع حب السيد المسيح، حكمة الله، ركز أنظارنا على التجاء الشعب إلى الله ليرتووا، ولم يشر إلى تذمرهم (خر 17: 2-3)، وأنهم كادوا أن يرجموا موسى.

ما يشغل الكاتب ليس العرض التاريخي للأحداث، إنما تركيز أنظارنا على حكمة الله حتى لا نعتاز إلى شيء.

يصف لنا الإنجيلي دعوة السيد المسيح البشرية كلها لتأتي إليه وتشرب، إذ يقول: "وقف يسوع ونادي قائلاً: إن عطش أحدّ فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7: 37- 39). بقوله "إن عطش أحد" يفتح الباب للجميع، ليأتوا ويشربوا.

فالأمور التي عوقبَ بها أعداؤهم

أصبحت تلك التي أحسن بها إليهم في ضيقهم. [5]

عاقب الله المصريين غير المؤمنين بالمياه التي تلوثت بالدم (خر 7: 24)، وخلص شعبه بمياه نقية تتفجر من الصخرة في البرية. النيل الذي يُحسب مصدر حياة صار مصدر موت، والبرية التي تُحسب علة للهلاك تُقدم حياة. صار الماء عقوبة لرافضي حكمة الله، وبركة للذين يتمتعون بالحكمة. فما كان عقوبة بالنسبة لأعدائهم صار لشعبه علامة رعاية الله لهم واهتمامه بهم، إذ قدم لهم الماء، لا من نهر النيل، بل من صخرة صماء.

يمكننا أيضًا القول إنه في مياه المعمودية يفقد عدو الخير إبليس سلطانه وتتحطم مملكته، وفي ذات المياه يتمتع المُعمد بالبنوة لله.

v     بأمر موسى تحولت كل المياه في مصر إلى دم (خر 7: 20-22)، ومات السمك بسبب تكثف المياه، ولكن بالنسبة للعبرانيين استمر الماء كما هو. واستغل السحرة الفرصة ليستخدموا فنهم في أن يجعلوا الماء الذي لم يتحول إلى دمٍ، والذي كان موجودًا عند العبرانيين يبدو كأنه دم[466].

v     من يملك عصا الفضيلة التي لا تُهزم، التي تبتلع عصا السحرة، يتقدم إلى التدريب على عجائب أعظم. ولا تحدث العجائب لكي ترهب الحاضرين، لكنها لفائدة من يتم إنقاذهم. فعن طريق عجائب الفضيلة ينهزم العدو ويتقوى الشعب.

إذا علمنا أولاً القصد الروحي العام من عجائب الفضيلة، نستطيع عندئذ أن نطبق هذا المفهوم على كل معجزة في حد ذاتها. ويتفق الإيمان الحقيقي مع ميول من يسمعون الكلمة، فبالرغم من أن الكلمة تبين للجميع ما هو خير وما هو شر، إلا أن الشخص ذا الميول الحسنة لما يسمعه يستنير فهمه، بينما يظل كلام الجهل مخيمًا على الشخص ذي الميول العنيدة الذي لا يسمح لروحه بأن تبصر شعاع الحق. وإذا لم يكن فهمنا العام لهذه الأمور خاطئًا فإن كل أمر في حد ذاته لن يبدو مختلفًا، حيث أن الجزء يتم إظهاره وبيانه بالكل.

لذا ليس بالأمر العجيب على الإطلاق ألا يتأثر العبراني، رغم معيشته في وسط غرباء، بشر المصريين. ويمكن أن نرى نفس الشيء يحدث الآن في المدن المزدحمة بالسكان ولأهلها آراء متناقضة. فبالنسبة للبعض فإن نهر الإيمان الذي يستقون منه بالتعليم الإلهي عذب ونقي، بينما بالنسبة للبعض الآخر الذين يعيشون مثل المصريين ويستقون بأهوائهم الشريرة، فإن الماء يصبح لهم دمًا فاسدًا.

ومرات كثيرة يحاول سيد الشر والخداع أن يحول ماء العبرانيين أيضًا إلى دم بإفساده بالغش والبطلان، أي بإظهاره لنا عقيدتنا على غير الحقيقة، لكنه لا يستطيع أن يفسد الماء تمامًا بحيث لا يصلح للاستخدام بالمرة، حتى ولو حوله بسهولة إلى اللون الأحمر بخداعه، فإن العبراني الذي لا يلقي بالاً للخداع البصري يشرب الماء الحقيقي، حتى ولو نجح خصومه في تضليله[467].

v     مرة أخرى ارتفعت السحابة وقادتهم إلى مكان آخر (خر 17: 1-7). ولكن هذا المكان كان صحراء جرداء برمال محرقة، وليس به قطرة ماء. وهنا مرة أخرى أجهد العطش الشعب. ولكن عندما ضرب موسى صخرة بارزة بعصاه أخرجت ماء عذبًا وصالحًا للشرب بغزارة أكبر مما كان يحتاجه كل هذا الجمع العظيم[468].

القديس غريغوريوس النيسي

وبدلاً من ينبوع نهرٍ دائم، يعكِّره دمٌ فاسد. [6]

وهبهم الله نهرًا بمياهه العذبة، لكن بفسادهم فسد ماؤه، وصار مصدر هلاك لهم لا مصدر حياة.  هكذا وهبنا الله وصيته كنيرٍ حلو، لكن بشر إرادتنا يصير النير ثقيلاً، وتتحول الوصية الصالحة إلى علة إدانتنا وهلاكنا.

v     إذن كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟ كيف يصير الحمل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلاً: "الشرير تأخذهُ آثامهُ، وبحبال خطيتهِ يُمسَك" (أم 22:5، حك 11: 16)؟

أقول إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا اغراءات المباهج الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة والأفاعي المتوارية هناك، لأنه: "شوك وفخاخ في طريق الملتوي" (أم 5:22).

يقول الرب في موضع آخر بالنبي: "لأن شعبي قد نسيني... وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل" (إر15:18). ويقول سليمان: "طريق الكسلان كسياج من شوك" (أم19:15). هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها نظرتنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها أنها أورشليم... (جا 15:10). بمعنى أنها "أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة" (غل 26:4).

أما الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب "وديع ومتواضع القلب" (مت29:11)، فإنه يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له "كل الأشياءِ تعمل معًا للخير" (رو28:8). فكما يقول النبي (ميخا) إن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7)[469].

الأب إبراهيم

عقابًا على أمرٍ بقتل أطفال

أعطَيتَهم على غير رجاءٍ ماءً غزيرًا. [7]

لقد تحوَّل الماء الجاري في نهر النيل إلى عقوبة بالنسبة للمصريين، إذ صار دمًا (خر 7: 17-21)، لأنهم سفكوا دماء أطفال كثيرين بأمر فرعون (خر 1: 8-10)، فهدَّد الموت المصريين.

جاء في خروج 7: 14-24 أن هذه الضربة جاءت لحث فرعون أن يترك شعب الله ينطلق، أما هنا فيرى في هذه الضربة تأديبًا على قرار فرعون بقتل أطفال العبرانيين (خر 1: 16، 22). يُمكن أن تخدم هذه الضربة الهدفين معًا.

v     في الماء كان المصريون يقتلون أطفال بني إسرائيل، وبالماء بدأ الله بعذابهم، لما صٌَيره دمًا لا يمكنهم شربه. كال لهم بالكليل الذي به كالوا لغيرهم[470].

 القديس مار افرام السرياني

v     في الواقع كان تحويل ماء النهر إلى دمٍ مناسبًا. النهر الذي فيه أُغرق أطفال العبرانيين بقسوةٍ ردُ لمرتكبي تلك الجريمة كأس الدم، وعندما شربوا منه قُتلوا بالمياه الفاسدة التي نجسوها بالقتل الشرير[471].

 الأب قيصريوس أسقف آرل

بعد أن أريتهم بعطشهم إذ ذاك،

كيف عاقبت خصومهم. [8]

إن كان الله قد سمح بهذه الضربة للمصريين المقاومين للحق، فإنه أيضًا سمح للعبرانيين بالعطش في وسط البرية لكي يختبروا إلى حين مرارة الضربة التي أصابت المصريين بحرمانهم من ماء النيل النقي، فيكون لهم درسًا في وسط البرية.

فإنهم لما امتُحِنوا،

وإن كان ذلك تأديب رحمة،

تعلموا كيف كان عذاب الأشرار،

الذين حوكموا بالغضب. [9]

تأديب الله لشعبه عمل تعليمي مملوء رحمة.

ليس عند الله محاباة لليهود؛ لقد أدَّب المصريين غبر المؤمنين بضربة الماء الذي صار دمًا، وتوالت الضربات مما يكشف عن قسوة قلوبهم، وإصرارهم على عدم الإيمان بالله الصانع العجائب. أما بالنسبة لليهود فسمح لهم بتجربة العطش لكي يؤدبهم برحمته، وإذ لجأ موسى لله قدم له الماء من صخرة حوريب.

3. الله الأب والحاكم!

لأن هؤلاء قد امتحنتهم كأبٍ يُنذرهم،

وأولئك حاسَبتَهم كمَلكٍ قاسٍ يحكُمُ عليهم. [10]

ما حلّ بالمصريين كان عقابًا للردع، أما العطش الذي حلّ بالعبرانيين فكان تأديبًا أبويًا للإنذار.

وسواء كانوا من بعيدٍ أو من قريب،

يذوقون عذابًا على السواء. [11]

عانى الطرفان من العذاب على السواء، فالعطش لحق بالطرفين، لكن الموقف في كل حالة مختلف عن الآخر.

فقد أخذهَم حُزنُ مُضاعف،

وأنين بتذكُّر الماضي. [12]

في وجود اليهود لحق المصريين الحزن حيث تحول الماء إلى دمٍ، وبعد انطلاقهم إلى البرية تضاعف حزنهم، إذ رأوا أولئك الذين سبق فاستعبدوهم قد صاروا شعبًا عظيمًا يحملون قوة فائقة، يتغلبون على صعوبات البرية بواسطة إله المستحيلات، القادر أن يقدم لهم ماءً من صخرة جامدة تتبعهم في رحلتهم.

يرى البعض أن حزن الأشرار مضاعف, حزن بسبب التأديب الذي يحل بهم , وحزن آخر بسبب البركات التي تُمنح للذين يضايقونهم ويظلمونهم[472].

لأنهم لما سمعوا أن ما كان لهم عقابًا،

كان لأعدائهم إحسانًا،

شعروا بيد الرب. [13]

فإن الذي سبق أن طرحوه،

ورذلوه ساخرين،

أدهشهم في آخر الأمر،

إذ كان عطشُهم يختلف عن عطَش الأبرار. [14]

يبدو أن كل الأمم المحيطة بالمنطقة – بما فيها مصر - كانت تتابع أحداث الخروج. فعندما سمع المصريون بعطش العبرانيين ثم إخراج ماء من الصخرة دُهشوا، وأدركوا أنهم سبق لهم فسخروا بالله خلال شعبه ورذلوه، الأمر الذي دمرّ ملكهم وجيشهم، أما العبرانيون فانتفعوا من العطش!

موسى النبي الذي رذله المصريون واليهود أيضًا، صار موضوع دهشة الاثنين.

موسى أداة استخدمها الله لعطش المصريين, وهو بعينه صار أداة لارتواء ظمأ الإسرائيليين.

4. حلم الله في معاملته مع مصر

في مقابل الأفكار الغبيَّة الظالمة،

التي أضلَّتهم حتى عبدوا حيات لا نُطْق لها،

وحشرات حقيرة،

عاقبتَهم بأن أرسلت عليهم جمًّا من الحيوانات التي لا نُطق لها. [15]

انتشرت في مصر القديمة بعض العبادات مثل عبادة التمساح والثعابين والثعلب والكبش (الإله آمون)، وعجل أبيس واللبؤة والبقرة (الإله هاتور) والصقر والقرد وفرس البحر والقط والضفدعة والحية كما الجعل والجعران (من الحشرات).

أما الحشرة الحقيرة فيقصد بها ربما الجعران الذي أجَّله المصريون القدماء، فنقشوه على خواتمهم وحُليِّهم وذهبهم.

جاء التأديب من نفس العمل، فإذ عبدوا الحيوانات والزواحف والحشرات كآلهة ضربهم بالحشرات والضفادع التي هجمت على بيوتهم ودخلت إلى مخادعهم، ومات الكثير منها وأنتن، فكانوا يطلبون أن يتخلصوا منها (خر 8:8).

ضُرب المصريون بثلاث حيوانات صغيرة أو حشرات في الضربات 2 و3 و4 وهي ضربات الضفادع والبعوض والذباب.

بالنسبة للضفادع: يرى القديس أغسطينوس أنها تشير إلى كثيري الكلام الباطل غير النافع، وبرى العلامة أوريجينوس أنها تشير إلى أغاني الشعراء التي هي كنقيق الضفادع تُقدم أصواتًا ملتوية مزعجة بلا عمل. وأخذ عنه ذلك اسيذور من سيفي Isidore of Seville (مات عام 636)، إذ يقول: [في الضربة الثانية أُحضرت الضفادع. ويظن أنها ترمز لأغاني الشعراء الذين قدموا إلى هذا العالم قصصًا واهية مخادعة. بأغانيهم الفارغة المملوءة غرورًا، وذلك مثل نقيق الضفادع. فإن الضفدعة تقدم ثرثرة فارغة. هذا الحيوان لا ينفع في شيءٍ، وإنما يقدم أصواتًا مزعجة كريهة[473].]

وبالنسبة للبعوض: فقد كان كهنة المصريين يهتمون جدًا بالنظافة ويحترسون من التدنس بالبعوض والقمل. يرى العلامة أوريجينوس أن البعوض يشير إلى الكلمات المعسولة التي تخدع الإنسان بمكرٍ، فلا يشعر بها أثناء خداعه، كالبعوض التي تلدغ ولا يشعر بها الإنسان إلا بعد اللدغة، لذا يرى الأب اسيذور من سيرفي أنها تشير إلى الهراطقة[474].

وأما الذباب، فقد سمح به الله للكشف عن عجز آلهة المصريين، حيث كانوا يعتقدون أنها تقوم بطرد الذباب. ويقول الأب اسيذور إن الذبابة هي حشرة وقحة لا تستريح قط، وقد سمح الله للمصريين بضربهم بالذباب ليدركوا أن قلوبهم المُحبة للعالم مضروبة بإزعاج الشهوات التي لا تنقطع.

5. المقابلة الثانية: سلوى في البرية مقابل ضربة الحشرات.

لكي يعلموا أن كل واحدٍ يعاقبُ بما خطِئَ به. [16]

حلت الحشرات على المصريين مقابل عبادتهم للحيوانات مثل التمساح والحية والسحلية والضفدعة. لهذا ضربوا بالضفادع (خر 8: 1-15)، والبعوض (خر 8: 16-19)، والذباب (خر 8: 20-24)، والجراد (خر 10: 3-15).

يربط بين الآلهة الباطلة وعابديها وتأديباتهم. فإذ هم أغبياء – بلا تعقل - عبدوا حيوانات غير عاقلة, وسقطوا تحت التأديب بحيواناتٍ أو حشراتٍ غير عاقلة. هكذا العابدون يشتركون مع آلهتهم في سماتهم. فمن يعبد آلهة باطلة يصير هو نفسه باطلاًً , ومن يعبد محب البشرية ومخلصها يصير محبًا للبشر، ويشتهي أن يُبذل من أجل كل أحدٍ.

في هذا الفصل يؤكد الكاتب أن العقوبة (أو التأديب) تحل على الشرير بذات الأمور التي أخطأ بها. فإذ عبد المصريون حيوانات عوض الله، حلَّت عليهم الضربات بحيوانات وحشرات.

v     ليس من السهل أن نقرر إن كان يلزمنا أن نحتقر العابدين لها أم الأشياء موضوع العبادة. الاحتمال الأكثر هو العابدون، فهم أكثر تفاهة، لأنهم وهم من طبيعة عاقلة، ونالوا نعمة من الله، أقاموا الأردأ عوض الأفضل. وهذا هو خداع الشرير، الذي أفسد ما هو صالح ليُستخدم بهدف شرير، وذلك في أغلب أعماله الشريرة[475].

القديس غريغوريوس النزينزي

ولم يكن صعبًا على يدك كلية القدرة،

التي صنعت العالم،

من مادةٍ لا صورة لها،

أن تُرسل عليهم جمًّا من الدببة،

أو الأسود الباسلة. [17]

إنها رعاية الله حتى للأشرار، فكان يمكن أن يهلك المصريين دفعة واحدة بأن يرسل عليهم دببه وأسود تفترسهم، لكنه أرسل حشرات صغيرة تضايقهم دون أن تقتلهم، وذلك لتأديبهم. لم يرد هلاكهم وموتهم، بل يطلب توبتهم وحياتهم.

خالق العالم من أرض خالية وخاوية (تك 1 : 2) قادر أن يُعاقب بإرسال وحوش مفترسة ومرعبة كما حدث في السامرة (2 مل 17 :26).

v     بالرغم من أنه خلق أشياءً من أشياءٍ، كما خلق الإنسان من التراب، إلاَّ أن الأرض التي جاء منها التراب خلقها من العدم[476].

القديس أغسطينوس

أو وحوشًا ضارية غير معروفةٍ ومخلوقةً جديدًا،

ملؤها الغضب،

وتبعثُ نفحةً نارية أو تنفُثُ دُخانًا نتنًا،

أو تُرسل من أعيُنها شرارًا مُخيفًا. [18]

مرة أخرى يقول إنه لم تكن هناك حاجة إلى إرسال حيوانات ضارية شرسة تفترسهم، ولا إلى خلق حيوانات جديدة مرعبة تهلكهم بمنظرها المفزع، وإنما يكفي نفسُ واحد، فيسقط الكل ولا يقومون.

في عدله كان يمكن أن يطاردهم بنسمةٍ من فمه؛ يقول كلمة تصدر حكمًا بموتهم فيموتون. لكن الله لا يريد أن يُهلك، بل أن يؤدب بقدرٍ لائقٍ.

فكانت تُهلكهم خوفًا من منظرها،

فضلاً عن أن تُبيدهم بضررها. [19]

حتى بدون هؤلاء الحيوانات،

كان نفسٌ واحدة كافيًا لإسقاطهم،

يُطاردهم العدل ويُبددهم بنسمة قُدرتِك.

لكنك رتبت كل شيءٍ بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ. [20]

الله الخالق كان قادرًا أن يخلق وحوشًا جديدة تهلكهم لا بافتراسهم فقط؛ وإنما أيضاً بالرعب الذي يحل عليهم من منظرها وذلك كما جاء عن Medusa الذي كان يهلك الناس بمنظره المرعب[477]. فإنه حتى في تأديبه للأشرار يقدم ذلك بحكمةٍ، بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ، أي بتدبير إلهي دقيق، ولغايةٍ في ذهن الله من نحوهم، دون إلزامهم بالرجوع إليه عنوة.

الله، إله نظام، وليس إله تشويش (1 كو 14: 33)، كل ما يفعله إنما بدقة وتدبيرٍ إلهيٍ فائقٍ.

v     كل خليقة، عظيمة أو صغيرة، صُنعت بواسطته. فيه خُلقت أشياء علوية وأشياء سفلية، روحية ومادية. فليس من شكلٍ ولا من ترتيب لأجزاء، ولا لمادةٍ ما أيا كان وزنها أو عددها أو مقاييسها وُجدت إلا بذاك الكلمة الخالق الذي قيل له: "رتبت كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ" (حك 11: 20)[478].

v     في أسفار كتابنا قيل لله: "رتَّبتَ كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ" (حك 21: 20). يقول أيضًا النبي: "يدعو كلها (جند السماء) بأسماءٍ" (إش 40: 26). ويقول المخلص في الإنجيل: "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" (مت 10: 30)[479].

v     لا نعرف عدد القديسين أو عدد الشياطين، لكننا نعرف أن أبناء الأم المقدسة التي دُعيت عاقرًا على الأرض (الكنيسة) سيحتلون موضع الملائكة الساقطين، ويقطنون إلى الأبد في ذلك المسكن المملوء سلامًا الذي سقطوا منه. أما عدد المواطنين، سواء حاليًا أو ما سيكون عليه، فهو حاضر في أفكار الخالق العظيم، هذا الذي دعا الموجودات من العدم (رو 4: 7)، ويدبر كل الأمور بقياسٍ وعددٍ ووزنٍ (حك 11: 20)[480].

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أيضًا أنه إن كان الله في معرفته غير المحدودة يرتب كل شيء بعددٍ معينٍ يعرفه تمامًا، فإنه يليق بنا أن نهتم بالأعداد الواردة في الكتاب المقدس، ونعرف مفاهيمها الرمزية الروحية[481].

يرى القديس أغسطينوس أن الإنسان في حياته الروحية قد يسلك بترتيبٍ خاص، خلال أربع مراحل تطابق المراحل الأربع لتاريخ الكنيسة. فالإنسان في المرحلة الأولى يكون كمن في عمق الجهالة لا يدري ما هو عليه، أما المرحلة الثانية فهي عندما يعرف الخطية خلال الناموس، فيشعر أنه مغلوب من الخطية وعبد لها (رو 5:5)، وكما يقول الرسول إن الناموس دخل لكي ما تزداد المعصية (رو 5: 20). وإذ يهبه الله الإيمان ينال قوة الحب، فيصارع ضد شهوات الجسد، فيحيا بارًا بالإيمان، ويُحسب بارًا مادام لا يخضع للشهوة الشريرة، إنما يغلبها بحبه للقداسة. هذه هي المرحلة الثالثة للرجاء الصالح. من يتمسك بهذا ينال أخيرًا في المرحلة الرابعة السلام، خاصة في النهاية حيث يقوم الجسد ممجدًا. هذه المراحل الأربع تطابق مراحل تاريخ الكنيسة. المرحلة الأولى ما قبل الناموس، والثانية في ظل الناموس، والثالثة في عهد النعمة حيث جاء المخلص، ثم الرابعة في القيامة[482].

6. ما وراء حِلم الله

فإن قدرتك العظيمة هي دائمًا رهن إشارتك،

فمن الذي يُقاوم قدرة ذراعك؟ [21]

ليس من وجه للمقارنة بين قدرة الله العظيمة وقدرة الإنسان، فقدرة الله مصدرها ليس خارجًا عنه، بل يحمل في ذاته قوته وقدرته، لذا فهي رهن إشارته، يستخدمها كيفما يشاء. أما قدرة الإنسان فهي ليست من عنده، إنما هي عطية مُقدمة له حتمًا تزول عنه يومًا ما. فإن أُصيب بمرضٍ أو بفقرٍ أو فقد مركزه الاجتماعي تزول معه قوته أو تضعف، ويصبح هزيلاً. كثيرون تحطمت أذرعهم ونفسياتهم، أما الله الكلي القدرة، فلا يوجد من يقاوم ذراعه!

كثيرًا ما يسيء الإنسان إلى الله بسبب عجزه عن معرفة خطة الله وأفكاره، فينسب له الضعف بسبب طول أناته. أو العجز بسبب ما يسمح به من ضيقاتٍ واضطهاداتٍ تحل بكنيسته أو أولاده. إنه القدير، يستطيع كل شيء بقوة فائقة، لكن ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء؟ (رو 11: 33)؛ "لأن من عرف فكر الرب؟ أو من كان له مشيرًا؟" (رو 11: 34).

جاء في تضرع مردخاي لله: أنت رب الجميع وليس من يقاوم عزتك (إس  13: 11). تقول يهوديت: "من أنتم حتى تجربوا الرب" (يهوديت 8: 11). ويقول الرسول بولس: "بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟" (رو 9: 20)

لأن العالم كلَّه أمامك مثل ما ترجح به كفه الميزان،

وكنقطة ندى الفجر التي تسقط على الأرض. [22]

"هوذا الأمم كنقطةٍ من دلو وكغبار الميزان" (إش 40: 15) يشَّبه الله بمن يمسك بميزان ليضع العالم كله في كفة، فإذا به كقطرة ندى الصباح أو كغبار الميزان. ومن جانبٍ آخر يضع العالم كله في كفة والبشر في كفة، فلا يوجد وجه للمقارنة أو الموازنة بينهما. يقدم الله حبه للإنسان بدقةٍ شديدةٍ، حسبما هو لبنيانه.

v     على هذا الرجاء تلتصق نفوسنا بالأمين في مواعيده، العادل في أحكامه.

لن يكذب ذاك الذي أمرنا بعدم الكذب، فإنه ليس شيء غير مستطاع لديه خارج الكذب.

ليتّقد إيماننا في داخلنا لندرك أن كل شيءٍ قريب منه.

فبكلمة قدرته أقام الكل، وبكلمته يقدر أن يدمّر كل شيء.

"من يسأله: ماذا فعلت؟ من يقاوم قوّة سلطانه؟" (حك ١٢: ١٢؛ ١١: ٢٢) إنّه يفعل ما يريد وكما يريد، وليس شيء يخالف أمره[483].

القديس إكليمنضس الروماني

لكنك ترحم الجميع،

لأنك على كل شيءٍ قدير،

وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا. [23]

رحمة الله تشمل كل الخليقة، لأنها من عمله، فكم بالأكثر يترفق بالإنسان الذي خلق كل الأشياء لأجله. الله محب للبشر حتى في تأديباته لهم، إذ غايتها التوبة metanoia، يطلبها من كل الخطاة، وليس من أمة معينة، فبابه مفتوح للجميع.

نظرته للبشرية رائعة، فالبشر خليقة الله الصالحة، إنما اختيارهم للشر يعزلهم عن الله مصدر صلاحهم. لذلك يبقى الله يدعوهم للتوبة، أي للرجوع إليه، فهم موضوع حبه ورحمته.

"تتغاضى" هنا تعني "تطيل أناتك"، إذ لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة (2 بط 3: 9). وإذ نرجع إليه بالتوبة يقول إنه لا يعود يذكر خطايانا.

فإنك تُحب جميع الكائنات الموجودة،

ولا تمقُتُ شيئًا مما صنعتَ،

فإنك لو أبغضتَ شيئًا لما كوََّنته. [24]

الله قدير، ولا يُمكن مقاومته، وهو الحب عينه نحو جميع الكائنات السماوية والأرضية. بهذه النظرة يهيئ الإنسان لقبول الخلاص المجاني من الله محب كل العالم ببذل الابن الوحيد الجنس (يو 3 :16).

v     الآب السماوي يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله (مت 6: 8). إنه من المعقول أن هذا الذي هو أب المسكونة وخالقها الذي يحب جميع الكائنات ولا يمقت شيئًا مما صنع (حك 11: 24)، يقدم ما هو لنفع كل واحدٍ بدون الصلاة إليه، يفعل ذلك كأبٍ يحمي صغاره ولا ينتظر أن يسألوه، وذلك إن كانوا غير قادرين أن يسألوه نهائيًا، أو بسبب جهلهم، إذ غالبًا ما يطلبون ما هو ضد نفعهم تمامًا[484].

العلامة أوريجينوس

يتساءل القديس أغسطينوس: إن كان الله لا يبغض شيئًا صنعه، فكيف قيل أنه أبغض عيسو؟ يجيب على ذلك قائلاً: [الله صانع كل المخلوقات. كل خليقة الله صالحة. كل إنسانٍ هو مخلوق بكونه إنسانًا لا بكونه خاطئًا. الله خالق كلاً من جسم الإنسان ونفسه. ليس شيء منهما شرير، والله لا يكرههما. إنه لا يكره في الإنسان شيئًا سوى الخطية. الخطية في الإنسان هي انحراف وعدم نظام، أي ضلال عن الخالق، الذي هو الأسمى (من النفس)، والتجاء إلى المخلوقات الأقل منه (شهوات الجسد ومحبة العالم الخ). الله يبغض عيسو ليس الإنسان، وإنما الخاطئ[485].]

v     الحب الذي يحبه الله لا يمكن إدراكه ولا يتغير. فإنه لم يبدأ يحبنا منذ الوقت الذي فيه صُولحنا معه بواسطة دم ابنه، وإنما كان يحبنا حتى قبل تأسيس العالم، لكي ما نصير له أبناء مع ابنه الوحيد الجنس، أحبنا حتى قبل أي وجود لنا. ليتنا لا نتطلع إلى حقيقة مصالحتنا مع الله خلال موت ابنه، ولا نفهمها كما لو تحققت مصالحة الابن لنا معه بهذه الكيفية: أنه قد بدأ الآن يحب من كان قبلاً يبغضهم، كما لو أن عدوًا قد تصالح مع عدوٍّ، فصارا صديقين، واحتل الحب المشترك موضع البغضة، المشتركة. إنما تصالحنا مع ذاك الذي هو بالفعل يحبنا، ولكننا نحن صرنا أعداء بسبب خطايانا.

لتدركوا إني أقول الحق في هذا، فليشهد الرسول القائل: "الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو 5: 8). إذن يحمل الله لنا الحب حتى حين كنا نمارس العداوة ضده، ونفعل الإثم.

قيل له بالحق الكامل: "أبغضت كل فاعلي الإثم" (مز 5: 5). بهذا فإنه بطريقة مدهشة إلهية عندما أبغضناه كان هو يحبنا. فإنه أبغضنا فيما نحن عليه مما لم يخلقنا عليه... إنه يبغض ما قد فعلناه نحن في أنفسنا، ويحب ما فعله هو فينا!

هذا يمكن أن يُفهم بالحق في حالة الجميع، بخصوص ذاك الذي قيل له بالحق: "لا تمقت شيئًا مما صنعت" (حك 11 24)[486].

القديس أغسطينوس

وكيف يبقى شيء لم تُرِدْه،

أم كيف يُحفظ ما لم تدَعُه؟ [25]

يبرز هنا روعة محبة الله، فقد خلق الإنسان لكي يبقى معه، يحفظه من كل خطرٍ. فالله يريد الإنسان ويحبه ويحميه من كل ضررٍ، ويُعد له موضعًا في السماء.

v     إذا كانت هناك امرأة غنية تملك أموالاً كثيرة وبيتًا فاخرًا، لكنها مع ذلك لا تجد من يحميها، فكثيرون يهاجمونها راغبين أن يُلحقوا بها الأذى والخراب. فلأنها لا تستطيع أن تقبل هذا الأذى والهجوم، لذلك تبحث عن زوجٍ قويٍ يكون كفوًا لهذا الغرض، ومتدربًا من جميع الوجوه. وحينما تجد مثل هذا الرجل بعد سعيٍ كثيرٍ، تفرح به فرحًا عظيمًا، وتجد فيه حصنًا يحميها[487].

القديس مقاريوس الكبير

إنك تُشفق على كلِّ الأشياء،

لأنها هي لك،

أيها السيد المُحب للأحياء. [26]

غاية خلقه الإنسان والهدف منها هو وجود الإنسان مع الله، بكونه الابن الذي يستريح في حضن أبيه المملوء حنانًا نحوه.

الله هو الحياة، يقتني الإنسان له ويهبه الحياة.

v     الله يحكم كل الخليقة (الأرضية)، لكنه لم يُثبت عرشه فيها، ولا دخل في شركة معها، بل سُر بالإنسان وحده، ودخل في شركة معه، وفيه وحده استراح... النفس الحكيمة بعد مرورها على جميع المخلوقات لا تجد راحة لنفسها، إلا في الرب وحده، والرب أيضًا لا يُسر بأحدٍ سوى الإنسان وحده[488].

 القديس مقاريوس الكبير

 


 

من وحي الحكمة 11

هب لي حكمتك، فأدرك أسرار حبك!

 

v     حكمتك أقامت لشعبك قائدًا.

وهبتهم نبيًا قديسًا يعمل بروحك!

موسى في شبابه ظن أنه قادر أن يخلص شعبك!

في عجزٍ لم يستطع مصالحة أخين من شعبك المُستعبد!

لكن حكمتك سندته وهو شيخ في الثمانين.

حركته الحكمة وجددت شبابه الداخلي.

تحدى عنف فرعون وقسوة البرية.

غلب الشيخ ملوكًا، وتمتع ببركات عجيبة!

حكمتك يا إلهي قادرة أن تقيم من الضعيف بطلاً!

حكمتك ترعى شعبك، وتهتم بكل مؤمن!

حكمتك هي الراعي الصالح، الذي يقيم من المؤمنين قادة.

 

v     انهار شعبك من الظمأ وسط البرية.

فتفجرت لهم المياه من صخرة صوان.

ورأوا فيها حكمتك التي تفجر في بطونها- الحجارة الصلدة - ينابيع مياه حب حية.

حُرم غير المؤمنين من الحكمة،

فقدم لهم نهر النيل ماءً فاسدًا ممزوجًا بدم الأطفال الذي سفكوه!

وتمتع المؤمنون بالحكمة،

فتفجرت فيهم ينابيع مياه حية!

ماء النيل تحول لغير المؤمنين إلى دم،

وماء الصخر أنعش المؤمنين وهيأهم للحياة في البرية.

عطش غير المؤمنين وماتوا،

وعطش المؤمنون فاختبروا الحياة بك ومعك!

 

v     في غير محاباة تؤدب،

هب لي أن أقبل تأديبك من يديك المحييتين

فأتذوق أبوتك، وأتجاوب مع حبك لي.

لأراك أبًا يؤدب لكي يحيي،

وليس قاضيًا تعاقب لأنك لا تطيق الخطية.

 

v     يضطرب الأشرار ويحزنون،

لأنهم يحسبون في تأديبهم قسوة خارجة من لدنك.

ويراك أبرارك ويتهللون وسط الضيق، ويختبرون حبك.

 

v     عجيب أنت يا حكمة الله في حنوك،

حتى مع الأشرار تترفق وتحنو،

تؤدب وتعاقب، ولكن شيئًا فشيئًا.

فإنك خلقت الإنسان، لا لتهلكه بل لتحييه.

تنتظر حتى من الأشرار أن يرجعوا إليك.

في حزمٍ تؤدب لعلهم يرجعون إلى أنفسهم،

يطلبونك فيحيون.

 

v     عبد قدماء المصريين حيوانات وزحافات وحشرات.

من صنوف آلهتهم عاقبتهم بذات خطاياهم،

لكي ما تتمرر الخطية في أفواههم.

كان يمكن أن ترسل عليهم وحوشًا تفترسهم.

أو بكلمة من فمك تهلكهم.

 لكنك لا تشاء موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا.

أرسلت لهم حشرات لمضايقتهم لا لقتلهم.

فإنك وأنت تؤدب تشفق!

لأن خليقتك محبوبة جدًا لديك.

لك المجد يا محب كل البشرية!

 

<<


 

الأصحاح الثاني عشر

زنابير تتقدم جيشك!

في الأصحاح السابق قدٌَم لنا الحكيم صورة رائعة لعمل الله مع شعبه في الخروج، كعينة لرعاية الله لكنيسته في كل جيلٍ، فإنه يسمح بالضيق لتأديب شعبه إلى حين، ثم يعود فيسمح للشعب الظالم أو المضايق للكنيسة أن يشرب من ذات الكأس التي ملأها لكنيسته. أبرز الحكيم أن القائد الحقيقي للخلاص هو حكمة الله العامل في القائد كما في الشعب.

الآن يكمل الحكيم حديثه، موضحًا أنه إله كل البشرية، فهو القائد الحقيقي الذي يدعو كل إنسانٍ، من كل أمةٍ وشعبٍ للتوبة.

ليس عنده محاباة، ففي تأديبه لمضايقي شعبه يطيل أناته عليهم منتظرًا توبتهم، ولكن بغير إلزامٍ أو قهرٍ. هذا ويوضح الكاتب أن الله نموذج لشعبه، وأن الخطية تحمل في ذاتها فسادها ومرارتها وعقوبتها.

1. الروح القائد1-2.

2. حلم الله في معاملة كنعان3-11.

3. إله يعتني بالجميع12-13.

4. لا محاباة لدى الله14- 18.

5. الله نموذج لشعبه19-22.

6. الخطية تحمل عقوبتها في داخلها23-27.

1. الروح القائد

فإن روحك غير القابل للفساد،

هو في كل شيء. [1]

لقد وعد الله شعبه بأرض الموعد، لكنه لا يُكره الشعوب القائمة في الأرض. وبخهم شيئًا فشيئًا، لأنه محب لجميع الناس، ويطلب توبتهم وخلودهم. إنهم خليقته المحبوبة لديه التي يطلب عدم فسادها.

" روحك غير القابل للفساد"، روح الله يهب الحياة الأبدية للخليقة، ولا يُسر بفسادها وهلاكها، لأنه هو نفسه غير قابل للفساد.

روح الله يملأ كل المسكونة، وهو قدوس، يقدس ولا يمسه فساد. إنه يود أن يعمل في الكل، ولكن ليس قسرًا. يعمل في غير المؤمنين لكي يؤمنوا، وفي المؤمنين لكي يحملوا ثمر الروح (غل 5: 22).

يقصد بكل شيءٍ هنا كل البشرية، فإنه يوجد في كل إنسان ومضة من قبل الله، نسمة الحياة التي قدمها الله لآدم (تك 2:7)، ليتمتع بها كل نسله.

v     الابن والروح القدس هما مصدر التقديس، بهما تتقدس كل خليقة عاقلة حسب استعدادها[489].

v     الروح القدس المنبثق عن الله (الآب) هو مصدر القداسة، القوة الواهبة الحياة، النعمة التي تعطي كمالاً، خلاله ينعم الإنسان بالتبني، يصير الفاسد في عدم فساد، إنه واحد مع الآب والابن في كل شيء، في المجد والأبدية والقوة والملكوت واللاهوت، هذا ما يختبر بتقليد معمودية الخلاص[490].

v     هذا تجديدنا، يجعلنا على صورة الله من جديد، وذلك بغسل التجديد والروح القدس الذي يجددنا فنصير أبناء الله، نصير خليقة جديدة مرة أخرى بشركة الروح ويخلصنا مما كان عتيقًا[491].

v     بواسطة غسل الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس نصير أبناء الله[492].

v     الحياة الجديدة هي الحياة التي وصفها الإنجيل والتي عاشها المسيح على الأرض، وهذه تستلزم من الإنسان وداعة وصبرًا واحتمالاً وطهارة قلب وجسد وتجردًا عن الغنى. وهكذا تتحقَّق على الأرض حياة الطوباويِّين في السماء. ولابد من التذكر بأن الروح القدس هو العامل والمحرِّك الأساسي في هذا التجديد للحياة، وفي تغيُّرها إلى حياة مع المسيح. فهو الذي يحملنا إلى أن ندعو الله أبًا حقيقيًا لنا؛ وهو الذي يشركنا بنعم الفداء العظيمة؛ وهو الذي يجعلنا، كما يقول القدِّيس يوحنا أبناء للنور، مشتركين هكذا بالمجد الأبدي المزمع أن يتجلَّى فينا. وبكلمة مختصرة الروح القدس هو الذي يجعلنا نملك كل ما يريدنا الله أن نملكه، وأن نفهم بالإيمان المواعيد بما سنملكه في الحياة الأخرى[493].

v     بالروح القدس استعادة سكنانا في الفردوس،

صعودنا إلى ملكوت السماوات،

عودتنا إلى البنوَّة الإلهيَّة،

دالتنا لتسمية الله "أبانا"،

اشتراكنا في نعمة المسيح،

تسميتنا أبناء النور، حقِّنا في المجد الأبدي،

وبكلمة واحدة حصولنا على ملء البركة في هذا الدهر وفي الدهر الآتي[494].

 القديس باسيليوس الكبير

ولذلك فإنك تُوبِّخ شيئًا فشيئًا،

الذين يَزِلُّون،

وتُنذرهم، مُذكِّرًا إيَّاهم بما يخطئون فيه،

لكي يُقلعوا عن الشر،

ويتكلوا عليك أيها الرب. [2]

في تأديبه للبشر يوبخهم شيئًا فشيئًا، لعلهم يرجعون إليه، فإنه لا يُسر بهلاك الأحياء (تك 1: 23).

يرى القديس أغسطينوس أن الله لا يعاقب على كل خطية نرتكبها، إنما على قلة قليلة جدًا من خطايانا حتى خلال هذا العقاب أو التأديب ندرك عنايته بنا، ونضع في اعتبارنا الدينونة الأخيرة[495].

فإن كان الله يؤدب شيئًا فشيئًا، فلأنه يريدنا أن نختبر مرارة الخطية، ونهرب من العقاب الأبدي بالرجوع إليه والالتصاق به.

v     بحق ٍ قال بولس إن غضب الله مُعلن... في هذا الزمان الحاضر. يحجم الله عن تنفيذ العقوبة الكاملة، حتى لا ينزع فرصة التوبة، مما يؤدي إلى رجوع (الخطاة) فيخلصوا أو ينصرفوا (عن الله) ولا يكون لهم عذر[496].

 ثيؤدور أسقف المصيصة

يعالج الحكيم تساؤل البعض، ربما كانوا من الملوك أصدقائه الأمميين، لماذا صبٌ الله ضربات قاسية على فرعون وشعبه، وأيضًا على سكان كنعان الأصليين؟

يكشف الحكيم عن تدبير الله، أنه لم يحدث هذا عن محاباته لشعبٍ معينٍ، ولا عن وجود بغضةٍ إلهية ضد شعب ما أو أمة ما، فإنه يود للجميع أن يتقدسوا، وأن يتمتعوا بقوة إلهية. فغاية التوبيخ الإلهي والتأديب الآتي:

أ. يذّكر الخطاة بخطاياهم، لذا غالبًا ما يحمل نوع التأديب كشفًا عن خطايا معينة.

ب. يطلب الله أن يمرر الخطية في أفواههم، فيكفوا عنها.

ج. يدرك الخطاة ضعفهم فيلجأوا إلى الله مصدر قوتهم، ويتكلوا عليه. فكل توبيخ أو تأديب لا يحمل كراهية، بل مشاعر حبٍ لبنيان الذين تحت التأديب أو العقوبة.

2. حلم الله في معاملة كنعان

وأما الذين كانوا قديمًا سكان أرضك المُقدسة، [3]

فقد أبغضتَهم لأجل أعمالهم الممقوتة،

من سحرٍ وطقوسٍ مُدنَّسة. [4]

البغضة هنا موجهة ليس ضد الأشرار أنفسهم، بل ضد الخطية التي يتحالفون معها، فيسقطوا تحت الحكم الطبيعي والثمر الذي للخطية. وكأن الأشرار يشربون من ذات الكأس التي يملأونها لأنفسهم. فالمعركة قائمة بين القداسة الإلهية والشر.

v     من يتمرغ في حفرة مملوءة وحلاً ويغطس فيها، يسقط في حبال الغرور (ويسلم نفسه للهلاك)[497].

 القديس أمبروسيوس

v     من يقدر أن يقول لله: لماذا تدين العالم (الذي في الخطية)؟ كيف يمكن لله الديان العادل أن يُتهم عندما يُدان جُرم العالم؟[498]

 القديس أغسطينوس

وقتل أطفالٍ بغير رحمة.

ومآدب لحم ودمٍ بشري يأكلون فيها حتى الأحشاء. [5]

مما يحزن قلب الله أن الإنسان في ممارسته للعبادة (الوثنية) يتحول إلى وحشٍ كاسرٍ، فكان الكنعانيون يقدمون للبعل ذبائح بشرية (إر 19: 5)، ويجيزون أطفالهم في النار حيث يقدمونهم للكهنة الذين بدورهم يلقونهم على التماثيل النحاسية الملتهبة نارًا، وسط ضربات الطبول العالية. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الحيوانات المفترسة لا تفترس من هم من بني جنسها، أما الإنسان فيفترس أخاه ويقتله.

من بين طقوسهم أيضًا أكل لحوم الذبائح البشرية في ولائمٍ طقسية.

ولعل يفتاح الجلعادي قد تأثر بمثل هذه العادات مما حمله على التسرع بنذر تقديم أول من يقابله ذبيحة، وكانت ابنته الوحيدة (قض 11: 39).

الله محب كل البشرية لا يطيق هذه الأعمال الوحشية.

مع كهنتهم ضمن الطاقم الوثني،

والوالدون القاتلون بأنفسهم لنفوسٍ لا حول لها،

قد أردت أن تُهلكَهم بأيدي آبائنا. [6]

ربما يتساءل البعض: لماذا سمح الله بقتل الكنعانيين بواسطة الإسرائيليين؟ يجيب الحكيم: لماذا تدينون الله على قتل أناسٍ يقومون بقتل أطفالهم الذين ليس لهم من يدافعون عنهم، ولا قوة لهم على مقاومتهم؟ لقد صعد صراخ هؤلاء الأطفال الأبرياء ضد والديهم، وبلغ الشر أقصاه، لذلك سمح الله بقتلهم ليس دفعة واحدة، بل جماعة فجماعة، لعلهم يرجعون عن شرورهم.

لكي تكون الأرض التي هي أكرم عندك من كل أرض،

عامرة بأبناء لله كما يليق بها. [7]

إذ لم يتراجع الوثنيون عن شرورهم أراد أن يحل شعبه موضعهم، لكي يكونوا خميرة مقدسة للمؤمنين في العالم كله، وذلك بمجيء مخلص العالم متجسدًا منهم.

ومع ذلك فإنك أشفقت على أولئك أيضًا لأنهم بشر،

فبعثتَ بالزنابير تتقدمُ جيشكَ،

لكي تُبيدهم شيئًا فشيئًا. [8]

الله في طول أناته كان يشفق على هذه الأمم الوثنية، فلم يسحقهم ولا سمح بالوحوش تفترسهم دفعةً واحدةً، إنما يسمح بطردهم أو قتلهم تدريجيًا لعلهم يرجعون إليه.

غالبًا ما يقصد بالزنابير في الكتاب المقدس أداة للتأديب، خاصة بالسماح بهجوم جيوش الأعداء لإزعاجهم. جاء في سفر إشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب في أرض أشور" (إش 7: 18).

لا لأنك عجزتَ عن إسلام الأشرار إلى أيدي الأبرار بالقتال،

أو عن تدميرهم مرةً واحدة بُوحوشٍ ضاريةٍ،

أو بأمرٍ جازم. [9]

كان يمكن أن يبيد الوثنيين بضربةٍ واحدةٍ من المؤمنين، كما حدث مع جيش سنحاريب، لكنه يبقى يعطي الفرص لمراجعتهم لأنفسهم.

لكنك بإجراء حُكمكَ شيئًا فشيئًا،

منَحتَهم مُهلة للتوبة،

وإن لم يخفَ عليك أن طبيعتهم شريرة.

وأن خُبثَهم غريزيٌّ،

وعقليَّتهم لا تتغيَّر أبدًا. [10]

هنا يتحدث عن الكنعانيين بوجه عام كقبائل ودويلات تشربت الشر من جيلٍ إلى جيلٍ، حتى امتزجت الشرور بطبيعتهم، وسيطرت على أفكارهم، وأفقدتهم حتى عاطفة الأمومة والأبوة. لكن دون شك وُجدت قلة تشتاق بالناموس الطبيعي إلى التعرف على الحق، والتمتع بالحياة الأبدية. هذه القلة التي كادت تُحسب كأنها عدم أمام جمهرة الأشرار لم ينسها الله، وذلك كما حدث في مصر عند خروج موسى النبي ومن معه.

دُعيت هذه القلة من المصريين باللفيف، كما ورد في سفر الخروج: "وصعد معهم لفيف كثير أيضًا مع غنمٍ وبقرٍ ومواشٍ وافرة كثيرة" (خر 38:12). هذا اللفيف منهم من خرجوا مع العبرانيين بإيمانٍ حي بالله، ومنهم من ارتبطوا بهم لمجرد انبهارهم بالآيات والعجائب التي صنعها موسى. وكان الفريق الأخير سببًا في سقوط العبرانيين في ضعفات في البرية (عد 4:11).

أما بالنسبة للكنعانيين فمنهم أيضًا من قبلوا الإيمان بالله، ودعوا بالدخلاء. وقد وُجد دخلاء بين اليهود حتى عصر الرسل (أع 10:12، 43،13).

v     لنتطلع إلى الأجيال الغابرة، ونتعلم أن الرب – من جيلٍ إلى جيلٍ – يقدم فرصة للتوبة للراغبين في العودة إليه.

فقد بشر نوح بالتوبة، والذين سمعوا له خلصوا.

أعلن يونان هلاك أهل نينوى، وإذ تابوا عن خطاياهم استرضوا الله بالصلاة، واقتنوا خلاصًا بالرغم من كونهم غرباء عن (عهد) الله.

بالروح القدس تكلم خدام نعمة الله عن التوبة.

وتكلم رب الكل بنفسه بقسمٍ قائلاً: "كما أنا حي يقول الرب، لا أريد موت الخاطي بل توبته" (حز 32: 11 LXX)، ثم يضيف هذه المشورة الصالحة: "توبوا يا بيت إسرائيل عن شروركم، قل لأبناء شعبي، لو صارت خطاياكم من الأرض إلى السماء، ولو أصبحت أحمر من القرمز، وأحلك من ثوب الحداد، والتفتم إليّ بكل قلوبكم قائلين: "أيها الآب"، فإني استجيب لكم كما لشعبٍ مقدسٍ[499].

القديس إكليمنضس الروماني

v     إنه (الحكمة) يدعو الصالحين والأشرار أن يدخلوا، وذلك لكي يقوِّي الصالحين وينقل الأشرار إلى حالٍ أفضل. قد تم هذا القول اليوم، وهو أن "الذئب والحمل يرعيان معًا" (إش 65: 25).

إنه يدعو الفقراء والجدع والعميان، بهذا يُظهر أننا نحن المعوقين لا نُستبعد من ملكوت السماوات... إنه يرسلهم إلى مفارق الطرق (مت 22: 9)، لأن الحكمة تغني بصوتٍ عالٍ في الممرات (أم 1: 20). يرسلهم إلى الشوارع، إذ يبعثهم إلى الخطاة لكي يأتوا من الطرق الواسعة إلى الطريق الضيق الذي يؤدي إلى الحياة (مت 7: 13-14). إنه يرسلهم إلى الطرق العامة والمناطق المسيَّجة، هؤلاء الذين لا ينشغلون بأية شهوة للزمنيات، بل يسرعون نحو طريق الإرادة الصالحة[500].

القديس أمبروسيوس

v     صار أهل نينوى أشرارًا، وحكم الله عليهم أن "تنقلب نينوى" (راجع يونان 3: 4).

لم يرد الله أن يصدر حكمًا بدون أن يفعل شيئًا، وإنما أراد أن يقدم لهم فرصة للتوبة والتغيير، لذلك أرسل نبيًا عبرانيًا، حتى عندما يقول: "تنقلب نينوى" لا يتم الحكم، بل ينالوا رحمة الله بالتوبة[501].

v     الله الذي يدين شيئًا فشيئًا هؤلاء الذين يُعاقبون يعطيهم فرصة للتوبة (حك 12: 10). وعدم معاقبتهم على كل شيءٍ في الحال إنما يوقف عقوبة الخاطي[502].

العلامة أوريجينوس

لأنهم كانوا ذرية ملعونة مُنذ البدء.

ولم يكن عفوُك عن خطاياهم خوفًا من أحدٍ. [11]

v     بكونهم كائنات بشرية، فإن طبيعتهم صالحة، هذه التي أوجدها وصنعها الله؛ ولكن إذ هم مولودون بالخطية، وعُيِّنوا للهلاك، ما لم يولدوا من جديد، إذ ينتسبون للبذرة التي لُعنت منذ البداية بخطأ عصيان الأبوين الأولين.

على أي الأحوال، هذا الخطأ تحوَّل إلى الخير بواسطة الخالق نفسه للأواني التي للغضب، حتى يكشف عن غنى مجده في الأواني التي للرحمة (رو 9: 33)، فلا ينسب أحد لنفسه الاستحقاق... إنما يتحقق الخلاص بالنعمة، فمن يفتخر فليفتخر بالرب (2 كو 10: 17)[503].

v     بالحقيقة إن كانت البذرة لا تحمل فيها فسادًا، فماذا تعني العبارة الواردة في سفر الحكمة: "وإن لم يخف عليك أن طبيعتهم شريرة، وأن خبثهم غريزي، وعقليتهم لا تتغير أبدًا، لأنهم كانوا ذرية ملعونة منذ البدء" (راجع حك 12: 10-11)؟

الآن حتى إن استخدم هذا عن حالة معينة، فإن هذه الكلمات تنطق بما يخص البشرية.

إذن كيف يكون خبث كل إنسانٍ غريزيًا، وذريته ملعونة منذ البد، ما لم يكن ذلك خاصًا بالحقيقة أنه: "بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع فيه" (رو 5: 12)؟[504]

القديس أغسطينوس

3. إله يعتني بالجميع

فإنه من الذي يقول: ماذا صنعت؟

أو من الذي يعترض على حُكمك؟

ومن الذي يُحاكمك، لأنك أهلكت الأمم التي خلقتها؟

أو من الذي يأتي قدامك،

ليدافع عن أناسٍ ظالمين؟ [12]

إنه لأمر عجيب أن يتعدى الإنسان حدوده، ليأخذ موقف الناقد لتصرفات الله. عوضًا عن أن يدين نفسه على شروره، وأن ينتقد البشرية عن انحرافها، في جسارةٍ وغباوةٍ يقول لله: ماذا صنعت؟ معترضًا على قضاء الله، متهمًا إياه بالظلم والعنف والقسوة.

الله الذي يحكم للمظلومين، مهشمًا أضراس الظالم (أي 17:29)، منقذًا أولاده من الرجل الظالم (مز 48:18) يُتهم بالظلم.

إذ ليس سواك إله يعتني بجميع الناس،

حتى تريه أنك لا تحكم ظلمًا. [13]

كثيرًا ما يؤكد الحكيم أن الله إله جميع البشر، يعتني بالكل، ولن يحكم بالظلم. أبواب مراحمه مفتوحة لكل الأمم والشعوب، إن رجعت إليه تجد الحضن الإلهي ينتظرها ويُسر بها. ولعل إرسالية يونان النبي لأهل نينوى، وموقف الله من توبتهم، من أروع الأمثلة لمحبة الله لكل البشرية دون محاباة.

هذا وقد دعا كثير من الأنبياء في العهد القديم الشعوب الوثنية الرجوع إلى الله للتمتع بعمله، فيفرحوا ويسبحوه.

"يحمدك الشعوب يا الله، يحمدك الشعوب كلهم" (مز 67: 3).

"تفرح وتبتهج الأمم لأنك تدين الشعوب بالاستقامة، وأمم الأرض تهديهم. سلاه" (مز 67: 4).

"يحمدك الشعوب يا الله، يحمدك الشعوب كلهم" (مز 67: 5).

"حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه" (مز 96: 3).

"قدموا للرب يا قبائل الشعوب، قدموا للرب مجدًا وقوة" (مز 96: 7).

"عند اجتماع الشعوب معًا والممالك لعبادة الرب" (مز 102: 22).

"واحبوا نور الحكمة يا حكام الشعوب" (حك 6: 23).

"هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب رئيسًا وموصيًا للشعوب" (إش 55: 4).

"آتي بهم إلى جبل قدسي، وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي، لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب" (إش 56: 7).

"وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" (اش 2: 3).

"فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد" (إش 2: 4).

"قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيًا للشعوب" (إر 1: 5).

يصوِّر لنا القديس مار يعقوب السروجي محبة الله الفائقة. فإن كان الأشرار يشربون من كأس شرهم مرارة وهلاكًا أبديًا، فإن الله بحبه يسمح بإعلان غضبه على خطاياهم، لا للنقمة ولا لهلاكهم، وإنما لكي يكشف لهم عن ثمر شرهم. بهذا يدعوهم للتوبة كي يتمتعوا بحنوِّه فتُغلق أبواب الغضب عليهم، وتنفتح أبواب السماء لترحب بهم.

إنه يشَّبه الخاطئ بفتاة نائمة، يوقظها الله بتهديداته، حتى لا يحلّ بها الهلاك بغتة!

v     تطلع الاستعلان من الله على (يونان) النبي، ليذهب يرد الشعوب الأممية إلى التوبة.

أرسله إلى نينوى ليدعو بانقلاب خيراتها، لكي بتهديدها تبطل الشرور.

قال له: قم، أمضِ، وأكرز هناك لأهل نينوى، وتكلم في آذانهم بالكرازة التي أقولها لك...

لو أراد الله أن يضرب نينوى بسبب كثرة آثامها، لما أرسل إليها لتبتعد عن الشرور.

لو وضع وجهه ليؤذيها حقيقة، لأرسل الغضب بغتةً وضربها.

أرسل إليها لكي تشعر بالموقف، وتطلب المراحم لتخلصها.

رفع يده ليضرب ويهلك النائمة، ودعاها وأيقظها، حتى لا تُلطم في نومها...

استيقظت الغيرة على العدالة ضد الشقية، وأرسل إليها بالنعمة لتستيقظ بالتوبة.

خرج الغضب على المدينة ليهلكها، وتقدم الحنان وغلق الأبواب أمام الغضب فلم يدخلها.

لولا وجود هذه المراحم، ما الحاجة أن يُرسل الكارز.

أرسله إلى المكان ليرده من الشرور، وبالتوبة يكون له راحة، ولا يحل الفساد.

القديس يعقوب السروجي

استطاع النوتية الأمميُّون أن يدخلوا بيت الله وهم في السفينة في وسط البحر، وقدموا ذبائح تسبيح وشكر مقبولة لدى الله، وتمتعوا بمخافة الرب (يونان 1: 16) التي حرم كثيرون من شعب الله أنفسهم منها.

v     نظر الملاحون إلى البحر، وقد سكت من أمواجه، فازدادوا خوفًا من الله رب البحار... تحققوا من الأعجوبة الحادثة أن الدوامات قد أرسلت وراء يونان. أدركوا العمل بإفرازٍ أن الرب قد أمر أمواج البحر فأطاعته. بإيمان تحققوا أن الرب في البحر، فذبحوا ذبائح، ونذروا نذورًا بحبٍ عظيمٍ.

دخلوا إلى أهل بيت أدوناي (الله) والتجأوا إليه، وبدأوا يذبحون ذبائح كاملة هناك.

القديس يعقوب السروجي

4. لا محاباة لدى الله

وليس لملِكٍ أو سلطانٍ أن يُجابهك في أمر الذين عاقبتَهم. [14]

الله ضابط الكل، عادل في أحكامه، ليس من يستطيع أن يواجهه في أمر معاقبة الأشرار المصرين على شرهم.

"هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة لا جور فيه، صديق وعادل هو" (تث 32: 4).

"وقال: عادل أنت أيها الرب، وجميع أحكامك مستقيمة، وطرقك كلها رحمة وحق وحكم" (طوبيا 3: 2).

"الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يوم" (مز 7: 11).

"لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضيًا عادلاً" (مز 9: 4).

"لأن الرب عادل، ويحب العدل المستقيم يبصر وجهه" (مز 11: 7).

"خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد، أحكام الرب حق عادلة كلها" (مز 19: 9).

"عادلة شهاداتك إلى الدهر فهمني فأحيا" (مز 119: 144).

"فسهر الرب على الشر وجلبه الرب علينا، لأن الرب عادل في جميع أعماله التي أوصانا بها" (با 2: 9).

لأنك عادل في جميع ما صنعت وأعمالك كلها صدق، وطرقك استقامة، وجميع أحكامك حق" (دا 3: 27).

"الرب عادل في وسطها، لا يفعل ظلمًا، غداة غداة يبرز حكمه إلى النور لا يتعذر، أما الظالم فلا يعرف الخزي" (صف 3: 5).

"ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون. اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن اتان" (زك 9: 9).

"وهذا ما صلى به نحميا: أيها الرب الرب الإله خالق الكل المرهوب القوي العادل الرحيم يا من هو وحده الملك والبار" (2 مك 1: 24).

"يا من هو وحده المتفضل العادل القدير الأزلي مخلص إسرائيل من كل شر الذي اصطفى آباءنا وقدسهم" (2 مك 1: 25).

v     يقدم البعض اتهامات باطلة ضد الله، أو بالأحرى ضد أسفار العهد القديم... لا يشك أحد في أن إرادة الله كلها عادلة[505].

 القديس أغسطينوس

v     يقول بولس إنه من الخطأ القول بأن الله ظالم من أجل سخطه على البشر. لأنه كيف يمكن لمن يدين العالم أن يُظن فيه أنه ظالم، إنه كان لقبه نفسه "الديان" يُظهر أنه لا يفعل شيئًا بدون حكم، وحيث يوجد الحكم بالتبعية يوجد العدل. لأن الكلمتين "قاض" و"قضاء" مُشتقتان (في اليونانية) من "العدل".

العدل والظلم عدوان طبيعيان - فكيف يمكن أن يُنظر إلى الله أنه ظالم، لمجرد محاربته للظلم؟[506]

 العلامة أوريجينوس

وبما أنك بار،

فأنت تسوس بالبرّ الكل،

وتحسب الحُكم على من لا يستوجب العقابَ،

أمرًا مُنافيًا لقُدرتك. [15]

الله خالق كل البشرية في محبته للجميع وعدله لا يحابي أحدًا، فالكل أمامه سواسية. حقًا ليس من كائنٍ ما يقدر أن يقف أمامه أو يراجع في أحكامه، لكنه بعدله الإلهي يحاكم كل أحدٍ حسب استحقاقه.

v     من يشك في هذا فليقرأ ما قاله بطرس عندما زار الأممي كرنيليوس: "بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمةٍ الذي يتقيه ويصنع البٌر مقبول عنده" (أع 34:10-35). يلزمنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونقتبس ما يقوله ربنا في الإنجيل: "الذي يؤمن بي لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يو 18:3)[507].

 العلامة أوريجينوس

v     الله لا يظهر محاباة لأشخاص؛ إنه يحكم على الأعمال[508].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v     كُلنا وُلدنا متساوين، أباطرة وعامة الشعب، ونموت متساوين. بشريتنا من نوعٍ واحدٍ[509].

 القديس جيروم

لأن قُوتك هي مبدأ برّك.

وبما أنك تسود الجميع،

فأنت تُشفق على الكل. [16]

الله كمثال خالد لبني البشر يقدم لنا مفهومًا صادقًا للقيادة والتدبير، إذ يُقال:

"بما أنك تسود الجميع، فأنت تشفق على جميع الناس" (12: 16).

"أما أنت فإنك تسود قوتك، فتحكم بالرفق" (12: 18).

هكذا نرى في الله قائدنا السيادة ترتبط بالشفقة؛ والقوة بالرفق. فالقائد الحي هو الذي يسود بحبه وحنوه وترفقه، ليس على من يرعاهم فحسب، بل على جميع الناس. فالحب ليس له حدود!

حتى في تأديبه يلاطف الله جميع الناس، ويود أن يتمتعوا برحمته.

تعرض قُوتك عندما يتشكك البشر في كمال قُدرتك.

وتخزي جسارة الذين يعرفونها. [17]

حينما يعرض الله قوته، لا يعرضها كنوعٍ من الاستعراض لنوال مجدٍ ما، ولا ليرهب خليقته. لكنه يعرضها أمام غير المؤمنين لكي يقبلوه فيتمتعوا بقوته، ويتعرف عليها الجهلاء الذين لم يدركوا الإمكانات الإلهية.

كما يعرضها أيضًا أمام الذين يعرفونها فكريًا أو عقليًا دون أن يختبروها في حياتهم العملية، يعرضها لكي يَخْزوا، وتتحول معرفتهم إلى خبرة حياة مع القدير.

أما أنت فإنك تسود قٌوتك، فتحكم بالرِّفق،

وتسوسنا بكثيرٍ من العطف،

لأن في يدك القدرة على العمل متى شئت. [18]

مرة أخرى إذ نعرف أن الله هو القدير، فإن قدرته هي للتمتع بحنانه ولطفه، وسيادته أو سلطانه إنما لتدبير حياتنا والعمل لبنياننا. إن تجاوبنا معه تظهر قدرته خلال نعمته المجانية التي يهبها لمؤمنيه، فيمجدون الله القدير العامل فيهم. هكذا يربط كثير من الآباء قدره الله بنعمته.

v     لتقترب، أيها الحبيب، من الإيمان، لأن قدراته كثيرة جدًا. أصعد الإيمان (أخنوخ) إلى السماء، وغلب الطوفان، وجعل العاقر تنجب. إنه نجىٌَ من السيف، وأصعد من الجب، أغنى الفقراء، وحلٌ الأسرى، وخلص المضطهدين، وأطفأ النار، وشق البحر، وزعزع الصخر، وأعطى العطاش ماءً للشرب، وأشبع الجياع. إنه أقام الموتى وأخرجهم من الجحيم، وهدٌأ الأمواج، وشفى المرضى. قهر الأعداء وحطم الحصون. سدٌ أفواه الأسود، وأطفأ لهيب النار. أنزل المتكبرين وكرَّم المتواضعين. كل هذه الأعمال القديرة صنعها الإيمان[510].

القديس مار أفراهاط

5. الله نموذج لشعبه

وبأعمالِك هذه علَّمت شعبك،

أن البار يجبُ عليه أن يكون مترفقًا،

وجعلتَ لأبنائِك رجاءً حسنًا،

لأنك تمنحُ التوبة عن الخطايا. [19]

يقدم الله نفسه مثالاً ونموذجًا للترفق بجميع الناس. "تاركًا لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته" (1 بط 2: 21).

البار الحقيقي يحمل روح الله فيحب الجميع، ولا ييأس من خلاص أحد، فإن الله يمنح التوبة عن الخطايا للمشتاقين لمعرفة الحق أو للخلاص الأبدي.

التوبة هي منحة من الله، وليست عملاً بشريًا مجردًا، بأن يحاسب الإنسان نفسه بنفسه. فإن هذا الحساب قد يدفع إلى ندامة بلا رجاء في مراحم الله، كما حدث مع يهوذا الذي بسبب ثقل شعوره بالجريمة شنق نفسه.

ماذا علّم الله شعبه خلال تصرفاته حتى مع الأشرار؟

أ. بحنوه على الأشرار، وتأديبهم تدريجيًا وليس دفعة واحدة، علمنا أن نحمل روحه، فنحب جميع الناس، حتى المقاومين لنا [19].

ب. لله خطة معينة سواء في حنوه أو تأديباته، مؤكدًا أن لكل شيءٍ المكان المناسب والزمن اللائق، فلا نتعجل الله في تأديبه للأشرار [20].

ج. يبقى الله أمينًا ويحقق وعوده التي قدمها للآباء، حتى وإن أدَّب الأبناء [21].

د. في وسط التأديب البطيء لمقاومينا نركز أنظارنا على مراحم الله، فلا نيأس ولا تتحطم نفوسنا [22]. فإن كان الله يترفق بالمقاومين، فيجلدهم قليلاً، فلنذكر كيف يطيل أناته جدًا علينا، فنمتلئ رجاء أننا ننعم برحمته يوم الدينونة.

فإن الذين كانوا أعداء أبنائك،

ومستوجبين للموت،

إن كنتَ عاقبتهم بمثلِ تلك العناية والتساهل،

مقدمًا لهم زمانًا وفرصة للإقلاع عن شرهم. [20]

يستخدم الحكيم كل وسيلة ليجتذبنا إلى طول الأناة على الأشرار، فإن الله نفسه الديان حتى في معاقبته هنا للأشرار، يؤدبهم برفقٍ وتساهلٍ، منتظرًا موعد توبتهم. في تعليق القديس مار يعقوب السروجي على تهديد الله بهلاك نينوى يوضح كيف أنه يحكم لكي يستأنف الإنسان قضيته، مقدمًا التوبة الصادقة مع التواضع شفيعًا أمام محكمة لله، فيعلن الله ليس فقط براءته، بل سروره الإلهي بهذه البراءة.

v     الموت هو تغرب واستقصاء عن الله؛ والحياة هي خلود، والسلام هو شركة معه[511].

جيناديوس أسقف القسطنطينية

فبأية دقةٍ حاكمتَ أبناءَك،

الذين وعدتَ آباءَهم،

بأقسامٍ وعهودٍ مملوءة بالوعود الصادقة؟ [21]

إن كان الله يترفق هكذا حتى بمضايقي شعبه، فكم بالأحرى يتحنن على أبنائه المتعلقين به، والذين وضعوا ثقتهم في وعوده.

وهكذا فإنك إذ تؤدِّبنا بجلْدِ أعدائنا ألف مرة،

لكي نتذكر حلمك إذا حكمنا،

وننتظر رحمتك إذا حُكمنا. [22]

مهما بدت التأديبات التي تحل بالشرير قاسية ومرة، تُحسب خفيفة للغاية إن قورنت بما سيعانيه في اليوم الأخير إن لم يتب.

المؤمن الجاد في حياته يتطلع إلى تأديبات الله للأشرار أنها طول أناة، لأن الله ينتظر توبتهم ورجوعهم، حتى لا يسقطوا تحت العقاب الأبدي. هي درس للأشرار أنفسهم كما للصديقين.

6. الخطية تحمل عقوبتها في داخلها

لأجل ذلك فالذين عاشوا في الغباوة عيشة ظُلم،

عذبتهم برجاسات أنفسهم. [23]

يعود للحديث عن تأديبه للمصريين تدريجيًا فيؤكد الآتي:

أ. أنه يتطلع إلى الأشرار كأطفالٍ بلا فهم. بدأ أولاً بالسخرية كيف يعبدون الحيوانات حتى الحشرات الحقيرة أقاموا منها آلهة [24-25].

ب. إذ لم يكترثوا بالسخرية سقطوا تحت تأديبات أشَّد [26-27]، انتهت بقتل الأبكار وغرق فرعون وجيشه في البحر.

كثيرًا ما يوضح هذا السفر أن ما يحل بالخاطئ من متاعب، وإن كانت بسماح من الله لتأديبه، لكنها هي ثمرة طبيعية للفساد الحالّ بالخطية. الخطية ذاتها تحمل جرثومة الفساد، وتحمل المرارة فيها.

v     يبقى سؤال واحد يحتاج إلى إجابة: هل تعيشون بالتقوى في هذا العالم أم بالشر؟ فإن كنتم لا تعيشون بالتقوى يلزمكم ألا تتعجبوا إذا أدبكم الرعاة هنا، وإن كنتم لا تعانون منا، بل الله هو يؤدبكم بقبائح نفوسكم[512].

القديس أغسطينوس

فإنهم في ضلالهم تجاوزوا طرق الضلال

مُتَّخذين ما يستحقره أعداؤهم من الحيوانات آلهة،

مخدوعين كأطفالٍ لا يفقهون. [24]

رأينا كيف سقط المصريون في عبادة الحيوانات بل والحشرات الضعيفة، في بلاهة سقطوا، كأطفالٍ غير حكماء في هذه العبادة.

لذلك بعثت عليهم عقاب أولادٍ لا عقل لهم،

حُكمَ للسُخرية. [25]

إذ عبد المصريون الحيوانات غير العاقلة، صبغ عليهم عدم التعقل، وصاروا موضع سخرية.

ظنوا انهم قادرون أن يمارسوا قوات وعجائب بالسحرة، ووقف السحرة في عجز أمام الضربات التي حلت بفرعون وشعبه.

v     حاول الطاغية فرعون أن يقابل الآيات الإلهية التي أظهرها موسى وهرون بخدعٍ سحرية قام بها السحرة الذين له (خر7: 1-12). وعندما حوَّل موسى عصاه مرة ثانية إلى حية أمام أعين المصريين، ظن أولئك أن سحر السحرة يمكن أن يصنع معجزات مماثلة بعصيهم. ولكن ثبت أن هذا خداع عندما أكلت الحية التي كانت عصا موسى عصي السحرة – التي كانت تبدو كحياتٍ - ولكن لم يكن لها أية وسيلة للدفاع عن نفسها أو أية قوة للحياة، بل كانت مظهرًا خادعًا فقط، زيفه السحرة بمهارةٍ أمام من كان من السهل خداعهم[513].

القديس غريغوريوس النيسي

لكن الذين لم يتعظوا بتأديبٍ السُخرية

ذاقوا الحُكم اللائق بالله. [26]

كان يليق بفرعون ورجاله أن يعيدوا النظر في موقفهم بعد أن صاروا موضع سخرية، وفي مركز الضعف. لكنهم أصروا على الاستمرار في عنادهم، واقتفوا أثر موسى وشعبه، بل وأرادوا العبور وراءهم في ذات الطريق الذي ظهر وسط مياه بحر سوف، فهلكوا.

v     لقد قدَّم لنا ما يخص خروج إسرائيل لكي نعرف الذين يخلصون بالمعموديَّة… البحر هو رمز للمعموديَّة، فخلَّص الشعب من فرعون كما تخلُص أنت من طغيان إبليس في المعموديَّة. أهلك البحر العدو، وفي المعموديَّة تُقتل عداوتنا لله. خرج الشعب من البحر أصحَّاء وسالمين، ونحن أيضًا نخرج من الماء كمن هم أحياء يخرجون من بين الأموات.

القدِّيس باسيليوس الكبير

اِغتاظوا من تلك البهائم التي كانت تُعذبهم،

ورأوا أنهم يُعاقبون بالتي حسبوها آلهة،

فعرفوا الإله الحق الذي جحدوه،

ولذلك حل عليهم العقاب الأخير. [27]

العقاب الأخير  بعد الضربات العشر هو غرقهم في بحر سوف كرمزٍ للهلاك الأبدي في البحيرة المتقدة نارًا، وألقوا بأنفسهم فيه في غباوةٍ واستهتارٍ.

 


 

من وحي الحكمة 12

هب لي حكمتك يا أيها القائد الإلهي

v     أنت هو القائد الإلهي العجيب!

أراك في غير محاباة، تحنو على الجميع.

تترفق بمؤمنيك، وأيضًا في أبوتك تؤدب.

حبك يشع من لطفك كما من حزمك.

باللطف تجتذبنا إلى الحضن الإلهي.

وبالحزم تمرر الخطية في أفواهنا.

نحبك بالحق، ونبغض الخطية بالحق.

 

v     في جهالة قدم الوثنيون للحجارة ذبائح بشرية.

قلوب الأمهات والآباء سلمت الأطفال للذبح والحرق.

الأطفال العاجزون عن الدفاع صاروا ضحية فساد والديهم.

تحولت العبادة إلى حفلات ماجنة،

لا تعرف إلا الشر والفساد.

سادهم اللهو والدعارة.

 وسيطر العنف والقتل عليهم.

لم تبدهم يا حكمة الله دفعة واحدة،

لكنك سمحت بدمار مدينةٍ فمدينةٍ.

وفي هذا كله تركت مجالاً لمن يرجع إليك أن ينجو.

 

v     يا حكمة الله أنت تعتني بالكل!

أنت إله الجميع، ليس لديك محاباة.

حينما أخطأ شعبك في البرية لقوا مصرعهم بالموت.

شربوا من مياه الخطية التي أحبوها،

امتلأ الكأس فشربوه!

وفي هذا كله أنت طويل الأناة مع المؤمنين وغير المؤمنين.

 

<<


 

الأصحاح الثالث عشر

بين تأليه الطبيعة وتأليه المصنوعات البشرية

العبادة الوثنية

بعد أن أبرز في الأصحاحات السابقة حكمة الله الفائقة وحبه ورعايته للبشرية، مستخدمًا كل وسيلة ممكنة لنفعها وخلاصها، الآن يعلن مدى ما انحدر إليه الإنسان، خاصة قدماء المصريين والكنعانيين من جهة ممارستهم للعبادة الوثنية، وقد خصص لهذا الموضوع ثلاثة أصحاحات (ص 13- 15).

ويُعتبر سفر الحكمة من أكثر الأسفار التي عالجت موضوع عبادة الأوثان في شيء من التفصيل.

يقدم الحكيم ثلاثة أشكال لهذه العبادة:

1. تأليه عناصر الطبيعة وقواها (13: 1-9).

2. عبادة الأصنام (13: 10-15: 17).

3. عبادة الحيوانات (15: 18- ص19).

إذ يتعرض لتأديب الله للوثنيين يقسمهم فريقين: فريق يتعبد للمخلوقات دون الخالق، أي للطبيعة، وفريق يتعبد للأوثان التي هي من صنع الإنسان.

1. عبادة الطبيعة (13: 1-9).

2. مقدمة لعبادة الأصنام (13: 10).

3. صور خشبية (13: 11-14: 2).

4. صرخة لله ضد الوثنية (14: 3-11).

5. أصل الوثنية وشرورها (14: 12-31).

6. صرخة ثانية لله (15: 1-6).

7. صور فخارية (15: 7-13).

* خاتمة (15: 14-17).

في هذا الأصحاح [حك 13] يوضح الكاتب حماقة الإنسان الذي لا يميز بين الخالق والخليقة، فإذ رأى جمال الخليقة وإبداعها وقدرتها ظنها آلهة، فحوّل رجاءه عن الخالق القدير المحب إلى الخليقة العاجزة الفانية.

1. بين التأليه والإعجاب بالخالق1-9.

2. تأليه العمل الإنساني الميت10-19.

1. بين التأليه والإعجاب بالخالق

بالتأكيد جميع الناس الذين يجهلون الله،

هم مغرورون طبعًا بأنفسهم،

فإنهم لم يقدروا أن يعرفوا الكائن من الخيرات المنظورة،

ولم يعرفوا الصانع من اعتبار أعماله. [1]

إذ كان الإنسان يجهل تعليل الظواهر الطبيعة، كقدرة الشمس على الإنارة، والتدفئة والتطهير وتحديد النهار والليل، وأيضًا قدرة النار على الالتهام، والبرق الذي يظهر إلى لحظات ويختفي، فيظن أن الإله غاضب على البشر الخ، هذا كله دفع البعض إلى إقامة هذه القوى والظواهر آلهة. وقد حذر الله شعبه من الاقتداء بالوثنيين في هذا الأمر: "لئلا ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم وكل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها" (تث 4: 19).

إذ سقط الإنسان في هذه العبادة، لذا وردت تسبحة الثلاثة فتية في أتون النار تعالج هذا الأمر حيث يقدم الإنسان التسبيح لله داعيًا كل الخليقة أن تتعبد معه لله.

"باركي الرب يا جميع أعمال الرب، سبحيه وزيديه علوًّا إلى الأبد... باركي الرب أيتها السماوات... الملائكة... الشمس والقمر والنجوم... الأمطار والأندية... السحب والرياح... النار والحرارة الخ."

فإن كان الإنسان ينبهر بجمال الخليقة وقدرتها يليق به أن يسبح خالقها الذي أبدع في الخلقة من أجل الإنسان.

أغبياء هم جميع البشر الذين يفشلون في معرفة الله من خلال دراستهم لأعماله، معتبرين أعماله نفسها آلهة. حقًا إن أعماله عظيمة ومجيدة، لكن ليس من وجه للمقارنة بينها وبين صانعها. لم يقدم الكاتب براهين عقلية أو فلسفية على وجود الله حقيقة واقعة ليست موضوع نقاش وحوار، وإنما موضوع خبرة وحياة.

في جهالة أحل الإنسان جمال المخلوقات وقوتها عوض إبداع الخالق وقدرته اللانهائية.

يتحدث الله مع البشرية خلال خليقته، وكما يقول القديس بولس: "لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته، حتى انهم بلا عذر" (رو 20:1). ويقول داود النبي: "السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 1:19). وكتب البابا أثناسيوس الرسولي: [أعطى الله بكلمته (اللوغوس) المسكونة أن تكون، وذلك لكي يتمكن أن يتعرف عليه البشر من خلال أعماله، هذا الذي بطبيعته غير منظور، لأن الفنان وإن لم يُرَ يُعرف من أعماله.]

v     الخليقة ذاتها بتناغمها معًا ونظامها تعلن عن عظمة الطبيعة الإلهية[514].

الأب يوحنا الدمشقي

v     كيف أعلن الله عن نفسه؟ هل بصوت من السماء؟ ليس مطلقًا! صنع الله كرسي أبهة قادر أن يجتذب البشر أكثر من الصوت. وضع أمامهم الخليقة الضخمة، حتى يستطيع الحكماء والأميون، والسكيثيون والبرابرة أن يصعدوا إلى الله، متعلمين من خلال رؤية جمال الأشياء التي يرونها[515].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     يليق بكل الذين يعيشون على هذه الأرض أن يبدأوا باستخدام الحواس للأمور المحسوسة لكي يعبروا منها إلى معرفة الأشياء العقلية. لكن يلزم ألا تقف معرفتهم عند الأمور الحسية[516].

العلامة أوريجينوس

v     في كل الأمور المنظورة تستحوذ علينا التذكارات الواضحة لصانع الخيرات. فلا نعطي أية فرصة للخطايا، ولا نترك موضعًا في قلوبنا للعدو، وإن كان لنا الله ساكنًا فينا بتذكرنا الدائم له[517].

القديس باسيليوس الكبير

v     يسهل جدًا أن نفهم أن خالق الملائكة والرئاسات والقوات هو الذي في لحظة من قوته صنع كل هذا الجمال العظيم للعالم من العدم، إذ لم يكن له وجود، وأعطى كيانًا لأشياءٍ وعللٍ لم يكن لها وجود[518].

القديس أمبروسيوس

v     أيضًا قال النبي: "السماوات تعلن مجد الله" (مز 19: 1). هل سيقول الوثنيون عند الدينونة إنهم كانوا يجهلون وجود الله؟ ألم يسمعوا السماوات ترسل صوتًا خلال التناسق في نظام كل الأشياء، يتحدث بوضوح كما ببوقٍ؟ ألم تنظروا ساعات الليل والنهار باقية بلا تغيير، والنظام الصالح للشتاء والربيع والفصول الأخرى ثابتة لا تتحرك؟... مع هذا فإن الله لم يصنع هذا النظام العظيم هكذا ليعلم الوثنيين فيكونوا بلا عذر، وإنما وصفه لكي يأتوا إلى معرفته. لكن بفشلهم في التعرف عليه يحرمون أنفسهم من تقديم أي عذرٍ[519].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لكنهم حسبوا النار أو الريح أو الهواء اللطيف،

أو مدار النجوم أو المياه الجارفة،

أو أنوار السماء، آلهة تُسير العالم. [2]

ما يشغل الكاتب ليس أن الله خالق فحسب، وإنما وهو الخالق يعتني بخليقته. فالحياة لا تسير مصادفة ولا حسب مصير محتم كما ظن كثير من الفلاسفة والمنجمين، فيظن البعض أن الأفلاك أو غيرها تسير العالم في أمر مُحتم، إنما الله في أبوته يرعى العالم ويعتني به.

v     حاول الوثنيون أن يبلغوا إلى السماء، لكنهم إذ حطموا النور الذي كان فيهم، وعوض ذلك عهدوا بأنفسهم للظلمة التي لتعقلهم. بحثوا عن غير الهيولي في أجسامٍ، وعن غير المحدود في أشكال مخلوقةٍ، وبهذا فقدوا انسجامهم مع النور[520].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     شرع موسى يتكلم (قائلاً): في البدء خلق الله السماء والأرض (تك 1:1)،

من بعد ذلك شرع المعلم يدوّن ما صار في أيام القدرة الخالقة الستة،

بالنبوة العالية البصر شاهد الخفيَ يدعو اللاشيء، يقوم ويصير شيئًا،

والرموز والأصوات التي وُجهت إلى الخلائق، سمعها موسى ورآها بنور النبوة،

كان قد دخل إلى كنز اللاهوت مثل قيّم ولم تُخفَ عنه ثروات القدرة الخالقة،

وكما شاهد وكما سمع في المحل السامي، وضعه في كتابه المعلم الذي يكرز عن الخلائق.

قال: في البدء خلق الله السماء والأرض، وبرهن بأن للعالم منشأ وبداية،

من جبل سيناء انزل موسى تعليمًا ممتلئًا نورًا إلى العالم الذي اظلَّم بالوثنية،

لما كان يُسجد للخلائق على اختلاف أشكالها، كانت تُحسب مثل آلهة في طبائعها،

واظلم العالم بمحبة الأصنام الباطلة، ونسيت الخليقة الباري ولم يعد يُذكر،

وسجد البشر إما للنار، وإما للمياه، وللكواكب وللحيوانات وللطيور.

القديس مار يعقوب السروجي

فإن حسبوا تلك آلهة لأنهم خُلِبوا بجمالها،

فليعلموا كم سيدها أعظم منها،

لأن الذي خلقها هو أصل الجمال. [3]

لقد خُلب البشر بجمال الخليقة، ولم يتأملوا في حب الخالق، لذلك نزل إليهم كلمة الله الخالق لكي بحبه العملي على الصليب يسحبهم من الضلالة، ويدخل بهم إلى الحق الإلهي.

v     سحابة من الأخطاء غطت قلوبهم. فإذ كان يجب عليهم أن يكرموا خالق الكل خلال المخلوقات الجميلة التي أوجدها، التصقوا بما لديهم قائلين إن الأمور التي أمكنهم رؤيتها كفيلة بخلاصهم[521].

أمبروسياستر

v     خرجت أشعتك على الجهات وأنارتها، وهوذا الشعوب تتنعم بنورك الذي أبهجها،

أشعتك بددت كل ظلمة عبادة الأصنام، وأقامت لك صورة النور بين المظلمين،

أرسلت رسالة إلى المجوس بكوكب النور، وجذبتهم وأخرجتهم من الظلمة إلى نورك،

ركض رسولك ليبشر المظلمين، فمهّد الطريق هناك لإشراقك حتى يسير فيه (زك 6: 12)...

أرسل النور ليقتل الظلمة في موضعها، ويصنع دربًا في تيه عبادة الأصنام،

ألقى شعاعًا واحدًا من أضوائه في البلد، وبإشراقه بدد ليل الضلالة القوي،

أتى لينير كل العالم بولادته، وأرسل أولاً إلى بداية الأرض (الشرق الأقصى) لتأتى عنده،

أرسل رسولاً نورانيًا وكارزين إلى البلد البعيد عن التعليم ليجلبه حتى يسترشد،

وضع على كتف الهمجيين نير الإشاعة، وسيّرهم على الدرب ليأتوا إلى خدمته...

أصنام مصر رأت المخلص وارتجفت وخافت منه، كما كُرز من قبل النبوة (إش 19:1)...

أعمدة مصر الحاملة للأصنام ارتجفت كلها بذلك الذي جاء ليكسرها بصلبه،

تهدمت كل منصات الذبائح برئيس الأحبار الذي جاء إلى الذبح حتى يبطلها،

دخل الحق وهمس (في آذان) الأصنام وأفزعها، ودعاها لتسقط ولو أنها لا تسمع،

كانت مثل هذه الأمور تقال من قبل العدالة لأصنام مصر الغنية بالسجدات:

أسقطي أيتها الضعيفة، كفى أنك انتصرت بالاستعارات، لقد جاء المسجود له، فاتركي له المكان ليقوم على مُلكه،

أيتها القشور المجففة افرغي المكان لابن الله، أيتها المصورة من قبل الضلالة، انزلي من قصورك،

أيتها الأصنام الفاسدة التي صارت فخاخا للساجدين لها، انكسري ولا تصطادي بعدُ للفساد،

أيتها الضعيفة انهزمي من الجبار الذي أتى إليكِ، ولا تقومي بعدُ في موضع الملك الذي وصل،

أيتها المصنوعة التي أخذتِ اسم الله وأقلقت الأرض، هوذا الصانع قد نزل من موضعه ليفضحك،

خرجت الريح لتجمع الأشواك من الحقول، فاهرب أيها الزوان من العاصفة سيدة الجهات،

خاف فوج عبادة الأصنام من الجبار، وبُشرت صفوف الأصنام بالسقوط[522].

القديس مار يعقوب السروجي

وإن دهشوا من قدرتها وعملها،

فليفهموا منها كم مُكوِّنُها أقدر منها. [4]

الإنسان الساقط من مركزه وكرامته ومجده يفقد الأمور التي وهبها الله له، ويقف متطلعًا إلى الطبيعة وما فيه على أنها روح، وقد دعي ذلك بالأرواحية animism، فعبد الحجارة والأنهار والينابيع، كما عبد الأشجار والحيوانات. في اختصار كلما أعجب بقوةٍ أو جمالٍ أو سمةٍ معينةٍ في كائن ما تعبد له. نذكر على سبيل المثال:

 العجل كرمز للإنجاب.

الحية كرمز لتجديد الحياة، حيث تخلع جلدها الخارجي ليحل محله جلد جديد، يهبها حيوية ونشاطًا.

النسر والصقر كرمزٍ للحكمة وقوة الإبصار من بعيد.

الظواهر الطبيعية كالعواصف والرياح والنار كرمزٍ للقوة التي لا يقدر الإنسان على مقاومتها.

الجنس والدعارة لإشباع الشهوات الجسدية في إباحية بلا ضابط.

الأباطرة والملوك والأبطال حتى بعد موتهم.

كثيرًا ما يقف الإنسان أمام الطبيعة في ذهول من قدرتها وعملها، لكن يليق به أن يدرك قدرة خالقها العجيب.

فإن عظمة المخلوقات وجمالها،

يُؤديان بالقياس إلى إدراك خالقها. [5]

ما تتسم به الخليقة من عظمة وجمال يكشفان عن عظمة أدراك خالقها!

v     "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رو 1: 20). ما يعنيه هو هذا: لقد وضع خلقته في الوسط، أمام عيون البشر، لكي ما يدركوا الخالق من أعماله. الأمر الذي أشار كاتب آخر: "فإن عظمة المخلوقات وجمالها يؤديان بالقياس (نسبيًا) إلى التأمل في خالقها" (حك 13: 5). انظروا العظمة. تعجبوا من قوة صانعها! أتنظرون الجمال؟ لتندهشوا لحكمة مبدعها! هذا ما عناه النبي عندما قال: "السماوات تُحدث بمجد الله" (مز 19: 1)[523].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     هو نفسه بكونه فوق الكل، الحاكم والملك ومدبر القوة، يفعل كل شيء لمجد أبيه ولمعرفته، حتى من خلال الأعمال نفسها يعلمنا[524].

v     نحن نتعلم من المخلوقات بدون أن نطلب منها أصواتًا، بل إذ نسمع الكتب المقدسة فإننا نؤمن، وبرؤيتنا لنظام جميع الأشياء وانسجامها، نعرف أن هذا خالق جميع الكائنات وربها وإلهها، وندرك عنايته المذهلة وسيادته على الكل[525].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     يستحيل على الأعين البشرية أن ترى الطبيعة الإلهية، إنما تدرك قوتها بعض الإدراك خلال أعماله الإلهية. يقول سليمان: " فإن عظمة المخلوقات وجمالها، يُؤديان بالقياس إلى التأمل في خالقها "[526].

إنه لم يقل إن الخالق يُرى خلال خليقته، بل أوضح أن ذلك يكون "نسبيًا"، فإن الله أعظم من أن يدركه أي إنسان خلال معاينته عظمة الخليقة. وإذ يرتفع قلبه أكثر بمعاينته أكثر (لعظمة الخليقة) ينال إدراكًا أعظم نحو الله[527].

v     لتدحض المجدفين على الخالق الحكيم الصالح، ولتدرك مما تسمعه وما تقراه وما تكتشفه أن "من عظمة الخليقة وجمالها يُعرف صانعها إدراكًا نسبيًا[528].

وإذ نحني رُكبنا بوقار صالح أمام صانع العوالم، أقصد عالم الحس والفكر، ما يُرى وما لا يُرى، فإنك تمجد الله بلسانٍ مقدسٍ يلهج بالمعروف وشفتان لا تسكتان، وقلب لا يمل قائلاً: "ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صُنعت"[529]، يليق بك الإكرام والمجد والجلال من الآن خلال كل الدهور. آمين[530].

القديس كيرلس الأورشليمي

غير أن أولئك الناس يستوجبون توبيخًا أخَفَ،

فلعلهم لا يضلُّون إلاَّ لأنهم يلتمسون الله،

ويرغبون في الاهتداء إليه. [6]

هنا يترفق الحكيم بالوثنيين الذين انجذبوا إلى عظمة الخليقة وقدرتها وجمالها، فأعطاهم في البداية نوعًا من العذر. ربما كان قصدهم الله نفسه، وإذ بحثوا عنه في الخليقة انبهروا بجمالها وانحرفوا عن هدفهم.

عاد الحكيم يوبخهم لأنه وإن أعطاهم شيئًا من العذر، لكنه يتطلع إلى ما وهبهم الله به، ألا وهو العقل، القادر أن يتعدى حدود المنظورات ليؤمن بمن هو غير منظور، لو أنهم كانوا صادقين في البحث عن الحق.

بما أنهم يعيشون فيما بين أعماله،

يبحثون (عنه) باجتهاد فيغُرُّهم منظرها،

لأن المخلوقات المنظورة جميلة. [7]

إذ اتسم سليمان بالحنو والشفقة، عاد مرة أخرى ليقدم للوثنيين عذرًا بسبب إغراء جمال الخليقة الجذاب.

مع ذلك فهم أيضًا لا يغفر لهم. [8]

إذ يتطلع الحكيم إلى الوثنيين وهم يرغبون في الاهتداء إلى الله، يبحثون عنه باجتهاد يعذرهم إلى حدٍ ما، لكن إذ يجدهم يتصرفون بغير تعقل بسبب انجذابهم للجمال الزمني والملذات يعلن عن دينونتهم وعدم المغفرة لهم ماداموا لا يرجعون إليه.

لأنهم إن كانوا قد بلغوا من العِلم

أن يدركوا كنه العالم،

فكيف لم يهتدوا بأكثر سرعة إلى سيده؟ [9]

مما يزيد من مسئوليتهم في عدم معرفتهم لله أنهم يبحثون في العلوم الخاصة بالطبيعة، ويدركون بعض أسرارها، وكان يليق بهم أن يبحثوا عن الله، فإن التعرف عليه أسرع وأسهل من التعرف على أسرار الكون.

خلق الله الإنسان سيدًا للخليقة الأرضية، وأعطاه عقلاً لكي يتعرف على أسرار الكون، ويتمتع بالمعرفة.

يمتدح سليمان الحكيم البحث في العلوم والتعرف على قوانين الطبيعة، فالله لم يخلق العقل لكي ندفنه بل كموهبة نضرمها للبنيان.

ولا يقف الأمر عند معرفة، أسرار الكون، بل يعبر المؤمن إلى ما وراء الطبيعة، لينعم بمعرفة السماويات ويتذوق عذوبة عربونها، ويختبر الشركة مع السماوي، خالق السماء والأرض.

 يأسف الحكيم لما وصل إليه الإنسان من الانحطاط، فعوض ارتفاعه إلى السماويات انحط إلى العبادة الوثنية التي تجحد الله الحقيقي، وتدفع بالإنسان إلى الانغماس في الرجاسات، بل وإلى العنف وسفك الدماء.

v     في قلوب الأمم تحول تكريم الله الواحد الأكثر نقاوة إلى عبادة دموية لآلهة متنوعة[531].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v     جميل هو العالم دون شك، وسامٍ في فخامة حجمه كما في نظام مكوناته، سواء تلك التي في الدائرة المائلة أو التي في الشمال أو في شكله الكروي. لكن ليس هذا بل مُبدعه هو الذي يلزم أن نعبده. فإن جاءكم رعاياكم، لا يمكنهم أن يهملوا تقديم الخضوع لكم، أنتم حكامهم وسادتهم، والذين يحصلون منك على ما يريدون، ويقدمون أنفسهم لعظمه بلاطكم. وإن حانت لهم الفرصة أن يأتوا إلى البيت الملكي فإنهم يلقون نظرة إعجاب على مبناه الجميل، لكنهم يقدمون الاحترام لكم بصفتكم "الكل في الكل".

أنتم أيها الملوك تبنون قصوركم وتزينونها لأنفسكم، أما العالم فلم يُخلق لأن الله محتاج إليه. فإن الله هو كل شيء لذاته. نور لا يُقرب منه، عالم كامل، القوة والعقل.

إن كان العالم آلة موسيقية تتحرك في زمنٍ مُقاس بطريقة جيدة، فإنني أعبد الكائن الذي أعطاها هذا التناغم، وعزف عليها النوتة الموسيقية، وغنى مقاطعها المتناسقة، ولا أعبد الآلة ذاتها.

في المسابقات الموسيقية لا يتَّوج الحكام القيثارات متجاهلين العازفين عليها...

إن كان أحد يدرك لعناصر العالم المختلفة على أنها قوى الله، فإننا لا نقترب إلى القوى لنقدم لها الخضوع، إنما نقدمه لصانعها وسيدها. إنني لا أطلب من المادة ما لا تستطيع أن تعطيه، ولا أتخطى الله وأقدم الكرامة للعناصر، التي تعجز عن صنع شيء ما غير ما قُدر لها.

فبالرغم من جمال منظرها بسبب مهارة خالقها إلا أنها لا تزال تحمل طبيعة المادة...

بينما أُعجب من السماوات وعناصرها، من أجل إبداعها، لكنني لست أعبدها كآلهة، عالمًا أن قانون الفناء يسيطر عليها[532].

العلامة أثيناغوراس

2. تأليه العمل الإنساني الميت

بعد أن تحدث عن تأليه الخليقة أو بعض المخلوقات أو الظواهر الطبيعية يتحدث الآن عن تأليه العمل الإنساني مثل الأصنام والتماثيل. في حديثه عن الخليقة ربما وجد عذرًا يقدمه عنهم، وإن كان هذا العذر غير مقبول، لأنه كان يلزم أن ينشغلوا بالخالق لا الخليقة مهما كان جمالها أو قدرتها، وكان يليق بهم أن يستخدموا عقولهم التي وهبهم الله إياها، فيدركوا ما وراء الخليقة. أما أن يتعبد الإنسان لتمثال خشبي أو معدني أو من الحجارة، ففيه سخافة وبؤس.

لكن ما أشقى أولئك الذين

جعلوا رجاءهم في أشياء ميتة،

فسموا أعمال أيدي الناس آلهة،

ذهبًا وفضةً مصنوعةً بمهارةٍ،

وتماثيل حيوانات،

أو حجرًا لا يُستعمل صنعته يدٌ قديمة. [10]

بلغت الغباوة بالإنسان أن يستعبد نفسه لما يصنعه هو بيديه، الأشياء الميتة. يقوم صائغو الذهب والفضة، أو النحاتون، أو النجارون بالإبداع في تشكيل صنمٍ ميتٍ. جاء في سفر إرميا النبي: "لأن فرائض الأمم باطلة، لأنها شجرة يصنعونها من الوعر، صنعة يدي نجار بالقدوم بالفضة والذهب يزينونها، وبالمسامير والمطارق يشددونها فلا تتحرك. هي كالعين في مقثاة فلا تتكلم، تحمل حملاً لأنها لا تمشي، لا تخافوها، لأنها لا تضر، ولا تصنع خيرًا" (إر 10: 3-5).

v     وضع الله معرفته في القلوب البشرية منذ البداية. لكن هذه المعرفة بثوها بجهالة في خشبٍ وحجارةٍ، وبهذا أفسدوا الحق، على الأقل قدر ما استطاعوا، بينما الحق ثابت لا يتغير، له مجده غير المتغير[533].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     مثل طبيب حكيم قبل أن يتحدث عن المرض أشار إلى علله ومصدره. للإعداد لانتقاد شرهم بدأ بالإشارة إلى مصادر ضعفهم: الطمع والخداع والتجمعات الفاسدة، مظهرًا شيئًا فشيئًا من الأمور التي جعلتهم يسقطون في هوة الهلاك، إذ يضيف: "عمل أيديهم" (إش 2: 8). فإنه أي شيءٍ أكثر سخافة من أن نرى إنسانًا يصنع إلهًا؟ اعتاد الكتاب المقدس أن يشير إلى الأصنام بأنها "رجاسات" (مت 15:24، دا 31:11، 11:12)[534].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

في (إشعياء 44) تحدث عن الحاجة إلى حدادٍ ونجارٍ وغيرهما من أصحاب المهارات لعمل الصنم الذي يتعبد له الوثنيون.

وهذا حطَّاب ماهر ينشر شجرة يسهل نقلها،

فيُجرِّدها بمهارةٍ من قشرها،

ثم بحسن صناعتِه يصنعها إناءً،

يصلح لخدمة العيش. [11]

مهارة النجارين هي هبة من الله، لكن بكمال حريتهم يمكنهم أن يسيئوا استخدام هذه الهبة...

كان يليق بالنجار أن يستخدم مهارته في صنع أدوات منزلية أو زراعية أو للإبحار كالسفن الخ لنفع البشرية، أما أن يصنع منها تمثالاً ليحتل مركز الخالق، فهذه جريمة وتعدي على الوصية الإلهية.

v     بعبادتهم أشياء من خشبٍ وحجرٍ لا يرون أنهم بينما يطأون بأقدامهم ويحرقون ما لا يختلف عنها بأي حالٍ من الأحوال يدعون أجزاء من هذه المواد آلهة. وما كانوا يستعملونه في خدمتهم منذ وقتٍ وجيز ينقشونه ويعبدونه بحماقتهم، دون أن يروا أو يفكروا مطلقًا أنهم لا يعبدون آلهة بل صنعة خراط.

لأنه طالما كان الحجر غير منحوت، والخشب غير مشغولٍ، فإنهم يطأون الواحد، ويستخدمون الآخر لأغراضهم المختلفة، حتى في الأغراض الوضيعة. ولكن حينما يصورها الصانع حسبما يتفق مع مهارته، ويصوغ المادة في شكل رجلٍ أو امرأةٍ، فإنهم إذ يشكرون الصانع يشرعون في عبادتها كآلهة، بعد أن كانوا قد اشتروها من الخراط بثمنٍ. وفضلاً عن هذا فإن صانع التماثيل كثيرًا ما يصلي لمصوغاته، كأنه قد نسي العمل الذي أتمه هو نفسه، ويدعو تلك التي كان يقطِّعها وينحتها ويخرطها قبل ذلك مباشرة آلهة[535].

 البابا أثناسيوس الرسولي

ويستعمل نُفايتها وقودًا،

لإعداد طعامه فيشبع. [12]

لا ينكر دور النجار في صنع الأدوات الخشبية النافعة، حتى النفايات تُستخدم وقودًا لطي الطعام.

في إشعياء 44 يصور لنا النبي كيف يستخدمون الخشب جزءً منه للتدفئة، وآخر لطهي الطعام، وبقيته يصنعون منه آلهة صنم يخرون ويسجدون لها ويصلون لها قائلين: "نجني لأنك أنت ألهي" (إش 44: 17).

v     إن كانت إلهًا للزم أن يكون كل الشجر إلهيًا، فلماذا تستخدمون ما يتبقى من الخشب لكي تحصلوا على نار تفيدكم في إعداد الطعام؟... ألستم تضعون الخشب في النار، من ذات نوع الخشب الذي تتعبدون له؟ فكيف تطرحون الواحد وتتعبدون للآخر. بحق يضيف: "لا يعرفون ولا يفهمون، لأنه قد طمست عيونهم عن الأبصار، وقلوبهم عن التعقل. ولا يردد في قلبه وليس له معرفة ولا فهم، حتى يقول نصفه قد أحرقت بالنار..." (إش 18:44-19)[536].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

أما النفاية التي لا تصلح لشيء،

وهي خشبة معوجَّة ومعقَّدة،

فإنه يأخذها، ويعتني بنقشها في وقت فراغِه،

ويُصورها بخبرة ليكسب أوقات الراحة،

فيُمثل بها شكل إنسان. [13]

في شيء من التفصيل يصف كيف يُصنع الوثن، ففي سخرية يُظهر أنه لا يصنع حتى من حجر كريم، وإنما من نفايات الشجر، أما قوله: "خبرة ليكسب أوقات الراحة"، فيفيد أن الإنسان وقد صار في فراغٍ داخلي لا يجد شيئًا نافعًا يمارسه، فيتفنن في تصوير تمثال. حقًا أن الفراغ الداخلي هو وراء الإلحاد!

يصور الحكيم نجارًا يذهب إلى الغابة ويختار شجرة أو بعضًا من فروعها، يقوم بقطعها، ويذهب بها إلى منزله أو ورشته. يقوم بتقسيمها إلى أجزاء وشرائح ثم ينزع عنها غلاف الشجرة الخارجي، وبعد أن يستخدمها في صنع أية أداه للمنزل أو الزراعة الخ يبحث عن نفابة، لا ليستخدمها وقودًا، بل ليصنع منها تمثالاً يتعبد له.

يشير هنا إلى غرور الأباطرة والملوك، فيصنعون تماثيل لأنفسهم ليعبدهم الناس في أثناء حياتهم وبعد مماتهم، بهذا يظنون أنهم يمارسون السيادة على الشعب حتى بعد موتهم. وفي نفس الوقت يظن بعض البسطاء في ضعفهم أن حياتهم في أيدي هؤلاء الجبابرة حتى بعد موتهم.

في استخفاف بعبدة الأصنام يُظهر الكاتب أنه يمكن صنع صنم من نفاية الأخشاب، وفي هذا عار!

v     يقول (إش 13:44) انه ينسخ (للصنم) سمات لا إلهية بل بشرية، ويشكل صورة إنسانية ويعبد صورته هو كإله. عندئذ يعلمنا (النبي إشعياء 14:44) أن الغابات التي على الجبال وهبها الخالق للبشر لكي يسمح لهم أن تُستخدم في إشعال النار وخدمة احتياجات أجسادهم. أما هؤلاء فعلى النقيض يأخذون أغصانًا دائمة الخضرة أو سنديانة، أو شجرة صنوبر هذه التي غرسها إله المسكونة وأمدها بالمطر لنفع الإنسان وإمداده بخيرات مادية كثيرة، لكنهم يستخدمونها في خلق آلهة[537].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

أو يُشبهها بحيوان حقير ويدهنها بالقِرمِز،

ويُحمِّر سطحَها بالحُمرة،

ويطلي كلَّ عيبٍ فيها. [14]

ومما يزيد الأمر سخافة أن النجار يصنع تمثالاً لا لإمبراطور أو ملك وإنما لحيوانٍ أو حشرة تافهة، ويُبدع في نحت التمثال وتكوينه، فيسجد له الإنسان ويتعبد له، ويقدم له ذبائح وتقدمات.

كانوا يرون في الطيور والحيوانات رموزًا معينة. فالصقر والنسر معروفان بحدة البصر، لذا كانا يرمزان للحكمة وبُعد النظر. والعِجْل يرمز للخصوبة، والحيَّة للحياة حيث تغير جلدها بين آن وآخر.

ويجعل لها محرابًا يليق بها،

فيضعُها في الحائط ويثبِّتها بالحديد. [15]

في استخفاف جديد يسخر بالذين ينشغلون بعمل هياكل تُثبت بالمسامير على الحائط لكي تُحفظ فيها التماثيل حتى لا تسقط وتتحطم. فالتمثال عاجز عن أن يحمل نفسه، فتحمله المسامير.

يسخر الكاتب من المقام أو المسكن الذي يثبت بالحديد على حائط ليوضع فيه الصنم.

بقوله: "يليق بها" يسخر بالتمثال الذي لا يليق به إلا أن يوضع كما على حائط، لا عمل له ولا قدرة له على الحركة.

فقد يحتاط لئلاَّ تسقط،

لعِلمِه أنها لا تستطيع أن تعين نفسها،

إذ هي تمثال يفتقر إلى من يعينه! [16]

التمثال الذي يحتاج إلى مسامير حديدية لتثبيته أو تثبيت هيكله في الحائط، ويخشى صاحبه من سقوطه، كيف يمكنه أن يقيم الساقطين؟

يعرض الحكيم ضعف الآلهة الوثنية، فهي عاجزة عن أن تعين نفسها فكيف تعين من يتعبد لها، هذه الآلهة الميتة كيف تهب الحياة للغير، والعاجزة عن الحركة كيف تسند الإنسان في تحركاته وأسفاره.

لقد قدم لنا الكتاب المقدس بعهديه كما التاريخ الكنسي عبر الأجيال حتى يومنا الحاضر، كيف يشتهي الله أن يرد الإنسان لي سلطانه الأول في جنة عدن.

نعطي هنا أمثلة قليلة:

وهب الله يشوع بن نون سلطانًا ليوقف حركة بعض الكواكب حتى يطول النهار ويحقق نصرة على الأشرار المقاومين للحق الإلهي (يش 10).

أعطى الله إيليا لنبي سلطانًا فتنزل نارًا تحرق قائدي الخمسين ورجالها، لأنهما يتعجرفان على الله نفسه في شخص نبيه (2 مل 1: 10)، وأيضًا يطلب نارًا من السماء تلتهم ذبيحة ليرد الشعب إلى معرفة الله الحقيقية (1 مل 18: 38). كما أعطاه.

وهب الله كثير من القديسين سلطانًا على الطبيعة والحيوانات المفترسة، لكن في حدود حتى لا يسقطوا في الكبرياء. من هؤلاء القديسة أناسيمون[538] التي كانت الأسود تصادقها.

v     يا لها من غباوة خطيرة - أي نوع من الآلهة هذه هي آلهتك التي يُمكن أن تُسرق؟ أما تخجل من القول: "لماذا سرقتها؟"[539]

القديس يوحنا ذهبي الفم

ولكن إن أراد أن يصلي،

من أجل أمواله وزواجه وأولاده،

فلا يخجل أن يُخاطب ما لا نفسَ له،

ومن أجل العافية، يبتهل إلى ما هو ضعيف. [17]

يتطلع الله إلى البشر الذين من أجلهم خلق العالم بكل إمكانياته وجماله، فيراهم يطلبون من قطعة خشبية أن تسندهم في تدبير أموالهم أو حياتهم الزوجية أو أولادهم أو من أجل شفائهم، بينما هذا التمثال جامد لا حياة فيه، وعاجز حتى عن الحركة.

في دهشة يتهكم الكاتب على من يطلب الصحة من صنم ليس فيه حياة، ويسأل القوة مما لا قوة فيه، ويطلب العون ممن بلا خبرة، ويطلب حماية في أسفاره من صنم عاجز عن الحركة.

ومن أجل الحياة،

يتوسل إلى ما هو ميت،

ومن أجل الإغاثة،

يتضرع إلى ما ليس له خبرة تمامًا،

ومن أجل سَفرٍ ناجحٍ،

إلى ما لا يستطيع أن يخطو خطوة. [18]

v     أي شيء أكثر سخافة من هؤلاء الناس؟ فمع أنهم مُنحوا عقلاً، وتمتعوا بامتيازات عجيبة من قبل رأفات الله، يقوموا بعبادة حجرٍ بلا حياة، وهم أبعد ما يكون من أن يخجلوا، أو يشعروا بشيء من السخافة. يتعاملون معها كما مع حيوانات عجماوات. لذلك كتب بولس أيضًا هذه الكلمات: "أنتم كنتم أممًا منقادين إلى الأوثان البُكم كما كنتم تُساقون" (1 كو 2:12). بحق قال: "بُكم"، أُناس لهم موهبة الكلام يتمتعون بالعقل والاستماع، يلجأون إلى أشياء ليس لهم هذه السمات، بل يشبهون حيوانات بُكم. أي عذر يمكن أن يكون لمثل هؤلاء الناس؟[540]

 القديس يوحنا ذهبي الفم

ومن أجل ربحٍ ومشروعٍ ونجاح عمل يديه،

يلتمس قوةً مما لا قوة في يديه. [19]

يحتاج الإنسان الذي مات بالخطية إلى القادر أن يقيمه من الموت، والذي يتعرض إلى متاعب من محاربات شيطانية وأمراض ومضايقات إلى من يرفعه فوق الألم ويعبر به إلى الحياة المطوّبة ومن يسير في الحياة كما في رحلة عابرة إلى القادر أن يرتفع به إلى السماء، والمحتاج إلى قوة للعمل وقدرة على التفكير للنجاح إلى ذاك القدير واهب القوة. من يقدر أن يهب هذا كله للإنسان إلا كلمة الله المتجسد وحكمته السماوي! كيف يستبدل الإنسان هذا السماوي محب البشرية بتمثال ميتة عاجزة عن قيادة نفسها؟!

v     "إنهم يزرعون الريح، ويحصدون الزوبعة؛ زرع ليس له غلة، لا يصنع دقيقًا" (هو 7:8).. ليس من ثمر لجني حصادك من خدمة الصنم، أما حزمهم فمثل سنابل قمح حطمها الريح، تظهر سيقان كثيرة من الخارج، لكن ليس فيها بذرة واحدة. هكذا هي طبيعة الوثنية، فمن جانب يمكن أن تأخذ صورة رجلٍ أو امرأةٍ، أو أسد أو أي حيوان آخر خلال فن (النحت)، ومن الجانب الآخر فهي محرومة من أية قوة أو طاقة[541].

 ثيؤدورت أسقف قورش

العبادة الوثنية في إشعياء 44

يقدم لنا إشعياء أصحاح 44 تصويرًا رائعًا عن فساد العبادة الوثنية، مظهرًا أن الأوثان وصانعيها والمتعبدين لها جميعهم يحملون خزيًا وبطلانًا. فصناع الأوثان جادُّون لا يهتمون بالجوع ولا العطش ولا التعب (إش 44: 12)، من أجل صنع الفأس من الحديد وطرق صفائح لإقامة التماثيل. وهكذا أيضًا بالنسبة للنجارين الذين يبذلون كل الجهد لحفر تماثيل خشبية. الجميع يتعبون ولا يكلون لإقامة تماثيل معدنية أو خشبية عاجزة عن تقديم الخلاص، بينما يتهاون أولاد الله في جهادهم الروحي بالرغم من تمتعهم بإمكانات إلهية قادرة على تمتعهم بالخلاص الأبدي. وكأن هؤلاء العاملين باطلاً يدينون أولاد الله المتهاونين، وكما قال رب المجد يسوع أن أبناء هذا الجيل أحكم من بني الملكوت (لو16: 8).

من جانب آخر فإن صنع التماثيل المعدنية يستنفذ طاقة الصناع، بينما صنع التماثيل الخشبية يرافقه لهو بما تبقى من الأخشاب، إذ تستخدم في الموقد للدفء أو لطهي الطعام في الوقت الذي فيه يهدئون ضميرهم بالعبادة للخشب المنحوت تمثالاً.

أخيرًا ماذا تقدم عبادة الأوثان (أو اعتزال الله):

أ- عمى البصيرة الداخلية وظلمة داخلية (إش 44: 18)، بينما المسيح هو شمس البرّ (مل 4: 2).

ب- جهلاً وعدم معرفة (إش44: 19)، بينما المسيح هو بِرُّنا.

ج- جوعًا فيأكل الإنسان رمادًا (إش44: 20)، بينما السيد المسيح هو الخبز السماوي.

د- كذبًا وخداعًا وتضليلاً (إش44: 20)، بينما السيد المسيح هو الطريق والحق.

بمعنى آخر نجد في مسيحنا الاستنارة الداخلية والمعرفة والشبع والحق وكل احتياجاتنا، أما خارجه فلا يوجد إلا الفراغ الداخلي والشعور بالعزلة وفقدان البصيرة الداخلية.

v     إنه يظهر (إش 12:44- 13) أن تشكيل ما تُدعى آلهة يعتمد على مصادر كثيرة. فإن الخالق (لها) يحتاج إلى حدادٍ ليُعد الأدوات وإلى مشحذ ليجعل الأدوات حادة. ومن جانبه كحرفي ماهرٍ يحتاج إلى فحم ونار لمساعدته. بجانب هذا فإن صانع هذه الأشياء يختبر شهوة الأكل والشرب. كل هذه الأمور المتلاحقة لازمة لصنع إله للأغبياء كي يتعبدوا له[542].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

 


 

من وحي الحكمة 13

أنت هو الخير الأعظم

v     نفسي متعطشة إلى الخير،

تبقى تسبحك من أجل فيض سخائك.

كل ما هو حولي يشهد بحبك لي، ورعايتك الفائقة.

وهبتني هذا العالم الجميل،

قدمت لي كل إمكانية للحياة السعيدة.

لم تعوزني شيئًا من أعمال كرامتك.

الأرض والمحيطات والجلد والفضاء وكل الكواكب تصرخ،

تحدثني بلغة الإبداع عنك، يا أيها الفنان السماوي!

صوت الطبيعة لا يفارق أذني!

لك المجد يا خالقي العجيب!

 

v     في غباوة عبد آبائي الخليقة لا خالقها.

أعطوك الظهر، وقاموا بتأليه ما قدمته لهم.

عبدوا العطية لا العاطي!

بهرهم جمال عمل يديك وقوته،

عوض التسبيح لك، سبحوا الكائنات الزائلة!

لماذا ألقي باللوم على آبائي،

فإني أشكو نفسي إليك.

كثيرًا ما استعبدت نفسي لما وهبتني إياه،

عوض أن أسوس لأمور الزمنية،

صرت بإرادتي عبدًا لها.

ملكتني عوض أن أملكها.

تحركني كألعوبة في يديها،

عوض أن أحركها لبنيان نفسي.

ردّ لي حريتي وكرامتي، والحكمة التي قدمتها لي.

 

v     كيف أعبد ما هو بلا حياة،

وأتركك يا أيها الحياة الأبدي؟

أنت خالق الكل وواهب الحياة.

لأقتنيك، فأنت الخير الأعظم.

أنت واهب السلطان والحرية.

أنت مشبع النفس والجسد معًا!

أنت الكل لي.

 

v     لتدخل باب قلبي، فلا يكون لآخر موضع فيه.

تحتله، وتقيم ملكوته داخله.

تُعلن مجدك وسلطانك، فيّ.

لتدخل وتسكن فيه، فأثبت فيك.

لتستريح في داخلي،

فاستريح في حضنك الإلهي!

 

v     إلهي، ليس لنفسي عريس سواك!

ليس لي قوة إلا بك.

ليس لي من عدم فساد إلا بالاتحاد معك.

ليس لي ربح إلا باقتنائك!

لأعبدك بكل كياني،

يمجدك جسدي، وتسبحك نفسي،

وتتغنى لك إرادتي التي قدستها!

أخيرًا أصرخ إليك،

لتسرع وتأتي، يا حبيب نفسي،

فإن قلبي لن يلتصق بمحبة العالم.

إنه يترقب عبوره السريع إليك.

 لتأتِ إليّ، وأنا آتي إليك بروحك القدوس!

 

<<


 

الأصحاح الرابع عشر

ما وراء عبادة الأصنام

في الأصحاح السابق كشف الحكيم عن غباوة الوثنيين، سواء بعبادتهم للطبيعة الجميلة المملوءة إبداعًا أو عناصرها، أو عبادة تماثيل هي من صنع الإنسان. وسخر الكاتب من الإنسان الذي لا يستخدم عقله ليطلب الخالق لا المخلوقات. والذي يطلب من قطعة خشبة ميتة عاجزة عن الحركة، وتحتاج إلى من يحفظها ويصونها، لكي ما تسنده وترشده وتقوده.

الآن يكمل الحكيم حديثه بتقديم مقارنة بين السفينة الخشبية والصنم الخشبي، حيث في غباوة يطلب من الصنم الضعيف أن يحمي السفينة.

ويحلل الكاتب ما وراء الأصنام وعلة ظهور العبادة الوثنية، كما يكشف عن دور الوثنية في تضليل البشر.

1. السفينة أم الصنم الخشبي؟1-11.

2. الزنا وراء الوثنية12.

3. المجد الباطل والوثنية13-14.

4. تخليد الموتى والوثنية15-17.

5. المداهنة وراء الوثنية18-21.

6. الوثنية والتضليل22-29.

7. عقوبة عبادة الأوثان30-31.

1. السفينة أم الصنم الخشبي؟

يتحدث الحكيم هنا عن الذين يبدعون في صناعة السفن، ثم يثبتون تمثالاً خشبيًا للإله في مقدمة السفينة أو مؤخرتها، ظانين أنه قادر أن يحمي السفينة، مقدمين له ذبائح يومية.

يشير سفر الأعمال (28: 11) إلى مثل هذا الأمر حيث يذكر سفينة إسكندرانية تتسم بعلامة الجوزاء أو الأخوين، يُنظر إليها أنهما ابنا الإله زيوس اليوناني كاستور وبولكس. كان الفلاحون يضعون صورتهما على سفنهم كإلهين يحفظان السفن من الغرق.

لقد وهب الله الإنسان المهارة لصنع السفن بحكمة، وذلك كما أعطى هذه المهارة للذين عملوا خيمة الاجتماع (خر 31: 3؛ 35: 31، 36؛ حك 8: 6). لكن الله هو الذي يحفظ السفينة ، إذ حكمة الله هي التي تقود العالم في البر والبحر والجو والفضاء.

وآخر قبل أن يركب البحر ويسير على الأمواج العاتية،

يستغيث بخشبةٍ أشد هشاشة من المركب الذي يحمله. [1]

يقدم مثالاً للملاّح الذي يستغيث بإله خشبي مادته أردأ من الخشب الذي صُنعت منه سفينته. هكذا يسخر الكاتب من الصنم نفسه، كما إلى الملتجئ إليه.

أية غباوة أن يلجأ الإنسان للنجدة وسط البحر بخشبة الصنم عوض الثقة في خشبة السفينة التي تُبنى وتُقاد بحكمة صادرة من فوق...

كيف يمكن للضعيف أن يحمي من هو أقوى منه؟ هذه الآلهة الخشبية أضعف بكثير من السفينة، وبالتالي أضعف من الإنسان صانع السفينة.

لأن هذا المركب اخترعه حُبُّ الكسب،

وصنعته الحكمة الفنانة. [2]

يقارن الحكيم بين صانع السفينة وصانع التمثال الخشبي. كلاً من السفينة والتمثال الخشبي من صنع الإنسان، يكشفان عن مهارته. لكن الأول قدٌَم ما هو لنفع البشرية، حيث الحاجة إلى الإبحار سواء للتصيد أو للانتقال بين البلدان الساحلية، أما الثاني فيفسد الصانع وقته بما يًفسد به عقول البسطاء.

يليق بصانعي الأصنام ألاَّ يفسدوا مواهبهم ومهارتهم وقدراتهم في أصنام معيبة لا نفع لها، بل يستخدموها فيما هو لبنيان البشرية، كصناعة السفن الخ.

لكن عنايتك، أيها الآب هي التي تقوده،

لأنك جعلت لها طريقًا حتى في البحر،

وفي الأمواج مسلكًا آمنًا. [3]

هنا يدعو الحكمة الإلهية "العناية الإلهية"، فحكمة الله حب لا نهائي. لأول مرة يظهر تعبير "العناية الإلهية" في الكتاب المقدس، رغم أنها فكرة يؤكدها الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد (يش 4: 24؛ 1مل 18: 46).

العناية الإلهية تعني الحب الإلهي الدائم العمل لحساب الخليقة المحبوبة لدى الله، وهي عمل خلاًَّق.

ظهرت عناية الله الفائقة حين أقام طريقًا لشعبه ومؤمنيه، ومسلكًا آمنًا في الأمواج، الأمر الذي اختبره نوح وأسرته وسط الطوفان، والشعب الإسرائيلي أثناء خروجه وعبوره البحر الأحمر إلى البرية.

وسط أمواج بحر هذا العالم يتكئ المؤمن على صدر الله خالق البر والبحر، فيطمئن، مستظلاً تحت جناحي العناية الإلهية.

لم يجد يونان النبي طريقًا أعذب وأكثر أمانًا من ذاك الذي وهبه الله، حين ألقاه النوتية في البحر الثائر. لقد اعد له الرب حوتًا عظيمًا ليبتلعه (يونان 17:1). في داخله تمتع بسفينة فريدة ليست من صنع إنسان، رفع قلبه إلى الله فتمتع بما لم يتمتع به رؤساء الكهنة في قدس الأقداس، إذ يقول "جاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك" (يونان 7:2). قدم تسبحة فريدة عن بهجة القيامة: "للرب الخلاص" (يونان 9:2). يراه القديس يعقوب السروجي وديعةً محفوظة في جوف الحوت. حيث لا يوجد رجاء؛ يتجلَّى قدامه الرجاء في الرب، وحيث وُجد الموت تلامس مع الحياة الجديدة المُقامة!

v     حينئذ أعد الرب حوتًا كما كُتب، وبلع يونان ليعظمه بين الأمواج. حوت عظيم قبله في دهشة، حفظه كوديعةٍ حتى لا تلطمه الأمواج المحيطة به.

في المكان الذي ليس له فيه رجاء التقى به الرجاء، ومن داخل الموت نبعت الحياة برمزٍ خفيٍ.

في الموضع الذي ليس فيه ساتر ولا مخلص، ستره الحنان، ليسترد الحياة من الموت.

v     سار يونان في الطريق المخوف بلا صحبة. وتبعته المراحم وصارت في صحبته...

أسرع في طريقه إلى مكانٍ مرعبٍ بغير خوفٍ. وحيث ليس مخلصون ولا حافظون حفظ الرب ابن العبرانيين حتى لا يفسد...

سفينة جديدة اقتناها يونان لم تنكسر، وجلس وسار في قلب البحر بسرعة.

سفينة مدهشة تغوص وتجس أعماق البحر، وحمولتها محفوظة لا يبلغها أذى.

سفينة سائرة لا بواسطة الرياح على وجه المياه بل بالحميم داخل المياه بغير ملاحين.

سكن في بيتٍ يسلك بين الأمواج في دهشةٍ، وعندما يتقلب لا يفرغ ما فيه.

v     حديثه مدهش، كاهن يصلي بإطالة، وهيكله بين الأمواج بسرعة.

المذبح داخل الحوت، والصوت عوض القرابين، وقدس الأقداس الذي لا يدخل فيه إلا واحد (رئيس الكهنة).

هيكل لم يبنهِ إلا من هو مولود في داخل المياه. جاء الكاهن من اليابس ودخل وقدٌَس فيه.

في المسكن يوجد هرون، وعلى رأس الجبل إيليا، وفي الهيكل سليمان، وفي داخل الحوت يونان، إنه مذبح بتولي لم يدخل أحد يكهن فيه منذ دخله الكاهن البهي بالخدمة الفريدة.

قول مدهش، لما أرعد (يونان) في أحشاء الحوت، وصعدت صلاته، وليس من شيءٍ يعوقها.

لقد شقت صلاته الأعماق، ولم تعُقها البحار، طارت إلى العلو، ولم يغرقها العمق العظيم.

زاحمت ودخلت وسط الملائكة ولم تُمنع. التقي بها صفوف الناريين ولم تتبكت.

ربطت (الصلاة) يديها، وصرخت بألمٍ قدام العظمة الإلهية. أحنت رأسها وسألت الرحمة من الحنان الإلهي. اضطربت ورعد صوتها بالتضرع بقيثارتها الحلوة، ونطق فمها يطلب المراحم. يا ربي ذاك العبد المحبوس في قاع البحر أرسلني، وأنا أتيت أقدم السؤال.

القديس يعقوب السروجي

مبينًا أنك قادر أن تخلِّص من كل خطرٍ،

حتى إذا ركب البحر من لا دراية له. [4]

لم يكن ليونان دراية أن يقود حوتًا في البحر، وهو في جوفه، لكنه أدرك أن القائد الحقيقي هو ذاك الذي أعد له الحوت.

لقد خلصه من الخطر، بل ودخل به إلى أمجاد فائقة. وخلص الله شعبه قديمًا الذي عاش في مصر يرعى البهائم، لا خبرة له بالبحار، فإذا به يسير في طريقٍ جافٍ وسط المياه، لم تعبر أرجل بشرٍ من قبل ولا عبر فيه أحد من بعد بهذه الكيفية الفائقة. يا لرعاية الله وحبه لنا، حتى حين لا تكون لنا دراية بعبور الطرق الخطرة!

أنت تُحب ألا تكون أعمال حكمتك عقيمة،

ولذلك يودِعُ الناس أنفسهم خشبة صغيرة،

فيقطعون الأمواج في طوفٍ ويَسلَمون. [5]

من محبة الله لنا أنه يستخدم الأمور الصغيرة لخلاصنا كي نشعر بعنايته، ولا نتكل على قدراتنا كأننا قادرون على الخلاص بمجهوداتنا البشرية الذاتية. كثيرًا ما تتحول السفن الكبيرة إلى موضع خطر لمن هم فيها، فيلجأ المسافرون كما البحارة إلى قطعٍ خشبيةٍ بسيطةٍ لا تقارن مع عظمة السفينة، فيشعر الناجون من الخطر أنهم كانوا محمولين لا على قطعٍ خشبية، بل على الأذرع الإلهية. في وسط الأمواج الخطيرة، يقول الرسول بولس: "سلمنا فصرنا نُحمل" (أع 15:27).

 وفي البدء كان الجبابرة المتكبرون يهلِكون،

فالتجأ رجاء العالم إلى طوفٍ[543]،

وكانت يدك تقوده،

فأَبقى للدهر ذرية تتوالُد. [6]

غالبًا ما يشير الحكيم إلى قصة الطوفان، حيث ظن البشر الأشرار في كبرياء أنه ليس من يقدر أن يصدهم عن شرورهم، فهلكوا بالطوفان. أما نوح وعائلته، أي جماعة المؤمنين، فدخلوا الفلك الخشبي كأنه طوق نجاة، عبروا به فترة الطوفان المهلكة ليخرجوا إلى عالم تجدد لخدمتهم. لقد أبقى الله هذه الثماني أنفس لتجديد البشرية.

v     لما استمر عمل المهندسين واقترب من النهاية، ضحك الفسقة على الوقور وسخروا منه،

كان يخبرهم بما كان يسمعه من الله، وهم كانوا يكثرون إهانة تعليمه،

 يا اخوتي لعلهم حسبوه مجنونًا لما كثّر من تحذيرهم ورموا فُلكه بالهزء،

كان يتنهد على الأثمة لأنهم جهال، وهم كانوا يضحكون من العمل الذي كان ينفذه،

بدأ يبني المقصورة الجديدة من الألواح المصفوفة حسب مقاييس أخذها من الله،

ارتفع البناء وانتهى بعد مائة سنة ثم نجز كل العمل بالتمام (تك 5: 32؛ 6: 8، 11)،

بُحّ صوت نوح البار لما كان يكرز، وبنو الإثم أهملوا وأثموا بزيادة،

قدّم لهم تعليمًا بقدر استطاعته، وكان يتضاعف إثم الأرض بزيادة،

عمله العظيم كان يشهد على كلماته، ولم تكن تُسرد قصة هزلية من قبل البار،

ذاك الإتقان العجيب الذي كان يصنعه يبين الحقَ الذي كان يتكلم به،

كان يلزم أن يعرف الجيل الشرير أن نوحًا لم يكن يتعب عبثا في عمله،

المنظر العظيم احتقرته أعينهم، والكرازة احتُقرت من قبل آذانهم،

لم يفهموا بالعمل الذي جرى هناك، ولم يسترشدوا بصوت التعليم،

كانت قلوبهم وأعينهم مع آذانهم مغلقة، لان أبواب أفكارهم أُغلقت بإرادتهم،

لما فاض كيل الذنوب من قبل الأثمة، ونقصت وقلت فرصة التوبة،

لما فسد كل الجيل بقطع الرجاء والغضب، اغلق بابَ المراحم وحبسهم،

لما أمهل المنتقم وانتظر ليطلبوا منه، ولم يوجد صوت يتوسل لنيل الغفران،

لما خجلت النعمة من العدالة: إلى متى تطيل الأناة لأنهم لم يجنوا أية فائدة،؟

لما شيدت طوابق ذلك الفُلك لم يبقَ إلا أن يدخل نوح ثم يأتي الغضب.

القديس يعقوب السروجي

فالخشبة التي بها يحصل البرُّ هي مباركة. [7]

استخدم الله خشبة الفلك لإنقاذ مؤمنيه، عوض التماثيل الخشبية التي يظن البحارة أنها قادرة على إنقاذهم من مخاطر البحار، سواء الأمواج العاتية أو قراصنة البحار.

يقارن هنا بين التمثال الخشبي، وخشبة الصليب. الأولى صنم يسقط تحت اللعنة هو وصانعة والمتعبد له. أما الثانية فتحمل مخلص العالم كله.

v     أتى رب إبراهيم إلى بيت أصدقائه ليزورهم، ولما خرج أبناء إبراهيم أعطوه الصليب،

كان يحمل صليبه، ويخرج من عند صالبة ربها، لأنها لم تعطهِ بدل حسناته سوى هذا (الصليب)،

صار لها طبيبًا وشفى كل جروحها، ولما كان يخرج لم يتزود إلا بالصليب،

أُصدر حكم ابن الله بالإثم، وخرج ليموت مع الأثمة بدون ذنب (مر 15: 28).

القديس يعقوب السروجي

v     يقول الإنجيل "فأخذوا يسوع ومضوا به. فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال موضع الجمجمة" (يو 19: 16-17).

لقد خرج يسوع إلى الموضع الذي يصلب فيه حاملاً صليبه...

يا له من مشهد عظيم!

يراه الناظر الشرير مشهدًا مملوءًا سخرية، وأما الناظر التقي فيراه سرًا عظيمًا!

الشرير يراه تأكيدًا عظيمًا للعار والخزي، والتقي يراه حِصنًا منيعًا للإيمان!

الشرير يراه فيضحك إذ يرى ملكًا حاملاً شجرة العقاب عوض صولجان الملك، وأما التقي فيرى ملكًا حاملاً الصليب لأجل صلبه هو... حيث سيثبت الصليب على الجباة... إذ يقول الرسول بولس: "وأما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلا 6: 14).

لقد كان يمدح نفس صليب المسيح، الذي كان يحمله على كتفيه، كسراج منير يحترق دون أن يوضع تحت مكيال (مت 5: 15).

القدِّيس أغسطينوس

v     بالشجرة التي قتلنا بها (الشيطان) أنقذنا الرب!

بالخمر الذي به صرنا مخبولين، صرنا به (في التناول) طاهرين!

لقد تدفق من الجنب (الإلهي) قوة سرية، حطمت الشيطان مثل داجون (1 صم 5: 1-5)، لأن في هذا التابوت يختبئ كتاب يصرخ عنا: "المنتصر" (السيد المسيح)!

مبارك هو هذا الذي كحمل حقيقي خلصنا، وأهلك مهلكنا كما حدث مع داجون!

الذئب القديم (الشيطان) رأى الحمل... فارتعب منه رغم إخفائه لنفسه. فكما أن الذئب حمل ثوب الحملان، هكذا صار الراعي "حمَلاً" وسط الحملان، حتى متى تجاسر الذئب النهم ليفترس الحمَل الوديع يرد هذا القدير ذاك المفترس!

القدِّيس مار أفرآم السرياني

أما المصنوعة صنمًا فملعونة هي وصانعها،

أما هذا فلأنَّهُ عمِلها،

وأما تلك فلأنها مع كونها قابلة للفساد،

سُمِّيت إلهًا. [8]

يقدم الحكيم سرٌ لعنة كل من مادة الصنم وصانعه. فالمادة في ذاتها ليست شرًا، ولا الإنسان كخليقة الله شر، لأن كل ما خلقه الله صالح. شر المادة في استخدامها كصنمٍ، يغتصب مجد الله، ويسكنه إبليس يخدع به البشر. وشر الإنسان لا في جسمه ولا في نفسه، وإنما في انحراف إرادته، حيث يحمل إرادة مقاومة للحق الإلهي.

العالم جميل وحسن والجسم صالح والنفس صالحة، انحراف أي خليقة عن مسارها الذي من أجله خلقت يفسد كيانها ويجعلها شريرة.

v     "أما المصنوعة صنمًا ملعونة هي وصانعها" (حك 14: 8) ليس بمعنى أن ما ليس فيها حياة ملعونة بذاتها، بل بقولة "المصنوعة" يقصد بدقة الصنم الجامد (الذي مسكنه الشيطان)[544].

العلامة أوريجينوس

فإن الله يبغض الشرير وشره على السواء. [9]

الله لا يبغض خليقته، إنما لا يطيق ما لا يتناسق مع قداسته. فالشرير الجاحد للإيمان، سواء بفمه أو بعمله، لا يستطيع أن يتمتع بالشركة مع القدوس ما لم يقبل التقديس بروح الله.

هنا يبغض الله الإرادة الشريرة التي للشرير، كما يبغض الشر ذاته.

فالمصنوع والصانع يُعاقبان. [10]

كثيرًا ما سمح الله للأنبياء أن يدمروا الأوثان، كما فعل موسى النبي الذي سحق العجل الذهبي وذٌَراه (خر 32: 20). أما عبدة الأصنام، فيسمح الله بتأديبهم في هذا العالم، وإن لم يكفوا عن ذلك فستكون عقوبتهم نار جهنم الأبدية.

لذلك ستُفتقد أصنام الأمم أيضًا،

لأنها أمست في خلق الله رجاسة،

وحجر عثرة لنفوس الناس،

وفخًا لأقدام الأغبياء. [11]

للأسف سليمان الحكيم نفسه إذ تزوج بأجنبيات وثنيات عبد آلهتهن (1 مل 11: 8)، فكم بالأكثر تتعرض النفوس البسيطة للسقوط في هذه العبادة!

2. الزنا وراء الوثنية

إن فكرة صناعة الأصنام هي أصلُ الزنى،

واختراعها فساد للحياة. [12]

خُلق الإنسان يحمل في داخله ناموسًا طبيعيًا يدفعه للعبادة لله الحيّ، يجد في تحقيق هذا الدافع راحة وسلامًا، لكن إذ أعطى الإنسان ظهره لله، ورفض وصيته الإلهية، ثارت شهوات جسده عليه، وتملكت وسادت على إرادته. وفي نفس الوقت يريد أن يتعبد، فاستبدل الله غير المنظور والذي يبكت ضميره بآلهة كاذبة يراها ويلمسها ويسترضيها بكل وسيلة، حتى بتجريح جسمه أو ذبح أبنائه، ليهدأ من ضميره.

ترتبط العبادة الوثنية بالزنا. فمن جهة علاقة المؤمنين بالله كعلاقة العروس بعريسها، فإن أعطته ظهرها لترتبط بآلهة وثنية تكون قد سقطت في خيانة زوجية. لذلك قيل غن إسرائيل الخائنة: "أين كتاب طلاق أمكم" (إش 20:15). كما قيل: "احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض، فيزنلون وراء آلهتهم، ويذبحون لآلهتهم، فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم، وتأخذ من بناتهم لبنيك. فتزني بناتهم وراء آلهتهن، ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن" (خر 15:34-16). أصل الوثنية هو فساد فكر الإنسان والخيانة لله الخالق، والذي يحسب زنا للنفس التي تتخلى عن اتحادها بخالقها لترتبط بأوثانٍ ملعونة.

هذا ومن جانب آخر كثيرًا ما ارتبطت الوثنية بالزنا الجسدي، أحيانًا حتى في هياكل الأوثان نفسها.

يظهر ارتباط الوثنية بالزنا مما ورد عن عبادة الشعب للعجل الذهبي، إذ قيل "وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب" (خر 6:32). هنا يعني باللعب مداعبات جنسية.

v     اكتشفت (عبادة الأصنام) بين البشر لا لسبب سوى وجود الشهوات بين الذين تخيلوها[545].

v     إذ اختبرت النفس البشرية شتى الملذات، وتناست الإلهيات، وسُرت بالأكثر بملذات الجسد التي وضعتها نصب عينيها، ولم تحفل بشيء سوى بالأشياء الحاضرة والتأمل فيها، لم تعد تفكر أنه يوجد خير سوى الأشياء الوقتية والجسدية. لذلك فإنها، وقد تحولت وتناست أنها كانت على صورة الله الصالح، لم تعد بالقوة التي بها ترى الله الكلمة الذي خُلقت على مثاله. لكنها إذ ابتعدت عن نفسها، صارت تتوهم وتتخيل ما ليس له وجود[546].

v     إذ فقد أناس العصر السابق عقولهم، وغرقوا في الشهوات وأوهام الأشياء الجسدية، ونسوا معرفة الله ومجده لبلادة عقولهم، أو بالأحرى لانعدام عقولهم، فإنهم جعلوا لأنفسهم آلهة من الأشياء المنظورة، ممجدين المخلوق دون الخالق الإله، ومؤلهين المصنوعات دون السيد علتها وخالقها[547].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     من يخدم آلهة باطلة هو دون شك زانٍ من وراء الحق، لأن كل بطلان هو زنا. هكذا يغطس في الزنا[548].

العلامة ترتليان

v     سعيدة هي راحيل التي اخفت أصنام الأمم الباطلة وأعلنت أن صورهم مملوءة عدم طهارة. ولا يعتقد أحد أنها قد أساءت إلى تكريم والدها ووقارها له كأبٍ، لأنها جلست بينما كان هو واقفًا (تك 35:31). إذ مكتوب: "من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني" (مت 37:10)[549].

المرأة التي تزني لا تلتصق برجلها، لا تكون جسدًا واحدًا معه (1 كو15:6-16)، بل تعزل نفسها وتفصل نفسها عنه بزناها. هكذا كل نفسٍ لا تلتصق بالله بل تسلك في الزنا بخضوعها لعبادة الأصنام الباطلة تنفصل بدنس المقدسات المُفجع عن الرب بينما كان يلزم أن تلتصق به. ومن يعتزل الرب يهلك[550].

القديس أمبروسيوس

وهي لم تكن في البدء،

ولن تبقى للأبد. [13]

إذ خلق الإنسان صالحًا وطاهرًا، ارتبطت الطهارة بعبادة الله الخالق منذ البداية. لكن إذ سيطر الفساد على الإنسان واستعبد نفسه للملذات الجسدية وسقط في الزنا، انحرف عن عبادة القدوس، وصار يتعبد للأوثان أو المخلوقات، وهذه تزول يومًا ما.

الالتصاق بالإله الحقيقي القدوس يدخل بنا إلى الخلود حيث البُر الإلهي، والانغماس بالشهوات الجسدية يدفعنا إلى الهلاك والدمار، لأنها لا تدوم.

3. المجد الباطل والوثنية

دخلت العالم بحب الناس للمجد الباطل،

ولذلك كتبت لها نهاية عاجلة. [14]

بجانب الزنا يوجد دافع آخر لعبادة الأوثان إلا وهو حب المجد الباطل. فعبادة الله المتواضع يدفع النفس للتمتع بالمجد الداخلي، أما عبادة الأوثان الباطلة فتمَّجد الإنسان وصناعته.

كأن عبادة القدوس المتواضع ترتبط بالنفوس المتواضعة، وعبادة الأوثان والاستعباد للشيطان المتكبر ترتبط بسقوط الإنسان. لا نعجب من تحذير الكتاب المقدس: "يقاوم الله المستكبرين".

4. تخليد الموتى والوثنية

هناك والدٌ فُجعَ بحدادٍ مُعجَّل،

فصنع تمثالاً لابنه الذي خُطف سريعًا،

وجَعلَ يُكرِّم إكرامه لإله،

ذلك الذي كان بالأمس إنسانًا ميتًا،

ورسم للذين تحت يده أسرارًا وطقوسًا. [15]

يقدم الكاتب مثالاً لنشأة عبادة الأوثان. والد فقد ابنه الصغير، فصنع له تمثالاً تذكارًا له، وتحولت الذكرى إلى عبادة، وأوجد لنفسه نظامًا معينًا لعبادة تمثال ابنه.

الأمر الطبيعي أن الأبناء والأحفاد يتعبدون لأسلافهم (2 مك 11: 13)، لكن عُرف أيضًا عن العبادة للموتى من الأبناء لدي المصريين وغيرهم[551].

جاء عن شيشرون الخطيب الشهير أته قد ألهٌ ابنته توليا بعد موتها.

ثم رسخت تلك العادة الشريرةُ على مرِّ الزمان،

فحُفظت كشريعة،

وبأوامر المُلوك أصبحت المنحوتات موضع عبادة. [16]

المثل الثاني لنشأة الوثنية هو إقامة الملوك تماثيل لتكريمهم، ثم طالبوا الشعب بالعبادة لها.

تأليه الحكام انتشر بواسطة Euhemerus حوالي عام 290 ق.م[552].

عبادة الأباطرة

والناس الذين لم يستطيعوا لأن يُكرِموهم بحُضورهم لبُعدِ مُقامِهم،

صَوَّروا هيئاتهم عن بعد،

وصنعوا للمَلك المُكرَّم صورةً منظورة،

لكي يُعرِبوا بغيرتهم عن تملُّقٍ للغائبِ كأنه حاضر. [17]

أما عن أهم شرور العبادة الوثنية فمنها بث روح النفاق، فكان العظماء والشعب يتسابقون على تقديم العبادة لتماثيل الملوك تملقًا ومداهنة، معتبرين تمثاله يقوم مقامة.

v     لنحسب أن كل عبادة وثنية هي عبادة تقدم لبشرٍ...

تُدان العبادة الوثنية ليس من أجل الأشخاص موضوع العبادة، وإنما من أجل ممارستها لحساب الشياطين. "أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر" (مت 21:22، مر 17:12، لو 25:20).

يكفي أن يضع مقابل هذا: "أعطوا ما لله لله"، فماذا إذن يبقى لقيصر؟... لقد طلب الرب أن يقدموا له مالاً، وسأل صورة من هذه؟ وإذ سمع أنها صورة قيصر، قال: "أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر"[553].

v     نحن نتضرع إلى الله الأبدي، الله الحقيقي، الإله الحي، من أجل صحة رؤسائنا...

يليق بهم أن يدركوا ممن نالوا سلطانهم، إنهم كبشرٍ يعلمون ممن نالوا الحياة ذاتها. إنهم مقتنعون أنه هو الله الوحيد، وعلى قوته يعتمدون تمامًا...

إليه نحن المسيحيون نرفع أعيننا ونبسط أيادينا إذ نحن أبرياء، ورؤوسنا مكشوفة إذ لسنا في حاجة أن نخجل، وأخيرًا بدون حاجة إلى من يحثنا، لأننا نصلي من القلب، ونتضرع دومًا من أجل كل أباطرتنا. نطلب لهم حياة طويلة، وإمبراطورية هادئة، ومسكنًا آمنًا، وجيوشًا قوية، ومجلس شيوخ مُخلصًا، وعالمًا في سلامٍ وكل ما يشتهيه هذا الإنسان وقيصر[554].

v     نحن نكرم الإمبراطور، إذ يُسمح لنا بتكريمه، وذلك بكونه إنسانًا يأتي بعد الله[555].

العلامة ترتليان

5. المداهنة وراء الوثنية

ثم إن طموح الفنان حمل حتى الذين لم يكونوا يعرفونَه،

إلى نشر عبادتِه. [18]

إساءة استخدام المواهب، فالفنان صانع التماثيل لا يصنعها للملوك كما هم عليه بل يبذلون الجهد ليسكبوا عليها مسحة جمال لا توجد في الملوك أنفسهم. فتحول الفن إلى فخ لاصطياد الناس للشر.

ولعله كان يرغب في إرضاء المَلك،

فكلَّف فنَّه ليكون إخراجه أجمل من الحقيقة. [19]

مع ما وهب به الفنان من مهارة ما يشغله ليس احترام موهبته الفنية، وإنما إرضاء الملك، لأجل مكسبٍ مادي أو معنوي.

فاستُميلَ الجمهور بروعةِ إنتاجه،

حتى إن الذين كانوا قبل قليلٍ يُكرمونَه،

إكرامَ إنسانٍ عدُّوه معبودًا. [20]

أساء الفنان استخدام موهبته، فقدم فنه لأغراء الناس على نسب الألوهة لإنسان ما. وقد حذرنا الله نفسه من هذا، قائلاً: أنا الرب، هذا أسمي، ومجدي لا أعطيه لأخر، ولا تسبيحي لمنحوتات" (إش 8:42).

ومما أمسى فخًا خفيًا للبشرية،

أن أُناسًا استعبدتهم المُصيبة أو السلطة الملوكية،

فأطلقوا على الحجارة والأخشاب الاسم الذي لا يُشرَك فيه أحد. [21]

يحسب الحكيم إقامة الأصنام والعبادة لها كارثة، غالبًا ما يكون دافعها حب السلطة والمجد الزمني، فيقيم الأباطرة والعظماء من تماثيلهم معبودات يقدم لها الشعب ما لا يليق إلا بالله وحده.

6. الوثنية والتضليل

بعد أن أبرز الدوافع لعبادة الأصنام، ألا وهي الزنا ومحبة المجد الباطل، وتخليد الموتى ومداهنة الأباطرة والعظماء، يحدثنا عن دور العبادة الوثنية في تضليل الناس.

ا. ضلال المعرفة

ثم لم يكتفوا بالضلال في معرفة الله،

لكنهم غاصوا في حرب الجهل الواسعة،

فسَمَّوا مثل هذه الشرور سلامًا. [22]

إن كانت العبادات الوثنية تحل المخلوقات الضعيفة والأصنام الجامدة الميتة محل الله، ويقدمون لها العبادة والتمجيد اللائق بالله وحده، فإن ما هو أخطر من هذا أنهم وهم يفعلون هذا يخدعون أنفسهم، مدعين أنهم في سلامٍ داخليٍ عميقٍ. فالأخطر من الجهل أن يظن الإنسان في جهله حكمة، وفي حرمانه من السلام الداخلي أنه صاحب سلام.

لعله يقصد هنا أن عابدي الأوثان كانوا يقيمون الحفلات ويمارسون الشرور والرجاسات تحت ستار الفرح والسلام. يتطلع الأشرار إلى أولاد الله كأنهم فاقدو الحياة والفرح والسلام. ويدعون أنهم حزانى على المؤمنين لأنهم محرمون من السعادة.

الفكر اللاهوتي الشرير للوثنيين يدفعهم إلى حياة اللهو المتسيبة.

v     المسيح هو سلامنا (رو 5: 1). لهذا فإن طريق السلام هو طريق المسيح الذي لا يعرفه الأشرار[556].

العلامة أوريجينوس

ب. عادات جنونية

رأينا الحكيم يتطلع بمرارة إلى عابدي الأصنام لأنهم جهلوا معرفة الله الحقيقية، وأنهم يحسبون في جهلهم هذا أنهم يتمتعون بالسعادة والسلام. الآن يضيف عاملاً ثالثًا، ألا وهو قيامهم بممارسات وطقوس شائنة لا تليق بهم كبشرٍ.

وبرُتَبِهم القاتلة للأطفال،

وأسرارهم الخفية،

أو بأعيادهم الجنونية ذات العادات الغريبة. [23]

يقصد بكلمة "رُتبهم" "طقوسهم"، فعوض أن يكون الطقس ترتيبًا لائقًا بالإنسان بخلقة الله المقدسة، صار من بين طقوسهم الهامة القتل، تحت ستار تقديم ذبائح للآلهة. لقد فقد الآباء أبوتهم والأمهات أمومتهن، واتفقوا معًا على تقديم الأطفال ذبائح للآلهة الوثنية.

وإذا سئلوا عما وراء هذا التصرف الوحشي ، أجابوا: إنه سرٌ خفي، ليس من يقدر أن يفهمه.

بجانب هذا العنف الوحشي يمارسون عادات غريبة في أيام أعيادهم، غالبًا ما يقصد بها ممارسات جسدية شاذة.

يقدم لنا البابا أثناسيوس الرسولي أمثلة بشعة للذبائح البشرية نذكر منها[557]:

1. كان البعض يقدمون الرجال ذبائح لأصنام تحمل صورة لرجالٍ ماتوا، فيقدمون مخلوقات حية ذبائح لمخلوقات ميتة، وكائنات عاقلة لأشياء عديمة الحركة.

2. التوريون Taurians وهم قسم من السكيثيين، كانوا يعيشون في شبه جزيرة القرم بجنوب روسيا. كانوا يلقون القبض على من نجوا من السفن التي تحطمت ويقدمونهم ذبائحهم لعذرائهم، كما يسمونها. ففي قسوة ووحشية يظهرون أن من أنقذهم آلهتهم من الغرق يُذبحون.

3. كان البعض من السكيثيين يقسمون غنائم الحرب إلى مجموعات، كل مجموعة تضم مائة رجلٍ، يختارون واحدًا عن كل مجموعة ويذبحونه كتقدمة لآلهتهم.

4. اعتاد قدماء المصريين أنه يقدموا ذبائح بشرية إلى هيرا. وكان الكريتيون والفينيقيون معتادين أن يترضوا وجه كرونوس Cronos بذبح أطفالهم. حتى قدماء الرومانيين اعتادوا تقديم ذبائح بشرية في عبادتهم المشترى لاتيوس Jupiter Latius، الإله الذي كان يُعتبر حاميًا للتحالف الإيطالي، والمكون من ثلاثين مدينة لاتينية.

لم يعودوا يحفظون الطهارة في الحياة،

ولا في الزواج،

فيغتال الواحد الآخر،

أو يُؤلمُه بالزنى. [24]

إذ يحرمون أنفسهم من الشركة مع القدوس، يرتبطون بالشيطان الذي لا يطيق العفة والقداسة، إنما يريد أن يسقط كل إنسان في الدنس، حتى في الزواج، ممارسًا أمورًا شاذة غير لائقة.

يصير دستورهم هو اللذة مهما كانت تكلفتها، فليس من مانعٍ أن يغتال إنسانٍ آخر ليغتصب زوجته أو ابنته. وقد يغتصبها أمام عينيه مهددًا إياه بالقتل، وهذا ما يعنيه بقوله "يؤلمه بالزنى".

شر متفاقم،

فهناك الدم والقتل والسرقة والمكر والفساد

والخيانة والفتنة وشهادة الزور. [25]

إذ يترك الإنسان عبادة الله الحي تتحول حياته إلى سلسلة من الشرور لا تتوقف "شر متفاقم". لا يبالي بسفك الدماء أو القتل أو السرقة أو الخداع أو الفساد أو الخيانة أو الفتنة أو شهادة الزور.

والتباس القيم ونكران النعمة،

وتدنُّس النفوس، والشذوذ الجنسي،

وفوضى الزواج،

والزنا والفسق. [26]

يعيشون دون أي اعتبار للقيم الإنسانية أو الاجتماعية، مع جحد للنعمة الإلهية، وتدنيس للنفس والجسد، وإباحية الخ.

يظن المتعبدون للأصنام أنهم كأحرارٍ من حقهم ممارسة الشرور والانحرافات في تسبيب بلا ضابط. إنها حقوق لا يجوز لأحدٍ أن يحرمهم منها.

v     أخفت راحيل - أي الكنيسة أو التعقل - الأصنام (تك 34:31)، إذ لا تعرف الكنيسة تماثيل وأشكال للأصنام التي ليس فيها شيء من الحق، إنما تعرف الوجود الحقيقي للثالوث. بالحق إنها تدمر الظلمة وتعلن بهاء المجد. لنهجر إذن الظلمة، ونطلب الشمس. لنترك الدخان، ونصارع من أجل النور. الدخان هو شر، فكما الدخان بالنسبة للعينين (أم 26:10) هكذا الشر بالنسبة لمن يمارسونه[558].

القديس أمبروسيوس

لأن عبادة الأصنام التي لا اسم لها،

هي أصل كل شرً وعلته وغايته. [27]

يرى الحكيم أن عبادة الأصنام لا تستحق أن يكون لها اسم، لأنها ترفض اسم القدوس، وأنها مصدر كل شر، ووراء كل فسادٍ وانحلال وتسيب، بل وهي غاية الشر، حيث يجحد الإنسان خالقه، ويتعبد للعدو الشرير بصورة أو أخرى.

ج. الابتهاج بالشر

فإن المتعبدين لها يبتهجون حتى الجنون،

أو يتنبأون بالأكاذيب،

أو يعيشون في الظلم،

أو لا يلبثون أن يشهدوا بالزور. [28]

بعد أن تحدث عن فاعلية عبادة الأصنام من استكانة الضمير لرفض الشركة مع الله القدوس، وممارسة كل أصناف الشرور، يوضح أن الأشرار يغطون على الشر بجوٍ من الفرح، لكنه ليس بالفرح الداخلي الهادي، وإنما "يبتهجون حتى الجنون"، يدّعون النبوة، يساعدهم في ذلك إبليس الكذاب، ويسلكون بروح الظلم، والشهادة بالزور. هذا ما أتسم به كهنة الأوثان على وجه الخصوص.

v     لقد أمر الأب (يعقوب) أن يسكن هناك في بيت (إيل) وهناك أمر أن يصنع مذبحًا لله الذي ظهر له (تك 1:35). هناك أخذ الآلهة الغريبة ودفنها تحت البطمة (تك 4:35) في أورشليم. هناك أيضًا دُفنت راحيل في طريقها إلى افراته، أي في بيت لحم (تك 19:35)، وهناك نصب يعقوب عمودًا على قبرها (تك 20:35). يا لها من أسرار عظيمة، هناك توجد كنيسة الله، حيث ظهر الله وكلم مع عبيده المتواضعين.

هناك تنزع أوثان الأمم وتُدفن، لأن إيمان الكنيسة يحطم كل ممارسة الوثنية إني أسأل: لماذا دفنها تحت البطمة؟ بالتأكيد لأنها من الأشجار غير المثمرة، هكذا فإن آلهة الأمم توجد هناك، حيث لا توجد ثمرة[559].

القديس أمبروسيوس

ربما يتساءل البعض: كيف يمكن للأصنام أن تتنبأ ولو بالكذب؟

يربط الكتاب المقدس عبادة الأصنام بالآلهة الكاذبة أو الشياطين، ويعتبر كهنتهم كهنة كذبة، وأنبياءهم أنبياء كذبة، لأن الذين يخدمونه ويحركهم في كل تصرفاتهم الشيطان، المدعو "الكذاب وأب الكذابين". لذلك تُسمى الأصنام "آلهة كذبة" كما تدعى "آلهة الوثنيين أصنام شياطين" (راجع مز 5:96).

لأنهم لاتكالهم على أصنام بلا حياة،

لا يتوَقَّعون إذا أقسَموا بالزور أن ينالهم ضرر. [29]

إذ يتنبأون بالكذب، يقسِمون ويشهدون بالزور، إذ لا يخشون الآلهة، لأنها تماثيل لا روح فيها، لا تستطيع أن تؤذيهم.

أنهم يتعبدون لها ويغيرون عليها، ويقاومون من يعبد الله الحق، لكن في أعماقهم لا يؤمنون بها.

القديس أمبروسيوس

v     يقول دع هؤلاء الذين تدعوهم آلهة يخبرونك عن الأحداث الماضية أو يتنبأون لك عن أحداث المستقبل (راجع إش 7:44).

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

7. عقوبة عبادة الأوثان

فهناك أمرانِ يستحقُّون بهما أن ينزل بهم العقاب:

سُوء تفكيرهم في الله باِتِّباعهم الأصنام،

وقسمهم الماكر بالزور، باستخفافهم بالقداسة. [30]

تحل العقوبة على عابدي الأوثان من أجل أمرين:

أولاً: رفضهم العبادة لله الحي بقبولهم الأصنام عوضًا عنه.

ثانيًا: القسم الكاذب والاستهانة بالقداسة. هنا إذ يتحدث عن الحياة الشريرة أو السلوك الشرير يركز على اللسان الكاذب، الذي يقسم بالكذب، والحياة النجسة المستهترة التي لا تبالي بالقداسة والطهارة والعفة.

لأن ما يتعقب دائمًا معصيةَ الظالمين،

ليس هو قدرة المُقسَمِ بهم،

بل الحُكم على الخاطئين. [31]

يبرز هنا نقطة في غاية الأهمية، وهي أنه وإن كان عبدة الأوثان يقسمون بالآلهة الكاذبة، فإن القسم الكاذب شر حتى ولو كان باسم آلهة كاذبة، لأن الكذب في ذاته خطية سواء بقسمٍ أو بدونه.

 


 

من وحي الحكمة 14

لتقم في داخلي يا حكمة الله،

ولتقتلع مني كل صنمٍ!

v     طلبت يا حكمة الله من نوحٍ،

أن يبني من الخشب فلكًا لخلاصه.

عشرات السنوات عبرت وليس ما يشغل نوح سوى بناء الفلك.

وعشرات السنوات وقف البناءون للسفينة  يسخرون منه.

بك أدرك سٌر الخلاص بخشبة الصليب.

وبدونك صنعوا لأنفسهم أصنامًَا من الخشب والحجارة والمعادن.

 

v     دخل نوح وعائلته وحيواناته إلى الفلك،

ووقف الساخرون به يهزأون،

لقد أضاع وقته وماله وممتلكاته وأسرته في جهالة.

حسبوه كميتٍ لم يستطعم الحياة،

وظنوا في فسادهم ونجاساتهم أنهم سعداء!

 

v     أغلق الرب على نوح باب الفلك.

وشعر نوح ومن معه أنهم محمولون على الأذرع الإلهية.

تحول العالم إلى طوفان ممهلك.

أما نوح ومن معه فكانوا كمن في فردوس مفرح!

لك الخلاص يا حكمة الله!

 

v     يا للعجب، الإنسان الذي أقمته يا حكمة الله ليسوس العالم بالقداسة والُبر،

قد أعطاك القفا لا الوجه.

تحول قلبه إلى برية جافة وفراغٍ قاتلٍ.

ظن الإنسان أن الحياة والسعادة في شهوات الجسد واللذات!

صرخت قلوبهم تطلب إلهًا غيرك.

 

v     تحولوا إلى النجارين والنحاتين يطلبون منهم أن يقيموا لهم من الخشب آلهة.

الإنسان سيد العالم يحمل خشبة هشة.

يشكلها بمهارةٍ وفنٍ، ليصنع منها صنمًا.

العاصي في تشامخ،

والرافض للسجود لك يا حكمة الله حمل صنمًا خشبيًا كإلهٍ له،

يقدم له ذبائح وتقدمات.

يصنع له محرابًا، يثبته في الحائط بمسامير.

يضع الصنم في المحراب ويخشى سقوطه أو سرقته.

 

v     تركك الإنسان يا حكمة الله، فسيطرت عليه الغباوة والجهل.

عوض القدير أقام من الصنم الجامد العاجز إلهًا.

ذاك العاجز عن الحركة، ظنه الإنسان قادرًا على تدبير أموره.

الذي بلا حياة، ظنه واهب الشفاء والحياة والسعادة!

v     إنني في حيرة،

صار الإنسان بالنسبة لي لغزًا.

يطلب لنفسه الكرامة والمجد الباطل، وينحني ويسجد لصنمٍ ميتٍ!

يقيم تماثيل لتخلد ذكراه عبر الأجيال،

وفي مذلة ينبطح أرضًا أمام صنمٍ تافه.

يعتز بعقله وحكمته ومهارته وعلمه،

وفي غباوة يظن في الصنم قدرة فائقة.

 

v     الآن أصرخ إليك يا حكمة الله!

لتسكن فيَّ ولتقتلع منى كل صنم.

هب لي القداسة، فأتحد بك يا أيها القدوس.

أخشاك وأحبك، فلا أخاف إنسانًا، ولا أثق في روحٍ شريرة!

أقتنيك، فأدرك أنني بك سيد وقائد لا اعرف المذلة.

أتمتع بك، فتهرب الجهالة مني.

أتأملك، فأنعم بالحق الإلهي،

ولا يتسلل الضلال إلىٌ.

 

v     أحملني يا حكمة الله، ومخلص العالم!

صليبك هو الخشب المحيية،

هو الفلك المرتفع فوق كل طوفان،

هو اختبار لعذوبة يديك المحييتين!

 

<<


 

الأصحاح الخامس عشر

الوثنية وانحطاط البشرية

في الأصحاح الثالث عشر قدم لنا الحكيم صورة مؤلمة للإنسان وقد ترك خالقه ليستعيض عنه بالطبيعة أو بأحد عناصرها، أو بصنمٍ من عمل الإنسان نفسه.

وفي الأصحاح الرابع عشر يسخر الكاتب من اتكاء الإنسان على تمثالٍ خشبيٍ هش، مبررًا التجائه إلى ذلك لتحقيق لذاتٍ جسديةٍ، أو مجدٍ زمنيٍ، أو لمداهنة إمبراطور أو السير وراء الضلال الباطل.

وفي الأصحاح الخامس عشر يختم حديثه عن الوثنية في مرارة كيف دفعت بالبشرية إلى انحطاط حتى صارت أدنى من الحيوانات غير العاقلة.

1. الاعتزاز بالله الرحيم1-3.

2. الوثنية ثمرة الفساد والغباوة4-6.

3. خزاف يصنع آلهة7-9.

4. انحطاط الإنسان10-13.

5. استعاضة الخالد بالأموات14-19.

1. الاعتزاز بالله الرحيم

أما أنت يا إلهنا فإنك صالحٌ صادِق طويلُ الأناة،

ومدبِّر كل شيء بالرحمة. [1]

وسط حديثه عن العبادة الوثنية التي حطمت فكر الإنسان بالغباوة، وحياته بالرجاسات والكذب مع العنف والقسوة، تطلع سليمان إلى الله ليرى صورة مبهجة منيرة. فيتحدث عنه بقوله "إلهنا"، وكأن الوثنيين يقتنون الأصنام كملكٍ لهم، لكن لا تقدر أن تقتنيهم أو تمتلكهم، إذ هي بلا حياة. أما الله فهو إلهنا الذي يقتنينا شعبًا له، يعتز بنا، ونحن نعتز به.

رأينا أنه مع الفساد اتسمت العبادات الوثنية بالعنف والشراسة حتى بلغت إلى تقديم ذبائح بشرية، أما إلهنا فصالح، صادق في مواعيده، طويل الأناة، ضابط الكل، يدبر كل شيءٍ لنفعنا وبنياننا الأبدي.

يقدم الكاتب مناقشته لمعاقبة الأشرار في شكل مناجاة مقدمة لله (15: 2-3)، الذي هو رحوم، وقدير على خلاف الأوثان العاجزة تمامًا عن العمل.

سبق فتغنى داود النبي قائلاً: "لأنك أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليك... أما أنت يا رب فإله رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة والحق" (مز 86: 5، 15).

وحتى إذا أخطأنا فنحن لك،

لعِلمِنا بقدرتك،

لكننا لا نختار الخطأ،

لعِلمنا بأننا نُعَدُّ من خاصتِك. [2] 

يعترف الكاتب بأن إسرائيل قد أخطأ بانحرافه للعبادة الوثنية، لكنه إذ يدرك أنه شعب الله يجد باب التوبة مفتوحًا أمامه ليتمتع بمراحم الله، مؤمنًا بقدرة الله على الخلاص حتى من العبادة الوثنية. أما سرّ سقوطه في عبادة الأوثان فهو أمران:

أولاً: جهله بأنه من خاصة الله.

ثانيَا: عدم إدراكه أن الله هو البرّ الكامل والقدير وأصل الخلود.

بمعنى آخر ما يحفظنا من الخطأ، وما يدفعنا إلى التوبة متى أخطأنا هو إدراكنا لمركزنا بالنسبة لله، أننا خاصته المحبوبة لديه والمهتم بها. والأمر الثاني حقيقة شخصية الله أنه هو أبونا الذي لا يبخل علينا، بل يقدم نفسه لنا، وهو البٌر الأعظم، والقدير وواهب الخلود. فمع شعورنا الدائم بضعفنا لكن مركزنا يهبنا الالتصاق به وانتماءنا إليه ومعرفتنا لحقيقته، يهبنا الجرأة أن نطلب كما يليق بإمكاناته، أن نصير أيقونة له، نحمل بٌَره ونثق في قدرته ونترجى الأبدية.

v     كان ضروريًا أن يصعدوا بواسطة المياه لكي يصيروا أحياء، فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا ملكوت الله ما لم يخلعوا حالة الموت التي كانت لهم قبلاً... فإنه قبل أن يحمل الإنسان اسم "ابن الله" يكون ميتًا، ولكنه إذ يتقبل الختم يلقي عنه حالة الموت ويتمتع بالحياة. الختم إذن هو الماء الذي ينزلون فيه أمواتًا ويصعدون أحياء[560].

  الأب هرماس

v     حقا إننا ننزل في المياه مملوءين من الخطايا والدنس، ونصعد حاملين ثمرًا في قلوبنا، حاملين في أرواحنا خوف (الله) والرجاء بيسوع[561].

 القديس برناباس

فإن العلم بمن أنت هو البرُّ الكامل،

والعلم بقدرتك هو أصل الخلود. [3]

يشرح لنا القديس يوحنا الحبيب هذه العبارة والعبارة السابقة معًا بقوله: "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله...  كل من يثبت فيه لا يخطئ، كل من يخطئ لم يبصره ولا عرفه... كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس، كل من لا يفعل البرّ فليس من الله" (1 يو 3: 1، 6، 9-10).

v     يجب أن نُسرع في معرفة أي طريق هو لمغفرة الخطايا ورجاء ميراث الخيرات الموعود بها، فإنه لا يوجد سوى هذا الطريق: أن تتعرف على هذا المسيح، وتغتسل في الينبوع (المعمودية) الذي تحدث عنه إشعياء لغفران الخطايا (إش 4: 4)، وهكذا نبتدئ أن نعيش بالقداسة[562].

 الشهيد يوستين

 

v     إذ اعتمدتم في المسيح، ولبستم المسيح، صرتم خاضعين لابن الله... بهذا تصيرون شركاء المسيح[563].

القديس كيرلس الأورشليمي

2. الوثنية ثمرة الفساد والغباوة

لأن ما اختَرَعَتهُ صناعةُ الناس الشريرة لم يُغوِنا،

ولا جُهودُ الرسَّامين العقيمة من صور مُلطخةٍ بألوانٍ متنافرة. [4]

في كتابه ضد الوثنيين" Contra Gentes يقول القديس أثناسيوس الرسولي إن الشر لم يكن له وجود، فهو من صنع إرادة الإنسان الشريرة. الله لم يخلق الشر، لكن اعتزال الإنسان الله الكلي الصلاح دفعه إلى الشر. هذا الشر هو أصل العبادة الوثنية التي لم يكن لها وجود، لكنها جاءت نتيجة طبيعية للشر الذي أوجدته الإرادة الشريرة.

أما أولاد الله الذين ترتفع أفكارهم إلى السماوات، فإنه مهما بلغ إبداع الفنانين لا يمكن أن تنجذب قلوبهم لعبادة صنمٍ ما. في أعينهم ليس من وجهٍ للمقارنة بين خبرة السماويات واختراعات البشر الشريرة.

اختراعات البشر لن تتوقف، لكن أولاد الله ثابتون في رجائهم في الرب، متمسكون بملكوت أبيهم.

يؤدي منظرها إلى إيقاظ الهوى عند الأغبياء،

ويُرغبهم في صورةِ تمثالِ ميتٍ لا روح فيها. [5]

مهما بلغ إتقان الفنان، ومهما كان الإغراء، فإن الصنم تمثال ميت لا روح فيه، فكيف يستعبد الإنسان الحي نفسه لتمثالٍ ميتٍ؟ يليق بالإنسان أن يعتز بما ناله، فإنه ليس من وجه للمقارنة بين التمثال- مهما بلغت إغراءاته - والإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله!

إن الذين يصنعونها، والذين يرغبون فيها،

والذين يعبدونها، هم عُشاقٌ للشر،

وأهلٌ لأن تكون آمالهم مثل هذه. [6]

يدهش الحكيم كيف تسحب شهوة الشر هذه الفئات، أي صانعي التماثيل ومحبي التماثيل، فيقتنوها ويتعبدوا لها.

v     عابد الوثن يشبه قاتلاً. أتسألون: يقتل من؟ يوجد اتهام متفاقم ضده، فإنه لا يقتل غريبًا، ولا عدوًا شخصيًا، بل يقتل نفسه. بأية شباك يُصطاد؟ بخطئه. بأي سلاح؟ بالعصيان ضد الله[564].

v     عبادة الأوثان تضم كل الجرائم، وكل الجرائم تضم فيها عبادة الأوثان[565].

العلامة ترتليان

3. خزاف يصنع آلهة

لأنه إذ يكدُّ خزَّاف في عَجنِ الطين اللَّين،

ويُصوَّر كل شيء مما نستخدمه.

من الطين عينه يصنع الآنية المخصصة للأعمال النظيفة،

والمُخصصة لعكس ذلك،

كلها على السواء.

وأما تخصيص كل إناء من كلتا الفئتين،

فإنما يعود إلى حُكم صانع الطين. [7]

سبق أن تحدث عن النجار (ص13-14) الذي وهبه الله مهارة وفنًا لصنع السفن لنفع البشرية، وقد حوَّل مهارته إلى صنع أصنام ميتة تحطم البشرية وتفسدها. الآن يتحدث عن الخزَّاف الذي يليق به وهو يعجن الطين يذكر كيف خلق الله الإنسان من الطين، فيمجد خالقه بمهارته ويعمل لحساب البشرية، لا أن يشكِّل صنمًا خزفيًا في غباوة، يدفع الناس إلى الممارسات النجسة أثناء عبادتهم للأوثان!

هكذا يليق بكلٍ من النجار والخزاف أن يشهدا لحكمة الله المخلص والخالق، لكن في غباوة حوَّلا أفكار البشر عن خالقهم ليعبدوا الأصنام الخشبية أو الخزفية.

لا يهاجم الحكيم النجارين والخزافين، فإنه يمكن لكل أصحاب المهارات أن يعملوا ويُبدعوا لحساب بنيان البشرية، فيخرجوا من الخشب أدوات منزلية أو أدوات عمل، ويخرجوا من الطين أوانٍ نظيفة ومبهرة تستخدم في الطهي أو تقديم الطعام والشراب أو الزينة الخ.

فالعمل في الخشب والطين والحجارة والمعادن مقدس، إن كانت إرادة العاملين مقدسة. كل شيء طاهر للطاهرين.

v     كل الأشياء الموجودة صالحة، لأن خالق هذه جميعها هو كلي الصلاح[566].

القديس أغسطينوس

v     الخلائق ليست رديئة من طبعها، فلو كانت رديئة لما خلقها الله، إذ أن كل خليقة الله حسنة كما قال الرسول بولس (1 تي 4: 4)، ثم ان وصية الله لا تأمر بأن نرذل الخيرات ونهرب منها، بل أن نحسن تدبيرها. ولا يدان أحد لامتلاكه أموالاً، بل لافتخاره بها أو لأجل سوء استعماله لها[567].

القديس باسيليوس الكبير

v     أليس العالم صالحًا؟ أليست الحياة الحاضرة صالحة؟ لكن إن سحبتني هذه عن المسيح أحسب كل هذه الأشياء خسارة. لماذا؟ "من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي". فإنه إذ تشرق الشمس، يحسب الجلوس بجوار شمعة خسارة. فالخسارة تقوم علي المقارنة، علي السمو علي الأمور الأخرى... لاحظوا كيف يدعو كل شيء خسارة، ليس في ذاتها، وإنما من اجل المسيح[568].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ويكدُّ بلا جدوى،

فيصنع من الطين نفسه إلهًا تافهًا،

وُلد من الطين منذ قليل،

ويعود بعد قليلٍ إلى الطين الذي أُخذ منه،

حين يُطالبُ بردِّ نفسه المُستعارة. [8]

يتطلع الحكيم إلى الفخاري الذي يبذل كل الجهد ليخرج من الطين إلهًا يتعبد له هو نفسه ومن يبيعه له. إنه مجهود شاق، وإفساد للفكر وللمواهب كما للحياة، أن يتخيل الفخاري أنه قادر أن يُوجد إلهًا من صنع يديه.

ولعله يقصد بقوله "يرد نفسه المستعارة" إن الشيطان يدخل في التمثال ويتكلم ويخدع بعمل معجزات كما فعل السحرة أمام فرعون، لكن إلى حين.

v     بهذه الكلمات (إش11:44) يعلمنا الله مدى غباوتهم، إذ يعبدون (الأصنام) كصانعي خيرات... خالق هذه التي تبدو آلهة هم البشر الذين لهم ذات طبيعة من يعبدونهم، والإنسان الذي يصنعها هو نفسه يعبدها كإله[569].

العلامة ترتليان

غير أنه لا يبالي بأنه سيموت،

وبأن حياته قصيرة،

لكنه ينافس صاغَةَ الذهب والفضة،

ويقتدي بالنحَّاسين،

ويفتخر بتشكيل آلهة مزيفة. [9]

يتسابق صناع الأصنام في عمل التماثيل، ويفتخر كل منهم أنه صنع إلهًا أو آلهة مزيفة. في تهورهم يفتخرون بعمل أياديهم ويحسبونها أعمالاً عظيمة، بينما هم يتاجرون بالدين، ويطلبون نفعهم المادي.

4. انحطاط الإنسان

فقلبه رمادٌ،

ورجاؤُه أَخَسُّ من التراب،

وحياته أحقر من الطين. [10]

إذ رفض إسرائيل نور الرب يحذرهم بإشعياء النبي من التشبه بالأمم الوثنية التي تجاهلت كرامة الإنسان وانحطت به إلى الحضيض، قائلاً: "امتلأت أرضهم أوثانًا، يسجدون لعمل أيديهم، لما صنعته أصابعهم، وينخفض الإنسان، وينطرح الرجل، فلا تغفر لهم" (إش 8:2-9).

حقًا ما يحزن قلب الله الذي خلق الإنسان من التراب ونفخ فيه نسمة حياة، ووهبه أن يكون على مثاله وصورته، أنه انحط إلى أصله، بل وإلى ما هو أدنى من هذا الأصل. بعصيانه لروح الله وترحيبه بأفكار إبليس، صانعًا أصنام يتعبد لها، صار قلبه رمادًا، وهو أدنى من التراب، وأقل قيمة. صار رجاؤه أحقر من التراب الذي خُلق منه، لأن التراب لا يصنع شرًا.

v     يا له من أمرٍ مرعبٍ عندما يترك الإنسان نير المسيح الهين وحمله الخفيف (مت 11: 30)، ويخضع لنير الشياطين ويحمل تقل الخطية الخاطئة جدًا، بعدما عرفنا أن قلب عابدي الأوثان هو رماد، وحياتهم لا تزيد عن التراب (حك 15: 10)[570].

العلامة أوريجينوس

لأنه تجاهل من جَبَلَهُ،

ونفخ فيه نفسًا عاملة،

وبعث روحًا مُحييًا. [11]

مقابلة خطيرة بين عمل الله محب البشر، والإنسان محب الشر. الله خلق الإنسان وجبله من التراب، لكن نفخ فيه نسمة حياة تهبه روح العمل بقوة، ليسوس العالم بالقداسة والبٌر، والثاني يظن أنه قادر أن يقيم من التراب إلهًا لا حركة له، بلا حياة.

الله يود أن يرفع من شأن الإنسان ليسكن السماء وينعم بشركة الأمجاد، والإنسان في انحطاطه يود الخضوع للتراب والطين الذي بلا حياة.

v     ذاك الذي خُلق على صورة الله ونال سلطانًا على كل المخلوقات التي على الأرض بكونها نصيبه، سقط بغباوته من مركزه الملوكي. وإذ أراد أن يسترد الكرامات إذا بإرادته يُكرم عمل يديه، فينحني وينبطح ويُخضع نفسه لسلطان الشياطين الاستبدادي[571].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

v     السجود أمام الله يرفع الإنسان ويزيده عظمة، والانحناء أمام الأصنام يحط من شأنه وينزل به.

أي انحطاط أكثر من أن يترك الإنسان خلاصه، ويقيم عداوة مع إله المسكونة، وفي نفس الوقت ينحني أمام أشياء بلا حيوية، متعبدًا لحجارة؟

حقًا لقد رفعنا الله بالكرامة التي خلقنا عليها إلى أعظم من السماوات، لكن الشيطان وضع في نفسه أن ينحط بالذين يطيعونه حتى يصيروا كائنات بلا إحساس ولا حيوية. هذا بالتأكيد السبب الذي لأجله يعلن النبي: "انخفض الإنسان، انطرح الرجل" (إش 9:2)[572].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

بل حسِبَ حياتنا لُعبةَ لا قيمة لها،

ووُجودنا سوق أرباحٍ، فقال:

"لابُد من الربح بجميع الوسائل ولو بالظلم". [12]

بينما يود الله أن يرفع الإنسان إلى مستوى فائق، فيكون له نصيب بين السمائيين، وقد كلفه هذا الكثير، فقد أرسل الآباء والأنبياء والناموس وسمح بأحداثٍ ليمهد الطريق لقبول عمله الخلاصي. موضوع خلاص الإنسان وتمجيده شغل الثالوث القدوس، ولا يزال يشغل الله الثالوث حتى ندخل إلى المجد. للأسف، فإن الإنسان أحيانًا يلهو بخلاصه، فيحسب حياته لعبة لا قيمة لها.

بينما يعد لنا الله الأمجاد السماوية الأبدية، إذا بالإنسان ينشغل بمكاسب مادية أو كرامات زمنية يحققها حتى بطرق غير لائقة كالظلم. كمثالٍ ديمتريوس صائغ صانع هياكل فضة لارطاميس كان يكسب الصناع مكسبًا ليس بقليل (أع 19: 24) سبب مشاكل كثيرة للرسول بولس.

المسيحي وهو يسلك على الأرض بروح المسئولية والالتزام في كل ما يؤتمن عليه، يحمل لمسة سماوية في أفكاره كما في أحاسيسه ومشاعره، تترجم في كلماته وسلوكه الظاهر. حياتنا هي مدرسة إلهية خلالها نتعلم ونتدرب على الحياة السماوية، في كل اتجاهات حياتنا.

v     أريدكم أن تحفظوا أذهانكم في هذه الأمور على الدوام (كو 1:3). فإن اهتمامنا بها يحررنا من الأرض وينقلنا إلى السماء[573].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     وإن كنا محاطين بالعالم لا نُسلم له[574].

 ثيؤدورت أسقف قورش

v     الغاية التي نسعى إليها والتي نصبو إلى الوصول إليها بكل حرصٍ واجتهادٍ هي الحياة السعيدة مع الله في السماء الخالدة. ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفًا وعظمة للخليقة العاقلة[575].

v     وجه سعيك نحو السماء، واستفد من كل شيء تصادفه في مسيرة حياتك على الأرض[576].

v     الزهد هو حل رباطات هذه الحياة المادية الزائلة، وتحرر من الارتباطات البشرية حتى نهيِّئ أنفسنا بالأكثر لنكون على الطريق الذي يقود إلى الله. أنه الدافع الذي لا يُعاق لاقتناء الخيرات النفيسة جدًا التي هي "أشهى من الذهب والحجارة الكريمة" (مز 19: 10) والتمتع بها. باختصار الزهد: هو انتقال من القلب البشري إلى الحياة السماوية، فيمكننا القول: "فإن هدايتنا نحن هي في السماوات". أيضًا أنه النقطة الرئيسية هو الخطوة الأولى نحو التشبه بالمسيح، الذي وهو الغني افتقر لأجلنا (2 كو 8: 9). فإن لم ننل هذا الشبه يستحيل علينا أن نبلغ طريق الحياة حسب إنجيل المسيح[577].

v     بينما نسحب جسدنا على الأرض مثل ظل، نحفظ نفوسنا في صحبة الأرواح السمائية[578].

القدِّيس باسيليوس الكبير

فهو أعلمُ الناسِ بأنه يخطئ،

لأنه يصنع من مادة ترابية آنية سريعة الانكسارِ وصورًا منحوتة. [13]

مهما بلغت غباوة الخزاف، ففي أعماقه يدرك وهو يصنع صنمًا للعبادة أنه يخطئ، وان ما يعمله قابل للكسر والزوال.

5. استعاضة الخالد بالأموات

يرى البعض أنه ركز على مصر حين أشار إلى الأمم الوثنية، لأن بعض المصريين كانوا من أشر عبدة الأوثان[579].

ألقى بالضوء على خطأ قدماء المصريين لغباوتهم من جهة عبادة الأصنام التي بلا حياة وعاجزة عن العمل.

ربما جاء الهجاء هنا على الأصنام قائمًا على ما ورد في مزمور 115: 4-7، ومزمور 135: 15-18.

لكن جميع أعداءِ شعبك المتسلطين عليه هم أغبياء جدًا،

وأشقى من الأطفال أنفسهم. [14]

إذ يعتزل الإنسان الله يصير في غباوة وجهل، فيستعبد نفسه لما هو حقير، يصير كطفلٍ لا من جهة البساطة، وإنما من جهة عدم المعرفة وعدم التعقل ودراسة الأمور بجدية.

v     الفكاهة (أو عدم الجدية) تجعل النفس مدللة وخاملة، فإنها تثير النفس بمبالغة وغالبًا ما تسبب أعمالاً عنيفة وتخلق حروبًا وماذا أكثر من هذا؟ باختصار ألم ترد أن تكون بين الرجال؟ اترك الأعمال الطفولية!"[580]

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     لا يريدنا المسيح أن نكون بلا فهم بل يريدنا أن نفهم كل ما هو نافع وضروري لخلاصنا بطريقة كاملة. فإنه حتى الحكمة تعد أنها ستعطي "البسطاء ذكاءً والشاب بدء معرفة وتدبيرًا" (أنظر أم 1: 4). وقد وجدت الحكمة في سفر الأمثال أشبه بمن ترفع صوتها عاليًا، وتقول: "لكم أيها الناس أنادي وصوتي إلى بني البشر، أيها البسطاء تعلموا الذكاء، ويا جهال ضعوا قلبًا فيكم" (انظر أم 8: 4)...

لكن كيف يكون الإنسان بسيطًا وحكيمًا في نفس الوقت؟ هذا ما يوضحه لنا المخلص في موضع آخر بقوله: "كونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام" (مت 10: 16)، وبنفس الطريقة يكتب الطوباوي بولس: "أيها الإخوة لا تكونوا أولادًا في أذهانكم، بل كونوا أولادًا في الشر، وأما في الأذهان فكونوا كاملين" (1 كو 14: 20).

يلزمنا أن نفحص ما معنى أن نكون أولادًا في الشر، وكيف يصير الرجل هكذا بينما يكون في الذهن رجلاً ناضجًا. الطفل معرفته قليلة جدًا، وأحيانًا معدومة تمامًا، لذا فهو بريء من جهة فساد الشر، ونحن أيضًا من واجبنا أن نسعى لكي نتمثل بهم في هذا الأمر بانتزاع عادات الشر عنا تمامًا، فيُنظر إلينا كرجال ليس لهم حتى معرفة بالطريق التي تقود للغش، ليس لنا إدراك للمكر أو الخداع، بل نكون بسطاء وأبرياء نمارس اللطف والتواضع الذي لا يقدّر، ونكون مستعدين لاحتمال السخط والضغينة. بهذا نؤكد أننا نحمل سمات من هم لا يزالون أولادًا.

بينما تكون شخصيتنا بسيطة وبريئة، يليق بنا أن نكون كاملين في الذهن، فيتأسس فهمنا بثباتٍ ووضوحٍ على من هو بالطبيعة والحق خالق المسكونة، الله الرب...

يقوم كمال الذهن الرئيسي على الإيمان، فلا يكون فهمنا فاسدًا، وأما الأمر الثاني والمجاور لهذا الكمال الرئيسي والقريب منه وملازم له، فهو المعرفة الواضحة للطريق السلوكي الذي يفرح الله الذي تعلمناه بالإنجيل، الطريق الكامل الذي بلا لوم (هنا يميز القديس بين السالكين طريق الرب الإنجيلي وبين النبلاء في السلوك خلال الفلسفات التي يمكن أن تخدع). من يسلك هذا الطريق يمارس حياة البساطة والبراءة، ومع ذلك فهم يعرفون أية أراء (إيمانية) يتمسكون بها وأي أعمال حقة يمارسونها. مثل هؤلاء يدخلون الباب الضيق، فلا يرفضون الأتعاب التي تلزم للتقوى في الله واللازمة لتقود إلى الحياة الممجدة. هكذا بحق يتقدمون إلى اتساع فيض طريق الله ويبتهجون بعطاياه، ويربحون لأنفسهم ملكوت السماوات بالمسيح الذي لله الآب الحمد والسلطان بالمسيح معه، ومع الروح القدس إلى أبد الأبد. آمين[581].

القديس كيرلس الكبير

لأنهم حسِبوا حتى جميع أصنام الأمم آلهة،

مع أنها لا تستخدم عُيونها لتبصر،

ولا أنوفَها لتستنشق الهواء،

ولا آذانها لتسمع،

ولا أصابع أيديها لتلمُس،

ومع أن أرجلها عاجزة عن المشي. [15]

العجيب أن الفراعنة الذين برعوا في المعرفة في فن التحنيط والفَلك والعمارة والألوان والنحت الخ.، سقطوا في عبادة تماثيل لا تُبصر ولا تتنفس الهواء، ولا تسمع، وليس لها إحساس عندما يلمسها أحد، عاجزة عن الحركة. الفراعنة المملؤون حيوية ونشاطًا يعبدون ما هو جامد.

v     كيف لا يرثى لهم المرء من هذه الناحية، إذ يراهم يعبدون ما تعجز عن أن ترى، ويسمعهم يصلون لما تعجز عن أن تسمع، ويشهد أناسًا مثلهم وُلدوا ولهم حياة وعقل، لكنهم يدعون آلهة تلك الأشياء التي لا حركة لها على الإطلاق، بل ليست لها الحياة نفسها؟ والأغرب من الكل أن التي يحفظونها تحت سلطانهم يخدمونها كأسياد لهم[582].

 القديس أثناسيوس الرسولي

في كتابه "ضد الوثنين" يقول البابا أثناسيوس الرسولي إنه كان الأفضل ألا تحمل الأصنام أذانًا وأعينًا وأنوفًا وأصابع حتى لا ينفضح عابدو الأوثان بان أصنامهم لا تسمع ولا ترى ولا تشم ولا تلمس.

لأن الذي صنعها هو إنسان،

والذي جبلها كائن أُعيرَ روحًا.

وليس في طاقة إنسان أن يصنع إلهًا شبيهًا به. [16]

صانع هذه الأصنام هو الإنسان الفنان، الذي مع ما بلغه من مهارة وفن، لا يملك الحياة. نسمة الحياة التي فيه معارة له كهبة إلهية، وحتمًا يومًا ما يموت وتنطلق نفسه من جسمه، فكيف يهب مثل هذا الكائن حياة خالدة لمواد ميتة بلا حياة؟!

وبما أنه قابل للموت،

فهو يصنع شيئًا ميتًا بيدين أثيمتين.

إنه هو نفسه من الأشياء التي يعبُدها،

إذ هو كان حيًا، وأما هي فلم تكن حية. [17]

الإنسان كائن قابل للموت، لا يقدر أن يقيم نفسه أو يردها إلى جسمه، فكيف تمتد يداه بالإثم ليدَّعى أنه يقيم إلهًا من صنع يديه حيًا لا يموت؟ وكيف يعبد صنمًا لإنسان مثله قابل للموت أو مات فعلاً؟

v     وهم يبغضون الحيوانات الحقيرة والوحوش والطيور والزحافات، وينفرون منها، إما بسبب شراستها أو بسبب قذارتها، فإنهم ينقشون صورها على الحجر أو الخشب أو الذهب ويدعونها آلهة. ولكن كان خيرًا لهم أن يعبدوا الكائنات الحية نفسها بدلاً من عبادة صورها في حجارة. ولكن كلا الحالتين ادعاء باطل، فلا المادة ولا الصورة هي السبب في الحلول الإلهي، ولكن هي براعة الفن التي تستدعى اللاهوت... لكن إن كان اللاهوت يتصل بالتماثيل بسبب الفن، فما الداعي أيضًا للمادة طالما كان مستقرًا في البشر؟ لأنه إن كان الله يعلن ذاته بسبب الفن فقط. وإن كانت التماثيل تُعبد كآلهة لهذا السبب، لكان من الأصوب عبادة وخدمة الإنسان الذي هو سيد الفن، لأنه عاقل أيضًا وفيه ذكاء[583].

 القديس أثناسيوس الرسولي

وهم يعبدون حتى أكثر الحيوانات ضررًا،

وأشد الحيوانات غباوة. [18]

وليس فيها ما في سائر الحيوانات من حسن المنظر الفتَّان،

وقد فاتها ثناءُ الله وبركته. [19]

إنه لأمر عجيب أن يستعبد الإنسان نفسه للحيوانات وهي أقل من الإنسان، ومخلوقة لخدمته، فكم بالأكثر إن اختار من بينها الحيوانات الضارة والشرسة والقبيحة المنظر. وكأنه وهو يتشامخ على الله الخالق ويقاوم وصيته، بل وينكر وجوده مستعد أن يخضع للكائنات الضارة والحقيرة!

نختم حديثنا عن العبادة الوثنية بما أشار إليه كثير من الآباء، وهو أن الإنسان يتشكل حسب إمكانات من يتعبد له. فمن يعبد الله الخالق ينعم بالخلود، ومن يعبد الأصنام الميتة يسقط تحت الموت والهلاك، وكما يؤكد الكتاب المقدس، أن الذين يعبدون الأصنام يصيرون مثلها "ساروا وراء الباطل، وصاروا باطلاً" (إر5:2). "جاءوا إلى بعل فغور، ونذروا أنفسهم للخزي، وصاروا رجسًا كما أحبوا" (هو 10:9).

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن الإنسان في شره انحط بالأكثر، فمزج بين خلائق غير متشابهة، العاقلة مع غير العاقلة، مثل آلهة المصريين التي لها رأس كلب أو رأس حية أو رأس حمار، وعمون إله الليبيين الذي له رأس كبش. وقام البعض بتأليه أعضاء من جسم الإنسان مثل الرأس والكتف واليد والقدم[584].

لماذا يدعو الكتاب المقدس الأصنام أحيانًا آلهة؟

v     عندما يدعوها الكتاب المقدس آلهة، وهي ليست آلهة، لا يعلن عنها أنها آلهة بأي معنى، وإنما بمعنى إضافي، مع أنها تظهر أنها ليست آلهة نهائيًا. وكما يقول داود: "آلهة الوثنيين هي أصنام شياطين" (راجع مز 5:96).

"لا تسجد لإله أجنبي"" (مز 9:81). فإنه في هذا يقول: آلهة الوثنيين"، لكن الوثنيين يجهلون الله الحقيقي، كما يدعو الأصنام "آلهة أخرى"، لكي يصد وجهة نظرهم أنها آلهة. أما عن حقيقتها فهو يقول عنها "أصنام شياطين"، ويقول إشعياء: "ليخزَ كل الذين يجدفون على الله وينحتون أشياء لا نفع لها، أنا اشهد يقول الله" (راجع إش 11:44). ويقول ارميا أيضًا ذات الأمر: "الآلهة التي لم تصنع السماوات ومن تحت السماوات" (إر11:10).

 القديس أيريناؤس

 


 

من وحي الحكمة 15

أبوتك تحفظني وترفعني إليك!

v     أتطلع إليك يا حكمة الله،

أراك شمس البٌر المشرق بأشعة الحب على كل البشرية.

 

v     أغوص في بحر مراحمك وطول أناتك.

فتشبع أعماقي بأبوتك الحانية!

 

v     اسمح يا حكمة الله أن أشتكي لك نفسي.

لأنك خلقتني سيدًا حرًا، وملكًا، سفيرًا لملك الملوك.

وفي غباوتي سحبت يديٌ من يديك.

وحولت عيني عن عينيك،

وانشغلت أذني بأصوات العدو الشرير.

 

v     أشكو إليك آبائي الذين تركوك يا مصدر الحكمة،

فانحدروا من الحياة السماوية إلى المزبلة.

استبدلوك بأصنامٍ لا تسمع ولا ترى ولا تشم ولا تتحرك.

 

v     يا للعجب يخافون الوحوش المفترسة،

ويقيمون أصنامًا من الحشرات والزواحف.

يقيمون لها أصنامًا، ويزينونها بالورود والحجارة الكريمة والذهب والفضة.

يتشامخون في كبرياء وعجرفة،

ويقيمون تماثيل لأباطرة وملوك

يقدمون لها تقدمات وذبائح حتى بعد موت الأباطرة...

 

v     يا للعجب، أخذت طينًا وأقمتني منه،  إذ نفخت فيه نسمة حياة من عندك.

وهوذا الخزاف يأخذ طينًا، ويصنع صنمًا خزفيًا ليسجد له الإنسان.

 

رفعتنا من المزبلة لنجلس في السماء مع الطغمات السماوية،

وبإرادتنا الفاسدة وبكامل حريتنا، نزلنا لنسجد للتراب!

استبدلك آباؤنا يا أيها القدوس الأبدي بالخزف الذي بلا حياة!

تُرى هل وجد آباؤنا في المذلة للأصنام سعادة!

هل يهوى الإنسان الانحطاط والمذلة؟

 

v     لك المجد يا حكمة الله السماوي!

نزلت إلينا، وعشت على أرضنا،

لكي بصليبك تسحبنا ثانية من التراب إلى الأمجاد.

أخليت ذاتك، وأخذت شكلنا نحن العبيد،

لكي تحملنا من العبودية إلى مجد أولاد الله.

فتحت لنا نحن الترابيين باب السماء،

ودعوت الطغمات السماوية لتتمتع بالبهجة بنا.

 

v     جعلتنا عجبًا أمام السمائيين!

هوذا كل السماء تترقب يوم مجيئك على السحاب،

لترى كل مؤمنيك، الملكة السماوية، المتمتعة بمجدٍ عجيبٍ وفائقٍ!

<<


 

الأصحاح السادس عشر

حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 1

بعد أن بدأ الكاتب يسجل عمل حكمة الله في حياة الشعب، تعرض في الأصحاحات الثلاثة (ص 13-15) لخطورة العبادة الوثنية، وما بلغه الإنسان من انحطاط حتى صار يتخبط، تارة يعبد بعض الظواهر الطبيعية، وأخرى يتعبد لأصنام بشر مثله، وثالثه لأصنام حشرات يأنف منها على الطبيعة، بينما يخشع لتماثيلها، ويقدم لها كل تكريمٍ وتوقيرٍ، ويصلي إليها لتقوده في طريق حياته، وتحميه من المخاطر. سجل الحكيم هذا حتى متى أكمل حديثه عن الحكمة الإلهي الحازم في تعامله مع عبدة الأوثان لا ننسب له القسوة، أو المحاباة لشعبٍ على حساب شعوب أخرى.

تقدم لنا الأصحاحات 16-19 تكملة المقابلات بين تعامل حكمة الله مع المؤمنين وتعامله (كأقنوم إلهي) مع الوثنيين عبدة الأصنام.

في الأصحاح الحادي عشر تحدث الحكيم عن مقابلتين.

أ. المقابلة الأولى (4:11-9): تحدث فيها عن معاناة المصريين من ماء نهر النيل الذي تلوث بالدم كتأديبٍ لسفك دماء أطفال أبرياء, أما المؤمنون فأخرج لهم ماءً وسط البرية من صخرة، فوجدوا حياة عوض الموت من العطش.

ب. المقابلة الثانية (16:11-20): بين ضربات الحشرات والضفادع وبين عطية السلوى في البرية.

إذ عبد المصريون الحيوانات  والحشرات عُذبوا بواسطة حيوانات وحشرات أثناء الضربات، بينما من الجانب الآخر وُهب المؤمنون السلوى (حيوانات أو طيور) لكي يأكلوا (خر 16: 13).

الآن يعود إلى المقابلة الثانية، ثم يكمل بقية المقابلات لإبراز عمل الحكمة الإلهي في الجميع بغير محاباة.

هذه المقابلات هي:

المقابلة الثالثة: الجراد والحيَّة النحاسية (حك 16: 5-14). ضُرب المؤمنون بلدغات الحيات السامة في البرية لتأديبهم (16: 7، 10؛ عد 21: 6-9). وضُرب الوثنيون بالحشرات المؤذية. لكن قدم اللاويون الحية النحاسية لكي بالإيمان يشفوا، أما الوثنيون فلم يتمتعوا بالشفاء بسبب عدم إيمانهم. سرّ شفاء الأولين ليس أن الحية النحاسية تحمل قوة سحرية، وإنما ما وراء ذلك من قبول لكلمة الله وحكمته.

المقابلة الرابعة: البرَد والمَنّ (حك 16: 15-29). البَرَد والثلج يشير إلى مظهر المنّ (16: 22). هلك الوثنيون بمطرٍ من البَرَدْ من السماء (خر9: 24-25)، بينما تقوَّت المؤمنون بمطرٍ من المنّ (16: 20؛ خر 16: 14-18).

المقابلة الخامسة: الظلام وعمود النار (حك 17). يربط الرب بين ضربة الظلام التي حلت بمصر والظلمة السلوكية التي سادت العالم المصري (17: 2-3). مقابل هذا وُهب للمؤمنين عمود النور. ليس فقط لم يتأثر المؤمنون بالظلمة التي سادت مصر (خر 10: 23)، إنما تمتعوا بعطية النور من قِبل الله، حيث كان عمود النور يقودهم ليلاً (خر 13: 21-22).

المقابلة السادسة: الليلة المفجعة وليلة النجاة (حك 18). قُتل بكور المصريين مقابل قتلهم لأطفال العبرانيين (حك 18: 5-19؛ خر 1: 16؛ 12: 29). وفي غير محاباة إذ أخطأ الإسرائيليون تعرضوا للموت (عد 16: 44-45)، غير أن هرون - كإنسان بلا عيب – كان قادرًا بالصلاة والبخور أن يمنع ضربة الموت (عد 16: 46-48). جاء في التقليد اليهودي أن ثوب هرون (خر 28) يرمز إلى القدرة الإلهية الكلية، كل جزء منه يمثل جزءً من المسكونة.

المقابلة السابعة: البحر الأحمر كطريق للخلاص وطريق للهلاك (حك 19). بينما واجه المصريون موتًا غريبًا في البحر، بنفس الكيفية واجه اليهود موتًا في رحلتهم في البرية (خر 19: 1-12؛ 14: 21-31). ليس عند الله محاباة!

1. عودة إلى المقابلة الثانية: بين السلوى والضفادع1-4.

2. المقابلة الثالثة: الجراد والحيَّة النحاسية5-14.

3. المقابلة الرابعة: البرَد والمَنّ15-29.

1. عودة إلى المقابلة الثانية: بين السلوى والضفادع

لذلك عوقبوا بحقٍ بأمثال هذه،

وعُذِّبوا بِجمٍّ من الحشرات. [1]

رأينا في الأصحاح الحادي عشر (حك 16:11-20) المقابلة بين ضربة المصريين بالضفادع والبعوض والذباب والجراد، وبين عطية السلوى للمؤمنين في البرية. لقد عبد قدماء المصريين بعض الحشرات والحيوانات فضربوا بذات آلهتهم.

هذا ما يؤكده الحكيم هنا: "عوقبوا بحقٍ بأمثالٍ هذه". فما حلُ بهم هو ثمرة هذه العبادات، فأراد الله أن يكتشفوا حقيقة هذه الآلهة الكاذبة.

ما ظنوه موضوع سعادتهم صار موضوع عذابهم. هذه هي طبيعة الخطية، فإنها تحمل سمها في داخلها. من يظن أنه ينعم بلذتها، يشرب سمها وهو لا يدري.

عندما ثار موسى النبي على الشعب الإسرائيلي لأنهم عبدوا العجل الذهبي، "أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا وذراه على وجه الماء، وسقى بني إسرائيل" (خر 20:32). يتساءل البعض: لماذا سقاهم من الماء الذي به العجل الذهبي المسحوق؟ لقد أراد أن يؤكد لهم، أن ما فعلوه يشربون منه. فمرتكب الخطية يذوق مرارتها، ويكتشف أن ملذاتها وقتية زائلة تخفي وراءها مرارة الموت.

v     سحق موسى العجل، وجعلهم يشربونه في ماء الاختبار، حتى أن كل الذين عاشوا ليتعبدوا للعجل يموتون بشربهم إياه[585].

 القديس مار افرام السرياني

 يرى القديس أغسطينوس أن موسى النبي سحق العجل وسقى بني إسرائيل لكي ما ينسحقوا بالتوبة عن الخطية التي ارتكبوها[586]. هكذا سمح الله بتأديب عابدي أصنام الحشرات بضربات الحشرات لكي تتمرر حياتهم وينسحقوا ويتوبوا، ويرجعوا إلى الله الحقيقي.

أما شعبك فلم تعاقبه،

بل أحسنت إليه:

فلكي تشبع شديد شهيَّته أعددت له مأكلاً غريب المذاق،

أي السلوى. [2]

تذمر الشعب على الله ونبيه موسى، وطلبوا لحمًا في البرية، فأرسل لهم سلوى وهو طائر كالسمان، جاء مهاجرًا حتى تعب من الطيران فصار مساره قريبًا من سطح البحر، وإذ انطلق نحو المحلة، اصطاده الشعب بسهولة جدًا. لقد ضربهم الرب ضربة عظيمة (عد 33:11) من أجل تذمرهم.

هنا لم يذكر التذمر ولا الضربة العظيمة التي لتأديبهم، لكنه يذكر أنا الله لا يترك مؤمنيه في احتياج أو جوع، وكان يمكن للشعب أن يأكل ويشكر الله على عطيته عوض التذمر المستمر. ارتبطت قلوب قدماء المصريين بالأصنام كآلهة، فضربت أجسامهم وحيواناتهم وزراعتهم. فصاروا متألمين وجائعين، في ضيقة شديدة، وهم في أرض مصر الخصبة. بينما ارتبطت قلوب المؤمنين بالله، فشبعوا بالمن النازل من السماء، ومن السلوى المرسلة لهم وسط البرية، وإن كان الذين تذمروا على الله سقطوا تحت التأديب.

يقول المرتل: "سألوا فأتاهم بالسلوى، وخبز السماء أشبعهم" (مز 40:105) ويعلق القديس أغسطينوس على هذا المزمور بأن الشعب ضم فريقين، فريق آمن واتكل على الله فسُر الله به، وفريق آخر حمل ضجرًا وتذمرًا على الله. الأولون أكلوا وفرحوا، والآخرون ضُربوا من الله على تذمرهم[587].

يتحدث هنا عن الذين اتكلوا على الله، فلم يدفعهم اللفيف المصري إلى شهوة أكل اللحم (عد 4:11) ولا تذكروا مع بقية الشعب ما كانوا يأكلونه وهم عبيد في مصر من سمكٍ (صغير) وقثاءٍ وبطيخ وكراتٍ وبصلٍ وثومٍ (عد 5:11). هؤلاء تمتعوا بالسلوى والمن، كطعامٍ لذيذٍ وعجيبٍ.

حتى إنه إذا كان أولئك،

مع جوعهم فاقدين كل شهوة للطعام،

من بشاعة ما بُعثَ عليهم،

كان هؤلاء بعد عوز يسير يتقاسمون مأكلاً عجيب الطعم. [3]

فقد عبدة الأصنام في جوعهم شهوة الطعام، إذ امتلأت بيوتهم بنتانة الضفادع الميتة، وضُربت أجسامهم بلدغات البعوض، وحيواناتهم بالدمامل، وزرعهم بالجراد. صار كل شيءٍ بالنسبة لهم كريهًا. أما الذين وثقوا في الله، فتمتعوا بالطعام العجيب في البرية.

فإنه كان ينبغي لأولئك الظالمين أن تنزل بهم فاقةٌ لا بُد منها،

ولهؤلاء أن يروا كيف يعذَّب أعداؤهم. [4]

كان نصيب المسخرين الظالمين ليس الغنى والكرامة والسلطة، وإنما الفاقة، أي الفقر الشديد والجوع والعوز، الأمر الذي لا مناص منه، أي ليس من طريق للهروب منه.

يقابل هذا إذ ينعم المؤمنون بعطايا إلهية في البرية يتذكرون الضربات التي حلت بمسخريهم فيندهشون لعمل حكمة الله معهم.

إذ نظر بنو إسرائيل ما حلّ بمقاوميهم ظلمًا قدموا ذبيحة شكر لله الذي حفظهم من هذه الضربات، وأخرجهم إلى البرية حيث يمارسون التسابيح، ويختبرون الفرح والراحة الحقيقية.

2. المقابلة الثالثة: الجراد والحيَّة النحاسية

حتى لما نزَل بهؤلاء حنَقُ الوحوش الرهيب،

وأهلكهم لدغُ الحيَّات الملتوية،

لم يدم غضبُكَ إلى المنتهى. [5]

في غير محاباة، إذ سقط الشعب في التذمر ورجعوا بقلوبهم إلى أرض العبودية مشتهين الطعام البائد (عد 5:11)، قدم لهم سؤل قلوبهم، فأرسل إليهم السلوى. أكلوا بشراهةٍ ونهمٍ ولم يقدموا ذبيحة شكر لله، فتأهلوا بتذمراتهم المستمرة للحيات القاتلة، لكن إذ رجعوا إليه رفع عنهم الضربة، بإقامة حية نحاسية ترمز للصليب.

جاء في سفر العدد: "تكلم الشعب على الله وعلى موسى، قائلين: لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية، لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف. فأرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة، فلدغت الشعب، فمات قوم كثيرون من إسرائيل. فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا... فقال الرب لموسى: اصنع لك حية محرقة وضعها على راية، فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حية النحاس يحيا" (عد 5:21-9). الذين رجعوا بالتوبة إلى الله خلال موسى وجدوا الحية النحاسية، فتمتعوا بالحياة الجديدة.

بل إنما أُقلِقوا قليلاً إنذارًا لهم،

وكانت لهم علامةُ خلاص تذكِّرُهم وصيَّةَ شريعتِك. [6]

كان لابد من التأديب بالحيات المحرقة، لينذرهم الله موضحًا لهم مدى خطورة موقفهم. لكن الله أمر بإقامة الحية النحاسية "علامة الخلاص" فيتذكروا الشريعة الإلهية التي تقدم لهم نبوات ورموزًا عن الخلاص الموعود به لآدم وبنيه.

هكذا حول الله حتى شرورهم للخير ماداموا يطلبون الرجوع إليه والتعرف على أسراره الإلهية.

v     اخبروني ألم يأمر الله - خلال موسى - بمنع صنع الصور والتماثيل لأي شيءٍ في السماء أو على الأرض؟ ومع هذا ألم يطلب بنفسه من موسى أن يصنع الحية النحاسية في البرية؟ لقد صنعها موسى كعلامة يُشفى بها من يلدغون من الحيات. بعمل هذا ألم يكن موسى متحررًا من أية خطية؟ بهذا كما قلت قبلاً أعلن الله بموسى عن سٌر به يكسر قوة الحية التي دفعت إلى الخطية آدم. إنه يعد بأنه يخلص من لدغات الحية (أي من الأعمال الشريرة والوثنية والخطايا الأخرى) كل الذين يؤمنون به، ذاك الذي مات بهذه العلامة التي هي الصليب[588].

 القديس يوستين الشهيد

v     ضربت الحية آدم في الفردوس وقتلته. وهي أيضًا ضربت إسرائيل في المحلة وأبادته.

كما رفع موسى الحية في البرية هكذا يُرفع ابن الإنسان (يو 14:3).

كما أن الذين تطلعوا بعيونهم الجسدية إلى العلامة التي ثبتها موسى على الصليب عاشوا جسديًا، هكذا أيضًا الذين يتطلعون بأعين روحية إلى جسد المسيا مُسمرًا ومُعلقًا على الصليب ويؤمنون به سيحيون روحيًا.

هذا قد أُعلن خلال الحية النحاسية التي بالطبيعة لا تتألم، حتى يتألم بالصليب ذاك الذي بالطبيعة لا يمكن أن يموت[589].

 القديس مار افرام السرياني

v     إنه لسرٌ عظيم هو الشفاء من الحية. ماذا يعني الشفاء من الحية بواسطة النظر إلى حية؟ إنه الشفاء من الموت بالإيمان بكائنٍ ميت! مع هذا فإن موسى خاف وهرب من الحية (خر 3:4). ماذا يعني أن موسى هرب من تلك الحية؟ ما هذا يا إخوة سوى ما نعرفه أنه قد تحقق في الإنجيل؟ المسيح مات، والتلاميذ خافوا وانسحبوا من ذلك الرجاء الذي كانوا فيه[590].

 القديس أغسطينوس

فكان المُلتفتُ إليها يخلُص،

لا بذلك الذي كان يراه،

بل  بك يا مخلص الجميع. [7]

ربما يتساءل البعض: كيف يقول السيد المسيح "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان" (يو 14:3)؟ هل يشَّبه السيد المسيح بالحية، أو هل ترمز الحية القاتلة للسيد المسيح واهب الحياة؟ جاءت إجابة آباء الكنيسة متعددة ومتناسقة معًا:

أولاً: لقد حمل السيد المسيح خطايا العالم (يو29:1)، فاحتل السيد المسيح مركزنا، وقبل أن يحمل موتنا ليقيمنا إلى حياته. ففي المصلوب نرى ما حمله السيد المسيح عنا، ثمرة خطايانا، لكي يقتلها بموته.

ثانيًا: يرى القديس أغسطينوس أن الحية المرفوعة ميتة، وهي رمز للموت الذي قبله السيد المسيح بإرادته ليقتل موتنا.

ثالثًا: يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن بني إسرائيل تطلعوا إلى الحية النحاسية وهي ميتة مرفوعة على عمود، فأدركوا أنه بالصليب مات الموت، وصار بلا حركة!

رابعًا: للعلامة أوريجينوس تعليق رائع بخصوص الصليب، فيرى فيه حقيقتين: الأولي ظاهرة وهى أن يسوع المسيح في حبه للبشرية وطاعته للآب رُفع على الصليب بإرادته. والثانية خفية أن الذي صلب وفقد حركته وسلطانه هو إبليس، إذ سُمر الصك الذي علينا بالصليب، وتجردت الرئاسات والسلاطين من سلطانهم وشُهر بهم في هزيمة مرة (كو 2: 14-15). فالحية التي رُفعت من جانب تمثل السيد المسيح حامل خطايانا ومن جانب آخر تمثل الحية القديمة التي سمرها السيد المسيح بصليبه وجردها من سلطانها على المؤمنين.

v     لعلك تسأل: لأي غرض لم يقل المسيح بوضوحٍ إنني سوف أُصلب، لكنه حثّ سامعيه إلى رمزٍ قديمٍ (الحية)؟ نقول لك: أولاً لتعرف أن أقوال العهد القديم متفقة مع الجديد، وأن تلك ليست غريبة عن هذه. ثانيًا: لتعرف أن المسيح لم يأتِ إلى العالم كارهًا. بجانب هذين السببين لكي تعرف أنه لم تصب السيد أذية من حقيقة (الآلام) هذه، وأن هذه الآلام بالنسبة لكثيرين تصدر عن الخلاص. حتى لا يقول أحد: كيف يمكن للذين يؤمنون بالمصلوب أن يخلصوا إن كان هو نفسه قد أمسك به الموت؟ لهذا يقودنا إلى القصة القديمة. فإن كان اليهود بتطلعهم إلى صورة نحاسية للحية هربوا من الموت، كم بالأكثر الذين يؤمنون بالمصلوب يتمتعون بسبب حسن بمنافع أعظم. فالصلب لا يتم خلال ضعف المصلوب أو لأن اليهود أقوى منه، بل لأن "الله أحب العالم" [16]، لهذا فإن هيكله الحي (جسده) قد أسرع نحو الصليب[591].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     ما هي الحيات التي تلدغ؟ الخطايا الصادرة عن موت الجسد.

ما هي الحيّة التي رُفعت؟ موت الرب على الصليب. كما جاء الموت بالحيّة، رُمز له بصورة حيّة.

لدغة الحيّة مميتة، وموت الرب محيي. إذ ينظر إلى حيّة تفقد الحيّة سلطانها. ما هذا؟ إذ ينظر إلى الموت، يفقد الموت سلطانه. ولكن موت من؟ موت الحياة...

بموت المسيح (الحياة) مات الموت.

موت الحياة ذبح الموت، ملء الحياة ابتلعت الموت.

انحل الموت في جسم المسيح.

لذلك نقول في القيامة إذ يتغنى المنتصرون: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (1 كو 15: 54)...

يوجد فارق بين الصورة الرمزية والشيء الحقيقي، الرمز يبعث حياة وقتية، والحقيقة التي لها الرمز تبعث حياة أبدية[592].

v     لكي يقدم رمزًا لصليبه رفع موسى بأمر اللَّه الرحيم صورة حية على عمودٍ في البرية، في شبه الجسد الخاطي الذي يلزم أن يُصلب في المسيح مرموزًا إليه (يو 14:3). بالنظر إلى هذا الصليب الذي تعمَّد المرتل أن يتطلع إليه ويقول: "عيناي قد ذبلتا من انتظار خلاصك، وقول برك" (مز 119: 123)، لأنه جعل المسيح نفسه "خطية لأجلنا، وذلك على شبه الجسد الخاطي، لكي نصير برّ اللَّه فيه" (رو3:8؛ 2 كو 21:5).

من أجل النطق ببرّ اللَّه يقول أن عينيه قد ذبلتا من النظر بغيرةٍ وحماسٍ، بينما يتذكر الضعف البشري، متطلعًا إلى النعمة الإلهية في المسيح.

القديس أغسطينوس

v     عُلقت تلك الحية النحاسية كعلاجٍ لعضات الحيات، ليس كرمزٍ لذاك الذي تألم، بل لما هو عكس ذلك. إنها شفت الذين تطلعوا إليها، ليس لأنهم آمنوا أنها تعيش، بل لأنها قُتلت، ومعها قُتلت الخاضعة لها، فإنها تستحق أن تهلك. وما هو النقش الذي كان مناسبًا لها ننقشه نحن؟ "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا قبر؟" (هو 14:13، 1 كو 55:15). لقد انطرحت بالصليب. لم يعد لك نفس، لقد مُت بلا حركة، وإن احتفظت بشكل حية مرتفعة على عمود![593]

 القديس غريغوريوس النزينزي

وبذلك أثبتَّ لأعدائنا أنك أنت المُنقذُ من كل سوء. [8]

لأن أولئك قتلهم لسع الجراد والهوام،

ولم يوجد علاج لحفظ حياتهم،

فقد كانوا أهلاً لأن يُعاقَبوا بمثل ذلك. [9]

بالضربات العشر لم يستعرض الله قوته، فهو ليس في حاجة إلى مجد بشري، لكنه أبرز لشعبه إمكانياتهم حيث يتمتعون بقوة الله خلال إيمانهم. وفي نفس الوقت أبرز ضعف آلهة المصريين العاجزة عن حمايتهم حتى من الجراد أو البعوض (الذباب).

v     "أمر فجاء الجراد وغوغاء بلا عدد، فأكل كل عُشب في بلادهم، وأكل أثمار أرضهم" (مز 34:105-35). تدمرت الأشجار من البَرَد والنار، والحدائق، والمحاصيل من الجراد والغوغاء (صغار الجراد قبل أن يصير له أجنحة)، فانه لم يبدد الثمر فقط وإنما حتى الزرع نفسه[594].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

في حين أنه لم تقْوَ على أبنائك أنياب الحيَّات السامَّة،

لأن رحمتك أقبلت عليهم وشَفَتهم. [10]

في دهشة يقف الحكيم أمام منظرين، شعب غير مؤمن يُضرب بحشرات فيهلك لأنه لم يؤمن بالطبيب شافي النفوس. وشعب مؤمن يُضرب بحيات سامة فيُشفى، لأنه آمن بالمخلص واهب النصرة على قوات الظلمة.

إن كانت الحشرات الضعيفة تسبب هلاكًَا بينما أنياب الحيات السامية لا تقوى على المؤمنين، فهذا ليس بالأمر الطبيعي، إنما الشفاء يتحقق حسب غنى نعمة الله ورحمته الفائقة وخلاصه العجيب. هذا هو سرٌ الصليب!

بخصوص الحية النحاسية، ليست الحية هي واهبة الشفاء، إنما "لأن رحمتك أقبلت عليهم وشفتهم" (16: 10).

وإنما نُخسوا ليتذكَّروا أقوالك،

ولكن سرعان ما أُنقذوا لئلاَّ يسقطوا في نسيان عميق،

فيغفلوا إحسانك. [11]

أمر الرب موسى النبي أن يرفع الحية النحاسية الميتة على عمود، لكي إذ يتطلع إليها المؤمنون يتذكروا وعود الله بالخلاص. لقد أسرع فشفاهم حتى لا يسقطوا في لجة النسيان، ويفقدوا رجاءهم في الخلاص الموعود به.

وما شفاهم عشب ولا مرهَم،

بل كلمتك يا رب، فهي تشفي الكل. [12]

لم يعطهم عشبًا طبيًا ولا مراهم للشفاء، لا ليمنعهم من استخدام الأدوية، وإنما لئلا ينسبوا شفاءهم من لدغات الحية إلى الأدوية، وليس إلى كلمة الله ووعده بالخلاص.

قدم لنا القديس باسيليوس الكبير في "الأحكام المطولة" السؤال رقم 55 حديثًا مطولاُ ومشوقًا، عن نظرة المسيحية للطب والأطباء وعما إذا كان يجوز الالتجاء إلى فن الطب واستخدام الأدوية مع احتفاظنا بممارسة التقوى. وقد قمت بترجمته وتبويبه[595] ونشره في كتاب: "ماذا يقول الآباء عن المرض؟" اقتطف القليل هنا.

v     كل الفنون (الصناعات) هي هبة من الله لنا، تعالج نقائص الطبيعة. فأعطانا الفلاحة، لأن الحصاد الذي تقدمه لنا الأرض دون فلاحة لا يكفي لاحتياجاتنا. وصناعة النسيج، لأن استخدام الملابس ضروري لأجل الاحتشام وللحماية من الريح. وبنفس الطريقة بالنسبة لصناعة البناء، وهكذا بالنسبة لصناعة الطب. فإذ يتعرض جسمنا لأوجاع متنوعة، بعضها تهاجم من الخارج، وأخرى من الداخل بسبب الطعام الذي نأكله، وحيث يعاني الجسم من التخمة كما من نقص الطعام، لذلك فإن فن الطب يُوهب بواسطة الله الذي يوجه كل حياتنا، كمثالٍ لشفاء النفس، ليقودنا لإزالة ما هو زائد ونوال ما هو ناقص.

v     ما كنا نحتاج إلى تعب الفلاح لو أننا كنا نعيش في مباهج الفردوس، هكذا أيضًا ما كنا نطلب فن الطب للاستشفاء لو كنا محصنين من المرض.

هكذا كان الحال في وقت الخليقة قبل السقوط، كهبة من الله. أما بعد طردنا من هذا الموضع، وسماعنا الكلمات: "بعرق جبينك تأكل خبزك" (تك19:3)، حينئذ بتعبٍ وشقاءٍ مضنٍ أقمنا صناعة الفلاحة لإزالة البؤس الذي لاحق اللعنة التي حلت. وقد وهبنا الله المعرفة والفهم لهذه الصناعة، وعندما عدنا إلى الأرض التي أُخذانا منها وربُطنا بجسد مملوء آلامًا، وطُرحنا إلى حكم الفساد بسبب الخطية.

لنفس السبب خضعنا للمرض، وهبنا الله صناعة الطب لعلاج المرضى، ولو إلى درجة معينة.

v     الأعشاب التي تُستخدم لعلاج كل مرض لم تنبت في الأرض عفويًا، بل من الواضح أنها إرادة الله هي أن تنبت من التربة لتخدم احتياجاتنا. تمتعنا بالفوائد الطبيعية الكامنة في جذور الأعشاب وزهورها وأوراقها وثمارها وعصيرها، بل وفي بعض المعادن ومنتجات البحر، لازمة للصحة الجسدية، ويُنظر إليها كما إلى الطعام والشراب.

القديس باسيليوس الكبير

v     فن الطب ليس عائقًا عن التقوى، لكن يجب أن تمارسه بخوف الرب[596].

 الأب برصنوفيوس

بقوله: "فهي تشفي الكل"، يوضح أنه إن كان شعب ما قد انتفع بالشفاء الجسدي من الحيات القاتلة بالتطلع إلى الحية النحاسية، فإنها رمز للصليب الذي يقدم الخلاص لكل العالم. "هكذا أحب الله العالم لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3).

لأن لك سلطان الحياة والموت،

فتُحدِرُ إلى أبواب الجحيم،

وتصعد منها. [13]

إذ يتطلع الحكيم إلى المعلق على الصليب، يراه ليس فقط بالطبيب الذي يستطيع أن يشفي جميع الناس، وإنما هو القدير واهب الحياة والقيامة، والديان الذي يحمل مؤمنيه إلى المجد الأبدي بينما تنفتح أبواب جهنم أمام غير المؤمنين، إذ اختاروا اعتزال واهب الحياة بإرادتهم. يبث الله فينا روح  القوة والغلبة، فليس لإبليس ولا الموت سلطان علينا. "تُحدر إلى أبواب مثوى الأموات وتُصعد منها".

يستطيع الإنسان أن يقتُل بشره،

لكنه لا يُعيدُ النسمة التي خرجت،

ولا يُحرر النفس المقبوض عليها! [14]

الإنسان بإرادته الحرة سلم نفسه للموت بالخطية، لكنه يعجز أن يسترد الفردوس المفقود أو الحياة الحقيقية؛ أما الله فوحده يقدر أن يقيم الأموات جسديًا أو روحيًا، ويرد الإنسان إلى أعظم مما كان عليه في جنة عدن.

إن ظن إنسان أن له سلطانَا يقتل بخبثه وظلمه، فهل له سلطان أن يرد القتيل إلى الحياة؟

3. المقابلة الرابعة: البرَد والمَنّ

لا يمكن الإفلات من يدك. [15]

كثيرًا ما يظن الإنسان في كبريائه أنه قادر أن يتسلط على أخيه، يظلم ويضطهد وليس من قانون يقدر أن يردعه. هذه هي مشاعر فرعون ومشيريه ورجاله، وهم يسخرون ويذلون العبرانيين. لم يدرك هؤلاء أن الله ضابط الكل، "لا يمكن الإفلات من يده".

احكم فرعون الخطية لتدمير موسى وشعب الله، فالبحر أمامهم والجيش وراءهم، والجبال على جانبيهم، وهم بلا سلاح ولا خبرة عسكرية ولا حصون يحتمون فيها. لكن الله أوجد لشعبه طريقًا للخلاص وسط البحر، صار الطريق نفسه لهلاك فرعون التام.

فإنك قد جلَدتَ بقوةِ ذراعك الأشرار،

الذين جحدوا معرفتك،

فلاحقَتهمُ الأمطار غير المألوفة،

وحبَّات البرَدِ والعواصف القاسية، وأكَلَتهمُ النار. [16]

تحدى فرعون الله نفسه، إذ بروح التسلط والعنف قال لموسى إنه لا يعرف الرب، إنما ما يعرفه هو سلطانه ومكاسبه المادية دون أي اعتبار لله خالق الكل وللترفق باخوته في البشرية.

ترك الله الطبيعية نفسها ترد على فرعون الشرير. لا تعرف مصر البَرَد، ومع هذا على خلاف الطبيعة أدّب المصريين الوثنيين بالبرد. ومما يدهش أن البرد والنار (البرق) لا يحدثان معًا، لكن المضادين يعملان معًا بسماح إلهي للتأديب…

بهذا سدت الطبيعية فم فرعون المتشامخ، لتعلن له أنه فقد كل تعقلٍ وحكمةٍ، بمقاومته لحكمة الله.

وأغربُ شيء أنه في الماء الذي يطفئ كل شيء،

كانت النار تزداد حِدَّةً، لأن الكون يُقاتلُ عن الأبرار. [17]

تستخدم المياه لإطفاء الحرائق، لكن ما حدث مع فرعون أنه كلما سقط البَرَدْ ازدادت النيران التهابًا، فاتفق الضدان معًا على تأديبه.

وكان اللهيب تارة يهدأ،

لئلاَّ يحرِقَ ما أُرسِلَ على الأشرار من حيوانات،

بل لكي يبصِروا فيفهَموا أن حُكمًا إلهيًا يطاردهم. [18]

وقف الحكيم في دهشة فقد تكاتفت الظواهر الطبيعية التي ثارت بطريقة غير طبيعية ضد الوثنيين غير المؤمنين. لاحظ أن النيران لم تحرق الحشرات والحيوانات المُرسلة لتأديبهم، وكأن الكل قد تكاتف معًا ضد غير المؤمنين لدفعهم للإيمان.

العوامل غير الطبيعية أزالت عن الأشرار أية إمكانية للتخيل بأن ما يحدث هو مصادفة، وإنما جاءت تحقق حكمًا إلهيًا ضدهم لأجل تأديبهم.

وتارة يتأجَّج حتى في وسط الماء فوق طاقة النار،

لكي يستأصل غلاَّتِ أرضٍ ظالمة. [19]

حينما تشتعل نيران، خاصة في أرض زراعية، يصير حلم الناس سقوط مطر كفيل بإطفاء الحرائق. لكن ما حدث أنه وسط البَرَدْ كانت الحرائق تزداد التهابًا، والخسائر تتزايد.

v     "جعل أمطارهم بَرَدًا ونارًا ملتهبة في أرضهم. ضرب كرومهم وتينهم، وكسر كل أشجار تخومهم" (مز32:105-33)... غيرت السحب دورها الطبيعي، فأرسلت بَرَدًا عوضًا عن الأمطار، صواعق وأعاصير مصحوبة بَبَردٍ، وماءٍ ونارٍ. وإن كان بالطبيعة يخالف الواحد الآخر، لكن لم يحدث أي ارتباك بينهم. لم تذب النار الماء المجمد أو الَبَرد، ولا أطفأت النار اللهيب. بجانب تركهم المقاومة الطبيعية كل منهما للآخر، أنزلا عقوبة شديدة على المصريين، لإدانة استعبادهم وعدم احترامهم لطبيعتهم (كبشرٍ). فمع أنهم بشر إلا أنهم ضغطوا على زملائهم في البشرية بعبودية قاسية. لهذا فانه حتى كرومهم وتينهم وكل أصناف النباتات تدمرت تمامًا بواسطة النار والبرد[597].

 الأب ثيؤدورت أسقف قورش

أما شعبك فبدلاً من ذلك ناوَلَتهم طعامَ الملائكة،

وقدمت لهم من السماء خبزًا معدًا لم يتعبوا فيه،

خبزًا يوفِّر كل لذةٍ ويلائم كل ذوق. [20]

بينما ثارت الطبيعة ضد الأشرار ولم تلتزم بالعوامل الطبيعية، إذ بها أيضًا على خلاف قوانين الطبيعة تعمل لحساب المؤمنين، فتقدم لهم المن من السماء، الأمر الذي لم تسمع عنه البشرية من قبل.

يعتبر المن طعام الملائكة (مز 78: 25، 105: 40)، لأنه يشير إلى العذوبة السماوية التي يتذوقها كل شخص حسب ما يشتهي.

v     "يتذوق كل واحدٍ المنّ في فمه حسبما يشتاق" (راجع حك 16: 20)... على أي الأحوال، هذا يمكن أن يتحقق بالنسبة للمؤمنين وليس بالنسبة للمتذمرين على الله، هؤلاء الذين بالتأكيد لا يطلبون قوتًا آخر مادام المنّ قدم لهم تذوّقًا حسبما شاءوا[598].

القديس أغسطينوس

لأن قوتَكْ أعلن عن عذوبتَك لأبنائِك،

وهو يشبع شهوةِ متناوله،

فيتحولُ إلى ما شاء كل واحدٍ. [21]

يوجد تقليد ربّاني (حاخامي) أنه كان للمن مذاق خاص يختبره كل شخص حسبما يشتهيه، فكل شخص يجد فيه تذوقًا حلوًا يتناسب مع رغبته[599].

v     ليتنا إذن نسرع لنتسلم المن السماوي. يمنح هذا المن تذوقًا لكل فمٍ حسبما يشتهي. فلتسمعوا أيضًا الرب يقول للذين يقتـربون منه: "ليكن لك حسب إيمانك" (مت 8: 13). وهكذا أيضًا إن قبلت كلمة الله التي يُكرز بها في الكنيسة بإيمانٍ كاملٍ وتقويٍ، تصير لك الكلمة حسبما تشتهي. فكمثال إن كنت حزينًا تعزيك، قائلة لك: "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 19). إن كنت متهللاً برجائك المقبل، تغدق عليك بأفراحٍ لك قائلة: "افرحوا في الرب وتهللوا أيها الصـديقون" (مز 32: 11). إن كنت في غضبٍ تهبك الهدوء، قائلة: "كف عن الغضب واترك السخط وراءك" (مز 37: 8). إن كنت في ألمٍ، تشفيك قائلة: "يشفي الرب كل ضعفاتك" (راجع مز 103: 3). إن كنت مستهلكًا بالفقر تعزيك قائلة: "يرفع الرب من التراب من لا عون لهم، ويقيم الفقير من المزبلة" (راجع مز 113: 7). هكذا يمنح المن الذي لكلمة الله تذوقًا لفمك حسبما تشاء[600].

العلامة أوريجينوس

هنا نقف في عجب أمام تدليل الله لمؤمنيه، فإنه ليس فقط يعطيهم ما هو لشبعهم ونموهم وتقدمهم، وإنما أن يُرضي كل مؤمن، مقدمًا له ما يشتهيه مادام لخيره وصلاحه.

حينما يوجد المؤمن في حضن الله، ويشعر أنه محمول على الأذرع الأبدية يصير كل شيء حلوًا في حلقة، يشبع احتياجاته، ولا يعوزه شيء ما.

لقد ثبت الثلجُ والجليدُ في النار ولم يذوبا،

لكي يُعلَمَ أن غلاَّت الأعداء،

أكلتها النار الملتهبة في البرد،

والبارقة في وسط الأمطار. [22]

صورة رائعة لحب الله الفائق للإنسان، فهو يحرك الطبيعة حتى ضد قوانينها لخدمة الإنسان، فيسمح بالنار تلتهب وسط البَرَْدْ والأمطار الغزيرَّ. الإنسان موضع اهتمام الله، فيضع له خطة ويقدم له رسالة، ويحول كل الأمور لخيره إن أحب الله (رو 8: 28).

في حين أن هذه النار كانت تَنسى حتى خاصَّتها،

ليستطيع الأبرار أن يتغذوا. [23]

كأن الطبيعة في شوقها لخدمة الإنسان - موضع حب الله ورعايته - مستعدة أن تتجاهل سماتها وتنسى خصائصها، لتعمل لصالح المؤمنين الأبرار، ولو على خلاف قوانينها.

فإن الخليقة التي في خدمتِك أنت صانعها،

تتوترُ لمعاقبةِ الظالمين،

وترتخي للإحسان إلى المتوكلين عليكَ. [24]

لا تعمل الطبيعية حسب قوانينها بطريقة عمياء، لكن مع التزامها بالقوانين الطبيعية التي هي من عمل الله، تتحرك وتتفاعل حسب خطة الخالق، فتعمل لصالح مؤمني الرب الأبرار، وتقسو على غير المؤمنين لتأديبهم بالقدر الذي يسمح به الخالق.

فالنار التي لم تكن تقدر أن تذيب المن عند طبخة بواسطة المؤمنين في البرية، لم توذِ الحشرات والحيوانات المرسلة لتأديب الوثنيين المصريين أثناء الضربات. النار التي لم تحرق الثلاثة فتية القديسين في بابل هي التي قتلت الجنود الذين ألقوا بالفتية فيها، وهي التي أضرت المصريين ومحاصيلهم وزراعاتهم في أثناء الضربات.

لذلك كانت حينئذ تتحولُ إلى كل شكلٍ،

فتكون في خدمة عطيَّتك المغذِّيةِ الجميع،

حسبما يشاءُ الذين يحتاجون إليها. [25]

بحكمته خلق الله الإنسان ليسوس العالم بالبُر والقداسة، فإنه متى ارتبط بخالقه يحرك الله الطبيعة لتعمل لخدمته حسبما يطلب ويشتهي.

فعلِمَ بَنوكَ الذين أحببتَهم يا رب،

أن ليس محصول الثمار يغذي الإنسان،

بل كلمتُكَ هي التي تحفَظُ المتكلينَ بكَ. [26]

اعتاد الكتاب المقدس أن يدعو المؤمنين بمحبوبي الرب. إنهم موضوع حبه واهتمامه. لهذا فإن ما تقدمه الطبيعة لهم هو من يد الله حسب كلمته أو وعوده الإلهية.

لأن ما لم تكن النارُ تُفنيه،

كانت شُعاعةٌ يسيرة من الشمس تُحميه فيذوب. [27]

يتعجب الحكيم إذ يتطلع إلى المن المُرسل إليهم من قبل الله، لأنه لا يحتمل أشعة الشمس حتى في الصباح المبكر. فإن تأخر إنسان في نومه لا يقدر أن يجمع منًا، إذ يجده قد ذاب من أشعة الشمس. ونفس الوقت الذي يجمع المن يقوم بطهيه، فلا تذيبه الحرارة ولا تفسده، بل يصير صالحًا للأكل.

حتى يُعلم أنه يجب أن نسبقَ الشمس إلى حمدِكَ

وأن نلتقيَ بك عند شروق النور. [28]

يحثنا الحكيم أن نبكر إلى الله، فيكون هو البداية في كل أيام حياتنا، وقبل كل عملٍ، تكون له الأولوية في قلوبنا فيفيض علينا بغنى عطاياه الفائقة. فمن لا يسرع قبل شروق الشمس لا يستطيع أن يجمع المنّ، يبقى يومه كله جائعًا؛ فالله يشبع النفس من الطعام السماوي متى بكَّرت إليه.

v     بخصوص موضع (الصلاة): "أريد أن يصلي الرجال في كل مكان" (1 تي 2: 8). بخصوص اتجاه (الصلاة) جاء في حكمة سليمان: "حتى يُعلم أن يجب أن نسبق الشمس إلى حمدك، وأن نلتقي بك قبل (عند) شروق النور" (حك 16: 28)[601].

العلامة أوريجينوس

لأن رجاءَ جاحد الجميل يذوب كالصقيع الشتويّ،

ويجري كماءٍ لا منفعة منه. [29]

يرى الحكيم في المبكرين لجمع المن قبل الشروق فئة الطائعين للوصية الإلهية بشكرٍ لله صانع الخيرات، وأما الذين في تهاون ينتظرون حتى شروق الشمس كمن لا يصدقون الكلمات الإلهية، فإنهم جاحدون وناكرو الجميل. الأولون يجدون طعامًا شهيًا يُقدم لهم مجانًا، يمكن دعوته "خبز الملائكة"، والآخرون يجدون المن قد صار ماء كالصقيع في برد البرية لا يصلح لشيءٍ، حيث لا يمكن جمعه للشرب ولا يروى نباتات، لأن البرية قفر.

v     أي شيء يطلبه (الرب) منا أعظم من أن نسأله أن نكون شاكرين مقابل رعايته الحانية هذه؟ إذن لنطع، ولنحفظ هذا في كل شيء. فإنه ليس شيء حطّم اليهود مثل نكرانهم للجميل، فقد حلت بهم ضربات تلو ضربات، لا لشيء إلاَّ لهذا السبب. بل وفوق هذه الضربات، هلكت نفوسهم وفسدت. "لأن رجاء ناكر الجميل يذوب كالصقيع الشتوي" (حك 16: 29). فإنه يشل النفس ويميتها كما يحدث مع الأجسام[602].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 


 

من وحي الحكمة 16

من يشبعني غيرك يا حكمة الله؟

v     مع عظمة مواهب آبائي الفراعنة وقدراتهم،

سجدوا لأصنام حيوانات وحشرات،

فشربوا من ذات الكأس التي ملأوها.

ذاقوا المرارة من ضربات الضفادع والبعوض والذباب والجراد.

تحولت بيوتهم إلى مقابر مملوءة نتانة.

أجسامهم لم تجد راحة، بل آلام وعذاب.

وحياتهم صارت مملوءة نجاسة،

زرعهم أكله الجراد، فلم يجدوا قوتًا لهم.

 

v     هب لي أن ألتصق بك وسط برية هذا العالم.

لست أطلب خبزًا ولا لحمًا،

أنت هو شبعي ووليمتي!

أنت هو فرحي وتهليل قلبي!

 

v     تئن نفسي، لأنك تهبني كل شبعٍ،

بينما أرى الكثير من إخوتي في البشرية محرومين وفي دمار!

 

v     من يشفيني إلا أنت، يا طبيب النفوس والأجساد؟

لم يحتمل غير المؤمنين ضربات حشرات ضعيفة.

هلكوا بسبب البعوض والذباب،

وجاعوا بسبب الجراد.

أما المؤمنون فلم تستطع لدغات الحيات القاتلة أن تهلكهم.

تطلعوا إلى الحية النحاسية فشفوا.

لأنظر إلى صليبك، فأدرك أن قوات الظلمة قد تجردت من سلطانها.

مات الموت، وصار مستحيلاً عليه أن يتحرك.

تحولت لدغات الحيات القاتلة إلى شهادة حية لرحمتك.

أنت طبيب نفسي العجيب.

أنت الدواء السماوي المنقذ!

من يشفيني سواك، يا مخلص العالم؟

 

v     يا لغنى حكمتك وحبك لي!

من أجلي خلقت الطبيعة بكل قوانينها الظاهرة والخفية.

 أعددتها لخدمتي، فإني محبوبك، وموضوع رعايتك.

ومن أجلي أيضًا تسمح بكسر قوانينها،

تارة لتشبع احتياجاتي، وأخرى لتأديبي.

كل أعمالك هي حب ورعاية فائقة.

بنارٍ تنزل من السماء لحرق سدوم وعمورة،

حتى يتعلم المؤمنون الطهارة ويخشوا النجاسة والرجسات.

 وسمحت للنار أن تصير ندى، فيتمشى فيها الثلاثة فتية القديسين.

 

v     يا للعجب إذ سقطت النيران على المصريين لتأديبهم،

 اشتهوا أن تسقط أمطار لتطفئها.

فسقطت أمطار بل وبَرَدْ، لكنها لم تطفئ النيران بل زادتها لهيبًا.

 

v     لم تستطع النار أن تذيب البَرَدْ النازل على الأشرار،

ولا أن تفسد المن الذي يجمعه المؤمنون لطهيه.

لم يكن ممكنًا للمن أن يحتمل حرارة أشعة الشمس في الصباح المبكر،

بينما كان يحتمل النيران المتقدة لطهيه.

 

v     ماذا أرد لك يا خالقي؟

فإنك تحرك كل شيء لبنياني!

لك المجد يا غني في الحب!

<<


 

الأصحاح السابع عشر

حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 2

المقابلة الخامسة: الظلام وعمود النار

أبرز في الأصحاحات السابقة أقنوم حكمة الله الذي يعلن حبه واهتمامه سواء بعطاياه أو تأديباته. فكثيرًا ما كان يستخدم وسيلة ما لتأديب الأشرار، وإذا بذات الوسيلة تُستخدم لصالح الأبرار ومساندتهم، حتى يدرك الكل أن ما يحدث هو حسب إرادة الله أو بسماحٍ منه، وأن كل عطية صالحة هي من عنده.

عرض قبلاً أربع مقابلات بين ما حلُ بالأشرار وما تمتع به الأبرار، والآن في شيء من الإسهاب يتحدث عن المقابلة الخامسة بين الظلمة التي أرعبت الأشرار والنور الذي كان لخدمة المؤمنين الأبرار.

1. ظلمة تفضح الشر1-3

2. لا نجاة من الرعب القاتل4.

3. ليس ما يبدد الظلمة5-6.

4. عجز السحر عن إزالة الظلمة 7-8.

5. رعب من الحيوانات والأفاعي9.

6. رعب من الهواء10-13.

7. ظلمة الموت أو سجن القبر14-16.

8. مقيَّدون بسلسلةٍ واحدةٍ من الظلام17-19.

9. ليس من يشاركهم ظلمتهم20-21.

1. ظلمة تفضح الشر

إن أحكامك عظيمةٌ لا يُعبَّر عنها،

ولذلك ضلَّت النفوس التي لم تتأدب. [1]

فإنه لما توهَّم آثمونَ أنهم يتسلطون على الأمَّة القديسة،

صاروا أسرى الظلام،

ومقيدين بليلٍ طويلٍ،

محبوسين تحت سُقوفهم منفيِّين عن العناية الأبدية. [2]

جاءت ضربة الظلمة التي حلت بالمصريين قبل الضربة القاضية "قتل الأبكار"، وكأنها آخر إنذار إلهي موجه ضد الأشرار ليكتشفوا ما هم عليه، ويعيدوا تقييم الموقف.

بهذه الضربة ظهرت عظمة حكمة الله، للأسباب التالية:

أولاً: بسقوطهم تحت هذه الضربة يدركون الظلمة الداخلية التي حلت في قلوبهم وأفكارهم. لقد ضلت نفوسهم، ولم تبالِ بالضربات السابقة المتوالية، فصاروا كمن في تيهٍ وضلالٍ، وقد ضاعت منهم ملامح الطريق الحقيقي، لأنهم رفضوا النور الإلهي. بحقٍ  قيل عنهم: "لذلك ضلت نفوس لا تأديب لها".

ثانيًا: يعيشون في وهم، ولا يدركون الحقيقة، فيظنون أنهم أصحاب سلطان، ليس من يقدر أن يقف أمامهم أو يصد هجماتهم على شعبٍ أعزل مُستعبد.

ثالثًا: أنهم يسخرون بهذا الشعب الأعزل، ولا يدركون أنهم يمثلون أمة مقدسة في ذلك الحين.

رابعًا: لم يدرك هؤلاء القساة أنهم إنما يقسون على أنفسهم، إذ هم "أسرى الظلام" وأنهم مقيدون وفي ليلٍ طويلٍ، ربما لا يشرق عليهم نور صباح بسبب عنادهم.

خامسًا: بعنفهم وقسوتهم صاروا أسرى بغير قيود حديدية، وفي سجنٍ من صنع خطاياهم: "محبوسين تحت سقوفهم".

سادسًا: إذ هم بلا رحمة يحرمون أنفسهم من رحمة الله ولطفه "منفيين عن العناية الإلهية"

هذه الحقائق الست هي من صنع الخاطي المُصر على العنف والظلم والقسوة: ظلمة داخلية في أعماق النفس، اعتداد بسلطان وهمي لا وجود له، عدم إدراك لإمكانات من يقسون عليهم، والتعرف على حقيقتهم، يأسرون أنفسهم في الظلام بلا رجاءٍ في التمتع بنورٍ مشرق، يسجنون أنفسهم في سجنٍ من في عمل أيديهم، وأخيرًا يحرمون أنفسهم من المراحم الإلهية.

ظن فرعون ورجاله أنهم أصحاب سلطان ليس من رادعٍ لهم، فلم يبالوا بالأمر الإلهي الصادر إليهم خلال رجل الله موسى. وعوض التجاوب معه، في عناد صدرت الأوامر مشددة لمعاملة شعب الله بقسوةٍ وعنفٍ. وإذ أصروا على ذلك حتى بعد معاناتهم من تأديبات كثيرة أصيبوا بضربة الظلام. هنا يصوِّر الحكيم المصريين وهم في سجنٍ وظلامٍ، عاجزين عن ممارسة أعمالهم اليومية، ولم يوجد نور إلاَّ في أرض جاسان (محافظة الشرقية حاليًا). عوض استعبادهم لليهود، سجنوا أنفسهم بأنفسهم في بيوتهم وسط ظلمة حالكة، وفارقتهم حتى عطية إشراق الشمس المادية عليهم. لم يكن ممكنًا لإلههم حيث كانوا يعبدون الشمس (الإله رع) أن يخلصهم من الظلمة.

تحولت بيوتهم إلى جحيم لا يُطاق، حيث اقتحمتهم الخيالات، وانحلت قوتهم من الخوف.

الله المحب للبشرية يشرق شمسه على الأشرار والأبرار (مت 5: 45)، ومن أجل حبه أيضًا يسمح أن ينزع هذه العطية أحيانًا، لكي إذ يفقد الشرير النور الملموس يدرك فقدانه النور الإلهي في أعماقه، وتسلط الظلمة الشريرة على قلبه وفكره وحواسه! هكذا يبدو كمن فقد العناية الإلهية (حك 17: 2).

v     حتمًا ظلمة القلب هذه هي في ذاتها قصاص، أي عمى القلب بسبب هجرهم نور الحكمة سقطوا في خطايا أخطر فأخطر[603].

القديس أغسطينوس

يرى العلامة أوريجينوس أن الظلمة تشير إلى ضربة الجهل التي يُصاب بها الإنسان الشرير.

v  من كان قادرًا على تحطيم ضربة الجهل، الظلمة المدمرة؟ ليس من نبيٍ ولا من رسولٍ ولا أي بار! بل بالأحرى كانت الحاجة إلى قوة إله ينزل من السماء، قادر أن يموت عنا نحن جميعًا حتى بموته يكون لنا دفاع ضد الشيطان[604].

العلامة أوريجينوس

كانوا يظنون أنهم يَبقَونَ مستَتِرين في خطاياهم الخفيَّة،

تشتتوا تحت ستار النسيان المظلم،

وهم في رعبٍ شديدٍ،

تقلقهم الأخيلة. [3]

إذ يرتكب الإنسان الخطية، يظن أنه يعمل بحكمةٍ أو مكرٍ، ليس من يقدر أن يكتشف أمره. وبمرور الزمن يحسب أن ما فعله قد طواه الزمن وصار منسيًا. لكن وإن لم يُكتشف أمره بين البشر، ولم يسقط تحت عقوبة مدنية أو جنائية، يسقط تحت عقوبة في أعماقه. إذ يحل به رعب شديد وفزع من أخيلةٍ تلاحقه. هذه هي إحدى اللعنات التي تحل بمن يسقط في الشر، حيث يحاول الهروب مُشتتًا بين طرق كثيرة، وليس خلفه عدو يقتفي أثره. عدو الخاطي في داخله يرعبه، ليس من يقدر أن ينقذه منه سوى الله نفسه، إن رجع إليه بالتوبة. أما علاجه فهو طرد الخوف بالخوف، فإن الخوف الصادر بلا رجاء عن ارتكاب الخطية تنزعه مخافة الرب التي تملأ النفس بالرجاء في مخلص العالم، محب الخطاة ومقدسهم.

جاء في اللعنات التي تحل بمن يصمم على التمرد ومعصية الوصية الإلهية: "يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله، حتى تهلك وتفنى سريعًا من أجل سوء أفعالك إذ تركتني" (تث 28: 20). إن كان ثمر الروح هو الحب الممتزج بالفرح (غل 5: 23)، حيث يحمل الروح القدس النفس كما إلى السماء لتذوق الفرح الأبدي وهي بعد وسط اضطرابات العالم وهمومه وتجاربه، فإن عمل الخطيَّة خاصة العصيان هو حرمان الإنسان من هذا الجو السماوي. إذ بالعصيان يعطي الإنسان ظهره لله مصدر الفرح الحقيقي، لذا فهو يلقي بنفسه في جحيم القلق والاضطراب، حاملاً روح الزجر وعدم الشكر في كل عملٍ تمتد إليه يده. أنَّه يدفع نفسه بنفسه إلى الدمار الداخلي.

ارتبط عدو الخير بالليل والظلمة، لأنه لا يطيق النور الحقيقي. أعماله كلها شريرة ومخادعة، لذا تُحسب ظلمة.

v     خداع العدو هو ليل، كما قال بولس: "لسنا أبناء ليل بل أبناء نهار" (راجع 1 تس 5: 5-8)[605].

القديس مار إسحق السرياني

ينتقد القديس يوحنا الذهبي الفم عبدة الأوثان لأنهم حطموا النور الذي كان فيهم (الناموس الطبيعي)، فصاروا في الظلمة.

v     هذا هو أخطر اتهام ضد الوثنيين (انهم تركوا الله) والثاني أنهم عبدوا الأوثان (إر 2: 13)... حاول الوثنيون أن يبلغوا السماء، لكنهم إذ حطموا النور الذي كان فيهم وعوضا عنه وثقوا في أنفسهم، في ظلمة تفكيرهم. نظروا غير الهيولي في الأجساد وتطلعوا إلى غير المحدود في أشكالٍ مخلوقة، بهذا فقدوا تناغمهم مع النور[606].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     بالتأكيد ظلمة القلب هذه كانت عقوبة وجزاء، بهذا الجزاء الذي هو عمى القلب بسبب هجر نور الحكمة، سقطوا في خطايا خطيرة أكثر فأكثر[607].

القديس أغسطينوس

2. لا نجاة من الرعب القاتل

لأنه لم تكن الحجرات الداخلية التي كانت تحفظهم، تقيهم من الخَوف،

فقد كانت أصوات صاخبة تدوي من حولهم،

وأشباح فاجعة الوجوهِ تتراءى لهم. [4]

جاءت في بعض الترجمات: "لم تكن الأكنة التي لبثوا فيها لتقيهم من الذعر". فهو يشبههم بصغار طيور راقدة في عششٍ (جمع عش)، تظن أنها محمية بين أغصان الشجر، ليس من يقترب أذيتها.

ما هو الملجأ الذي ظن المصريون أنه قادر أن يسترهم مما يرتكبوه إلا شعورهم بأنهم أصحاب سلطان، وأنهم فوق القانون؟! هذا الملجأ الهزيل لم يكن قادرًا على حمايتهم من الرعب الذي في داخلهم، والأصوات الصاخبة التي تدوي من حولهم، والأشباح التي كانت ترعبهم وسط الظلمة الحالكة.

لم يقف الأمر عند فقدان النور وسيطرة الظلمة على الأشرار، وإنما سمح الله لخيالات الشياطين أن ترعبهم وسط الظلام، لكي يدركوا أنهم قد رفضوا الانتساب لله وقبلوا بإرادتهم البنوة لإبليس.

v     إن كان أحد يفكر دومًا في ما هو يسر الله وما لا يسره، يُمكن أن يُقال عنه إن خوف الله دومًا أمام عينيه. لكنه مثل هذا الشخص يلزمه أن يُختبر ويتعلم باجتهاد في ناموس الله حتى لا يخاف حيث لا يوجد سبب للخوف. فإن خوف الله يجب أن يُوضع دائمًا أمام أعيننا – ليست أعين الجسد - لأن ما نتحدث عنه هنا أمر غير منظور ولا مادي وإنما أعين الذهن حيث يكون إدراك خوف الله وفهمه واضحًا، وبهذا كما قلنا قبلاً نكتشف ما يلزم أن نخافه وما لا يلزم مخافته. فمن يخاف الله لا يخاف سلاطين هذا العالم[608].

العلامة أوريجينوس

لقد فشل المصريون في إيجاد ملجأ لهم من الظلمة، فقد كانت هناك حاجة إلى تدخل الروح القدس للخلاص منها.

v  الرب نفسه، الروح القدس نفسه يلزمنا أن نسأله لينزع كل سحابة وجميع الظلمة التي تعوق الرؤية عن قلوبنا التي تقست بدنس الخطايا، حتى نستطيع معاينة معرفة ناموسه الروحي العجيب[609].

العلامة أوريجينوس

لكي نتخلص من الظلمة، يليق بنا أن نغلب محبة العالم فنشتغل بالسماويات ونراها.

v     ليس أحد ممن غلب (محبة العالم) وتأهل للعالم العتيد أعمى في فهمه، لأن عينيه مستنيرتان[610].

القديس ديديموس الضرير

3. ليس ما يبدد الظلمة

ولم تكن النار، مهما اشتدت قوتُها،

تُلقي نورًا،

ولا كان بريق النجوم يُنيرُ ذلك الليل البهيم. [5]

كانت الظلمة ضربة للتأديب، لذا باءت بالفشل كل محاولاتهم لإشعال نار أو مصابيح مهما كانت قوتها.

مع بهاء النجوم، لم تكن قادرة على إضاءة الليل البهيم الذي حلُ بهم.

إنها ظلمة غير طبيعية، ليس من أنوارٍ صناعية أو طبيعية تقدر أن تبددها. وكأن الظلمة كانت تصرخ بصوت عالٍ: ليس لكم من خلاص بأية وسيلة سوى بالرجوع إلى الله، النور الحقيقي، القادر وحده أن يبدد ظلمتكم الداخلية.

ولم يكن يلمعُ لهم إلاَّ كُتل من نار تشتعل من تلقاء ذاتها،

وتلقي الرعب.

وكانوا، إذا غاب عنهم هذا المنظر لا يزالون مرتعدين،

حاسبين ما يظهر لهم أهول مما هو. [6]

كانت تظهر لهم كتل نارية، لا لتضيء لهم، بل لترعبهم. ربما هذه الكتل كانت تمثل أرواحًا شريرة نارية، لكن بلا بهاءٍ، وعاجزة عن الإضاءة، أو هي من وحي تخيلاتهم. كانوا في حيرة شديدة، فالظلمة الحالكة أرعبتهم، والكتل النارية لم تعالج الأمر، بل ألهبت بالأكثر قلوبهم بالرعب.

لعل هذه الكتل النارية كانت من عمل السحر، فقد حاول السحرة مقاومة الظلمة التي هي تأديب إلهي بإيجاد كتل نارية تضيء لهم. إذ ظهرت الكتل التي عجزت عن تبديد الظلمة ورفع الخوف والرعب، الأمر الذي أرعب المصريين بالأكثر.

منذ خلقة آدم وعدو الخير يبذل كل الجهد ليتشبه بالله وملائكته لكي يصطاد الإنسان في شباكه بالخداع. هنا حاول عدو الخير – خلال السحر - أن يظهر ككتلٍ نارية، حتى يؤكد للمصريين أنه الله.

v     هذه هي عادة الشيطان أن يقلد الأمور الخاصة بالله. إنه يقيم أنبياء كذبة يقاومون الأنبياء الحقيقيين، كما يظهر في شكل ملاك ليخدع البشر[611].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

v     إن كنا لنا المسيح في قلوبنا فهو يهبنا النور. لذلك إن كان إدراك المعرفة يزيل الجهل، وإن تركنا الأعمال غير اللائقة ونفعل ما هو مستقيم، فإننا نكون في النور، ونسلك بأمانة كما في النهار[612].

العلامة أوريجينوس

4. عجز السحر عن إزالة الظلمة

عجِزت شعوذة فن سحرهم،

وأُفحِم ادِّعاؤُه بالحكمة إفحامًا مخزيًا. [7]

لأن الذين وعدوا بصرف المخاوف والاضطرابات عن النفس المريضة،

هؤلاء أمرَضَهم خوفٌ مضحك. [8]

اختاروا الخضوع لقوات الظلمة، واستخفوا بالاحتماء تحت جناحي الله (مز 91: 4)، فلم يستطيعوا الخلاص من أصوات الشياطين المخيفة وإيقاف تحركهم حولهم. عبثًا حاولوا أن يشعلوا نورًا في بيوتهم لحمايتهم من ظلمة إبليس، لأنه "إن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلاً يسهر الحرَّاس" (مز 127: 1).

رأت الشياطين التجاء المصريين إلى إشعال النيران لتضيء لهم فأسرعوا يخيفونهم بإظهار أنفسهم كنيران مشتعلة في الجو، تتحرك أمامهم، فخاف المصريون جدًا.

كان المصريون يجيدون السحر ويعتمدون عليه، حتى ظن فرعون ومشيروه أنهم قادرون على مقاومة موسى وهرون بواسطة السحرة. وهوذا الشياطين التي تلعب دورًا رئيسيًا في السحر تعجز عن إنقاذهم من ضربة الظلمة التي حلت عليهم بسماحٍ إلهي، وعوض تقديم عون لهم، صارت الشياطين موضع رعب أعظم.

5. رعب من الحيوانات والأفاعي

فإنه وإن لم يكن هناك شيء هائلٌ يُخيفُهم،

كان مرورُ الحيوانات وفحيحُ الأفاعي يُفزعهم. [9]

يا للعجب هؤلاء الذين كانوا يعبدون بعض الحشرات والزحافات صارت الدويبات والأفاعي تفزعهم وسط الظلمة.

6. رعب من الهواء

فيهلِكون من الخوف المرعب، 

ويرفضون حتى النظر إلى الهواء،

الذي لا يُمكن تجنبه. [10]

تحول كل ما يحيط بهم حتى الهواء إلى مصدر رعبٍ لهم، فالرعب الداخلي ينعكس على حواس الإنسان، فيظن أن كل ما حوله مرعب ومخيف للغاية، يود أن يغمض عينيه، فلا يطيق أن يتطلع حتى إلى الهواء الذي يتنسمه.

لأن الشر يدلُّ على الجُبن،

حين يحكم عليه شاهِدُه ولمضايقَة الضمير،

لا يزال يُضخِّمُ الصعوبات. [11]

يقدم لنا الحكيم حقيقة خطيرة، وهي أن الرعب يحل على الإنسان من داخله، خلال خبثه والتواء قلبه وانحرافه عن الله مصدر سلامه، فالخطية تولِّد قلقًا، وبرّ الله يولِّد سلامًا وفرحًا.

فليس الخوف إلاَّ التخلِّي عن معونات العقل. [12]

يكشف الحكيم عن علة الخوف في حياة الأشرار، فإنها ليست من أحداث حالة بهم، ولا لظروف محيطة بهم، وإنما لفقدانهم سلامة عقولهم، فليس من عونٍ يمكن أن يهبهم راحة.

v  تشير الظلمة إلى الخطايا الجسدية، التي تُمارس بإغراءات عالمية... أما أن تلمس سلاح النور (رو 13: 12) فهو أن تمارس الأعمال الصالحة[613].

الأب أمبروسياستر

فكلَّما ضعف توقُّعُ المعونة،

أشتدَّ الشعور بجهل ما يجلِبُ العذاب. [13]

يفقد الأشرار رجاءهم في التمتع باتزانٍ في الفكر، فليس من عونٍ للعقل، وبالتالي يحل بهم العذاب المر لجهلهم ما هم عليه.

7. ظلمة الموت أو سجن القبر

أما هم ففي ذلك الليل العاجز حقًا

والقادم من أعماق مملكة الأموات،

كانوا نائمين النوم نفسه (الذي للموت). [14]

تحولت حياتهم إلى ليلٍ مُر، كأنه ليس من صنع الطبيعة ككسوف الشمس، وإنما صدر عن الجحيم، ليحول حياتهم إلى جحيم قائلين. ومع رعبهم الشديد صاروا كمن ناموا في القبر ورقدوا.

وكانوا تارةً تُطاردُهم أشباح رهيبة،

وتارةً تنحلُّ قُواهم من خورِ نُفوسهم،

لما غَشِيَهم من خوفٍ مفاجئُ وغير متوقع. [15]

أخيرًا فإن رعبهم له ثلاثة مصادر: الخيالات التي كانت تطاردهم، وانحلال قلوبهم وانهيارها تمامًا، عدم إدراكهم لما سيحل بهم بعد ذلك.

وكذلك فمن سقط هناك، أيًّا كان

بقِيَ محبوسًا في سجنٍ

لا حديد فيه. [16]

صاروا في سجن مرعب، حبسوا أنفسهم بأنفسهم في بيوتهم يخشون الحركة داخل البيت أو الخروج منه لئلا يصطدموا بشيء ما وسط شدة الظلمة فيسقطوا أرضًا. قيدهم الظلام كما بسلاسل في أيديهم وأرجلهم فعجزوا عن الحركة، لعلهم يدركون حالة الأسر التي حلت بنفوسهم وهم لا يدرون.

يحبس الأشرار أنفسهم في سجن الظلام الذي بلا حديد. يرعبهم الخوف الصادر عن عجز عقولهم عن مدهم بالسلام. "كانوا على أنفسهم أثقل من الظلمة" (21:17).

8. مقيَّدون بسلسلةٍ واحدةٍ من الظلام

فإن كان فلاحًا أو راعيًا

 أو صاحبَ عملٍ من أعمالِ البرِّيَّة،

أُخذَ بغتةً ووقع في القضاء المحتوم. [17]

حلت الظلمة عليهم فجأة، فالذين كانوا في الفلاحة، أو رعاية غنمٍ أو ممارسة أي عمل في البرية لم يُعطوا لفرصة للذهاب إلى بيوتهم، بل بقوا يتخبطون وسط الظلمة لا يعرفون كيف يتحركون.

لأنهم جميعًا كانوا مقيَّدين بسلسلةٍ واحدةٍ من الظلام.

فهزيزُ الريحِ وتغريدُ الطيور على الأغصان الملتفَّة،

وإيقاعُ المياه المتدفقةِ. [18]

وقَعْقَعةُ الحجارةِ المُتدحرجَة،

وعَدْوُ الحيوانات القافزة الذي لا يرى،

وزئير أشدِّ الحيوانات توحُّشًا،

والصدى المتردِّد في تجاويف الجبال،

كل ذلك كان يشُلُّهم من الخوف. [19]

مما زاد الأمر رعبًا أنهم وهم في أسر الظلمة كان كل ما هو حولهم يزيدهم قلقًا، فصوت أغصان الشجر والمياه المندفعة والحجارة المتدحرجة، حتى الحيوانات التي في رعبها من الظلمة كانت تجري بلا ضابط في حالة هستيرية الخ. هذا كله أفقدهم كل إمكانيةٍ للطمأنينة! لقد انحلت قلوبهم، لأن الطبيعة كلها ثائرة عليهم، يخشون هجوم الحيوانات المفترسة الثائرة. لذلك بقوا في أماكنهم في البراري، كمن هم مقيدون بسلسة واحدة، ليس من يجرؤ على الحركة ليجد له رفيقًا وسط ضيقته.

9. ليس من يشاركهم ظلمتهم

لأن العالم كُلَّه كان يُضيئُه نورٌ ساطع،

ويمارس أعماله بغير عائقٍ. [20]

كان العالم كله يتمتع بعطية الله؛ أي وجود النهار والليل، يمارس الناس أعمالهم في النهار خلال نور الشمس ويستريحون ليلاً، أما هؤلاء فصاروا في ليلٍ دائمٍ وسط طبيعة ثائرة، مع عجزهم التام عن ممارسة أي عمل. لقد أصابهم بالظلمة نوع من الفالج بالرغم من إمكانية تحرك أطرافهم.

وأما هم وحدهم فكان عليهم ليلٌ بهيمٌ منتشرًا،

وهو صورةٌ للظلمةِ المُعدة أن تتلقَّاهم،

لكنهم كانوا على أنفسِهم أثقلَ من الظلمة. [21]

لو أن الظلمة قد حلت على كل البشرية، لكان في ذلك شيء من التعزية، إنه ضيق عام وشامل، أما حلوله عليهم دون غيرهم، فيمثل نكبة شديدة، تجعلهم يتوقعون حلول ما هو أقسى من ذلك.

v     انظروا إلى الرحمة والدينونة. الرحمة للمختارين الذين ينالون برّ الله، والدينونة على الآخرين الذين هم عميان. لكن الأولين يؤمنون لأنهم يريدون الإيمان،  أما الآخرون فإنهم لم يؤمنوا لأنهم لا يريدونه. لهذا فإن الرحمة والدينونة يحلان حسب أرادتهم (البشر)[614].

القديس أغسطينوس


 

من وحي الحكمة 17

أنر أعماقي، فتبدد كل ظلمة فيٌَ!

v     أعماقي فيّ تصرخ إليك يا أيها النور الحقيقي.

لقد أفسدت الخطية كل كياني.

ملكت وحلت الظلمة الحالكة في أعماقي.

لم أعد قادرًا على الرؤية.

صرت كميتٍ في قبر بلا حراك.

تحولت نفسي إلى مرارة شديدة!

من يقدر أن يبدد ظلمني سواك؟

 

v     دخل العدو وملك.

حول حياتي إلى جحيم لا يُطاق!

ظننت في الخطية لذة ومتعة،

وإذ بي في شقاءٍ وحرمانٍ.

ملكت الخيالات على نفسي.

وحطمني الشعور بالحرمان.

 

v     أفسدت الظلمة حياتي،

خشيت كل ما حولي،

كأن العالم كله صار معاديًا لي.

امتلأت أعماقي بخيالات قاتلة!

لم أعد قادرًا على أخذ أنفاسي.

 

v     تُرى هل أنا في سجن؟

إنه من صنع إرادتي الشريرة.

تُرى هل نفسي مع جسدي مقيدين بسلاسل!

تحولت كما إلى كائن جامد.

ضاعت منى كل حيوية،

فقدت كل قدرة على الحركة.

 

v     بذلت كل الجهد لكن بلا جدوى.

من يقدر أن يحررني سواك؟

تعال أيها النور الحقيقي.

لتشرق في أعماقي، فأدرك حبك!

أراك تبسط يديك لتحتضني.

أدرك اشتياقك العجيب نحوي!

أتمسك بك، فأنت الكل لي.

نورك يحطم كل أثرٍ للظلمة.

نورك يرفعني إلى سماواتك!

نورك يجدد حياتي!

 

v     الآن أصرخ متهللاً:

إن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا!

 

v     نعم لتشرق أيها النور على كل بشرٍ.

لتبدد ظلمة إبليس، وتقيم ملكوتك في كل نفسٍ.

لترفع كل قلب إلى سماواتك، فينعم ببهائك!

ليتسع قلب كل إنسان، فيحب النور لكل العالم!

 

<<


 

الأصحاح الثامن عشر

حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 3

المقابلتان الخامسة والسادسة

في الأصحاح السابع عشر أسهب الحكيم في حديثه عن الضربة التاسعة التي تُعتبر الإنذار الأخير قبل قتل أبكار المصريين. لقد أوضح الكاتب أن الخطر قد صار على الأبواب. وكان يليق بالمصريين أن يدركوا خطورة الظلمة الداخلية خلال ضربة الظلمة غير الطبيعية من جوانب كثيرة. الآن يكمل حديثه عن المقابلة الخامسة ألا وهي تمتع المؤمنون بنورٍ إلهيٍ يكشف عن إقامة ملكوت إلهي داخل القلب، يقابل إقامة مملكة ظلمة شيطانية داخل غير المؤمن.

ثم يتحدث عن الضربة الأخيرة ألا وهي قتل الأبكار يقابلها نجاة المؤمنين، ولكن ليس في محاباة، إنما متى أخطأوا يسقطوا تحت التأديب.

1. تكملة المقابلة الخامسة (نور الرب لقديسيه).

أ. نور إلهي 1.

ب. شمس فريدة غير مؤذية2-3.

ج. نور الشريعة الإلهية4.

2. المقابلة السادسة: الليلة المفجعة وليلة الخلاص.

أ. من يقتل يُقتل5.

ب. خطة إلهية6-8.

ج. حزن يتحول إلى تسبيح9.

د. تأديب شامل10-11.

هـ. ميتة مُرَّة12.

و. اعتراف بالحق13-16.

ز. مخاوف متزايدة17-19.

ح. تأديب بغير محاباة20.

ط. أبوة وشفاعة21-25.

1. تكملة المقابلة الخامسة (نور الرب لقديسيه).

أ. نور إلهي

أما قديسوكَ فكان عندهم نورٌ عظيم،

وكان أولئك الذين يسمعون أصواتهم من غير أن يبصروا اشكالهم،

يغبِّطونهم على أنهم لم يقاسوا العذاب. [1]

برع أغلب قدماء المصريين في العلوم والفنون والثقافة. لكن للأسف سقطوا في العبادة الوثنية، وما يتبعها من عادات شريرة وتصرفات غير لائقة، فصاروا بإرادتهم أبناء الظلمة، لذا حلت بهم ضربة الظلام. الآن إذ يتحدث في مقابل ذلك ما يتمتع به المؤمنون من نورٍ إلهي، يدعوهم قديسين.

ما يشغل قلب الكاتب ليس تمتع القديسين بنور الشمس، بل بالنور الإلهي، نور شمس البرّ الذي يقدم لهم عبورًا للحياة السماوية وسط ضيقات هذا العالم.

 لأنهم تقدسوا وتخصصوا لله. وكانوا يعبدون الله، إذ كان لهم نور في منطقتهم، يتحركون بكامل الحرية، يمارسون حياتهم بفرحٍ وبهجة قلبٍ.

يبرز الحكيم النور الداخلي المشرق في قلوب القديسين، ألا وهو نور الحب الإلهي. فإنهم إذ كانوا يمارسون حياتهم اليومية بجد واجتهاد ويعبدون الرب، وسط النور العظيم، كان جيرانهم من الوثنيين يشعرون بتحركاتهم ولا يبصرونهم. ومع هذا لم يحمل القديسون أية شماتة أو بغضة أو رغبة في الانتقام، ولا تحركوا لمضايقتهم سواء بالكلام أو السلوك، لقد شعر الأشرار بالفارق العظيم بين تعاستهم وبين فرح القديسين الذين يتقون الله، وبين قلوبهم القاسية وطول أناة القديسين عليهم. كانوا يشكرون القديسين ويطلبون منهم المغفرة على ما صدر منهم.

v     لو لم يكن الابن وحده هو النور الحقيقي، وكانت المخلوقات تشترك معه في هذه السمة أيضًا... فلماذا يصرخ القديسون بصوتٍ عالٍ، طالبين من الله: "أرسل نورك وحقك" (مز 3:43)؟... إن كان الإنسان غير محتاج إلى الكلمة الذي ينير، فلأي هدف يطلب منه القديسون أن ينيرهم، إن كان لا يستطيع أن يعينهم؟

إذن، الابن الوحيد الجنس مختلف بالطبيعة عن المخلوقات، إذ هو النور الذي يضيء للذين بلا نور...

إذا كنا نحتاج إلى النور من آخر، فنحن بكل وضوح لسنا النور الحقيقي. لذلك ليس لنا نحن ذات طبيعة الكلمة، هذا الذي بالطبيعة يفوقنا بغير قياس[615].

v     ليس النور هو المسئول عن مرض غير المستنيرين، لأنه كما يُشرق نور الشمس على الكل، ولا يستفيد منه الأعمى دون أن نلوم الشمس، وإنما نلوم المرض الذي أصاب العينين، هكذا أنار الكلمة، ولكن الخليقة المريضة لم تقبل النور. هكذا النور الحقيقي، الابن الوحيد، الذي ينير الكل، لكن "إله هذا الدهر" كما يقول بولس: "أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا يضيء لهم نور معرفة الله ويشرق عليهم" [4][616].

القديس كيرلس الكبير

v     إذ نعرف أن المسيح هو النور الحقيقي (يو 9:1)، ليس فيه بطلان (1 تي 16:6)، نتعلم هذا: أنه من الضروري لحياتنا أيضًا أن تستنير بأشعة النور الحقيقي. لكن الفضائل هي أشعة شمس البرّ (ملا 20:3) تنبعث لإنارتنا، خلالها نخلع أعمال الظلمة (رو 12:13) حتى نسلك بلياقة كما في النهار (رو 13:3)، ونرفض خفايا الخزي. إذ نفعل كل شيء في النور نصير النور ذاته، الذي يشرق على الآخرين (مت 15:5-16)، وهو نوع مميز من النور. وإن عرفنا المسيح أنه "تقديس" (1 كو 30:1)، الذي فيه كل عمل يكون راسخًا ونقيًا، فلنبرهن بحياتنا أننا نحن أنفسنا مشاركون حقيقيون في اسمه، نتناغم في الفعل والكلام مع قوة تقديسه[617].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     إن كانت الحياة تعادل "نور الناس"، فإنه ليس أحد في الظلمة هو حي، وليس أحد حي هو في الظلمة، بل كل من هو حي هو أيضًا في النور، وكل من في النور هو حي. لهذا فإن من هو حي وحده هو ابن النور، وابن النور هو ذاك الذي تشرق أعماله أمام الناس (مت ٥: ١٦)[618].

v     يقول بولس إنه كان قبلاً "ظلمة والآن نور في الرب" (١ كو ٢: ١٤ – ١٥). هكذا يمكن للظلمة أن تتحول إلى نور. إنه ليس من الصعوبة لمن يدرك إمكانية كل إنسان أن يتغير إلى ما هو أسوأ أو ما هو أفضل[619].

v     إنه يمكن لمن يملك نور الناس ويشترك في أشعته أن يحقق أعمال النور ويعرف نور المعرفة (هو ١٠: ١٢ LXX) لأنه مستنير. لكن يلزمنا أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار الحالة التي للضد، أي أن كل من الأعمال الشريرة والمدعوة معرفة ليست حسب الحق، هذه تملك أسس الظلمة[620].

العلامة أوريجينوس

ب. شمس فريدة غير مؤذية

ويشكرونهم على أنهم لا يؤذون، بعد أن ظُلموا،

ويستغفرونهم من معاداتهم لهم. [2]

بدل الظلمة جعلت لهؤلاء عمودً نارٍ،

مرشدًا في رحلةٍ لم يعرفوها،

وشمسًا لا تؤذي في تجوالهم المجيد. [3]

نظرة مفرحة للحكيم إذ يرى القديسين – حسب تعبيره – في وسط البرية في ضيافة الله نفسه، يقودهم كعمود نورٍ يبعث فيهم فرحه حتى وسط الليل. ضيافة إلهية في طريق البرية الذي لم يكونوا يعرفونه، فتحولت البرية إلى سماءٍ مبهجةٍ، ليس تحت رعاية ملائكة فحسب، بل رب الملائكة نفسه!

بقوله "لا تؤذي" يقصد أن الشمس المادية مع أهميتها العظمى، لكن إن دامت فترة طويلة قد تؤذي من يتعرض لها بما يدعى "ضربة شمس". ولعل اليهود كانوا يعانون من الشمس. فمن جانب كان المصريون يدفعونهم على عبادة الإله رع "الشمس" بضغوط كثيرة. هذا ومن جانت آخر فإنه ما أن تشرق حتى يبدأوا في أعمال الصخرة ويعانوا من الظلم الساقطين تحته، ويبقوا هكذا حتى الغروب، فارتبطت الشمس بالمذلة والعنف والمعاناة من الظلم.

ج. نور الشريعة الإلهية

أما أولئك فكانوا يستوجبون أن يفقدوا النور،

ويحبَسوا في الظلمة لأنهم حبسوا أبناءك،

الذين سيُمنحُ العالم بهم نور الشريعةَ غير القابلِ للفساد. [4]

حُبس المصريون الوثنيون في سجن الظلمة، لأنهم حبسوا بني الله الذين يأتي منهم السيد المسيح النور الأبدي غير الفاني، المشرق على الجالسين في الظلمة!

بينما يحبس الأشرار أنفسهم في سجن هو من صنعهم يتمتع القديسون الحكماء بنورٍ عظيمٍ، "جعلت لهؤلاء عمود نورٍ دليلاً في طريق لم يعرفوه، شمسًا لتلك الضيافة الكريمة لا أذى بها" (3:18).

يرى الكاتب في خروج الشعب من مصر إلى أرض الموعد تمتعهم في الطريق باستلام الشريعة على جبل سيناء خلال موسى النبي، يكونها نورًا يهدي البشرية إلى التمتع بكلمة الله المتجسد، شمس البرّ.

v     ينير الكتاب أعين النفس فاقرأه أيها العاقل، وامتلئ من حبّه. فمن قراءة الأسفار المقدسة تشرق الشمس على العقول التي تتغذى منها بتمييز.

لقد وضع الله الأسفار المقدسة في العالم كسراج نورٍ تضيء ظلمته. فالذي يحبّ نفسه يستنير بالقراءة، ويسير على هداها.

اقترب من الكتاب بحبٍ، تأمل جماله. لن تستفيد بدون الحب، لأن الحب هو مدخل الفهم.

يفرض الكتاب حبَّك، فإن كنت لا تحبه فلا تقرأه. إنه يكلمك، فإن ضجرت في قراءته حرمك من إيماءاته.

يجب أن تحبَّه وتفتحه وتقرأه وتتأمل جماله، وإلا فلا تقرأه، لأنك إن كنت لا تحبَّه لن تستفيد منه.

القديس مار يعقوب السروجي

v     سواء خلص الإنسان أم هلك فإن الإنجيل يبقى في قوته. النور حتى وإن أعمى أحدًا فهو نور. والعسل وإن كان مرًا بالنسبة للمرضى لا يزال حلوًا. هكذا الإنجيل له رائحة ذكية للكل حتى إن هلك الذين لم يؤمنوا به[621].

v     إن ضاع إنسان لا يلوم إلا نفسه. فالطيب الملطف يُقال إنه يخنق الخنازير. النور يعمى الضعفاء. ففي طبيعة الأمور الصالحة ليس فقط أن تُصلح من يلتصق بها، بل وتحطم المقاوم لها، هكذا تعمل قوتها[622].

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. المقابلة السادسة: الليلة المفجعة وليلة الخلاص.

أ. من يقتل يُقتل

v     وبالمثل أصبح المصريون غير قادرين على التمييز بين الليل والنهار، وأصبحوا يعيشون في ظلامٍ لا يتغير (خر 10: 21-23). ولكن لم يحدث شيء غير عادي للعبرانيين. وهكذا كان الأمر مع كل الأشياء الأخرى: البرد والنار والدمامل (البثور) وذباب الماشية والبعوض وسحابة الجراد، وكان لكل من هذه أثرها الطبيعي على المصريين[623]. وعلم العبرانيون الكوارث التي حدثت لجيرانهم بالسمع، حيث أنه لم يحدث لهم شيء مماثل. ثم زادت حدة التمييز بين المصريين والعبرانيين في ضربة موت الأبكار (خر 11-46؛ 12: 29-31). وأصيب المصريون بالصدمة، وأخذوا ينوحون على فقد أعز أولادهم بينما استمر العبرانيون يعيشون في هدوء وأمان تامين، وتأكد لهم الخلاص بسفك الدم (عب 11: 28). وفي كل مدخل بيت تم تمييز قائمتي الباب والعتبة العليا الموصلة بينهما بالدم[624].

القديس غريغوريوس النيسي

بعد الضربات التسع التي حلت بفرعون وشعبه، والتي لم تحل بشعب الله، بل سندتهم وسط ضيقتهم الشديدة، جاءت الليلة الحاسمة. في هذه الليلة تغيرت الموازين تمامًا. كان في خطة فرعون إبادة شعب الله، وكان يظن أنه ليس من يقدر أن ينجو من يديه. فقد أصدر أمره بقتل كل أطفالهم الذكور، حتى يتحولوا إلى جماعة من النساء بلا رجال؛ تعمل النساء كجاريات لدى المصريين، وعلى المدى البعيد لا يوجد نسل عبراني، فلا يصير للجماعة وجود نهائيًا.

في هذه الليلة ما حدث فجأة وفى لحظات أن فقد كل المصريين أبكارهم! تعرضوا لضربة لم تكن في حسبانهم أو حسبان أحد قط، حولت أرض مصر إلى مناحة عامة، وليس من معزٍ، ولا من معينٍ!

ب. خطة إلهية

ولمَّا عزَموا على قتل أطفالِ القديسين،

وخُلِّص طفلٌ واحدٌ منهم بعد أن عُرِّض لذلك،

انتزعتَ جمهور أولادهم لتعاقِبَهم،

وأهلكتهم جميعًا في الماء الجارف. [5]

قتلوا الأطفال الأبرياء، وسخَّروا الكل لخدمتهم، وظنوا؛ أنه ليس من مدافعٍ لمن لا قوة لهم ولا جيشً. ولكن السماء لا تترك عصا الخطاة تستقر على الصديقين.

قتلوا الأطفال الأبرياء فكان من ثمر ذلك قتل أبكارهم في ليلة واحدة!

إن كان كل الأطفال قد تعرضوا للقتل، فإن أحدهم تعرض لذلك فألقى في النهر. لكن الوسيلة التي كانت للهلاك صارت للخلاص، فقد انتشلته ابنة فرعون وربته في القصر، ولم تدر أنه القائد المُعد من قبل الله لتحرير العبرانيين من عبودية فرعون. في الماء الذي غرقت فيه جيوش فرعون خرج منه هذا الطفل القائد.

وتلك الليلة أُخبرَ بها آباؤنا من قبلُ

لكي تُطيب نُفوسهم،

لعِلمِهم اليقينِ بأيَّة أقسامٍ وثقوا. [6]

سبق فأخبر الله موسى النبي عما سيحدث، فما حدث لم يكن وليد مصادفة كما يظن البعض أحيانًا. كان عنصر المفاجأة بالنسبة للأشرار يزيد من حدة الضيقة، وكان إدراك القديسين مقدمًا ما سيحدث أعطاهم ثقة أعظم في عمل الله، وحوَّل حياتهم إلى حياة متهللة شاكرة لله ومسبحة.

لقد طابت نفوسهم، إذ أدركوا يقين أمانة الله في دعوته لمؤمنيه.

فتوَقَّع شعبُك خلاصَ الأبرار وهلاك الأعداء. [7]

لم ينم الشعب تلك الليلة، إذ كان مترقبًا بإيمان وثقة أن ما أعلنه الله حتمًا يتحقق: خلاص للأبرار، وهلاك للأشرار!

لأن ما عاقَبتَ به أعداءنا

صار لنا موضع مجدنا بدعوتِك لنا. [8]

تهلل الشعب وسبح ليس لشهوة انتقام من مقاوميهم، وإنما لاعتزازهم بتحقيق وعود الله الصادقة أنه ملجأ لمؤمنيه وسند لهم.

يجلب الأشرار الضربات عليهم، ويصير ما هو هلاك لهم خلاصًا للصديقين.

ج. حزن يتحول إلى تسبيح

فإن بني الصالحين القديسين كانوا يذبحون خُفيةُ،

وأجمعوا على إقامة هذه الشريعة الإلهية،

أن يشترك القديسون في الخيرات والمخاطر على السواء،

وكانوا منذ ذلك الحين ينشدون أناشيد الآباء. [9]

يقصد بالصالحين القديسين إبراهيم اسحق ويعقوب وغيرهم من الآباء، فقد استلم الشعب عن آبائهم تقديم ذبائح للرب. وإذ مُنعوا كانوا يقدمونها خفية. فقد أدركوا ما لهذه الشريعة الخاصة بتقديم ذبائح حيوانية من أهمية، فأصروا بالإجماع ألا يتوقفوا عن تقديمها.

هنا يقدم لنا بعض ملامح هذا الشعب المُستعبد، والساقط تحت السخرة:

أولاً: أصروا على الحياة والعبادة كما استلموها من آبائهم، حتى يتمتعوا بحب الله وتحقيق وعوده لآبائهم.

ثانيًا: في وسط المذلة كانوا يحملون روحًا واحدة، فكانوا يجمعون على تقديم العبادة بفكرٍ واحد تسلموا طقوسها عن الأجيال السالفة.

ثالثًا: أن يمارسوا حياة جماعية في التمتع معًا بالخيرات واحتمال والضيقات.

رابعًا: اتسم هذا المجتمع المتغرب والساقط تحت العبودية بروح الرجاء والتهليل، إذ كانوا بالفعل قبل ظهور موسى لاستلام العمل القيادي ينشدون تسابيح أو أناشيد الآباء.

هذه الصورة البهية لم يحدثنا عنها موسى النبي في سفر الخروج، لأن ما كان يشغله الكشف عن برّ الله العاملة للخلاص، وتدبيره الإلهي الفائق. أبرز الكاتب أنهم كانوا بالفعل قبل حدوث الخلاص في تلك الليلة ينشدون تسابيح الخلاص، بروح الجماعة في رجاء حيَّ.

د. تأديب شامل

وكانت جلَبَةُ الأعداء الناشزةُ تردُّ عليهم،

وصوت الباكين على أطفالهم بالنحيب ينتشرُ في كل اتجاهٍ. [10]

جاءت الكارثة شاملة كل المصريين، فهو تأديب جماعي، لا يخلو بيت من بكر لهم يموت، خاصة وأن المجتمع في ذلك الحين كان يتميز بنظام الأسرة الكبير. ففي البيت الواحد يموت أكثر من بكر، حيث اعتاد الاخوة المتزوجون أن يعيشوا معًا في دارٍ كبيرة!

مع وحدة السكن ووحدة التجربة لم تكن هناك مشاركة جماعية للتعزية، ليس من شخصٍ لم تُصب أسرته في هذه الضيقة.

بينما كان الأبرار وسط ضيقتهم ينشدون معًا بروح واحدة في تناغم فيما بينهم، كما في تناغمٍ مع آبائهم، إذا بغير المؤمنين يصدرون أصوات نشاز رهيبة وصرخات مرة، بسبب قتل أبكارهم. لقد امتلأت بقاع مصر من صوت النحيب بسبب موت أبنائهم. ومع أن الكارثة التي حلت بهم مشتركة لكن الأصوات تمثل ضوضاء بلا انسجام.

الكنيسة حتى في وسط آلامها تتمتع بالوحدة في الروح بعمل الروح القدس، أما الأشرار فحتى أن اتفقوا على  مقاومة الكنيسة يصدرون أصواتًا متعارضة ليس فيها تناغم.

وكان العقاب الواحد يُصيب العبد والسيد،

وكان ابن الشعب والملك يعانيان العذاب الواحد. [11]

لقد ميزَّ فرعون نفسه عن رجال قصره، ورجال قصره عن الشعب المصري. وجاء استغلال العبرانيين للعبيد لصالح الفئات الغنية. لكن إذ حمل الكل مشاعر كراهية وشماتة، وربما اشترك الشعب في تسخير العبرانيين واستغلالهم، إذا بالتجربة التي حلت لتأديبهم واحدة. لقد أراد الله أن يدرك الإنسان أن البشرية كلها متساوية في عيني الله. فليس عند الله محاباة لصاحب سلطان أو لسيدٍ أو غنيٍ.

هـ. ميتة مُرَّة

ماتوا كلهم ميتة واحدة،

فكان لهم جثث لا تُحصى،

حتى إن الأحياء لم يَكْفوا حتى لدفنهم،

إذ في لحظة أُبيد أعزُّ نسلِهم. [12]

صدرت الأوامر الملكية للقابلتين أن يقتلا سرًا أطفال العبرانيين أثناء ولادتهم، وصدر الأمر الإلهي بتأديب الأشرار بقتل الأبكار في ليلة واحدة بضربة واحدة.

من كثرة الموتى لم يوجد عدد كاف من الشباب لحمل الموتى ودفنهم، فانكسرت قلوب الشعب إذ صارت الجثث أمامهم، مع عجز عن دفنهم.

v     عندئذ يصل الملاك ليضرب مصر، التي لم تكن مطّلعة على السّر، ولا مشاركة في الفصح، ولا مختومة بالدم، ولا في حماية الروح، العدوّة غير المؤمنة، ضربها في ليلة واحدة وحرمها أولادها. فقد هجم الملاك على مصر، بعد أن جال بين إسرائيل ورﺁه مختومًا بدم الخروف، وأخضع فرعون غليظ الرقبة بالحداد، فلفّه، لا بثوبٍ حالك أو بمعطفٍ ممزقٍ، بل بمصر كلها الممزقة تمامّا والباكية أبكارها.

كانت مصر كلّها غارقة في الحزن والضربات تذرف الدموع وتقرع صدرها وقد جاءت إلى فرعون، في حدادٍ، لا في لباسها فقط، بل في نفسها أيضّا؛ ممزقة، لا في ثيابها الخارجيّة فقط، بل في الداخل أيضّا.

وكنت تستطيع أن ترى مشهدّا جديدّا: هنا الذين يقعرون صدورهم، وهناك الذين يطلقون صرخات اﻷلم، وفي الوسط فرعون في حدادٍ، جالسّا على المُسح والرماد، وملفوفّا بظلمة تمسك به وكأنها ثوب مأتمٍ، ومتمنطقّا بمصر كلّها وكأنّها معطف حدادٍ.

كانت مصر حول فرعون كمعطف نحيب...

إن أصغيتم، يأخذكم الدهش في أمر مصيبة لا تصدّق. إليكم ما كان يحيط بالمصريين: ليلة طويلة وظلام لا ينفذه النور وموت يتحسّس طريقه وملاك يبيد وجهنّم تلتهم أبكارهم.

لكنّ ما هو اﻷشدّ غرابة واﻷرهب، عليكم أن تطلعوا عليه. في الظلام الذي يمسك، كان الموت الذي لا يشبع يستتر، وذلك الظلام كان المصريّون البائسون يتلمّسونه...

 لكن الموت المترصّد يقبض على أبكار المصريين بأمر الملاك.

يا له من سّر غريب لا يفسّر! فإن ذبح الخروف كان في الواقع خلاص إسرائيل، فأصبح موت الخروف حياة الشعب، ﻷنّ الدم خوّف الملاك[625].

ميليتو أسقف ساردس

و. اعتراف بالحق

وبعد أن أبَوا بسبب فن السحر أن يؤمنوا بشيء،

اعترفوا عند هلاك الأبكار،

بأن شعبك هو ابن لله. [13]

كان المصريون يعتمدون على فنون السحر، ومع كل ضربة يسأل فرعون السحرة للتحرك، وباطلاً بذلوا الجهد لخلاص فرعون وشعبه. مع هذا العجز استمر فرعون في عناده، مـقاومًا الله بكبريائه، حتى اهتز عرشه تمامًا بضربة البكور (18: 14).

وبينما كان صمتٌ هادئ يُخيِّم على كل شيء،

وكان الليل في منتصف مسيره السريع. [14]

يقارن الكاتب بين حال المصريين في النصف الأول من الليل والنصف الثاني. فقد عبر النصف الليل في سكون شديد، وبسرعة فائقة، حتى صدر الحكم بالتأديب في منتصف الليل.

وثبت كلمتُك الكلية  القدرة من السماء من العرش الملكي،

كالمحارِب العنيف في وسط الأرض المحكوم عليها، [15]

كانت تحمل أمرك المحتوم كسيفٍ ماضٍ.

فوقفت وملأت كلَّ مكان موتًا،

وكان تمس السماء وتطأ الأرض. [16]

في منتصف الليل أُعلنت معركة من نوعٍ فريدٍ، بين بشرٍ على الأرض يظنون أنهم أصحاب سلطان، ولديهم إمكانيات عسكرية، وأنهم قادرون على وضع خطط للمعركة، وبين كلمة الله القدير في السماء حيث العرش الإلهي.

يصور كلمة الله الذي أصدر الأمر بالتأديب بكونه القدير الذي يُحد. رأسه في السماء وقدماه على الأرض. من يقدر أن يقف أمامه؟

ز. مخاوف متزايدة

حينئذ بلبلتهم فجأةً رُؤى أحلامٍ مخيفة،

وغَشيَتهم مخاوف غير متوقعة. [17]

يصعب أن يرى إنسان أن دولة بأكملها يكاد كل بيت فيها يقيم مناحة على بكر الأسرة. وأما ما أثار الموقف بالأكثر، أنهم وهم لا يجدون كلمة تعزية، ولا طاقة لجمع الجثث ودفنها قبل أن تعفن وتسبب أوبئة، أنهم لا يدرون ماذا بعد هذه الضربة.

كأن مخاوفهم مما هو قادم غطى حتى على حزنهم على أبكارهم.

يرى الحكيم أن ضربة الأبكار بواسطة الملاك صاحبتها ظهور الشياطين التي أقلقتهم، فأدركوا ضعف آلهتهم (18: 17-18).

فصُرِعَ كلُّ واحدٍ هنا وهناك بين حيٍّ وميتٍ،

وكان يُعلنُ لأيِّ سببٍ يموت. [18]

تحولت البلاد إلى حالة من الفوضى، كل واحدٍ يجري هنا وهناك، متسائلاً ما هي علة هذه الكارثة الخطيرة.

لأن الأحلامَ التي أقلقَتهم أنبأتهم بذلك

لئلاَّ يهلكوا وهم يجهلون لماذا يُعانونَ هذا العذاب. [19]

يبدو أن الله سمح لهم بأحلامٍ في تلك الليلة، لعلهم يتوبون ويرجعون قبل حدوث هذا الهلاك.

ح. تأديب بغير محاباة

لكن محنةَ الموت،

كانت تصيبُ الأبرار أيضًا،

ووقعت الضربة على عدد كبير منهم في البرية.

غير أن الغضب لم يلبث طويلاً. [20]

تذمر مجموعة من اللاويين الذين كانوا يحسدون الكهنة في خدمة الله في خيمة الاجتماع، قورح وداثان وأبيرام وغيرهم، يبلغ عددهم مائتان وخمسون رجلاً، متذمرين على حصر الكهنوت في هرون ونسله. تجاسروا وقدموا بخورًا، فانشقت الأرض وابتلعتهم هم وعائلاتهم. لم يخشَ الشعب الله، بل تذمروا على موسى وهرون. في غير محاباة سمح الله بانتشار وباء أهلك أربعة عشر ألفًا منهم، وفي أبوة حانية شفع موسى وهرون في الشعب ليرفع الله عنهم الوباء.

ط. أبوة وشفاعة

لأن رجلاً لا عيبَ فيه بادَرَ لحمايتهم،

فذهب بترس خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور،

ووقف أمام السخط، وقضى على الكارثة مُظهرًا أنه خادمُك. [21]

بسبب فساد جماعة من اللاويين انتشر وباء يهلك الكثيرين، لكن تبرز شخصية موسى كأب يضم كل الشعب بين ذراعيه، ويحمله في قلبه ويشفع فيهم. تلألأت شخصيته ككوكبٍ بهيٍ في أعين السمائيين، بل وفى عيني الله الذي يطلب النفوس المتسعة بالحب. كما طلب من أخيه هرون أن يقدم بخورًا لله من أجل الشعب.

فانتصر على المُهلك،

لا بقوة الجسد ولا بعمل السلاح،

بل بالكلمة،

سيطر على المعاقِب مُذكِّرًا بالأقسامِ والعهود المقطوعة مع الآباء. [22]

كأن موسى قد دخل في معركة مع غضب الله على شعبه. كان سلاحه الحب مع الصلاة بروح التواضع والثقة في مواعيد الله وما اقسم به للآباء في عهوده معهم. لقد غلب بهذا السلاح الروحي الرائع!

وبينما كان القتلى يتكدَّسون الواحد على الآخر،

وقف في الوسط وردَّ الغضب،

وقطع عليه طريق الأحياء. [23]

وقف موسى النبي وسط الجثث وبسط يديه لكي بالإيمان الحيّ والحب الصادق يوقف غضب الله، ويحفظ الأحياء من الوباء الذي حلّ.

لعله يتحدث هنا عن هرون رئيس الكهنة الذي اشترك مع موسى في الطلبة.

لأنه على ثوبه الطويل كان العالم كله،

وكانت أسماء الآباء المجيدة منقوشة في أربعة صفوف الحجارة،

وكانت عظمتُكَ على تاج رأسِه. [24]

ما يزين كهنوت هرون أنه كان يرتدي ثوبًا حتى الرجلين يمثل العالم كله، يلتحف بكل البشرية ليطلب بالحب عن العالم كله. فالكاهن أب لكل البشرية، لن يكف عن الصلاة من أجل جميع الناس.

فلما رأى المُهلك ذلك تراجع وخاف،

وكان مجرَّد اختبار الغضبِ قد كفى. [25]

تراجع الملاك المهلك وخاف إذ أدرك مسرة الله بحب موسى لشعبه وخدمة هرون لحسابهم.

 


 

وحي من الحكمة 18

لتؤدبني وإلى الموت لا تسلمني!

v     إلهي، أنت هو شمس البرّ،

تُشرق عليّ، فتتبدد كل ظلمة فيّ،

وتسكب بهاءك على نفسي.

تؤدب، لكنك تحيي ولا تُهلك!

 

v     لتنزع عني ظلمة الخطية، فتحول أحزاني إلى أفراح!

تسمح بموت الجسد لكن إلى حين،

أما نفسي فتنعم دومًا بالحياة معك.

لا أخشى موت الجسد، لأنه بك يقوم ممجدًا،

يشارك نفسي بهاءها الأبدي!

 

v     هب لي مع موسى النبي وهرون روح الأبوة!

فلا يكون لي عمل أعظم من الصلاة من أجل كل البشرية.

ابسط يديّ نفسي لأحتضن الكل.

أصرخ قائلاً: ارفع غضبك عن كل البشرية!

<<


 

الأصحاح التاسع عشر

حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 4

في المقابلات السابقة كان الكاتب يقارن بين عمل حكمة الله، الأقنوم الإلهي، في حياة الأبرار، وعمله في حياة الأشرار، مقدمًا تفسيرًا مسهبًا لبعض الضربات العشر وما يقابلها من بركات لدى الأبرار. الآن في ختام السفر يقدم المقابلة السابعة حيث صار البحر الأحمر طريقًا بريًا لعبور أمة بأكملها وهي تستتر تحت ظل القدير، بينما ألقى فرعون وجيشه أنفسهم فيه ليعبروا ويبيدوا شعب الله فهلكوا.

صار البحر الأحمر طريقًا للعبور وللدفاع، كما صار مقبرة جماعية خطيرة.

1. المقابلة السابعة: البحر الأحمر كطريق للخلاص وطريق للهلاك

أ. غضب إلهي لا رحمة1-5.

ب. طبيعة لخدمة خطة الله6-7.

ج. حفل بهيج وسط المياه 8-12.

2. مقارنة بين مصر وسدوم13-17.

3. انسجام جديد18- 21.

4. الخاتمة22.

1. المقابلة السابعة: البحر الأحمر كطريق للخلاص وطريق للهلاك

أ. غضب إلهي لا رحمة

أما الأشرار فقد هجم عليهم حتى النهاية غضب لا رحمة معه،

لأنه كان يعلم من قبلُ ماذا سيفعلون. [1]

في الضربات العشر كان التأديب – مهما بدا قاسيًا يحمل الرحمة، إذ يعطي الرب فرصة للتوبة. الآن وقد امتلأ كاس الشر، ألقى فرعون ورجال جيشه نفوسهم في وسط البحر فهلكوا، وقد أغلقوا ضد أنفسهم أبواب المراحم الإلهية.

وأنهم، بعد أن يأذنوا لهم بالرحيل،

وأن يُسرعوا في إطلاقهم،

سيُغيِّرون رأيَهم،

ويجدُّون في إثرِهم. [2]

أمام ضربة الأبكار عرف المصريون أن هذا الشعب ابن الله (حك 18: 13)، وأدركوا أنه لا مجال لمقاومتهم، فسمحوا لهم بالخروج، بل وطلبوا الإسراع في الانطلاق من مصر، لكن قلوبهم الشريرة أبت ذلك، فتراجعوا في قرارهم، وندموا على ذلك، ووضعوا في أنفسهم أن يجدّوا في إثرهم.

فإنهم، بينما كانوا لا يزالوا ينوحون وينتحبون على قبور أمواتهم،

خطر لهم فِكرٌ آخر غبيّ،

وأخذوا يطاردون الذين حثُّوهم على الرحيل،

مطاردتهم لقومٍ هاربين. [3]

يقدم الحكيم علة جديدة لشرورهم، فبجانب معرفتهم أن هذا الشعب ابن الله، وبجانب طلبهم الإسراع بالخروج، تركوا قبور أبكارهم، وعوض النحيب خطر على بالهم فكر غبي، ألا وهو مطاردة من سمحوا لهم بالخروج. هذا يكشف عن قلب مملوء بغضة وكراهية، فلا يبالون بالأبكار الذين ماتوا، إنما ما يشغلهم هو قتل من خدموهم وأحسنوا إليهم.

وإنما ساقهم إلى هذا الحدِّ الأقصى مصير عادل،

وحملهم على نسيان ما مضى،

لكي يتمُّوا ما نقص عقابهم من عذابات. [4]

إذ فكروا بغباء حسب شر إرادتهم وفساد قلوبهم، دفعوا أنفسهم بأنفسهم للهلاك ثمرة فسادهم، فيتحقق فيهم العدل. لقد نسوا الضربات العشر وكأنها كانت غير كافية، فألقوا بأنفسهم في ضربة قاضية.

ويختبر شعبك أعجبَ رحلة،

ويواجه أولئك أغرب ميتة. [5]

بتفكيرهم الرديء وتصرفهم الشرير ألقوا بأنفسهم في موتٍ مخزٍ، وتمتع شعب الله بعبورٍ عجيبٍ، صار درسًا عبر الأجيال، ورمزًا لعبور البشرية كلها خلال تحطيم إبليس بالصليب.

ب. طبيعة لخدمة خطة الله

وكانت الخليقة كلها بحسب طبيعتها الخاصة،

تُجبَل مرَّة ثانية وتخضعُ لأوامركَ

ليُحفظ بنوك سالمين. [6]

كل الأمور كانت تعمل لخير أولاد الله، حتى شر الأشرار وأيضًا تحرك الطبيعة لتسير لا حسب قوانينها، وإنما حسب الأوامر الإلهية.

ورأوا سحابة تظلِّل الخيمة،

والأرض اليابسة تبرُزُ ممَّا كان ماءً من قَبلُ،

والبحر الأحمر يصبح طريقًا بلا عائقٍ،

والأمواج المندفعة تُصبح مَرجًا أخضر. [7]

تحركت الطبيعة لتعمل بأوامر إلهية لحفظ أولاد الله.

أولاً: في عبورهم كانت المحلة أو الشعب كله والتابوت مظللاً بسحب إلهية، كمن تحت جناحي الله.

ثانيًا: ظهر طريق وسط الماء يابسًا وجافًا، يصلح للسير عليه بالرغم من أنه كان قائمًا تغطيه المياه زمانًا هذا مقداره.

ثانيًا: تحركت المياه من كل جانب ووقفت لتصير كأنها أسوار تحمي السائرين في الطريق الجديد.

رابعًا: لم توجد أمواج ترعب الشعب، إنما تحولت إلى مروج خضراء، ينعم السائرون وسط البحر بها كأنهم يتنزهون.

ج. حفل بهيج وسط المياه

عبرت فيه كأمةٍ واحدة تستُرها يدُكَ،

وتشهد خوارقَ عجيبة. [8]

عبور رائع يضم كل الأمة دفعة واحدة، إذ لم يكونوا في حاجة إلى سفن تحملهم وتقسمهم إلى جماعات، ولم يخشوا مخاطر غرق أو لصوص بحار.

يرون وهم في سيرهم كمًا من الآيات والعجائب لا حصر لها.

رعوا كالخيلِ ووثبوا كالحُملان،

مسبِّحينَ لكَ أيها الرب مُنقذُهم. [9]

لم يكن بالعبور المملوء بالمخاطر، ولا بالقلق بالنسبة لحالهم أو ما سيكونون عليه في البرية. إنما تحول العبور إلى حفل بهيج، فيه تتمتع القلوب برقصات كالخيل، والنفوس كأنها حملان مبتهجة تشير في مرعى بلا هم، أفواههم لم تصمت عن التسبيح لله واهب الخلاص العجيب.

فإنهم كانوا يتذكَّرون ما جرى في غربتهم من أحداثٍ،

كيف أخرجت الأرضُ بعوضًا لا الحيوانات،

وكيف فاض البحرُ جمًّا من الضفادع لا الحيوانات المائية. [10]

عاد الموكب بذاكرته ليتأمل الكل: كهنة ولاويين وشعبًا كيف كانت الطبيعة ولازالت تتحرك لحسابهم. فالأرض أخرجت لمسخريهم بعوضًا لا حيوانات، والمياه بعثت إليهم ضفادع لا أسماك!

ورأوا أخيرًا طريقةً جديدةً لإنتاج الطيور،

حين حثَّتهم شهوتُهم أن يطلبوا أطعمةً فاخرة. [11]

رحلة عجيبة وفريدة‍ حين اشتهوا طعم اللحم حدث ما كان مستحيلاً. من أين يأتون بلحومٍ في برية جافة، لكن السلوى جاءت مهاجرة كما بأمر إلهي لتنطلق إليهم بالقرب من سطح البحر، وكأنها وُلدت من مياه البحر، ولم يكن الشعب في حاجةٍ إلى شباكٍ لصيدها، إنما صارت كأنها بين أيديهم تتقدم بنفسها ليتمتعوا بأكلها‍.

فصعدتِ السلوى من البحرِ إرضاءً لهم. [12]

2. مقارنة بين مصر وسدوم

لكن العقوبات نزلت بالخاطئين،

من دون أن يشار إليها من قبلُ،

بصواعِقَ عنيفة، وبحقٍّ كانوا يتألَّمون بسبب شرورهم،

لأنهم أظهروا للغرباء أشدَّ البُغض. [13]

يقارن بين شر سدوم وشر المصريين من جهة ما فعله أهل سدوم حين استضاف لوط ملاكين، وما فعله المصريون حين استضاف فرعون يوسف وكل أسرته. استحق أهل سدوم أن تحل بهم صواعق من السماء، لأنهم ابغضوا رجلين غريبين (أو ملاكين جاءوا في شكل رجلين).

أبى غيرهُم أن  يُرحِّبوا بغرباءَ لم يعرفوهم.

أما هم فقد استعبدوا ضيوفًا أحسنوا إليهم. [14]

إن أعطى عذرًا لأهل سدوم لرفضهم استضافة غرباء، فأي عذر يقدمه المصريون لتسخير من أحسنوا إليهم وقت ضيقتهم وفى رعاية أغنامهم.

وما عدا ذلك فهناك افتقادٌ (عقوبة) ينتظرُ أولئكَ

لأنهم قبلوا الغرباء بطريقة عدائية. [15]

كان العقاب ينتظر أهل سدوم، لأنهم قبلوا الغرباء بروح العداوة بلا سبب.

أما هؤلاء فبعد أن قبلوا باحتفالٍ من كانوا يشاركونهم في الحقوق،

أثقلوهم بأعمالٍ رهيبة. [16]

في منظار جديد يقارن الحكيم بين المصريين وأهل سدوم. الأولون استضافوا المؤمنين (يوسف وأسرته) بترحيب شديد إكرامًا ليوسف الذي أنقذهم من المجاعة. لكن بعد يوسف أساءوا إليهم وظلموهم واستعبدوهم، فسخروهم في أعمالٍ قاسية. أما أهل سدوم فاستضافوا ملاكين على شكل رجلين غريبين، وكانت الاستضافة بغير إرادتهم حيث أُصيبوا بالعمى، فذهب الملاكان إلى بيت لوط. لقد أساء أيضًا أهل سدوم إلى الضيفين، لكنهم لم يكونوا يعرفونهما.

فضُربوا بالعَمى مثلَ أولئكَ عند باب البارّ،

حين شملتهم ظلمةٌ واسعة

فجعل كلُّ واحدٍ يتلمَّسُ مدخل بيته. [17]

3. انسجام جديد

كانت العناصر تتحولُ بعضها إلى بعض،

كما أن تغيُّر الأنغامِ في القيثار يُغيِّر طبيعَةَ الإيقاع والصوت باقٍ،

وذلك بيِّنٌ من إمعانِ النظر في ما جرى: [18]

يحول الله عناصر إرادته كمن يلعب على أوتار قيثارة ليخرج لحنًا عذبُا لحساب العالم[626]. يرى الحكيم أن الأحداث بأكملها، سواء في مصر قبل الخروج، أو أثناء الخروج، أو أثناء عبور البحر الأحمر، أو في البرية بعد الخروج أشبه بأوتار قيثارة إلهية فريدة وعجيبة، مختلفة النغمات، لكنها متناسقة، تخرج سيمفونية رائعة تشهد لعناية الله القدير والمخلص لأولاده.‍

فهناك كائنات أرضية تحوَّلت إلى مائية

والسابحة سَعَت على الأرض. [19]

إحدى هذه النغمات تحرك الطبيعة بناموس مخالف للطبيعة فتحول موكب الأمة كلها إلى أشبه بسمك يعبر وسط البحر في آمان. كأنه كائنات بحرية تسبح وسط المياه متهللة. البشر سكان الأرض صاروا كأنهم كائنات مائية، وخرج الشعب من البحر ليسير في البرية كأنه كائنات بحرية قد تحولت إلى خليقة برية.

والنار حتى في الماء احتفظت بقوتُها الطبيعة،

والماء نسيَ قوته المطفئة للنار. [20]

وتر آخر ممتع، حين نزلت النار مع البَرَدْ، لم ينطفئ لهيب النار بالماء بل أزداد اشتعالاً، فقد نسي الماء طبيعته التي تطفئ النيران!‍

وبالعكس فاللهيب لم يأكل أجساد الحيوانات الضعيفة التي كانت تسرح فيه،

ولم يُذِبِ الطعام السماويَّ الشبيهَ بالجليد السريع الذوبان. [21]

وتر ثالث متناغم مع الوترين السابقين، فإن النيران التي نزلت مع البَرَدْ لم تهلك الحشرات التي أرست لتأديب الأشرار، وكأنها قد اتفقت مع النيران للعمل معًا بانسجام للتأديب، أو كأنها قد نالت طبيعة جديدة لا تقدر النيران أن تهلكها.

أما الوتر الرابع فهو ما حدث مع المن الذي يشبه الجليد، تذيبه أشعة الشمس حتى لا يجمعه المتأخرون في الخروج لجمعه، ولا تقدر النيران أن تذيبه أثناء طهيه.

4. الخاتمة

فإنك يا رب في كل شيءٍ عظَّمتَ شعبكَ ومجَّدتَه،

ولم تأنف أن تساعده في كل زمان ومكان. [22] 

أما خاتمة السفر فهي تسبحة رائعة تدعو كل مؤمن ليشهد عظمة حب الله لكنيسته، عظمة حب الله الفائق لتشاركه المجد السماوي، ومسرته أن يسندها في كل جيل وفى كل مكان!

 


 

من وحي الحكمة 19

لأتحد بك يا حكمة الله!

v     لأتحد بك يا أيها الحكمة العجيب،

تملأني حبًا لك وللبشرية.

تنزع عني فساد طبيعتي،

وتجددني بروحك القدوس.

 

v     تحول لي الضيقة إلى مجدٍ أبديٍ!

أعبر مع شعبك البحر كما في مياه المعمودية.

تشق لي طريقًا وسط الأمواج.

تحول كل ما هو حولي إلى قيثارة حب.

فأشترك مع الطبيعة في الشهادة لك.

أشهد لك أنك إله المستحيلات!

 

v     أخيرًا، لتعمل فيّ يا حكمة الله،

فتقيم مني سفيرًا لك ووكيلاً للسماء.

تجعل مني آية وأعجوبة أمام السمائيين.

يرون التراب قد صار سماءً.

يرون الفساد قد تحول إلى عدم فسادٍ.

يرون ساكن الأرض صار موضع دهشتهم في السماء!

<<

 


 

[1] راجع راهب من دير السريان (حاليًا نيافة الأنبا مكاريوس): تفسير حكمة سليمان، 1988، ص 18-19.

[2] نيافة الأنبا مكاريوس: تفسير حكمة سليمان، ص 21.

[3] C. L. Grimm: Das Buch der Weisheit, Leipzig, 1860.

[4] The Jerome Biblical Commentary, Geoffrey Chapman, London 1970, p. 557.

[5] Interpreter's Concise Commentary, Volume 5, Abingdon Press, Nashville, 1983, p. 253.

[6] The Jerome Biblical Commentary, Geoffrey Chapman, London 1970, p. 557.

[7] The Jerome Biblical Commentary, Geoffrey Chapman, London 1970, p. 557.

[8] القمص يوحنا باقي: سفر الحكمة، ج 1، 1998، ص 8.

[9] On Matthew, 9: 9.

[10] Stromata 1: 1.

[11] Homilies on Corinthians , 20: 2.

[12] Homilies on Colossians, 9.

[13] Letter, 36.

[14] The Collegeville Bible Commentary, Minnesota, 1989, p. 701.

[15] Strom. 2:10.

[16] Strom. 7:10.

[17] Strom. 6:8.

[18] Stromataو 6:7.

[19] Trinity, 14.

[20] Epistle to the Ephessians 1: 1: 9.

[21] Homilies on Colossians, 5.

[22] Sermons, 51: 5.

[23] Stromata 1:11.

[24] In Luc 13:20,21 .

[25] Instr. 1:5.

[26] ميمر عن شيطان الزنا.

[27] In Matt. 10:5.

[28] Against Eunomius 2:7.

[29] Against Eunomius 2:4.

[30] On Matthew, 9: 9.

[31] Epistle to Galatians, 1: 1: 3.

[32] Marius Victorinus: Epistle to the Ephessians, 1: 1: 8

[33] Epistle to Ephessins, 3: 6: 17.

[34] Paedagogus 1: 4.

[35] Lactantius: Divine Institutes, 4: 26.

[36] Homilies on Corinthians, 5: 4.

[37] The Collegeville Bible Commentary, Minnesota, 1989, p. 702.

[38] نيافة الأنبا مكاريوس: تفسير حكمة سليمان، ص40-42.

[39] Our Lord’s Sermon on the Mount, 1:8

[40] ربما يقصد عظة 23 على مز 73: 23 عن رؤية الله.

[41] Sermons on NT Lessons, 3: 7.

[42] Sermon on the Mount, 2: 14: 48.

[43] Epistle to the Ephessians, 1: 1: 15.

[44] Commentary on Paul’s Epistles (1 Cor. 2: 15).

[45] Sermon on the Mount, 2: 25: 86.

[46] Homilies in Luke, Homily 3: 3-4.

[47] Sermon 141:1,4.

[48] On Ps. 56:5.

[49] On Ps. 66:6.

[50] On Abraham 2: 8: 48.

[51] St. John Cassian: Conferences, 14:2.

[52] Tractate on Matthew, 43: 7.

[53] St. John Cassian: Conferences, 14:16.

[54] Sermons on NT. Lessons, 21:32.

[55]. A treatise o the Soul and its origin, Gook 4:2.

[56] Homily 61 on Ps. 16 (15).

[57] Homilies on Leviticus, homily 5: 2.

[58] Fragment 17 from Catena (Jeremiah).

[59] The theological Orations Oration son the Holy Spirit, 29.

[60] Of the Holy Spirit , Book 1: 7: 87.

[61]Stromata 4:26:166:1; 7:12:78:1. 

[62] Homily 2 on Ps. 5.

[63] Homily 41 on Ps. 120 (119).

[64] Sermons on NT Lessons, 15: 6.

[65] On Lying, 31.

[66] On Lying, 6.

[67] On Lying, 9.

[68] On Nature and Grace, 16.

[69]. The Harmony of the Gospels 4:10.

[70] رسالة 3: 18.

[71] On Belief in the Resurrection, Book 2: 47.

[72] St. John Cassian: Conferences, 13:7.

[73] Exposition of the Gospel of Luke 7: 211-212.

[74] The Retractions, 1:20.

[75] The Retractions, 1:25.

[76] Homilies on Jerm., homily 2: 1.

[77] Sermon 243:3; cf. De Civit. Dei 13:11.

[78] On Christian Doctrine 1:15:14.

[79] Cont. Faust. 14:14.

[80] 1 Clement 19:2-3; 23:1-5.

[81] Chapter 14:5.

[82] Praef 5.

[83] De Principiis 1:10:2-2.

[84] De Principiis 2:10:2.

[85] De Principiis 4:4:9f.

[86] Prot. 11:117:4.  

[87] Comm. on Matt 17:29.

[88] Sermon 214:12.

[89]  عظة 4:2.

[90]  عظة 1:11.

[91] Paedagogus, 2:1.

[92] Paedagogus, 2:1.

[93] Paedagogus, 2:1.

[94] Justin 3: 2.

[95] Minucius: Octavius, 38: 2.

[96] Paedagogus 2: 8 PG 8: 484.

[97] Demonstrations, 22:6.

[98] Cf St. Ambrose: On Josrph 3: 11.

[99] The Prayer of Job and David, book 2:3:6.

[100] Paschal Epistles 11:5.

[101] St. Cyril of Jerusalem, Lecture 13:12.

[102] Resisting the temptations of the Devil, homily 3:1.

[103] Homilies on 2 Cor. Homily 28:3.

[104] City of God 17:20.

[105] Homilies on Exodus, homily 6: 1.

[106] In Exod. Hom. 2:3.

[107] On Ps. 54 (53).

[108] الفيلوكاليا: 170 نصًا عن حياة القداسة، 13.

[109] De Incarn. 5: 1, 2. ترجمة: دكتور جوزيف موريس فلتس

[110] Homilies on Genesis, homily 46: 15.

[111] Letter 108 to Eustochium, 18.

[112] On the Great Athanasius, 18.

[113] On St. John, tractate 12:10.

[114] On Forgiveness and Baptism, 9.

[115] St. John Cassian: Conferences, 18:16.

[116] Fragments 71 from Catena (Jeremiah).

[117] القديس يوحنا كاسيان: المؤسسات لنظام الشركة، 12 في روح الكبرياء، 12.

[118] Baptismal Instructions, 12: 12.

[119] رسالة 4:19.

[120] رسالة 15:19.

[121] عن دير سيدة حماطورة بكوسبا لبنان، عظات في ميلاد السيدة ورقادها للقديس يوحنا الدمشقي، 1997، ص 58.

[122] عن دير سيدة حماطورة بكوسبا لبنان، عظات في ميلاد السيدة ورقادها للقديس يوحنا الدمشقي، 1997، ص 72.

[123] عن دير سيدة حماطورة بكوسبا لبنان، عظات في ميلاد السيدة ورقادها للقديس يوحنا الدمشقي، 1997، ص 103، 105، 106.

[124] On Mortality, 3.

[125] القمص تادرس يعقوب ملطي: المزمور المئة والتاسع عشر (118) غنى كلمة اللَّه ولذتها، 1996.

[126] القمص تادرس يعقوب ملطي: المزمور المئة والتاسع عشر (118) غنى كلمة اللَّه ولذتها، 1996.

[127] Homilies on Genesis, 39: 5.

[128] Sermons on NT Lessons, 12: 12.

[129] The Jerome Biblical Commentary, P. 56a.

[130] Oration 40: 6.

[131] Paedagogus 3:1.

[132] Epistle, 75:2.

[133] Adv. Jovan. 1:36

[134] In Luc. Sermon, 136

[135] مقال 18:18.

[136] The Fathers of the Church, vol. 2, p. 339.

[137] Contra Celsus 2:78.

[138] Contra Cels. 5:50.

[139] Paedageogus 1: 9.

[140] Comm. on John, Book 10: 4; Comm. on Matt. Book 12: 14.

[141] الرسالة السادسة.

[142] In Rom. hom. 31:4.

[143] In Matt. hom. 43 (44):4; cf. In Hebr. hom.31:4.

[144] Ad Theod. Laps 1:10; In Hebr. hom. 1:4.

[145] Ad Theod. Laps.

[146] In Phil. hom 13:4; In Matt. hom. 23(24):8; In Eph. hom. 3:3

[147] In Matt. hom. 75 (76):5.

[148] In 1 Cor. 23:4; In 2 Cor. 10:4; In 2 Thes. 3:1.

[149] In 1 Thes. hom.; cf. 2 Cor. 10:4; In 2 Thes. 3:1.

[150] In 1 Tim hom. 15:3.

[151] In Rom. hom. 31:4.

[152] In Ps 7:12.

[153] Concerning Virginity, chapter 4.

[154] Concerning Virginity, chapter 5.

[155] PG 70:1193.

[156] Letters, 22:21. 

[157] On Virgibity 1:11.

[158] On Virgibity 2:3.

[159] Panegyric on His Brother S. Caesarius, 14.

[160] Cf. Origen: Homilies on Genesis, homily 1: 15.

[161] عظة 13:26.

[162] Concerning Virginity, chapter 5.

[163] De Virginitate 2.

[164] De Virginitate 11.

[165] De Sacr. Virg. 8.

[166] Comm. on John 32:19; R. Cadiou: Origen, Herder, 1944, p. 131-2.

[167] In Jer. hom. 17:4.

[168] Comm. on Matt. 17:22 on 19:27.

[169] Dialogue 4:41 (Fathers of Church, vol. 39:249).

[170] Letter 60: 10.

[171] Or. ad. Graecos, 6.

[172] Treatise 7 On the Mortality, 15.

[173] Treatise 7 On the Mortality, 4.

[174] On Joseph, 8: 43.

[175] Laus. Hist. 18:26.

[176] St. John Cassian: Conferences, 2:13.

[177] On Isaac or the Soul, 7:77.

[178] On Isaac or the Soul, 1:1.

[179] Christian life, 7.

[180] Commentary on Genesis, 5:2:1.

[181] On the Soul and its Origin, 3;14.

[182] On Mortality, 23.

[183] Of the Decease of Satyrus, Book 1: 30.

[184] Cf. Contra Gentes, ch. 11.

[185]. De Principiis, 3:1:5.

[186] Commentary on 1 Cor. 2:26:57-59.

[187] Letter 75 to Theodora, 2.

[188] Letter 39: 3.

[189] Homilies on Cor., homily 12:4.f

[190] Pauline Commentary on from the Greek Church (1Cor. 16:18).

[191] Commentary on Paul's Epistles, (1 Cor. 3:14).

[192] Commentary on Paul's Epistles (1 Cor. 14:3).

[193] Homilies on Cor., homily 9:5.

[194] Homilies on Cor., homily 44:4.

[195] Sermons on NT Lessons, 10: 10.

[196] Homilies on St. John, homily 79:3.

[197] ربما ينوه القديس يعقوب بأن حتى ما يناله الأبرار هو من قبيل التمتع بالحصول على المراحم في الدينونة الأخيرة.

رؤيا وجه الملك تعني عدم الموت، ولهذا لا يراه الأشرار لئلا تصير عليهم المراحم ويحيوا.

[198] ميمر 32 راجع دكتور بهنام سوني.

[199] ميمر 32 راجع دكتور بهنام سوني.

[200] On Ps. 6.

[201] In Psalm. inscrip. 2:6.

[202] On Josrph, 10: 52.

[203]Our Lord’s Sermon on the Mount, 1:79.

[204] Maximus of Turin: Sermon 62: 2.

[205] Comm. on John, 1:10.

[206] Homilies on Rom, 12.

[207] On Ps. 37.

[208] Stromata 4:3.

[209] On Free Will, 24: 72.

[210] Sermons on NT Lessons, 8: 7.

[211] ST. Augustine: City of God, book 10. ch 17 ( Writings of the fathers ).

[212] G. Strecher: Das Judenchristentun in den Pseudo- Klementinen , Berlin 1958.

[213] Epistle 40 to Cornelius.

[214] Epistle 43 to Antonius.

[215] Epistle 42 to Cornelius.

[216] Unity of the Church, 6.

[217] De Aticher 29. Quasten: Patrology vol 2, p 213.

[218] St. Justin: Apology 1: 55: 3.

[219] Panegyric on His Brother S. Caesarius, 19.

[220] Sermons on Song of Songs. تعريب: الدكتور جورج نوّار.

[221] Commentary on Romans, (8: 2).

[222] Cf. Homilies on Exodus, homily 4:7.

[223] On Ps. 18.

[224] Commentary on Exodus 9:3 F.C, vol. 91, P. 243.

[225] تفسير لسفر الخروج منسوب إلى القديس مار أفرآم السرياني، المخطوط الماروني الفاتيكاني السرياني 216- الناشر الأب يوحنا ثابت، 1983، ص56.

[226] On Ps. 78.

[227] On the End of the World, 4.

[228] Commentary on Ps. 18, 7.

[229] يٌفتتح النص اللاتيني بإضافة: "الحكمة خير من القوة، والحكيم أفضل من الجبار"، ربما تكون عنوانًا.

[230] In 1 Cor. hom. 40:5, in Eph. hom 22:2.

[231] De rebus suis 80-82.

[232] De Spiritu Sancto 20:51.

[233] Homilies on Corinthians,13:4.

[234] في مديح القديس بولس، عظة 3.

[235] Commentary on Psalm 2.

[236] De Beatitudinibus,1.

[237] De Beatitudinibus, 3.

[238] De Oratione Dominica, 5.

[239] De Oratione Dominica, 5.

[240] De Oratione Dominica, 5.

[241] Contra Eunomium, 1:35.

[242] Antirrheticus adversus Apollinaruim, 23.

[243] De Hominis Oplficio 16:14 PG. 44:185 A.

[244] De Beatitudinibus, 8.

[245] Homilies on Matthew, 26:8.

[246] Homilies on Jeremiah, Homily 11: 3.

[247] Epistle 17:9.

[248] Against Jovinianus, Bllk 2, 25.

[249] رسالة 46 إلى عذراء ساقطة.

[250] St. Cyril of Jerusalem, Lecture 16:19.

[251] De Incarn. 4: 6. ترجمة: دكتور جوزيف موريس فلتس

[252] City of God, 14:8.

[253] Reply to Faustus the Manichaean, Book 21:31.

[254] On Romans, 49.

[255] On Perfection.

[256] Commentary on Paul’s Epistles (Rom 8: 6).

[257] Cf. Reply to Faustus the Manichaean, Book 22:54.

[258] Enchiridion 1.

[259] Letters,14:9.

[260] Concerning the Statues, 1:21.

[261] In Praise of St. Paul, Homily 2.

[262] Exhortation to Martyrdom, 49.

[263] To the People of Antioch, homily 2:6. P6 49:43

[264] لقب عزيز أو عزيزة excellent خاص بالعظماء والأشراف لا زال يُستخدم لقب his excellency  للرؤساء والسفراء والمحافظين الخ.

[265] Letters,14 to Alexandra.

[266] Commentary on James (1:17).

[267] Letters,186.

[268] Nature and Grace, 16 (17).

[269] Homilies on Numbers,6

[270] Homilies on Ephesians, homily 3.

[271] Sermons, 161: 11.

[272] Epistle to the Ephesians, 1:1:15.

[273] An Exhortation  to  Theodore  After  His  Fall.

[274] Sermons on Song of Songs, Sermon 2   ترجمة الدكتور جورج نوّار

[275] Epistle to the Ephesians, 1:3:10.

[276] Homily 17: 10. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[277] Homily 45:5.

[278] Epistle to the Ephesians, 1:1:9.

[279] On the Good of Widowhood, 22.

[280] Homilies on Luke, Homily 21: 6.

[281] St. John Cassian: Conferences, 8:21.

[282] The Jerome Biblical Commentary, P. 562.

[283] Gregory of Elivra (fl. 359-385): On the Faith, 99-89.

[284] Of the Christian Faith, book 1,10 (62).

[285] On Abraham 2: 10: 76.

[286] Of the Spirit, Book 3: 18: 136.

[287] Homily 40: 2.

[288] Homilies on Leviticus, homily 11:4.

[289] On Man's Perfection in Righteousness, 9:20.

[290] Homily 13:1  ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[291] Of the Christian Faith, book 3:7 (52).

[292] In Josh. 15:4.

[293] Comm. on John, 1:10.

[294] In Jer. hom. 8:5 on 10:3.

[295] On the Decease of His Brother Saytrus, Book 2:103.

[296] An Introduction to the Ascetical Life, (Frs. Of the Church, volume 9, p. 10-11).

[297] Letters, 44.

[298] Letters to the Fallen Theodore, 2:4.

[299] Letters to the Fallen Theodore, 2:6.

[300] Homily 40: 3

[301] On Ps. 138.

[302] On Faith and the Creed, 18.

[303] Confessions, Book 7:11 (17).

[304] Confessions, Book 9:10 (24).

[305] Fr. Malaty: Luke, p. 358 (in Arabic).

[306] On the Holy Spirit, 8:18.

[307] Sel Lament. 4:20.

[308] In Jos. hom 12:2.

[309] Lucifer, Bishop of Gagliari (He was partisan of St. Athanasius): On Dying for the Son of God, 12.

[310] On Ps. 96.

[311] On St. John, tractate 111:2.

[312] City of God, 8:1.

[313] Reply to Faustus the Manichaean, Book 6:3.

[314] Nature of Good, against the Manichaeans, 29

[315] Sermons on NT Lessons, 68:2.

[316] On St. John, tractate 21:2.

[317] On St. John, tractate 47:8.

[318] On the Gospel of St. John, 21:13.

[319] Reply to Faustus the Manichaean, Book 22:8.

[320] Of the Christian Faith, Book 1: 7: 49.

[321] Homily 7:5.

[322] Homily 7: 5. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[323] Homily 32. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[324] Paschal Epistles 1:1.

[325] Paschal Epistles 10:4.

[326] Of the Christian Faith, Book 4: 11: 145.

[327] Commentary on Galatians, 1:1:3.

[328] Homily 4: 25. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[329] Homily 41: 2. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[330] Duty of the Clergy, Book 2: 64-65.

[331] Letters, 137:12.

[332] Sermons on NT Lessons, 2: 3.

[333] On the Trinity, Book 2:5 (7).

[334] On the Trinity, Book 2:15 (25).

[335] On the Trinity, Book 2:17 (29).

[336] On the Trinity, Book 4:13 (18).

[337] Concerning Widows, ch. 11: 64.

[338] Homily 42 on Ps. 128 (127).

[339] In Gen. hom. (Cf. Heine).

[340] In Jer. hom. 17:4.

[341] Sermon 21:5 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[342] Sermon 21:5 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[343] Sermon 21:5 ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[344] راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القديس يوحنا ذهبي الفم، 1988، ص 33، المؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، حياته، ص 25-27.

[345] Letters, 52: 13.

[346] Letters, 66: 3.

[347] راهب من دير السريان: تفسير حكمة سليمان، 1998، ص 169- 170.

[348] Of the Christian Faith, Book 3: 19.

[349] The Jerome Biblical Commentary, P. 562.

[350] Cf. Homilies on Leviticus, Homily 12: 4: 1.

[351] Confessions, Book 10: 29 (40).

[352] Letters, 218: 2.

[353] Confessions, Book 6: 11 (20).

[354] Letters, 188: 8.

[355] On the Good of Widowhood, 21.

[356] On Forgiveness of sins and Baptism, 5.

[357] On Man's Perfection in Righteousness, 5(11).

[358] On the Gift of Perseverance, 43.

[359] On Grace and Free Will, 8.

[360] Letters, 144: 2.

[361] On Continence, 1.

[362]  Adv. Haer 4:36:4.

[363] Cat. Lect. 23:11.

[364] Sermon on the Mount, Book 1:12.

[365] Demonstrations, 6: 1 (of Monks).

[366] Demonstrations, 10: 2.

[367] Pastoral Care, 3:37 ترجمة: جورج فهمي حنا.

[368] Pastoral Care, 2:10 ترجمة: مجدي فهيم حنا وجورج فهمي حنا.

[369] Pastoral Care, 2:9 ترجمة: مجدي فهيم حنا وجورج فهمي حنا.

[370] Introductory Tractate on James.

[371] On Grace and Free Will, 24.

[372] Ascetical Homilies, 72.

[373] Commentary on Corinthians, 179.

[374] Epistle 6.

[375] Commentary on Matt, 69.

[376] Homilies on Corinthians, homily 5: 2.

[377] Sermon 113:6.

[378] Cf. Confessions 13:8,9; On The Happy life, 11.

[379] Introductory Tractate of James.

[380] من دير سيدة حماطورة بكوسبا لبنان، عظات في ميلاد السيدة ورقادها للقديس يوحنا الدمشقي، 1997، ص13.

[381] Homilies on Corinthians 10: 3.

[382] Theophylact: Commentary on James.

[383]  Paedagogus 3:12.

[384]  Sermons on NT Lessons, 3: 7.

[385] Exposition of the Gospel of Luke, 5: 42-43.

[386] City of God, 22:29.

[387] Origen: Exhortation to Martyrdom, 30

[388] Exhortation to Martyrdom, 47.

[389] Fulgentius of Ruspe (C. 467- 532), Letter 9.

[390] On His Father’s Silence, 15.

[391] St. John Cassian: Conferences, 7:4.

[392] Letter 108; 23.

[393]  Sermons on NT Lessons, 2: 3.

[394]. The Retractions, 1:13.

[395] On St. John, tractate 124:4.

[396] On St. John, tractate 21:1.

[397] On St. John, tractate 23:5.

[398] On St. John, tractate 69:2.

[399] The City of God, 14:3.

[400] The Harmony of the Gospels 4:10.

[401] City of God, 13:16.

[402] On Man's Perfection in Righteousness, 6:14.

[403] City of God, 19:27.

[404] Enchiridion, 64-65.

[405] In Isai. Hom 2: 2.

[406] الآباء الأولون: 10. العناية الإلهية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 13، 14.

[407] Letters, 194: 4: 17.

[408] On Nature and Grace, 16 (17).

[409] Commentary on Paul’s Epistles (1 Cor, 12: 7).

[410] عظة 10:18.

[411] On Romans, 4.

[412] Comm. on Rom. 4:8.

[413] The Jerome Biblical... p. 563.

[414] Interpreter's Concise Commentary, Volume 5, Abingdon Press, Nashville, 1983, p. Robert C. Denton, P. 259.

[415] Homily, 1: 7     ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد  

[416] الرسالة الثانية.

[417] In 2 Tim. hom 7.

[418] Commentary on Genesis 3: 6: 1.

[419] Josephus: Antiq. 1:2, 2.

[420] Commentary on Genesis.

[421] Commentary on Genesis.

[422]  Homilies on Genesis, homily 8: 1.

[423]  Sermon 84: 2.

[424] Cf. Letter 12: 1.

[425] كان الذي يقتل خطأ يهرب إلى إحدى مدن الملجأ ويبقى فيها حتى يموت رئيس الكهنة، وعندئذ له حرية الخروج دون أن يُقتل.

[426] Flight From the World, 9: 55-56.

[427] Jewish Wars 4: 34.

[428] St. Ambrose: Exposition of the Gospel of Luke, 8: 45.

[429] Homilies on Genesis, 5: 2.

[430] Stromota 2: 14: 61: 4.

[431].Constitutions of the Holy Apostles, Book 8: section 2:12.

[432] R. Schackenburg: God’s Rule and Kingdom, N.Y., 1963, 20 n.

[433] Homilies on the Psalms 41.

[434] Homilies on the Psalms 46.

[435]  Sermon 87: 2.

[436] Source Christiéne, vol 154: 132, sermon 1: 6.

[437]  Homilies on Genesis 57: 19- 20.

[438]  Jacob and the Happy Life, 7:30.

[439]  Sermon 229f. 2..

[440]  Sermon 5:6.

[441] Glaphyra on Genesis, 5:3.

[442] Demonstrations, 21: 9.

[443] Homilies on Genesis, 63: 17.

[444] On Joseph, 7: 40.

[445] Commentary on Genesis.

[446] Sermons on Song of Songs, Sermon 7   ترجمة الدكتور جورج نوّار

[447] Commentary on Exodus.

[448]  Cf Origin: Commentary on the Song of Songs, 2: 2.

[449] Moses, book 2:59-62. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[450] Demonstrations, 12: 8.

[451] Demonstrations, 21: 10.

[452] يقول فيلون في "حياة موسى" (1: 17: 96-97) أن الأرض والماء والهواء والنار، وهي العناصر المكونة للطبيعة والتي يستحيل الهروب منها – قد شاركت في الهجوم. وأغرب شيء هو أن نفس العناصر وفي نفس الوقت ونفس المكان كانت تجلب الخراب على شعبٍ والأمان لشعبٍ آخر.

[453] Moses, book 1:25. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[454] Moses, book 1:30. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[455] Moses, book 2:121. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[456] Moses, book 1:31-32. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[457] يرمز جيش المصريين عند فيلون للعواطف والأهواء، ولكن عند ترتليان يرمز للشياطين، وهنا يستخدمه القديس غريغوريوس كرمز للأهواء مثل فيلون، ولكنه في مواضع أخرى يستخدم التفسيرين مثل أوريجينوس.

[458] يذكر مز 14: 7 و 15: 4 قائدي المركبات وهم ثلاثة لكل مركبة يسمون "جنود مركبات".

[459] ترتبط المعمودية بأشياء كثيرة في الكنيسة الأولى، فهي تقترن بالإيمان والروح القدس والخشب (خشبة الصليب والدم عليه). وكانت عصا موسى تمثل "الأمل" في الكتاب الثاني بند 108، ولكن من الآن فصاعدًا يعتبرها القديس غريغوريوس رمزًا للصليب.

[460] Moses, book 2:122-125. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[461] Antiq. 2: 16, 6; 3: 1, 4.

[462] Moses, book 1:32. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[463] أصبحت العصا حية.

[464] Moses, book 1:21. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[465] Moses, book 2:54-5. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[466] Moses, book 1:26. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[467] Moses, book 2:64-67. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[468] Moses, book 1:35. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[469] St. John Cassian: Conferences, 24:24.

[470] Commentary on Exodus.

[471] Sermons, 99:2.

[472] The Jerome Biblical Commentary, p. 715.

[473] Questions on the O.T. Exodus 14:3.

[474] Questions on the O.T. Exodus 14:4-7.

[475] The Theological Orations, Oration 2 on God, 15.

[476] On Faith and the Creed 2:2.

[477] The Jerome Biblical Commentary, p. 714.

[478] On St. John, tractate 1:13.

[479] City of God, 12:18.

[480] Encirdion, 29.

[481] City of God, 11:30.

[482] Cf. Enchiridion, 18.

[483] Epistle, 27.

[484] On Prayer, 3: 2.

[485] To Simplician on Various Questions 1:2:18.

[486] On St. John, tractate 110:6.

[487] Homily 45: 5. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد  

[488] Homily 45: 5. ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد  

[489] Epis. 8 to the caesareans, 2.

[490] Epis. 15 to the Deaconesses , the daughters of Count Terentius.

[491] Adv. Eunom 5.

[492] Adv. Eunom 5.

[493] راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 314. عن الروح القدس 15: 35، 36

[494] De Spir, Sanc. 15:35.

[495] Letter 153.

[496] Pauline Commentary from the Greek Church.

[497] Letter 27 (58):16.

[498] Sermon 27:3.

[499] 1 Clem. 7, 8.

[500] Exposition of the Gospel of Luke 7: 202 – 203.

[501] Homilies on Jeremiah, homily 1: 1.

[502] Ibid 7: 1.

[503] On Marriage and Concupiscence, 32 (17).

[504] On Marriage and Concupiscence, 20.

[505] Questions on Exodus, 8.

[506] Commentary on the Epistle to the Romans (3:5).

[507] Commentary on the Epistle to the Romans (2:11).

[508] Homilies on Romans 5.

[509] Homilies on the Psalm 14.

[510] Demonstrations, 1:18 (Of Faith).

[511] Pauline Commentary from the Greek Church (Rom. 8: 6).

[512] N.& PN Frs, vol. 4, P. 540.

[513] Moses, book 1:24. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[514] Orthodox Faith, 1: 1.

[515] Homilies on Romans, homily 3.

[516] Adw Celsum 37.

[517] Hexameron, 3: 10.

[518] Six Days of Creation, 1: 4: 16.

[519] Homilies on Romaus, 3.

[520] Homilies on Romans, 3.

[521] Commentary on Paul’s Epistles (Rom 1: 21).

[522] ميمر عن المجوس.

[523] Concerning the Statues, 9:4.

[524] Contra Gentes, 44: 3.

[525] Four Discourses against the Arians, Discourse 2: 32.

[526] حك 13: 5. يقول الأب ثاوفيلس الأنطاكي Autolycus 1: 5 & 6 (حقًا أنه لا يمكن أن يري الله بأعين بشرية، بل ينظر ويدرك عنايته وأعماله... غير المدرك لا تنظره أعين الجسد!).

[527] St. Cyril of Jerusalem, Lecture 9:2.

[528] راجع حك 13: 5.

[529] مز 104: 24.

[530] St. Cyril of Jerusalem, Lecture 9:16.

[531] Sermon 100 A: 2.

[532] Athenagoras: A Plea for the Christians, 16.

[533] Homilies on Romans, homily 3.

[534] On Isaiah 2:8.

[535] Contra Gentes, 13-14. ترجمة القمص مرقس داود

[536] On Isaiah 44:17.

[537] On Isaiah 44:13.

[538] راجع قاموس آباء الكنيسة وقديسيها، ج 1، ص 495.

[539] Homilies on Genesis, 27:26.

[540] Homilies on Genesis, 57:28.

[541] Commentary on Hosea, 8.

[542] On Isaiah 44:12-13.

[543] قطعة خشبية كانت تُستخدم كطوق النجاة حاليًا.

[544] Homilies on Jeremiah, Homily 10: 6.

[545] Contra Gentes, 9: 4.

[546] Contra Gentes, 8:1.

[547] Contra Gentes, 8:3.

[548] On Idoltary,1.

[549] Jacob and the Happy Life, 5:25.

[550]The Prayer of Job and David, Book 3:11:30.

[551] The Jerome Biblical Commentary P. 566.

[552] The Jerome Biblical Commentary P. 566.

[553] On Idoltary,15.

[554] Tertullian: Apology 30: 1: 4.

[555] Ad Scapulam, 2.

[556] Commentary on Romans (3: 17).

[557] Contra Gentes, 25:1-3.

[558] Flight from the World, 5:27.

[559] Jacob and the Happy Life, 7:32-33.

[560] Pastor: Simil 9:16.

[561] Epis. of Berrabas 11

[562] Dial. With Trypho 44.

[563] Cat. Myst. 3:1.

[564] On Idoltary,1.

[565] On Idoltary,1.

[566] الإيمان والرجاء والمحبة ١٢.

[567] Reg. Brev. Question 92.

[568] Homilies on Philippians, homily 11.

[569] On Isaiah 44:11.

[570] Exhortation to Martyrdom, 32.

[571] On Isaiah 2:9.

[572] On Isaiah 2:9.

[573] Baptismal Instructions, 7:14.

[574] PG 82:434

[575] راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القدِّيس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989م، ص 312. عظة على مزمور 48: 1.

[576] راجع الأب الياس كويتر المخلصي: القدِّيس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989م، ص 314. عظة 12 عن العلوم الإنسانية.

[577] The Long Rules, Question 8.

[578] Concerning Baptism, ch. 2.

[579] Interpreter's Concise Commentary, Volume 5, Abingdon Press, Nashville, 1983, p. Robert C. Denton, P. 261.

[580] In Ephes., hom. 17.

[581] In Luc Ser 121.

[582] Contra Gentes, 13:4.

[583] Contra Gentes, 20:3- 4.

[584] Contra Gentes, 9:3.

[585] Homily on Our Lord, 6:2.

[586] On Ps. 35.

[587] St. Augustine: On Ps. 105.

[588] Dialogue with Trypho, 94

[589] Commentary on Tatian’s Diatessaron, 16:15.

[590] On Ps. 74.

[591] Homilies on St. John, 27:2. 

[592] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 12:11.

[593] Oration 45:22.

[594] Commentary on Ps. 105.

[595] The Fathers of the Church, volume 9.

[596] Philokalia.

[597] Commentary on Ps.105.

[598] The Retractions, 2:46.

[599] Mekilta de – Rabbi Ishmael, Vayassa, Ch.V., Midrash Rabbah, Exod. 25: 3; Yoma 75a.

[600] Homilies on Exodus, homily 7: 8.

[601] On Prayer, 31: 10.

[602] Homilies on Matthew, 25:5.

[603] On Nature and Grace, 22: 24.

[604] Commentary on Cor. 1: 6: 8-12.

[605] The First Syriae Epistle of St.

[606] Homilies on Romans, 47.

[607] On Nature and Grace, 22: 24.

[608] Commentary on the Epistle to the Romans (3: 18).

[609] Homilies on Leviticus, homily 1.

[610] Commentary from the Greek Church (2 Cor. 4: 4).

[611] Commentary on 2 Cor.

[612] Commentary on Ram. (13: 12)

[613] Commentary on Paul’s Epistles (Rom. 13: 12).

[614] Predestination of the Saints, 6: 11.

[615] Comm. On John, book 1, ch. 8.

[616] Comm. On John, book 1, ch. 9:24.

[617] On Perfection.

[618] Commentary on John, Book 2:132.

[619] Commentary on John, Book 2:136.

[620] Commentary on John, Book 2:158.

[621] In 2 Cor. Hom. 5:2.

[622] In 2 Cor. Hom. In 2Cor. Hom. 5:3.

[623] لم يتبع القديس غريغوريوس نفس ترتيب الضربات الوارد في الكتاب المقدس في خر 8-10.

[624] Moses, book 1:28. مجدي فهيم حنا. ترجمة

[625] On Pasch, 16-20, 22-23, 30-31.    راجع سلسلة آباء الكنيسة إصدار دار المشرق ببيروت: ميلتيون

[626] Interpreter's Concise Commentary, Volume 5, Abingdon Press, Nashville, 1983, p. Robert C. Denton, P. 263.

 

الصفحة الرئيسية