حزقيال 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

حزقيال والمسيحي المعاصر

كُتب سفر حزقيال لبيت إسرائيل (3: 1)، لكي يعيشه كل مؤمن حقيقي يحيا في كنيسة الله، إسرائيل الجديد، يختبر معاملات الله، ويتفهم أسرار الملكوت ويمتلئ رجاءً في شركة المجد السماوي.

لقد كان إرميا النبي آخر الأنبياء في أورشليم قبل السبي... عاصر السبي لكنه لم يذهب معهم إلى بابل، إنما بقي مع البقية الباقية يشهد لإلهه بقوة، فحملوه معهم إلى مصر ورجموه! أما حزقيال النبي والكاهن فكان شابًا صغيرًا (25 عامًا) حُمل إلى السبي ليكمل رسالة إرميا النبي. كان يحمل الصوت الإلهي ليذكر الشعب المسبي بسبب سبيهم، مناديًا بالتوبة والرجوع إلى الله، يبث فيهم روح الرجاء، ويكشف لهم عن وعود الله وخطته الخلاصية... لقد كان آداة الله التي احتملت الآلام من أجل الشهادة للحق.

إن تطلعنا إلى سفر الرؤيا نشاهد حزقيال النبي وكأنه قد وضع يده في يد يوحنا الحبيب ليعبرا معًا عبر القرون، ويتطلعا إلى أورشليم العليا، مسكن الله مع الناس، إلى الهيكل السماوي.

سفر حزقيال هو سفر كل مؤمن حقيقي يريد أن يلتقي مع الله القدوس، مقدمًا توبة يومية عن خطاياه، فيختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع، وينعم بالوعود الإلهية الثمينة.

سفر حزقيال هو سفرك، يمس حياتك وأعماقك،

 

القمص تادرس يعقوب ملطي


 

-

- مقدمة

 

- الباب الرابع الأصحاحات [25- 32]

- الباب الأول الأصحاحات [1- 3]

 

الأصحاح الخامس والعشرون (نبوات ضد أربع أمم شامته)

الأصحاح الأول (المركبة النارية)

 

الأصحاح السادس العشرون (نبوات ضد صور)

الأصحاح الثاني (الدعوة للخدمة)

 

الأصحاح السابع والعشرين (مرثاة على صور)

الأصحاح الثالث (عمل كلمة الله)

 

الأصحاح الثامن والعشرون (دينونة رئيس صور)

- الباب الثاني  الأصحاحات [4- 12]

 

الأصحاح التاسع والعشرون (نبوات ضد فرعون مصر)

الأصحاح الرابع (اللبنة المرسومة ونومه)

 

الأصحاح الثلاثون (انهزام فرعون مصر أمام بابل)

الأصحاح الخامس (حلق شعره)

 

الأصحاح الحادي والثلاثون (مرثاة شجرة الأرز)

الأصحاح السادس (تحذير لترك الوثنية)

 

الأصحاح الثاني والثلاثون (مرثاة على فرعون مصر)

الأصحاح السابع (اقتراب النهاية)

 

- الباب الخامس [ص 33- ص 39]

الأصحاح الثامن (حالة الهيكل)

 

الأصحاح الثالث والثلاثون (التوبة بدء الإصلاح)

الأصحاح التاسع (جماعة المختومين)

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (الله يرعى غنمه)

الأصحاح العاشر (المجد الإلهي يفارق الهيكل)

 

الأصحاح الخامس والثلاثون (نبوة ضد جبل سعير)

الأصحاح الحادي عشر (مفارقة مجد الرب المدينة)

 

الأصحاح السادس والثلاثون (نبوة عن جبال إسرائيل)

الأصحاح الثاني عشر (تأكيد السبي)

 

الأصحاح السابع والثلاثون (القيامة من الأموات)

- الباب الثالث [ص 13- ص 24]

 

الأصحاح الثامن والثلاثون (جوج وماجوج)

الأصحاح الثالث عشر (مجد الأنبياء الكذبة)

 

الأصحاح التاسع والثلاثون (النصرة النهائية)

الأصحاح الرابع عشر (المسئولية الفردية)

 

- الباب السادس [ص 40- ص 48]

الأصحاح الخامس عشر (عود الكرم)

 

الأصحاح الأربعون (الهيكل المقدس)

الأصحاح السادس عشر (قصة العروس الخائنة)

 

الأصحاح الحادي والأربعون (الهيكل)

الأصحاح السابع عشر (الكرم والنسران)

 

الأصحاح الثاني والأربعون (المخادع المقدسة)

الأصحاح الثامن عشر (المسئولية الشخصية)

 

الأصحاح الثالث والأربعون (عودة مجد الرب)

الأصحاح التاسع عشر (مرثاة على الملوك)

 

الأصحاح الرابع والأربعون (العاملون في الهيكل)

الأصحاح العشرون (تمردهم المستمر)

 

الأصحاح الخامس والأربعون (شريعة القداسة والعدل والفرح)

الأصحاح الحادي والعشرون (أنشودة السيف المدمر)

 

الأصحاح السادس والأربعون (شرائع جديدة)

الأصحاح الثاني والعشرون (خطايا يهوذا)

 

الأصحاح السابع والأربعون (المياه المقدسة والأرض المقدسة)

الأصحاح الثالث والعشرون (أهولة وأهوليبة)

 

الأصحاح الثامن والأربعون (تقسيم الأرض المقدسة)

الأصحاح الرابع والعشرون (الحصار النهائي)

 

 

 

مقدمة

"حزقيال" كلمة عبرية تعني "الله يقوي". لقد دُعي حزقيال لخدمة شعب قاسي الوجوه، صلب الرقبة، أمة متمردة (2: 3-4؛ 3: 7-8)، لهذا كان محتاجًا إلى قوة الله تسنده في مواجهتهم[1].

يرى العلامة أوريجينوس في عظته الأولى عن سفر حزقيال أن السيد المسيح هو حزقيال الجديد الذي يعني "الله يقوي"، فإن كان قد نزل إلى أرضنا كما بين المسبيين، ودُعي ابن الإنسان كما دُعي حزقيال "ابن آدم"، فإنه هو بحق الذي يحررنا من السبي لنختبر "قوة الله" خلال صليبه.

الظروف المحيطة بحزقيال النبي:

سجل لنا سفر حزقيال القليل جدًا عن حياة هذا النبي، أهمها أنه عاش في أرض السبي نهر (قناة) خابور (1: 3) بجوار تل أبيب (3: 15)، وكان متزوجًا وله بيت، كما ذكرت وفاة زوجته (24: 16) المحبوبة لديه جدًا، فتنهد عليها في قلبه، وهي العبارة الوحيدة التي عبر فيها النبي عن أحاسيس تخص حياته. يرى التقليد أن حزقيال عاش في نفس الموضع الذي عاش فيه نوح، بجوار جنة عدن، لهذا السبب كثيرًا ما أشار إلى نوح وإلى جنة عدن (14: 14، 20؛ 28: 13؛ 31: 8، 9، 16، 18؛ 36: 35)[2]. ويمكننا تقسيم حياته إلى ما قبل السبي وما بعده.

حزقيال قبل السبي:

ولد حوالي 623 ق.م.، وكان والده بوزي كاهنًا من نسل صادوق. يرى بعض الحاخامات أنه ابن إرميا النبي الذي كان يُدعى "بوزي"، لأن اليهود كانوا يستخفون به (بوزي)[3].

اتسمت هذه الفترة بأمرين لا يمكن تجاهلهما: أولاً: حركة الإصلاح على يدَّي يوشيا الملك عام 621 ق.م، وثانيًا: حالة الانتعاش النبوي. وقد تأثر النبي بهذين الأمرين.

أولاً: بلا شك حمل حزقيال ذكريات طفولته المبكرة لهيكل أورشليم الذي اهتم يوشيا بإصلاحه، وفي أثناء الإصلاح أو ترميمه وُجد سفر الشريعة المفقود فقرأه الملك وتأثر به جدًا.

غالبًا ما كان حزقيال يقطن أحد بيوت الكهنة المقامة على السور الشرقي، وربما كان يلعب وهو طفل في الساحات الخارجية حول الهيكل، كما كانت مدرسته داخل هذا النطاق. ربما كان يساعد والده الكاهن، كخادم للهيكل يعد البخور أو يضئ الشموع في الموضع المقدس، ولما كبر صار يجلس بين معلمي الهيكل يسمع لهم ويسألهم، وكان ينتظر من يوم إلى يوم متى يحتفل بعيد ميلاده الثلاثين ليمارس العمل الكهنوتي داخل هيكل الرب.

ثانيًا: أما عن الانتعاش النبوي، فلابد أن يكون قد تأثر بالأنبياء السابقين له مثل عاموس وهوشع وإشعياء وميخا، خاصة هوشع الذي ترك بصمات على كل أصحاح في نبواته المبكرة. كما سمع عن الأنبياء المعاصرين له مثل إرميا ودانيال وناحوم وصفنيا وربما حبقوق وعوبديا. غالبًا ما كان يستعذب كلمات المرتل حبقوق الحلوة، وإن كان قد تأثر بالأكثر بإرميا النبي الذي رأى أن إصلاحات يوشيا قد مست مباني الهيكل وتقديم الذبائح وحفظ التابوت والشريعة وختان الجسد الخ. لكنها للأسف لم تمس إصلاح القلب الداخلي في حياة الناس.

وتأثر حزقيال بالأحداث السياسية في عصره، فإذ بلغ حوالي العاشرة من عمره سقطت نينوى عاصمة أشور فانهارت قوى أشور وسلطانها. وبعد خمس سنوات تقريبًا حشد فرعون نخو جيشه واحتل فلسطين وقتل الملك الصالح يوشيا في مجدو (2 مل 23: 29) لأنه حاول تقديم معونة عسكرية لملك أشور ضد فرعون. وبهذا انتهت فترة الإصلاح الهادئة التي استمرت حوالي أربعة عشر عامًا حيث كان والد حزقيال فرحًا بها. ومع أن فترة الحكم للملك الجديد يهوآحاز (شلوم إر 22: 11) بن يوشيا كانت قصيرة للغاية (3 شهور) لكنها كانت طويلة في عيني المؤمنين بسبب شره، وكان صوت إرميا النبي يدوي محذرًا ومنذرًا.

حُمل يهوآحاز إلى مصر وأقام فرعون نخو أخاه يهوياقيم أو ألياقيم عوضًا عنه. فإن فرعون مصر لم يرد أن يخرب أورشليم لكي يتمتع بالجزية التي يرسلها إليه يهوياقيم، كما أراد أن يترك علاقته بيهوذا طمعًا في إقامة إمبراطورية فرعونية متسعة في مواجهة مملكة بابل. وكان حزقيال في ذلك الحين شابًا ناضجًا يرى ويدرك ما حل بالشعب، فقد وردت أوثان جديدة إلى شوارع صهيون بلا خجل، وحل الشر في حياة الكهنة والمعلمين وتدهورت خدمة الهيكل. كان يرى النبي الشيخ إرميا وهو يوبخ الكهنة، وربما سمع باروخ الكاتب في الهيكل يقرأ ما قد سجله في درج من نبوات إرميا النبي علنًا أمام الشعب، وسمع أن الدرج قدم للملك الذي سمع القليل من فقراته وقام بتمزيقه وإحراقه بالنار (إر 36: 1-26). كانت نفس الشاب حزقيال مُرّة للغاية، احتدمت الثورة على الكهنة أصدقائه وكل القيادات الدينية في داخله، لكنه لم يكن قادرًا حتى أن يشير إلى اسم إرميا أو يعلق على كلماته.

في نفس السنة إذ غلب نبوخذنصَّر نخو فرعون مصر في معركة كرمشيش تحطمت أطماع فرعون لسنوات طويلة وتحول ولاء يهوياقيم إلى بابل ولو أن قسمًا كبيرًا من الشعب كان يفضل الخضوع لفرعون مصر ضد بابل حتى لا يحل بهم ما حل بمملكة الشمال (إسرائيل)، ويبدو أن الملك نفسه أيضًا كان يميل إلى ذلك قلبيًا، وقد حذر إرميا من ذلك. وفي حوالي عام 600 ق.م (أي بعد خمس سنوات) قام يهوياقيم بثورة ضد بابل، ولكن في خلال عام أو عامين حوصرت أورشليم بجيوش بابل لمدة 18 شهرًا، وكانت المدينة تقاوم الحصار ومات يهوياقيم بطريقة غامضة، لكنه كان يتحدى بابل حتى النفس الأخير. وإذ توج ابنه يهوياقين أصر على الاستسلام لبابل بلا شرط، فدخل نبوخذنصَّر المدينة المقدسة على رأس جيشه عام 597 أو 598 ق.م.

في هذه المرة عالج نبوخذنصَّر الموقف بطريقة لطيفة غير متوقعة، إذ لم يقم بتدمير المدينة ولا الهيكل ولا المنشآت العامة ولا حتى أسوارها الحربية إنما اكتفي بأخذ الملك الشرير يهوياقين الذي لم يدم ملكه سوى ثلاثة شهور، كما أخذ عائلته ورؤساء الشعب وخزائن بيت الرب إلى بابل (2 مل 24: 8-16). لقد انكسر قلب حزقيال الذي رأى الهيكل المحبوب لديه وقد نُهبت أدواته التي يرجع عمرها إلى حوالي 300 عامٍ منذ أيام سليمان وصهرت، ووضعت في زكائب البابليين، وقد قام الملك الجديد صدقيا ابن أخ يهوياقين (2 مل 24: 17) بتدنيس الهيكل، وصار الوثنيون الغرل يُنجسون المواضع المقدسة. هذا وقد نصب نبوخذنصَّر شباكه في بلاد يهوذا ليصطاد كل شاب له قدرة أو موهبة أو مركز وحملهم إلى بابل، وكان من بينهم حزقيال نفسه، لكي يضمن عدم حدوث أية ثورات ضده في يهوذا، تاركًا الفلاحين والمعدمين جدًا غير القادرين على الثورة (2 مل 25: 12).

 هذه هي أول مراحل السبي لشعب يهوذا، إذ سمح الله أن يتم على مراحل لكي يعطي الكهنة والشعب فرصة للتوبة والرجوع إليه فيصفح عنهم، أما هم فظنوا أن الله لن يسمح بهدم الهيكل وتسليم المدينة بالكامل كما لجأوا إلى طرق أخرى غير التوبة.

بجوار مياه خابور[4]:

ترك الكاهن الشاب حزقيال (في الخامسة والعشرين من عمره) أورشليم مسبيًا إلى بابل ليبقى فيها بلا عودة، وهناك أقام مع المسبيين من شعبه بجوار قناة خابور في تل أبيب أو بجوارها، وهي غير تل أبيب الحالية. على أي الأحوال كان حزقيال في سنواته الأولى يلاحظ ما يدور في حياة شعبه ويتأمل في صمت مع مرارة. فقد كانت بابل في ذلك الحين في أوج عظمتها ومع كل يوم جديد يضاف إلى تاج نبوخذنصَّر لآلئ جديدة. وكان هذا يمثل ضغطًا نفسيًا على اليهود، خاصة وأنهم قد حرموا من أورشليم "فردوسهم المفقود". لم يكن السبي في ذاته قاسيًا في ذلك الحين إن استبعدنا الجانب النفسي لحرمانهم من وطنهم. فقد أعطيت لهم أرض في تل أبيب على ضفاف قناة خابور، ليست بعيدة عن العاصمة بكل إمكانياتها وملذاتها. وكان المسبيون يخضعون لشريعة حامورابي[5] Hammurabi التي تقترب من شريعتهم. لم توجد قيود على تنظيماتهم الدينية أو المدنية، فتستطيع الأسباط والعائلات أن تجتمع معًا حسبما تريد، ويقوم شيوخهم بالقضاء فيما بينهم، وكانت الدولة تشجعهم على التجارة وتسمح لهم بامتلاك بيوت خاصة بهم كما كان لحزقيال نفسه. ولعل من المؤسسات اليهودية الناجحة في بابل شركة ماراشو Marashu وأولاده التي اكتشفت مستندات أعمالها بواسطة علماء الآثار[6].

وكان البريد بينهم وبين إخوتهم في أورشليم ضخمًا ولا ينقطع.

وفي السنة الرابعة من السبي قام صدقيا الملك بزيارة بابل قادمًا من أورشليم وقد ازدحمت بابل ليروه قادمًا بمركبته.

وفي السنة الخامسة من السبي (حوالي عام592 ق.م) وقبل سقوط أورشليم في المرحلة التالية من السبي بسبع سنوات انفتحت السموات لأول مرة أمام حزقيال ليرى رؤى الرب، رأى المركبة الإلهية النارية كبدء انطلاقة لتسليم حزقيال العمل النبوي في هذا الجو المُرّ لمدة حوالي 22 عامًا (592-570 ق.م). وكان تاريخ نبواته هكذا:

السنة الخامسة للسبي                   (حز 1-7).

السنة السادسة للسبي                   (حز 8-19).

السنة السابعة للسبي                   (حز 20-23).

السنة التاسعة للسبي                   (حز 24).

السنة الحادية عشرة للسبي             (حز 18: 25-28؛30: 31).

السنة الثانية عشرة للسبي              (حز 32-39).

السنة الخامسة والعشرون للسبي        (حز 40-48).

السنة السابعة والعشرون للسبي        (حز 29: 17 الخ).

أما أهم الأحداث التي عاصرها النبي أثناء نبواته فهي:

في السنة السادسة للسبي سمع حزقيال النبي عن ارتباط الملك صدقيا بفرعون مصر ضد نبوخذنصَّر (17: 15) فكتب بوضوح له ضرورة الالتزام بالقسم الذي تعهد به، حتى وإن قُدم إلى ملك وثني، فإنه لا يليق أن يحنث به (17: 18)، وإلا سقط تحت العقاب الإلهي.

لقد أعلن أن مصير صدقيا سيكون كمصير يهوآحاز الذي أخذه فرعون نخو أسيرًا إلى مصر سنة 607 ق.م (19: 4) ويهوياقين الذي أسره الكلدانيون (19: 9). إن أهوليبة (أورشليم) يكون لها ذات مصير أختها الكبرى أهولة (السامرة) وذلك بسبب خطاياها التي تفاقمت (23: 1؛ 23: 23). في السنة الثامنة للسبي تولى فرعون جديد Apries الحكم، فدفع صدقيا دفعًا للثورة ضد بابل، وتم ذلك في السنة التاسعة للسبي.

وفي السنة العاشرة للسبي صارت أورشليم تحت حصار مُرّ، فتحققت نبوات إرميا وحزقيال، وقد حدد الأخير اليوم (24: 2). وفي العام التالي حاول صدقيا الهروب ليلاً فقُبض عليه في أريحا وقُتل أولاده أمام عينيه ثم فقأوا عينيه واقتادوه إلى بابل مقيدًا. هنا لم يترك ملك بابل شيئًا في مدينة داود أو هيكل الرب أو القصر الملكي إلا وقام بتخريبه. هرب البعض إلى مصر حاملين إرميا النبي وباروخ الكاتب بغير إرادتهما حيث رحب خفرع بالشعب. هنا شمتت البلاد الأممية فيهم، فجاءت النبوات (18: 25-29؛ 30، 31) تعلن حكم الله على جماعة الأمم الشامتة بشعبه.

وبالرغم من كل هذه الظروف لم يفقد النبي رجاءه (34: 13) وإن كان حزن قلبه لم ينقطع قط بسبب دمار الهيكل وفقدانه شهوة قلبه. لقد سمع عن نهاية أورشليم في أيامه ففتح له الرب رؤى جديدة لأورشليم جديدة وهيكل جديد وعبادة جديدة. حقًا كان نبوخذنصَّر في قمة مجده وعظمته، وكان يهوياكين داخل السجن، لكن الخلاص والعودة إلى أورشليم لم يفارقا عيني النبي (36: 11، 29، 30)، فقد رأى الله يقيم هذا الشعب كما يقيم الأموات واهبا للعظام الجافة روحًا وحياة (37). لقد قدم النبي صورة رائعة للإصلاح من جوانب متعددة، منها:

·      أن الله يغفر الخطايا (36: 11، 16، 19).

·      أنه يعيد مملكتي الشمال (افرايم) والجنوب (يهوذا) إلى وحدة كاملة تحت حكم من نسل داود الملوكي.

·      يدين الله رعاة الشعب الأنانيين وينزع عنهم عملهم ويقوم بنفسه بالرعاية (34).

·      التنبؤ عن العصر المسياني (34: 23) بالعودة الروحية من سبي الشيطان والخطيئة (36: 26).

·      جاءت الأصحاحات الأخيرة تمزج العمل الفني لبناء الهيكل الجديد بالرؤية النبوية والعمل الكهنوتي.


 

تأثيره[7]:

يبدو أن حزقيال النبي لم يكن له تأثير قوى على معاصريه، الذين كثيرًا ما يدعوهم "البيت المتمرد" (2: 5، 6، 8؛ 3: 9، 26، 27 الخ...)، مشتكيًا من أن كثيرين يأتون للاستماع إليه لكنهم ينظرون إلى أحاديثه بكونها تسلية تحمل نوعًا من الجمال الفني، ولا يطيعون كلماته (33: 30-33).

استشهاده:

كان بنو شعبه يتخذون منه موقف المتفرجين الساخرين، بل كانوا يكرهونه وينبذون كلماته لتعنيفهم على نجاساتهم وشرهم. وقد ذكر القديس ابيفانيوس عن تقليد قديم أن قاضيًا من شعبه قام بقتله، لأنه وبخه على كفره وعبادته للأوثان. ويقال إنه دفن في قبر سام وازمكشاد، في Kefil بالقرب من Birs Nimrud، وكان الكثيرون يحجون إليه في أيام القديس، وصار المسلمون يحجون إليه إلى زمن طويل مع اليهود[8].

في أيام القديس يوحنا الذهبي الفم، اُحتفل بنقل أعضائه من بلاد بنطس إلى مدينة القسطنطينية في 22 ديسمبر، حيث ألقى القديس خطابًا رائعًا في هذه المناسبة، ويحتفل الأروام واللاتين بهذا التذكار. أما كنيستنا فتعيد بتذكار نياحته في الخامس من برمودة.

غاية السفر:

1. في المرحلة الأولى من سبي يهوذا لم يقم نبوخذنصَّر بتخريب أورشليم أو هدم الهيكل، فظن الشعب ان المدينة والهيكل لن يصيبهما أذى، وأن الله يدافع عنهما، وأن مدة السبي لن تطول، وحسبوا كلمات إرميا النبي ونبواته غير صادقة، لهذا السبب إذ سُبي حزقيال استقر هناك وسط المسبيين واقتنى له بيتًا ليؤكد لهم طول مدة السبي، كما أكد لهم بطريقة أو أخرى صدق نبوات إرميا - دون أن يذكر اسمه - معطيا صورة للدمار الذي يحل بسبب الانحراف إلى عبادة الأوثان وارتكاب الشر. لقد أكد مفارقة مجد الرب الهيكل (10: 16-18؛ 11: 23)، وسقوط أورشليم (33: 21).

2. في هذا السفر أوضح النبي "التوبة" كطريق لاستمالة مراحم الله (18: 27).

3. كان البعض يشعر أنهم يُعاقبون ظلمًا بسبب خطايا آبائهم، وأنهم الضحايا البريئة لمسئولية الأمة اليهودية (ص 18، 33)، لهذا كشف النبي عما يرتكبه الشعب في ذلك الحين من رجال ونساء مع الكهنة من شرور حتى في دار الهيكل (9: 11). فالعقاب ليس عن خطايا سالفة عن جيل سابق وإنما بسبب الجيل المعاصر له. وقد أكد النبي أن كل نفس مسئولة عن خطاياها الشخصية لا عن خطايا الغير (18: 2) كما لا يخلص أحد على حساب آخر (14: 20). والإنسان أيضًا يطالب عن موقفه الحالي لا عن ماضيه.

4. في الوقت الذي كان فيه الشعب يشعر بأن السبي أمر مؤقت وأنه لا تدمير للهيكل، كان يتنازعهم شعور آخر هو اليأس، خاصة كلما مر الزمن وازدادت الحالة سوءًا. فجاء السفر يعلن عن إمكانية الله لتقديم القلب الجديد والروح الجديد لأولاده، كما عزَّاهم بتحقيق رجوعهم المستقبل، ونزول القضاء الإلهي على أعدائهم البغاة.

5. إذ أعطاهم هذا الرجاء دخل بهم إلى العصر المسياني، حيث يتقدم السيد المسيح كداود الجديد الذي يملك عوض الملوك الأشرار ويرد الكل إلى روح واحد. انطلق بهم السفر إلى هيكل جديد مغاير للهيكل القديم الذي اعتاد النبي أن يراه في صباه. عوض جبل صهيون الصغير يرى جبلاً عاليًا متوجًا بأبنية مقدسة جديدة وعظيمة. وكما ترك الله الهيكل القديم بسبب دنسهم (10: 18-19؛ 11: 22-24) يعود إلى الهيكل الجديد الذي يملأه بمجده (43: 1-6)، يقوم على نهر المياه المقدسة النابع عند عتبة البيت حيث المذبح المقدس (حز 47)، على ضفافه أشجار كثيرة ومتنوعة "جماعة القديسينً يرتوون بالروح القدس بلا انقطاع. ويلاحظ أننا لا نسمع في هذا السفر عن آلام السيد المسيح وموته كما في إشعياء النبي ولا عن رفض اليهود الإيمان به، بل أوضح أمجاد بيت الرب الجديد والهيكل المقدس ليعطي الشعب فرحًا ورجاءً بعد توبيخات كثيرة.

6. تنبأ عن بعض الأمم مثل آدوم وصور وصيدا والفلسطينيين وفرعون مصر الخ.

فمن جهة صور يتحدث عن مصيرها وخرابها (حز 26) لأنها وقفت ضد أورشليم، إذ ظنت أن خراب أورشليم يؤول إلى ازدهارها.

لم يكن هذا الأمر متوقعًا، لأن صور مدينة عظيمة ظهرت سنة 2750 ق.م على الشاطئ، ولأسباب دفاعية نقلت إلى جزيرة صخرية مقابل لها، حملت نفس الاسم، مساحتها حوالي 142 فدانًا. كانت مدينة أو جزيرة تجارية ضخمة تستقبل المواد الخام التي تستهلكها فينيقية من سفن العالم المعروف في ذلك الحين والتي تعود محملة بكل أنواع البضائع.

فشل سنحاريب ملك أشور في الانتصار عليها بعد حرب دامت قرابة 13 عامًا، كما فشل نبوخذنصَّر ملك بابل بعد ذلك. لكن الله أعلن بواسطة نبيه حزقيال أنها تنهار وتسقط أسوارها في المياه. وقد تحقق ذلك على يدَّي الاسكندر الأكبر، إذ أقام ممرًا من الشاطئ حتى الجزيرة وهزمها... ولم تعد بالمدينة المشهورة.

زارها السيد المسيح (مت 15: 21) ومعلمنا بولس الرسول (أع 21: 3-7)، وصارت من أجمل مدن فينيقية.

في القرن الثالث عشر استولى عليها المسلمون وهُدمت. ولم تُبنَ بعد، إنما صارت مجموعة من الحجارة يلقي الصيادون شباكهم عليها فتحقق القول: "تكونين مبسطًا للشباك..." (حز 26: 14).

لقد تحققت كلمة الله حرفيًا فيها في تفاصيل دقيقة[9]!

7. حوى السفر نبوات تخص انقضاء الدهر، والعصر السابق لنهاية العالم... الأمر الذي نعود إليه أثناء شرح السفر إن شاء الرب وعشنا.

سماته:

1. سجل لنا حزقيال النبي رؤياه وعظاته النبوية التي نطق بها، وقد جاء كتابه يمثل وحدة واحدة في الكتابة بطريقة منظمة وضعها النبي بنفسه، مسجلاً لنا ما رآه وما تصرف به وما تكلم به.

2. بما أن الله قد دعاه ليتنبأ وسط أناس متمردين وبين قساة القلوب وصلاب الوجوه (2: 3-4) لهذا أعده الله بروح جرئ غير مرتاب، فكان ذا إقدام وعزم وغيرة حارة على مجد الله، يواجه ببسالة كل المقاومات التي يتعرض لها، فجاء السفر يتميز عن سائر الأسفار بحماسه.

3. أكثر من التمثيلات والرموز.

التمثيل هو التعبير عن حادثة ما بطريق التشبيه أو الاستعارة كأن يشبه نبوخذنصَّر وفرعون بنسرين كبيرين ويهوياكين بفرع أرز، ونقله إلى بابل بقصف رأس فروع الأرز ونقله إلى لأرض كنعان (حز 17: 1-10).

أما الرموز النبوية فهي نوعان:

أ. رموز عملية قام النبي بممارستها أمام الشعب كما في حزقيال (37: 16- 17) حيث يقرن النبي عصوين معًا إشارة إلى انضمام مملكتي إفرايم ويهوذا.

ب. رموز نظرية كالتنبؤ عن العظام اليابسة (37: 1-10) وقياس أورشليم الجديدة مع هيكلها (حز 40).

دعي حزقيال بصانع الرمزية[10]، وإن كان قد سبقه بعض الأنبياء في استخدامها مثل إشعياء وإرميا. وقد أكثر الأخير من استخدامها، مثل نزوله في بيت فخاري ليرى فيه مثالاً للعمل الإلهي الذي يخرج من الطين آنية للكرامة (إر 18)، ومثل كسرة إبريقًا فخاريًا أمام قومه نبوَّةً عن كسر الشعب والمدينة (إر 19).

4. كان حزقيال نفسه رمزًا، يقوم بدور بيت إسرائيل رمزيًا (12: 6، 11؛ 4: 3؛ 24: 24، 27). كان يقوم بأدوار غريبة، فتارة يقضي أيامًا طويلة صامتًا لا ينطق بكلمة، وأخرى يمثل ما سيحل بشعبه من كوارث فينام على جنبه الشمال 390 يومًا ثم على الجنب الآخر أربعين يومًا، يأكل بوزن ويشرب بكيل. أحيانا يقص شعر رأسه ولحيته ليحرق ثلثه ويضرب الثلث بالسيف ثم يذري الثلث في الهواء. أحيانًا يقطع صمته لينشد على آلة موسيقية (33: 32). وفي موت زوجته المحبوبة لديه لا يذرف دمعة بل يتنهد في قلبه. هكذا ربط النبي حياته بمأساة شعبه. ولعل هذا هو السبب الذي لأجله دعاه الله "ابن آدم" حوالي تسعين مرة، إذ حمل صورة مرارة الخطيئة التي تثقل بها الإنسان ابن آدم. لقد استخدم هذا التعبير ليظهر الله له ضعفه وحاجته إليه كسند له وسرّ نجاحه[11]، هذا وقد دُعي السيد المسيح "ابن الإنسان" حوالي 80 مرة.

هذه التصرفات جعلت بعض المفسرين الحديثين يتهمونه بإصابته بأمراض نفسية، وحاول البعض تشخيصها، بينما رأى الآخرون فيه أعظم شخصية روحية ظهرت في التاريخ البشري[12]، كإنسان يحرص منذ بدء دعوته أن يقضي كل حياته بجميع تصرفاته لحساب الخدمة، مقدمًا كل طاقات ذهنه وقلبه وتصوراته لحساب كلمة الله. فكان إن تكلم أو صمت، إن تنهد أو نام، إن أكل أو شرب أو رسم أو ضرب على آلة موسيقية لا يفعل شيئًا لأجل نفسه بل لحساب العمل النبوي.

5. كشف سفر حزقيال عن شخصية النبي ليس كرجل رؤى، وإعلانات فحسب، وإنما كرجل الكتاب المقدس، كثيرا ما استخدم أسفار موسى الخمسة وغيرها من الأسفار، فأشار إلى قصة الخلق (28: 11-19) والكاروبيم (حز 37: 7، تك 3: 24)، وتحدث عن نوح ودانيال وأيوب (14: 24، 28: 3)، وتنبأ عن جوج وماجوج (تك 10: 2، 1 مل 1: 5).

6. جاء السفر يتضمن آراء متكاملة معًا، نذكر على سبيل المثال:

أ. يركز السفر في حديثه عن الله أنه إله غيور يخلص شعبه ويدخل معهم في عهد لأجل اسمه القدوس، يفعل كل شيء لأجل مجده، لكنه في نفس الوقت يتحدث عن محبته العميقة لشعبه، إذ يراه كفتاة مهملة ومرذولة من الجميع فيهتم بها ويغسلها ويجَّملها ويقيمها عروسًا له (حز 16). لايعمل لأجل اسمه فقط إنما أيضًا لأجل حبه لنا، وإن كان لا فصل بينهما.

ب. يعلن في هذا السفر عن اهتمامه بشعبه كأمة واحدة وعروس واحدة، جماعة تعبدية لرب واحد، وفي نفس الوقت لا يتجاهل الفرد، فلا يلتزم أحد بثمر أخطاء غيره (18: 4، 29).

ج. مع تعنيفه الشديد على الخطيئة كان مملوءًا رجاءً حتى في أحلك اللحظات وأظلمها.

د. يهتم هذا السفر بالطقس والعبادة الكهنوتية، وفي نفس الوقت يركز على الحياة الداخلية وتنقية القلب، فلا انفصال بين العبادة الجماعية والروحانية.

هـ. أخيرًا في هذا السفر يظهر حزقيال النبي ككاهن ابن الكاهن الذي يرتبط بالهيكل والذبيحة والليتورجيات، والنبي الذي يعلن بعض أسرار المستقبل، والرائي الذي يدخل به الروح إلى السموات ليتكشف أسرار العظمة الإلهية، وأيضًا الرجل اللاهوتي الذي يدرك أسرار الإيمان، والكارز المهتم بالتوبة، والأديب والشاعر الملهم والفنان الخ...

7. إشعياء هو نبي الدولة يدعو للإيمان، وإرميا النبي الشهيد يدعو للحب، وحزقيال نبي السبي يدعو للرجاء. نبوات الأول تمجد الابن المخلص، والثاني تمجد الآب، وأما الثالث فتمجد الروح القدس[13].

8. أكثر من أي نبي تسلم حزقيال رسائله من خلال الرؤى. يعتبر سفر حزقيال من أصعب الأسفار. قيل إن حاخامًا قد وعد بتفسيره بالكامل فخصص له المجمع 300 برميلاً من الزيت لسراجه حتى يستطيع أن يكتب التفسير، مفترضًا أنه لن ينهي عمله قط[14].

9. يختلف نبي السبي العظيم حزقيال عن النبيين إشعياء وإرميا في أمرين هامين:

أ. لم يتعامل مع حكومة يهوذا، أي الملك ورجاله؛ إذ لم يكن مصلحًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل كان يهتم بخلاص كل إنسان كفرد وحثه على التوبة، دون تجاهل للجانب الجماعي.

كما كان بعيدًا عن القصر البابلي حيث عاش دانيال النبي.

ب. كان لذات السبب كاتبًا أكثر منه متحدثًا، وفي هذا كان فريدًا بين الأنبياء. كتب إلى "كل بيت إسرائيل" لكي تقرأه الأجيال المتعاقبة[15].

10. يكشف السفر عن شخصية حزقيال بكونه نبيًا متعدد الجوانب[16]، ربما لا يوجد مثله في كل تاريخ إسرائيل من هذه الزاوية، فقد كان كاهنًا ونبيًا، وراعيًا (رقيبًا)، ورائيًا، ولاهوتيًا، ومخططًا دينيًا، وشاعرًا، وفنانًا.

ككاهن كان مهتمًا جدًا بطهارة الطقس جنبًا إلى جنب مع نقاوة الشخص، والعبادة الجماعية السليمة، والطاعة لشريعة الله. سيطرت قداسة الله على حياته وأفكاره.

وكنبي كشف عن خطايا إسرائيل ويهوذا والأمم وأعلن عن تأديب الله، مناديًا بالتوبة، كاشفًا عن وعود الله، خاصة في العصر المسياني.

وكراع كان يشارك شعب الله آلامهم، يحذرهم ويطلب راحتهم في الحق. كراءٍ فقد شاهد رؤى كثيرة.

كلاهوتي أوضح المفاهيم اللاهوتية وراء خراب أورشليم والتجديد...

كمخطط ديني وضع الأساس الروحي للمجتمع ما بعد السبي ليعيش كما يليق.

كشاعر سجل لنا قطعًا أدبية رائعة ومراثٍ مؤثرة للغاية.

كفنان رسم صورًا كثيرة غريبة للقارئين، مملوءة أسرارًا رهيبة، يصعب أحيانًا تخيلها[17].

حزقيال وتجديد القلب:

إن كان إرميا النبي قد ركز على الإصلاح الداخلي عوض الانشغال بالمظاهر الخارجية، وعلى ختان القلب والأذن عوض ختان الجسد الظاهري، فإن حزقيال النبي أيضًا يؤكد الحاجة إلى تجديد القلب.

"وأعطيكم قلبًا جديدًا،

وأجعل روحًا جديدة في داخلكم،

وأنزع قلب الحجر من لحمكم،

وأعطيكم قلب لحم،

وأجعل روحي في داخلكم،

وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها"

بالقلب الجديد ننعم بالهيكل الجديد والأرض الجديدة والحياة الجديدة (حز 40-48).

أما علامات القلب الجديد فهي:

1. يتمتع بسكنى روح الرب فيه (36: 27).

2. يحمل قوة السلوك في وصايا الرب وحفظ أحكامه (36: 27).

3. يستريح في الوعود الإلهية (36: 28).

4. يخلص من كل النجاسات (36: 29).

5. يتمتع بحالة شبع (36: 29-30).

6. يصير كجنة عدن عوض الخراب الذي حلَّ به (36: 35).

7. يشهد الغرباء للثمر الإلهي المتكاثر فيه (36: 36).

8. نمو دائم  (36: 37-38).

بين حزقيال وإرميا:

على خلاف إرميا النبي كان حزقيال النبي متزوجًا وله بيت وقد تأثر بإرميا كثيرًا، إذ تناول ملاحظاته التعليمية أو استعاراته التوضيحية أو خطاباته القصيرة وصار يوضحها ويوسعها، وكثيرًا ما كان يعطيها صورة أدبية نهائية، من ذلك[18].


 

    إرميا                حزقيال

1. القدر                          (1: 13-15).     (11: 2-11، 24: 3-14).

2. الأختان                        (3: 6-11).      (23).

3. المغفرة للمذنبين                (18: 5-12).     (18: 21-32).

4. الرعاة الأشرار                

ومجيء ملك جديد              (23: 1-6).      (34: 1-24).

5. المسئولية الشخصية            (31: 29-30).   (18: 2-31).

6. الخليقة الروحية                (31: 33-34).   (11: 19-20؛ 36: 25-29).

7. رجاء المستقبل                 (24).             (11: 15-21؛ 37: 1-14).

اختلف إرميا النبي عن حزقيال النبي في أن الأول كان رقيقًا هادئًا في توبيخاته، كشف بالأكثر عن مرارة نفسه من أجل شعبه، حاسبًا آلامهم آلامه وخطاياهم خطاياه. أما حزقيال إذ جاء بعد إرميا وفي فترة حالكة الظلمة كما أدرك عنف موقف المسئولين تجاه إرميا وتشكك البعض في نبواته اضطر أن يكون قاسيًا في تعنيفه شديد اللهجة يقف كمن يحاكم ويدين، وإن كنا لا نستطيع تجاهل حبه الشديد ومرارة نفسه على شعبه. يعتبر سفره أكثر الأسفار النبوية إحساسًا بمدى جرم الشعب ضد الله حتى تبدو كلماته كأن الله سيدينهم أكثر من سائر الأمم.

بين حزقيال والرؤيا:

يرى الدارسون أن للقديس يوحنا دراية قوية بسفر حزقيال، حيث توجد عبارات متشابهة:

1. راجع وحش (حز 1: 5، 10)               مع (رؤ 4: 5، 7).

2. راجع العلامة على الجبهة في (حز 9: 4)   مع (رؤ 13: 16).

لقد ختم النبي حزقيال سفره بوصف الهيكل المقبل، الذي جاء صورة رمزية للهيكل السماوي أو أورشليم العليا كما ورد في سفر الرؤيا:

                             حزقيال                      الرؤيا

1. الجبل المقدس            (40: 2)                    (21: 1).

2. المدينة المقدسة           (37: 27)                  (21: 3).

3. مجد الله فيها             (43: 2-5)                 (21: 11).

4. المدينة مربعة            (48: 16، 30)             (21: 16).

5. لها اثنا عشر بابًا         (48: 30-34)              (21: 12-13).

6. فيها نهر الحياة           (47: 1)                     (22: 1).

7. على ضفافه الأشجار     (47: 1، 7)                 (22: 2).

المسيح في سفر حزقيال:

1. غصن الرب (17: 22، 24): جاء في إشعياء النبي: "في ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاءً ومجدًا وثمر الأرض فخرًا وزينة للناجحين من إسرائيل... إذ غسل السيد قذر بنات صهيون" (4: 2، 4). ينزل الرب كغصن يغسل بدمه قذر خطايانا، فنحمل في داخلنا ثمر الروح، ونصير نحن به أغصانًا تأوي الطيور.

2. الراعي المحب (34) يطلب الضال ويسترد المطرود ويجبر الكسير ويعصب الجريح... قائلاً: "هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها" (34: 11).

3. داود (34: 23) الذي يرعى غنمه، ويقطع عهد سلامٍ مع شعبه وينزع الوحوش الرديئة من الأرض، ويجعل مقدسه في وسطهم (34: 25-28).

4. غرس لصيتٍ (34: 29)، ينزع عن شعبه العار ويجعل لهم صيتًا ومجدًا في داخلهم!

5. المعمودية وعهد النعمة (36: 25-27)... تجديد الطبيعة البشرية، والتمتع بالإنسان الجديد.

6. كنيسة العهد الجديد المقامة كما من العظام اليابسة (37: 1-10)؛ الهيكل الجديد(37).

7. ميلاد المسيح من البتول وبقاؤها بتولاً (44: 2).

تحدث العلامة أوريجينوس عن حزقيال النبي نفسه كرمز ومثال للسيد المسيح[19].

1. رأى حزقيال وهو في الثلاثين من عمره السموات مفتوحة، وكان عند نهر خابور، وعند نهر الأردن انفتحت السموات من أجل السيد المسيح أثناء عماده وهو في الثلاثين من عمره.

2. دُعي حزقيال "ابن آدم"، ودعا السيد المسيح "ابن الإنسان" لتأكيد تأنسه، واحتماله الالآم والصلب لأجلنا.

3. اسم حزقيال يعني "قوة الله العليا"... من يقدر أن يقدم قوة الله العليا سوى السيد المسيح نفسه؟!

4. عاش وسط المسبيين، وجاء السيد المسيح وسطنا ليحررنا من سبي الخطية.

5. انفتحت السموات أمام حزقيال ورأى المركبة السماوية، وفتح الرب لنا سمواته لنشارك السمائيين تسابيحهم، ويمتلئ العالم بالملائكة.

الله في سفر حزقيال[20]:

إذ دخل الشعب إلى المذلة في أرض السبي، عوض رجوعهم إلى أنفسهم، ونسبهم ما حلّ بهم إلى خطاياهم، تشككوا في إمكانية الله وقدرته، لهذا إذ جاء حزقيال النبي يدعوهم إلى التوبة كشف لهم عن عظمة الله وقدرته وبعضًا من سماته:

1.   الله ممجد ومهوب (1: 25-28؛ 3: 23).

2.   الله قدوس لا يطيق الخطية (5: 11؛ 36: 23).

3.   الله قوى في كل مكان (3: 12-27؛ 5: 5).

4. الله صاحب سلطان على كل الأمم (25: 1، 32: 32).

5.   الله عادل (18: 25؛ 33: 20).

6.   الله يُعرف بأعماله القديرة (6: 7، 14؛ 20: 38).

7. الله يرعى شعبه بنفسه (34: 11-16).

8. الله يهب القلب الجديد والحياة الجديدة (36: 25-32).

لقد بدأ السفر بإعلان "مجد الله"، وقد تكرر هذا التعبير مرات كثيرة في الأصحاحات الإحدى عشرة الأولى ليختفي ويظهر ثانية ابتداء من الأصحاح 43... وكأنه يؤكد أنه متى أُعلنت الخطايا والرجاسات يختفي مجد الله، بل يُجدف عليه بسببنا. الله في حبه خلقنا لننعم برؤية مجده فنفرح ونتهلل، ونحن بعصياننا فقدنا الرؤية... لكنه لم يتركنا إنما أرسل ابنه الوحيد ليقيم لنا الهيكل الروحي الجديد، ويدخل بنا إلى شركة المجد الإلهي في استحقاقات دمه.

هذه هي خبرة الكنيسة، وخبرة كل عضو فيها... عندما نسقط في الخطية نحزن روح الله، ونفقد مجده فينا... بالتوبة نعود إليه ويتجلى مسيحنا المصلوب والممجد فينا!

هذا ويرى البعض أن السفر قد بدأ برؤية مجد العرش الإلهي ليعلن لإسرائيل أن الله مُمجد في السماء، لا يحتاج إلى الهيكل الذي دنسوه. إنه يرفض الهيكل والتقدمات والعبادة مادامت ممتزجة بالرجاسات[21].

أقسام السفر:

يحمل هذا السفر ذات التقسيم الذي لبقية الأسفار النبوية، وهو ظهور قسمين متكاملين: الدينونة أو الحكم بالهلاك (1-24) ثم الخلاص بعد تأديب الأمم (25-48). غير أنه يمكننا تقسيم السفر إلى ستة أقسام رئيسية:

1. دعوة حزقيال                                [ص1- ص3].

2. تهديدات قبل سقوط أورشليم                  [ص4- ص 12].

3. خطايا إسرائيل وأورشليم                    [ص 13- ص 24].       

4. نبوات ضد الأمم                            [ص 25- ص 32].

5. نبوات عن الرجوع من السبي                [ص 33- ص 39].

6. إصلاح الهيكل وأورشليم                     [ص 40- ص 48].

محتويات السفر:

القسم الأول: دعوة حزقيال:

1-3  دعوة حزقيال للعمل النبوي بعد ظهور المركبة النارية، ثم استلامه كلمة الله كدرج يأكله فيشبع جوفه ويمتلئ فمه حلاوة.

القسم الثاني: تهديدات قبل سقوط أورشليم:

الحلقة الأولى من التهديدات

4-5    نبوات خلال أعمال وتصرفات رمزية (اللبنة المرسومة، النوم على جانب واحد، الأكل بوزن والشرب بكيل، حلق شعر رأسه ولحيته).

6-7    الحديث بوضوح عن ثمرة خطايا يهوذا.

8-11  انتقاله من بابل إلى أورشليم بالروح ليرى الرجاسات قد دخلت بيت الرب، فتحرق المدينة بالنار، ويفارق الرب بيته، معطيًا وعدًا بالعودة ونوالهم القلب الجديد والروح الجديد.

الحلقة الثانية من التهديدات

12     نبوات رمزية أخرى عن سقوط أورشليم والسبي مع الإشارة إلى مصير صدقيا الملك.

القسم الثالث: خطايا إسرائيل ويهوذا:

13     تأكيد تحقيق النبوة ونبذ الأنبياء الكذبة (تركه المكان إلى موضع آخر علامة الجلاء، نقب الحائط مع تغطية وجهه لكي لا يرى، يأكل طعامه وشرابه بارتعاد وغم).

14     المسئولية الشخصية عن أخطاء الإنسان.

15     إسرائيل وقد صارت كرمة بلا ثمر، كعود الكرم لا يصلح إلا للنار.

16     تشبيه شعبه بالفتاة المهانة المتروكة يخطبها الرب لنفسه ويجَّملها فتعود وتزني وراءه.

17     مسلك يهوذا، خيانته لملك بابل فيلتجئ إلى مصر، ويرسل الله ملك بابل للتأديب.

18     مسئولية الإنسان عن تصرفاته الشخصية.

 19    مرثاة على رؤساء إسرائيل.

20-24 على شكل شعر منظوم تفضح خطايا إسرائيل ويهوذا وإما خلال الرموز (صانع المعادن الذي يحرق المعدن بالنار لينقيه من المواد الغريبة، مثل الأختين، موت زوجته).

القسم الرابع: نبوات ضد الأمم لتأديبهم:

25-32  رؤى ضد عمون وموآب وآدوم والفلسطينين وصور ومصر لأنها شمتت في ذلك الحين في شعبه

القسم الخامس: نبوات عن الرجوع من السبي:

33-39  يتحدث عن استلامه رعاية شعبه (34) وإعادة بناء المدن (36) وإقامتهم كما من الموت (37) ووهبهم روح الوحدة (37)، وهلاك جوج وجيشه علامة نصرة الله على الأوثان (38-39).

القسم السادس: إصلاح الهيكل وأورشليم:

40-48 الهيكل الجديد والأرض الجديدة والنهر العظيم الذي يتعمد فيه كل قادمين إليه.

<<

 

 


 

 

 

الباب الأول

 

 

 

 

 

 

 

دعوة حزقيال

[ص 1- ص 3]

 

<<

 

 


 

الأصحاح الأول

المركبة النارية

يبدأ السفر برؤية العرش الإلهي ليؤكد لشعبه أنه يشتاق أن يشتركوا مع السمائيين في التمتع بمجده، ومن جانب آخر فهو غير محتاج إلى الهيكل الذي دنسوه والتقدمات والعبادة ما لم تكن قلوبهم مقدسة له، تتهيأ لسكناه.

كان لهذا الأصحاح مهابة خاصة لدى اليهود فلم يكن يُسمح لأحد أن يقرأه ويفسره علانية، لأنه يتعامل مع أسرار عرش الله[22].

مقدمة                                 [1-3].

1. الريح والسحابة والنار            [4].

2. المخلوقات الحية الأربعة           [5-14].

3. البكرات                           [15-21].

4. المقبب                            [22-25].

5. العرش والجالس عليه            [26-27].

6. قوس قزح                        [28].

مقدمة:

بدأ حزقيال النبي سفره بتحديد تاريخ أول رؤيا إلهية أُعلنت له، وموضع سكناه في ذلك الوقت، والظروف المحيطة به.

يقول: "كان في سنة الثلاثين" [1]. غالبًا ما يقصد أنه عندما بلغ الثلاثين من عمره فصار كاهنًا ولكن بلا عمل كهنوتي. وربما قصد السنة الثلاثين من بدء يوشيا الملك حركة ترميم الهيكل والإصلاح الديني، كما يُحتمل أنه قصد السنة الثلاثين من حكم نبوفالاسَّر والد نبوخذ نصر ملك بابل مؤسس الإمبراطورية البابلية. كان حزقيال مقيمًا على ضفاف قناة خابور عند تل أبيب[23] أو بجوارها (3: 15).

لقد بلغ حزقيال السن القانونية لاستلام العمل الكهنوتي من دخول إلى المقدسات وتقديم ذبائح واشتراك في الليتورجيات اليومية واحتفال بالأعياد وتمتع بالتسابيح المفرحة... لكن للأسف حُرم من هذا كله بسبب السبي، فكان يجلس عند ضفاف نهر خابور يبكي حال بلده وشعبه وهيكل الرب وكأنما كان يردد المزمور القائل:

"على أنهار بابل هناك جلسنا،

 فبكينا عندما تذكرنا صهيون.

 على الصفصاف في وسطها علقنا قيثاراتنا،

لأنه هناك سألنا الذين سبونا أقوال التسبيح،

والذين استاقونا إلى هناك،

 قالوا:

 سبحوا لنا تسبيحة من تسابيح صهيون.

 كيف نسبح الرب في أرض غريبة؟!

 إن نسيتك يا أورشليم أَنْسَ يميني..." (مز 136/ 137).

هكذا تمررت نفس الكاهن فارتفع به الروح إلى السموات ليدخل به إلى أورشليم العليا ويتمتع بالهيكل الأبدي، فلا يرى تابوت العهد والمنارة الذهبية ومذبح البخور... الخ، إنما يرى المركبة الإلهية النارية والعرش الإلهي الناري. انفتحت السموات [1] ليرى الأسرار الإلهية بما يناسب الظروف المحيطة به، لكي تمتلئ نفسه تعزية، إذ يرى خلالها الطبيعة البشرية المتجددة بالروح القدس الناري التي وُهبت لنا بالمسيح يسوع ربنا خلال مياه المعمودية المقدسة وقد صارت مركبة نارية تحمل الله نفسه!

انفتحت السموات أمام حزقيال النبي المسبي ليدخل كما إلى عرش الله القدير، فيدرك أن شئون البشر لا تسير بطريقة عشوائية، وإنما بتدبير إلهي عجيب، فالله ضابط الكل يهتم بكل ما يمس حياة الإنسان. هذا هو سّر تعزيتنا وسط الضيق.

أني أري (السماء مفتوحة)، آخرون لا يروا.

لا يظن أحد أن السماء مفتوحة بمعنى مادي بسيط. بل نحن الجالسون هنا نرى السموات مفتوحة ومغلقة حسب درجات استحقاقنا المختلفة. الإيمان الكامل يفتح السموات والشك يغلقها[24].

القديس جيروم

جاءت هذه الرؤيا الأولى والتي ستتكرر تخدم الأمور التالية:

أولاً: تعزي نفس حزقيال المحطمة، لكي يردد القول: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19)، "لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزياتنا أيضًا" (2 كو 1: 5). لهذا رأى الرسول بولس الفردوس غالبًا وهو يُرجم في لسترة، واختطف الرسول يوحنا إلى يوم الرب وهو منفي في جزيرة بطمس.

ثانيًا: جاءت الرؤيا تناسب الظروف المحيطة بالخدمة، إذ يقدم الله رؤياه وعطاياه حسب احتياجات كرمه. فحين التقى الله بموسى كأول قائد للشعب يقوم بالعبور بهم من حالة العبودية القاسية إلى البرية ليدخل بهم خلال يشوع إلى أرض الحرية، ظهر له على شكل العليقة المملوءة أشواكًا المتقدة نارًا ولا تحترق، ليعلن سر التجسد الإلهي والألم والقيامة[25]. وكأنه لا انطلاقة للكنيسة إلا من خلال العمل الخلاصي بالمسيح المتجسد المصلوب القائم من الأموات. وجاءت المعجزات التي رافقت موسى النبي تؤكد ذات الشيء[26]. أما هنا فكانت نفسية الشعب محطمة، خاصة وأن الكلدانيين كانوا يطوفون بموكب الإله بيل أو مردوخ[27] في شوارع العاصمة في عظمة وأبَّهه، بينما حُرم هذا الشعب من هيكله وانقطعت عنه تسابيح التهليل، فظهر انكسارهم كأنه انكسار لإلههم. لهذا لم يعلن الله نفسه في عليقة بسيطة متقدة بل خلال المركبة النارية المملوءة مجدًا وبهاءً، وكأن الله قد أراد أن يؤكد لنبيِّه وشعبه أن مجده يملأ السماء والأرض حتى في اللحظات التي فيها يسلم شعبه للتأديب بواسطة الأمم.

ثالثًا: تعلن هذه الرؤيا عن عطية الله للطبيعة البشرية التي تتقدس بالتجسد الإلهي. فالمركبة النارية إنما هي الكنيسة المقدسة كعرش إلهي، تمثل الكنيسة الجامعة كما تمثل نفس المؤمن الذي صار عضوًا في كنيسة الله ومركبة نارية ملتهبة تحمل الله في داخلها، بقبولها الروح القدس في سرى العماد والميرون وتسليمها حياتها بين يديه ليعمل فيها على الدوام.

رابعًا: لعل الله أراد أن يعلن لحزقيال النبي ما ينبغي أن يكون عليه خادم الرب. فإن كان الله نارًا آكلة، هكذا خدامه أيضًا ينبغي أن يكونوا لهيبًا ناريًا (مز 104: 4)، إنهم يتشبهون بالمركبة النارية، حتى يستطيعوا بالروح القدس الناري أن يعملوا لحساب الله. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يقوم بدور قيادي يلزمه أن يكون أكثر بهاءً من كوكب منير، فتكون حياته بلا عيب، يتطلع إليه الكل ويقتدون به[28]].

خامسًا: قبل استعراض الرؤيا قيل: "وصارت عليه هناك يدُ الرب" [3]. هذه العبارة محببة جدًا لدى حزقيال النبي، فإن كان بسبب السبي قد حُرم من استلام العمل الكهنوتي بالوراثة، لكن يد الرب امتدت عليه لتباركه وتسلمه روح النبوة... أنه مدعو من الله مباشرة ليرى أسرار ملكوت السموات، ويدرك خطة الله مع البشرية كلها عبر الأجيال حتى انقضاء الدهر. لقد عينه الله لخدمة المقُدَّسات السماوية!

سادسًا: يرى العلامة أوريجينوس في عظته الأولى على سفر حزقيال أن حزقيال هنا يمثل السيد المسيح في لحظات عماده. لقد صار بالحق ابنا للإنسان وهو الكلمة الحقيقية. جاء إلينا نحن المسبيين، لا لنرى المركبة النارية، إنما ليقودنا بروحه القدوس خلال مياه المعمودية بقوة صليبه إلى عرشه الإلهي. يفتح أمامنا سمواته، فنجد لنا موضعًا في حضن أبيه، فيه نستقر، وفيه نستريح إلى الأبد. إنه يحول كنيسته إلى مركبة نارية بروحه الناري، فننطلق جميعًا بقلوبنا إلى عرش نعمته، نختبر عربون مجده حتى نراه وجهًا لوجه.

ولكي نفهم هذه الأمور يلزمنا أن ندخل في بعض تفاصيل الرؤيا بإيجاز، والتي شملت ستة أمور: الريح والسحابة والنار، المخلوقات الحية الأربعة، البكرات، المقبب، شبه العرش والجالس عليه، وأخيرًا قوس قزح. هذه تحمل أسرارًا خاصة بالحياة السماوية كما بالكنيسة المقدسة وأيضًا حياة المؤمن الداخلية، خاصة خادم الرب. ولما كان النبي يحاول في هذا الأصحاح أن يصف ما لا يوصف، لهذا كثيرًا ما يكرر كلمة "يشبه"، وكأن اللغة البشرية والألفاظ والرموز لم تسعفه في التعبير عما رآه.

1. الريح والسحابة والنار:

"فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال. سحابة عظيمة ونار متواصلة

وحولها لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار" [4].

حيث يعلن مجد الرب غالبًا ما تظهر هذه الأمور الثلاثة: الريح العاصف والسحابة العظيمة والنار المتواصلة. هذه التي اجتمعت بقوة في يوم البنطقستي في علية صهيون حين حل الروح القدس على التلاميذ لإقامة كنيسة العهد الجديد، إذ "صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت، حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع 2: 2-4). ظهر الريح العاصف الذي ملأ كل البيت علامة امتلاء الكنيسة بالروح الإلهي، والنار المتواصلة خلال الألسنة النارية التي أشعلت قلوب المؤمنين بنار إلهي لا يُطفأ والسحابة العظيمة التي هي جماعة التلاميذ الذين تقدسوا فصاروا سحابة شهود للرب (عب 12: 1).

من جهة الريح العاصف نلاحظ أن كلمة "ريح ruah" في العبرية تُترجم ريحا أو روحًا أو نفسًا حسب النص[29]. ولا يقف الارتباط بين الريح والروح عند حدود اللفظ، فالريح عند اليهود لم تكن مجرد ظاهرة طبيعية، لكنها غالبًا ما كانت تحمل معنى الطاقة الإلهية المعلنة في الطبيعة[30]. ففي العهد القديم غالبًا ما ارتبطت الحضرة الإلهية بالريح العاصفة. فقد أجاب الرب أيوب من العاصفة (أي 28: 1)، وخاطب الرب موسى "في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم (العاصف)" (تث 5: 22). وإذ وقف إيليا على الجبل "إذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال، وكسرت الصخور أمام الرب" (1 مل 19: 11). لهذا يقول ناحوم النبي: "الرب في الزوبعة وفي العاصف طريقة والسحاب غبار رجليه" (نا 1: 3). كما يقول المرتل: "يأتي إلهنا ولا يصمت، نار قدامه تأكل حوله عاصف جدًا" (مز 50: 3).

ويعلق القديس أغسطينوس على قول المرتل هكذا: [هذا بلا شك يصنع نوعًا من الفصل. إنه ذاك الفصل الذي لا يتوقعونه حين تتمزق الشباك قبل أن يأتوا بها إلى الأرض (لو 5: 6). في الفصل يحدث تمييز بين الصالحين والأشرار[31]]. وكأن الريح العاصف قد أخذ مفهومًا أخرويًا في ذهن القديس أغسطينوس. فإنه ما دمنا في هذا العالم كالسمك في الشبكة لا يُفصل الأبرار عن الأشرار، لكن إذ يؤتى بها إلى الأرض، أي إلى يوم الرب العظيم، يقوم الريح العاصف بعزل هؤلاء عن أولئك.

هذا الفصل أو التمييز الذي يلازم مجيء الرب العظيم يتم حاليًا داخليًا في القلب. ففي عيد البنطقسي إذ هب الريح العاصف وهب الكنيسة روح التمييز لا لتدين الأشرار خارجها وإنما لتحكم في داخلها روحيًا، فتعزل الخبيث المتمسك بخبثه عن النفوس البسيطة والنقية، كما يحمل كل عضو في داخله روح التمييز الذي يدين الشر أو الضعف الذي يسقط فيه، سالكًا في النور، هاربًا من الظلمة. إنه يدين نفسه ويحكم على أعماقه الداخلية وتصرفاته وسلوكه قبل أن يُحكَم عليه.  

أما في سفر حزقيال فقد شعر النبي "بالريح العاصف قادمًا من الشمال" [4] وكأن الرب يؤكد أنه يُهبُّ على شعبه بروح الفصل والتمييز ليؤدبهم على شرهم ويدخل بهم من خلال السبي والألم إلى الحياة النقية. الريح العاصف أو الزوبعة قادمة من الشمال، وقد كان الشمال عند اليهود يشير إلى الضيق والغموض. حيثما تهب الريح الشمالية اللافحة تحل الأوبئة ويحدث الدمار. فبينما كان الأنبياء الكذبة يتكلمون بالناعمات (إش 30: 10)، "قائلين: سلام سلام ولا سلام" (إر 8: 11)، لكي يهدئوا مخاوف الشعب، ويكسبوا القيادات لصفهم على حساب الحق، كان الأنبياء ينطقون بالحق ولو كان جارحًا. هذا ما يؤكده حزقيال النبي أن الله نفسه قادم للتأديب كما في ريح عاصف شمالي!

وقد ربط السيد المسيح بين الروح الإلهي والريح في مفهوم لاهوتي جديد بقوله: "الريح تَهُبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح" (يو 3: 8). لقد كشف أن عمل الروح القدس في الولادة الجديدة من خلال المعمودية عمل سري غير منظور لكن يُدرك عمله وفاعليته في حياة المؤمن. إنه يَهبُّ كالريح العاصف ليهز أساسات القلب القديمة ويقيم منه مقدسًا جديدًا. ويبقى الروح يهبَّ دومًا في داخلنا لا كمن يأتي من الخارج ولكنه يقيم فينا، عاملاً لنمو إنساننا الجديد، يعمل فينا ونشعر به لكننا لا ندرك أسراره. هكذا كان الروح الإلهي يعمل حتى في العهد القديم من خلال تأديب الشعب القادم من الشمال بطريقة خفية لم يكن ممكنًا للشعب أن يراها، لكنه عمل الله فيه بعد عودته إليه.

أما عن السحابة العظيمة، فمنذ القديم ارتبطت الحضرة الإلهية بالسحاب، فعند خروج الشعب إلى البرية كان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود السحاب ليهديهم في الطريق (خر 13: 21)، وقد رأى الرسول بولس في ذلك رمزًا لعمل الروح القدس في المعمودية (1 كو 6: 2)، حيث يعبر بنا من العبودية إلى حرية مجد أولاد الله. وفي أكثر من موضع إذ كان موسى يتحدث مع الله كان مجد الرب يظهر في السحاب (خر 16: 10، 19: 9). وعندما نصب موسى خيمة خاصة خارج المحلة يلتقي فيها مع الله، يقول الكتاب "كان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفًا عند باب الخيمة" (خر 33: 9-10). وحينما دشنت خيمة الاجتماع "غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن" (خر 40: 34). وحينما بُني الهيكل عوض خيمة الاجتماع في يوم تدشينه "لم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب، لأن مجد الرب ملأ بيت الرب" (1 مل 8: 11). وفي العهد الجديد إذ ارتفع السيد بثلاثة من التلاميذ على جبل تابور وظهر موسى وإيليا جاءت سحابة نيّرة وظللتهم (مت 17: 5). ونقرأ في سفر الرؤيا عن مجيء الرب الأخير[32] "هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض" (رؤ 1: 7). فإلى أي شيء يُشير السحاب؟

أ. يرى القديسون كيرلس الكبير وأغسطينوس وجيروم أن السحاب يرمز لناسوت السيد المسيح الذي ظهر لنا خلاله وقد اختفي اللاهوت عن أعيننا، أما ظهوره في اليوم الأخير مع السحاب فيعني إخفاء مجد لاهوته عن الأشرار في يوم الدينونة فلا يتمتعون به، أما الأبرار فينعمون بأمجاد الإله المتأنس وينكشف لهم بهاؤه.

ب. يرى البابا ديونسيوس السكندري أن السحاب يشير إلى جماعة الملائكة غير المحصاة التي تظهر محيطة بالرب يوم مجيئه.

ج. يرى القديس أغسطينوس أن السحاب يشير إلى جماعة الكارزين، إذ يقول: "كلمة الله الذي هو المسيح يكون في السحاب، أي في الكارزين بالحق"[33]؛ بل ويرى كل عضو من أعضاء الكنيسة يمثل سحابة، فيه يأتي السيد المسيح، إذ يقول: "يأتي الآن في أعضائه كما في السحب، أو يأتي في الكنيسة التي هي السحابة العظيمة"[34].

د. يرى القديس أمبروسيوس أن السحابة التي تظلل الكنيسة هي جماعة الأنبياء الذين يقدمون لها شخص السيد المسيح خلال نبواتهم، إذ يقول: "كان موسى ويشوع سحابتين. لاحظوا أن القديسين هم سحب"، "هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها" (إش 60: 8) إشعياء وحزقيال كسحابتين فوقًا مني؛ الأول أظهر لي قداسة الثالوث خلال الشاروبيم والسيرافيم. الأنبياء جميعهم سحب، جاء فيها المسيح. لقد جاء في النشيد في سحابة صافية ومحبوبة، متألقة بفرح العريس (نش 3: 11). لقد جاء في سحابة سريعة، متجسدًا من العذراء، إذ رآه النبي قادمًا كسحابة من الشرق (إش 19: 1). بحق دعاه سحابة سريعة (خفيفة)، إذ ليس فيه شيء من تعلقات الأرض تثقله"[35].

هـ. في الحديث عن السحابة المنيرة التي ظهرت أثناء تجلى السيد المسيح يقول العلامة أوريجينوس[36]: "أتجاسر فأقول إن مخلصنا أيضًا هو السحابة المنيرة التي تظلل الإنجيل والناموس والأنبياء، إذ نالوا فهمًا؟ الذين رأوا نوره في الإنجيل والناموس والأنبياء"[37].

أما بخصوص النار المتواصلة، فقد قيل عن الله نفسه إنه نار آكلة (عب 1: 9)، خدامه أيضًا لهيب نار (مز 104: 4). فبظهور المركبة الإلهية خلال نار متواصلة يُعلن عن الحضرة الله النار المتقدة، الذي يحرق الأشواك الخانقة للنفس وفي نفس الوقت يهبها استنارة داخلية لتضئ كالبرق فيكون لها "لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار".

تحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن الروح القدس الناري في النفس البشرية من خلال المعمودية، قائلاً: [لماذا تتعجب؟! خذ مثلاً من الواقع وإن كان فقيرًا ودارجًا لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر خلال قطعة حديد فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا يصير ملتهبًا، وإن كان أسود يصير لامعًا. إن كانت النار التي هي مادة تخترق الحديد هكذا وتعمل فيه بلا عائق وهو أيضًا جسم (مادة)، فلماذا تتعجب من الروح القدس أنه يخترق أعماق النفس الداخلية؟![38]].

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن قوة النار حين تتسلط على عروق الذهب الخام المختلطة بتراب الأرض تتحول إلى ذهب نقي، هكذا بل وأكثر من هذا يعمل الروح القدس في المعمودية في الذين يغسلهم، إذ يحولهم إلى ما هو أنقى من الذهب عوض الطين. فحينما يحل الروح القدس كالنار في نفوسنا يحرق أولاً صورة الترابي ليعطى صورة السمائي، فتصير كعملة بهية متلألئة خارجة من أفران الصهر[39]].

ويعلق القديس أغسطينوس على كلمات المرتل: "قدامه تذهب نار" (مز 97: 3) قائلاً: [هل تخاف؟ لنتغير فلا نخف! ليخف التبن من النار، لكن ماذا تفعل النار للذهب؟![40]]. كما يعلق على العبارة: "لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة" (مز 66: 10) هكذا: [لا لتحرقنا بالنار كالهشيم بل كالفضة. فباستخدام النار لا تصيرنا رمادًا بل تغسلنا من الدنس[41]].

2. الأربعة مخلوقات الحية:

سبق لنا الحديث عن هذه الكائنات السماوية وقلنا إنها طغمتا الشاروبيم (الكاروبيم) والسيرافيم، وأشرنا إلى كرامة هذه الخليقة وعملها وشكلها وما ترمز إليه بشيء من الإفاضة أثناء تفسيرنا الأصحاح الرابع من سفر الرؤيا[42] غير أننا نضيف هنا الآتي:

أ. في سفر الرؤيا رأى القديس يوحنا لكل مخلوق حيّ وجهًا فرأى في الأربعة أربعة وجوه فقط. أما حزقيال النبي فيقول إنه رأى أربعة وجوه لكل مخلوق حي، من كل جانب وجه. ولعل السبب أن الأول تطلع إلى هذه الخليقة من جانب واحد، أما الأخير فتطلع إليها من كل الجوانب،  إذ أنه رأى المركبة في حالة تحرك من كل الجهات.

هذه الوجوه كما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم تشير إلى تشفع هذه الكائنات الروحية في جنس البشر (مثل وجه إنسان) وفي حيوانات البرية (شبه وجه أسد) وحيوانات الحقل (شبه وجه ثور) وطيور السماء (شبه وجه نسر)، لأنها كائنات قريبة من الله له المجد أكثر من سائر الروحانيين السمائيين.

وإن أخذنا بتفسير القديس غريغوريوس النزينزي والعلامة أوريجينوس نرى في المركبة النارية النفس وقد تقدست بكل طاقتها لتحمل العرش الإلهي، فالأسد يشير إلى القوة الغضبية، والعجل إلى الشهوانية، والإنسان إلى النطقية (العقلية) والنسر إلى الروحية. هذا هو عمل الروح القدس في النفس، إنه يلهب طاقاتنا بناره لا ليحطمها بل ليقدسها ويجعلها متكاملة معًا، فتصير أشبه بمركبة نارية تحمل الله فيها!

وإن أخذنا بتفسير القديس فيكتوريانوس[43] وإيريناؤس نرى في هذه الوجوه إشارة إلى الأناجيل الأربعة التي تدخل بالنفس إلى الخلاص فتتمتع بالملكوت لا كأمر خارج عنها بل في داخلها، وتصير هي مَقْدسًا للرب.

وإن أخذنا بتفسير القديس إيرونيموس نرى أن سر حملنا لله النار الآكلة يكمن في تمتعنا بالخلاص الإلهي من خلال التجسد (شبه وجه إنسان) والصلب (الثور) والقيامة (الأسد) والصعود (النسر). بهذا السر، سر الإله المتجسد المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السموات تنطلق النفس كمركبة نارية لتحمل بالروح القدس الحياة الإلهية في داخلها.

أخيرًا إن كانت هذه الكائنات الأربعة تمثل الكنيسة المقدسة الحاملة للحياة الإلهية في داخلها فإن هؤلاء الأربعة إنما هم الأسقفية والقسيسية والشموسية، والشعب، إنهم أركان رئيسية تعمل معًا لحساب السيد المسيح، أيّ اختلاف لركن منها يفقد الكنيسة اتزانها ويسئ إلى رسالتها. إن فقد ركن عمله أو تفاعله مع الأركان الأخرى يخسر الكل حيويته، فالكنيسة ليست مُركَّزة حول أسقف أو كاهن أو شماس أو مسئول علماني (من الشعب) لكنها حياة متكاملة ومتفاعلة معًا.

ب. يظهر كل مخلوق بأربعة أجنحة، أما في سفر الرؤيا فلكل مخلوق ستة أجنحة، ولعل الاختلاف ناجم عن ظهور ما سماه حزقيال النبي بالمقبب على رؤوس الخليقة الحية، وكأن كل مخلوق حيّ قد رفع جناحين فوق رأسه على شكل قبة ليستر عينيه من بهاء عظمة الله، فلم يظهر الجناحان المرفوعان بل الأربعة الآخرين. هكذا النفس التي تتمتع بحياة الشركة مع الله خاصة خادم الرب، تصير كأنها كاروب بستة أجنحة تستر نفسها بجناحين، وتطير نحو الله بجناحين، وتخفي عينيها بالجناحين الآخرين من بهاء عظمته! وقد لاحظ حزقيال النبي أن أجنحة الكاروبيم متصلة الواحد بأخيه [9]، فإن كان الكاروب يمثل أعلى طغمة سماوية فإن حياته المقدسة الملتهبة نارًا لا تقبل كسرّ حمل للعرش الإلهي إلا باتحادها مع حياة غيره. ولعل هذا ما دفع القديس مقاريوس الكبير إلى القول: [بإن خلاص الإنسان في حياة الآخرين، إذ لا يستطيع التمتع بالخلاص منعزلاً عن أخيه بل بكونه عضوًا معه في الجسد الواحد للرأس الواحد].  

ج. أرجلها قائمة وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل وبارقة كمنظر النحاس المصقول [7] الأرجل القائمة تمثل استقامة الإنسان الروحي، الذي له قدمان كالنحاس المصقول، تدكان الأرض وتحطمان الأشواك؛ وتبرقان ببهاء السماويات دون أن تتسخا بتراب العالم. فالمؤمن الحقيقي يسير على العالم بلا خوف، متجها نحو السماء دون ارتباك بالزمنيات.

د. "أيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة" [8]. الإنسان الروحي يعيش طائرًا في السمويات كما بأجنحة الروح، يداه مستعدتان دائمًا للعمل لحساب ملكوت الله، لخدمة كل بشر! له الأجنحة كما الأيدي! ولعل وجود الأبدي تحت الأجنحة يعنى أن السمائيين يتعبدون لله ويخدمون البشر، لهم روح العبادة والخدمة معًا!

هـ. "أجنحتها متصلة الواحد بأخيه" [9] أي يتعبد الكل معًا بروح الحب والانسجام والوحدة.

و. أيضا تطلع النبي إلى هذه المخلوقات الحية فرأى وجوهها من كل جانب وكأنها بلا ظهر، تستطيع أن تتحرك في كل الاتجاهات دون أن تستدير [9] وكأنها بلا ظهر، إذ يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلاً: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر 2: 27). التعبير الذي استخدمه أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (7: 24، 18: 17، 32: 33)، وكأن حزقيال النبي جاء يكمل كلمات النبي إرميا بأسلوب آخر، فعوض أن يوبخهم على تقديم القفا لا الوجه يثير فيهم الاقتداء بهذه الخليقة السماوية فلا يكون لهم قفا مطلقًا بل تكون حياتهم في الرب كلها وجوهًا ولقاءات معه!

يصف النبي تحركها، قائلاً: "إلى حيث تكون الروح لتسير تسير" [12]. فالروح القدس هو الذي يقود الموكب الإلهي، يقود السمائيين والأرضيين المقدسين في الحق. يكرر كلمة "تسير" ليؤكد ضرورة التزامنا بالسير حسب خطة الروح القدس وتحت قيادته بلا انحراف يمينًا أو يسارًا.

ز. رأى النبي المخلوقات الحية دائمة الحركة بطريقة متناسقة، وهي كجمر نار متقد كمنظر مصابيح من النار ويخرج منها أشبه بالبرق [13]. إنها صورة حية لعمل الله فينا الذي يجعلنا دائمي الحركة نحوه، ُيلهبنا فيجعلنا نارًا متقدة، وينيرنا فنصير كالبرق مملوئين به بهاءً. إننا نتحرك بالروح الناري القدوس!

ج. صوت حركتها مرعب كصوت مياه كثيرة، كصوت جيش.

هذا هو عمل الله في حياتنا، يجعل من النفس جيشًا قويًا لا يغلبه الشيطان وكل قواته. لهذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصاة، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم[44]]. ويقول الأب ثيؤدور الميصصي: [الآن قد اُخترت لملكوت السموات، ويمكن التعرف عليك. إن فحصك أحد يجدك جنديًا عند ملك السماء[45]].

ط. وفي الأصحاح العاشر دعي حزقيال النبي المخلوق الحيّ كاروبًا. والعجيب أن الكاروب ارتبط بخلاصنا ارتباطًا وثيقًا، ظهر في أول أسفار الكتاب المقدس ممسكًا سيفًا ملتهبًا نارًا يحرس طريق الفردوس حتى لا يدخل الإنسان إلى شجرة الحياة. إذ لا تقدر طبيعة الإنسان الساقطة أن تقترب من سر الحياة؛ كما ظهر في آخر أسفار الكتاب المقدس مع الأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين يشتركون في تسبحة الحمل التي هي تسبحة خلاصنا (رؤ 5: 9)، إذ صار للإنسان حق الدخول إلى السماء عينها وقد تمجدت طبيعته في المسيح يسوع الحمل الحقيقي. أما بين بدء الكتاب ونهايته فيظهر أيضًا كاروبان على تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل علامة الحضرة الإلهية، وكان الله يتحدث مع موسى من خلالهما. أما وجود كاروبين فوق تابوت العهد حيث يمثل عرش الله، فيشير إلى أن الله الساكن وسط شعبه يتحدث معهم ويعاملهم خلال الرحمة والحب. أيضًا وجود اثنين يشير إلى دور السمائيين من نحونا: الصلاة لأجلنا والعمل كخدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14). ورسم شكل الكاروب على ستائر الخيمة والحجاب (خر 27-25) يقترب من شكل الإنسان مجنحًا ليعلن عن اقتراب الطبيعة البشرية إلى الحضرة الإلهية.

لقد عرف الإنسان الكاروب، فصار ليس غريبًا عن البشرية، لهذا عرفته الأمم ولاسيما الكلدانيون، وإن كانوا قد أضفوا عليه أشكالا من عندياتهم كما فعل سائر الأمم في كل الحقائق الإيمانية التي تسلموها شفاهًا بالتقليد وصبغوها بفكرهم المنحرف.

إذن حين نرى الكاروب إنما نتذكر طبيعتنا البشرية التي تمتعت بالخلاص من خلال اتحادها مع الله في المسيح يسوع ربنا بواسطة روحه القدوس. أما وجوهه الأربعة فتشير إلى تقديس طبيعتنا الجديدة من كل جوانبها: العقلية (إنسان) والروحية (النسر) والعمل (الثور) والسلطان (الأسد).

ى. تبع القديس إكليمنضس السكندري فيلون اليهودي قائلاً: [إن كلمة "كاروب" تعنى "معرفة"، وكأنه من خلال المعرفة الروحية تصير حياتنا مركبة تحمل الله داخلها]. هذا ما قبله أيضًا القديس جيروم الذي رأى في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. تعمل في طبيعتنا المتسلطة على الشهوات كأسد، وتحلق في الأمور العلوية كنسر وتعمل مجاهدة كالثور وبتعقل كإنسان. هذه المعرفة نغترفها من الأناجيل الأربعة، إذ يقول نفس القديس: [متى ومرقس ولوقا ويوحنا هم فريق الرب الرباعي، الكاروبيم الحقيقيون، أو مخزن المعرفة؛ فإن جسدهم مملوء عيونًا ومتلألئ كالبرق...، أقدامهم مستقيمة ومرتفعة، ظهرهم مجنح،  مستعدون للطيران في كل الاتجاهات، كل واحد منهم يمسك بالآخر يتشابك الواحد مع غيره، كالبكرات وسط البكرات يتدحرجن على طول الخط، يتحركن حسب نسمات الروح القدس[46]].

ك. "المخلوقات الحية راكضة وراجعة مثل البرق" [14]. ربما يشير بذلك إلى خدمة السمائيين الذين يُرسلون إلينا لكنهم سرعان ما يركضون ليرجعوا إلى حيث العرش الإلهي يتمتعون برؤية الله. والمؤمن الحقيقي الذي يلتهب قلبه بالاشتياق نحو مخلصه، بين الحين والآخر يركض قلبه وفكره وتركض كل أحاسيسه لترجع كالبرق تتمتع بالتأمل في مخلصها. إنها تصرخ مع الرسول: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).

3. البكرات:

"فنظرت المخلوقات الحية، وإذا بكرة واحدة على الأرض بجانب المخلوقات الحية بأوجهها الأربعة، منظر البكرات وصنعتها كمنظر الزبرجد. وللأربع شكل واحد ومنظرها كأنها بكرة وسط بكرة. لما سارت سارت على جوانبها الأربعة، لم تدر عند سيرها. أما أُطرِها (حوافها أو إطارها) فعالية ومخيفة، وأطرها ملآنة عيونًا حواليها للأربع. فإذا سارت المخلوقات الحية سارت البكرات بجانبها، وإذا ارتفعت المخلوقات الحية عن الأرض ارتفعت البكرات. إلى حيث تكون الروح لتسير إلى حيث الروح لتسير والبكرات ترتفع معها، لأن روح الحيوانات كانت في البكرات" [15-20].

أ. ما هي هذه البكرات التي على الأرض، التي تحمل في داخلها روح المخلوقات الحية، والتي تتحرك بانسجام معها، وفي نفس الوقت مرتفعة، ومخيفة ومملوءة أعينًا، منظرها كشبه حجر الزبرجد، البكرة في وسط البكرة؟ يجيب القديس جيروم: [البكرتان هما العهدان الجديد والقديم، فان القديم يتحرك في الجديد، والجديد يتحرك في القديم[47]]. ويدلل على ذلك بما جاء في الأصحاح العاشر: "أما هذه البكرات فنودي إليها في سمعى جلجل Gelgel" (10: 13 الترجمة السبعينية)؛ فإن كلمة جلجل غير كلمة جلجال Gilgal التي تعنى متدحرج (تث 11: 30) أو دائرة، فإن الأولى تتكون من كلمتين "جل جل" تعنيان "إعلان"[48]. وكأن الصوت الذي سمعه حزقيال النبي خارجًا من البكرات هو "إعلان العهد الجديد وإعلان العهد القديم". فقد التحم العهدان معًا بقصد إعلان سر الخلاص البشرية بواسطة المسيح يسوع مركز الإنجيل. وفي هذا يقول القديس أمبروسيوس: [رأى النبي بكرة تجري وسط بكرة. هذه الرؤيا بالتأكيد لا تشير إلى أمر جسدي بل إلى نعمة العهدين. فالبكرة التي وسط البكرة هي الحياة تحت الناموس والحياة خلال النعمة. مادام داخل الكنيسة فإن النعمة احتوت الناموس[49]]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [العهدان مترابطان معًا ومتضافران كل منهما مع الآخر[50]؛ العهد القديم يكشف أسرار العهد الجديد ويوضحها خلال الرموز والنبوات، والعهد الجديد يكشف أسرار العهد القديم التي كانت مختفية وراء الظلال].

لقد رأى البكرات على الأرض لكن إطارها عال ومخيف، وكأن كلمة الله التي قدمت في العهدين نزلت إلينا خلال لغتنا البشرية لكي نتفهمها ونعيشها ونحن هنا على الأرض، وفي نفس الوقت هي مرتفعة ومخيفة ترفع النفس إلى السمويات، وتدخل إلى الأسرار المملوءة هيبة ورعدة. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يمكن لمن أنعم عليه بفاعلية كلمة الله أن يبقى هكذا في هذا الانحطاط الحاضر، بل بالأحرى يطلب له جناحين ينطلق بهما إلى الأماكن العلوية، مكتشفًا نور الصالحات غير المحدودة[51]].

ب. ترتبط البكرات بالأرض، فالمركبة النارية ترتبط بنا نحن البشر، لكي تحملنا من تراب هذا العالم إلى الحياة النارية السماوية.

إنها مركبة الله الذي قيل عنه إن طريقه في القدس وطريقه في البحر (مز 77: 13، 19)، إله السماء والأرض معًا؛ كل المسكونة تمجده.

ج. ارتباط البكرات بالأرض يؤكد أن الله هو ضابط التاريخ وصانعه، هو العامل في كل العصور... تبقى عجلة محبته ورعايته لبنى البشر تدور بلا توقف... حتى ولو لم يفهم الإنسان أسرارها وحكمتها!

د. أما منظرها فشبه منظر الزبرجد، وهو نوع من الحجارة الكريمة الشديدة الصلابة ذات اللون الأخضر الفاتح، وهو الحجر العاشر على صدرية رئيس الكهنة (خر 28: 20) التي بها يدخل مقدسات الله. وكأن الله يهب للنفس صلابة وقوة لمجابهة كل حروب الشيطان، اللون الاخضر الفاتح يشير إلى ما تقدمه في حياة الإنسان من ثمار إذ تجعل قلبه فردوسًا مفرحًا، أما وجوده على صدر رئيس الكهنة إنما يكشف عن عمل الكلمة فينا إذ تجعل أسماءنا منقوشة على صدر السيد المسيح أسقف نفوسنا الذي هو في حضن أبيه يشفع فينا، بالدم ليدخل بنا إلى حضن أبيه. أخيرًا فإن هذا الحجر هو أحد الحجارة التي تزين أساسات أسوار أورشليم الجديدة (رؤ 21: 20)... وكأن كلمة الله هي سر زينة العروس التي تتمتع بالدخول إلى حجال العريس إلى الأبد!

إذن كلمة الله هي الحجر الكريم الكثير الثمن الذي ينبغى أن يقتنية الكاهن والراهب والشعب كسرّ غلبة ونصرة واتحاد مع السيد المسيح ودخول إلى الحياة السماوية. لهذا حينما كتب الأب أغناطيوس بريانشانينوف كتابه "حلبة الاستشهاد" مقدمًا منهجًا للحياة الرهبانية عن آباء الكنيسة، بدأه بتوجيه أنظارالرهبان إلى الكتاب المقدس والوصايا الإنجيلية، قائلاً: [دعا الرهبان القدامى القديسون الحياة الرهبانية بالحياة حسب وصايا الإنجيل]، فُيعّرِف القديس يوحنا الدرجي الراهب هكذا: الراهب هو ذاك الذي تقوده وصايا الله وكلمة الله في كل وقت وفي كل موضع وفي كل أمر. كان الرهبان الخاضعون للقديس باخوميوس الكبير يلتزمون بتعلُّم الإنجيل عن ظهر قلب لكي تكون شريعة الإله المتأنس أشبه بكتاب مفتوح على الدوام في الذاكرة تراها عينا النفس دائمًا، مطبوعة على النفس لكي يتمموها بطريقة سهلة وبلا فشل. يقول الطوباوى الشيخ سيرافيم من صاروف: [يلزمنا أن ندرب أنفسنا لكي يكون الذهن سابحًا في شريعة الرب التي ترشد حياتنا وتحكمها[52]].

هـ. "أطُرها ملآنة عيونًا حواليها للأربع" [18]. الإنسان الروحي يحمل روح التمييز والحكمة، مملوء عيونًا...

هذه الأطر عالية ومخيفة [18]، يتسم الإنسان الروحي بالسمو الروحي فيُحسب في عينى السماء عاليًا ومكرمًا... إنه عالٍ لا يقدر عدو الخير أن يقتنصه، ومخيف لأن روح الله الذي فيه أعظم من كل طاقات شيطانية.

4. المقبب:

"وعلى رؤوس المخلوقات الحية شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشرًا على رؤوسها من فوق" [22].

لقد رأى على رؤوس هذه الخليقة الحية السماوية شبه جلد السماء (مقبب) على شكل قبة. هكذا حينما يتقدم المؤمن بكل طاقاته الجسدية والفكرية والنفسية والروحية كآلات برّ مقدسة للرب، تتحول حياته إلى شبه قبة سماوية تظلل قلبه الداخلي.

في هذا يقول القديس يوحنا سابا: [هوذا السماء داخلك إن كنت طاهرًا والملائكة فيها تنظرهم مشرقين]، [مملكة طاهر النفس داخل قلبه، والشمس التي تشرق فيها هي نور الثالوث القدوس، وهواء نسيمها هو الروح القدس المعزي، والسكان معه هم طبائع الأطهار الروحانية، وحياتهم وفرحهم وبهجتهم هو المسيح ضياء الآب[53]].

أما كون المقبب له منظر كالبلور الهائل المنتشر، ذلك لأن طبيعة البلور يعكس المنظر الذي أمامه في داخله كأنه مرآة، هكذا ينعكس في داخل المؤمن منظر الرب المحمول فوق المقبب. بمعنى أن النفس وقد صارت سماء للرب ومقدسًا له إنما صارت كالبلور الذي يحمل صورته ويعكس سماته فيها. هذا المنظر يذكرنا بما رآه القديس يوحنا: "وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور" (رؤ 4: 6) ويرى الأسقف فيكتوريانوس أن هذا البحر إنما يشير إلى المعمودية، فكل من يرغب في الالتقاء بالجالس على العرش يلزمه أن يخوض هذا البحر فتخترق نعمة الله نفسه وتتهيأ للملكوت. أما كونه شبه البلور، فلأنه يليق بالمعمدين أن يكونوا ثابتين وأقوياء.

إذ تنعكس إشاعات الجالس على العرش، شمس البر، على البحر البلوري تظهر ألوان الطيف واضحة على المخلوقات الحية، أي تظهر مواهب الله وعطاياه المتعددة والمتنوعة في حياة المؤمنين.

5. العرش والجالس عليه:

"وفوق المقبب الذي على رؤوسها شبه عرش كمنظر حجر العقيق الأزرق وعلى شبه العرش

كمنظر إنسان عليه من فوق. ورأيت مثل منظر النحاس اللامع كمنظر نار داخله من حوله

من منظر حقويه إلى فوق، ومن منظر حقوية إلى تحت رأيت مثل نار ولها لمعان من حولها"

[26-27].

إذ تحولت حياة المؤمن إلى قبة سماوية، انعكست عليها الألوان المختلفة خلال شبه البلور، فيظهر عليها عرش الله وفي داخلها، يظهر كلمة الله المتجسد ملكًا متربعًا على القلب. إنه كمنظر إنسان وفي نفس الوقت كمنظر النحاس اللامع، من حقوية إلى أعلى متقد نارًا، ومن حقوية إلى أسفل مملوء لمعانًا. هكذا يظهر الرب لنا بالنار المتقدة التي تحرق كل شر فينا، وبالبهاء الذي يسكبه على أعماقنا الداخلية فتنفتح بصيرتنا الداخلية وتمتلئ مجدًا. إنه يقترب إلينا لأجل مصالحتنا، فيحرق فينا أعمال الإنسان القديم ويملأنا بهاء بالإنسان الجديد!

رأى القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات سر التجسد الإلهي معلنًا من خلال هذه الرؤيا فقال: [إن هذه المركبة الحاملة لله هي القديسة مريم العذراء التي ظللها الروح القدس

فصارت ممجدة ومملوءة بالفضائل[54]].

6. قوس قزح:

حيث يظهر العرش الإلهي نرى قوس قزح حوله (رؤ 4: 3)، ذلك لأن مجد الله ليس جبروتًا وعظمة فحسب إنما هو أيضًا حب بلا حدود. قوس قزح علامة الحب التي قدمها الله حين أقام عهدًا مع نوح بعد الطوفان (تك 9) ويبقى الله كمحب للبشرية يقدم لنا كل حب خلال عهده معنا. هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسانات الله وعطاياه المتعددة لنا. وهو كقوس يشير إلى القوس الذي كان مستخدمًا في الحروب، وكأن الله يدافع عنا بقوسه لكن بدون سهم لأنه غير محب لسفك الدماء، به نغلب الخطيئة وندوس على الشيطان.

يرى العلامة أوريجينوس[55] أن وجود الوجوه الأربعة معًا (الأسد والنسر والبقر والإنسان) إشارة إلى عودة المخلوقات الحية المقدسة إلى طبيعتها الأولى المستأنسة، فإن كان في العصر المسياني قد سكن الذئب مع الخروف، وربض النمر مع الجدى وصار الأسد يأكل تبنًا كالبقر (إش 11: 6)، فإنه يتحقق هذا التناغم الكامل في مجيء المسيح الأخير حيث يُصير الكل واحدًا فيه، ينعمون بالوحدة والسلام معًا فيه، حيث نوجد في السماء عينهما مع كل الخليقة السماوية.

أخيرًا نود أن نذكر ما قاله الأب نوفانيوس Novation من رجال القرن الثالث عن هذه الرؤيا، إذ رأى في المركبة النارية رمزًا لرعاية الله وعنايته، هذا الذي يتنازل من أجل الإنسان[56]، ففي رأيه المركبة هي العالم وما يضمه من كواكب بحركاتها المنتظمة. وقال إن الله يحكم العالم مستخدمًا الملائكة الذين رُمز إليهم بالمخلوقات الحية. أما البكرات فهي حركة الفصول والأيام، والأقدام تشير إلى حركة الزمن. العيون التي للبكرات هي عناية الله التي لا يخفي عنها شيء. والنار تشير إلى القوة الحيوية التي تنعش العالم، أو الحرارة التي بدونها يقف العالم في سكون. أما الحقوان اللذان يضبطان المخلوق الحي فهما الناموس الطبيعي[57].

 


 

من وحي حزقيال 1

أرني سمواتك!

v   مشتاق أن أرى سمواتك!

أعلنت مركبتك السماوية لحزقيال نبيك،

وفتحت بابًا في السماء ليوحنا تلميذك،

وأنا أشتاق أن أرى سمواتك!

أريد أن أعرف: أين أستقر، يا حبيب نفسي؟!

v   وسط المرارة في أرض السبي كشفت لنبيك مركبتك،

فأدرك أنك صانع التاريخ وضابطه!

اكشف لي عن أسرارك، فأطمئن أني محمول على ذراعيك!

v   رآك حزقيال وسط الريح والسحابة والنار،

ليهب روحك القدوس على نفسي فأتنسم ريحًا سماويًا،

لترفعني كما على السحابة فلا تقتنصني الحية،

وليلهب روحك القدوس قلبي بنار حبك!

v   مركبتك عجيبة للغاية، مركبة شاروبيمية،

لها أوجه مثل وجه الإنسان والأسد والثور والنسر.

احسبني مركبة وعرشًا تتربع في داخلي!

قدِّس كل ما في:

مشاعر قلبي كإنسان الله،

قوة نفسي كأسد فلا أخاف،

عطاياي وتقدماتي كثور ذبيحة محرقة لك،

فكري وتأملاتي فأطير كالنسر في السمويات!

v   هب لي مع الشاروبيم ستة أجنحة:

هب لي اتضاعًا ورجاءً كجناحين أستر بهما رجلَّي كما من الخطية!

هب لي بصيرة ومحبة كجناحين، فأنظر بهاء مجدك!

هب لي اعلاناتك ونعمتك كجناحين أطير بهما إلى أحضانك!

v   هب لي مع المخلوقات الحية عيونًا من الداخل والخارج!

هب لي حكمة سماوية لأحيا على الأرض وفي السمويات!

أرى سمواتك فأشتاق إلى الرحيل إليك!

أرى نور وجهك فأستنير بك وأصير نورًا!

v   هب لي عيونًا من كل جانب، فأصير كلي وجهًا،

ولا يكون لي قفا قط،

في كل اتجاه أتحرك فلا أعطيك القفا بل الوجه.

v   ما أعجب هاتين البكرتين في مركبتك السماوية،

يحركهما الروح بلا توقف!

ما أعجب العهدين: القديم والجديد،

بروحك القدوس أتمتع بأسرارهما فأتحرك نحو السماء دومًا!

أطرهما مرتفعة من الأرض إلى السماء...

لترفعني كلمتك في العهدين لكي لا أبقى بعد في التراب!

v   ما أجملك أيها الجالس على العرش،

ما أعجب قوس قزح حولك!

أرني ذاتك... أريد أن أتمتع بك!

هب لي إيمانًا ثابتًا في وعودك الثمينة وعهدك الأبدي.

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني

الدعوة للخدمة

إذ رأي حزقيال النبي المركبة النارية، شبه مجد الرب (1: 28)، خرَّ علي وجهه علامة العجز التَّام عن اللقاء مع الله، لكن الله دعاه للخدمة مقدمًا له إمكانيات العمل وشروطه:

حينما يدعونا الله للعمل يتكفل بتأهيلنا لتحقيق المهمة، وكما يقول القديس أغسطينوس إن أوامر الله هي التي تمّكن الإنسان من القيام بعمل الله. ففي ثقة يقول خادم الله: "أنا ملآن قوة روح الرب" (مي 3: 8) فإن الله لا يُرسل أحدًا علي نفقة نفسه قط أو ليحقق رسالة الرب بقدرته الخاصة، بل يهبه كل امكانيات النجاح[58].

1. التمتع بخبرة القيامة                [1].

2. العمل بروح الله                      [2].

3. الشعور بالوكالة                     [3-5].

4. الخدمة الشجاعة                     [6-7]. 

5. الاهتمام بحياته الخاصة           [8].

6. التمتع بخبرة كلمة الله               [9-10].

1. التمتع بخبرة القيامة:

إذ شاهد النبي المركبة النارية خرَّ علي وجهه في عجز تام وكأنه قد بلغ الموت، لهذا أمره الرب: "يا ابن آدم قم علي قدميك فأتكلم معك" [1]. فإنه لايمكن الحديث مع من بلغ الموت إنما يليق به أولاً أن يقوم فيتمتع بالاستماع لصوت الرب. إن كانت رسالة خدام الله الدخول بالنفوس الميتة بالخطايا إلي الحياة المقامة، فإنه بالأولي يليق بالخدام أنفسهم أن يختبروا القيامة في داخلهم. هذا ما حدث مع شاول الطرسوسي الذي كان يظن أنه قادر بنفسه وغيرته البشرية وتربيته الناموسية وإمكانياته الشخصية ومواهبه أن يخدم الله، لكنه إذ التقي بالسيد المسيح سقط علي الأرض كميت وأدرك أنه لا شيء... فسمع الصوت الإلهي: "قم وقف علي رجليك لإني ظهرت لك لأنتخبك خادمًا وشاهدًا بما رأيت وبما سأظهر لك به" (أع 26: 16) فقام وتمتع بالحياة الجديدة المقامة، لهذا كان يبشر الأمم "بيسوع والقيامة" (أع 17: 18) هذه هي رسالة التلاميذ والرسل إنه "بقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع" (أع 4: 33).

هذا والأمر الصادر للنبي أن يقوم ويقف علي قدميه يحمل إشارة إلي ضرورة العمل بلا توقف، فإن الله لا يعمل في المتراخين بل في الدائمي الجهاد. فإننا بالعمل الدائم نحمل سمة إلهية كقول السيد نفسه: "أبي يعمل حتي الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17).

لقد صدر إليه الأمر أن يقف علي قدميه، علي أهبة الاستعداد، ليحقق رسالة مقدسة خطيرة. لقد حُرم من العمل الكهنوتي بسبب السبي، لكن الله يدعوه للعمل النبوي، ليقدم الإرادة الإلهية لشعب متمرد. ليقف في مهابة أمام الله، مصغيًا إلي صوته بكل انتباه ليحقق مشيئته.

2. العمل بروح الله:

إن كان الأمر قد صدر بالقيام، لكن كيف تستطيع الجبلة الساقطة أن تقوم؟! إنها في حاجة إلي روح الله نفسه واهب الحياة، هذا الذي يهبنا الاتحاد مع المسيح يسوع القائم من الأموات فنختبر قوة قيامته فينا.

يصف حزقيال النبي قيامته هكذا: "فدخل فيَّ لما تكلم معي وأقامني علي قدميَّ فسمعت المتكلم معي" [2]. وكأنه ما كان يمكنه أن يسمع الصوت الإلهي المتكلم معه ولا أن يدخل معه في حديث الحب إلا بدخول الروح القدس إلي حياته. بهذا يتفهم الكلمات الإلهية، ويختبر العمل الإلهي، ويقدر أن يكرز ويبشر بقوة الروح!

بدأ حزقيال النبي خدمته بانفتاح السماء أمامه ليري المركبة الإلهية المرهبة، فسقط في رعدة، واحتاج إلي روح الله لكي يقيمه فيمشي علي قدميه. أما السيد المسيح فبدأ خدمته بانفتاح السماء، ليدرك الحاضرون أنه الابن الوحيد المحبوب من الآب، ويعاينون روح الله القدوس حالاً عليه علي شكل حمامة. إنه يفتح السماء لكي يهب مؤمنيه البنوة لله فيجدوا موضعًا في حضن الآب، وينالوا روح التبني. حزقيال النبي ارتعب لأنه خلال المركبة السماوية يتسلم النبوة عن التأديبات الإلهية، أما السيد المسيح فتهلل لأنه يعلن بعماده غفران الخطايا وتمتع مؤمنين بالعهد الجديد في استحقاقات دمه الثمين.

3. الشعور بالوكالة:

إن كان عمل الروح القدس في حياة المؤمنين بصفة عامة هو الدخول بهم إلي قيامة السيد المسيح لتصير لهم في المعمودية الحياة الجديدة علي صورة خالقهم، فإن الروح ذاته يعمل في خدام الكنيسة، لينزلوا إلي حيث يرقد الناس في موت الخطيئة، وينطلقوا بهم إلي البشارة المفرحة بقيامتهم مع المسيح وتمتعهم بالحياة المقامة. هذا هو عمل الخادم... إنه عمل فوق كل طاقة بشرية، هو عمل الله نفسه وما الخادم إلا وكيل سرائر الله. هذا ما أكده الرب، قائلاً: "يا ابن آدم أنا مرسلك إلي بني إسرائيل إلي أمة متمردة قد تمردت عليَّ. هم وأباؤهم عصوا عليَّ إلي ذات هذا اليوم. والبنون قساة الوجوه والصّلاب القلوب أنا مرسلك إليهم" [3-4].

كأن الله يؤكد له صعوبة العمل، إن الأمر يحتاج إلي نزول إلي أناس متمردين قساة الوجوه وصلاب القلوب أبًا عن جد، فمن الذي ينطلق بهم إلي الطاعة عوض التمرد واللطف عوض القسوة وانفتاح القلب عوض صلابته وانغلاقه؟! إنه عمل الله نفسه، لهذا يؤكد أكثر من مرة "أنا مرسلك إليهم". إنها رسالتي وليست رسالتك، أن أعمل في القلب في الداخل، أخلقه من جديد وأهبه حياة!

هذا ما أدركه كل العاملين بأمانة في كرم الرب، فيقول الرسول بولس: "هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح ووكلاء سرائر الله" (1 كو 4: 1) أدرك أنه مجرد وكيل يتكلم ويعمل لا بأسمه الخاص بل باسم موكله. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذا القول هكذا: [يقوم الوكيل بإدارة أمور موكله حسنًا دون أن ينسب لنفسه ما لموكله، بل علي العكس ينسب ما لديه لسيده... أتريد مثالاً لوكلاء مؤمنين؟ اسمع ما يقوله بطرس: لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟! (أع 3: 12). وعند كرنيليوس أيضا قال: "قم أنا أيضًا إنسان"... وبولس لا يقل عنه أمانة في قوله: "أنا تعبت أكثر من جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10)... وعندما قاوم الرسول أولئك الأشخاص غير الأمناء قال: "وأي شيء لك لم تأخذه؟!" (1 كو 4: 7)[59]].

الخادم كوكيل يعمل لحساب موكله لا لحساب نفسه لهذا كان القديس يوحنا الذهبي الفم دائم الحذر من محبة المجد الباطل والمديح، لئلا يكون مغتصبًا لحق الله نفسه. في هذا يقول: "بالتأكيد سيديننا سر الكهنوت إن لم نحسن استخدامه"، كما يقول: [من يدخل عمل التبشير وبه رغبات كهذه (حب المديح) أي آلام وشدائد تلاحقه؟ إنه من الأسهل أن يكون البحر بلا أمواج عن أن يكون مثل هذا الشخص بلا متاعب أو أحزان[60]]. لقد خاف القديس علي نفسه كبطريرك للقسطنطينية فقال: [إني أسكب الدموع عندما أري نفسي علي كرسي فوق كراسي الآخرين، وعندما يقدم لي احترام أكثر من غيري].

ليس من عمل سفراء المسيح أن يقدموا عبارات بشرية فصيحة، ولا أن يستعرضوا انجازاتهم ويمجدوا مجهوداتهم الشخصية، بل أن ينادوا بكلمة الرب نفسه، ويدعوا إلي التوبة بروح الوداعة والاتضاع. كلمة الرب قوية وقادرة لأنه "حيث تكون كلمة الملك هناك يكون السلطان" (جا 8: 4) والله هو ملك الملوك، كلمته لن ترجع فارغة بلا ثمر (إش 55: 11)

 الشعور بالوكالة يعطي الخادم قوة فلا يهاب العمل مهما كان صعبًا أو بدا مستحيلاً، يعمل متكئًا علي صدر الموكل مهما تكن النتائج، إذ يسمع الصوت الإلهي: "أنا مرسلك إليهم... وهم إن سمعوا وإن امتنعوا، لأنهم بيت متمرد فإنهم يعلمون أن نبيًا كان بينهم" [5]. هذا لا يعني أن الله لا يعلم إن كانوا يسمعون أو يعصون لكنه ينطق هكذا حتي يترك لهم حرية الطاعة أو العصيان فلا يكون لهم حجة أنه حكم عليهم بالعصيان مقدمًا. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم ينطق بهذا عن جهل إنما لئلا يقول أحد المعاندين إن نبوته ألزمتهم بالعصيان[61]].

4. الخدمة بشجاعة:

"أما أنت يا ابن آدم فلا تخف منهم، ومن كلامهم لا تخف لأنهم قريس (عوسج)

وسلاء (أشواك) لديك، وأنت ساكن بين العقارب. لا تخف من كلامهم ولا تخف

من وجوههم.

لا ترتعب لأنهم بيت متمرد" [6].

الرسالة الإلهية ليست سهلة، إذ يعمل الخادم كأنه في وسط العوسج ومحاط بالأشواك هذه التي تفسد فلاحة الله، وكمن يسكن بين العقارب يتعرض للدغات خفية. لكنه يلزم ألا يخاف الناس ولا يرتبك من كلامهم ولا من وجوههم، بل كما سبق فأوصي الله يشوع بن نون هكذا:

"تشدد وتشجع، لا ترهب، ولا ترتعب،

 لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" (يش 1: 9).

بل حذر الله إرميا النبي من الخوف، إذ يقول له: "قم وكلمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم. هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس علي كل الأرض... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لإني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 17-19). كأن الله يهدد خادمه إن ارتعب ليس فقط لا يحميه إنما يقوم هو بارهابه، لأنه لا يعمل في القلب غير المتكئ عليه.

لقد قدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مثلاً رائعًا للأب المملوء حنانًا حتي إنه كان يحب شعبه أكثر من نور عينيه، إن سقط أحد أولاده في خطيئة يشعر في نفسه كأنه في خطر عظيم كمن هو في سجن مظلم أو كمن حكم عليه بعشرة آلاف جلدة أو حبس في هوة عميقة، لهذا كان يصرخ في أولاده قائلاً: [لم أعد بعد أحتمل أكثر من هذا! ابسطوا أيديكم نحوي وانقذوني[62] ومع هذا كان صريحًا شجاعًا يتحدث بجرأة وقوة بلا خوف، إذ يقول: [إني مستعد أن احتمل كل شيء. من يصر علي تصرفاته ولا يسمع لتحذيري أمنعه من دخول الكنيسة كما بصوت بوق حتي وإن كان أميرًا أو إمبراطورًا، كيف أجلس علي هذا الكرسي إن لم أفعل ما يليق به؟! خير لي أن أنزل عنه لأنه ليس شيء أمرّ من وجود أسقف لا يفيد شعبه[63]].

لقد دعي الله الشعب المتمرد بالعوسج والأشواك والعقارب لا لييأس منهم الخادم أو يزدري بهم، لكن ليعرف صعوبة العمل ويتهيأ له، فيقول مع أيوب البار: "صرت أخًا للذئاب وصاحبًا لرئال النعام" (30: 29)، متذكرًا كلمات الرسول: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولادًا لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم" (في 2: 15)

قد يعترض البعض قائلاً: لماذا دعاهم الرب هكذا؟ فيجيب القديس أكليمنضس الاسكندري: [هذا برهان عظيم جدًا علي محبته، فبالرغم من معرفته تمامًا حال العار الذي بلغه الشعب حتي طرده واقتلعه (من أورشليم) فهو يحثه علي التوبة[64]].

يتحدث الله بكل صراحة مع خدامه، مُعلنًا لهم صعوبة رسالتهم، فإنهم في كل جيل يجدون المقاومين للحق؛ وعليهم أن يستعدوا لاحتمال الآلم والاضطهاد، مدركين أن الله يهبهم نعمة ليقووا علي مواجهة التيارات المضادة، ليعلم الخادم أن طريق الخدمة ليس مفروشًا بالورود، بل هو طريق الصليب الضيق، والذي ينتهي حتمًا ببهجة القيامة. إلهنا لم يخدعنا، لكنه يكشف لنا في وضوح صعوبة الطريق وكربه.

يقول الله: "وتتكلم معهم بكلامي إن سمعوا وإن امتنعوا لأنهم متمردون" [7] وكأن رسالته تنصب في تقديم كلمة الله كما هي؛ قد يسمعوا فيتوبوا، وقد يمتنعوا عن الاستجابة للصوت الإلهي... فليكن. فإن نجاح الخادم يكمن في أمانته في تقديم كلمة الرب كما هي، أي أمينًا في الوديعة الإلهية.

5. الاهتمام بحياته الخاصة:

مع أن الله اختاره للعمل النبوي وهو يعلم قلبه وجهاده لكنه يحذره، قائلاً: "لاتكن متمردًا كالبيت المتمرد" [8]. لقد خشي عليه لئلا وهو يكرز للشعب بالطاعة يسقط هو معهم في التمرد بدلا من أن يقيمهم. وكأن الله أراد أن يؤكد لخادمه ألا ينسي خلاص نفسه وحياته الروحية أثناء خدمته، لأن كثيرين فقدوا سلامهم وخلاصهم أثناء غيرتهم البشرية وتعبهم في الخدمة. لهذا السبب يقول الرسول بولس: "أقمع جسدي وأستعبده حتي بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27). هذا ما دفع القديس يوحنا الذهبي الفم وقد ذاب قلبه حبًا من أجل الخدمة أن يكون يقظًا لا من أجل خلاص إخوته فحسب وإنما لأجل خلاص نفسه أيضًا، إذ يقول: [إن كلامي أكثر فائدة لحياتي من الذين يسمعونني[65] كما يقول: [إني أعرف خطورة هذه الوظيفة وصعوبة عملها والزوابع الشديدة التي تجتاح نفس الكاهن فإنها أقسي من الزوابع التي للبحر اضطرابًا[66]].

6. التمتع بخبرة كلمة الله:

"افتح فمك وكلّ ما أنا معطيكه. فنظرت وإذا بيد ممدودة إليَّ

وإذا بدرج سفر فيها، فنشره أمامي وهو مكتوب من داخل

 ومن قفاه وكُتب فيه مراث ونحيب[67] وويل" [8-10].

موضوع عمله هو "كلمة الله" التي ينبغي علي الخادم أن يأكلها فتشبع بها أعماقه الداخلية، وتكون موضوع تفكيره المستمر، بل ويختفي فيها، فلا يقدم شيئًا من ذاته بل يقدم ما هو لله.

أكل الكلمة يعني دخولها إلي أعماقه، تتحول في حياته إلي دم يسري في عروقه. وكأنه يمتزج بها، ويحسبها حياته! يأكلها ويعيش بها ليقدمها للآخرين بتقديم حياته الإنجيلية رسالة مقروءة من جميع الناس.

 لقد اعتاد القديس يوحنا الذهبي الفم أن يقدم من مائدة الكتاب المقدس لشعبه غالبًا كل يوم، معطيًا اهتمامًا خاصًا بالكلمة الإنجيلية الرسولية، ففي إحدي عظاته يقول:

[قد سمعتم الصوت الرسولي!

 إنه بوق سماوي! هو قيثارة الروح!

 نعم. إن قراءة الكتب المقدسة هي روضة،

 بلي، هي فردوس أيضًا لا يقدم زهورًا عطرة فحسب، بل وثمارًا تقدر أن تقوت النفس!...

نحن نشبه أناسًا يصهرون ذهبًا مستخرجًا من المناجم الرسولية لا بإلقائه في فرن، بل بإيداعه في أذهان نفوسكم، لا بإشعال نار أرضية بل بالتهاب الروح.

فلنجمع منه أجزاء صغيرة بجد واجتهاد... فإن اللآلي لا تُقيَّم حسب حجمها بل بجمال طبيعتها[68]].

لقد تسلم كتابًا مكتوبًا من الخارج ومن الداخل، ربما قصد أن كلمة الله معلنة من الخارج بالحروف علي ورق لكن يحتاج الأمر إلي عمل الروح القدس الذي يكشف في القلب الكتابة التي في الداخل، أي المفهوم العميق الداخلي. وربما أيضا قصد أن هذا الكتاب يحوي من الخارج خطايا الشعب ومعاصيهم بينما في الداخل يحمل تأديبات الله لتوبتهم.

أما الكتابة فكما جاء في الترجمة السبعينية: "مراث وتسبحة وويل" [10] وفيما يلي بعض تعليقات الآباء علي هذه العبارة:

v   الكتاب كله مملوء ويلاً علي الهالكين، وتسبحة من أجل المخلصين، ومراث علي الذين بين الاثنين (أي الذين في طريق التوبة).

العلامة أوريجانوس[69]

 

v جاء فيه أمران محزنان وواحد مفرح، فإن من يبكي في هذا الزمن كثيرًا يخلص في المستقبل، لأن "قلب الحكماء في بيت النوح وقلب الجهال في بيت الفرح" (جا 7: 4) وكما يقول الرب نفسه: "طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو 6: 21).

القديس أمبروسيوس[70]

v    كتب فيه مراث وتسبحة وويل. أولي هذه الثلاث تخصك إن كنت كخاطئ تتوب عن خطاياك، والثانية تخص القديسين الذين يدعون للترنم مسبحين الله، لأن التسبيح لا يكون في فم الخطاه، والثالثة تخص الذين هم في يأس مثلك وقد أسلموا أنفسهم للنجاسة والزنا والنهم والشهوات الدنيئة، أناس يظنون أن الموت هو نهاية كل شيء، وأنه ليس بعد الموت شيء آخر، الذين يقولون: "السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا" (إش 28: 15).

الكتاب الذي يأكله النبي هو كل مجموعة الكتب المقدسة التي تجعل التائب ينتحب والبار يكرم ويعطي ويلاً لليائس.

القديس جيروم[71]


 

من وحي حزقيال 2

مشتاق أن أعمل في كرمك ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

v   كشفت عن سمواتك لحزقيال نبيك فاشتاق أن يخدمك،

اكشف لي عنها فأعمل بجدية في كرمك.

سمواتك مفرحة ومبهجة،

العمل معك صليب ثقيل، لكنه مفرح ومبهج للغاية‍‍‍

ما أعزب العمل معك،

فإنك تعلن ذاتك للعاملين بك ومعك.

v   أرسلت نبيك إلي شعب عنيد جدًا،

لكن روحك أقامه لكي يقيم كثيرين،

هب لي روح القيامة فلا أخاف الموت

لقد دب الموت فيّ وفي إخوتي،

لكنك أنت هو القيامة بعينها

أرسلته إلي شعب عنيد،

وخشيت لئلا يتسرب العناد إليه.

احفظني لئلا في خدمتي أضعف وأسقط

احفظني بنعمتك واحفظ شعبك.

v   ماذا أقدم لإخوتي:

ها أنا أفتح فمي لتمد يدك بالسفر،

آكلُه واستعذبه يا عذوبة نفسي

ما هذه اليد الممتدة إلا تجسدك وتأنسك،

أعطيتني جسدك أيها الكلمة لأتناوله.

v   كلمتك فيها عذوبة ومرارة:

اجعلها عذبة بنعمتك، إذ اقتني وعودك الالهية.

هب لي أن أقبل تاديباتك مرارة وقتية لاصلاح نفسي وبنيانها أبديًا.

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

عمل كلمة الله

يرى البعض أن حزقيال النبي فتح فمه وتقبل من يدَّيْ الله الكتاب المقدس ليأكله، لكنه أبقاه في فمه، لهذا طلب منه الله مرة ثانية أن يأكل السفر ويبتلعه، كى يدخل إلى أعماقه، فيشبع وتمتلىء، عندئذ يدرك مسئوليته كرقيب ينذر ويرشد، يعمل تحت قيادة روح الله، يعرف متى يتكلم ومتى يصمت.

1. عذوبة كلمة الله                      [1-3].

2. صعوبة العمل                      [4-14].

3. مسئوليته كرقيب                     [15-21].

4. الحاجة للخلوة قبل العمل           [22-23].

5. للصمت وقت وللكلام وقت         [24-27].

1. عذوبة كلمة الله:

صدر الأمر لحزقيال النبي أن يأكل السفر (كلمة الله)، كما صدر للقديس يوحنا الحبيب (رؤ 10: 9) يقول إرميا: "وجدت كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (15: 16) ويقول السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4). كلمة الله طعام شهي، يهب حياة وفرحًا وبهجة داخلية، نقتدي نعتذى به فنحمله في أعماقنا. هو حلو، وإن كان يحمل مرارة بسبب تأديبات الله التي لخلاصنا.

إذ تقبل حزقيال النبي من يدي الله كلمته كدرج مفتوح قرأ ما بداخله وما بخارجه فوجده يحوي مراث وويلا مع تسابيح، ففتح فمه لكي يطعمه الله بيده فتشبع أعماقه، وإذا به يجده في فمه كالعسل حلاوة.

ما أعجب حب الله، فإنه يتعامل معنا كمربية أو كأم حنون، يمد يده ليطعمنا نحن الرضع المحبوبين لديه. نرتمى على صدره كالرضيع على صدر أمه، فنجد وصيته لبنًا نقيًا يصدر من ثدييه (العهدين) وكعسل النحل والشهد. وصيته صالحة للصغار والكبار الناضجين.

وصية الله صعبة وثقيلة على الإنسان الطبيعي، بل أحيانًا يراها البعض كأنها قيد على الحرية الإنسانية، لكن متى امتدت يد الله لتقدمها لنا في داخلنا نجدها حلوة كالعسل. ما هي هذه اليد الممدودة (1: 9) التي نظرها حزقيال إلا ابن الله الذي يُدعى "ذراع الرب" وقد صارت منظورة خلال التجسد الإلهي. هذا الذي قدم لنا الوصية الإلهية ليس خلال الأوامر والنواهي، بل خلال الحب العملي المتبادل بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه، مقدمًا نفسه مثالا ومعينًا، إذ يقول: "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم. أنتم أحبائي... لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده لكنني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 14: 12-15) بهذا صارت الوصية الإلهية ليست أمرًا نلتزم بطاعته بل انفتاح بصيرتنا الداخلية بالحب لإدراك إرادة محبوبنا، فنطيعه كأحباء تلتقى إرادتنا بإرادته الإلهية اختياريًا! بهذا يمكننا أن نفهم كلماته: "إحملوا نيرى عليكم وتعلموا مني... لأن نيرى هين (لذيذ) وحملي خفيف" (مت 11: 29-30)، مع أنه سبق فقال: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا... من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني" (مت 10: 34، 38) بالحب يصير الألم عذبًا والصليب مجدًا، والوصية حلوة كالعسل.

كلمة الله أيضًا تحمل إنذارات ضد الساقطين لكي يتوبوا، هذه التي تجعل خادم الكلمة في موقف حرج بل ويتعرض للمتاعب والضيقات، لكنها تقدم في نفس الوقت عذوبة وفرحًا للخادم، إذ يدرك مقاصد الله الخلاصية. حينما كتب الرسول بولس بشدة أحزن أهل كورنثوس، لكنه عاد يوضح لهم أنهم وأن كانوا قد حزنوا لكنه يفرح بهذا الحزن الذي للتوبة فيفرحون هم أيضًا معه، قائلاً: "لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يفرحني إلا الذي أحزنته، وكتبت لكم هذا عينه حتى إذا جئت لا يكون لي حزن من الذين كان يجب أن أفرح بهم، واثقًا بجميعكم أن فرحي هو فرح جميعكم، لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولاسيما من نحوكم" (2 كو 2: 2-4).

2. صعوبة العمل:

لم يرسله الله إلى أمم أجنبية ولا إلى شعب غريب اللهجة، بل أرسله إلى شعبه، إلى الأمة التي عندها شريعة الله. لكن للأسف أمة عاصية، رفضت الاصغاء إلى الشريعة التي تسلمها موسى على جبل سيناء، وبقيت ترفض كلمة الله على ألسنة الأنبياء... حتى جاء الكلمة ذاته فرفضوه.

يعاقبهم الله بطريقة غير مباشرة قائلاً  لحزقيال: "فلو أرسلتك إلى هؤلاء لسمعوا لك" [6]. وبالفعل عندما جاء الكلمة قبلته الأمم الغريبة الجنس.

كانت إرسالية حزقيال صعبة للغاية، "لأن كل بيت إسرائيل صلاب الجباه وقساة القلوب" [7]. هذا هو فعل الخطيئة في حياة الإنسان، تجعل قلبه قاسيًا كالحجر وجبهته صلبة لا يريد أن يسمع الصوت الإلهي بل يقاومه بعنف بلا حياء. لكن الله يهب خدامه قوة، إذ يقول: "هأنذا قد جعلت وجهك صلبًا مثل وجوههم، وجبهتك صلبة مثل جباههم. قد جعلت جبهتك كالماس أصلب من الصوان فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد" [8-9]. إن كان الشر في طبعه عنيفًا لكنه لا يقدر أن يثبت إلى النهاية، فإن الخير يُحطمه، كما يبدد النور الظلمة والحق الباطل، وملكوت الله يبقى إلى الأبد أما مملكة إبليس فإلى حين. هكذا كلما اختفى الخادم في الله كملجأ له لا يقدر عدو الخير أن يثبت أمامه.

إذ قبل حزقيال كلمة الله سمع خلفه صوت رعد عظيم [12]، هي الإمكانيات السماوية العاملة في الخفاء داخل قلبه، ترعد لتحطم الشر الذي قسَّى قلوب الخطاة. لقد سمع صوت أجنحة المخلوقات الحية المتلاصقة. وكأن الخليقة السماوية التي تعمل معًا بروح واحد تسندنا أيضًا بصلواتها عنا. أما صوت البكرات فهو سلطان الكلمة الإنجيلية التي تأسر القلوب وتجتذبها.

مع كل هذه الإمكانيات: الإمكانيات الإلهية السماوية ومساندة السمائيين بجانب فاعلية الكلمة ذاتها، فإن الخدمة مملؤة أتعابًا وآلامًا... يكفي مرارة القلب الداخلي من أجل النفوس المحطمة، إذ يقول النبي: "فحملني الروح وأخذني، فذهبت مُرَّاً في حرارة روحي، ويد الرب كانت شديدة عليَّ" [14]. كأنه يقول المرتل: "الكآبة ملكتنيى من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك" (مز 118).

كان على حزقيال أن يُعلن الرسالة بين الذين عانوا من السبي، ولهم أن يقبلوا كلمة الله إما رائحة حياة لحياة أو رائحة موت لموت. للأسف لم ينتفعوا من السبي، ولا لانت قلوبهم بسبب التأديب، ولا انصتوا إلى كلمة الله وسط غربتهم، بل ازدادوا قسوة وعنادًا ضد الله وانبيائه. لقد أوضح له الله أنهم يرفضون الاستماع له، بل يقاومونه ويضطهدونه... إنها مسئوليتهم لا مسئوليته. أما هو فيلزمه أن ينعم بقوة إلهية تجعله صلدًا كالماس ليواجه قساوتهم [8].

حمله روح الرب من أمام العرش ليأتي به إلى المسبيين لخدمتهم [12-15]، ليدرك أن تحركاته ليست حسب إرادته البشرية، لكن حسب خطة الله... أنه محمول بالروح. جاء فامتلأت نفسه مرارة، وكانت يد الرب شديدة عليه [14] لعل سر مرارة نفسه نبع عن مقارنته بين وقفته أمام العرش الإلهي يشارك السمائيين تسابيحهم، وانتقاله إلى المسبيين وقد حطمت الخطية سلامهم وبهجة قلبهم، تمرر في نفسه قائلاً  مع بطرس الرسول: "جيد يا رب أن نكون ههنا". أنه لا يريد مفارقة العرش الإلهي. ولعله أيضًا تمرر لأنه شعر بحرمان الشعب مما رآه واختبره بمثوله أمام العرش الإلهي!

3. مسئوليته كرقيب:

إذ أكل حزقيال كلمة الله وشبع منها بقى وسط المسبيين سبعة أيام في حيرة، لايعرف ماذا يفعل، فكان صوت الرب له "يا ابن آدم قد جعلتك رقيبًا" [17]. كأن أمرين ضرورين لازمان لإقامة الرقيب: أن يأكل كلمة الله، وأن يعيش سبعة أيام وسط شعبه. أما رقم 7 فيشير إلى الكمال أو كمال أيام الأسبوع، وكأن الرقيب ليس موظفًا يؤدي عملاً بالأجرة، يعمل إلى حين ويستريح، لكنه بالحق إنسان محب يلقي بنفسه وسط شعبه كل أيام عمره لا يعرف الراحة لنفسه. حينما أراد الرسول بولس أن يصف أول قائد للشعب أي موسى النبي قال عنه: "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يُدعى ابن ابنه فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب 11: 24-26) هكذا ألقى موسى بنفسه وسط عار شعبه حاسبًا ذلك أفضل من أن يعيش في راحة القصر الفرعوني، تاركًا كل متعة وقتية من أجل المكافأة الأبدية. هذه هي سمات الرقيب الروحي. إنه يعمل وسط شعبه كخادم لهم، يحمل عارهم ولا يطلب ما لنفسه بل ما هو لراحتهم.

أما دعوته "رقيبًا" فعلامة وجود حرب روحية، في خدمته يغسل أقدام الآخرين ويحارب الشيطان وجنوده.

قديمًا كانت المدن تُقام غالبًا على تلال ويُبنى برج على أسوار المدينة، ويوجد في البرج رقيب يستطيع أن يتتبع تحركات أي عدو قادم نحو المدينة فينذر الشعب عندئذ تُغلق ابواب المدينة ويستعد الجيش للحرب.

أما وصية الله له فهي: "اسمع الكلمة من فمي وأنذرهم من قبلي" [17]. ينبغي كرقيب أن يحمل روح التمييز والإفراز من خلال حفظه كلمة الرب وشركته مع الله، فلا ينذر من عندياته بل بما يسمعه من فم الله، ولا يتكلم باسم نفسه بل باسم الله (من قِبلي). بهذا يقدر أن ينذر بكل قوة بلا خوف ولا مجاملة ولا مداهنة، لئلا تهلك النفوس ويُطلب دمها منه.

لقد أوضح الله لخادمه مدى مسئوليته عن هلاك كل نفس لا يُحذّرها متهاونًا معها، الأمر الذي أرعب خدام الله عبر العصور، لهذا حينما شعر القديس أمبروسيوس بخطأ ارتكبه الإمبراطور ثيؤدوسيوس، أسرع بالكتابة إليه يحذره قائلاً له: [هل أستطيع أن أصمت؟! فإن ضميري يصير مقيدًا، ونطقي ينزع عني، وأصير في أبأس حال يمكن أن أكون عليه!... إن كان الكاهن لا يتكلم مع من يخطئ... يموت الخاطئ في خطيته، ويخضع الكاهن نفسه للعقوبة لأنه لم يحذر من الخطأ[72]]. مرة أخرى يكتب إليه هكذا: [أتوسل إليك أن تصغي إلى ما أقوله بطول أناة. فلو أنني لا أستحق أن تسمع لي أكون أيضًا غير مستحق أن أقدم تقدمات عنك، أنت الذي وثقت في بنذورك وصلواتك... ليس من جانب الإمبراطور أن يرفض حرية الكلام، ولا من جانب الكاهن ألا ينطق بما يفكر فيه[73]].

لقد قدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مثلاً رائعًا لاهتمام الرقيب لا بالجماعة ككل بل بكل نفس كما لو كانت الجماعة كلها، إذ يقول: [كل واحد منكم - في عينيَّ - يساوي المدينة كلها[74]].

مرة أخرى يقول: [لا يقل لي أحد إن كثيرين قد نفذوا الوصية، فإنني لا أبتغي هذا، بل أريد الكل أن يفعلوا هكذا. فإنني لا أستطيع أن التقط أنفاسي حتى أرى ذلك قد تحقق! فإنه إن كان واحد قد ارتكب الزنا بين أهل كورنثوس لكن بولس كان يتنهد كما لو أن المدينة كلها ضاعت[75]].

لقد شعر القديس بولس بمسئوليته كرقيب، فيقول لقسوس الكنيسة التي في أفسس: "لذلك أشهدكم اليوم هذا أني برئ من دم الجميع، لأني لم أؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله... اسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهارًا لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد" (أع 20: 26، 27، 31). وكما يقول الآب قيصريوس أسقف آرل: [من أي دم الرسول برئ؟... دم النفوس طبعًا وليس دم الأجساد[76]]. كما يقول: [يلزمنا أن نخاف لئلا تهلك نفوس الكثيرين بسبب مجاعة كلمة الله الناجمة عن اهمالنا فتطلب من نفوسنا في يوم الدينونة[77]].

4. خلوة قبل العمل:

إذ يسلك كرقيب أمره الرب ألا يتسرع في بدء العمل بل يخرج إلى البقعة ليتكلم معه [22]، وهناك أراه مجده السماوي مرة أخرى كما رأى عند نهر خابور. فإن نجاح الرسالة لا يقوم على كثرة العمل بل على نوعية الخادم، أنه ملزم بالتقديس خلال خلوته مع الله، ليرفع قلبه إلى الأمجاد الإلهية فيقدم للشعب في حياته "قوة الحياة السماوية".

إن الخروج إلى البقعة لمعاينة مجد الرب أمر ضروري لكل خادم، لهذا بعد أن دُعي الرسول بولس للخدمة التزم بالاقامة ثلاث سنوات في البرية في خلوة طويلة مع الله ليتهيأ للعمل الرسولي. ويتحدث القديس أغسطينوس عن التزام الخدام بالخلوة الروحية دون أن تعوق الخلوة العمل ولا العمل حياة الخلوة، إذ يقول: [الذين قد أنيط بهم أعمال الخير ورعاية النفوس ملزمون أن يحملوا للناس شهادة عن الحياة الأخرى (التأمل)، لذلك يجب أن يتفرغوا لدراسة الحق وتأمله والحياة الأبدية. كما أنه ليس من الإنصاف أن تكون حياة التأمل سببًا في إعاقة إنسان للقيام بالمهام الكنسية[78]].

نحتاج لنجاح خدمتنا أن يتجلى الرب في قلوبنا، وأن ننعم بالحضرة الإلهية، ليس مرة واحدة، وإنما من وقت إلى آخر، فننعم برؤى جديدة مستمرة، تكشف عن مجد الله وقوته وإمكانياته... فنتأكد أنه عامل فينا وبنا. هو حاضر دومًا في داخلنًا، يتجلى باستمرار في أعماقنا.

5. للصمت وقت وللكلام وقت :

تكررت الرؤيا وتكرر سقوط حزقيال النبي على وجهه، وأيضًا دخله الروح الإلهي ليقيمه ويسمع هذه الرسالة: "اذهب أغلق على نفسك في وسط بيتك... وألصق لسانك بحنكك فتبكم، ولا تكون لهم رجلاً موبخًا لأنهم بيت متمرد. فإذا كلمتُك أفتح فمك وتقول لهم هكذا قال السيد الرب" [24-27]. هكذا أراد الرب منه ألا يعمل بالغيرة البشرية لكنه يصمت ولا يتكلم حتى يأذن له بالكلام، فيتكلم في الوقت الذي يراه الرب مناسبًا وبكلمات الرب وباسمه. إن كان كرقيب، في صمته على الشر يُدان، إلا أنه ينبغي أن يتعلم ما قاله الحكيم "للسكوت وقت وللتكلم وقت" (جا 3: 7). وكما يقول القديس أمبروسيوس: [زن حديثك ولتقس كلماتك]، وأيضًا: [الرجل الحكيم في حديثه يأخذ في اعتباره ماذا يتكلم، ومن الذي يكلمه، وظروف المكان والزمان... هكذا يلزم أن يكون هناك قياس للاحتفاظ بالصمت كما بالكلام]. يقول الأب غريغوريوس الكبير: [لابد أن يكون الراعي حكيمًا في صمته نافعًا في كلامه[79]].

 

 


 

من وحي حزقيال  3

أطعمني بوصيتك يا شهوة قلبي!

v   أطعمني بوصيتك يا شهوة قلبي‍‍‍‍!

مدّ يدك وقدم لي وصيتك خبزًا سماويًّا.

أني طفل بل ورضيع، لن أقبل طعامًا من آخر غيرك!

أنت أحَّن على من والدّي يا مخلص نفسي!

v   وصيتك صعبة يا مخلص نفسي،

صليبك ثقيل، وطريقك كرب ضيق،

لكن من يديك تصير وصيتك خبزًا وعسل نحل،

يصير صليبك مجدًا، وطريقك سماءً جديدة!

v   أرسلت نبيك يحمل كلمتك إلى شعبك العنيد،

هب لي أن أحمل وصيتك إلى كل نفس مهما كان عنادها!

مع استلام كلمتك حدث رعد عظيم في السماء.

لترعد السماء ولتزلزل كل قساوة في قلبي وقلوبهم.

لتنزُع عنها الطبيعة الأرضية المتزعزعة،

ولتنعم بحياة سماوية أبدية.

v   قدم نبيك كلمتك إلى شعب عنيد فتمررت نفسه.

ألعله كان مُرّ النفس لأنه لا يريد مفارقة التطلع إلى مركبتك؟!

ألعله كان مُرّ النفس لأنه تلامس مع عناد البشرية؟!

أعطني وسط مرارة نفسي أن أرى سمواتك،

هب لي وسط حزني أن أتلامس مع توبة الكثيرين.

فرح قلبي بعملك الإلهي في وفيهم أيها الكلمة الإلهي.

بقى نبيك وسط المسبيين سبعة أيام،

هب لي أن أقضي كل أيام غربتي أعمل في كرمك.

أني لست أجيرًا أحسب الزمن،

لكني ابن أشتاق إلى العمل في كرم أبي.

v   علمني أيها الكلمة الإلهي:

متى أختلي بك لأعرف أسرارك؟!

ومتى أعمل في الكرم لأخدم شعبك؟!

هب لي في خلوتي ألا أنسى شعبك،

وفي خدمتى ألا أتوقف عن التأمل في أسرارك.

v   ارشدني أيها الكلمة الحقيقية،

فأني لا أعرف متى أصمت ومتى أتكلم،

كيف أصمت وكيف أتكلم؟!

ها أنا بين يديك، كن قائدي العامل فيّ.

<<

 

 

 


 

 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

 

 

 

تهديدات قبل سقوط أورشليم

 [ص 4- ص 12]

 

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الرابع

اللبنة المرسومة ونومه

بدأ الحديث الإلهي مع حزقيال النبي بطلب التنبؤ وإنذار الشعب من خلال الرموز واستخدام ما نسميه "وسائل إيضاح"، الأسلوب المتبع في رياض الأطفال. ذلك لعجز اللغة البشرية عن التعبير، أو بقصد لفت انتباههم بسلسلة من الدروس العِيانّية.

1. اللَّبِنة المرسومة        [1-3].

2. النوم على جنب واحد    [4-8].

3. الأكل بالوزن والغم      [9-17].

1. اللبنة المرسومة:

أمره الرب أن يرسم على لَبِن (طوبة من الطين) مدينة محاصرة بالجيوش، يقيم ضدها برجًا ومترسة ومجانق (آلات حربية لهدم الأسوار)، معلنًا أن حصار أورشليم قادم بسماح إلهي للتأديب، إذ أن الهيكل المقدس قد مضى عليه سنوات طويلة وهو منجَّس بإقامة أنصاب لآلهة وإلآهات وثنية داخل الأماكن المقدسة.

إذ شعرت صهيون أن الرب قد تركها، وسيدها نساها، أكد لها: "هوذا على كفّي نقشتك" (إش 49: 16). لقد نقشتك في ابني يسوع المسيح بكونك جسده المقدس وهو الرأس، أراك فيه مقدسة ومبررة، ترتفعين به وفيه إلى أحضاني وتتمتعين بشركة أمجادي. أما هنا فإذ تصر صهيون على الخطيئة وترتبط بالزمنيات ولا تريد أن تسمو عن الأرضيات لهذا طلب الله من حزقيال أن يرسمها على لبنة من الطين، بدلاً من أن تُرسم على كف الرب؛ إنه يعطيها سؤل قلبها. لهذا كثيرًا ما يردد مثل هذه العبارة: "أجلب عليك طرقك" (7: 4). اشتهت الأرض، فجعلها منقوشة على الطين!! بعد أن كانت أسماء أسباط إسرائيل منقوشة على الحجارة الكريمة توضع على صدر رئيس الكهنة ليدخل بها إلى قدس الأقداس في ظل السمويات هوذا مدينة أورشليم تنقش على الطين الذي أرادت أن تتثقل به!

في سفر النشيد يعتز الله بأولاده فيشبههم بالفرس العاملة معًا بروح واحد في مركبته الإلهية للخلاص (نش 1: 9)، يراهم كترصة حسنة مرهبة كجيش بألوية (نش 6: 4)... لكنهم إذ يُصرّون على اعتزاله والارتباط بالرجاسات يقيم ضدهم من الأمم برجًا ومترسة ومجانق لتحطيم كل قوة فيهم! بل ويأمر بإقامة سور من حديد حول المدينة [3] لا ليحميها وإنما لكي لا يهرب أحد مما يحل بها من تأديبات!

والعجيب أن الله في وسط هذا المُرّ يطلب من النبي أكثر من مرة أن يثبت وجهه على المدينة (3: 7) وأن يجعل ذراعه مكشوفة حين يتنبأ عليها [7]. أما تأكيد تثبيت وجهه على المدينة المحاصرة مرتين فعلامة رعاية الله لشعبه من اليهود كما من الأمم، إن الكنيسة بكل أجناسها هي موضوع رعايته وعنايته واهتمامه حتى في أمرّ لحظات التأديب. إنه يسمح لأولاده بالضيقات بكل مرارتها ومعها الخلاص. لهذا يسمى القديس يوحنا الذهبي الفم الألم "مدرسة الفلسفة"[80]، كما يقول: [إذا أخطانا يُنهض الله علينا أعداءنا لتأديبنا، لهذا يليق بنا لا أن نحاربهم، بل نحاسب أنفسنا ونثقفها. لنتقبل الآلآم كقبول الأدوية من الطبيب لأجل خلاصنا، وكقبول التأديب من الأب حتى نتمجد. لهذا يقول الحكيم ابن سيراخ: يا بني إذا تقدمت لخدمة ربك فتأهب للتجارب واصبر[81]].

أما الذراع المكشوفة فتشير إلى التجسد الإلهي، إذ يرى الآباء في "ذراع الرب" إشارة إلى الابن، و "أصبع الرب" إشارة إلى الروح القدس. وكأن أورشليم تبقى تحت الحصار في قبضة الخطيئة وتحت سلطانها حتى تنكشف ذراع الرب كقول القديس يوحنا: "فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا" (1 يو 1: 5). هذا الذي هو غير منظور صار بالتجسد مكشوفًا، إذ "حل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا" (يو 1: 14). لقد حوصر قلبنا - أورشليم الداخلية - وتدنس هيكلنا وصرنا في حالة موت حتى شمر الآب ذراعه، أي أرسل ابنه الوحيد ليحررنا ويردنا إلى الخلاص. هذا ما رآه إشعياء النبي بروح النبوة إذ بشَّر أورشليم المسبية بالخطية، هذه التي نامت نوم الموت ودفنت في التراب وتحطمت تمامًا، قائلاً:

"استيقظي، استيقظي، إلبسي عزك يا صهيون.

 إلبسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة.

 انتفضي من التراب،

 قومي اجلسي يا أورشليم،

 انحلّي من رُبط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون.

 ما أجمل على الجبال قَدَمَي المبشر المخبر بالسلام،

 المبشر بالخير المخبر بالخلاص،

 القائل لصهيون: قد ملك إلهك...

 أشيدي، ترنمي معًا يا خِرب أورشليم،

 لأن الرب قد عَّزى شعبه، فدى أورشليم،

 قد شَّمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم،

 فيرى كل أطرف الأرض خلاص إلهنا" (إش 52).

واضح أن سر يقظة صهيون، ولبسها عزها، وانتقاضها من التراب، وتحررها من عنق العبودية، وتمتعها بالسلام هو تشمير ذراع الرب أمام عيون الأمم، أي تجسد السيد ليضم في جسده جماعات متمتعة بالخلاص.

هذا وتشمير الذراع يشير إلى الاستعداد للضرب، وعلى ما اعتقد لا يقصد ضرب شعبه إنما ضرب الخطيئة التي حطمت هذا الشعب، فقد جاء السيد المسيح لا ليدين الإنسان بل ليخلصه... لقد دان الخطيئة التي سقطنا نحن فيها في جسده!

قلب الله نحو شعبه لم يتغير، لكن قداسته تقتضي تحطيم الخطية ومعاقبة الأشرار المُصريّن على شرهم لعلهم يرجعون إليه بالتوبة.

2. النوم على جنب واحد:

إذا أعلن الرب حصار أورشليم وسبيها مع تلميحه عن اهتمامه بها وتشمير ذراع قدسه لخلاصها، بدأ يوضح فاعلية الخطيئة في حياة الإنسان، إنها تحطمه تمامًا، تلقيه إلى حالة نوم دائم بلا حيوية ولا عمل، ينام الإنسان على جنب واحد كمن هو مصاب بالفالج (الشلل).

لقد طلب منه أن ينام على جنبه الشمال 390 يوما ( وبحسب الترجمة السبعينية 190 يومًا)، ثم يعود فينام على جنبه اليمين لمدة أربعين يومًا، بالنوم الأول يشير إلى إثم بيت إسرائيل والثاني إلى بيت يهوذا. العمل الأول يشير إلى سقوط الإنسان تحت سلطان الضربة الشمالية أي الخطايا الظاهرة كالزنا والقتل والسرقة والكذب الخ، أما الضربة اليمينية فهي الخطايا الخفية التي يتعرض لها المؤمنون والذين يخدمون الرب مثل خطايا البر الذاتي وحب الكرامة والمديح، الأمور التي ليس لها مظهر الخطيئة أمام الناس لكنها تفسد حياة المؤمنين والخدام. النوم على الجانب الأيسر يبقى زمانًا أطول من النوم على الجانب الأيمن، لأن شعب يهوذا وإن كان قد تأخر في شره عن مملكة إسرائيل الشمالية لكنه في زمن قصير كمل شره. هكذا بالضربات اليمينية يسقط المؤمنون بسرعة خطيرة، ويكمل شرهم في وقت قصير، الأمر الذي جعل القديس يوحنا الذهبي الفم يعلن: [عجبي من أسقف (رئيس) يخلص!]، كما كان آباء البرية يحذرون أبناءهم الرهبان من الضربات اليمينية أكثر من اليسارية، لأن الأخيرة واضحة ويسهل التوبة عنها، أما الأولى فغالبًا ما تكون خفية تتسلل إلى القلب وتحطم توبته!

لماذا نسب الجنب الأيسر لإسرائيل والأيمن ليهوذا؟ لأنه إذ يتطلع الإنسان نحو شروق الشمس يكون الشمال عن يساره والجنوب عن يمينه، هكذا إسرائيل مملكة الشمال يمثلها جنبه الأيسر ويهوذا مملكة الجنوب يمثلها جنبه الأيمن.

أما بالنسبة للأرقام فلا أريد الدخول في تفاصيل كثيرة، إذ وجدت لها تفاسير متنوعة، مكتفيًا هنا بإبراز النقاط التالية:

أ. يرى البعض بإضافة الرقمين معًا (390+40) يكون الناتج 430 يومًا رمزًا إلى سني العبودية التي عاشتها الأمة اليهودية في مصر تحت العبودية. وكأن هذه الأرقام ليست إلا رمزًا عن فعل الخطيئة في حياة المؤمنين، إذ تدخل بهم إلى العبودية المُرّة.

ب. يرى البعض أن رقم 390 يشير إلى السنوات التي عاشتها إسرائيل منذ ارتداد يربعام حتى خراب أورشليم، بينما رقم 40 يشير إلى السنوات التي انحط فيها يهوذا قبل السبي.

ج. يفسر البعض رقم 390 هكذا؛ إن حصار أورشليم قد بقى 18 شهرًا (إر 52: 4-6) فإذا حذف منها خمسة شهور انسحب فيها المحاصرون عندما اقترب جيش فرعون (إر 37: 5-8) فيكون الباقي 13 شهرًا أي 390 يومًا.

د. الرقمان 390، 40 يرمزان إلى الخطيئة التي شملت كل إنسان، وشملت كل الحياة الزمنية، فحطمت كل البشرية بفالجها، وحطمت كل واحد كل أيام زمانه. فرقم 390 إنما هو حصيلة ضرب رقم 39 في 10، لأن عدد أسباط مملكة إسرائيل (10)، وأجرة الشر 39 جلدة، كأن كل الأسباط قد استحقوا الجلد. أما رقم 40 فيشير للحياة الزمنية كلها، لهذا صام السيد المسيح أربعين يومًا وأيضًا موسى وإيليا علامة ضرورة زهدنا كل أيام غربتنا. فالرقم الأول يعني شمول الخطيئة لحياة كل الناس، والرقم الثاني أنها تشمل كل أيام زماننا.

يرى البعض أن ما ورد هنا عن اتكائه 390 يومًا على جنبه الأيسر و40 يومًا على جنبه الأيمن يتعارض مع ما ورد في (حز 8: 1) حيث نجد النبي جالسًا وسط كبار قومه أثناء المدة المذكورة، فضلاً عن تعارض أمر الله له هذا مع إمكانية البشر، فلا يُعقل أن حزقيال تمَّكن من تنفيذه.

يرد على ذلك[82]: يتضمن النص السابق عادة شرقية قديمة، وهى عادة "اتكاء" الرجال أثناء جلوسهم على الأرض، متوسدين وسادة توضع تحت اليّد اليمنى أو اليسرى، حسب رغبة الشخص.

ولا يشترط النص المذكور عدم حركة النبي أثناء تنفيذه أمر الرب، لكن يشترط عليه ضرورة الالتزام بالاتكاء على جنبه الأيسر خلال الـ 390 يومًا والجنب الأيمن خلال الـ 40 يومًا كلما رغب في الجلوس فقط، واشترط أيضًا ضرورة كشف الذراع كله الذي يتكئ عليه [7]. وهذا الأمر لا يتعارض مع مباشرة النبي كل ما يريده من تحركات وأعمال متفاوتة أثناء المدة الزمنية المذكورة، ولا نجد صعوبة ما على النبي أو على غيره في ممارسة هذا الأمر. كما لا نجد أي تعارض مع النص الوارد في (حز 8: 1) الخاص بجلوس حزقيال النبي وسط كبار قومه. فالنص الأول لا يحرم على النبي الجلوس مع غيره، وفي نفس الوقت يؤكد أنه كان في بيته جالسًا، أي متكئًا، وبلا شك في أنه كان يلتزم بالوضع الذي حدده له الإعلان الإلهي، فلا خلاف بين النصين.

3. الأكل بالوزن والغم:

الأكل بالوزن والغم، والشرب بالكيل والحيرة، علامة المجاعة التي تحل بالشعب للتأديب. إنه رمز لعمل الخطيئة في حياة الإنسان، إذ تصيب نفسه بحالة جوع مع غم وعطش مع حيرة... هذا كله بجوار الفالج (الشلل) الذي أصابها.

لقد حدد له عشرة شواقل (حوالي 8 أوقيات) من الخبز كل يوم، وسدس الهين (حوالي نصف بنت أو 16/1 من الجالون) ماء. أما الخبز فمن أردأ الأصناف، التي تقدم للخيل والخنازير، وهو خليط من القمح والشعير والفول والعدس والدخن (ذرة رفيعة) والكرسنة (بذار برية مثل القمح)، يأكله أثناء نومه على جنب واحد. كما طلب منه أن يخبره مستخدمًا براز الإنسان عوض الحطب علامة ما بلغه الشعب من دنس ونجاسة (تث 23: 13-14)، لكن إذ توسل إليه أن يعفيه من هذا الأمر سمح له أن يخبره على روث الحيوانات. هذه العادة التي لا تزال توجد في بعض قرى الصعيد حيث تستخدم (الجلة) كوقود عوض الحطب. على أي الأحوال هذا التصرف يرمز إلى ما يصل إليه الشعب من تعب!

 


 

من وحي حزقيال 4

بحبك نقشتني على كفيك

v   بحبك نقشتني على كفك يا إلهي،

حسبتني أورشليم المحبوبة، وصهيون المقدسة.

لكنني بخطاياي ونجاسات قلبي

صرت منقوشًا على لبنة من الطين.

صرت محتقرًا، أتمرغ في الوحل.

بتهاوني أحاط بي العدو وحطم أسواري،

يا من تريد أن تقيم روحك الناري سورًا لحياتي!

v   مددت أيها الآب ذراعك الإلهي،

إذ أرسلت لي ابنك متجسدًا،

يغسلني من التراب،

ويهبني روحك الناري،

ويحملني إلى أحضانك!

v   خطيتي نزعت عنى حيويتي،

صرتُ مريضًا بالفالج،

تارة أتكئ على جنبي الشمال مضروبًا بالشرور،

وأخرى أتكئ على اليمين مضروبًا بالبر الذاتي،

v   حرمتني خطيتي من الشبع،

حولت جنتي الداخلية إلى قفر مدقع.

من ينقذني من هذه المجاعة إلا أنت يا شبع نفسي؟!

<<

 


 

الأصحاح الخامس

حلق شعره

يكمل الرب إعلاناته - خلال الرموز - عن محاصرة أورشليم وتأديبها، فأمر حزقيال النبي أن يحلق شعر رأسه ولحيته بسكينٍ حادٍ، موضحًا له سرّ عقوبته ليهوذا وعلاماتها. ويعتبر هذا الدرس العِيانّي الرابع.

1. حلق شعر النبي            [1-4].

2. سرّ العقوبة               [5-7].

3. عقوبة علنية             [8].

4. عقوبة فريدة                [9-12].

5. عقوبة إلهية                [13-15].

6. عقوبات مرحلية            [16-17].

1. حلق شعر النبي:

"وأنت يا ابن آدم فخذ لنفسك سكينًا حادًا،

موسى الحلاق تأخذ لنفسك وأمررها علي رأسك

ولحيتك، وخذ لنفسك ميزانًا للوزن واقسمه.

وأحرق بالنار ثلثه في وسط المدينة إذا تمت أيام

الحصار، وخذ ثلثًا واضربه بالسيف حواليه وذر ثلثا إلي الريح" [1-2].

أوصى الله موسى أن يكلم الكهنة بني هرون هكذا: "لا يجعلوا قرعة في رؤوسهم ولا يحلقوا عوارض لحاهم ولا يجرحوا جراحة في أجسادهم. مقدسين يكونون لإلههم ولايدنسوا اسم إلهم، لأنههم يقربون وقائد الرب إلههم فيكونون قدسًا" (لا 21: 5-6). كانت الوصية الإلهية واضحة وصريحة ألاَّ يمس موسى رأس كاهن أو لحيته لأنه قدس للرب، ذلك لأن ترك الشعر علي رأس المرأة هو لزينتها، أما للرجل فعلامة عدم انشغاله بالأمور الزمنية، مكرسًا كل نسمة من حياته للخدمة الكهنوتية. لهذا فإن الأمر الصادر لحزقيال النبي هو إعلان عن تدنيس الكهنة في ذلك الوقت ورفض الرب ذبائحهم وتقدماتهم وصلواتهم.

عندما أراد الرب أن يخلص الشعب قديمًا ظهر ملاك الرب لامرأة منوح العاقر وقال لها: "ها إنك تحبلين وتلدين ابنًا ولا يعلُ موسى رأسه، لأن الصبي يكون نذيرًا لله من البطن وهو يبدأ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينين" (قض 13: 5). هذا الذي لما حلق شعر رأسه فارقته قوة الرب وصار ضعيفًا (قض 16: 17)، بل فارقه الرب نفسه (قض 16: 20) وفقد عينيه وأوثق بسلاسل من النحاس وصار كالثور يطحن في بيت السجن (قض 16: 21)، وكان هزءًا وسخرية للوثنيين! أما الآن فإن الذي يأمر بحلق الرأس واللحية هو الله نفسه علامة مفارقته لكهنة شعبه وفقدانهم البصيرة الروحية ودخولهم إلي الأسر وصيرورتهم أضحوكة الأمم وموضوع سخريتهم.

حلق الشعر بالكامل يشير إلي رفض الله الدخول معهم في أية علاقة من خلال الكهنة أو الأنبياء، إنه لا يقبل تقدمة ولا يسمع لصلاة حتى يؤدبهم علي شرهم، كما يشير إلي رفضه شعبه بسبب إصرارهم علي الخطيئة. فإن كان الرب هو الرأس فإن حياتنا نحن إنما هي الثبوت فيه. فنزع الشعر انتهاء ثبوت الشعب في مصدر حياته. وفي هذا يقول القديس جيروم: [يتحدث إشعياء النبي عن موسى حاد يحلق رأس الخطاة وشعر أقدامهم (إش 7: 20)، يحلق رأسه رمزًا لأورشليم التي صارت زانية (5: 1-5)، علامة أن كل ما فيها قد صار بلا إحساس ونزعت عنها الحياة[83]].

حلق الشعر بالكامل يشير إلي شدة الحزن، خاصة في حالة حدوث وفاة وكان هذا الأمر في عيني الرب دنسًا، لهذا حذر شعبه قائلاً: "أنتم أولاد للرب إلهكم، لا تخمشوا أجسادكم ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجل ميت، لأنك مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًا" (تث 14: 1-2) أما الآن فقد صارت أورشليم كمن في حكم الميت. وإذ رفض شعبه أمرهم في شخص حزقيال أن يتدنسوا بحلق شعر رأسهم.

حلق الشعر أيضًا علامة العار والذل والعبودية، فيصير الإنسان بلا كرامة، لا سلطان له حتى علي شعره أن يتركه أو يحلقه، لهذا كانت تحلق رؤوس العبيد بالكامل وأيضًا الملوك حين يؤسرون. هكذا تفعل الخطيئة بالإنسان: تفقده كل سلطان وترده من حالة الملك والقوة إلي خزي العبودية والسقوط تحت الأسر والذل. لقد خجل عبيد داود من اللقاء مع ملكهم لأن حانون ملك بني عمون شك فيهم وحلق لحاهم، فأقاموا في أريحا حتى تنبت لحاهم ويرجعوا... هكذا لا يستطيع الإنسان أن يلتقي مع الرب ملكه السماوي وهو في عار الخطيئة وخزيها بل ينتظر حتى يعلن توبته وينال المغفرة ويسترد الكرامة فيكون له إمكانية اللقاء مع الله وكل جنوده السمائيين والأرضيين.

حلق الشعر بسكين حاد يشير إلي حرب دامية حيث سمح الله للكلدانيين قساة القلب أن يغزوا يهوذا، وذلك حسب ما اقتضته عنايته الإلهية. يسمح بذلك لأن يهوذا تمردت على الله: الثُلث يبادون في حصار أورشليم، والثلث يقُتلون بالسيف دون رحمة علي أيدي جنود نبوخذنصَّر، والثُلث الباقي يُشتتون علي وجه الأرض بين الشعوب.

أما وزن الشعر فعلامة أن ما يحل بالشعب من جوع وعطش وسقوط بالسيف وتشتيت بين الشعوب لا يتم بطريقة عشوائية أو بمحض الصدفة، لكنه بتدبير إلهي، وموازين الرب عادلة وأمينة ودقيقة.

"الرب وازن القلوب" (أم 21: 2) والأرواح (أم 16: 2)، هذا الذي طرق الإنسان أمام عينيه "وهو يزن سبله" (أم 5: 21)، الذي يزن الريح ويعاير المياه بمقياس (أي 28: 25)، ويكيل تراب الأرض ويزن الجبال بالقبَّان والآكام بالميزان (إش 40: 12)، موازينه حق وعادلة، لا يطيق الغش أو المحاباة. هذه هي طبيعة الله التي يشتهي أن يسكبها في حياة أولاده لهذا كثيرًا ما يكرر الوصايا: "لا يكن لك في كيسك أوزان مختلفة