حزقيال 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

حزقيال والمسيحي المعاصر

كُتب سفر حزقيال لبيت إسرائيل (3: 1)، لكي يعيشه كل مؤمن حقيقي يحيا في كنيسة الله، إسرائيل الجديد، يختبر معاملات الله، ويتفهم أسرار الملكوت ويمتلئ رجاءً في شركة المجد السماوي.

لقد كان إرميا النبي آخر الأنبياء في أورشليم قبل السبي... عاصر السبي لكنه لم يذهب معهم إلى بابل، إنما بقي مع البقية الباقية يشهد لإلهه بقوة، فحملوه معهم إلى مصر ورجموه! أما حزقيال النبي والكاهن فكان شابًا صغيرًا (25 عامًا) حُمل إلى السبي ليكمل رسالة إرميا النبي. كان يحمل الصوت الإلهي ليذكر الشعب المسبي بسبب سبيهم، مناديًا بالتوبة والرجوع إلى الله، يبث فيهم روح الرجاء، ويكشف لهم عن وعود الله وخطته الخلاصية... لقد كان آداة الله التي احتملت الآلام من أجل الشهادة للحق.

إن تطلعنا إلى سفر الرؤيا نشاهد حزقيال النبي وكأنه قد وضع يده في يد يوحنا الحبيب ليعبرا معًا عبر القرون، ويتطلعا إلى أورشليم العليا، مسكن الله مع الناس، إلى الهيكل السماوي.

سفر حزقيال هو سفر كل مؤمن حقيقي يريد أن يلتقي مع الله القدوس، مقدمًا توبة يومية عن خطاياه، فيختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع، وينعم بالوعود الإلهية الثمينة.

سفر حزقيال هو سفرك، يمس حياتك وأعماقك،

 

القمص تادرس يعقوب ملطي


 

-

- مقدمة

 

- الباب الرابع الأصحاحات [25- 32]

- الباب الأول الأصحاحات [1- 3]

 

الأصحاح الخامس والعشرون (نبوات ضد أربع أمم شامته)

الأصحاح الأول (المركبة النارية)

 

الأصحاح السادس العشرون (نبوات ضد صور)

الأصحاح الثاني (الدعوة للخدمة)

 

الأصحاح السابع والعشرين (مرثاة على صور)

الأصحاح الثالث (عمل كلمة الله)

 

الأصحاح الثامن والعشرون (دينونة رئيس صور)

- الباب الثاني  الأصحاحات [4- 12]

 

الأصحاح التاسع والعشرون (نبوات ضد فرعون مصر)

الأصحاح الرابع (اللبنة المرسومة ونومه)

 

الأصحاح الثلاثون (انهزام فرعون مصر أمام بابل)

الأصحاح الخامس (حلق شعره)

 

الأصحاح الحادي والثلاثون (مرثاة شجرة الأرز)

الأصحاح السادس (تحذير لترك الوثنية)

 

الأصحاح الثاني والثلاثون (مرثاة على فرعون مصر)

الأصحاح السابع (اقتراب النهاية)

 

- الباب الخامس [ص 33- ص 39]

الأصحاح الثامن (حالة الهيكل)

 

الأصحاح الثالث والثلاثون (التوبة بدء الإصلاح)

الأصحاح التاسع (جماعة المختومين)

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (الله يرعى غنمه)

الأصحاح العاشر (المجد الإلهي يفارق الهيكل)

 

الأصحاح الخامس والثلاثون (نبوة ضد جبل سعير)

الأصحاح الحادي عشر (مفارقة مجد الرب المدينة)

 

الأصحاح السادس والثلاثون (نبوة عن جبال إسرائيل)

الأصحاح الثاني عشر (تأكيد السبي)

 

الأصحاح السابع والثلاثون (القيامة من الأموات)

- الباب الثالث [ص 13- ص 24]

 

الأصحاح الثامن والثلاثون (جوج وماجوج)

الأصحاح الثالث عشر (مجد الأنبياء الكذبة)

 

الأصحاح التاسع والثلاثون (النصرة النهائية)

الأصحاح الرابع عشر (المسئولية الفردية)

 

- الباب السادس [ص 40- ص 48]

الأصحاح الخامس عشر (عود الكرم)

 

الأصحاح الأربعون (الهيكل المقدس)

الأصحاح السادس عشر (قصة العروس الخائنة)

 

الأصحاح الحادي والأربعون (الهيكل)

الأصحاح السابع عشر (الكرم والنسران)

 

الأصحاح الثاني والأربعون (المخادع المقدسة)

الأصحاح الثامن عشر (المسئولية الشخصية)

 

الأصحاح الثالث والأربعون (عودة مجد الرب)

الأصحاح التاسع عشر (مرثاة على الملوك)

 

الأصحاح الرابع والأربعون (العاملون في الهيكل)

الأصحاح العشرون (تمردهم المستمر)

 

الأصحاح الخامس والأربعون (شريعة القداسة والعدل والفرح)

الأصحاح الحادي والعشرون (أنشودة السيف المدمر)

 

الأصحاح السادس والأربعون (شرائع جديدة)

الأصحاح الثاني والعشرون (خطايا يهوذا)

 

الأصحاح السابع والأربعون (المياه المقدسة والأرض المقدسة)

الأصحاح الثالث والعشرون (أهولة وأهوليبة)

 

الأصحاح الثامن والأربعون (تقسيم الأرض المقدسة)

الأصحاح الرابع والعشرون (الحصار النهائي)

 

 

 

مقدمة

"حزقيال" كلمة عبرية تعني "الله يقوي". لقد دُعي حزقيال لخدمة شعب قاسي الوجوه، صلب الرقبة، أمة متمردة (2: 3-4؛ 3: 7-8)، لهذا كان محتاجًا إلى قوة الله تسنده في مواجهتهم[1].

يرى العلامة أوريجينوس في عظته الأولى عن سفر حزقيال أن السيد المسيح هو حزقيال الجديد الذي يعني "الله يقوي"، فإن كان قد نزل إلى أرضنا كما بين المسبيين، ودُعي ابن الإنسان كما دُعي حزقيال "ابن آدم"، فإنه هو بحق الذي يحررنا من السبي لنختبر "قوة الله" خلال صليبه.

الظروف المحيطة بحزقيال النبي:

سجل لنا سفر حزقيال القليل جدًا عن حياة هذا النبي، أهمها أنه عاش في أرض السبي نهر (قناة) خابور (1: 3) بجوار تل أبيب (3: 15)، وكان متزوجًا وله بيت، كما ذكرت وفاة زوجته (24: 16) المحبوبة لديه جدًا، فتنهد عليها في قلبه، وهي العبارة الوحيدة التي عبر فيها النبي عن أحاسيس تخص حياته. يرى التقليد أن حزقيال عاش في نفس الموضع الذي عاش فيه نوح، بجوار جنة عدن، لهذا السبب كثيرًا ما أشار إلى نوح وإلى جنة عدن (14: 14، 20؛ 28: 13؛ 31: 8، 9، 16، 18؛ 36: 35)[2]. ويمكننا تقسيم حياته إلى ما قبل السبي وما بعده.

حزقيال قبل السبي:

ولد حوالي 623 ق.م.، وكان والده بوزي كاهنًا من نسل صادوق. يرى بعض الحاخامات أنه ابن إرميا النبي الذي كان يُدعى "بوزي"، لأن اليهود كانوا يستخفون به (بوزي)[3].

اتسمت هذه الفترة بأمرين لا يمكن تجاهلهما: أولاً: حركة الإصلاح على يدَّي يوشيا الملك عام 621 ق.م، وثانيًا: حالة الانتعاش النبوي. وقد تأثر النبي بهذين الأمرين.

أولاً: بلا شك حمل حزقيال ذكريات طفولته المبكرة لهيكل أورشليم الذي اهتم يوشيا بإصلاحه، وفي أثناء الإصلاح أو ترميمه وُجد سفر الشريعة المفقود فقرأه الملك وتأثر به جدًا.

غالبًا ما كان حزقيال يقطن أحد بيوت الكهنة المقامة على السور الشرقي، وربما كان يلعب وهو طفل في الساحات الخارجية حول الهيكل، كما كانت مدرسته داخل هذا النطاق. ربما كان يساعد والده الكاهن، كخادم للهيكل يعد البخور أو يضئ الشموع في الموضع المقدس، ولما كبر صار يجلس بين معلمي الهيكل يسمع لهم ويسألهم، وكان ينتظر من يوم إلى يوم متى يحتفل بعيد ميلاده الثلاثين ليمارس العمل الكهنوتي داخل هيكل الرب.

ثانيًا: أما عن الانتعاش النبوي، فلابد أن يكون قد تأثر بالأنبياء السابقين له مثل عاموس وهوشع وإشعياء وميخا، خاصة هوشع الذي ترك بصمات على كل أصحاح في نبواته المبكرة. كما سمع عن الأنبياء المعاصرين له مثل إرميا ودانيال وناحوم وصفنيا وربما حبقوق وعوبديا. غالبًا ما كان يستعذب كلمات المرتل حبقوق الحلوة، وإن كان قد تأثر بالأكثر بإرميا النبي الذي رأى أن إصلاحات يوشيا قد مست مباني الهيكل وتقديم الذبائح وحفظ التابوت والشريعة وختان الجسد الخ. لكنها للأسف لم تمس إصلاح القلب الداخلي في حياة الناس.

وتأثر حزقيال بالأحداث السياسية في عصره، فإذ بلغ حوالي العاشرة من عمره سقطت نينوى عاصمة أشور فانهارت قوى أشور وسلطانها. وبعد خمس سنوات تقريبًا حشد فرعون نخو جيشه واحتل فلسطين وقتل الملك الصالح يوشيا في مجدو (2 مل 23: 29) لأنه حاول تقديم معونة عسكرية لملك أشور ضد فرعون. وبهذا انتهت فترة الإصلاح الهادئة التي استمرت حوالي أربعة عشر عامًا حيث كان والد حزقيال فرحًا بها. ومع أن فترة الحكم للملك الجديد يهوآحاز (شلوم إر 22: 11) بن يوشيا كانت قصيرة للغاية (3 شهور) لكنها كانت طويلة في عيني المؤمنين بسبب شره، وكان صوت إرميا النبي يدوي محذرًا ومنذرًا.

حُمل يهوآحاز إلى مصر وأقام فرعون نخو أخاه يهوياقيم أو ألياقيم عوضًا عنه. فإن فرعون مصر لم يرد أن يخرب أورشليم لكي يتمتع بالجزية التي يرسلها إليه يهوياقيم، كما أراد أن يترك علاقته بيهوذا طمعًا في إقامة إمبراطورية فرعونية متسعة في مواجهة مملكة بابل. وكان حزقيال في ذلك الحين شابًا ناضجًا يرى ويدرك ما حل بالشعب، فقد وردت أوثان جديدة إلى شوارع صهيون بلا خجل، وحل الشر في حياة الكهنة والمعلمين وتدهورت خدمة الهيكل. كان يرى النبي الشيخ إرميا وهو يوبخ الكهنة، وربما سمع باروخ الكاتب في الهيكل يقرأ ما قد سجله في درج من نبوات إرميا النبي علنًا أمام الشعب، وسمع أن الدرج قدم للملك الذي سمع القليل من فقراته وقام بتمزيقه وإحراقه بالنار (إر 36: 1-26). كانت نفس الشاب حزقيال مُرّة للغاية، احتدمت الثورة على الكهنة أصدقائه وكل القيادات الدينية في داخله، لكنه لم يكن قادرًا حتى أن يشير إلى اسم إرميا أو يعلق على كلماته.

في نفس السنة إذ غلب نبوخذنصَّر نخو فرعون مصر في معركة كرمشيش تحطمت أطماع فرعون لسنوات طويلة وتحول ولاء يهوياقيم إلى بابل ولو أن قسمًا كبيرًا من الشعب كان يفضل الخضوع لفرعون مصر ضد بابل حتى لا يحل بهم ما حل بمملكة الشمال (إسرائيل)، ويبدو أن الملك نفسه أيضًا كان يميل إلى ذلك قلبيًا، وقد حذر إرميا من ذلك. وفي حوالي عام 600 ق.م (أي بعد خمس سنوات) قام يهوياقيم بثورة ضد بابل، ولكن في خلال عام أو عامين حوصرت أورشليم بجيوش بابل لمدة 18 شهرًا، وكانت المدينة تقاوم الحصار ومات يهوياقيم بطريقة غامضة، لكنه كان يتحدى بابل حتى النفس الأخير. وإذ توج ابنه يهوياقين أصر على الاستسلام لبابل بلا شرط، فدخل نبوخذنصَّر المدينة المقدسة على رأس جيشه عام 597 أو 598 ق.م.

في هذه المرة عالج نبوخذنصَّر الموقف بطريقة لطيفة غير متوقعة، إذ لم يقم بتدمير المدينة ولا الهيكل ولا المنشآت العامة ولا حتى أسوارها الحربية إنما اكتفي بأخذ الملك الشرير يهوياقين الذي لم يدم ملكه سوى ثلاثة شهور، كما أخذ عائلته ورؤساء الشعب وخزائن بيت الرب إلى بابل (2 مل 24: 8-16). لقد انكسر قلب حزقيال الذي رأى الهيكل المحبوب لديه وقد نُهبت أدواته التي يرجع عمرها إلى حوالي 300 عامٍ منذ أيام سليمان وصهرت، ووضعت في زكائب البابليين، وقد قام الملك الجديد صدقيا ابن أخ يهوياقين (2 مل 24: 17) بتدنيس الهيكل، وصار الوثنيون الغرل يُنجسون المواضع المقدسة. هذا وقد نصب نبوخذنصَّر شباكه في بلاد يهوذا ليصطاد كل شاب له قدرة أو موهبة أو مركز وحملهم إلى بابل، وكان من بينهم حزقيال نفسه، لكي يضمن عدم حدوث أية ثورات ضده في يهوذا، تاركًا الفلاحين والمعدمين جدًا غير القادرين على الثورة (2 مل 25: 12).

 هذه هي أول مراحل السبي لشعب يهوذا، إذ سمح الله أن يتم على مراحل لكي يعطي الكهنة والشعب فرصة للتوبة والرجوع إليه فيصفح عنهم، أما هم فظنوا أن الله لن يسمح بهدم الهيكل وتسليم المدينة بالكامل كما لجأوا إلى طرق أخرى غير التوبة.

بجوار مياه خابور[4]:

ترك الكاهن الشاب حزقيال (في الخامسة والعشرين من عمره) أورشليم مسبيًا إلى بابل ليبقى فيها بلا عودة، وهناك أقام مع المسبيين من شعبه بجوار قناة خابور في تل أبيب أو بجوارها، وهي غير تل أبيب الحالية. على أي الأحوال كان حزقيال في سنواته الأولى يلاحظ ما يدور في حياة شعبه ويتأمل في صمت مع مرارة. فقد كانت بابل في ذلك الحين في أوج عظمتها ومع كل يوم جديد يضاف إلى تاج نبوخذنصَّر لآلئ جديدة. وكان هذا يمثل ضغطًا نفسيًا على اليهود، خاصة وأنهم قد حرموا من أورشليم "فردوسهم المفقود". لم يكن السبي في ذاته قاسيًا في ذلك الحين إن استبعدنا الجانب النفسي لحرمانهم من وطنهم. فقد أعطيت لهم أرض في تل أبيب على ضفاف قناة خابور، ليست بعيدة عن العاصمة بكل إمكانياتها وملذاتها. وكان المسبيون يخضعون لشريعة حامورابي[5] Hammurabi التي تقترب من شريعتهم. لم توجد قيود على تنظيماتهم الدينية أو المدنية، فتستطيع الأسباط والعائلات أن تجتمع معًا حسبما تريد، ويقوم شيوخهم بالقضاء فيما بينهم، وكانت الدولة تشجعهم على التجارة وتسمح لهم بامتلاك بيوت خاصة بهم كما كان لحزقيال نفسه. ولعل من المؤسسات اليهودية الناجحة في بابل شركة ماراشو Marashu وأولاده التي اكتشفت مستندات أعمالها بواسطة علماء الآثار[6].

وكان البريد بينهم وبين إخوتهم في أورشليم ضخمًا ولا ينقطع.

وفي السنة الرابعة من السبي قام صدقيا الملك بزيارة بابل قادمًا من أورشليم وقد ازدحمت بابل ليروه قادمًا بمركبته.

وفي السنة الخامسة من السبي (حوالي عام592 ق.م) وقبل سقوط أورشليم في المرحلة التالية من السبي بسبع سنوات انفتحت السموات لأول مرة أمام حزقيال ليرى رؤى الرب، رأى المركبة الإلهية النارية كبدء انطلاقة لتسليم حزقيال العمل النبوي في هذا الجو المُرّ لمدة حوالي 22 عامًا (592-570 ق.م). وكان تاريخ نبواته هكذا:

السنة الخامسة للسبي                   (حز 1-7).

السنة السادسة للسبي                   (حز 8-19).

السنة السابعة للسبي                   (حز 20-23).

السنة التاسعة للسبي                   (حز 24).

السنة الحادية عشرة للسبي             (حز 18: 25-28؛30: 31).

السنة الثانية عشرة للسبي              (حز 32-39).

السنة الخامسة والعشرون للسبي        (حز 40-48).

السنة السابعة والعشرون للسبي        (حز 29: 17 الخ).

أما أهم الأحداث التي عاصرها النبي أثناء نبواته فهي:

في السنة السادسة للسبي سمع حزقيال النبي عن ارتباط الملك صدقيا بفرعون مصر ضد نبوخذنصَّر (17: 15) فكتب بوضوح له ضرورة الالتزام بالقسم الذي تعهد به، حتى وإن قُدم إلى ملك وثني، فإنه لا يليق أن يحنث به (17: 18)، وإلا سقط تحت العقاب الإلهي.

لقد أعلن أن مصير صدقيا سيكون كمصير يهوآحاز الذي أخذه فرعون نخو أسيرًا إلى مصر سنة 607 ق.م (19: 4) ويهوياقين الذي أسره الكلدانيون (19: 9). إن أهوليبة (أورشليم) يكون لها ذات مصير أختها الكبرى أهولة (السامرة) وذلك بسبب خطاياها التي تفاقمت (23: 1؛ 23: 23). في السنة الثامنة للسبي تولى فرعون جديد Apries الحكم، فدفع صدقيا دفعًا للثورة ضد بابل، وتم ذلك في السنة التاسعة للسبي.

وفي السنة العاشرة للسبي صارت أورشليم تحت حصار مُرّ، فتحققت نبوات إرميا وحزقيال، وقد حدد الأخير اليوم (24: 2). وفي العام التالي حاول صدقيا الهروب ليلاً فقُبض عليه في أريحا وقُتل أولاده أمام عينيه ثم فقأوا عينيه واقتادوه إلى بابل مقيدًا. هنا لم يترك ملك بابل شيئًا في مدينة داود أو هيكل الرب أو القصر الملكي إلا وقام بتخريبه. هرب البعض إلى مصر حاملين إرميا النبي وباروخ الكاتب بغير إرادتهما حيث رحب خفرع بالشعب. هنا شمتت البلاد الأممية فيهم، فجاءت النبوات (18: 25-29؛ 30، 31) تعلن حكم الله على جماعة الأمم الشامتة بشعبه.

وبالرغم من كل هذه الظروف لم يفقد النبي رجاءه (34: 13) وإن كان حزن قلبه لم ينقطع قط بسبب دمار الهيكل وفقدانه شهوة قلبه. لقد سمع عن نهاية أورشليم في أيامه ففتح له الرب رؤى جديدة لأورشليم جديدة وهيكل جديد وعبادة جديدة. حقًا كان نبوخذنصَّر في قمة مجده وعظمته، وكان يهوياكين داخل السجن، لكن الخلاص والعودة إلى أورشليم لم يفارقا عيني النبي (36: 11، 29، 30)، فقد رأى الله يقيم هذا الشعب كما يقيم الأموات واهبا للعظام الجافة روحًا وحياة (37). لقد قدم النبي صورة رائعة للإصلاح من جوانب متعددة، منها:

·      أن الله يغفر الخطايا (36: 11، 16، 19).

·      أنه يعيد مملكتي الشمال (افرايم) والجنوب (يهوذا) إلى وحدة كاملة تحت حكم من نسل داود الملوكي.

·      يدين الله رعاة الشعب الأنانيين وينزع عنهم عملهم ويقوم بنفسه بالرعاية (34).

·      التنبؤ عن العصر المسياني (34: 23) بالعودة الروحية من سبي الشيطان والخطيئة (36: 26).

·      جاءت الأصحاحات الأخيرة تمزج العمل الفني لبناء الهيكل الجديد بالرؤية النبوية والعمل الكهنوتي.


 

تأثيره[7]:

يبدو أن حزقيال النبي لم يكن له تأثير قوى على معاصريه، الذين كثيرًا ما يدعوهم "البيت المتمرد" (2: 5، 6، 8؛ 3: 9، 26، 27 الخ...)، مشتكيًا من أن كثيرين يأتون للاستماع إليه لكنهم ينظرون إلى أحاديثه بكونها تسلية تحمل نوعًا من الجمال الفني، ولا يطيعون كلماته (33: 30-33).

استشهاده:

كان بنو شعبه يتخذون منه موقف المتفرجين الساخرين، بل كانوا يكرهونه وينبذون كلماته لتعنيفهم على نجاساتهم وشرهم. وقد ذكر القديس ابيفانيوس عن تقليد قديم أن قاضيًا من شعبه قام بقتله، لأنه وبخه على كفره وعبادته للأوثان. ويقال إنه دفن في قبر سام وازمكشاد، في Kefil بالقرب من Birs Nimrud، وكان الكثيرون يحجون إليه في أيام القديس، وصار المسلمون يحجون إليه إلى زمن طويل مع اليهود[8].

في أيام القديس يوحنا الذهبي الفم، اُحتفل بنقل أعضائه من بلاد بنطس إلى مدينة القسطنطينية في 22 ديسمبر، حيث ألقى القديس خطابًا رائعًا في هذه المناسبة، ويحتفل الأروام واللاتين بهذا التذكار. أما كنيستنا فتعيد بتذكار نياحته في الخامس من برمودة.

غاية السفر:

1. في المرحلة الأولى من سبي يهوذا لم يقم نبوخذنصَّر بتخريب أورشليم أو هدم الهيكل، فظن الشعب ان المدينة والهيكل لن يصيبهما أذى، وأن الله يدافع عنهما، وأن مدة السبي لن تطول، وحسبوا كلمات إرميا النبي ونبواته غير صادقة، لهذا السبب إذ سُبي حزقيال استقر هناك وسط المسبيين واقتنى له بيتًا ليؤكد لهم طول مدة السبي، كما أكد لهم بطريقة أو أخرى صدق نبوات إرميا - دون أن يذكر اسمه - معطيا صورة للدمار الذي يحل بسبب الانحراف إلى عبادة الأوثان وارتكاب الشر. لقد أكد مفارقة مجد الرب الهيكل (10: 16-18؛ 11: 23)، وسقوط أورشليم (33: 21).

2. في هذا السفر أوضح النبي "التوبة" كطريق لاستمالة مراحم الله (18: 27).

3. كان البعض يشعر أنهم يُعاقبون ظلمًا بسبب خطايا آبائهم، وأنهم الضحايا البريئة لمسئولية الأمة اليهودية (ص 18، 33)، لهذا كشف النبي عما يرتكبه الشعب في ذلك الحين من رجال ونساء مع الكهنة من شرور حتى في دار الهيكل (9: 11). فالعقاب ليس عن خطايا سالفة عن جيل سابق وإنما بسبب الجيل المعاصر له. وقد أكد النبي أن كل نفس مسئولة عن خطاياها الشخصية لا عن خطايا الغير (18: 2) كما لا يخلص أحد على حساب آخر (14: 20). والإنسان أيضًا يطالب عن موقفه الحالي لا عن ماضيه.

4. في الوقت الذي كان فيه الشعب يشعر بأن السبي أمر مؤقت وأنه لا تدمير للهيكل، كان يتنازعهم شعور آخر هو اليأس، خاصة كلما مر الزمن وازدادت الحالة سوءًا. فجاء السفر يعلن عن إمكانية الله لتقديم القلب الجديد والروح الجديد لأولاده، كما عزَّاهم بتحقيق رجوعهم المستقبل، ونزول القضاء الإلهي على أعدائهم البغاة.

5. إذ أعطاهم هذا الرجاء دخل بهم إلى العصر المسياني، حيث يتقدم السيد المسيح كداود الجديد الذي يملك عوض الملوك الأشرار ويرد الكل إلى روح واحد. انطلق بهم السفر إلى هيكل جديد مغاير للهيكل القديم الذي اعتاد النبي أن يراه في صباه. عوض جبل صهيون الصغير يرى جبلاً عاليًا متوجًا بأبنية مقدسة جديدة وعظيمة. وكما ترك الله الهيكل القديم بسبب دنسهم (10: 18-19؛ 11: 22-24) يعود إلى الهيكل الجديد الذي يملأه بمجده (43: 1-6)، يقوم على نهر المياه المقدسة النابع عند عتبة البيت حيث المذبح المقدس (حز 47)، على ضفافه أشجار كثيرة ومتنوعة "جماعة القديسينً يرتوون بالروح القدس بلا انقطاع. ويلاحظ أننا لا نسمع في هذا السفر عن آلام السيد المسيح وموته كما في إشعياء النبي ولا عن رفض اليهود الإيمان به، بل أوضح أمجاد بيت الرب الجديد والهيكل المقدس ليعطي الشعب فرحًا ورجاءً بعد توبيخات كثيرة.

6. تنبأ عن بعض الأمم مثل آدوم وصور وصيدا والفلسطينيين وفرعون مصر الخ.

فمن جهة صور يتحدث عن مصيرها وخرابها (حز 26) لأنها وقفت ضد أورشليم، إذ ظنت أن خراب أورشليم يؤول إلى ازدهارها.

لم يكن هذا الأمر متوقعًا، لأن صور مدينة عظيمة ظهرت سنة 2750 ق.م على الشاطئ، ولأسباب دفاعية نقلت إلى جزيرة صخرية مقابل لها، حملت نفس الاسم، مساحتها حوالي 142 فدانًا. كانت مدينة أو جزيرة تجارية ضخمة تستقبل المواد الخام التي تستهلكها فينيقية من سفن العالم المعروف في ذلك الحين والتي تعود محملة بكل أنواع البضائع.

فشل سنحاريب ملك أشور في الانتصار عليها بعد حرب دامت قرابة 13 عامًا، كما فشل نبوخذنصَّر ملك بابل بعد ذلك. لكن الله أعلن بواسطة نبيه حزقيال أنها تنهار وتسقط أسوارها في المياه. وقد تحقق ذلك على يدَّي الاسكندر الأكبر، إذ أقام ممرًا من الشاطئ حتى الجزيرة وهزمها... ولم تعد بالمدينة المشهورة.

زارها السيد المسيح (مت 15: 21) ومعلمنا بولس الرسول (أع 21: 3-7)، وصارت من أجمل مدن فينيقية.

في القرن الثالث عشر استولى عليها المسلمون وهُدمت. ولم تُبنَ بعد، إنما صارت مجموعة من الحجارة يلقي الصيادون شباكهم عليها فتحقق القول: "تكونين مبسطًا للشباك..." (حز 26: 14).

لقد تحققت كلمة الله حرفيًا فيها في تفاصيل دقيقة[9]!

7. حوى السفر نبوات تخص انقضاء الدهر، والعصر السابق لنهاية العالم... الأمر الذي نعود إليه أثناء شرح السفر إن شاء الرب وعشنا.

سماته:

1. سجل لنا حزقيال النبي رؤياه وعظاته النبوية التي نطق بها، وقد جاء كتابه يمثل وحدة واحدة في الكتابة بطريقة منظمة وضعها النبي بنفسه، مسجلاً لنا ما رآه وما تصرف به وما تكلم به.

2. بما أن الله قد دعاه ليتنبأ وسط أناس متمردين وبين قساة القلوب وصلاب الوجوه (2: 3-4) لهذا أعده الله بروح جرئ غير مرتاب، فكان ذا إقدام وعزم وغيرة حارة على مجد الله، يواجه ببسالة كل المقاومات التي يتعرض لها، فجاء السفر يتميز عن سائر الأسفار بحماسه.

3. أكثر من التمثيلات والرموز.

التمثيل هو التعبير عن حادثة ما بطريق التشبيه أو الاستعارة كأن يشبه نبوخذنصَّر وفرعون بنسرين كبيرين ويهوياكين بفرع أرز، ونقله إلى بابل بقصف رأس فروع الأرز ونقله إلى لأرض كنعان (حز 17: 1-10).

أما الرموز النبوية فهي نوعان:

أ. رموز عملية قام النبي بممارستها أمام الشعب كما في حزقيال (37: 16- 17) حيث يقرن النبي عصوين معًا إشارة إلى انضمام مملكتي إفرايم ويهوذا.

ب. رموز نظرية كالتنبؤ عن العظام اليابسة (37: 1-10) وقياس أورشليم الجديدة مع هيكلها (حز 40).

دعي حزقيال بصانع الرمزية[10]، وإن كان قد سبقه بعض الأنبياء في استخدامها مثل إشعياء وإرميا. وقد أكثر الأخير من استخدامها، مثل نزوله في بيت فخاري ليرى فيه مثالاً للعمل الإلهي الذي يخرج من الطين آنية للكرامة (إر 18)، ومثل كسرة إبريقًا فخاريًا أمام قومه نبوَّةً عن كسر الشعب والمدينة (إر 19).

4. كان حزقيال نفسه رمزًا، يقوم بدور بيت إسرائيل رمزيًا (12: 6، 11؛ 4: 3؛ 24: 24، 27). كان يقوم بأدوار غريبة، فتارة يقضي أيامًا طويلة صامتًا لا ينطق بكلمة، وأخرى يمثل ما سيحل بشعبه من كوارث فينام على جنبه الشمال 390 يومًا ثم على الجنب الآخر أربعين يومًا، يأكل بوزن ويشرب بكيل. أحيانا يقص شعر رأسه ولحيته ليحرق ثلثه ويضرب الثلث بالسيف ثم يذري الثلث في الهواء. أحيانًا يقطع صمته لينشد على آلة موسيقية (33: 32). وفي موت زوجته المحبوبة لديه لا يذرف دمعة بل يتنهد في قلبه. هكذا ربط النبي حياته بمأساة شعبه. ولعل هذا هو السبب الذي لأجله دعاه الله "ابن آدم" حوالي تسعين مرة، إذ حمل صورة مرارة الخطيئة التي تثقل بها الإنسان ابن آدم. لقد استخدم هذا التعبير ليظهر الله له ضعفه وحاجته إليه كسند له وسرّ نجاحه[11]، هذا وقد دُعي السيد المسيح "ابن الإنسان" حوالي 80 مرة.

هذه التصرفات جعلت بعض المفسرين الحديثين يتهمونه بإصابته بأمراض نفسية، وحاول البعض تشخيصها، بينما رأى الآخرون فيه أعظم شخصية روحية ظهرت في التاريخ البشري[12]، كإنسان يحرص منذ بدء دعوته أن يقضي كل حياته بجميع تصرفاته لحساب الخدمة، مقدمًا كل طاقات ذهنه وقلبه وتصوراته لحساب كلمة الله. فكان إن تكلم أو صمت، إن تنهد أو نام، إن أكل أو شرب أو رسم أو ضرب على آلة موسيقية لا يفعل شيئًا لأجل نفسه بل لحساب العمل النبوي.

5. كشف سفر حزقيال عن شخصية النبي ليس كرجل رؤى، وإعلانات فحسب، وإنما كرجل الكتاب المقدس، كثيرا ما استخدم أسفار موسى الخمسة وغيرها من الأسفار، فأشار إلى قصة الخلق (28: 11-19) والكاروبيم (حز 37: 7، تك 3: 24)، وتحدث عن نوح ودانيال وأيوب (14: 24، 28: 3)، وتنبأ عن جوج وماجوج (تك 10: 2، 1 مل 1: 5).

6. جاء السفر يتضمن آراء متكاملة معًا، نذكر على سبيل المثال:

أ. يركز السفر في حديثه عن الله أنه إله غيور يخلص شعبه ويدخل معهم في عهد لأجل اسمه القدوس، يفعل كل شيء لأجل مجده، لكنه في نفس الوقت يتحدث عن محبته العميقة لشعبه، إذ يراه كفتاة مهملة ومرذولة من الجميع فيهتم بها ويغسلها ويجَّملها ويقيمها عروسًا له (حز 16). لايعمل لأجل اسمه فقط إنما أيضًا لأجل حبه لنا، وإن كان لا فصل بينهما.

ب. يعلن في هذا السفر عن اهتمامه بشعبه كأمة واحدة وعروس واحدة، جماعة تعبدية لرب واحد، وفي نفس الوقت لا يتجاهل الفرد، فلا يلتزم أحد بثمر أخطاء غيره (18: 4، 29).

ج. مع تعنيفه الشديد على الخطيئة كان مملوءًا رجاءً حتى في أحلك اللحظات وأظلمها.

د. يهتم هذا السفر بالطقس والعبادة الكهنوتية، وفي نفس الوقت يركز على الحياة الداخلية وتنقية القلب، فلا انفصال بين العبادة الجماعية والروحانية.

هـ. أخيرًا في هذا السفر يظهر حزقيال النبي ككاهن ابن الكاهن الذي يرتبط بالهيكل والذبيحة والليتورجيات، والنبي الذي يعلن بعض أسرار المستقبل، والرائي الذي يدخل به الروح إلى السموات ليتكشف أسرار العظمة الإلهية، وأيضًا الرجل اللاهوتي الذي يدرك أسرار الإيمان، والكارز المهتم بالتوبة، والأديب والشاعر الملهم والفنان الخ...

7. إشعياء هو نبي الدولة يدعو للإيمان، وإرميا النبي الشهيد يدعو للحب، وحزقيال نبي السبي يدعو للرجاء. نبوات الأول تمجد الابن المخلص، والثاني تمجد الآب، وأما الثالث فتمجد الروح القدس[13].

8. أكثر من أي نبي تسلم حزقيال رسائله من خلال الرؤى. يعتبر سفر حزقيال من أصعب الأسفار. قيل إن حاخامًا قد وعد بتفسيره بالكامل فخصص له المجمع 300 برميلاً من الزيت لسراجه حتى يستطيع أن يكتب التفسير، مفترضًا أنه لن ينهي عمله قط[14].

9. يختلف نبي السبي العظيم حزقيال عن النبيين إشعياء وإرميا في أمرين هامين:

أ. لم يتعامل مع حكومة يهوذا، أي الملك ورجاله؛ إذ لم يكن مصلحًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل كان يهتم بخلاص كل إنسان كفرد وحثه على التوبة، دون تجاهل للجانب الجماعي.

كما كان بعيدًا عن القصر البابلي حيث عاش دانيال النبي.

ب. كان لذات السبب كاتبًا أكثر منه متحدثًا، وفي هذا كان فريدًا بين الأنبياء. كتب إلى "كل بيت إسرائيل" لكي تقرأه الأجيال المتعاقبة[15].

10. يكشف السفر عن شخصية حزقيال بكونه نبيًا متعدد الجوانب[16]، ربما لا يوجد مثله في كل تاريخ إسرائيل من هذه الزاوية، فقد كان كاهنًا ونبيًا، وراعيًا (رقيبًا)، ورائيًا، ولاهوتيًا، ومخططًا دينيًا، وشاعرًا، وفنانًا.

ككاهن كان مهتمًا جدًا بطهارة الطقس جنبًا إلى جنب مع نقاوة الشخص، والعبادة الجماعية السليمة، والطاعة لشريعة الله. سيطرت قداسة الله على حياته وأفكاره.

وكنبي كشف عن خطايا إسرائيل ويهوذا والأمم وأعلن عن تأديب الله، مناديًا بالتوبة، كاشفًا عن وعود الله، خاصة في العصر المسياني.

وكراع كان يشارك شعب الله آلامهم، يحذرهم ويطلب راحتهم في الحق. كراءٍ فقد شاهد رؤى كثيرة.

كلاهوتي أوضح المفاهيم اللاهوتية وراء خراب أورشليم والتجديد...

كمخطط ديني وضع الأساس الروحي للمجتمع ما بعد السبي ليعيش كما يليق.

كشاعر سجل لنا قطعًا أدبية رائعة ومراثٍ مؤثرة للغاية.

كفنان رسم صورًا كثيرة غريبة للقارئين، مملوءة أسرارًا رهيبة، يصعب أحيانًا تخيلها[17].

حزقيال وتجديد القلب:

إن كان إرميا النبي قد ركز على الإصلاح الداخلي عوض الانشغال بالمظاهر الخارجية، وعلى ختان القلب والأذن عوض ختان الجسد الظاهري، فإن حزقيال النبي أيضًا يؤكد الحاجة إلى تجديد القلب.

"وأعطيكم قلبًا جديدًا،

وأجعل روحًا جديدة في داخلكم،

وأنزع قلب الحجر من لحمكم،

وأعطيكم قلب لحم،

وأجعل روحي في داخلكم،

وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها"

بالقلب الجديد ننعم بالهيكل الجديد والأرض الجديدة والحياة الجديدة (حز 40-48).

أما علامات القلب الجديد فهي:

1. يتمتع بسكنى روح الرب فيه (36: 27).

2. يحمل قوة السلوك في وصايا الرب وحفظ أحكامه (36: 27).

3. يستريح في الوعود الإلهية (36: 28).

4. يخلص من كل النجاسات (36: 29).

5. يتمتع بحالة شبع (36: 29-30).

6. يصير كجنة عدن عوض الخراب الذي حلَّ به (36: 35).

7. يشهد الغرباء للثمر الإلهي المتكاثر فيه (36: 36).

8. نمو دائم  (36: 37-38).

بين حزقيال وإرميا:

على خلاف إرميا النبي كان حزقيال النبي متزوجًا وله بيت وقد تأثر بإرميا كثيرًا، إذ تناول ملاحظاته التعليمية أو استعاراته التوضيحية أو خطاباته القصيرة وصار يوضحها ويوسعها، وكثيرًا ما كان يعطيها صورة أدبية نهائية، من ذلك[18].


 

    إرميا                حزقيال

1. القدر                          (1: 13-15).     (11: 2-11، 24: 3-14).

2. الأختان                        (3: 6-11).      (23).

3. المغفرة للمذنبين                (18: 5-12).     (18: 21-32).

4. الرعاة الأشرار                

ومجيء ملك جديد              (23: 1-6).      (34: 1-24).

5. المسئولية الشخصية            (31: 29-30).   (18: 2-31).

6. الخليقة الروحية                (31: 33-34).   (11: 19-20؛ 36: 25-29).

7. رجاء المستقبل                 (24).             (11: 15-21؛ 37: 1-14).

اختلف إرميا النبي عن حزقيال النبي في أن الأول كان رقيقًا هادئًا في توبيخاته، كشف بالأكثر عن مرارة نفسه من أجل شعبه، حاسبًا آلامهم آلامه وخطاياهم خطاياه. أما حزقيال إذ جاء بعد إرميا وفي فترة حالكة الظلمة كما أدرك عنف موقف المسئولين تجاه إرميا وتشكك البعض في نبواته اضطر أن يكون قاسيًا في تعنيفه شديد اللهجة يقف كمن يحاكم ويدين، وإن كنا لا نستطيع تجاهل حبه الشديد ومرارة نفسه على شعبه. يعتبر سفره أكثر الأسفار النبوية إحساسًا بمدى جرم الشعب ضد الله حتى تبدو كلماته كأن الله سيدينهم أكثر من سائر الأمم.

بين حزقيال والرؤيا:

يرى الدارسون أن للقديس يوحنا دراية قوية بسفر حزقيال، حيث توجد عبارات متشابهة:

1. راجع وحش (حز 1: 5، 10)               مع (رؤ 4: 5، 7).

2. راجع العلامة على الجبهة في (حز 9: 4)   مع (رؤ 13: 16).

لقد ختم النبي حزقيال سفره بوصف الهيكل المقبل، الذي جاء صورة رمزية للهيكل السماوي أو أورشليم العليا كما ورد في سفر الرؤيا:

                             حزقيال                      الرؤيا

1. الجبل المقدس            (40: 2)                    (21: 1).

2. المدينة المقدسة           (37: 27)                  (21: 3).

3. مجد الله فيها             (43: 2-5)                 (21: 11).

4. المدينة مربعة            (48: 16، 30)             (21: 16).

5. لها اثنا عشر بابًا         (48: 30-34)              (21: 12-13).

6. فيها نهر الحياة           (47: 1)                     (22: 1).

7. على ضفافه الأشجار     (47: 1، 7)                 (22: 2).

المسيح في سفر حزقيال:

1. غصن الرب (17: 22، 24): جاء في إشعياء النبي: "في ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاءً ومجدًا وثمر الأرض فخرًا وزينة للناجحين من إسرائيل... إذ غسل السيد قذر بنات صهيون" (4: 2، 4). ينزل الرب كغصن يغسل بدمه قذر خطايانا، فنحمل في داخلنا ثمر الروح، ونصير نحن به أغصانًا تأوي الطيور.

2. الراعي المحب (34) يطلب الضال ويسترد المطرود ويجبر الكسير ويعصب الجريح... قائلاً: "هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها" (34: 11).

3. داود (34: 23) الذي يرعى غنمه، ويقطع عهد سلامٍ مع شعبه وينزع الوحوش الرديئة من الأرض، ويجعل مقدسه في وسطهم (34: 25-28).

4. غرس لصيتٍ (34: 29)، ينزع عن شعبه العار ويجعل لهم صيتًا ومجدًا في داخلهم!

5. المعمودية وعهد النعمة (36: 25-27)... تجديد الطبيعة البشرية، والتمتع بالإنسان الجديد.

6. كنيسة العهد الجديد المقامة كما من العظام اليابسة (37: 1-10)؛ الهيكل الجديد(37).

7. ميلاد المسيح من البتول وبقاؤها بتولاً (44: 2).

تحدث العلامة أوريجينوس عن حزقيال النبي نفسه كرمز ومثال للسيد المسيح[19].

1. رأى حزقيال وهو في الثلاثين من عمره السموات مفتوحة، وكان عند نهر خابور، وعند نهر الأردن انفتحت السموات من أجل السيد المسيح أثناء عماده وهو في الثلاثين من عمره.

2. دُعي حزقيال "ابن آدم"، ودعا السيد المسيح "ابن الإنسان" لتأكيد تأنسه، واحتماله الالآم والصلب لأجلنا.

3. اسم حزقيال يعني "قوة الله العليا"... من يقدر أن يقدم قوة الله العليا سوى السيد المسيح نفسه؟!

4. عاش وسط المسبيين، وجاء السيد المسيح وسطنا ليحررنا من سبي الخطية.

5. انفتحت السموات أمام حزقيال ورأى المركبة السماوية، وفتح الرب لنا سمواته لنشارك السمائيين تسابيحهم، ويمتلئ العالم بالملائكة.

الله في سفر حزقيال[20]:

إذ دخل الشعب إلى المذلة في أرض السبي، عوض رجوعهم إلى أنفسهم، ونسبهم ما حلّ بهم إلى خطاياهم، تشككوا في إمكانية الله وقدرته، لهذا إذ جاء حزقيال النبي يدعوهم إلى التوبة كشف لهم عن عظمة الله وقدرته وبعضًا من سماته:

1.   الله ممجد ومهوب (1: 25-28؛ 3: 23).

2.   الله قدوس لا يطيق الخطية (5: 11؛ 36: 23).

3.   الله قوى في كل مكان (3: 12-27؛ 5: 5).

4. الله صاحب سلطان على كل الأمم (25: 1، 32: 32).

5.   الله عادل (18: 25؛ 33: 20).

6.   الله يُعرف بأعماله القديرة (6: 7، 14؛ 20: 38).

7. الله يرعى شعبه بنفسه (34: 11-16).

8. الله يهب القلب الجديد والحياة الجديدة (36: 25-32).

لقد بدأ السفر بإعلان "مجد الله"، وقد تكرر هذا التعبير مرات كثيرة في الأصحاحات الإحدى عشرة الأولى ليختفي ويظهر ثانية ابتداء من الأصحاح 43... وكأنه يؤكد أنه متى أُعلنت الخطايا والرجاسات يختفي مجد الله، بل يُجدف عليه بسببنا. الله في حبه خلقنا لننعم برؤية مجده فنفرح ونتهلل، ونحن بعصياننا فقدنا الرؤية... لكنه لم يتركنا إنما أرسل ابنه الوحيد ليقيم لنا الهيكل الروحي الجديد، ويدخل بنا إلى شركة المجد الإلهي في استحقاقات دمه.

هذه هي خبرة الكنيسة، وخبرة كل عضو فيها... عندما نسقط في الخطية نحزن روح الله، ونفقد مجده فينا... بالتوبة نعود إليه ويتجلى مسيحنا المصلوب والممجد فينا!

هذا ويرى البعض أن السفر قد بدأ برؤية مجد العرش الإلهي ليعلن لإسرائيل أن الله مُمجد في السماء، لا يحتاج إلى الهيكل الذي دنسوه. إنه يرفض الهيكل والتقدمات والعبادة مادامت ممتزجة بالرجاسات[21].

أقسام السفر:

يحمل هذا السفر ذات التقسيم الذي لبقية الأسفار النبوية، وهو ظهور قسمين متكاملين: الدينونة أو الحكم بالهلاك (1-24) ثم الخلاص بعد تأديب الأمم (25-48). غير أنه يمكننا تقسيم السفر إلى ستة أقسام رئيسية:

1. دعوة حزقيال                                [ص1- ص3].

2. تهديدات قبل سقوط أورشليم                  [ص4- ص 12].

3. خطايا إسرائيل وأورشليم                    [ص 13- ص 24].       

4. نبوات ضد الأمم                            [ص 25- ص 32].

5. نبوات عن الرجوع من السبي                [ص 33- ص 39].

6. إصلاح الهيكل وأورشليم                     [ص 40- ص 48].

محتويات السفر:

القسم الأول: دعوة حزقيال:

1-3  دعوة حزقيال للعمل النبوي بعد ظهور المركبة النارية، ثم استلامه كلمة الله كدرج يأكله فيشبع جوفه ويمتلئ فمه حلاوة.

القسم الثاني: تهديدات قبل سقوط أورشليم:

الحلقة الأولى من التهديدات

4-5    نبوات خلال أعمال وتصرفات رمزية (اللبنة المرسومة، النوم على جانب واحد، الأكل بوزن والشرب بكيل، حلق شعر رأسه ولحيته).

6-7    الحديث بوضوح عن ثمرة خطايا يهوذا.

8-11  انتقاله من بابل إلى أورشليم بالروح ليرى الرجاسات قد دخلت بيت الرب، فتحرق المدينة بالنار، ويفارق الرب بيته، معطيًا وعدًا بالعودة ونوالهم القلب الجديد والروح الجديد.

الحلقة الثانية من التهديدات

12     نبوات رمزية أخرى عن سقوط أورشليم والسبي مع الإشارة إلى مصير صدقيا الملك.

القسم الثالث: خطايا إسرائيل ويهوذا:

13     تأكيد تحقيق النبوة ونبذ الأنبياء الكذبة (تركه المكان إلى موضع آخر علامة الجلاء، نقب الحائط مع تغطية وجهه لكي لا يرى، يأكل طعامه وشرابه بارتعاد وغم).

14     المسئولية الشخصية عن أخطاء الإنسان.

15     إسرائيل وقد صارت كرمة بلا ثمر، كعود الكرم لا يصلح إلا للنار.

16     تشبيه شعبه بالفتاة المهانة المتروكة يخطبها الرب لنفسه ويجَّملها فتعود وتزني وراءه.

17     مسلك يهوذا، خيانته لملك بابل فيلتجئ إلى مصر، ويرسل الله ملك بابل للتأديب.

18     مسئولية الإنسان عن تصرفاته الشخصية.

 19    مرثاة على رؤساء إسرائيل.

20-24 على شكل شعر منظوم تفضح خطايا إسرائيل ويهوذا وإما خلال الرموز (صانع المعادن الذي يحرق المعدن بالنار لينقيه من المواد الغريبة، مثل الأختين، موت زوجته).

القسم الرابع: نبوات ضد الأمم لتأديبهم:

25-32  رؤى ضد عمون وموآب وآدوم والفلسطينين وصور ومصر لأنها شمتت في ذلك الحين في شعبه

القسم الخامس: نبوات عن الرجوع من السبي:

33-39  يتحدث عن استلامه رعاية شعبه (34) وإعادة بناء المدن (36) وإقامتهم كما من الموت (37) ووهبهم روح الوحدة (37)، وهلاك جوج وجيشه علامة نصرة الله على الأوثان (38-39).

القسم السادس: إصلاح الهيكل وأورشليم:

40-48 الهيكل الجديد والأرض الجديدة والنهر العظيم الذي يتعمد فيه كل قادمين إليه.

<<

 

 


 

 

 

الباب الأول

 

 

 

 

 

 

 

دعوة حزقيال

[ص 1- ص 3]

 

<<

 

 


 

الأصحاح الأول

المركبة النارية

يبدأ السفر برؤية العرش الإلهي ليؤكد لشعبه أنه يشتاق أن يشتركوا مع السمائيين في التمتع بمجده، ومن جانب آخر فهو غير محتاج إلى الهيكل الذي دنسوه والتقدمات والعبادة ما لم تكن قلوبهم مقدسة له، تتهيأ لسكناه.

كان لهذا الأصحاح مهابة خاصة لدى اليهود فلم يكن يُسمح لأحد أن يقرأه ويفسره علانية، لأنه يتعامل مع أسرار عرش الله[22].

مقدمة                                 [1-3].

1. الريح والسحابة والنار            [4].

2. المخلوقات الحية الأربعة           [5-14].

3. البكرات                           [15-21].

4. المقبب                            [22-25].

5. العرش والجالس عليه            [26-27].

6. قوس قزح                        [28].

مقدمة:

بدأ حزقيال النبي سفره بتحديد تاريخ أول رؤيا إلهية أُعلنت له، وموضع سكناه في ذلك الوقت، والظروف المحيطة به.

يقول: "كان في سنة الثلاثين" [1]. غالبًا ما يقصد أنه عندما بلغ الثلاثين من عمره فصار كاهنًا ولكن بلا عمل كهنوتي. وربما قصد السنة الثلاثين من بدء يوشيا الملك حركة ترميم الهيكل والإصلاح الديني، كما يُحتمل أنه قصد السنة الثلاثين من حكم نبوفالاسَّر والد نبوخذ نصر ملك بابل مؤسس الإمبراطورية البابلية. كان حزقيال مقيمًا على ضفاف قناة خابور عند تل أبيب[23] أو بجوارها (3: 15).

لقد بلغ حزقيال السن القانونية لاستلام العمل الكهنوتي من دخول إلى المقدسات وتقديم ذبائح واشتراك في الليتورجيات اليومية واحتفال بالأعياد وتمتع بالتسابيح المفرحة... لكن للأسف حُرم من هذا كله بسبب السبي، فكان يجلس عند ضفاف نهر خابور يبكي حال بلده وشعبه وهيكل الرب وكأنما كان يردد المزمور القائل:

"على أنهار بابل هناك جلسنا،

 فبكينا عندما تذكرنا صهيون.

 على الصفصاف في وسطها علقنا قيثاراتنا،

لأنه هناك سألنا الذين سبونا أقوال التسبيح،

والذين استاقونا إلى هناك،

 قالوا:

 سبحوا لنا تسبيحة من تسابيح صهيون.

 كيف نسبح الرب في أرض غريبة؟!

 إن نسيتك يا أورشليم أَنْسَ يميني..." (مز 136/ 137).

هكذا تمررت نفس الكاهن فارتفع به الروح إلى السموات ليدخل به إلى أورشليم العليا ويتمتع بالهيكل الأبدي، فلا يرى تابوت العهد والمنارة الذهبية ومذبح البخور... الخ، إنما يرى المركبة الإلهية النارية والعرش الإلهي الناري. انفتحت السموات [1] ليرى الأسرار الإلهية بما يناسب الظروف المحيطة به، لكي تمتلئ نفسه تعزية، إذ يرى خلالها الطبيعة البشرية المتجددة بالروح القدس الناري التي وُهبت لنا بالمسيح يسوع ربنا خلال مياه المعمودية المقدسة وقد صارت مركبة نارية تحمل الله نفسه!

انفتحت السموات أمام حزقيال النبي المسبي ليدخل كما إلى عرش الله القدير، فيدرك أن شئون البشر لا تسير بطريقة عشوائية، وإنما بتدبير إلهي عجيب، فالله ضابط الكل يهتم بكل ما يمس حياة الإنسان. هذا هو سّر تعزيتنا وسط الضيق.

أني أري (السماء مفتوحة)، آخرون لا يروا.

لا يظن أحد أن السماء مفتوحة بمعنى مادي بسيط. بل نحن الجالسون هنا نرى السموات مفتوحة ومغلقة حسب درجات استحقاقنا المختلفة. الإيمان الكامل يفتح السموات والشك يغلقها[24].

القديس جيروم

جاءت هذه الرؤيا الأولى والتي ستتكرر تخدم الأمور التالية:

أولاً: تعزي نفس حزقيال المحطمة، لكي يردد القول: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19)، "لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزياتنا أيضًا" (2 كو 1: 5). لهذا رأى الرسول بولس الفردوس غالبًا وهو يُرجم في لسترة، واختطف الرسول يوحنا إلى يوم الرب وهو منفي في جزيرة بطمس.

ثانيًا: جاءت الرؤيا تناسب الظروف المحيطة بالخدمة، إذ يقدم الله رؤياه وعطاياه حسب احتياجات كرمه. فحين التقى الله بموسى كأول قائد للشعب يقوم بالعبور بهم من حالة العبودية القاسية إلى البرية ليدخل بهم خلال يشوع إلى أرض الحرية، ظهر له على شكل العليقة المملوءة أشواكًا المتقدة نارًا ولا تحترق، ليعلن سر التجسد الإلهي والألم والقيامة[25]. وكأنه لا انطلاقة للكنيسة إلا من خلال العمل الخلاصي بالمسيح المتجسد المصلوب القائم من الأموات. وجاءت المعجزات التي رافقت موسى النبي تؤكد ذات الشيء[26]. أما هنا فكانت نفسية الشعب محطمة، خاصة وأن الكلدانيين كانوا يطوفون بموكب الإله بيل أو مردوخ[27] في شوارع العاصمة في عظمة وأبَّهه، بينما حُرم هذا الشعب من هيكله وانقطعت عنه تسابيح التهليل، فظهر انكسارهم كأنه انكسار لإلههم. لهذا لم يعلن الله نفسه في عليقة بسيطة متقدة بل خلال المركبة النارية المملوءة مجدًا وبهاءً، وكأن الله قد أراد أن يؤكد لنبيِّه وشعبه أن مجده يملأ السماء والأرض حتى في اللحظات التي فيها يسلم شعبه للتأديب بواسطة الأمم.

ثالثًا: تعلن هذه الرؤيا عن عطية الله للطبيعة البشرية التي تتقدس بالتجسد الإلهي. فالمركبة النارية إنما هي الكنيسة المقدسة كعرش إلهي، تمثل الكنيسة الجامعة كما تمثل نفس المؤمن الذي صار عضوًا في كنيسة الله ومركبة نارية ملتهبة تحمل الله في داخلها، بقبولها الروح القدس في سرى العماد والميرون وتسليمها حياتها بين يديه ليعمل فيها على الدوام.

رابعًا: لعل الله أراد أن يعلن لحزقيال النبي ما ينبغي أن يكون عليه خادم الرب. فإن كان الله نارًا آكلة، هكذا خدامه أيضًا ينبغي أن يكونوا لهيبًا ناريًا (مز 104: 4)، إنهم يتشبهون بالمركبة النارية، حتى يستطيعوا بالروح القدس الناري أن يعملوا لحساب الله. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يقوم بدور قيادي يلزمه أن يكون أكثر بهاءً من كوكب منير، فتكون حياته بلا عيب، يتطلع إليه الكل ويقتدون به[28]].

خامسًا: قبل استعراض الرؤيا قيل: "وصارت عليه هناك يدُ الرب" [3]. هذه العبارة محببة جدًا لدى حزقيال النبي، فإن كان بسبب السبي قد حُرم من استلام العمل الكهنوتي بالوراثة، لكن يد الرب امتدت عليه لتباركه وتسلمه روح النبوة... أنه مدعو من الله مباشرة ليرى أسرار ملكوت السموات، ويدرك خطة الله مع البشرية كلها عبر الأجيال حتى انقضاء الدهر. لقد عينه الله لخدمة المقُدَّسات السماوية!

سادسًا: يرى العلامة أوريجينوس في عظته الأولى على سفر حزقيال أن حزقيال هنا يمثل السيد المسيح في لحظات عماده. لقد صار بالحق ابنا للإنسان وهو الكلمة الحقيقية. جاء إلينا نحن المسبيين، لا لنرى المركبة النارية، إنما ليقودنا بروحه القدوس خلال مياه المعمودية بقوة صليبه إلى عرشه الإلهي. يفتح أمامنا سمواته، فنجد لنا موضعًا في حضن أبيه، فيه نستقر، وفيه نستريح إلى الأبد. إنه يحول كنيسته إلى مركبة نارية بروحه الناري، فننطلق جميعًا بقلوبنا إلى عرش نعمته، نختبر عربون مجده حتى نراه وجهًا لوجه.

ولكي نفهم هذه الأمور يلزمنا أن ندخل في بعض تفاصيل الرؤيا بإيجاز، والتي شملت ستة أمور: الريح والسحابة والنار، المخلوقات الحية الأربعة، البكرات، المقبب، شبه العرش والجالس عليه، وأخيرًا قوس قزح. هذه تحمل أسرارًا خاصة بالحياة السماوية كما بالكنيسة المقدسة وأيضًا حياة المؤمن الداخلية، خاصة خادم الرب. ولما كان النبي يحاول في هذا الأصحاح أن يصف ما لا يوصف، لهذا كثيرًا ما يكرر كلمة "يشبه"، وكأن اللغة البشرية والألفاظ والرموز لم تسعفه في التعبير عما رآه.

1. الريح والسحابة والنار:

"فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال. سحابة عظيمة ونار متواصلة

وحولها لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار" [4].

حيث يعلن مجد الرب غالبًا ما تظهر هذه الأمور الثلاثة: الريح العاصف والسحابة العظيمة والنار المتواصلة. هذه التي اجتمعت بقوة في يوم البنطقستي في علية صهيون حين حل الروح القدس على التلاميذ لإقامة كنيسة العهد الجديد، إذ "صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت، حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع 2: 2-4). ظهر الريح العاصف الذي ملأ كل البيت علامة امتلاء الكنيسة بالروح الإلهي، والنار المتواصلة خلال الألسنة النارية التي أشعلت قلوب المؤمنين بنار إلهي لا يُطفأ والسحابة العظيمة التي هي جماعة التلاميذ الذين تقدسوا فصاروا سحابة شهود للرب (عب 12: 1).

من جهة الريح العاصف نلاحظ أن كلمة "ريح ruah" في العبرية تُترجم ريحا أو روحًا أو نفسًا حسب النص[29]. ولا يقف الارتباط بين الريح والروح عند حدود اللفظ، فالريح عند اليهود لم تكن مجرد ظاهرة طبيعية، لكنها غالبًا ما كانت تحمل معنى الطاقة الإلهية المعلنة في الطبيعة[30]. ففي العهد القديم غالبًا ما ارتبطت الحضرة الإلهية بالريح العاصفة. فقد أجاب الرب أيوب من العاصفة (أي 28: 1)، وخاطب الرب موسى "في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم (العاصف)" (تث 5: 22). وإذ وقف إيليا على الجبل "إذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال، وكسرت الصخور أمام الرب" (1 مل 19: 11). لهذا يقول ناحوم النبي: "الرب في الزوبعة وفي العاصف طريقة والسحاب غبار رجليه" (نا 1: 3). كما يقول المرتل: "يأتي إلهنا ولا يصمت، نار قدامه تأكل حوله عاصف جدًا" (مز 50: 3).

ويعلق القديس أغسطينوس على قول المرتل هكذا: [هذا بلا شك يصنع نوعًا من الفصل. إنه ذاك الفصل الذي لا يتوقعونه حين تتمزق الشباك قبل أن يأتوا بها إلى الأرض (لو 5: 6). في الفصل يحدث تمييز بين الصالحين والأشرار[31]]. وكأن الريح العاصف قد أخذ مفهومًا أخرويًا في ذهن القديس أغسطينوس. فإنه ما دمنا في هذا العالم كالسمك في الشبكة لا يُفصل الأبرار عن الأشرار، لكن إذ يؤتى بها إلى الأرض، أي إلى يوم الرب العظيم، يقوم الريح العاصف بعزل هؤلاء عن أولئك.

هذا الفصل أو التمييز الذي يلازم مجيء الرب العظيم يتم حاليًا داخليًا في القلب. ففي عيد البنطقسي إذ هب الريح العاصف وهب الكنيسة روح التمييز لا لتدين الأشرار خارجها وإنما لتحكم في داخلها روحيًا، فتعزل الخبيث المتمسك بخبثه عن النفوس البسيطة والنقية، كما يحمل كل عضو في داخله روح التمييز الذي يدين الشر أو الضعف الذي يسقط فيه، سالكًا في النور، هاربًا من الظلمة. إنه يدين نفسه ويحكم على أعماقه الداخلية وتصرفاته وسلوكه قبل أن يُحكَم عليه.  

أما في سفر حزقيال فقد شعر النبي "بالريح العاصف قادمًا من الشمال" [4] وكأن الرب يؤكد أنه يُهبُّ على شعبه بروح الفصل والتمييز ليؤدبهم على شرهم ويدخل بهم من خلال السبي والألم إلى الحياة النقية. الريح العاصف أو الزوبعة قادمة من الشمال، وقد كان الشمال عند اليهود يشير إلى الضيق والغموض. حيثما تهب الريح الشمالية اللافحة تحل الأوبئة ويحدث الدمار. فبينما كان الأنبياء الكذبة يتكلمون بالناعمات (إش 30: 10)، "قائلين: سلام سلام ولا سلام" (إر 8: 11)، لكي يهدئوا مخاوف الشعب، ويكسبوا القيادات لصفهم على حساب الحق، كان الأنبياء ينطقون بالحق ولو كان جارحًا. هذا ما يؤكده حزقيال النبي أن الله نفسه قادم للتأديب كما في ريح عاصف شمالي!

وقد ربط السيد المسيح بين الروح الإلهي والريح في مفهوم لاهوتي جديد بقوله: "الريح تَهُبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح" (يو 3: 8). لقد كشف أن عمل الروح القدس في الولادة الجديدة من خلال المعمودية عمل سري غير منظور لكن يُدرك عمله وفاعليته في حياة المؤمن. إنه يَهبُّ كالريح العاصف ليهز أساسات القلب القديمة ويقيم منه مقدسًا جديدًا. ويبقى الروح يهبَّ دومًا في داخلنا لا كمن يأتي من الخارج ولكنه يقيم فينا، عاملاً لنمو إنساننا الجديد، يعمل فينا ونشعر به لكننا لا ندرك أسراره. هكذا كان الروح الإلهي يعمل حتى في العهد القديم من خلال تأديب الشعب القادم من الشمال بطريقة خفية لم يكن ممكنًا للشعب أن يراها، لكنه عمل الله فيه بعد عودته إليه.

أما عن السحابة العظيمة، فمنذ القديم ارتبطت الحضرة الإلهية بالسحاب، فعند خروج الشعب إلى البرية كان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود السحاب ليهديهم في الطريق (خر 13: 21)، وقد رأى الرسول بولس في ذلك رمزًا لعمل الروح القدس في المعمودية (1 كو 6: 2)، حيث يعبر بنا من العبودية إلى حرية مجد أولاد الله. وفي أكثر من موضع إذ كان موسى يتحدث مع الله كان مجد الرب يظهر في السحاب (خر 16: 10، 19: 9). وعندما نصب موسى خيمة خاصة خارج المحلة يلتقي فيها مع الله، يقول الكتاب "كان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفًا عند باب الخيمة" (خر 33: 9-10). وحينما دشنت خيمة الاجتماع "غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن" (خر 40: 34). وحينما بُني الهيكل عوض خيمة الاجتماع في يوم تدشينه "لم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب، لأن مجد الرب ملأ بيت الرب" (1 مل 8: 11). وفي العهد الجديد إذ ارتفع السيد بثلاثة من التلاميذ على جبل تابور وظهر موسى وإيليا جاءت سحابة نيّرة وظللتهم (مت 17: 5). ونقرأ في سفر الرؤيا عن مجيء الرب الأخير[32] "هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض" (رؤ 1: 7). فإلى أي شيء يُشير السحاب؟

أ. يرى القديسون كيرلس الكبير وأغسطينوس وجيروم أن السحاب يرمز لناسوت السيد المسيح الذي ظهر لنا خلاله وقد اختفي اللاهوت عن أعيننا، أما ظهوره في اليوم الأخير مع السحاب فيعني إخفاء مجد لاهوته عن الأشرار في يوم الدينونة فلا يتمتعون به، أما الأبرار فينعمون بأمجاد الإله المتأنس وينكشف لهم بهاؤه.

ب. يرى البابا ديونسيوس السكندري أن السحاب يشير إلى جماعة الملائكة غير المحصاة التي تظهر محيطة بالرب يوم مجيئه.

ج. يرى القديس أغسطينوس أن السحاب يشير إلى جماعة الكارزين، إذ يقول: "كلمة الله الذي هو المسيح يكون في السحاب، أي في الكارزين بالحق"[33]؛ بل ويرى كل عضو من أعضاء الكنيسة يمثل سحابة، فيه يأتي السيد المسيح، إذ يقول: "يأتي الآن في أعضائه كما في السحب، أو يأتي في الكنيسة التي هي السحابة العظيمة"[34].

د. يرى القديس أمبروسيوس أن السحابة التي تظلل الكنيسة هي جماعة الأنبياء الذين يقدمون لها شخص السيد المسيح خلال نبواتهم، إذ يقول: "كان موسى ويشوع سحابتين. لاحظوا أن القديسين هم سحب"، "هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها" (إش 60: 8) إشعياء وحزقيال كسحابتين فوقًا مني؛ الأول أظهر لي قداسة الثالوث خلال الشاروبيم والسيرافيم. الأنبياء جميعهم سحب، جاء فيها المسيح. لقد جاء في النشيد في سحابة صافية ومحبوبة، متألقة بفرح العريس (نش 3: 11). لقد جاء في سحابة سريعة، متجسدًا من العذراء، إذ رآه النبي قادمًا كسحابة من الشرق (إش 19: 1). بحق دعاه سحابة سريعة (خفيفة)، إذ ليس فيه شيء من تعلقات الأرض تثقله"[35].

هـ. في الحديث عن السحابة المنيرة التي ظهرت أثناء تجلى السيد المسيح يقول العلامة أوريجينوس[36]: "أتجاسر فأقول إن مخلصنا أيضًا هو السحابة المنيرة التي تظلل الإنجيل والناموس والأنبياء، إذ نالوا فهمًا؟ الذين رأوا نوره في الإنجيل والناموس والأنبياء"[37].

أما بخصوص النار المتواصلة، فقد قيل عن الله نفسه إنه نار آكلة (عب 1: 9)، خدامه أيضًا لهيب نار (مز 104: 4). فبظهور المركبة الإلهية خلال نار متواصلة يُعلن عن الحضرة الله النار المتقدة، الذي يحرق الأشواك الخانقة للنفس وفي نفس الوقت يهبها استنارة داخلية لتضئ كالبرق فيكون لها "لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار".

تحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن الروح القدس الناري في النفس البشرية من خلال المعمودية، قائلاً: [لماذا تتعجب؟! خذ مثلاً من الواقع وإن كان فقيرًا ودارجًا لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر خلال قطعة حديد فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا يصير ملتهبًا، وإن كان أسود يصير لامعًا. إن كانت النار التي هي مادة تخترق الحديد هكذا وتعمل فيه بلا عائق وهو أيضًا جسم (مادة)، فلماذا تتعجب من الروح القدس أنه يخترق أعماق النفس الداخلية؟![38]].

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن قوة النار حين تتسلط على عروق الذهب الخام المختلطة بتراب الأرض تتحول إلى ذهب نقي، هكذا بل وأكثر من هذا يعمل الروح القدس في المعمودية في الذين يغسلهم، إذ يحولهم إلى ما هو أنقى من الذهب عوض الطين. فحينما يحل الروح القدس كالنار في نفوسنا يحرق أولاً صورة الترابي ليعطى صورة السمائي، فتصير كعملة بهية متلألئة خارجة من أفران الصهر[39]].

ويعلق القديس أغسطينوس على كلمات المرتل: "قدامه تذهب نار" (مز 97: 3) قائلاً: [هل تخاف؟ لنتغير فلا نخف! ليخف التبن من النار، لكن ماذا تفعل النار للذهب؟![40]]. كما يعلق على العبارة: "لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة" (مز 66: 10) هكذا: [لا لتحرقنا بالنار كالهشيم بل كالفضة. فباستخدام النار لا تصيرنا رمادًا بل تغسلنا من الدنس[41]].

2. الأربعة مخلوقات الحية:

سبق لنا الحديث عن هذه الكائنات السماوية وقلنا إنها طغمتا الشاروبيم (الكاروبيم) والسيرافيم، وأشرنا إلى كرامة هذه الخليقة وعملها وشكلها وما ترمز إليه بشيء من الإفاضة أثناء تفسيرنا الأصحاح الرابع من سفر الرؤيا[42] غير أننا نضيف هنا الآتي:

أ. في سفر الرؤيا رأى القديس يوحنا لكل مخلوق حيّ وجهًا فرأى في الأربعة أربعة وجوه فقط. أما حزقيال النبي فيقول إنه رأى أربعة وجوه لكل مخلوق حي، من كل جانب وجه. ولعل السبب أن الأول تطلع إلى هذه الخليقة من جانب واحد، أما الأخير فتطلع إليها من كل الجوانب،  إذ أنه رأى المركبة في حالة تحرك من كل الجهات.

هذه الوجوه كما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم تشير إلى تشفع هذه الكائنات الروحية في جنس البشر (مثل وجه إنسان) وفي حيوانات البرية (شبه وجه أسد) وحيوانات الحقل (شبه وجه ثور) وطيور السماء (شبه وجه نسر)، لأنها كائنات قريبة من الله له المجد أكثر من سائر الروحانيين السمائيين.

وإن أخذنا بتفسير القديس غريغوريوس النزينزي والعلامة أوريجينوس نرى في المركبة النارية النفس وقد تقدست بكل طاقتها لتحمل العرش الإلهي، فالأسد يشير إلى القوة الغضبية، والعجل إلى الشهوانية، والإنسان إلى النطقية (العقلية) والنسر إلى الروحية. هذا هو عمل الروح القدس في النفس، إنه يلهب طاقاتنا بناره لا ليحطمها بل ليقدسها ويجعلها متكاملة معًا، فتصير أشبه بمركبة نارية تحمل الله فيها!

وإن أخذنا بتفسير القديس فيكتوريانوس[43] وإيريناؤس نرى في هذه الوجوه إشارة إلى الأناجيل الأربعة التي تدخل بالنفس إلى الخلاص فتتمتع بالملكوت لا كأمر خارج عنها بل في داخلها، وتصير هي مَقْدسًا للرب.

وإن أخذنا بتفسير القديس إيرونيموس نرى أن سر حملنا لله النار الآكلة يكمن في تمتعنا بالخلاص الإلهي من خلال التجسد (شبه وجه إنسان) والصلب (الثور) والقيامة (الأسد) والصعود (النسر). بهذا السر، سر الإله المتجسد المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السموات تنطلق النفس كمركبة نارية لتحمل بالروح القدس الحياة الإلهية في داخلها.

أخيرًا إن كانت هذه الكائنات الأربعة تمثل الكنيسة المقدسة الحاملة للحياة الإلهية في داخلها فإن هؤلاء الأربعة إنما هم الأسقفية والقسيسية والشموسية، والشعب، إنهم أركان رئيسية تعمل معًا لحساب السيد المسيح، أيّ اختلاف لركن منها يفقد الكنيسة اتزانها ويسئ إلى رسالتها. إن فقد ركن عمله أو تفاعله مع الأركان الأخرى يخسر الكل حيويته، فالكنيسة ليست مُركَّزة حول أسقف أو كاهن أو شماس أو مسئول علماني (من الشعب) لكنها حياة متكاملة ومتفاعلة معًا.

ب. يظهر كل مخلوق بأربعة أجنحة، أما في سفر الرؤيا فلكل مخلوق ستة أجنحة، ولعل الاختلاف ناجم عن ظهور ما سماه حزقيال النبي بالمقبب على رؤوس الخليقة الحية، وكأن كل مخلوق حيّ قد رفع جناحين فوق رأسه على شكل قبة ليستر عينيه من بهاء عظمة الله، فلم يظهر الجناحان المرفوعان بل الأربعة الآخرين. هكذا النفس التي تتمتع بحياة الشركة مع الله خاصة خادم الرب، تصير كأنها كاروب بستة أجنحة تستر نفسها بجناحين، وتطير نحو الله بجناحين، وتخفي عينيها بالجناحين الآخرين من بهاء عظمته! وقد لاحظ حزقيال النبي أن أجنحة الكاروبيم متصلة الواحد بأخيه [9]، فإن كان الكاروب يمثل أعلى طغمة سماوية فإن حياته المقدسة الملتهبة نارًا لا تقبل كسرّ حمل للعرش الإلهي إلا باتحادها مع حياة غيره. ولعل هذا ما دفع القديس مقاريوس الكبير إلى القول: [بإن خلاص الإنسان في حياة الآخرين، إذ لا يستطيع التمتع بالخلاص منعزلاً عن أخيه بل بكونه عضوًا معه في الجسد الواحد للرأس الواحد].  

ج. أرجلها قائمة وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل وبارقة كمنظر النحاس المصقول [7] الأرجل القائمة تمثل استقامة الإنسان الروحي، الذي له قدمان كالنحاس المصقول، تدكان الأرض وتحطمان الأشواك؛ وتبرقان ببهاء السماويات دون أن تتسخا بتراب العالم. فالمؤمن الحقيقي يسير على العالم بلا خوف، متجها نحو السماء دون ارتباك بالزمنيات.

د. "أيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة" [8]. الإنسان الروحي يعيش طائرًا في السمويات كما بأجنحة الروح، يداه مستعدتان دائمًا للعمل لحساب ملكوت الله، لخدمة كل بشر! له الأجنحة كما الأيدي! ولعل وجود الأبدي تحت الأجنحة يعنى أن السمائيين يتعبدون لله ويخدمون البشر، لهم روح العبادة والخدمة معًا!

هـ. "أجنحتها متصلة الواحد بأخيه" [9] أي يتعبد الكل معًا بروح الحب والانسجام والوحدة.

و. أيضا تطلع النبي إلى هذه المخلوقات الحية فرأى وجوهها من كل جانب وكأنها بلا ظهر، تستطيع أن تتحرك في كل الاتجاهات دون أن تستدير [9] وكأنها بلا ظهر، إذ يليق بالحامل للعرش الإلهي وقد دخل إلى كمال المجد ألا يكون له ظهر، بل يكون كله وجوهًا، وكله عيونًا دائم التطلع إلى الله بلا عائق. لذلك عندما أخطأ الشعب لله عاتبهم قائلاً: "حوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر 2: 27). التعبير الذي استخدمه أكثر من مرة على لسان إرميا النبي (7: 24، 18: 17، 32: 33)، وكأن حزقيال النبي جاء يكمل كلمات النبي إرميا بأسلوب آخر، فعوض أن يوبخهم على تقديم القفا لا الوجه يثير فيهم الاقتداء بهذه الخليقة السماوية فلا يكون لهم قفا مطلقًا بل تكون حياتهم في الرب كلها وجوهًا ولقاءات معه!

يصف النبي تحركها، قائلاً: "إلى حيث تكون الروح لتسير تسير" [12]. فالروح القدس هو الذي يقود الموكب الإلهي، يقود السمائيين والأرضيين المقدسين في الحق. يكرر كلمة "تسير" ليؤكد ضرورة التزامنا بالسير حسب خطة الروح القدس وتحت قيادته بلا انحراف يمينًا أو يسارًا.

ز. رأى النبي المخلوقات الحية دائمة الحركة بطريقة متناسقة، وهي كجمر نار متقد كمنظر مصابيح من النار ويخرج منها أشبه بالبرق [13]. إنها صورة حية لعمل الله فينا الذي يجعلنا دائمي الحركة نحوه، ُيلهبنا فيجعلنا نارًا متقدة، وينيرنا فنصير كالبرق مملوئين به بهاءً. إننا نتحرك بالروح الناري القدوس!

ج. صوت حركتها مرعب كصوت مياه كثيرة، كصوت جيش.

هذا هو عمل الله في حياتنا، يجعل من النفس جيشًا قويًا لا يغلبه الشيطان وكل قواته. لهذا يقول القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصاة، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم[44]]. ويقول الأب ثيؤدور الميصصي: [الآن قد اُخترت لملكوت السموات، ويمكن التعرف عليك. إن فحصك أحد يجدك جنديًا عند ملك السماء[45]].

ط. وفي الأصحاح العاشر دعي حزقيال النبي المخلوق الحيّ كاروبًا. والعجيب أن الكاروب ارتبط بخلاصنا ارتباطًا وثيقًا، ظهر في أول أسفار الكتاب المقدس ممسكًا سيفًا ملتهبًا نارًا يحرس طريق الفردوس حتى لا يدخل الإنسان إلى شجرة الحياة. إذ لا تقدر طبيعة الإنسان الساقطة أن تقترب من سر الحياة؛ كما ظهر في آخر أسفار الكتاب المقدس مع الأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين يشتركون في تسبحة الحمل التي هي تسبحة خلاصنا (رؤ 5: 9)، إذ صار للإنسان حق الدخول إلى السماء عينها وقد تمجدت طبيعته في المسيح يسوع الحمل الحقيقي. أما بين بدء الكتاب ونهايته فيظهر أيضًا كاروبان على تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل علامة الحضرة الإلهية، وكان الله يتحدث مع موسى من خلالهما. أما وجود كاروبين فوق تابوت العهد حيث يمثل عرش الله، فيشير إلى أن الله الساكن وسط شعبه يتحدث معهم ويعاملهم خلال الرحمة والحب. أيضًا وجود اثنين يشير إلى دور السمائيين من نحونا: الصلاة لأجلنا والعمل كخدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14). ورسم شكل الكاروب على ستائر الخيمة والحجاب (خر 27-25) يقترب من شكل الإنسان مجنحًا ليعلن عن اقتراب الطبيعة البشرية إلى الحضرة الإلهية.

لقد عرف الإنسان الكاروب، فصار ليس غريبًا عن البشرية، لهذا عرفته الأمم ولاسيما الكلدانيون، وإن كانوا قد أضفوا عليه أشكالا من عندياتهم كما فعل سائر الأمم في كل الحقائق الإيمانية التي تسلموها شفاهًا بالتقليد وصبغوها بفكرهم المنحرف.

إذن حين نرى الكاروب إنما نتذكر طبيعتنا البشرية التي تمتعت بالخلاص من خلال اتحادها مع الله في المسيح يسوع ربنا بواسطة روحه القدوس. أما وجوهه الأربعة فتشير إلى تقديس طبيعتنا الجديدة من كل جوانبها: العقلية (إنسان) والروحية (النسر) والعمل (الثور) والسلطان (الأسد).

ى. تبع القديس إكليمنضس السكندري فيلون اليهودي قائلاً: [إن كلمة "كاروب" تعنى "معرفة"، وكأنه من خلال المعرفة الروحية تصير حياتنا مركبة تحمل الله داخلها]. هذا ما قبله أيضًا القديس جيروم الذي رأى في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. تعمل في طبيعتنا المتسلطة على الشهوات كأسد، وتحلق في الأمور العلوية كنسر وتعمل مجاهدة كالثور وبتعقل كإنسان. هذه المعرفة نغترفها من الأناجيل الأربعة، إذ يقول نفس القديس: [متى ومرقس ولوقا ويوحنا هم فريق الرب الرباعي، الكاروبيم الحقيقيون، أو مخزن المعرفة؛ فإن جسدهم مملوء عيونًا ومتلألئ كالبرق...، أقدامهم مستقيمة ومرتفعة، ظهرهم مجنح،  مستعدون للطيران في كل الاتجاهات، كل واحد منهم يمسك بالآخر يتشابك الواحد مع غيره، كالبكرات وسط البكرات يتدحرجن على طول الخط، يتحركن حسب نسمات الروح القدس[46]].

ك. "المخلوقات الحية راكضة وراجعة مثل البرق" [14]. ربما يشير بذلك إلى خدمة السمائيين الذين يُرسلون إلينا لكنهم سرعان ما يركضون ليرجعوا إلى حيث العرش الإلهي يتمتعون برؤية الله. والمؤمن الحقيقي الذي يلتهب قلبه بالاشتياق نحو مخلصه، بين الحين والآخر يركض قلبه وفكره وتركض كل أحاسيسه لترجع كالبرق تتمتع بالتأمل في مخلصها. إنها تصرخ مع الرسول: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).

3. البكرات:

"فنظرت المخلوقات الحية، وإذا بكرة واحدة على الأرض بجانب المخلوقات الحية بأوجهها الأربعة، منظر البكرات وصنعتها كمنظر الزبرجد. وللأربع شكل واحد ومنظرها كأنها بكرة وسط بكرة. لما سارت سارت على جوانبها الأربعة، لم تدر عند سيرها. أما أُطرِها (حوافها أو إطارها) فعالية ومخيفة، وأطرها ملآنة عيونًا حواليها للأربع. فإذا سارت المخلوقات الحية سارت البكرات بجانبها، وإذا ارتفعت المخلوقات الحية عن الأرض ارتفعت البكرات. إلى حيث تكون الروح لتسير إلى حيث الروح لتسير والبكرات ترتفع معها، لأن روح الحيوانات كانت في البكرات" [15-20].

أ. ما هي هذه البكرات التي على الأرض، التي تحمل في داخلها روح المخلوقات الحية، والتي تتحرك بانسجام معها، وفي نفس الوقت مرتفعة، ومخيفة ومملوءة أعينًا، منظرها كشبه حجر الزبرجد، البكرة في وسط البكرة؟ يجيب القديس جيروم: [البكرتان هما العهدان الجديد والقديم، فان القديم يتحرك في الجديد، والجديد يتحرك في القديم[47]]. ويدلل على ذلك بما جاء في الأصحاح العاشر: "أما هذه البكرات فنودي إليها في سمعى جلجل Gelgel" (10: 13 الترجمة السبعينية)؛ فإن كلمة جلجل غير كلمة جلجال Gilgal التي تعنى متدحرج (تث 11: 30) أو دائرة، فإن الأولى تتكون من كلمتين "جل جل" تعنيان "إعلان"[48]. وكأن الصوت الذي سمعه حزقيال النبي خارجًا من البكرات هو "إعلان العهد الجديد وإعلان العهد القديم". فقد التحم العهدان معًا بقصد إعلان سر الخلاص البشرية بواسطة المسيح يسوع مركز الإنجيل. وفي هذا يقول القديس أمبروسيوس: [رأى النبي بكرة تجري وسط بكرة. هذه الرؤيا بالتأكيد لا تشير إلى أمر جسدي بل إلى نعمة العهدين. فالبكرة التي وسط البكرة هي الحياة تحت الناموس والحياة خلال النعمة. مادام داخل الكنيسة فإن النعمة احتوت الناموس[49]]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [العهدان مترابطان معًا ومتضافران كل منهما مع الآخر[50]؛ العهد القديم يكشف أسرار العهد الجديد ويوضحها خلال الرموز والنبوات، والعهد الجديد يكشف أسرار العهد القديم التي كانت مختفية وراء الظلال].

لقد رأى البكرات على الأرض لكن إطارها عال ومخيف، وكأن كلمة الله التي قدمت في العهدين نزلت إلينا خلال لغتنا البشرية لكي نتفهمها ونعيشها ونحن هنا على الأرض، وفي نفس الوقت هي مرتفعة ومخيفة ترفع النفس إلى السمويات، وتدخل إلى الأسرار المملوءة هيبة ورعدة. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يمكن لمن أنعم عليه بفاعلية كلمة الله أن يبقى هكذا في هذا الانحطاط الحاضر، بل بالأحرى يطلب له جناحين ينطلق بهما إلى الأماكن العلوية، مكتشفًا نور الصالحات غير المحدودة[51]].

ب. ترتبط البكرات بالأرض، فالمركبة النارية ترتبط بنا نحن البشر، لكي تحملنا من تراب هذا العالم إلى الحياة النارية السماوية.

إنها مركبة الله الذي قيل عنه إن طريقه في القدس وطريقه في البحر (مز 77: 13، 19)، إله السماء والأرض معًا؛ كل المسكونة تمجده.

ج. ارتباط البكرات بالأرض يؤكد أن الله هو ضابط التاريخ وصانعه، هو العامل في كل العصور... تبقى عجلة محبته ورعايته لبنى البشر تدور بلا توقف... حتى ولو لم يفهم الإنسان أسرارها وحكمتها!

د. أما منظرها فشبه منظر الزبرجد، وهو نوع من الحجارة الكريمة الشديدة الصلابة ذات اللون الأخضر الفاتح، وهو الحجر العاشر على صدرية رئيس الكهنة (خر 28: 20) التي بها يدخل مقدسات الله. وكأن الله يهب للنفس صلابة وقوة لمجابهة كل حروب الشيطان، اللون الاخضر الفاتح يشير إلى ما تقدمه في حياة الإنسان من ثمار إذ تجعل قلبه فردوسًا مفرحًا، أما وجوده على صدر رئيس الكهنة إنما يكشف عن عمل الكلمة فينا إذ تجعل أسماءنا منقوشة على صدر السيد المسيح أسقف نفوسنا الذي هو في حضن أبيه يشفع فينا، بالدم ليدخل بنا إلى حضن أبيه. أخيرًا فإن هذا الحجر هو أحد الحجارة التي تزين أساسات أسوار أورشليم الجديدة (رؤ 21: 20)... وكأن كلمة الله هي سر زينة العروس التي تتمتع بالدخول إلى حجال العريس إلى الأبد!

إذن كلمة الله هي الحجر الكريم الكثير الثمن الذي ينبغى أن يقتنية الكاهن والراهب والشعب كسرّ غلبة ونصرة واتحاد مع السيد المسيح ودخول إلى الحياة السماوية. لهذا حينما كتب الأب أغناطيوس بريانشانينوف كتابه "حلبة الاستشهاد" مقدمًا منهجًا للحياة الرهبانية عن آباء الكنيسة، بدأه بتوجيه أنظارالرهبان إلى الكتاب المقدس والوصايا الإنجيلية، قائلاً: [دعا الرهبان القدامى القديسون الحياة الرهبانية بالحياة حسب وصايا الإنجيل]، فُيعّرِف القديس يوحنا الدرجي الراهب هكذا: الراهب هو ذاك الذي تقوده وصايا الله وكلمة الله في كل وقت وفي كل موضع وفي كل أمر. كان الرهبان الخاضعون للقديس باخوميوس الكبير يلتزمون بتعلُّم الإنجيل عن ظهر قلب لكي تكون شريعة الإله المتأنس أشبه بكتاب مفتوح على الدوام في الذاكرة تراها عينا النفس دائمًا، مطبوعة على النفس لكي يتمموها بطريقة سهلة وبلا فشل. يقول الطوباوى الشيخ سيرافيم من صاروف: [يلزمنا أن ندرب أنفسنا لكي يكون الذهن سابحًا في شريعة الرب التي ترشد حياتنا وتحكمها[52]].

هـ. "أطُرها ملآنة عيونًا حواليها للأربع" [18]. الإنسان الروحي يحمل روح التمييز والحكمة، مملوء عيونًا...

هذه الأطر عالية ومخيفة [18]، يتسم الإنسان الروحي بالسمو الروحي فيُحسب في عينى السماء عاليًا ومكرمًا... إنه عالٍ لا يقدر عدو الخير أن يقتنصه، ومخيف لأن روح الله الذي فيه أعظم من كل طاقات شيطانية.

4. المقبب:

"وعلى رؤوس المخلوقات الحية شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشرًا على رؤوسها من فوق" [22].

لقد رأى على رؤوس هذه الخليقة الحية السماوية شبه جلد السماء (مقبب) على شكل قبة. هكذا حينما يتقدم المؤمن بكل طاقاته الجسدية والفكرية والنفسية والروحية كآلات برّ مقدسة للرب، تتحول حياته إلى شبه قبة سماوية تظلل قلبه الداخلي.

في هذا يقول القديس يوحنا سابا: [هوذا السماء داخلك إن كنت طاهرًا والملائكة فيها تنظرهم مشرقين]، [مملكة طاهر النفس داخل قلبه، والشمس التي تشرق فيها هي نور الثالوث القدوس، وهواء نسيمها هو الروح القدس المعزي، والسكان معه هم طبائع الأطهار الروحانية، وحياتهم وفرحهم وبهجتهم هو المسيح ضياء الآب[53]].

أما كون المقبب له منظر كالبلور الهائل المنتشر، ذلك لأن طبيعة البلور يعكس المنظر الذي أمامه في داخله كأنه مرآة، هكذا ينعكس في داخل المؤمن منظر الرب المحمول فوق المقبب. بمعنى أن النفس وقد صارت سماء للرب ومقدسًا له إنما صارت كالبلور الذي يحمل صورته ويعكس سماته فيها. هذا المنظر يذكرنا بما رآه القديس يوحنا: "وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور" (رؤ 4: 6) ويرى الأسقف فيكتوريانوس أن هذا البحر إنما يشير إلى المعمودية، فكل من يرغب في الالتقاء بالجالس على العرش يلزمه أن يخوض هذا البحر فتخترق نعمة الله نفسه وتتهيأ للملكوت. أما كونه شبه البلور، فلأنه يليق بالمعمدين أن يكونوا ثابتين وأقوياء.

إذ تنعكس إشاعات الجالس على العرش، شمس البر، على البحر البلوري تظهر ألوان الطيف واضحة على المخلوقات الحية، أي تظهر مواهب الله وعطاياه المتعددة والمتنوعة في حياة المؤمنين.

5. العرش والجالس عليه:

"وفوق المقبب الذي على رؤوسها شبه عرش كمنظر حجر العقيق الأزرق وعلى شبه العرش

كمنظر إنسان عليه من فوق. ورأيت مثل منظر النحاس اللامع كمنظر نار داخله من حوله

من منظر حقويه إلى فوق، ومن منظر حقوية إلى تحت رأيت مثل نار ولها لمعان من حولها"

[26-27].

إذ تحولت حياة المؤمن إلى قبة سماوية، انعكست عليها الألوان المختلفة خلال شبه البلور، فيظهر عليها عرش الله وفي داخلها، يظهر كلمة الله المتجسد ملكًا متربعًا على القلب. إنه كمنظر إنسان وفي نفس الوقت كمنظر النحاس اللامع، من حقوية إلى أعلى متقد نارًا، ومن حقوية إلى أسفل مملوء لمعانًا. هكذا يظهر الرب لنا بالنار المتقدة التي تحرق كل شر فينا، وبالبهاء الذي يسكبه على أعماقنا الداخلية فتنفتح بصيرتنا الداخلية وتمتلئ مجدًا. إنه يقترب إلينا لأجل مصالحتنا، فيحرق فينا أعمال الإنسان القديم ويملأنا بهاء بالإنسان الجديد!

رأى القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات سر التجسد الإلهي معلنًا من خلال هذه الرؤيا فقال: [إن هذه المركبة الحاملة لله هي القديسة مريم العذراء التي ظللها الروح القدس

فصارت ممجدة ومملوءة بالفضائل[54]].

6. قوس قزح:

حيث يظهر العرش الإلهي نرى قوس قزح حوله (رؤ 4: 3)، ذلك لأن مجد الله ليس جبروتًا وعظمة فحسب إنما هو أيضًا حب بلا حدود. قوس قزح علامة الحب التي قدمها الله حين أقام عهدًا مع نوح بعد الطوفان (تك 9) ويبقى الله كمحب للبشرية يقدم لنا كل حب خلال عهده معنا. هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسانات الله وعطاياه المتعددة لنا. وهو كقوس يشير إلى القوس الذي كان مستخدمًا في الحروب، وكأن الله يدافع عنا بقوسه لكن بدون سهم لأنه غير محب لسفك الدماء، به نغلب الخطيئة وندوس على الشيطان.

يرى العلامة أوريجينوس[55] أن وجود الوجوه الأربعة معًا (الأسد والنسر والبقر والإنسان) إشارة إلى عودة المخلوقات الحية المقدسة إلى طبيعتها الأولى المستأنسة، فإن كان في العصر المسياني قد سكن الذئب مع الخروف، وربض النمر مع الجدى وصار الأسد يأكل تبنًا كالبقر (إش 11: 6)، فإنه يتحقق هذا التناغم الكامل في مجيء المسيح الأخير حيث يُصير الكل واحدًا فيه، ينعمون بالوحدة والسلام معًا فيه، حيث نوجد في السماء عينهما مع كل الخليقة السماوية.

أخيرًا نود أن نذكر ما قاله الأب نوفانيوس Novation من رجال القرن الثالث عن هذه الرؤيا، إذ رأى في المركبة النارية رمزًا لرعاية الله وعنايته، هذا الذي يتنازل من أجل الإنسان[56]، ففي رأيه المركبة هي العالم وما يضمه من كواكب بحركاتها المنتظمة. وقال إن الله يحكم العالم مستخدمًا الملائكة الذين رُمز إليهم بالمخلوقات الحية. أما البكرات فهي حركة الفصول والأيام، والأقدام تشير إلى حركة الزمن. العيون التي للبكرات هي عناية الله التي لا يخفي عنها شيء. والنار تشير إلى القوة الحيوية التي تنعش العالم، أو الحرارة التي بدونها يقف العالم في سكون. أما الحقوان اللذان يضبطان المخلوق الحي فهما الناموس الطبيعي[57].

 


 

من وحي حزقيال 1

أرني سمواتك!

v   مشتاق أن أرى سمواتك!

أعلنت مركبتك السماوية لحزقيال نبيك،

وفتحت بابًا في السماء ليوحنا تلميذك،

وأنا أشتاق أن أرى سمواتك!

أريد أن أعرف: أين أستقر، يا حبيب نفسي؟!

v   وسط المرارة في أرض السبي كشفت لنبيك مركبتك،

فأدرك أنك صانع التاريخ وضابطه!

اكشف لي عن أسرارك، فأطمئن أني محمول على ذراعيك!

v   رآك حزقيال وسط الريح والسحابة والنار،

ليهب روحك القدوس على نفسي فأتنسم ريحًا سماويًا،

لترفعني كما على السحابة فلا تقتنصني الحية،

وليلهب روحك القدوس قلبي بنار حبك!

v   مركبتك عجيبة للغاية، مركبة شاروبيمية،

لها أوجه مثل وجه الإنسان والأسد والثور والنسر.

احسبني مركبة وعرشًا تتربع في داخلي!

قدِّس كل ما في:

مشاعر قلبي كإنسان الله،

قوة نفسي كأسد فلا أخاف،

عطاياي وتقدماتي كثور ذبيحة محرقة لك،

فكري وتأملاتي فأطير كالنسر في السمويات!

v   هب لي مع الشاروبيم ستة أجنحة:

هب لي اتضاعًا ورجاءً كجناحين أستر بهما رجلَّي كما من الخطية!

هب لي بصيرة ومحبة كجناحين، فأنظر بهاء مجدك!

هب لي اعلاناتك ونعمتك كجناحين أطير بهما إلى أحضانك!

v   هب لي مع المخلوقات الحية عيونًا من الداخل والخارج!

هب لي حكمة سماوية لأحيا على الأرض وفي السمويات!

أرى سمواتك فأشتاق إلى الرحيل إليك!

أرى نور وجهك فأستنير بك وأصير نورًا!

v   هب لي عيونًا من كل جانب، فأصير كلي وجهًا،

ولا يكون لي قفا قط،

في كل اتجاه أتحرك فلا أعطيك القفا بل الوجه.

v   ما أعجب هاتين البكرتين في مركبتك السماوية،

يحركهما الروح بلا توقف!

ما أعجب العهدين: القديم والجديد،

بروحك القدوس أتمتع بأسرارهما فأتحرك نحو السماء دومًا!

أطرهما مرتفعة من الأرض إلى السماء...

لترفعني كلمتك في العهدين لكي لا أبقى بعد في التراب!

v   ما أجملك أيها الجالس على العرش،

ما أعجب قوس قزح حولك!

أرني ذاتك... أريد أن أتمتع بك!

هب لي إيمانًا ثابتًا في وعودك الثمينة وعهدك الأبدي.

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني

الدعوة للخدمة

إذ رأي حزقيال النبي المركبة النارية، شبه مجد الرب (1: 28)، خرَّ علي وجهه علامة العجز التَّام عن اللقاء مع الله، لكن الله دعاه للخدمة مقدمًا له إمكانيات العمل وشروطه:

حينما يدعونا الله للعمل يتكفل بتأهيلنا لتحقيق المهمة، وكما يقول القديس أغسطينوس إن أوامر الله هي التي تمّكن الإنسان من القيام بعمل الله. ففي ثقة يقول خادم الله: "أنا ملآن قوة روح الرب" (مي 3: 8) فإن الله لا يُرسل أحدًا علي نفقة نفسه قط أو ليحقق رسالة الرب بقدرته الخاصة، بل يهبه كل امكانيات النجاح[58].

1. التمتع بخبرة القيامة                [1].

2. العمل بروح الله                      [2].

3. الشعور بالوكالة                     [3-5].

4. الخدمة الشجاعة                     [6-7]. 

5. الاهتمام بحياته الخاصة           [8].

6. التمتع بخبرة كلمة الله               [9-10].

1. التمتع بخبرة القيامة:

إذ شاهد النبي المركبة النارية خرَّ علي وجهه في عجز تام وكأنه قد بلغ الموت، لهذا أمره الرب: "يا ابن آدم قم علي قدميك فأتكلم معك" [1]. فإنه لايمكن الحديث مع من بلغ الموت إنما يليق به أولاً أن يقوم فيتمتع بالاستماع لصوت الرب. إن كانت رسالة خدام الله الدخول بالنفوس الميتة بالخطايا إلي الحياة المقامة، فإنه بالأولي يليق بالخدام أنفسهم أن يختبروا القيامة في داخلهم. هذا ما حدث مع شاول الطرسوسي الذي كان يظن أنه قادر بنفسه وغيرته البشرية وتربيته الناموسية وإمكانياته الشخصية ومواهبه أن يخدم الله، لكنه إذ التقي بالسيد المسيح سقط علي الأرض كميت وأدرك أنه لا شيء... فسمع الصوت الإلهي: "قم وقف علي رجليك لإني ظهرت لك لأنتخبك خادمًا وشاهدًا بما رأيت وبما سأظهر لك به" (أع 26: 16) فقام وتمتع بالحياة الجديدة المقامة، لهذا كان يبشر الأمم "بيسوع والقيامة" (أع 17: 18) هذه هي رسالة التلاميذ والرسل إنه "بقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع" (أع 4: 33).

هذا والأمر الصادر للنبي أن يقوم ويقف علي قدميه يحمل إشارة إلي ضرورة العمل بلا توقف، فإن الله لا يعمل في المتراخين بل في الدائمي الجهاد. فإننا بالعمل الدائم نحمل سمة إلهية كقول السيد نفسه: "أبي يعمل حتي الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17).

لقد صدر إليه الأمر أن يقف علي قدميه، علي أهبة الاستعداد، ليحقق رسالة مقدسة خطيرة. لقد حُرم من العمل الكهنوتي بسبب السبي، لكن الله يدعوه للعمل النبوي، ليقدم الإرادة الإلهية لشعب متمرد. ليقف في مهابة أمام الله، مصغيًا إلي صوته بكل انتباه ليحقق مشيئته.

2. العمل بروح الله:

إن كان الأمر قد صدر بالقيام، لكن كيف تستطيع الجبلة الساقطة أن تقوم؟! إنها في حاجة إلي روح الله نفسه واهب الحياة، هذا الذي يهبنا الاتحاد مع المسيح يسوع القائم من الأموات فنختبر قوة قيامته فينا.

يصف حزقيال النبي قيامته هكذا: "فدخل فيَّ لما تكلم معي وأقامني علي قدميَّ فسمعت المتكلم معي" [2]. وكأنه ما كان يمكنه أن يسمع الصوت الإلهي المتكلم معه ولا أن يدخل معه في حديث الحب إلا بدخول الروح القدس إلي حياته. بهذا يتفهم الكلمات الإلهية، ويختبر العمل الإلهي، ويقدر أن يكرز ويبشر بقوة الروح!

بدأ حزقيال النبي خدمته بانفتاح السماء أمامه ليري المركبة الإلهية المرهبة، فسقط في رعدة، واحتاج إلي روح الله لكي يقيمه فيمشي علي قدميه. أما السيد المسيح فبدأ خدمته بانفتاح السماء، ليدرك الحاضرون أنه الابن الوحيد المحبوب من الآب، ويعاينون روح الله القدوس حالاً عليه علي شكل حمامة. إنه يفتح السماء لكي يهب مؤمنيه البنوة لله فيجدوا موضعًا في حضن الآب، وينالوا روح التبني. حزقيال النبي ارتعب لأنه خلال المركبة السماوية يتسلم النبوة عن التأديبات الإلهية، أما السيد المسيح فتهلل لأنه يعلن بعماده غفران الخطايا وتمتع مؤمنين بالعهد الجديد في استحقاقات دمه الثمين.

3. الشعور بالوكالة:

إن كان عمل الروح القدس في حياة المؤمنين بصفة عامة هو الدخول بهم إلي قيامة السيد المسيح لتصير لهم في المعمودية الحياة الجديدة علي صورة خالقهم، فإن الروح ذاته يعمل في خدام الكنيسة، لينزلوا إلي حيث يرقد الناس في موت الخطيئة، وينطلقوا بهم إلي البشارة المفرحة بقيامتهم مع المسيح وتمتعهم بالحياة المقامة. هذا هو عمل الخادم... إنه عمل فوق كل طاقة بشرية، هو عمل الله نفسه وما الخادم إلا وكيل سرائر الله. هذا ما أكده الرب، قائلاً: "يا ابن آدم أنا مرسلك إلي بني إسرائيل إلي أمة متمردة قد تمردت عليَّ. هم وأباؤهم عصوا عليَّ إلي ذات هذا اليوم. والبنون قساة الوجوه والصّلاب القلوب أنا مرسلك إليهم" [3-4].

كأن الله يؤكد له صعوبة العمل، إن الأمر يحتاج إلي نزول إلي أناس متمردين قساة الوجوه وصلاب القلوب أبًا عن جد، فمن الذي ينطلق بهم إلي الطاعة عوض التمرد واللطف عوض القسوة وانفتاح القلب عوض صلابته وانغلاقه؟! إنه عمل الله نفسه، لهذا يؤكد أكثر من مرة "أنا مرسلك إليهم". إنها رسالتي وليست رسالتك، أن أعمل في القلب في الداخل، أخلقه من جديد وأهبه حياة!

هذا ما أدركه كل العاملين بأمانة في كرم الرب، فيقول الرسول بولس: "هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح ووكلاء سرائر الله" (1 كو 4: 1) أدرك أنه مجرد وكيل يتكلم ويعمل لا بأسمه الخاص بل باسم موكله. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذا القول هكذا: [يقوم الوكيل بإدارة أمور موكله حسنًا دون أن ينسب لنفسه ما لموكله، بل علي العكس ينسب ما لديه لسيده... أتريد مثالاً لوكلاء مؤمنين؟ اسمع ما يقوله بطرس: لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟! (أع 3: 12). وعند كرنيليوس أيضا قال: "قم أنا أيضًا إنسان"... وبولس لا يقل عنه أمانة في قوله: "أنا تعبت أكثر من جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1 كو 15: 10)... وعندما قاوم الرسول أولئك الأشخاص غير الأمناء قال: "وأي شيء لك لم تأخذه؟!" (1 كو 4: 7)[59]].

الخادم كوكيل يعمل لحساب موكله لا لحساب نفسه لهذا كان القديس يوحنا الذهبي الفم دائم الحذر من محبة المجد الباطل والمديح، لئلا يكون مغتصبًا لحق الله نفسه. في هذا يقول: "بالتأكيد سيديننا سر الكهنوت إن لم نحسن استخدامه"، كما يقول: [من يدخل عمل التبشير وبه رغبات كهذه (حب المديح) أي آلام وشدائد تلاحقه؟ إنه من الأسهل أن يكون البحر بلا أمواج عن أن يكون مثل هذا الشخص بلا متاعب أو أحزان[60]]. لقد خاف القديس علي نفسه كبطريرك للقسطنطينية فقال: [إني أسكب الدموع عندما أري نفسي علي كرسي فوق كراسي الآخرين، وعندما يقدم لي احترام أكثر من غيري].

ليس من عمل سفراء المسيح أن يقدموا عبارات بشرية فصيحة، ولا أن يستعرضوا انجازاتهم ويمجدوا مجهوداتهم الشخصية، بل أن ينادوا بكلمة الرب نفسه، ويدعوا إلي التوبة بروح الوداعة والاتضاع. كلمة الرب قوية وقادرة لأنه "حيث تكون كلمة الملك هناك يكون السلطان" (جا 8: 4) والله هو ملك الملوك، كلمته لن ترجع فارغة بلا ثمر (إش 55: 11)

 الشعور بالوكالة يعطي الخادم قوة فلا يهاب العمل مهما كان صعبًا أو بدا مستحيلاً، يعمل متكئًا علي صدر الموكل مهما تكن النتائج، إذ يسمع الصوت الإلهي: "أنا مرسلك إليهم... وهم إن سمعوا وإن امتنعوا، لأنهم بيت متمرد فإنهم يعلمون أن نبيًا كان بينهم" [5]. هذا لا يعني أن الله لا يعلم إن كانوا يسمعون أو يعصون لكنه ينطق هكذا حتي يترك لهم حرية الطاعة أو العصيان فلا يكون لهم حجة أنه حكم عليهم بالعصيان مقدمًا. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم ينطق بهذا عن جهل إنما لئلا يقول أحد المعاندين إن نبوته ألزمتهم بالعصيان[61]].

4. الخدمة بشجاعة:

"أما أنت يا ابن آدم فلا تخف منهم، ومن كلامهم لا تخف لأنهم قريس (عوسج)

وسلاء (أشواك) لديك، وأنت ساكن بين العقارب. لا تخف من كلامهم ولا تخف

من وجوههم.

لا ترتعب لأنهم بيت متمرد" [6].

الرسالة الإلهية ليست سهلة، إذ يعمل الخادم كأنه في وسط العوسج ومحاط بالأشواك هذه التي تفسد فلاحة الله، وكمن يسكن بين العقارب يتعرض للدغات خفية. لكنه يلزم ألا يخاف الناس ولا يرتبك من كلامهم ولا من وجوههم، بل كما سبق فأوصي الله يشوع بن نون هكذا:

"تشدد وتشجع، لا ترهب، ولا ترتعب،

 لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" (يش 1: 9).

بل حذر الله إرميا النبي من الخوف، إذ يقول له: "قم وكلمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم. هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس علي كل الأرض... فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لإني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 17-19). كأن الله يهدد خادمه إن ارتعب ليس فقط لا يحميه إنما يقوم هو بارهابه، لأنه لا يعمل في القلب غير المتكئ عليه.

لقد قدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مثلاً رائعًا للأب المملوء حنانًا حتي إنه كان يحب شعبه أكثر من نور عينيه، إن سقط أحد أولاده في خطيئة يشعر في نفسه كأنه في خطر عظيم كمن هو في سجن مظلم أو كمن حكم عليه بعشرة آلاف جلدة أو حبس في هوة عميقة، لهذا كان يصرخ في أولاده قائلاً: [لم أعد بعد أحتمل أكثر من هذا! ابسطوا أيديكم نحوي وانقذوني[62] ومع هذا كان صريحًا شجاعًا يتحدث بجرأة وقوة بلا خوف، إذ يقول: [إني مستعد أن احتمل كل شيء. من يصر علي تصرفاته ولا يسمع لتحذيري أمنعه من دخول الكنيسة كما بصوت بوق حتي وإن كان أميرًا أو إمبراطورًا، كيف أجلس علي هذا الكرسي إن لم أفعل ما يليق به؟! خير لي أن أنزل عنه لأنه ليس شيء أمرّ من وجود أسقف لا يفيد شعبه[63]].

لقد دعي الله الشعب المتمرد بالعوسج والأشواك والعقارب لا لييأس منهم الخادم أو يزدري بهم، لكن ليعرف صعوبة العمل ويتهيأ له، فيقول مع أيوب البار: "صرت أخًا للذئاب وصاحبًا لرئال النعام" (30: 29)، متذكرًا كلمات الرسول: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولادًا لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم" (في 2: 15)

قد يعترض البعض قائلاً: لماذا دعاهم الرب هكذا؟ فيجيب القديس أكليمنضس الاسكندري: [هذا برهان عظيم جدًا علي محبته، فبالرغم من معرفته تمامًا حال العار الذي بلغه الشعب حتي طرده واقتلعه (من أورشليم) فهو يحثه علي التوبة[64]].

يتحدث الله بكل صراحة مع خدامه، مُعلنًا لهم صعوبة رسالتهم، فإنهم في كل جيل يجدون المقاومين للحق؛ وعليهم أن يستعدوا لاحتمال الآلم والاضطهاد، مدركين أن الله يهبهم نعمة ليقووا علي مواجهة التيارات المضادة، ليعلم الخادم أن طريق الخدمة ليس مفروشًا بالورود، بل هو طريق الصليب الضيق، والذي ينتهي حتمًا ببهجة القيامة. إلهنا لم يخدعنا، لكنه يكشف لنا في وضوح صعوبة الطريق وكربه.

يقول الله: "وتتكلم معهم بكلامي إن سمعوا وإن امتنعوا لأنهم متمردون" [7] وكأن رسالته تنصب في تقديم كلمة الله كما هي؛ قد يسمعوا فيتوبوا، وقد يمتنعوا عن الاستجابة للصوت الإلهي... فليكن. فإن نجاح الخادم يكمن في أمانته في تقديم كلمة الرب كما هي، أي أمينًا في الوديعة الإلهية.

5. الاهتمام بحياته الخاصة:

مع أن الله اختاره للعمل النبوي وهو يعلم قلبه وجهاده لكنه يحذره، قائلاً: "لاتكن متمردًا كالبيت المتمرد" [8]. لقد خشي عليه لئلا وهو يكرز للشعب بالطاعة يسقط هو معهم في التمرد بدلا من أن يقيمهم. وكأن الله أراد أن يؤكد لخادمه ألا ينسي خلاص نفسه وحياته الروحية أثناء خدمته، لأن كثيرين فقدوا سلامهم وخلاصهم أثناء غيرتهم البشرية وتعبهم في الخدمة. لهذا السبب يقول الرسول بولس: "أقمع جسدي وأستعبده حتي بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27). هذا ما دفع القديس يوحنا الذهبي الفم وقد ذاب قلبه حبًا من أجل الخدمة أن يكون يقظًا لا من أجل خلاص إخوته فحسب وإنما لأجل خلاص نفسه أيضًا، إذ يقول: [إن كلامي أكثر فائدة لحياتي من الذين يسمعونني[65] كما يقول: [إني أعرف خطورة هذه الوظيفة وصعوبة عملها والزوابع الشديدة التي تجتاح نفس الكاهن فإنها أقسي من الزوابع التي للبحر اضطرابًا[66]].

6. التمتع بخبرة كلمة الله:

"افتح فمك وكلّ ما أنا معطيكه. فنظرت وإذا بيد ممدودة إليَّ

وإذا بدرج سفر فيها، فنشره أمامي وهو مكتوب من داخل

 ومن قفاه وكُتب فيه مراث ونحيب[67] وويل" [8-10].

موضوع عمله هو "كلمة الله" التي ينبغي علي الخادم أن يأكلها فتشبع بها أعماقه الداخلية، وتكون موضوع تفكيره المستمر، بل ويختفي فيها، فلا يقدم شيئًا من ذاته بل يقدم ما هو لله.

أكل الكلمة يعني دخولها إلي أعماقه، تتحول في حياته إلي دم يسري في عروقه. وكأنه يمتزج بها، ويحسبها حياته! يأكلها ويعيش بها ليقدمها للآخرين بتقديم حياته الإنجيلية رسالة مقروءة من جميع الناس.

 لقد اعتاد القديس يوحنا الذهبي الفم أن يقدم من مائدة الكتاب المقدس لشعبه غالبًا كل يوم، معطيًا اهتمامًا خاصًا بالكلمة الإنجيلية الرسولية، ففي إحدي عظاته يقول:

[قد سمعتم الصوت الرسولي!

 إنه بوق سماوي! هو قيثارة الروح!

 نعم. إن قراءة الكتب المقدسة هي روضة،

 بلي، هي فردوس أيضًا لا يقدم زهورًا عطرة فحسب، بل وثمارًا تقدر أن تقوت النفس!...

نحن نشبه أناسًا يصهرون ذهبًا مستخرجًا من المناجم الرسولية لا بإلقائه في فرن، بل بإيداعه في أذهان نفوسكم، لا بإشعال نار أرضية بل بالتهاب الروح.

فلنجمع منه أجزاء صغيرة بجد واجتهاد... فإن اللآلي لا تُقيَّم حسب حجمها بل بجمال طبيعتها[68]].

لقد تسلم كتابًا مكتوبًا من الخارج ومن الداخل، ربما قصد أن كلمة الله معلنة من الخارج بالحروف علي ورق لكن يحتاج الأمر إلي عمل الروح القدس الذي يكشف في القلب الكتابة التي في الداخل، أي المفهوم العميق الداخلي. وربما أيضا قصد أن هذا الكتاب يحوي من الخارج خطايا الشعب ومعاصيهم بينما في الداخل يحمل تأديبات الله لتوبتهم.

أما الكتابة فكما جاء في الترجمة السبعينية: "مراث وتسبحة وويل" [10] وفيما يلي بعض تعليقات الآباء علي هذه العبارة:

v   الكتاب كله مملوء ويلاً علي الهالكين، وتسبحة من أجل المخلصين، ومراث علي الذين بين الاثنين (أي الذين في طريق التوبة).

العلامة أوريجانوس[69]

 

v جاء فيه أمران محزنان وواحد مفرح، فإن من يبكي في هذا الزمن كثيرًا يخلص في المستقبل، لأن "قلب الحكماء في بيت النوح وقلب الجهال في بيت الفرح" (جا 7: 4) وكما يقول الرب نفسه: "طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو 6: 21).

القديس أمبروسيوس[70]

v    كتب فيه مراث وتسبحة وويل. أولي هذه الثلاث تخصك إن كنت كخاطئ تتوب عن خطاياك، والثانية تخص القديسين الذين يدعون للترنم مسبحين الله، لأن التسبيح لا يكون في فم الخطاه، والثالثة تخص الذين هم في يأس مثلك وقد أسلموا أنفسهم للنجاسة والزنا والنهم والشهوات الدنيئة، أناس يظنون أن الموت هو نهاية كل شيء، وأنه ليس بعد الموت شيء آخر، الذين يقولون: "السوط الجارف إذا عبر لا يأتينا" (إش 28: 15).

الكتاب الذي يأكله النبي هو كل مجموعة الكتب المقدسة التي تجعل التائب ينتحب والبار يكرم ويعطي ويلاً لليائس.

القديس جيروم[71]


 

من وحي حزقيال 2

مشتاق أن أعمل في كرمك ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

v   كشفت عن سمواتك لحزقيال نبيك فاشتاق أن يخدمك،

اكشف لي عنها فأعمل بجدية في كرمك.

سمواتك مفرحة ومبهجة،

العمل معك صليب ثقيل، لكنه مفرح ومبهج للغاية‍‍‍

ما أعزب العمل معك،

فإنك تعلن ذاتك للعاملين بك ومعك.

v   أرسلت نبيك إلي شعب عنيد جدًا،

لكن روحك أقامه لكي يقيم كثيرين،

هب لي روح القيامة فلا أخاف الموت

لقد دب الموت فيّ وفي إخوتي،

لكنك أنت هو القيامة بعينها

أرسلته إلي شعب عنيد،

وخشيت لئلا يتسرب العناد إليه.

احفظني لئلا في خدمتي أضعف وأسقط

احفظني بنعمتك واحفظ شعبك.

v   ماذا أقدم لإخوتي:

ها أنا أفتح فمي لتمد يدك بالسفر،

آكلُه واستعذبه يا عذوبة نفسي

ما هذه اليد الممتدة إلا تجسدك وتأنسك،

أعطيتني جسدك أيها الكلمة لأتناوله.

v   كلمتك فيها عذوبة ومرارة:

اجعلها عذبة بنعمتك، إذ اقتني وعودك الالهية.

هب لي أن أقبل تاديباتك مرارة وقتية لاصلاح نفسي وبنيانها أبديًا.

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

عمل كلمة الله

يرى البعض أن حزقيال النبي فتح فمه وتقبل من يدَّيْ الله الكتاب المقدس ليأكله، لكنه أبقاه في فمه، لهذا طلب منه الله مرة ثانية أن يأكل السفر ويبتلعه، كى يدخل إلى أعماقه، فيشبع وتمتلىء، عندئذ يدرك مسئوليته كرقيب ينذر ويرشد، يعمل تحت قيادة روح الله، يعرف متى يتكلم ومتى يصمت.

1. عذوبة كلمة الله                      [1-3].

2. صعوبة العمل                      [4-14].

3. مسئوليته كرقيب                     [15-21].

4. الحاجة للخلوة قبل العمل           [22-23].

5. للصمت وقت وللكلام وقت         [24-27].

1. عذوبة كلمة الله:

صدر الأمر لحزقيال النبي أن يأكل السفر (كلمة الله)، كما صدر للقديس يوحنا الحبيب (رؤ 10: 9) يقول إرميا: "وجدت كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" (15: 16) ويقول السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4). كلمة الله طعام شهي، يهب حياة وفرحًا وبهجة داخلية، نقتدي نعتذى به فنحمله في أعماقنا. هو حلو، وإن كان يحمل مرارة بسبب تأديبات الله التي لخلاصنا.

إذ تقبل حزقيال النبي من يدي الله كلمته كدرج مفتوح قرأ ما بداخله وما بخارجه فوجده يحوي مراث وويلا مع تسابيح، ففتح فمه لكي يطعمه الله بيده فتشبع أعماقه، وإذا به يجده في فمه كالعسل حلاوة.

ما أعجب حب الله، فإنه يتعامل معنا كمربية أو كأم حنون، يمد يده ليطعمنا نحن الرضع المحبوبين لديه. نرتمى على صدره كالرضيع على صدر أمه، فنجد وصيته لبنًا نقيًا يصدر من ثدييه (العهدين) وكعسل النحل والشهد. وصيته صالحة للصغار والكبار الناضجين.

وصية الله صعبة وثقيلة على الإنسان الطبيعي، بل أحيانًا يراها البعض كأنها قيد على الحرية الإنسانية، لكن متى امتدت يد الله لتقدمها لنا في داخلنا نجدها حلوة كالعسل. ما هي هذه اليد الممدودة (1: 9) التي نظرها حزقيال إلا ابن الله الذي يُدعى "ذراع الرب" وقد صارت منظورة خلال التجسد الإلهي. هذا الذي قدم لنا الوصية الإلهية ليس خلال الأوامر والنواهي، بل خلال الحب العملي المتبادل بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه، مقدمًا نفسه مثالا ومعينًا، إذ يقول: "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم. أنتم أحبائي... لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده لكنني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 14: 12-15) بهذا صارت الوصية الإلهية ليست أمرًا نلتزم بطاعته بل انفتاح بصيرتنا الداخلية بالحب لإدراك إرادة محبوبنا، فنطيعه كأحباء تلتقى إرادتنا بإرادته الإلهية اختياريًا! بهذا يمكننا أن نفهم كلماته: "إحملوا نيرى عليكم وتعلموا مني... لأن نيرى هين (لذيذ) وحملي خفيف" (مت 11: 29-30)، مع أنه سبق فقال: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا... من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني" (مت 10: 34، 38) بالحب يصير الألم عذبًا والصليب مجدًا، والوصية حلوة كالعسل.

كلمة الله أيضًا تحمل إنذارات ضد الساقطين لكي يتوبوا، هذه التي تجعل خادم الكلمة في موقف حرج بل ويتعرض للمتاعب والضيقات، لكنها تقدم في نفس الوقت عذوبة وفرحًا للخادم، إذ يدرك مقاصد الله الخلاصية. حينما كتب الرسول بولس بشدة أحزن أهل كورنثوس، لكنه عاد يوضح لهم أنهم وأن كانوا قد حزنوا لكنه يفرح بهذا الحزن الذي للتوبة فيفرحون هم أيضًا معه، قائلاً: "لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يفرحني إلا الذي أحزنته، وكتبت لكم هذا عينه حتى إذا جئت لا يكون لي حزن من الذين كان يجب أن أفرح بهم، واثقًا بجميعكم أن فرحي هو فرح جميعكم، لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولاسيما من نحوكم" (2 كو 2: 2-4).

2. صعوبة العمل:

لم يرسله الله إلى أمم أجنبية ولا إلى شعب غريب اللهجة، بل أرسله إلى شعبه، إلى الأمة التي عندها شريعة الله. لكن للأسف أمة عاصية، رفضت الاصغاء إلى الشريعة التي تسلمها موسى على جبل سيناء، وبقيت ترفض كلمة الله على ألسنة الأنبياء... حتى جاء الكلمة ذاته فرفضوه.

يعاقبهم الله بطريقة غير مباشرة قائلاً  لحزقيال: "فلو أرسلتك إلى هؤلاء لسمعوا لك" [6]. وبالفعل عندما جاء الكلمة قبلته الأمم الغريبة الجنس.

كانت إرسالية حزقيال صعبة للغاية، "لأن كل بيت إسرائيل صلاب الجباه وقساة القلوب" [7]. هذا هو فعل الخطيئة في حياة الإنسان، تجعل قلبه قاسيًا كالحجر وجبهته صلبة لا يريد أن يسمع الصوت الإلهي بل يقاومه بعنف بلا حياء. لكن الله يهب خدامه قوة، إذ يقول: "هأنذا قد جعلت وجهك صلبًا مثل وجوههم، وجبهتك صلبة مثل جباههم. قد جعلت جبهتك كالماس أصلب من الصوان فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد" [8-9]. إن كان الشر في طبعه عنيفًا لكنه لا يقدر أن يثبت إلى النهاية، فإن الخير يُحطمه، كما يبدد النور الظلمة والحق الباطل، وملكوت الله يبقى إلى الأبد أما مملكة إبليس فإلى حين. هكذا كلما اختفى الخادم في الله كملجأ له لا يقدر عدو الخير أن يثبت أمامه.

إذ قبل حزقيال كلمة الله سمع خلفه صوت رعد عظيم [12]، هي الإمكانيات السماوية العاملة في الخفاء داخل قلبه، ترعد لتحطم الشر الذي قسَّى قلوب الخطاة. لقد سمع صوت أجنحة المخلوقات الحية المتلاصقة. وكأن الخليقة السماوية التي تعمل معًا بروح واحد تسندنا أيضًا بصلواتها عنا. أما صوت البكرات فهو سلطان الكلمة الإنجيلية التي تأسر القلوب وتجتذبها.

مع كل هذه الإمكانيات: الإمكانيات الإلهية السماوية ومساندة السمائيين بجانب فاعلية الكلمة ذاتها، فإن الخدمة مملؤة أتعابًا وآلامًا... يكفي مرارة القلب الداخلي من أجل النفوس المحطمة، إذ يقول النبي: "فحملني الروح وأخذني، فذهبت مُرَّاً في حرارة روحي، ويد الرب كانت شديدة عليَّ" [14]. كأنه يقول المرتل: "الكآبة ملكتنيى من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك" (مز 118).

كان على حزقيال أن يُعلن الرسالة بين الذين عانوا من السبي، ولهم أن يقبلوا كلمة الله إما رائحة حياة لحياة أو رائحة موت لموت. للأسف لم ينتفعوا من السبي، ولا لانت قلوبهم بسبب التأديب، ولا انصتوا إلى كلمة الله وسط غربتهم، بل ازدادوا قسوة وعنادًا ضد الله وانبيائه. لقد أوضح له الله أنهم يرفضون الاستماع له، بل يقاومونه ويضطهدونه... إنها مسئوليتهم لا مسئوليته. أما هو فيلزمه أن ينعم بقوة إلهية تجعله صلدًا كالماس ليواجه قساوتهم [8].

حمله روح الرب من أمام العرش ليأتي به إلى المسبيين لخدمتهم [12-15]، ليدرك أن تحركاته ليست حسب إرادته البشرية، لكن حسب خطة الله... أنه محمول بالروح. جاء فامتلأت نفسه مرارة، وكانت يد الرب شديدة عليه [14] لعل سر مرارة نفسه نبع عن مقارنته بين وقفته أمام العرش الإلهي يشارك السمائيين تسابيحهم، وانتقاله إلى المسبيين وقد حطمت الخطية سلامهم وبهجة قلبهم، تمرر في نفسه قائلاً  مع بطرس الرسول: "جيد يا رب أن نكون ههنا". أنه لا يريد مفارقة العرش الإلهي. ولعله أيضًا تمرر لأنه شعر بحرمان الشعب مما رآه واختبره بمثوله أمام العرش الإلهي!

3. مسئوليته كرقيب:

إذ أكل حزقيال كلمة الله وشبع منها بقى وسط المسبيين سبعة أيام في حيرة، لايعرف ماذا يفعل، فكان صوت الرب له "يا ابن آدم قد جعلتك رقيبًا" [17]. كأن أمرين ضرورين لازمان لإقامة الرقيب: أن يأكل كلمة الله، وأن يعيش سبعة أيام وسط شعبه. أما رقم 7 فيشير إلى الكمال أو كمال أيام الأسبوع، وكأن الرقيب ليس موظفًا يؤدي عملاً بالأجرة، يعمل إلى حين ويستريح، لكنه بالحق إنسان محب يلقي بنفسه وسط شعبه كل أيام عمره لا يعرف الراحة لنفسه. حينما أراد الرسول بولس أن يصف أول قائد للشعب أي موسى النبي قال عنه: "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يُدعى ابن ابنه فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب 11: 24-26) هكذا ألقى موسى بنفسه وسط عار شعبه حاسبًا ذلك أفضل من أن يعيش في راحة القصر الفرعوني، تاركًا كل متعة وقتية من أجل المكافأة الأبدية. هذه هي سمات الرقيب الروحي. إنه يعمل وسط شعبه كخادم لهم، يحمل عارهم ولا يطلب ما لنفسه بل ما هو لراحتهم.

أما دعوته "رقيبًا" فعلامة وجود حرب روحية، في خدمته يغسل أقدام الآخرين ويحارب الشيطان وجنوده.

قديمًا كانت المدن تُقام غالبًا على تلال ويُبنى برج على أسوار المدينة، ويوجد في البرج رقيب يستطيع أن يتتبع تحركات أي عدو قادم نحو المدينة فينذر الشعب عندئذ تُغلق ابواب المدينة ويستعد الجيش للحرب.

أما وصية الله له فهي: "اسمع الكلمة من فمي وأنذرهم من قبلي" [17]. ينبغي كرقيب أن يحمل روح التمييز والإفراز من خلال حفظه كلمة الرب وشركته مع الله، فلا ينذر من عندياته بل بما يسمعه من فم الله، ولا يتكلم باسم نفسه بل باسم الله (من قِبلي). بهذا يقدر أن ينذر بكل قوة بلا خوف ولا مجاملة ولا مداهنة، لئلا تهلك النفوس ويُطلب دمها منه.

لقد أوضح الله لخادمه مدى مسئوليته عن هلاك كل نفس لا يُحذّرها متهاونًا معها، الأمر الذي أرعب خدام الله عبر العصور، لهذا حينما شعر القديس أمبروسيوس بخطأ ارتكبه الإمبراطور ثيؤدوسيوس، أسرع بالكتابة إليه يحذره قائلاً له: [هل أستطيع أن أصمت؟! فإن ضميري يصير مقيدًا، ونطقي ينزع عني، وأصير في أبأس حال يمكن أن أكون عليه!... إن كان الكاهن لا يتكلم مع من يخطئ... يموت الخاطئ في خطيته، ويخضع الكاهن نفسه للعقوبة لأنه لم يحذر من الخطأ[72]]. مرة أخرى يكتب إليه هكذا: [أتوسل إليك أن تصغي إلى ما أقوله بطول أناة. فلو أنني لا أستحق أن تسمع لي أكون أيضًا غير مستحق أن أقدم تقدمات عنك، أنت الذي وثقت في بنذورك وصلواتك... ليس من جانب الإمبراطور أن يرفض حرية الكلام، ولا من جانب الكاهن ألا ينطق بما يفكر فيه[73]].

لقد قدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مثلاً رائعًا لاهتمام الرقيب لا بالجماعة ككل بل بكل نفس كما لو كانت الجماعة كلها، إذ يقول: [كل واحد منكم - في عينيَّ - يساوي المدينة كلها[74]].

مرة أخرى يقول: [لا يقل لي أحد إن كثيرين قد نفذوا الوصية، فإنني لا أبتغي هذا، بل أريد الكل أن يفعلوا هكذا. فإنني لا أستطيع أن التقط أنفاسي حتى أرى ذلك قد تحقق! فإنه إن كان واحد قد ارتكب الزنا بين أهل كورنثوس لكن بولس كان يتنهد كما لو أن المدينة كلها ضاعت[75]].

لقد شعر القديس بولس بمسئوليته كرقيب، فيقول لقسوس الكنيسة التي في أفسس: "لذلك أشهدكم اليوم هذا أني برئ من دم الجميع، لأني لم أؤخر أن أخبركم بكل مشورة الله... اسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهارًا لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد" (أع 20: 26، 27، 31). وكما يقول الآب قيصريوس أسقف آرل: [من أي دم الرسول برئ؟... دم النفوس طبعًا وليس دم الأجساد[76]]. كما يقول: [يلزمنا أن نخاف لئلا تهلك نفوس الكثيرين بسبب مجاعة كلمة الله الناجمة عن اهمالنا فتطلب من نفوسنا في يوم الدينونة[77]].

4. خلوة قبل العمل:

إذ يسلك كرقيب أمره الرب ألا يتسرع في بدء العمل بل يخرج إلى البقعة ليتكلم معه [22]، وهناك أراه مجده السماوي مرة أخرى كما رأى عند نهر خابور. فإن نجاح الرسالة لا يقوم على كثرة العمل بل على نوعية الخادم، أنه ملزم بالتقديس خلال خلوته مع الله، ليرفع قلبه إلى الأمجاد الإلهية فيقدم للشعب في حياته "قوة الحياة السماوية".

إن الخروج إلى البقعة لمعاينة مجد الرب أمر ضروري لكل خادم، لهذا بعد أن دُعي الرسول بولس للخدمة التزم بالاقامة ثلاث سنوات في البرية في خلوة طويلة مع الله ليتهيأ للعمل الرسولي. ويتحدث القديس أغسطينوس عن التزام الخدام بالخلوة الروحية دون أن تعوق الخلوة العمل ولا العمل حياة الخلوة، إذ يقول: [الذين قد أنيط بهم أعمال الخير ورعاية النفوس ملزمون أن يحملوا للناس شهادة عن الحياة الأخرى (التأمل)، لذلك يجب أن يتفرغوا لدراسة الحق وتأمله والحياة الأبدية. كما أنه ليس من الإنصاف أن تكون حياة التأمل سببًا في إعاقة إنسان للقيام بالمهام الكنسية[78]].

نحتاج لنجاح خدمتنا أن يتجلى الرب في قلوبنا، وأن ننعم بالحضرة الإلهية، ليس مرة واحدة، وإنما من وقت إلى آخر، فننعم برؤى جديدة مستمرة، تكشف عن مجد الله وقوته وإمكانياته... فنتأكد أنه عامل فينا وبنا. هو حاضر دومًا في داخلنًا، يتجلى باستمرار في أعماقنا.

5. للصمت وقت وللكلام وقت :

تكررت الرؤيا وتكرر سقوط حزقيال النبي على وجهه، وأيضًا دخله الروح الإلهي ليقيمه ويسمع هذه الرسالة: "اذهب أغلق على نفسك في وسط بيتك... وألصق لسانك بحنكك فتبكم، ولا تكون لهم رجلاً موبخًا لأنهم بيت متمرد. فإذا كلمتُك أفتح فمك وتقول لهم هكذا قال السيد الرب" [24-27]. هكذا أراد الرب منه ألا يعمل بالغيرة البشرية لكنه يصمت ولا يتكلم حتى يأذن له بالكلام، فيتكلم في الوقت الذي يراه الرب مناسبًا وبكلمات الرب وباسمه. إن كان كرقيب، في صمته على الشر يُدان، إلا أنه ينبغي أن يتعلم ما قاله الحكيم "للسكوت وقت وللتكلم وقت" (جا 3: 7). وكما يقول القديس أمبروسيوس: [زن حديثك ولتقس كلماتك]، وأيضًا: [الرجل الحكيم في حديثه يأخذ في اعتباره ماذا يتكلم، ومن الذي يكلمه، وظروف المكان والزمان... هكذا يلزم أن يكون هناك قياس للاحتفاظ بالصمت كما بالكلام]. يقول الأب غريغوريوس الكبير: [لابد أن يكون الراعي حكيمًا في صمته نافعًا في كلامه[79]].

 

 


 

من وحي حزقيال  3

أطعمني بوصيتك يا شهوة قلبي!

v   أطعمني بوصيتك يا شهوة قلبي‍‍‍‍!

مدّ يدك وقدم لي وصيتك خبزًا سماويًّا.

أني طفل بل ورضيع، لن أقبل طعامًا من آخر غيرك!

أنت أحَّن على من والدّي يا مخلص نفسي!

v   وصيتك صعبة يا مخلص نفسي،

صليبك ثقيل، وطريقك كرب ضيق،

لكن من يديك تصير وصيتك خبزًا وعسل نحل،

يصير صليبك مجدًا، وطريقك سماءً جديدة!

v   أرسلت نبيك يحمل كلمتك إلى شعبك العنيد،

هب لي أن أحمل وصيتك إلى كل نفس مهما كان عنادها!

مع استلام كلمتك حدث رعد عظيم في السماء.

لترعد السماء ولتزلزل كل قساوة في قلبي وقلوبهم.

لتنزُع عنها الطبيعة الأرضية المتزعزعة،

ولتنعم بحياة سماوية أبدية.

v   قدم نبيك كلمتك إلى شعب عنيد فتمررت نفسه.

ألعله كان مُرّ النفس لأنه لا يريد مفارقة التطلع إلى مركبتك؟!

ألعله كان مُرّ النفس لأنه تلامس مع عناد البشرية؟!

أعطني وسط مرارة نفسي أن أرى سمواتك،

هب لي وسط حزني أن أتلامس مع توبة الكثيرين.

فرح قلبي بعملك الإلهي في وفيهم أيها الكلمة الإلهي.

بقى نبيك وسط المسبيين سبعة أيام،

هب لي أن أقضي كل أيام غربتي أعمل في كرمك.

أني لست أجيرًا أحسب الزمن،

لكني ابن أشتاق إلى العمل في كرم أبي.

v   علمني أيها الكلمة الإلهي:

متى أختلي بك لأعرف أسرارك؟!

ومتى أعمل في الكرم لأخدم شعبك؟!

هب لي في خلوتي ألا أنسى شعبك،

وفي خدمتى ألا أتوقف عن التأمل في أسرارك.

v   ارشدني أيها الكلمة الحقيقية،

فأني لا أعرف متى أصمت ومتى أتكلم،

كيف أصمت وكيف أتكلم؟!

ها أنا بين يديك، كن قائدي العامل فيّ.

<<

 

 

 


 

 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

 

 

 

تهديدات قبل سقوط أورشليم

 [ص 4- ص 12]

 

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الرابع

اللبنة المرسومة ونومه

بدأ الحديث الإلهي مع حزقيال النبي بطلب التنبؤ وإنذار الشعب من خلال الرموز واستخدام ما نسميه "وسائل إيضاح"، الأسلوب المتبع في رياض الأطفال. ذلك لعجز اللغة البشرية عن التعبير، أو بقصد لفت انتباههم بسلسلة من الدروس العِيانّية.

1. اللَّبِنة المرسومة        [1-3].

2. النوم على جنب واحد    [4-8].

3. الأكل بالوزن والغم      [9-17].

1. اللبنة المرسومة:

أمره الرب أن يرسم على لَبِن (طوبة من الطين) مدينة محاصرة بالجيوش، يقيم ضدها برجًا ومترسة ومجانق (آلات حربية لهدم الأسوار)، معلنًا أن حصار أورشليم قادم بسماح إلهي للتأديب، إذ أن الهيكل المقدس قد مضى عليه سنوات طويلة وهو منجَّس بإقامة أنصاب لآلهة وإلآهات وثنية داخل الأماكن المقدسة.

إذ شعرت صهيون أن الرب قد تركها، وسيدها نساها، أكد لها: "هوذا على كفّي نقشتك" (إش 49: 16). لقد نقشتك في ابني يسوع المسيح بكونك جسده المقدس وهو الرأس، أراك فيه مقدسة ومبررة، ترتفعين به وفيه إلى أحضاني وتتمتعين بشركة أمجادي. أما هنا فإذ تصر صهيون على الخطيئة وترتبط بالزمنيات ولا تريد أن تسمو عن الأرضيات لهذا طلب الله من حزقيال أن يرسمها على لبنة من الطين، بدلاً من أن تُرسم على كف الرب؛ إنه يعطيها سؤل قلبها. لهذا كثيرًا ما يردد مثل هذه العبارة: "أجلب عليك طرقك" (7: 4). اشتهت الأرض، فجعلها منقوشة على الطين!! بعد أن كانت أسماء أسباط إسرائيل منقوشة على الحجارة الكريمة توضع على صدر رئيس الكهنة ليدخل بها إلى قدس الأقداس في ظل السمويات هوذا مدينة أورشليم تنقش على الطين الذي أرادت أن تتثقل به!

في سفر النشيد يعتز الله بأولاده فيشبههم بالفرس العاملة معًا بروح واحد في مركبته الإلهية للخلاص (نش 1: 9)، يراهم كترصة حسنة مرهبة كجيش بألوية (نش 6: 4)... لكنهم إذ يُصرّون على اعتزاله والارتباط بالرجاسات يقيم ضدهم من الأمم برجًا ومترسة ومجانق لتحطيم كل قوة فيهم! بل ويأمر بإقامة سور من حديد حول المدينة [3] لا ليحميها وإنما لكي لا يهرب أحد مما يحل بها من تأديبات!

والعجيب أن الله في وسط هذا المُرّ يطلب من النبي أكثر من مرة أن يثبت وجهه على المدينة (3: 7) وأن يجعل ذراعه مكشوفة حين يتنبأ عليها [7]. أما تأكيد تثبيت وجهه على المدينة المحاصرة مرتين فعلامة رعاية الله لشعبه من اليهود كما من الأمم، إن الكنيسة بكل أجناسها هي موضوع رعايته وعنايته واهتمامه حتى في أمرّ لحظات التأديب. إنه يسمح لأولاده بالضيقات بكل مرارتها ومعها الخلاص. لهذا يسمى القديس يوحنا الذهبي الفم الألم "مدرسة الفلسفة"[80]، كما يقول: [إذا أخطانا يُنهض الله علينا أعداءنا لتأديبنا، لهذا يليق بنا لا أن نحاربهم، بل نحاسب أنفسنا ونثقفها. لنتقبل الآلآم كقبول الأدوية من الطبيب لأجل خلاصنا، وكقبول التأديب من الأب حتى نتمجد. لهذا يقول الحكيم ابن سيراخ: يا بني إذا تقدمت لخدمة ربك فتأهب للتجارب واصبر[81]].

أما الذراع المكشوفة فتشير إلى التجسد الإلهي، إذ يرى الآباء في "ذراع الرب" إشارة إلى الابن، و "أصبع الرب" إشارة إلى الروح القدس. وكأن أورشليم تبقى تحت الحصار في قبضة الخطيئة وتحت سلطانها حتى تنكشف ذراع الرب كقول القديس يوحنا: "فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا" (1 يو 1: 5). هذا الذي هو غير منظور صار بالتجسد مكشوفًا، إذ "حل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا" (يو 1: 14). لقد حوصر قلبنا - أورشليم الداخلية - وتدنس هيكلنا وصرنا في حالة موت حتى شمر الآب ذراعه، أي أرسل ابنه الوحيد ليحررنا ويردنا إلى الخلاص. هذا ما رآه إشعياء النبي بروح النبوة إذ بشَّر أورشليم المسبية بالخطية، هذه التي نامت نوم الموت ودفنت في التراب وتحطمت تمامًا، قائلاً:

"استيقظي، استيقظي، إلبسي عزك يا صهيون.

 إلبسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة.

 انتفضي من التراب،

 قومي اجلسي يا أورشليم،

 انحلّي من رُبط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون.

 ما أجمل على الجبال قَدَمَي المبشر المخبر بالسلام،

 المبشر بالخير المخبر بالخلاص،

 القائل لصهيون: قد ملك إلهك...

 أشيدي، ترنمي معًا يا خِرب أورشليم،

 لأن الرب قد عَّزى شعبه، فدى أورشليم،

 قد شَّمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم،

 فيرى كل أطرف الأرض خلاص إلهنا" (إش 52).

واضح أن سر يقظة صهيون، ولبسها عزها، وانتقاضها من التراب، وتحررها من عنق العبودية، وتمتعها بالسلام هو تشمير ذراع الرب أمام عيون الأمم، أي تجسد السيد ليضم في جسده جماعات متمتعة بالخلاص.

هذا وتشمير الذراع يشير إلى الاستعداد للضرب، وعلى ما اعتقد لا يقصد ضرب شعبه إنما ضرب الخطيئة التي حطمت هذا الشعب، فقد جاء السيد المسيح لا ليدين الإنسان بل ليخلصه... لقد دان الخطيئة التي سقطنا نحن فيها في جسده!

قلب الله نحو شعبه لم يتغير، لكن قداسته تقتضي تحطيم الخطية ومعاقبة الأشرار المُصريّن على شرهم لعلهم يرجعون إليه بالتوبة.

2. النوم على جنب واحد:

إذا أعلن الرب حصار أورشليم وسبيها مع تلميحه عن اهتمامه بها وتشمير ذراع قدسه لخلاصها، بدأ يوضح فاعلية الخطيئة في حياة الإنسان، إنها تحطمه تمامًا، تلقيه إلى حالة نوم دائم بلا حيوية ولا عمل، ينام الإنسان على جنب واحد كمن هو مصاب بالفالج (الشلل).

لقد طلب منه أن ينام على جنبه الشمال 390 يوما ( وبحسب الترجمة السبعينية 190 يومًا)، ثم يعود فينام على جنبه اليمين لمدة أربعين يومًا، بالنوم الأول يشير إلى إثم بيت إسرائيل والثاني إلى بيت يهوذا. العمل الأول يشير إلى سقوط الإنسان تحت سلطان الضربة الشمالية أي الخطايا الظاهرة كالزنا والقتل والسرقة والكذب الخ، أما الضربة اليمينية فهي الخطايا الخفية التي يتعرض لها المؤمنون والذين يخدمون الرب مثل خطايا البر الذاتي وحب الكرامة والمديح، الأمور التي ليس لها مظهر الخطيئة أمام الناس لكنها تفسد حياة المؤمنين والخدام. النوم على الجانب الأيسر يبقى زمانًا أطول من النوم على الجانب الأيمن، لأن شعب يهوذا وإن كان قد تأخر في شره عن مملكة إسرائيل الشمالية لكنه في زمن قصير كمل شره. هكذا بالضربات اليمينية يسقط المؤمنون بسرعة خطيرة، ويكمل شرهم في وقت قصير، الأمر الذي جعل القديس يوحنا الذهبي الفم يعلن: [عجبي من أسقف (رئيس) يخلص!]، كما كان آباء البرية يحذرون أبناءهم الرهبان من الضربات اليمينية أكثر من اليسارية، لأن الأخيرة واضحة ويسهل التوبة عنها، أما الأولى فغالبًا ما تكون خفية تتسلل إلى القلب وتحطم توبته!

لماذا نسب الجنب الأيسر لإسرائيل والأيمن ليهوذا؟ لأنه إذ يتطلع الإنسان نحو شروق الشمس يكون الشمال عن يساره والجنوب عن يمينه، هكذا إسرائيل مملكة الشمال يمثلها جنبه الأيسر ويهوذا مملكة الجنوب يمثلها جنبه الأيمن.

أما بالنسبة للأرقام فلا أريد الدخول في تفاصيل كثيرة، إذ وجدت لها تفاسير متنوعة، مكتفيًا هنا بإبراز النقاط التالية:

أ. يرى البعض بإضافة الرقمين معًا (390+40) يكون الناتج 430 يومًا رمزًا إلى سني العبودية التي عاشتها الأمة اليهودية في مصر تحت العبودية. وكأن هذه الأرقام ليست إلا رمزًا عن فعل الخطيئة في حياة المؤمنين، إذ تدخل بهم إلى العبودية المُرّة.

ب. يرى البعض أن رقم 390 يشير إلى السنوات التي عاشتها إسرائيل منذ ارتداد يربعام حتى خراب أورشليم، بينما رقم 40 يشير إلى السنوات التي انحط فيها يهوذا قبل السبي.

ج. يفسر البعض رقم 390 هكذا؛ إن حصار أورشليم قد بقى 18 شهرًا (إر 52: 4-6) فإذا حذف منها خمسة شهور انسحب فيها المحاصرون عندما اقترب جيش فرعون (إر 37: 5-8) فيكون الباقي 13 شهرًا أي 390 يومًا.

د. الرقمان 390، 40 يرمزان إلى الخطيئة التي شملت كل إنسان، وشملت كل الحياة الزمنية، فحطمت كل البشرية بفالجها، وحطمت كل واحد كل أيام زمانه. فرقم 390 إنما هو حصيلة ضرب رقم 39 في 10، لأن عدد أسباط مملكة إسرائيل (10)، وأجرة الشر 39 جلدة، كأن كل الأسباط قد استحقوا الجلد. أما رقم 40 فيشير للحياة الزمنية كلها، لهذا صام السيد المسيح أربعين يومًا وأيضًا موسى وإيليا علامة ضرورة زهدنا كل أيام غربتنا. فالرقم الأول يعني شمول الخطيئة لحياة كل الناس، والرقم الثاني أنها تشمل كل أيام زماننا.

يرى البعض أن ما ورد هنا عن اتكائه 390 يومًا على جنبه الأيسر و40 يومًا على جنبه الأيمن يتعارض مع ما ورد في (حز 8: 1) حيث نجد النبي جالسًا وسط كبار قومه أثناء المدة المذكورة، فضلاً عن تعارض أمر الله له هذا مع إمكانية البشر، فلا يُعقل أن حزقيال تمَّكن من تنفيذه.

يرد على ذلك[82]: يتضمن النص السابق عادة شرقية قديمة، وهى عادة "اتكاء" الرجال أثناء جلوسهم على الأرض، متوسدين وسادة توضع تحت اليّد اليمنى أو اليسرى، حسب رغبة الشخص.

ولا يشترط النص المذكور عدم حركة النبي أثناء تنفيذه أمر الرب، لكن يشترط عليه ضرورة الالتزام بالاتكاء على جنبه الأيسر خلال الـ 390 يومًا والجنب الأيمن خلال الـ 40 يومًا كلما رغب في الجلوس فقط، واشترط أيضًا ضرورة كشف الذراع كله الذي يتكئ عليه [7]. وهذا الأمر لا يتعارض مع مباشرة النبي كل ما يريده من تحركات وأعمال متفاوتة أثناء المدة الزمنية المذكورة، ولا نجد صعوبة ما على النبي أو على غيره في ممارسة هذا الأمر. كما لا نجد أي تعارض مع النص الوارد في (حز 8: 1) الخاص بجلوس حزقيال النبي وسط كبار قومه. فالنص الأول لا يحرم على النبي الجلوس مع غيره، وفي نفس الوقت يؤكد أنه كان في بيته جالسًا، أي متكئًا، وبلا شك في أنه كان يلتزم بالوضع الذي حدده له الإعلان الإلهي، فلا خلاف بين النصين.

3. الأكل بالوزن والغم:

الأكل بالوزن والغم، والشرب بالكيل والحيرة، علامة المجاعة التي تحل بالشعب للتأديب. إنه رمز لعمل الخطيئة في حياة الإنسان، إذ تصيب نفسه بحالة جوع مع غم وعطش مع حيرة... هذا كله بجوار الفالج (الشلل) الذي أصابها.

لقد حدد له عشرة شواقل (حوالي 8 أوقيات) من الخبز كل يوم، وسدس الهين (حوالي نصف بنت أو 16/1 من الجالون) ماء. أما الخبز فمن أردأ الأصناف، التي تقدم للخيل والخنازير، وهو خليط من القمح والشعير والفول والعدس والدخن (ذرة رفيعة) والكرسنة (بذار برية مثل القمح)، يأكله أثناء نومه على جنب واحد. كما طلب منه أن يخبره مستخدمًا براز الإنسان عوض الحطب علامة ما بلغه الشعب من دنس ونجاسة (تث 23: 13-14)، لكن إذ توسل إليه أن يعفيه من هذا الأمر سمح له أن يخبره على روث الحيوانات. هذه العادة التي لا تزال توجد في بعض قرى الصعيد حيث تستخدم (الجلة) كوقود عوض الحطب. على أي الأحوال هذا التصرف يرمز إلى ما يصل إليه الشعب من تعب!

 


 

من وحي حزقيال 4

بحبك نقشتني على كفيك

v   بحبك نقشتني على كفك يا إلهي،

حسبتني أورشليم المحبوبة، وصهيون المقدسة.

لكنني بخطاياي ونجاسات قلبي

صرت منقوشًا على لبنة من الطين.

صرت محتقرًا، أتمرغ في الوحل.

بتهاوني أحاط بي العدو وحطم أسواري،

يا من تريد أن تقيم روحك الناري سورًا لحياتي!

v   مددت أيها الآب ذراعك الإلهي،

إذ أرسلت لي ابنك متجسدًا،

يغسلني من التراب،

ويهبني روحك الناري،

ويحملني إلى أحضانك!

v   خطيتي نزعت عنى حيويتي،

صرتُ مريضًا بالفالج،

تارة أتكئ على جنبي الشمال مضروبًا بالشرور،

وأخرى أتكئ على اليمين مضروبًا بالبر الذاتي،

v   حرمتني خطيتي من الشبع،

حولت جنتي الداخلية إلى قفر مدقع.

من ينقذني من هذه المجاعة إلا أنت يا شبع نفسي؟!

<<

 


 

الأصحاح الخامس

حلق شعره

يكمل الرب إعلاناته - خلال الرموز - عن محاصرة أورشليم وتأديبها، فأمر حزقيال النبي أن يحلق شعر رأسه ولحيته بسكينٍ حادٍ، موضحًا له سرّ عقوبته ليهوذا وعلاماتها. ويعتبر هذا الدرس العِيانّي الرابع.

1. حلق شعر النبي            [1-4].

2. سرّ العقوبة               [5-7].

3. عقوبة علنية             [8].

4. عقوبة فريدة                [9-12].

5. عقوبة إلهية                [13-15].

6. عقوبات مرحلية            [16-17].

1. حلق شعر النبي:

"وأنت يا ابن آدم فخذ لنفسك سكينًا حادًا،

موسى الحلاق تأخذ لنفسك وأمررها علي رأسك

ولحيتك، وخذ لنفسك ميزانًا للوزن واقسمه.

وأحرق بالنار ثلثه في وسط المدينة إذا تمت أيام

الحصار، وخذ ثلثًا واضربه بالسيف حواليه وذر ثلثا إلي الريح" [1-2].

أوصى الله موسى أن يكلم الكهنة بني هرون هكذا: "لا يجعلوا قرعة في رؤوسهم ولا يحلقوا عوارض لحاهم ولا يجرحوا جراحة في أجسادهم. مقدسين يكونون لإلههم ولايدنسوا اسم إلهم، لأنههم يقربون وقائد الرب إلههم فيكونون قدسًا" (لا 21: 5-6). كانت الوصية الإلهية واضحة وصريحة ألاَّ يمس موسى رأس كاهن أو لحيته لأنه قدس للرب، ذلك لأن ترك الشعر علي رأس المرأة هو لزينتها، أما للرجل فعلامة عدم انشغاله بالأمور الزمنية، مكرسًا كل نسمة من حياته للخدمة الكهنوتية. لهذا فإن الأمر الصادر لحزقيال النبي هو إعلان عن تدنيس الكهنة في ذلك الوقت ورفض الرب ذبائحهم وتقدماتهم وصلواتهم.

عندما أراد الرب أن يخلص الشعب قديمًا ظهر ملاك الرب لامرأة منوح العاقر وقال لها: "ها إنك تحبلين وتلدين ابنًا ولا يعلُ موسى رأسه، لأن الصبي يكون نذيرًا لله من البطن وهو يبدأ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينين" (قض 13: 5). هذا الذي لما حلق شعر رأسه فارقته قوة الرب وصار ضعيفًا (قض 16: 17)، بل فارقه الرب نفسه (قض 16: 20) وفقد عينيه وأوثق بسلاسل من النحاس وصار كالثور يطحن في بيت السجن (قض 16: 21)، وكان هزءًا وسخرية للوثنيين! أما الآن فإن الذي يأمر بحلق الرأس واللحية هو الله نفسه علامة مفارقته لكهنة شعبه وفقدانهم البصيرة الروحية ودخولهم إلي الأسر وصيرورتهم أضحوكة الأمم وموضوع سخريتهم.

حلق الشعر بالكامل يشير إلي رفض الله الدخول معهم في أية علاقة من خلال الكهنة أو الأنبياء، إنه لا يقبل تقدمة ولا يسمع لصلاة حتى يؤدبهم علي شرهم، كما يشير إلي رفضه شعبه بسبب إصرارهم علي الخطيئة. فإن كان الرب هو الرأس فإن حياتنا نحن إنما هي الثبوت فيه. فنزع الشعر انتهاء ثبوت الشعب في مصدر حياته. وفي هذا يقول القديس جيروم: [يتحدث إشعياء النبي عن موسى حاد يحلق رأس الخطاة وشعر أقدامهم (إش 7: 20)، يحلق رأسه رمزًا لأورشليم التي صارت زانية (5: 1-5)، علامة أن كل ما فيها قد صار بلا إحساس ونزعت عنها الحياة[83]].

حلق الشعر بالكامل يشير إلي شدة الحزن، خاصة في حالة حدوث وفاة وكان هذا الأمر في عيني الرب دنسًا، لهذا حذر شعبه قائلاً: "أنتم أولاد للرب إلهكم، لا تخمشوا أجسادكم ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجل ميت، لأنك مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًا" (تث 14: 1-2) أما الآن فقد صارت أورشليم كمن في حكم الميت. وإذ رفض شعبه أمرهم في شخص حزقيال أن يتدنسوا بحلق شعر رأسهم.

حلق الشعر أيضًا علامة العار والذل والعبودية، فيصير الإنسان بلا كرامة، لا سلطان له حتى علي شعره أن يتركه أو يحلقه، لهذا كانت تحلق رؤوس العبيد بالكامل وأيضًا الملوك حين يؤسرون. هكذا تفعل الخطيئة بالإنسان: تفقده كل سلطان وترده من حالة الملك والقوة إلي خزي العبودية والسقوط تحت الأسر والذل. لقد خجل عبيد داود من اللقاء مع ملكهم لأن حانون ملك بني عمون شك فيهم وحلق لحاهم، فأقاموا في أريحا حتى تنبت لحاهم ويرجعوا... هكذا لا يستطيع الإنسان أن يلتقي مع الرب ملكه السماوي وهو في عار الخطيئة وخزيها بل ينتظر حتى يعلن توبته وينال المغفرة ويسترد الكرامة فيكون له إمكانية اللقاء مع الله وكل جنوده السمائيين والأرضيين.

حلق الشعر بسكين حاد يشير إلي حرب دامية حيث سمح الله للكلدانيين قساة القلب أن يغزوا يهوذا، وذلك حسب ما اقتضته عنايته الإلهية. يسمح بذلك لأن يهوذا تمردت على الله: الثُلث يبادون في حصار أورشليم، والثلث يقُتلون بالسيف دون رحمة علي أيدي جنود نبوخذنصَّر، والثُلث الباقي يُشتتون علي وجه الأرض بين الشعوب.

أما وزن الشعر فعلامة أن ما يحل بالشعب من جوع وعطش وسقوط بالسيف وتشتيت بين الشعوب لا يتم بطريقة عشوائية أو بمحض الصدفة، لكنه بتدبير إلهي، وموازين الرب عادلة وأمينة ودقيقة.

"الرب وازن القلوب" (أم 21: 2) والأرواح (أم 16: 2)، هذا الذي طرق الإنسان أمام عينيه "وهو يزن سبله" (أم 5: 21)، الذي يزن الريح ويعاير المياه بمقياس (أي 28: 25)، ويكيل تراب الأرض ويزن الجبال بالقبَّان والآكام بالميزان (إش 40: 12)، موازينه حق وعادلة، لا يطيق الغش أو المحاباة. هذه هي طبيعة الله التي يشتهي أن يسكبها في حياة أولاده لهذا كثيرًا ما يكرر الوصايا: "لا يكن لك في كيسك أوزان مختلفة كبيرة وصغيرة. لا يكن لك في بيتك مكاييل مختلفة كبيرة وصغيرة. وزن صحيح حق يكون لك ومكيال صحيح وحق يكون لك" (تث 25: 13-15)، "معيار فمعيار مكرهة للرب، وموازين الغش غير صالحة" (أم 20: 23)، "موازين غشٍ مكرهة للرب والوزن الصحيح رضاه" (أم 11: 1). يزن الله حياتنا وللأسف يجدها "في الموازين إلي فوق" (مز 62: 9)، أو كما قال دانيال الحكيم للملك بيلشاصَّر: "وُزنت بالموازين فوجدت ناقصًا" (دا 5: 6)، والآن ماذا يفعل الرب من نحونا نحن الذين وجدنا هكذا؟ إنه يحمل سر نقصنا، يحمل إثمنا عليه ويتقدم للميزان، فإذا به يثمن كعبد وهو الديان الذي يُدين المسكونة كلها. إنه في مرارة يقول: "فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة" (زك 11: 12). الرب يُقيَّم كعبد بينما يقف العبد في بره الذاتي ليقول: "ليزنّي في ميزان الحق فيعرف الله كمالي" (أي 31: 6). الكامل وُزنَ حاملاً نقصنا فصار تحت العار، والإنسان في كبرياء قلبه يريد أن يتبرر في الموازين أمام الله.

علي أيه الأحوال، وُزنَ شعر حزقيال كرمز للشعب الساقط تحت ثقل الخطيئة فوجد مستحقًا للجوع والعطش والسيف والتشتيت... هذه هي ثمار النجاسة والشر.

إن كان الشعب قد وجد في الميزان ناقصًا، لكن الله لا ينسى القليل جدًا منهم، هؤلاء الذين بسبب أمانتهم له وطاعتهم لكلماته يحتفظ بهم في ذيل ثوبه، تحت رعايته. هذه البقية ربما تشير إلي البقية التي تركت في أورشليم تحت قيادة جداليا. وربما تشير إلي البقية التي تبقي أمينة للرب في أيام النبي الكذاب أو المسيح الدجال. إنها جماعة الرب الخفية المحفوظة ومستترة فيه يعرفهم بأسمائهم ويحوّط حولهم لكي لا يُفقد منهم أحد، ولا يختطفهم العدو الشرير. لكن للأسف هذه القلة أمر الرب أن يحرق القليل منها، لأنها بعد أن دخلت تحت رعايته رفضته. هذه التي قال عنها الرسول إنهم بدأوا بالروح لكنهم يكملون بالجسد (غل 3: 3)، لهذا يوصينا السيد أن نصبر إلي المنتهي (مت 10: 12)، ويحذرنا من الأيام الأخيرة حين يخُشي علي المختارين أيضًا أن يضلوا (مت 24: 24).

2. سر عقوبتها:

الله كأب يؤدب أولاده كاشفًا لهم عن سر عقوبتهم، فهو ليس بالسيد المستبد ولا بالمنتقم، إنما حتى في شدة تأديبه يود رجوعنا وتوبتنا... لهذا يكشف لنا عن ضعفاتنا حتى نتخلي عنها.

 أمران يحزنان قلب الله: الوصية المكسورة والهيكل المدنس. فمن جهة الوصية يقول: "لأن أحكامي رفضوها لم يسلكوا فيها" [6]. والعجيب حينما يسقط المؤمن في العصيان يصير أكثر شرًا من غير المؤمن، إذ يقول الرب: "خالفت أحكامي بأشر من الأمم" [6]. أما بخصوص تدنيس الهيكل فيقول: "من أجل أنك نجست مقدسي بكل مكرهاتك وبكل أرجاسك، فأنا أيضًا أجُزَّ ولا تشفق عيني، وأنا أيضًا لا أعفو" [11].

تنفيذ الوصية والعبادة (الهيكل) أمران متلازمان وملتحمان في حياة المؤمن، فالوصية بطاعتها تهبنا دالة الوقوف لدي الله، والوقوف أمامه للعبادة يسند حياتنا في طاعة الوصية. كل من يظن أنه ينفذ الوصية بعيدًا عن روح العبادة يخدع نفسه وكذا من يظن أنه يرضي الرب بالعبادة دون سلوكه في طاعة الوصية.

3. عقوبة علنية:

إذ أُرسل لشعب يهوذا إرميا النبي يوبخهم علي خطاياهم قال له: "اذهب وناد في أذنيْ أورشليم" (إر 2: 1)، كأنه أراد أن يهمس في أذنهم حتى يتوبوا دون أن يعلم أحد بما ارتكبوه، لكنهم إذ لم يسمعوا طلب منه أن يقف في باب بيت الرب وينادي بكلمة التوبيخ (إر 7: 1)، وإذ لم يسمعوا أيضًا اضطر أن يعلن الرب تأديباته لشعبه علانية أمام كل الأمم. لقد أخطأوا علانية بغير حياء وحاول إصلاحهم دون أن يجرح مشاعرهم، لكن إزاء تشامخهم المتزايد يقول: "سأجري في وسطك أحكامًا أمام عيون الأمم" [8]، "وأجعلك خرابًا وعارًا بين الأمم التي حواليك أمام عيني كل عابر، فتكونين عارًا ولعنة وتأديبًا ودهشًا للأمم التي حواليك" [14-15].

صارت أورشليم عبرة للأمم حواليها، ودرسًا عيانيًا للعالم كله. فإن الله القدوس لا يقبل الخطية، ولا يهادنها حتى إن ارتكبها شعبه في المدينة المقدسة!

الله كمحب البشر يستر علي خطايانا وضعفاتنا مرة ومرات لكنه إذ يجد علاجنا في فضحنا يعلن تأديباته القاسية علينا. هذا أيضًا ما تفعله الكنيسة مع أولادها وخدامها إنها تعالج بالحب وتستر، لكن إن استدعي الأمر للتأديب العلني لا تمتنع من أجل خلاص أولادها. ففي العصر الرسولي حكم الرسول علانية علي الساقط في الخطيئة مع امرأة أبيه، قائلاً: "يسمع مطلقًا أن بينكم زني، وزني هكذا لا يسمي بين الأمم حتى أن تكون للإنسان امرأة ابيه... فإني أنا كأني غائب بالجسد ولكن حاضر بالروح قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا هكذا: باسم ربنا يسوع المسيح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع... نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير" (1 كو 5: 1-7).

4. عقوبة فريدة:

لقد تباروا في الشر وسبقوا الأمم، لهذا فإن الله أيضًا يؤدبهم بتأديبات فريدة:  "وأفعل بك ما لم أفعل وما لن أفعل مثله بعد بسبب كل أرجاسك. لأجل ذلك يأكل الآباء الأبناء في وسطك، والأبناء يأكلون آباءهم وأجري فيك أحكامًا وأذري بقيتك كلها في كل ريح" [9-10].

هذه هي أمرّ عقوبة يسقط تحتها المؤمنون أن يأكل أحدهم الآخر، لا بل يأكل الأب ابنه والابن أباه! فحين تتخلي نعمة الله عنهم يدب الفساد فيهم في الداخل، وخلال الانقسامات والانشقاقات يأكل العضو عضوًا آخر حتى ان كانت تربطه به قرابات جسدية أو روحية، وأخيرًا لا يبقي منهم شيء اللهم إلا رماد يذريه الرب في كل ريح!

أقول إن ثمرة الخطيئة أكل الجماعة بعضها البعض بدلا من أن تسند بعضها البعض، بل يدب الانقسام في الإنسان نفسه فيقوم علي نفسه، يفقد سلامه واتزانه وحيويته، ويصير الإنسان - بسبب الخطيئة - كالرماد لا قيمة له تذريه الرياح في كل اتجاه!

5. عقوبة إلهية:

أكد الرب ليهوذا أن التأديب العلني الفريد ليس صادرًا عن النبي، فهو ليس بمتكلم ضده، ولكنه صادر عن الله نفسه "أنا الرب تكلمت" [15].

إن كان الكلدانيون يحاربونك ويأسرون شعبك لكنهم في الحقيقة هم أداة في يد الله، يغير علي شعبه فيثير ضدهم الأمم لتأديبهم، لهذا يؤكد "ها إني أنا أيضًا عليك" [9]، مكررًا العبارة "أنا الرب تكلمت" وما شابهها حوالي 14 مرة في هذا السفر[84].

لهذا حين قام أبشالوم علي أبيه داود فهرب الأخير، خرج عليه شمعي بن جيرا يسب ويرشق داود بالحجارة وجميع عبيد الملك والشعب والجبابرة المحيطين به، فقال أبيشاي للملك: "لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه" (2 صم 16: 9)، أما داود ففي حكمة واتضاع قال: "دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا... لعل الرب ينظر إلي مذلتي ويكافئني الرب أخيرًا عوض مسبته بهذا اليوم". ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم في مكائد الآخرين ضدنا فرصة للتوبة، إذ يقول: [إذا أخطأنا يُنهض الله علينا أعداءنا لتأديبنا، لهذا يليق بنا ألا نحاربهم، بل أن نحاسب أنفسنا ونثقفها. لنقبل الآلام كقبول الأدوية من الطبيب لأجل خلاصنا وكقبول التأديب من الأب حتى نتمجد[85]].

6. عقوبة مرحلية:

الله في طول أناته ومحبته بدأ بالحديث السري مع شعبه ثم بالحديث العلني وأخيرًا اضطر إلي التأديب العلني، وهنا أيضًا يؤدب علي مراحل لعلهم يتوبون فينزع عنهم الألم. إنه يسمح أن يجوعوا، ثم يزيد من وطأته عليهم حتى يصيروا في عوز للخبز. وإذ لا يرجعوا يهيج عليهم الوحوش البرية لتأكل أولادهم، ثم يسمح بالوبأ وسفك الدماء... إنه لا يطلب النقمة بل التوبة بكل الطرق.


 

من وحي حزقيال 5

ثبتني فيك أيها المؤدب الحنون!

v   ثبتني فيك أيها المؤدب الحنون!

سمحت لنبيك حزقيال أن يحلق شعر رأسه كله،

لتعلن حزنه الشديد علي فساد شعبك كموتي،

وتهدد شعبك بنزعهم عنك كما الشعر من الرأس،

وترفض كهنوتهم الذي تنجس،

وتؤكد لهم أنهم يعيشون كعبيد أسري محلوقي الرأس!

v   أدب... ولكن لا تسلمني لآخر غيرك!

فأنت المؤدب الحنون!

v   أدبتني سرًا فلم أرتدع،

هوذا أنت تفضحني بين شعبي،

لا بل وحتى بين الأمم...

فليكن... ولكن لاتحرمني من خلاصك!

فأنت المؤدب الحنون!

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح السادس

تحذير لترك الوثنية

بعد أن أوضح خطته في التأديب، وكشف عن غايتها، أكّد أنه وإن كان قد أقام شعبه كجبال مقدسة لا تتزعزع، لكنها قد تدنست بعبادتهم للأصنام وممارستهم للفساد، لهذا يزعزع هذه الجبال ويحولها إلى مقابر جماعية. في الموضع الذي فيه يتم الفساد ينال الإنسان التأديب ليتذوق ثمر خطاياه. وفي هذا كله لا ينسى الرب أبراره المقدسين مهما كانوا قلة قليلة.

1. نبوة ضد جبال إسرائيل    [1-7].

2. قبول البقية التائبة          [8-10].

3. آثار الشر                    [11-14].

1. نبوة ضد جبال إسرائيل:

أخذ اليهود عن الوثنيين عبادتهم الأصنام على الجبال والتلال والأنهار والوديان[86]، لهذا طلب الرب من حزقيال النبي أن يوجه نظره إلى جبال إسرائيل التي تدنست بالعبادة الوثنية ويتنبأ ضدها. إنه يتطلع كالقاضي الذي ينظر نحو المتهم ليحكم عليه مواجهة ليهز أساساته ويبيدها.

للجبال مفهومها الرمزي في الكتاب المقدس، فإن "الأرض" غالبًا ما تشير في الكتاب المقدس إلى النفس التي نزلت إلى الفكر الأرضي، فأسرها الجسد الترابي بشهواته وربطها بالماديات، أما "الجبال" فغالبًا ما تشير في الكتاب المقدس إلى النفوس المرتفعة فوق الأرضيات لتسكن معه في العلويات، كنيسة مقدسة سماوية. لهذا كثيرًا ما ينسب الله الجبل لنفسه فيدعوه "جبل قدسه" (مز 2: 6)، (9: 9، إش 65: 11، 25، يؤ 2: 1، عو 16: 1)، كما يسميه الكتاب المقدس "أورشليم جبل قدسك" (دا 9: 16، إش 66: 20)، "صهيون جبل قدسى" (يؤ 17: 18).

لقد طلب الملاكان من لوط أن يهرب إلى الجبل لئلا يهلك (تك 9: 17)، وكأنهما يطلبان منه أن يرتفع فوق الزمنيات لئلا تقتنصه في دوامتها. واشتهي المرتل أن يسكن في جبل قدس الرب (مز 15: 1)، أي يرتفع قلبه إلى فوق، هناك يلتقي مع الله الساكن في الأعالي والذي يستجيب له (مز 30: 4).

النفس التي تصير جبلاً مقدسًا تصير كجبل حوريب، حيث يتقدم إليها الرب لا ليعطيها شريعته منقوشة على الحجارة كما لموسى بل بالروح القدس ينقش وصيته في قلبها. يجلس فيها السيد كما جلس على الجبل يعظ الجماهير بكلماته مجتذبًا إياها إليه بسلطان (مت 5). إنها تصير كجبل التجربة يرتفع الرب نفسه عليها ليقود المعركة الروحية ضد الشيطان محطمًا سلطانه، فتصير للنفس إمكانية الغلبة وتأتي الملائكة لتخدمها. إنها تصير كجبل تابور حيث تنعم النفس بالشركة مع رجال العهد القديم (موسى وإيليا) ورجال العهد الجديد (بطرس ويعقوب ويوحنا) في حضرة السيد المسيح نفسه الذي يظللها بسحابته المنيرة، ويعلن لها بهاءه في داخلها. إنها تصير كجبل الزيتون حيث يجلس فيها السيد يبكي أولاده الساقطين الذين قتلوا الأنبياء ورجموا رسله، فتصير مركز عمل وخدمة روحية، أو تصير بالحري كجبل الجلجثة فتنعم بصليب السيد المسيح مزروعًا في داخلها، تشارك عريسها آلامه وصلبه لكي تنعم بقوة قيامته. وباختصار فإن للجبال المذكورة في الكتاب المقدس ذكريات تدفع النفس للتمتع بحياة الاتحاد مع الله في المسيح يسوع بصورة أو بأخرى.

ويرى القديس جيروم أن هذه الجبال المقدسة إنما هم الأنبياء والرسل، إذ يقول: [نفسر الجبال بطريقتين: في العهد القديم هم الأنبياء، وفي العهد الجديد الرسل. عن هذه الجبال يقول الكتاب المقدس: "رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني" (مز 120: 1). على هذه الجبال استقرت مدينة الله، إذ "لا تختفي مدينة قائمة على جبل" (مت 5: 12). ونحن أيضًا الذين كنا في الظلمة وظلال الموت أشرق علينا الرب من جباله الأبدية، أي من خلال أنبياء ورسله[87]].

وكما يقيم السيد الرب أولاده جبالاً مقدسة يسكنها، فإن عدو الخير أيضًا يقيم من خدامه جبالاً دنسة ومُعثرة. فإن كان الجبل المقدس يعني ارتفاع النفس إلى السمويات بالروح القدس. فإن الجبل الشرير يعني كبرياء النفس وعصيانها للوصية الإلهية. فبدلاً من أن تكون النفس جبلاً ينطلق إليه السيد ليُصلي (مز 6: 46)، هذا "الذي اشتهاه الله ليسكن فيه إلى الأبد" (مز 68: 16)، يصير دنسًا ترعى فيه الخنازير (لو 8: 32). وبدلاً من أن تكون النفس ذاك الجبل الذي تصعد إليه الكنيسة مع عريسها كما على جبل تابور، تصير علة تيهان (عب 11: 38). لهذا يعلن الرب غضبه على الجبال الشريرة ويزعزع أساساتها، أو كما يقول المرتل: "انقلبت الجبال إلى قلب البحار" (مز 46: 2)، "مالكن أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش؟!" (مز 114: 2). يهدد الرب هذه الجبال قائلاً: "هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب المهلك كل الأرض فأمد يدي عليك وأدحرجك على الصخور وأجعلك جبلاً محرقًا فلا يأخذون منك حجرًا لزاوية ولاحجرا لأسس، بل تكون خرابًا إلى الأبد يقول الرب" (إر 51: 25-26)؛ كما يقول: "أبغضت عيسو وجعلت جباله خرابًا وميراثه لذئاب البرية" (ملا 1: 3)، "أقيموا راية على جبل أقرع، ارفعوا صوتا إليهم" (إش 13: 2).

انحرف الشعب إلى العبادة الوثنية، لذا هددهم الرب على لسان النبي بحلول الشر في كل موضع استخدم للشر. سواء كان جبلاً أو تلاً، واديًا أو نهرًا[88]. يمتد السيف إلى صانعي الشر فيقتلون وتمحى أعمالهم، وتصير مدنهم خرابًا وقفرًا، وتباد مرتفعاتهم وتخرب مذابحهم وتنكسر شمساتهم[89] (ربما المظلات المستخدمة للحماية من الشمس أثناء العبادة، وإن كانت الترجمات الإنجليزية تقول "التماثيل موضوع العبادة")، وتذرى عظامهم حول مذابحهم علامة تدنيسها (2 مل 23: 16). هكذا يتحطم العابدون وموضوع عبادتهم ومكان العبادة نفسه.

هذه هي النبوة التي وجهت ضد جبال إسرائيل، وهي تهديد مُرّ لأجل دفعهم للتوبة. إنها نبوة قائمة في كل جيل ضد النفس المتعجرفة فإن الله يبيد مرتفعاتها[90]، أي يُحطم كبرياء قلبها وتشامخها، ويخرب مذابحها أي يُحطم عواطفها التي أساءت استخدامها، ويكسر شمساتها أي يفضحها في وسط النهار ولا يعود يستر عليها بعد وربما قصد بالشماسات الأصنام الخاصة بعبادة الشمس. ويطرح قتلاها قدام أصنامها، أي يذلها أمام الذين ترتكب معهم الخطيئة، وتذرى عظامها حول مذبحها، أي يعلن موتها روحيًا ونفسانيًا وجسديًا ودنس حياتها فيأنف الكل منها، ويجعل مسكنها قفراً أي يترك قلبها خربًا بلا شبع، ويمحو أعمالها علامة نزع كل حيوية وطاقة للعمل في داخلها. هذا التأديب في الواقع هو الثمر الطبيعي للخطيئة في حياة الإنسان، تقتله وتقتل طاقاته الداخلية وتحطم كل إمكانية فيه!

هنا نلاحظ أن أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلاً، والتي تشهد عن رضى الله على مؤمنيه تتحول إلى مقبرة جماعية. عوض الإثمار تصير موضع موت.

من جانب آخر يهدد الله بقتلهم بجوار مذبح الشياطين ليثبت لهم عن عجزها عن الإعانة... ولعله أراد أن يوضح لهم عدله أنهم إذ دنسوا هيكله بالأوثان يسمح بتدنيس الأوثان بقتلهم في الهياكل الوثنية وتحويلها إلى مقابر تحمل فسادًا.

2. قبوله البقية التائبة:

في كل مرة يهدد الجماعة أو الشعب كله لا ينسى التأكيد على اهتمامه بالبقية التائبة الراجعة إليه بالرغم من قلة عددهم، هؤلاء الذين يخلصون من العقوبة لا بقبولهم التأديب (السبي) وإنما بتوبتهم عن خطاياهم: "إذا كسرتُ قلبهم الزاني الذي حاد عني، وعيونهم الزانية وراء أصنامهم ومقتوا أنفسهم لأجل الشرور التي فعلوها في كل رجاساتهم" [9]. إنهم أخطأوا كإخوتهم وسقطوا في الزنا وعبادة الاصنام وكل الرجاسات لكنهم قبلوا تأديب الرب بحكمة فانكسر قلبهم بالتوبة وندموا فلم يطيقوا أنفسهم بسبب ما فعلوه، لهذا يعود الرب إليهم ليخلصهم "ويعلمون أني أنا الرب" [10]... أي يهبهم معرفته الإلهية.

حقًا، لا طريق لخلاصنا إلا التوبة التي تمحو كل أخطائنا في استحقاقات الدم الكريم بالروح القدس، لهذا يقول القديس مرقس الناسك: [إن الله لا يديننا لأننا أخطأنا، لكنه يديننا لأننا لم نتب].

3. آثار الشر:

لقد أمره الرب أن يصفق[91] بيده ويضرب الأرض برجليه[92] كالطفل المتمرّمرّ الذي لا حول له ولا قوة، متأوهًا على كل رجاساتهم، خاصة وقد بدأ ثمر الشر يحل بهم من قتل بالسيف وجوع ووبأ. وكأن الغضب الإلهي حل عليهم فهاج الناس عليهم، وأعلنت الأرض سخطها وأيضًا كل الطبيعة وسيكون التأديب أكثر شدة حيث المواضع المستخدمة للعبادة الوثنية: التلال العالية ورؤوس الجبال وتحت ظلال الأشجار وبالذات البلوطة... حيث كانوا يقربون "رائحة سرورهم لكل أصنامهم" [13] فصارت رائحة الموت لهم!

لقد أعلن أن الخراب يدب في الأرض من القفر (البرية) إلى دبلة[93]. ويرى البعض أنها بلدة في موضع دبل الحديثة شمال الجليل، لكن الرأي السائد أنها ربلة[94] وهي مدينة في أرض حماة (2 مل 23: 33، 25: 20-21) وكأنه بقوله: "من القفر إلى دبلة" يعني من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. وربما أراد أن يعلن مرارة ما يحدث لهم في شخص ملكهم، فعندما ألقى القبض على صدقيا بعد هروبه من أورشليم أُتيَ به إلى نبوخذنصَّر الذي كان في ربلة، فقلع عينيه وقيده في سلاسل ليرسله إلى بابل (2 مل 25: 6 الخ، إر 39: 5-7، 25: 9-11).

 


 

من وحي حزقيال 6

الجبل المقدس!

v   عجيبة هي أعمالك يا رب!

جعلتني جبلاً مقدسًا لك أنا التراب والرمال!

احسبني كجبل حوريب تعلن عليه شريعتك،

وكجبل تابور تتجلى ببهائك عليه،

وكجبل الجلجثه تقدم عليه ذبيحة حبك الفائقة!

v   على الجبال أقام إسرائيل أصنامه كالأمم،

دنس المرتفعات برجاساته!

بحبك تؤدب فتجلب سيفًا وتبيد المرتفعات،

وتتحول المدن إلى قفر!

لكنك لا تنسى البقية المقدسة،

فإنك الاله الرءوف!

انزع عن جبالي كل الرجاسات،

احرق بنار روحك القدوس كل أشواك الخطية!

قدسني، واحسبني جبلك المقدس!

<<

 


 

الأصحاح السابع

اقتراب النهاية

إذ تحدث الرب مع جبال إسرائيل عن عقابها المُرّ بدأ يؤكد لها أن النهاية قد جاءت، فقد اعتاد الإنسان أن يستغل طول أناة الله ظانًا أن شيئًا من التأديب لن يحدث، فيشغل نفسه بالاهتمامات اليومية أو الارتباط بشكليات العبادة أو الاتكال على السطوة والملك الزمني، لهذا تحدث الرب في هذا الأصحاح عن:

1. النهاية على الأبواب               [1-11].

2. نهاية الحياة الاجتماعية           [12-19].

3. نهاية الحياة الدينية الشكلية       [20-21].

4. نهاية الملك الزمني               [27].

1. النهاية على الأبواب:

سجل لنا القديس بطرس الرسول فكر المستهزئين الذين يسلكون حسب شهوات أنفسهم، هؤلاء الذين يقولون: "أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة" (2 بط 3: 4). كما يوبخهم الرسول بولس: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 4-5).

هنا يؤكد الرب أن وقت العقاب قد اقترب، هذا الذي ظنه الشعب اليهودي إنه لن يحدث. لهذا يتكرر في هذا الأصحاح العبارات: "نهاية، قد جاءت النهاية، الآن النهاية عليكِ (ضدك)، جاء الشر، جاء الوقت، بلغ اليوم" [2، 5، 6، 12]. وقد تحدث عن النهاية من ثلاثة جوانب:

أ. النهاية مؤلمة للغاية                 [1-6].

ب. النهاية على الأبواب               [7-10].

ج. النهاية حتمية لا مفر منها          [10-15].

جاءت النهاية إذ تقسَّت ضمائرهم تمامًا، ولم يعد في حياتهم أدنى دليل على التوبة، لذلك يدينهم الله حسب طرقهم الشريرة ورجاساتهم، لأنهم لم يصغوا إلى أنبيائه، ولا تابوا عن وثنيتهم.

النهاية مؤلمة للغاية، ليس لأن الله يريد مرارة نفوسهم، لأنه لا يزال يحبهم، ولكن لأن هذه هي طبيعة الخطيئة نفسها، طبيعتها الاضطراب والغم، إذ يقول: "اقترب يوم اضطراب، لا هتاف الجبال" [7]، انتهت التسابيح، ونزع الفرح منهم وحّل الهم والضيق بحلول الخطيئة في حياتهم. هذا ما يؤكده بقوله "أجلب عليك طرقك وتكون رجاساتك في وسطك" [4]. وكأن الرب يؤكد أن ما يحل بها إنما هو طبيعة فساد الخطيئة والرجاسات التي اختارها الإنسان لنفسه، فهي تحمل عقوبتها في داخلها.

هذا ما يؤكده القديس أغسطينوس إذ يعلق على كلمات المرتل: "كما يذوب الشمع يُنزعون" (مز 8: 85)، [إنهم يهلكون بنوع من نار شهواتهم. هنا (في العالم) يوجد نوع من العقوبة الخفية للخطاة يتحدث عنها المزمور... فالشهوة الشريرة كالحرق والنار. هل تحرق النار ثوبًا ولا تحرق شهوة الزنا النفس؟! إذ يقول الكتاب عن الزنا المتعمد: "أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!" (أم 6: 7)... ويقول الرسول: "لذلك أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم" (رو 1: 24). انظر النار التي تجعله كالشمع يذوب!]

"انتهي الدور إليك أيها الساكن في الأرض" [7]. إذ يسكن قلب الشرير في الأرض، ويصير ترابًا، يأتي دوره بدوران عجلة القضاء الإلهي، وليس من يقدر على تحويلها عن مسيرها... يأتي يوم الغضب. أما من يرتفع قلبه بالتوبة إلى السماء فلا يسقط تحت الغضب بل ينعم بالرحمة الإلهية.

إذ يسقط الأشرار المصرين على شرهم تحت الغضب لا يرون الرب الراعي، بل "الرب الضارب"، إذ يقول: "فتعلمون أني أنا الرب الضارب" [9].

إذ يعلن الرب اقتراب النهاية المؤلمة التي هي ثمرة طبيعية للنجاسات يوضح ما هي النجاسات حتى يمكن للمؤمنين الرجوع عنها.

أ. الكبرياء: "أزهرت العصا، أفرخت الكبرياء" [10]، فإن سقوط الشعب في العبادة الوثنية أو الزنا علته الكبرياء. هذه هي بداية أوجاع النفس التي حطمت إبليس وأنزلته من أعلى الرتب السماوية إلى الهاوية، وهي التي أخرجت آدم وحواء من الفردوس. لهذا يُذل الله المتكبرين، لا لأنه يشتهي إذلالهم، وإنما لكي يبتر عنهم ما للشيطان، فيستطيعوا بروح الاتضاع أن يتوبوا خاضعين للوصية الإلهية.

ب. الظلم: "قام الظلم إلى عصا الشر" [11]، إن كان الكبرياء يمس بالأكثر علاقة الإنسان بالله، فإن الظلم يمس علاقة الإنسان بأخيه، وإن كان الاثنان مترابطين معًا، فإن كليهما مؤشران إلى قساوة القلب كطبيعة شريرة تفسد حياة الإنسان الداخلية وبالتالي معاملاته مع الله والإنسان.

الكبرياء يدفع الإنسان إلى المذلة، وليس من يترفق به، والظلم يدفعه إلى فقدان ما لديه وليس من يرحمه: "لا يبقى منهم ولا من ثروتهم ولا من ضجيجهم ولا نوح عليهم" [11].

2. نهاية الحياة الاجتماعية:

إن كانت حياتنا الزمنية تلهينا عن الاستعداد الروحي لملاقاة الرب، فإن الله أحيانًا يسمح لنا بالضيق فيما يخص حياتنا الزمنية من كل جوانبها لعلنا نعود ونفكر في توعدات الله وتأديباته. لهذا يحدثهم هنا عن حالة خراب وتدمير كامل للمدينة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، فالشاري لا يفرح لأنه لا يملك ما يشتريه، ولا البائع يفرح لأنه لا يعود إلى تجارته، تُضرب الأبواق للحرب ولكن ليس من إنسان يقوم ليُحارب... حالة ضياع كامل! السيف يطاردهم من الخارج والوباء والجوع من الداخل، والذين يهربون لا يكونون كالأسود القوية بل في ضعف الحمام الذي يطير في هدير مستمر، ينوحون إذ ينظرون المدينة خربة تمامًا. يفقدون كل طاقة جسدية أو نفسية أو روحية: "كل الأيدي ترتخي وكل الركب تصير ماء". يدخلون في حالة حزن شديد كمن يندب ميتًا، إذ "يتنطقون بالمسح... وعلى جميع رؤوسهم قرع" [18].

يستولي الرعب عليهم، أما فضتهم وذهبهم اللذان كانوا قد اختزنوهما فلا يقدرا أن ينقذاهم في يوم الغضب الإلهي. لقد فقدوا كل رجاء لهم وكل قوة وكل تقديس!

غناهم الذي شغلهم عن الاهتمام بالوصايا الإلهية والتهديدات السماوية لا يقدر أن يخلصهم بل يكون سبب هلاكهم، إذ يستخدمونه في عبادة الأوثان: "يلقون فضتهم في الشوارع وذهبهم يكون لنجاسة" [19]. ما هي الفضة إلا كلمة الله المصفاة سبع مرات؟ بدلاً من أن يقتنوها في قلبهم، ويحتفظوا بها في مخازنهم الداخلية يلقونها في الشوارع ويهملونها. أما الذهب وهو يشير إلى السماويات بدلاً من أن ترفع حياتهم إلى الشركة مع الله ليختبروا الحياة السماوية في داخلهم، يتعثرون في السمويات ويزدادون نجاسة!

3. نهاية الحياة الدينية الشكلية:

إن كان الأولون قد تركوا الله بسبب حب العالم لهذا سمح الله بخراب المدينة وكل ما فيها، فإن غيرهم قد انشغلوا عن الله خلال شكليات العبادة لهذا سمح الله بخراب الهيكل المنظور لعلهم يهتمون بالهيكل الداخلي في القلب.

سلَّم الله مدنهم وأرضهم للنهب بأيدٍ غريبة، وها هو يسلم هيكله أيضًا للغرباء.

لقد دنس شعبه مذبحه بعبادة الأصنام فسلم الرب هيكله للجنود الغرباء المحاصرين لنهبه، وإلى أشرار الأرض يسلبونه، لقد حول وجهه عن بيته مادام أولاده حولوه إلى مغارة لصوص، تاركًا الأشرار يفعلون مالا يليق: "أحول وجهي عنهم فينجسون سري ويدخله المعتنفون وينجسونه" [22].

لا يقف تدنيس المذبح عند قبولهم  العبادة الوثنية وإنما يمتد إلى كسرهم الوصية الإلهية وسلوكهم بالظلم، لهذا يحسب الله عبادتهم تدنيسًا لهيكله إذ تخرج من قلب ملطخ بالدماء مملوء ظلمًا. هم دنسوا هيكله لهذا يترك الغرباء يدنسون مقادسهم، ربما يقصد الهيكل نفسه أو بيوتهم كمقدسات. إنه يقول: "أصنع السلسة لأن الأرض امتلأت من أحكام الدم والمدينة امتلأت من الظلم، فآتي بأشر الأمم فيرثون بيوتهم وأبيد كبرياء الأشداء فتتنجس مقادسهم" [23-24]. إنه يسمح بإعداد السلسلة أي القيود لأسرهم فقد ربطوا أنفسهم بسلاسل خطاياهم، لذا يُسلمون إلى أيدي الأعداء مُقيدين بسلاسل ظاهرة معدنية. وربما أعد سلسلة عدله الإلهي لمعاقبتهم!

بجانب عبادتهم للأصنام وكسرهم للوصية يلجأون إلى خداع أنفسهم بنبوات كاذبة. فعوض التوبة يطلبون من الأنبياء والكهنة سلامًا كاذبًا وخداعًا، لهذا ظهر أنبياء كذبة يتنبأون ليس حسب أمر الله إنما حسبما يُرضي أهواء الناس، وبادت الشريعة عن الكاهن، والمشورة عن الشيوخ... هؤلاء يقولون "سلام سلام ولا سلام" (إر 8: 11).

ليحذر كل مؤمن ولتحذر كل أسرة وأيضًا كل كنيسة، فإنه إن دخل حرام يحل الخراب ويسقط الكل تحت غضب الله! ويُقال "في وسطك حرام يا إسرائيل" (يش 7: 13).

4. نهاية الملك الزمني:

"الملك ينوح والرئيس يلبس حيرة وأيدي شعب الأرض ترجف" [27]. هكذا يعتمد الإنسان أحيانًا على السلطان الزمني ظانًا إنه لن تمسه تأديبات الرب، لهذا يكسر الرب هذا السلطان الزمني فينوح الملك... وهنا يشير إلى يهوياكين (27: 12) والملوك السابقين (43: 7، 9) كما إلى الملوك الذين سيحكمون في المستقبل (37: 22، 24) لكنه لا يقصد صدقيا الملك (12: 12؛ 21: 25). أما الرئيس Prince فيقصد به رئيس الجماعة الجديدة أو يقصد به الطبقة الحاكمة في ذلك الحين. أما شعب الأرض فقبل السبي كان يشير إلى غير العبرانيين (عزرا 4: 4، نح 10: 31) أما هنا فيقصد به الشعب اليهودي.

 


 

من وحي حزقيال 7

إلى متي تنتظرين يا نفسي؟!

v   صوتك يا إلهي لم يتوقف قط!

إنه يحذرني: النهاية على الأبواب!

أنت مهندس العالم كله تعرف أسراره،

تؤكد لي: السماء والأرض تزولان،

وأنا لغباوتي أتراخى وأتهان!

v   إلى متى تنتظرين يا نفسي؟!

أتهربين إلى الجبال؟! ها هي تتزعزع!

أتتكلين على أصدقائك؟!

هوذا كل الأيادي ترتخي،

وكل الركب تصير كالماء!

أتثقين في ذهبك وفضتك؟

إنهما لا يخلصانك!

أتعتمدين على شكليات العبادة وحرفيتها!

إلهك يطلب القلب والأعماق!

أتتكئين على السلطة؟!

هوذا الكل يزول!

إلى متى تنتظرين يا نفسي؟!

<<

 


 

الأصحاح الثامن

حالة الهيكل

إذ تحدث مع جبال إسرائيل معلنًا خراب الهيكل وتدمير المدن وسقوط الشعب تحت السيف أو المجاعة أو التشتيت، مؤكدًا أن النهاية قد اقتربت، يبدأ بعد مرور حوالي سنة على الرؤى والنبوات السابقة سلسلة جديدة من الرسائل 8-11)، فيها يدعو الله شعبه إلى التوبة قبلما يحل الخراب. في هذا الأصحاح يجد النبي نفسه بالروح في مدينة أورشليم، ويعلن له الرب عن حال الهيكل ليوضح أن كأس الشر قد امتلأت، وليس من إمكانية لتأجيل التأديب، فتحدث عن:

1. تمثال الغيرة                                         [1-4].

2. سقوط الشيوخ في الوثنية                        [5-12].

3. بكاء النساء على تموز                           [13-15].

4. عبادة الشمس في الدار الخارجية               [16-18].

1. تمثال الغيرة:

بعد 14 شهرًا من دعوته (1: 12) حمله الروح في رؤيا ليكتشف بنفسه ما بلغ إليه حال الهيكل. كان جالسًا في بيته على ضفاف نهر خابور واجتمع به شيوخ يهوذا وكانوا جالسين معه، ربما في الفترة ما بعد نومه على جنبه الشمال 390 يومًا يتنبأ عن خطايا إسرائيل وقبل البدء في النوم على جنبه اليمين أربعين يومًا ليتنبأ عن إثم يهوذا. يقول: "إن يد السيد الرب وقعت عليَّ، فنظرت وإذا شبه كمنظر نار[95] من منظر حقويه إلى تحت نار، ومن حقويه إلى فوق كمنظر لمعان كشبه النحاس اللامع" [1-2]. لقد أُعلن له منظر "كلمة الله المتجسد" الذي هو "شبه منظر إنسان"، رآه نارًا من حقوية إلى أسفل، ومملوءًا بهاءًا من حقوية إلى أعلى. وكان الرب وهو يحمل النبي إلى الهيكل ليكشف له ما بلغ إليه العابدون - على كل مستوياتهم - من نجاسات، خشى أن ينهار النبي أو ييأس، لهذا قدم له هذه الرؤيا حتى تطمئن نفس حزقيال أن كلمة الله المتجسد لابد أن يعمل، فهو النار الآكلة الذي يحرق كل نجاسة وشر، وهو المملوء مجدًا وبهاءًا، يدخل بشعبه إلى أمجاده الأبدية. إن كان الهيكل قد تدنس، لكن رب الهيكل قادم يعطى تطهيرًا واستنارة داخلية للمؤمنين.

يقول حزقيال النبي: "ومد شبه يد، وأخذني بناصية رأسي، ورفعني روح بين الأرض والسماء، وأتى بي في رؤى الله إلى أورشليم إلى مدخل الباب الداخلي (الهيكل) المتجه نحو الشمال حيث مجلس تمثال الغيرة المهيج الغيرة" [3].

رفعه الروح بين الأرض والسماء، فهو ليس على الأرض إذ لا يستطيع وهو جالس مع شيوخ يهوذا في السبي أن يرى ما يحدث داخل الهيكل، ولا يستطيع وهو في حدود الجسد (الأرض) أن يرى سرائر العابدين ونياتهم الداخلية. لقد أطلقته يد الرب فوق الحدود الجسدية (الأرضية). وهو في نفس الوقت ليس في السماء إذ لم يدخل إلى كمال مجدها. ولعله أراد بقوله هذا أن يقول ما عبَّر عنه الرسول بولس عن نفسه: "أعرف إنسانًا في المسيح... أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم. الله يعلم. اختطف هذا إلى السماء الثالثة"... (2 كو 12: 2).

لقد دخل به الروح إلى مدخل الهيكل ليرى "مجلس تمثال الغيرة المهيج الغيرة". ربما قصد بالمجلس التجويف الذي على شكل قبو، كان يُعمل في بيوت الشرقيين ومعابدهم لتوضع فيه تماثيل الآلهة. أما تمثال الغيرة فربما قصد به تمثال السارية، الإلهة الأم للكنعانيين الذي وضعه منسي (2 مل 21: 7)، وأخرجه يوشيا الملك (2 مل 23: 6)، ويرى البعض أنه تمثال تموز الذي سنتكلم عنه في هذا الأصحاح. ويرى أنه قصد أي تمثال وثنى يثير غيرة الله على مجده، كقوله: "لا تسجدلهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور" (خر 20: 5). ولعله لهذا السبب ظهر لحزقيال مجد الله كتلك الرؤيا التي سبق أن رآها في البقعة، وكأن الله يعلن مجده ليفسد المجد الباطل للعبادة الوثنية.

التمثال هنا رمز إلى غيرة الله، إذ قيل "أنا الرب إلهك، إله غيور" (خر 20: 5). هذه الغيرة الإلهية ليست انفعالاً عاطفيًا كتلك التي للبشر، تحطم قلوبهم، إنما هي غيرة غايتها رجوعنا إلى الله فنقبله عريسًا سماويًا. هذه الغيرة يهبها لأولاده وخدامه فيقولون مع الرسول: "أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجٍل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" ( 2  كو 11: 2).

2. سقوط الشيوخ في الوثنية:

إذ كان النبي يحدق في التمثال تحركت أعماقه وامتلأت مرارة؛ عندئذ سمع صوت عتاب إلهي::يا ابن آدم هل رأيت ما هم عاملون؟ الرجاسات العظيمة التي ببيت إسرائيل عاملها هنا لإبعادي عن مقدسي" [6]. إنه عتاب أبوي عجيب، حيث يرى الأب أولاده يبذلون كل جهدهم لطرد أبيهم القدوس. هو يدخل بهم إلى أرض الموعد ويُعد لهم موضعًا في السمويات، وهم يرفضونه ويطردونه حتى من مقدسه؟!! هذا ما نفعله حين نعلن رفضنا لأبوته بقبول أبوة إبليس، فندخل بأعماله ورجاساته حتى إلى قلوبنا، هيكل الرب المقدس!

ولكي يريه الله رجاسات أخطر قاده إلى باب دار الهيكل.

هناك رأى حزقيال النبي ثقبًا في الحائط، وبأمر إلهي نقب في الحائط فإذا باب وإذ دخل نظر سبعين رجلاً من يهوذا ومعهم يازنيا بن شافان يقدمون بخورًا أمام الدبابات والحيوانات النجسة في وسط الظلام، قائلين: "الرب لا يرانا، الرب قد ترك الأرض" [12]. يتهمون الله أنه ترك الأرض، لذا يلجأون إلى الدبابات والحيوانات النجسة يتعبدون لها، بينما هم في الحقيقة طاردوا الرب من هيكله!

إن شافان غالبًا هو ذاك الرجل الشهير الذي ساعد يوشيا الملك في إصلاحاته منذ حوالي 30 عامًا (2 مل 22: 3-10، إر 26: 24؛ 29: 3؛ 36: 10-12، 39-14)، للأسف أنجب يازنيا الرجل الفاسد الذي يشترك مع السبعين شيخًا في هذا الشر العظيم. هذه هي صورة للإنسان الذي يبدأ حياته بتكريس قلبه لله لكنه يكملها بتكريسها للشر مشتركًا مع الآخرين في فسادهم. أما السبعون رجلاً فيذكّروننا بالسبعين شيخًا الذين يسندون موسى النبي في قيادة الشعب حسب الوصية الإلهية بروح الله، هوذا يستخدم الشيطان القيادات لبعث روح الفساد في حياة شعب الله. ما أخطر أن تنحرف القيادات الروحية عن رسالتها، فعوض الاهتمام بالوصية الإلهية ينحطون إلى الأمور الأرضية فيزحفون كالدبابات، وينشغلون بالشهوات الحيوانية.

لماذا أتحدث عن رجل الإصلاح الذي أنجب فاسدًا وشيوخ إسرائيل الذين انحرفوا، فإن هذا ما يحدث أحيانًا في حياة الإنسان الداخلية حينما ينقب الإنسان - بأمر إلهي -  الحائط المقام في داخله، ويدخل به الروح القدس إلى أعماقه الداخلية فيكتشف وجود يازنيا في داخله، الذي هو "الإرادة"، فعوض أن تكون قد حملت فيها "إرادة المسيح" المقدسة الحية والعاملة لحساب الملكوت إذا بها قد صارت إرادة شريرة تنحط إلى عبادة الأرضيات والعبودية لشهوات الجسد. أما السبعون شيخًا فهي الطاقات الداخلية التي كان يلزم أن ترفع الإنسان إلى السمويات فإذا بها تنزل به إلى مالا يليق.

أما سر الانحطاط فهو قولهم "الرب لا يرانا، الرب قد ترك الأرض" الشعور بالعزلة عن الله... إنه لا يرانا! وإلقاء اللوم عليه "قد ترك الأرض". وعلى العكس سر القوة في حياة المؤمنين هو إدراك معيّة الله الذي يرانا ولا يتركنا، حتى في لحظات شرنا. إنه لا يفارق أرضنا لأنه يريد تجديدها المستمر حتى تصير مقدسًا له.

3. بكاء النساء على تموز:

هل كانت النسوة يبكين على تمثال تموز لأن يوشيا الملك أخرجه أم يشتركن مع الأمميات في البكاء عليه كنوع من العبادة؟! غالبًا ما يقصد بتموز الإله Summerian Dumuzi  الذي يزعمون أنه سقط ميتًا بعد صراعه مع ثور هائل، أو كما قال آخرون: مع تنين عظيم. وأن أخته الإلهة Inanna Ishtar نزلت إلى العالم السفلي لكي ترد أخاها إلى الحياة، ويرى البعض أن تموز البابلي هو بعينه الإله السرياني أدونيس Adonais الذي كان مركزه في جيبال Gebal أوBablos  على بعد 21 ميلاً شمال بيروت. إذ يحتفل الكلدانيون بموته يعلنون الحزن عليه، فتقدم الذبائح البشرية وتمارس العلاقات الجنسية كجزء من العبادة، وكانت النساء اليهوديات يشتركن مع المتعبدات في البكاء عليه، يليه الاحتفال بعودة الحياة إليه. وقد أُشير للإله تموز في دانيال (11: 37) وزكريا (12: 1).

إنها صدمة عظيمة لمشاعر النبي إذ يرى النساء يبكين محنة إله وثني داخل باب بيت الرب عوض البكاء على خطاياهن!

إن كان الشيوخ قد سقطوا في التبخير للدبابات والحيوانات فإن النساء سقطن في الاشتراك في عبادة تموز. الشيوخ يرمزون لسقوط النفس البشرية وانحرافها نحو الماديات والشهوات الجسدية، أما النساء فيرمزن للجسد الذي يخور بسبب الشر.

4. عبادة الشمس:

أما ما هو أخطر من سقوط الشيوخ والنساء فهو سقوط الكهنة أنفسهم. فقد رأى حزقيال النبي خمسة وعشرين رجلاً يقفون بين الرواق والهيكل يعطون ظهورهم للهيكل ويتجهون نحو الشمس يتعبدون لها. لعل هؤلاء الرجال هم رئيس الكهنة والأربعة وعشرون كاهنًا رؤساء الأربعة وعشرون فرقة كهنوتية يهودية. لم يقف الضعف عند الشعب من رجال ونساء وإنما أمتد إلى الكهنة، الذين كان ينبغي أن يكونوا شُفعاء عن الشعب لدى الله، أعطوا ظهورهم له فصاروا حاجزًا وعائقًا عن معرفة الله والالتقاء معه. لقد انحرفت القيادة الروحية على أعلى مستوى!!!

هذا إذن ما أثار غضب الله على اليهود: أقاموا تمثال الغيرة عوض العبادة لله الحي، وانحرف الشعب مع الكهنة على أعلى مستوياتهم، وفسدت الروح مع الجسد، لهذا يقول: "قد ملأوا الأرض ظلمًا". وعوض التوبة "يعودون لإغاظتي وها هم يقربون الغصن إلى أنفهم". أما اقتراب الغصن إلى الأنف فيرى البعض أنه جزء من بعض العبادات الشرقية حيث كان الكهنة يمسكون الأغصان في أيديهم أمام وجوههم بالقرب من أنفهم، ويرى آخرون أنه مثل دارج كان يشير إلى إغاظة الآخرين.


 

من وحي حزقيال 8

قدس هيكلك فيّ !

v   أتطلع إلى ما صنعه شعبك قديمًا فأرتعب.

ظنوا أنك لا تراهم ولا تهتم بهم ولا بالأرض كلها،

فالتجأوا إلى الدبابات والحيوانات يتعبدون لها!

يا لحقارة فكرنا!

يا لجحودنا!

v  تركك الشيوخ وتعبدوا للحيوانات!

النساء بكين على الإله تموز في هيكلك،

عوض البكاء على أنفسهن!

أعطاك الكهنة القفا لا الوجه،

وصاروا يعبدون الشمس، ولم يدركوا أنك خالقها!

عوض الصلاة عن الشعب صاروا سبب لعنة!

v  إني مرّ النفس!

من هم الشيوخ إلا عقلي وأعماقي... لقد تدنست بالكامل!

من هن النساء إلا عواطف جسدي وأحاسيسها التي تنجست!

من هم الكهنة إلا روح القيادة التي انحرفت في داخلي

قدس هيكلك في أيها القدوس!

قدس عقلي وفكري وعواطفي وأحاسيسي!

قدس مواهبك لي يا مخلصي!

قدسني إلى التمام فأني هيكلك!

<<

 


 

الأصحاح التاسع

جماعة المختومين

حقًا أن "إثم إسرائيل ويهوذا عظيم جدًا جدًا، وقد امتلأت الأرض دماء وامتلأت جَنفًا" [9]، ولكن وُجد أناس بالرغم من قلة عددهم كانوا يئنون في حزن شديد على ما وصلت إليه أورشليم، هؤلاء يختمهم الرب بسمة خاصة ليحفظهم تحت اسمه معتزًا بهم. هذا هو موضوع هذه الرؤيا التي قدمها الله لحزقيال النبي ربما ليكشف له ما سبق أن أعلنه لإيليا عندما صغرت نفسه جدًا، قائلاً: "أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل" (رو 11: 4، 1 مل 19: 18).

1. الرجل الستة             [1-2].

2. لبس الكتان              [3].

3. السمة                   [4].

4. حاملوا السمة           [4].

5. حركة التأديب            [5-10].

6. ظهور السيد متمنطقًا    [11].

1. الرجال الستة:

جاء هؤلاء الرجال "مقبلين من طريق الباب الأعلى الذي من جهة الشمال، وكل واحد عُدَّته الساحقة بيده" [2] لعل مجيئهم من جهة الشمال إشارة إلى الهجوم الكلداني من جهة بابل. وربما لأن مجلس تمثال الغيرة كان في مدخل الدار الداخلية المتجه نحو الشمال (8: 3) وكأنه حيث يوجد الشر من هناك ينطلق التأديب الإلهي. أما كون عددهم سته فربما لأن أبواب أورشليم في ذلك الحين كانت ستة، وكأنه سيتم الهجوم من كل الأبواب ولا يوجد مجال للهرب كما كان قادة جيش الكلدانين أيضًا ستة (إر 39: 3). على أية الأحوال رقم 6 غالبًا ما يشير إلى النقص لذلك فان رقم اسم الوحش 666[96]، أي تأكيد نقصه ثلاث مرات. إذن هؤلاء الرجال إنما يقدمون للأشرار ثمن شرهم الذي هو الثمر الطبيعي له.

2. لابس الكتان:

وسط هؤلاء المؤدبين من يلبس ثيابًا كهنوتية: "رجل لابس الكتان وعلى جانبه دواة كاتب" [2].

قديمًا قليلون هم الذين كانوا يعرفون الكتابة، فكان الكاتب غالبًا ما يلازم الأشخاص المهمين الذين يقومون بإرسالية معينة كأمين سر لهم. كانت الدواة عبارة عن قرن حيوان مملوء حبرًا يتكون من سُخام المصابيح (السَّناج) ممتزجًا بصمغ وماء، وكان الكاتب يضع الدواة بالحبرعلى جنبه. أما القلم المستخدم فهو من الخشب أو العظام. كان الكاتب دائما مستعدًا للكتابة[97]. أنه بلاشك يمثل السيد المسيح الذي جاء لخلاصنا، هذا الذي أفاض من جنبه المطعون دمًا وماءً لتسجيل أسمائنا في سفر الحياة.

حين صار حزقيال "آية لإسرائيل" قدمت له آثامهم شللا فصار نائمًا على جنبه بلا حركة، أما السيد المسيح فإذ أحنى رأسه ليحمل آثامنا ويدينها في جسده لم يكن ممكنًا للموت أن يمسك به ولا للخطيئة أن تتعلق به، فأفلض لنا من جنبه سر الحياة وخلاصًا أبديًا! لقد انفتح جنبه لكي ندخل إلى أحشاء محبته اللانهائية، فيرفعنا إلى حضن أبيه، مصالحًا إيانا معه بدمه الكريم. وكما يقول الرسول: "فإذ لنا أيها الاخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي" (عب 10: 19-22).

دخل الرجال الستة "ووقفوا جانب مذبح النحاس" [2]، الذي يرمز إلى صليب ربنا يسوع المسيح الحامل الذبيحة، وفي ضوئها يُدان غير التائبين. خلال الذبيحة يتمتع التائبون بالمراحم اللانهائية، ويسقط الأشرار تحت دينونة أبدية.

"ومجد إله إسرائيل صعد عن الكروب الذي كان عليه إلى عتبة البيت" [3]. لقد تحول عرش النعمة إلى عرش قضاء، لقد ديست النعمة الإلهية وأسئ إلى قداسة الله.

3. السمة:

"وقال له الرب: اعبر في وسط المدينة

في وسط أورشليم وسم سمة على جباه

الرجال الذين يئنون ويتنهدون على

الرجسات المصنوعة في وسطها" [4]. 

كلمة "سمة" هنا Taw أي ختم ارتبطت باسم الله، فإن السيد المسيح إذ قدم دمه كفارة عن خطايانا دخل بنا إلى ملكية الله، فصرنا حاملين اسمه على جباهنا كسر تقديسنا، كما كان رئيس الكهنة في القديم يضع صفحية ذهبية على جبهته مكتوب عليها: "قدس للرب"، بدونها لا يقدر أن يتمتع بالمقدسات الإلهية (خر 28: 36-38). بهذا ندخل إلى الحضن الأبوي، فنصير محفوظين من الهلاك. هذا هو عمل الروح القدس الذي نختم به في سر الميرون، فتصير كل أعضائنا في ملكية الرب، وتحفظ نفوسنا في حمايته الإلهية[98].

كلمة "سمة" أو Taw جذبت أنظار الكثيرين بكونها تحمل الحرف اليوناني Taw الذي يحمل شكل الصليب، فيشير العلامة أوريجانوس إلى هذا الأصحاح متحدثًا عن السمة أنها علامة الصليب[99]. ويتحدث العلامة ترتليان عنها بكونها علامة آلام السيد المسيح كسر للخلاص من الهلاك[100]، كما قال: [الحرف اليوناني Tou أو حرفنا (اللاتيني) T هو نفس شكل الصليب الذي تنبأ عنه كعلامة أورشليم الجامعة الحقيقية[101]]. هذه هي العلامة التي تحفظ المؤمن، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أنت أحد المؤمنين، ارسم علامة الصليب. قل: هذا هو سلاحي الوحيد، هذا هو دوائي، لا أعرف شيئًا سواه[102]]. كما يقول: [ليعلق الصليب فوق أَسرّتنا عوض السيف، ولننقشه على أبوابنا بدل المزلاج. وليكن حول بيوتنا موضع السور[103]].

يقول القديس جيروم: ["يقول حزقيال: سِمْ سمة Thaw على جباه الذين يئنون ولا تقتل أيا مما لهم السمة؛ ليس أحد له علامة الصليب على جبهته يمكن للشيطان أن يضربه، فإنه لا يقدر أن يمحيها، إنما الخطية وحدها تقدر[104]].

4. حاملوا السمة:

يقول عنهم: "الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجاسات المصنوعة في وسطها" [4]. لم يقل لم يسقطوا في الخطأ لكنه يؤكد كراهيتهم له وأنينهم المستمر على الرجاسات. يرى القديس أغسطينوس أنهم يمثلون صورة حية للمجاهدين الذين يعيشون وسط الرجاسات، يتعرضون لها لكنهم يطلبون الخلاص منها بتنهدات غير منقطعة. [إنهم يتنهدون ويتأوهون لذلك ختموا جباههم، ختموا على جبهة إنسانهم الداخلي لا الخارجي، إذ توجد جبهة للضمير كما توجد للوجه... هؤلاء اتسموا بالعلامة لكي لا يهلكوا، لأنهم وإن كانوا غير قادرين على تصحيح الخطايا التي ترتكب في وسطهم لكنهم يحزنون. هذا الحزن في ذاته يجعلهم في عيني الله مفصولين (عن الأشرار) حتى وإن كانوا في عيني الناس مختلطين بالآخرين. إنهم يحملون العلامة بطريقة سرية وليس علنًا[105]].

على أية الاحوال سفر حزفيال الذي يركز في أغلب أصحاحاته الأولى على التأديب والعقوبة، كثيرًا ما يتحدث عن البقية المحفوظة لله. إنها قصة كل جيل وموضوع رعاية الله، فلم ينس الله لوطًا وعائلته حين تعاظمت خطية سدوم وعمورة جدًا وأمطر عليها كبريتًا ونارًا من السماء (تك 19)، ولا نسى نوحًا وعائلته حينما أغرق الأرض بالطوفان (تك 6، 7)، وحينما رفضته أورشليم مدينة الملك العظيم وجد في بيت عنيا راحته في فترة البصخة...

5. حركة التأديب:

يقول: "ابتدئوا من مقدسي، فابتدأوا بالرجال

الشيوخ الذين أمام البيت وقال لهم: نجسوا

البيت واملأوا الدور قتلى اخرجوا فخرجوا

وقتلوا في المدينة" [6-7].

صدر الأمر الإلهي بالتأديب، على أن يبدأ بالشيووخ العاملين في بيت الرب وكما يقول العلامة أوريجانوس: [تبدأ الدينونة مع بيت الله[106]]. وعندما حاسب الرب أصحاب الوزنات بدأ أولاً بصاحب العشرة وزنات وانتهى بصاحب الوزنة الواحدة. هكذا يهتم الله بتقديس الذين يعملون في كرمه لكي يقدروا أن يكونوا مثلاً حيًا لشعبه، فإن أساء هؤلاء التصرف سقطوا في التأديب قبل غيرهم. حقًا ما أحوج أن تهتم الكنيسة بتقديس كهنتها وكل العاملين في بيت الرب قبل الشعب حتى لا يسقطوا في الفِرّيسيّة أو الناموسية. لقد نجسوا البيت الإلهي بالعبادة الوثنية، وها هو الرب يتركه مُدنسًا بجثث القتلى فيه، هؤلاء الذين تمردوا عليه.

6. ظهور السيد متمنطقًا:

جاء في الترجمة السبعينية (9: 11) أن اللابس الكتان كان متمنطقًا. ويعلن القديس يوحنا الذهبي الفم[107] على ذلك بقوله: [إن التمنطق يشير إلى اليقظة المستمرة، لهذا أمر الله أيوب أن يتمنطق (أي 38: 3)، وموسى والأنبياء والرب نفسه يظهر متمنطقًا].

لقد خرّ النبي على وجهه [8] حين رأى حثث الكهنة والشعب، وصرخ من أعماقه إلى الله ألا يهلك البقية الباقية عندما يصب غضبه على أورشليم، فأجابه الرب أنه متمنطق بالبر... إن كان قد سمح بالتأديب القاسي لكنه لا يتجاهل القلة المقدسة، فقد سبق فقال: "لا تقربوا من إنسان عليه السمة" [6]... أن صرخات النبي لن تضيع، بل يسمع الصوت الإلهي: "قد فعلُت كما أمرتني"[11].

 


 

من وحي حزقيال 9

ما أعظم ختم الروح!

v   ما أعظم ختم روحك القدوس عليّ!

ختمتني بالسمة في سرّ الميرون،

فحسبتي في ملكيتك!

صليبك على جبهتي علامة الجندية الروحية،

وعليها السمة: "قدس للرب!"

صرت بك مخوفًا،

لا يقدر العدو أن يُحطمني مادمت معك!

v   إني أخاف لئلا تدينني ثيابي السوادء،

أخشى لئلا أتهاون، متسترًا في ثياب الخدمة!

أحرسني، فإني في خطر!

v   عجيب أنت أيها القدوس،

في التأديب تبدأ بكهنتك،

أنت حازم مع تلاميذك لأجل بنيانهم،

لكنك رئيس الكهنة العامل فيهم!

أنت حلو وعذب حتى في تأديباتك

جراحات تأديباتك أعذب من قبلات العدو!

لتؤدبني شمالك ولتخضني يمينك يا عريس نفسي!

<<

 

 


 

الأصحاح العاشر

المجد الإلهي يفارق الهيكل

تعتبر الرؤيا الواردة هنا تكملة لما ورد في الأصحاح السابق حيث يرى النبي الرجل اللابس الكتان وعلى جنبه دواة حبر، غير أن الموقع قد تغير، فعوض الهيكل المقدس الأرضي حيث المذبح النحاسي وعرش الرحمة (تابوت العهد)، نرى السموات عينها والعرش الإلهي.  

1. حرق المدينة                            [1-17].

2. مفارقة المجد الإلهي بيت الرب     [18-22].

1. حرق المدينة:

قبل أن يعلن الرب مفارقته بيته تمامًا أعلن لنبيه الرؤيا التي سبق أن أظهرها له عند نهر خابور، أي مركبته الإلهية النارية، كما سبق أن دعاها "شبه مجد الرب"، وقد سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل في الأصحاح الأول غير أن المخلوقات الحية يدعوها هنا "كاروبيم".

والجديد في هذه الرؤيا أنه رأي الرجل اللابس الكتان الذي على جانبه دواة الكاتب، الذي يسم المتنهدين على رجاسات أورشليم (أصحاح 9) يدخل بين البكرتين تحت الكروب، ويأمر كاروبًا أن يملأ حفنتيه جمر نار من بين الكروبيم ويذريها على المدينة ليحرقها.

قلنا إن الرجل اللابس الكتان إنما هو "كلمة الله المتجسد" الذي جاء كاهنًا، يلبس الملابس الكهنوتية ليقدم ذبيحة حبه لخلاص البشرية. أما دخوله بين البكرتين فإعلان أنه هو محور العهدين، فالعهد القديم أو الناموس غايته المسيح، والعهد الجديد أو الإنجيل إنما هو إعلان سر يسوع المسيح... أما نزوله تحت الكروبيم فإعلان عن سر تجسده كقول الرسول بولس: "وضعته قليلاً عن الملائكة" (عب 2: 7).

ربما يتساءل البعض: إن كان السيد قد جاء لخلاصنا، فلماذا يأمر كاروبًا أن يأخذنا نارًا ويلقيها على المدينة؟

أ. في هذا إعلان عن نار الذبيحة السرية، فإن كان السيد قد تقدم ككاهن، لكنه في نفس الوقت تقدم كذبيحة يحمل أجرة خطايانا - هذا الذي لا يعرف خطية - قبل أن يحمل نارها المدمرة للمدينة، لكنها تعجز عن أن تدمره!! لهذا ففي أسبوع البصخة المقدسة تركز الكنيسة على نبوات العهد القديم التي تُظهر بشاعة الخطيئة وآثارها المدمرة، لكي تكشف عن محبة المسيح الحامل خطايا العالم. وبقدر ما يعلن الروح القدس للنفس البشرية ثمر الخطيئة القاتل بقدر ما تتعلق بذاك الذي حمل عنها هذا الثمر.

ب. لعل هذه النار أيضًا ترمز للروح القدس الناري الذي أرسله لنا السيد المسيح من عند الآب ليحرق فساد الخطيئة، هادمًا فينا المدينة القديمة، أو الإنسان العتيق، مقيمًا مدينة جديدة أو هيكلاً جديدًا داخليًا يسكنه الرب.

ج. كان هذا العمل إعلانًا عن حرق البابليين للمدينة (2 مل 25: 9) على يد نبوزردان رئيس الشرطة وعبد نبوخذنصَّر ملك بابل.. فإذ تركت المدينة المقدسة قداسة الحياة استحقت الإبادة بيدّىْ الأعداء الأمميين.

ويلاحظ أنه عندما دخل السيد بين الكروبيم ملأت السحابة الدار الخارجية وكأنه بدخول الابن إلى التجسد أعلن مجده فينا نحن الذين كنا في الخارج. إنه يقول: "وسمع صوت أجنحة الكاروبيم إلى الدار الخارجية كصوت الله القدير الذي تكلم" [5]، وكأننا نحن الذين كنا في الخارج بلغ إلينا صوت الله القدير بمجيء الكلمة إلينا.

"لم تدر عند سيرها؛ بل إلى الموضع الذي توجّه إليه الرأس ذهبت وراءه" [11]. هكذا تسير عجلة مركبة الله وراء الرأس، أي بخطة إلهية، لن يستطيع الإنسان، بل ولا خليقة ما أن تتحدى الله. إنه في عرشه الإلهي يهب نعمة ورحمة لطالبيه ويصدر الحكم والدينونة على مقاوميه. من يقدر أن يتحدى الله؟!

مركبته مملوءة عيونًا حواليها [12]، لا تسير اعتباطًا، إنما دينونته عدل وحق، إنه الناظر إلى القلوب والفاحص الكلى... وليس شيء مخفيًا عنه!

2. مفارقة المجد الإلهي بيت الرب:

"وخرج مجد الرب على عتبة البيت ووقف على الكروبيم، فرفعت الكروبيم أجنحتها وصعدت عن الأرض قدام عينَّي" [18]. لقد أكد النبي أنه رأي مجد الرب يفارق بيته، حيث انطلق بمركبته النارية بعيدًا عن الشعب الرافض للمجد الإلهي. لم يكن ممكنًا للرب أن يستقر حيث يصمم الإنسان على الشر "لأنه أية خلطة للبر مع الإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!" (2 كو 6: 14-15).

كان لابد أن يفارق الرب هيكله القديم الذي أصر على الجحود ليقيم فينا هيكلاً جديدًا هو من صنع روحه القدوس. يتحدث العلامة أوريجانوس عنه، قائلاً: [ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تقدم ذبائح الصلاة ومحرقات الرحمة، فتذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات... لتعرف النفس كيف تقيم داخلها قدس أقداس قلبها منارة تُضئ بغير انقطاع[108]].

رأي النبي مجد الشكينة ينطلق خارجًا على عتبة البيت ويرتفع إلى السموات، لكنه رأي كأن المجد قد وقف إلى حين من فوق مدخل الباب الشرقي، وكأنه ينتظر آخر فرصة حتى بعد مغادرته الموضع لعلهم يتوبون فيرجع. إنه يفارق بيته ليصعد إلى السماء دون أن تصيبه خسارة، لكنه يطلب نفع البشرية وخلاصها ومجدها! لقد عبر الرسول بولس عن ذلك بقوله: "لا تحزنوا الروح!".

يا للعجب بينما يبذل الشرير كل الجهد ليفارق الله حياته لا يريد الله أن يفارق مجده قلب الإنسان، معطيًا فرصًا لا حصر لها لكي يعمل فيه!

 


 

من وحي حزقيال 10

ليته لا يفارقني مجدك!

v     لست محتاجًا إلى قلبي الصغير،

فالسماء والأرض مملوءتان من مجدك!

أنا محتاج ألا يفارقني مجدك،

يا من يمجدك كل السمائيين!

v     أعترف لك بدموعي وتنهدات قلبي!

إنني بخطاياي وآثامي أطرد مجدك من داخلي،

أحزن روحك القدوس الساكن فيّ!

أما أنت فلا تريد إن يفارق مجدك قلبي!

v     لست محتاجًا أن تعلن مجدك في داخلي،

لكن حبك العجيب يشتهي إعلانه فيّ!

لتتمجد في داخلي،

فأتأهل إلى شركة مجدك الأبدي!

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الحادي عشر

مفارقة مجد الرب المدينة

تبلغ الرؤيا نهايتها، ففي الأصحاح السابق تحدث النبي عن مفارقة مجد الرب الهيكل ليس بلا سبب، إنما أوضح ما وصل إليه الهيكل من رجاسات (ص 8)، وبعد أن ختم عبيده بسمة مقدسة لكي لا يقترب الهلاك إليهم (ص 9)، والآن يعلن مفارقته للمدينة كلها، أيضًا ليس بدون سبب وإنما يعلن ما بلغ إليه قادة يهوذا والمشيرون من شر.

1. مثل اللحم والقر                   [1-12].

2. فساد المشورة الرديئة             [13-21].

3. مفارقة مجد الرب المدينة         [22-25].

1. مثل اللحم والقدر:

قبل أن يعلن النبي عن مفارقة الرب للمدينة كلها أشار إلى الخمسة والعشرين من رؤساء الشعب الذين يقدمون مشورة رديئة تناقض ما أعلنه إرميا النبي. هؤلاء أكدوا أن المدينة في أمان، فأشاروا بالثورة ضد نبوخذنصَّر مستعينين بفرعون مصر (إر 28: 16) وأن ينقضوا القسم الذي تعهد به الملك مع الكلدانيين (2 مل 26: 13). دللوا على مشورتهم بقولهم "ما هو قريبُ بناء البيوت هي القدر ونحن اللحم" [3]، وهي عبارة غامضة لكنها تظهر في الترجمة السبعينية بأن المدينة في أمان بدليل استقرار الحال وبناء بيوت منذ وقت قريب. وكأنهم يخطّئون مشورة إرميا النبي الذي أعلن عن ضرورة قبول التأديب الإلهي من خلال السبي البابلي، فالذين سُبوا في المرحلة الأولى حرموا من أرضهم وهيكلهم أما الباقون في المدينة فإنهم في أمان يقيمون البيوت علامة استقرارهم.

يرى البعض أن حزقيال النبي مثل إرميا قد عرف أن السبي يدوم سبعين عامًا، وانهم سيستقرون هناك ويبنون بيوتًا ويتأهبون للإقامة في أرض غريبة، لكن كثيرين ثاروا على هذا الأمر، إذ ظنوا أن الله لابد أن يتدخل ويردهم سريعًا إلى وطنهم. وقد قام أنبياء كذبة يشجعونهم في توقعهم هذا. فكما كانوا في أيام ما قبل السبي يطمئنون ضمائر الناس بأن الله لن يسمح بخراب مدينته وهيكله، هاهم بعد السبي يحملون روح الكذب مؤكدين لهم العودة السريعة.

كانوا يرددون القول: "هي القدر ونحن اللحم" [3]. إن كنا لحمًا فأورشليم هي القدر الذي يحفظنا ويحمينا من هجمات الكلدانيين. لكن روح الرب كشف لحزقيال خطأ هذه المشورة معلنًا أن الذين في داخل القدر أي أورشليم ليسوا اللحم بل القتلى الذين سفك دمهم لا بسبب الكلدانيين بل بسبب المشورة الرديئة. فلو أنهم قبلوا مشورة رميا وتفاهموا مع الكلدانيين لما سفك دم هؤلاء، لهذا يؤكد الرب: "هذه لا تكون لكم قدرًا ولا أنتم تكونون اللحم في وسطها" [11]. وكأنه يقول إنها لا تكون مصدر حماية لكم مادمت أنا نفسي ضدكم "في تخم إسرائيل أقضي عليكم"[11]. إن كانت المدينة هي مدينتي فتحتمون فيها، فأنا نفسي ضدكم لأنكم لم تسلكوا في فرائضي ولا تعملون أحكامي، أحكم عليكم في تخم إسرائيل، في داخل المدينة، وليس لكم ملجأ أو حماية! هكذا إن كان الله قد أوضح سر مفارقته بيته ألا وهو انحراف المتعبدين على أعلى مستوى قيادي في العبادة، فإنه يفارق أيضًا المدينة كلها لأن قادتها رفضوا المشورة الإلهية وتركوا الوصية! إن كان الهيكل يشير إلى النفس، والمدينة تشير إلى الجسد الذي يحتضن النفس داخله، فإنه ليس شيء يحطم النفس (الهيكل) مثل العبادة الشكلية، ولا ما يهلك الجسد مثل مشورة الأردياء ورفض المشورة الإلهية.

يلاحظ أنه لكي يفضح النبي المشورة الرديئة أكد أن روح الرب حل عليه [4] هذا الذي يعرف حتى الأفكار الخفية. إن كان هؤلاء الرجال تسلموا العمل القيادي لكن كان ينقصهم روح الرب الذي بحق يقدم المشورة الصالحة، أما حزقيال فيحمل الروح الإلهي الذي يقدر أن يقود. وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [انظروا كيف أن الروح القدس يفرز ويدعو ويرسل بسلطان[109]]، [هو روح حيّ يهب الحكمة في الكلام متحدثًا وواعظًا بنفسه[110]] كما يقول: [يجب أن نفهم الكلمتين "حل عليّ" بطريقة حسنة تعني أنه حلّ عليه بالمحبة، كما وقع يعقوب على عنق يوسف حين وجده، وكما جاء في الأناجيل عن الأب المحب حين رأى ابنه الراجع من ضلاله تحنن عليه وركض ووقع على عنقه وقبله (لو 15: 20)[111]]. هذا هو الروح الإلهي الذي حلّ على النبي ليعطيه روح القيادة والحكمة والمشورة الصالحة وذلك من أجل محبته لله ودعوته للناس كي يتمتعوا بهذا الحب عينه.

2. فساد المشورة الرديئة:

دلل الرب على فساد مشورة الأردياء من جانبين:

أ. إن أحد مقدمي المشورة "فلطيا بن بنايا" مات، الأمر الذي أرعب حزقيال النبي، لأنه كان صاحب المشورة مات فماذا يكون حال بقية الشعب. لهذا خرّ على وجهه وصرخ بصوت عظيم، قائلاً: "آه يا سيد الرب هل تفنى أنتَ بقيّة إسرائيل؟!" [13].

ب. إن كان الذين بقوا في أرض يهوذا لم يحملوا إلى السبي (في مرحلته الأولى) ظنوا أنهم أسعد حالاً من الذين حملوا إليه مثل حزقيال نفسه فهم مخدوعون. إنهم فرحون لأنهم في أرضهم وبجوار الهيكل الذي لم يصبه تدمير. لأن الحال سيتغير ويتم السبي في المرحلة القادمة سريعًا، خلالها تحرق المدينة ويدمر الهيكل ويقتل سكان أورشليم. أما الذين ذهبوا إلى السبي فإن الله لن ينساهم. هم حُرموا من المقدسات الإلهية في مدينة الملك العظيم لكن الملك نفسه يصير مقْدِسًا لهم في غربتهم:

"فإني أكون لهم مقْدِسًا صغيرًا في الأرض التي يأتون إليها" [16].  

يصير الرب مقدسًا لهم، إذا يقدس قلبهم بالتوبة، واعدًا إيام بالخلاص. هنا يعلن الله حبه العجيب لإنسان، فإنه حتى بعد تأديبهم ومفارقة مجد الرب الهيكل والمدينة لا يترك المسبيين، لكنه يعدهم أنه يجمعهم في أرض سبيهم... أنه ينتظر نفسًا واحد في السبي لتكون له هيكلاً ومقدسًا صغيرًا يُسر بها. أنه يؤدب لا لينتقم بل ليُصلح ويجدد!

هنا ينقلهم الله إلى الخلاص المسياني، إذ يقول: "وأعطيهم قلبًا واحدًا (آخر)[112] وأجعل في داخلهم روحًا جديدًا وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم، لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعلوا بها ويكونوا لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا" [19-20].

إنه لا يعدهم برجوعهم من السبي إلى الهيكل في أورشليم ومدينة الملك العظيم بل ما هو أهم إنه يُحطم إنسانهم العتيق مقدمًا لهم الإنسان الجديد، فيصيروا هم أنفسهم هيكل الرب ومدينته المقدسة، وتصير فرائضه وأحكامه قانونهم الطبيعي. هذا ما قدمه لنا السيد المسيح في مياه المعمودية المقدسة حيث يردنا من سبي إبليس وأسر الخطيئة ويجعل منا إنسانًا جديدًا على صورة خالقنا. انه يهدم فينا القلب الحجري ويقيم القلب اللحمي الروحي[113].

ينزع القلب الحجري، أي الفهم الحرفي القاتل للناموس، الذي ينزع عنا كل إحساس، ويهبنا بالروح القدس القلب اللحمي أي الفهم الروحي للوصية التي تهب حياة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية" (2 كو 3: 3)[114]].

3. مفارقة مجد الرب المدينة:

يقع الهيكل في الجانب الشرقي للمدينة، لكن هنا يقف المجد في وسط المدينة، لأنه لا يفارق الهيكل فقط وإنما يفارق كل المدينة، يفارق الشعب كما يفارق الكهنة والعاملين في الهيكل، يفارق الجسد كما فارق الروح!

أما الجبل الشرقي الذي وقف عليه فهو ناحية قدرون أو وادي يهوشفاط، أي جبل الزيتون (2 صم 15: 3؛ تك 14: 4). لقد توقف مجد الرب قليلاً وكأنه يحزن على مفارقته شعبه الذي أصر على رفضه. على هذا الجبل توقف السيد المسيح وسط موكب مستقبليه وتطلع إلى المدينة وهو يبكي، قائلاً: "إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن الآن قد أُخفى عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجر، لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادك" (لو 19: 41-44)، يقف الرب نفسه يبكي على المدينة التي ترفضه فصارت مرفوضة، قتلت أنبياءه فدخل الموت إليها.


 

من وحي حزقيال 11

ليته لا يفارق مجدك مدينتي!

v   قديمًا فارق مجدك الهيكل ثم فارق أورشليم،

وهكذا إذ تتسلل الخطية إلى حياتي،

تفقد نفسي كما جسدي جلالك!

ترفق بي... ليته لا يفارقني مجدك!

v   بعد مفارقة مجدك الهيكل والمدينة،

كنت تنتظر نفسًا واحد ترجع إليك،

وأنت مشتاق إلى تقديس الكل بك!

حبك يملأني رجاءً!

لقد أخطأت، وأحزنت روحك القدوس،

وكان مجدك قد فارق أورشليمي الداخلية،

لكن يبقى وعدك الصادق:

أكون لك مقدسًا!

v   وعدك عجيب:

أجعل في داخلهم روحًا جديدة!

ليعمل روحك فيّ،

وليجدد روحي وكل كياني!

انزع عني القلب الحجر،

وهب لي قلبًا لحميًا مقدسًا!

لقد وعدت أن تقيم من الحجارة أبناء لإبراهيم،

ها أنا بين يديك أقم مني ابنًا مقدسًا!

<<

 


 

الأصحاح الثاني عشر

تأكيد السبي

إذ أعلن الرب مفارقته مجده بيته ومدينته أكد سرعة حدوث السبي، موضحًا ذلك بأعمال رمزية وتشبيهات وأمثلة، ناصحًا الشعب والمسئولين أن يسمعوا للأنبياء الحقيقيين ويرفضوا الأنبياء الكذبة.

1. خروجه من بيته                   [1-6].

2. تغطية وجهه                      [6-16].

3. الأكل بارتعاش                    [17-20].

4. تجاهلهم النبوة الحقيقية            [21-28].

1. خروجه من بيته:

أمام إصرار الشعب على عدم تصديق الأنبياء بمفارقة الرب بيته ومدينته وتخليه عن حماية شعبه بل السماح بسبيهم للتأديب، اضطر النبي- بأمر إلهي- أن يجَّسم رسالته في سلوكه، فصار رمزًا لإسرائيل. يقول له الرب: "لأني جعلتك آيه لبيت إسرائيل" [6]. كما قال النبي: "أنا آية لكم" [11].  ففي النهار قام من موضعه وذهب إلى موضع آخر لعلهم يدركون جلاءهم من بلدهم وأخذهم إلى السبي، لكنه عاد في المساء وسط الظلام ونقب حائط بيته وخرج خلسة، كالخارجين إلى الجلاء، حاملاً أمتعته على كتفيه. وكأنهم إذ رفضوا التصديق بحدوث السبي يتم هذا العمل ليلاً، وهم نيام في وسط الظلمة الداخلية بلا استعداد ويُحمَل ملكهم حملا بغير إرادته.

هكذا صوّر النبي حال الآلاف من المسببين... وكان الشعب ينظر إليه باستغراب.

صار حزقيال آية لشعبه، كل ما في قدرته أن يكشف لهم عن حالهم بخروجه من بيته ليلاً يحمل أمتعته، معلنًا، أن خطاياهم تدفع بهم إلى السبي: يفقدون أرضهم وممتلكاتهم وشعبهم وحريتهم، أي يفقدون حقهم الإنساني. وقد صار مسيحنا آية، إذ قيل: "يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش 7: 14). إنه من عند الآب خرج في ملء الزمان، طأطأ السماوات ونزل إلى أرضنا كما في الليل؛ نزل إلينا نحن الجالسين في الظلمة يحمل خطايانا على كتفه، ليكشف عن سبينا وأسرنا في عبودية إبليس، لكنه لم يقف كحزقيال عند الكشف عن مرارة حالنا، بل وهبنا العتق من العبودية، ردنا إلى بيته السماوي نحمل طبيعة جديدة تتمتع بعربون المجد الأبدي. وكأن النبي قد شخَّص المرض وأوضح خطورته، أما مسيحنا الطيب الحقيقي فقدم حياته المبذولة على الصليب علاجًا وشفاءً!

2. تغطية وجهه:

يُحمل الملك صدقيا (رئيس يهوذا) إلى بابل ليلاً، لكنه لا يراها كما يقول إرميا النبى (إر 32: 5)، إذ فقئوا عينيه في ربلة (2 مل 25: 4-7، إر 52: 8، 11). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم ير بابل مع أنه حمل إليها... لأنه في اليهودية فُقئت عيناه، في الموضع الذي فيه حنث بالقسم هناك نال العقوبة[115]]. لقد خان العهد وحنث بالقسم ولو مع رجل وثنى لهذا نال عقوبة مضاعفة: السبي والعمى. هذا هو ثمر خيانة العهد مع الناس فكم بالحرى مع الله؛ إنها تُفقد النفس حريتها والبصيرة الداخلية نورها، فيخضع الإنسان لعبودية داخلية وعمى داخلي.

3. الأكل بارتعاش:

إذ صار النبي آيه لشعبه قام بعمل رمزي آخر لتأكيد حدوث السبي، فقد أمره الرب هكذا: "يا ابن آدم كل خبزك بارتعاش واشرب ماءك بارتعاد وغم، وقل لشعب الأرض: هكذا قال السيد الرب على سكان أورشليم في أرض إسرائيل يأكلون خبزهم بالغم ويشربون ماءهم بحيرة لكي تخرب أرضها" [18-19]. إنها صورة مرعبة لحياة الإنسان في خطيته تكمل الصورة السابقة: الأولون حملوا إلى السبي قسرًا وفقدوا بصيرتهم الداخلية أما هؤلاء فقد تُركوا في أرضهم لكنهم دخلوا إلى حالة جوع مع غم، وعطش مع حيرة. تفقد الخطيئة الإنسان شبعه الداخلي وارتواءه كما تفقده سلامه، لهذا يقول السيد المسيح "أنا هو خبز الحياة، من يقبل إلى فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا" (يو 6: 35). هو سر شبعنا الداخلي وارتوائنا الروحي.

أكل حزقيال خبزه بارتعاش وشرب ماءه بارتعاد وغم [18]، أما مسيحنا فقدم جسده ودمه المبذولين خبزًا محييًا، ينزع عنا الغم، ويدخل بنا إلى فرحه الأبدي.

4. تجاهل النبوة الحقيقية:

أشاع الأنبياء الكذبة بعض الأمثال على مستوى شعبي لتشكيك الناس في النبوات الحقيقية، منها "قد طالت الأيام وخابت كل رؤيا" [22]. بهذا المثل الشائع حسب الكثيرون رؤى الأنبياء كذبًا ومجرد تهديدات لن تتحقق.

هذا الفكر يسود في كل العصور، إذ يشكك عدو الخير في الكلمة الإلهية... ففي العصر الرسولي تشكك البعض في عودة ربنا يسوع المسيح: "أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة!" (2 بط 3: 4).

وإذ صَعُب على البعض أن يقبلوا هذا المثل بدأ التشكيك بطريقة أخرى هي ليس رفض النبوة تمامًا وإنما الادعاء بأنها ستتحقق بعد زمن طويل غير زمانهم: "هوذا بيت إسرائيل قائلون الرؤيا التي هو رائيها هي إلى أيام كثيرة وهو متنبئ لأزمنة بعيدة" [27].

هذا هو عمل عدو الخير الدائم التشكيك في كلمات الرب أو الادعاء بتأجيلها ليعيش الإنسان خارج دائرة الوصية في استهانة. ولهذا يؤكد الرب دائمًا: "لا يطول بعد شيء من كلامي" [28]، فإن الوقت قريب ويتحقق كل قول الرب لنا، وكما تعلن كلمة الله بصراحة: "كما كانت أيام نوح، كذلك أيضًا مجيء ابن الإنسان" (مت 42: 37).

 


 

من وحي حزقيال 12

اجعلني آية يا سيدي !

v   اجعلني آية يا سيدي!

يا من صرت لأجلى آية:

آية في ميلادك العذراوي العجيب،

وآية في قيامتك من قبر مختوم!

اجعلني آية فأشهد لعجائبك في حياتي الجديدة!

تُظهر من عقمي ثمرًا روحيًا،

تحول مقبرة قلبي الفاسدة إلى مقدسات سماوية!

هب لي حياتك المُقامة فأمتلئ بهجة وتسبيحًا!

v   جعلت حزقيال نبيك آية،

فخرج ليلاً يحمل أمتعته بعد نقب الحائط كما إلى السبي!

وصرت أنت يا سيدي آية،

من عند الآب خرجت،

نزلت إلى أرضنا كما إلى ظلال الموت، تحمل صليبك!

نقبت الحائط الحاجز بيننا وبين الآب فتحررنا من السبي!

هب لي أن أصير آية،

فينطلق قلبي كما من ظلمة الخطية،

أعبر خلال الحاجز المُحطم وباب السماء المفتوح،

حاملاً إياك أمتعتي الوحيدة والثمينة!

عوض الهروب كما إلى السبي يرفعني روحك القدوس إلى حضن الآب!

v   أمرت نبيك حزقيال أن يأكل خبزه بارتعاش،

ويشرب ماءه بارتعاد وغم!

حسبته كما في سجن يأكل خبز الضيق.

أعترف لك يا سيدي أني سجين خطاياي،

تحوَّل خبزي إلى مرارة.

هب لي خبزك السماوي: جسدك ودمك المبذولين،

يعتقاني من أسرى،

ويهباني الحرية والفرح والتهليل.

أثبت فيك وأنت في يا شهوة قلبي.

فأصير بالحق آية عجيبة هي من صنع يديك!

<<

 

 

 

 

الباب الثالث

 

 

 

 

 

 

 

خطايا إسرائيل ويهوذا

 [ص 13- ص 24]

 

 

<<


 

الأصحاح الثالث عشر

مجد الأنبياء الكذبة

بعد أن أكد حزقيال حدوث السبي معلنًا ضرورة تصديق الأنبياء الحقيقيين، بدأ يطالب برفض مشورات الأنبياء الكذبة والنبيات المخادعات.

1. الأنبياء الكذبة           [1-16].

2. النبيات الكاذبات          [17-23].

1. الأنبياء الكذبة:

عرف اليهود نوعين من الأنبياء الكذبة، نوعا يمثل العبادة الوثنية المقاومة لله علنًا كأنبياء السواري الذين قتلهم إيليا النبي (1 مل 18: 40). والنوع الآخر يتنبأون من وحي قلوبهم ومشاعرهم الذاتية ورغباتهم الخاصة تحت اسم الله. غالبًا ما كانوا ينطقون بما يُفرح قلب الملك أو المسئولين وذلك من عندياتهم كنوع من التملق (1 مل 22: 5-28). هذا النوع أخطر من الأول لأنهم مخادعون يتكلمون كمن يحملون الوحي الإلهي بينما هم يحملون وحي ذواتهم الشريرة. هؤلاء إرميا النبي يقاومهم، وأيضًا حزقيال.

لقد دعاهم "حمقى nebiem"، ويلاحظ أن النبي يلعب بالألفاظ  فعرض كلمة nebalim  يقول nebiem ، وذلك كما في الإنجليزية يقال profitless عوض prophets. أما سر غباوتهم أنهم تنبأوا "من تلقاء قلوبهم" [2]، يذهبون "وراء روحهم" [3] لا وراء روح الرب، الذي هو روح الحكمة.

إن كان الله يحذر شعبه من الأنبياء الكذبة، فإنه في نفس الوقت يهتم برجوع هؤلاء الكذبة عن شرهم وكذبهم، كما يقول العلامة أوريجينوس: [لا يوجد أي نوع من الخطايا لم يتحدث عنه الكتاب المقدس ويوضحه لقارئيه.

كلمة الله المُرسلة لشفاء الناس يجب أن تتناول كل أنواع الخطايا، وتُحدث جميع أنواع الناس، حتى لا يُحرم أحد من العلاج النافع أو الدواء المفيد لشفاء جرحه.

توجد كلمات تخص الشعب وأخرى لكبار الكهنة وثالثة للكهنة وغيرها للرعاة والمعلمين. توجد كلمات تمدح المعلمين الصالحين، وكلمات توبخ الأشرار، فتحث البعض على مواصلة الصلاح والأخرى لئلا ينحدروا إلى ما هو أسوأ مما هم عليه.

يلزمنا أن نفسر تعاليم الله عن الأنبياء الكذبة... ونتطلع إلى بعض معلمي الكنائس الذين ليسوا على وفاق في كلامهم أو سلوكهم مع العقيدة التي يعلمون بها. إنهم أنبياء كذبة.

إننا نسعد جدًا عندما نجد الكتاب المقدس يحثنا على الابتعاد عن الرذائل، ونسعد بالأكثر عندما نجد كلمة الله تتناول وتتلامس مع بعض رتب الكنيسة، لأننا نريد الشفاء من جميع الخطايا.

"يا ابن آدم تنبأ على أنبياء إسرائيل" [2]. كان في إسرائيل أنبياء بالاسم لا بالحقيقة. أما اليوم فيوجد أيضًا في إسرائيل الحقيقية، أي الكنيسة، بعض الأنبياء والمعلمين الكذبة، الذين تخصهم كلمة الله بهذه النبوة. إن كانت كلمة الله تخصني، يلزمني أن أغير من حالي، بالابتعاد عن الرذائل، حتى لا أكون ممن يدينهم الكتاب المقدس هنا، بل أصير من معلمي الكنيسة الذين ينشرون كلمة الله بكل أمانة.

"تنبأ على أنبياء إسرائيل الذين يتنبأون،

وقل للذين هم أنبياء من وحيّ قلوبهم" [2-3]...

تشير كلمة الله هنا إلى معلمي الكنائس الذين يتكلمون بما يخالف الحق. الاتفاق مع تعاليم الروح القدس الذي نطق في التلاميذ هو تكلم لا من وحي القلب (الذاتي) بل حسب هذا الروح الذي نطق في بولس الرسول وبطرس الرسول وكل التلاميذ والرسل الآخرين.

أما إذا كنا نقرأ الإنجيل ونطبق مفاهيمنا الخاصة عليه دون أن نفهم مقاصد الله فعلاً، نصير أنبياء كذبة، نتكلم من وحي قلوبنا في الإنجيل.

أما الهراطقة... فإنهم يشرحون خرافاتهم عن الأيونات مستندين على الأناجيل والرسل، مفسرين ذلك من وحيّ قلوبهم لا بحسب الروح القدس. إنهم لا يستطيعون القول:

"لأنه من عرف فكر الرب فيُعَلِّمه؟!

وأما نحن فلنا فكر المسيح".

أو "نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذى من الله

لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (1 كو 2: 12، 16)[116]].

جاءت في الترجمة السبعينية:

"إنهم يجمعون قطعانا ضد بيت إسرائيل

الذين يقولون:

في يوم الرب لا يقوموا،

يرون رؤى باطلة" [5-6].

ويعلق العلامة أوريجاينوس على هذه العبارة، قائلاً: [إنهم يجمعون قطعانًا تنفصل عن كنيسة الله وعن بيت إسرائيل.

إنهم لا يقومون مع السيد المسيح... لأنهم يرون رؤى باطلة... لن يقوموا معه، لأن القائمين الحقيقيين يقولون: "فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة" (رو 6: 4). لأنه كما أخذنا "عربون الروح" (2 كو 1: 22) هكذا أخذنا عربون القيامة، إذ لم يقم أحد منا القيامة الكاملة...

إنهم لم يأخذوا بعد معمودية القيامة لأنهم معلمون وأنبياء كذبة... كل ما يرونه باطلاً؛ فلا يستطيعون أن يروا رؤى الحق... إنما لهم رؤى كاذبة للكتاب المقدس[117]].

"لذلك ها أنا عليكم يقول السيد الرب، وتكون يدي على الأنبياء الذين يرون الباطل والذين يعرفون بالكذب" [8-9]. لقد أرادوا بالحكمة البشرية أن يكسبوا الناس ويخدَّروا ضمائرهم بالنبوة الكاذبة على حساب الحق الإلهي فيخسروا الرب كضد لهم، ويُنزعوا من الشعب نفسه "في مجلس شعبي لا يكونون وفي كتاب إسرائيل لا يكتبون وإلى أرض إسرائيل لا يدخلون، فتعلمون أني أنا السيد الرب. من أجل أنهم أضلوا شعبي قائلين: سلام وليس سلام" [9-10]. أرادوا بتملقهم للشعب أن ينطقوا بكلمات ناعمة أنهم في أمان وسلام، فيُحرمون من الشعب ومن المدينة ومن الأرض!

يقول القديس أمبروسيوس: [تجدون في الإنجيل سلامًا يرفضه المسيح، إذ يقول بنفسه: "سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطى العالم أعطيكم أنا" (يو 14: 27) لأنه يوجد سلام لا يضع حجر عثرة، ويوجد سلام يضع ذلك. أما الذي لا يضع حجر عثرة فهو سلام الحب، والذي يُعثر هو سلام المظاهر (الرياء). لهذا يقول النبي: "سلام سلام وليس سلام" [10].

فلنهرب إذن من سلام الأشرار، لأنهم يتآمرون ضد البريء، ويجتمعون على مضايقة البار (حك 2: 12)، ويقهرون الأرملة ويسحقون اتضاعها[118]].

إنهم ينطقون بالكلمات الناعمة... وكما يقول العلامة أوريجينوس[119]: [إنه عندما تُفتح الأسفار (دا 7: 10) بكلامنا نتبرر وبكلامنا نُدان (مت 12: 37) كقول السيد المسيح. فالمعلمون الكذبة يقدمون آراء فاسدة مهلكة تدينهم ولا تبررهم. وما يتم بالنسبة للكلام هكذا يتحقق بالنسبة للأعمال فإن "خطايا بعض الناس واضحة تتقدم إلى القضاء، وأما البعض فتتبعهم؛ كذلك أيضًا الأعمال الصالحة واضحة والتي هي على خلاف ذلك لا يمكن أن تُخفي" (1 تي 5: 24-25). كذلك بالنسبة للأفكار فإنها تشتكى أو تحتج (رو 2: 15). إذن لنحذر من كلماتنا وأعمالنا وأفكارنا لئلا تديننا كمعلمين كذبة!

يقول القديس جيروم: [الذين جاءوا لحسابهم ولم يُرسلوا هم سراق ولصوص (يو 10: 8)[120]].

صار هؤلاء الأنبياء الكذبة كالثعالب في الأماكن الخربة [4] التي تعرف بالخداع، يخربون المدينة تحت ستار "السلام" بدلاً من أن يبنوها بالمشورة الصالحة. عوض أن يقيموا "جدارًا لبيت إسرائيل للوقوف في الحرب في يوم الرب" [5] أي عوض أن يقيموا أسوارًا قوية لحمايتها، إذا بهم يملّطون الحوائط المنهارة بالطفال [10]، فيصير لها مظهر القوة لكن إلى حين، إذ سرعان ما تسقط الأسوار لأنه عندما تسقط الأمطار ينكشف الحائط الحقيقي، ويزول الطفال وتظهر حجارة الحائط أنها حجارة بَرَد تشققها العواصف وتُحطمها [11]. تزول طبقة الطفال الخادعة التي أقامها الأنبياء الكذبة وينهار السور تماما:

"لذلك هكذا قال السيد الرب: إني أشققه بريح عاصفة في غضبي، ويكون مطر جارف في سخطى، وحجارة برد في غيظي لإفنائه. فأهدم الحائط الذي ملطتموه بالطفال وألصقه بالأرض وينكشف أساسه فيسقط وتفنون أنتم في وسطه فتعلمون أني أنا الرب" [13-14]. هكذا يحل غضب الله على الذين ملطوه، وعلى الطفال الذي وضعوه والحائط نفسه.

ويلاحظ أن حزقيال النبي يلعب بالألفاظ إذ يقول: "فقل للذين يملطونه بالطفال tapel إنه يسقط napel " [11].

هذا الطفال، أي الكلمات اللينة المخادعة: "يرون لها رؤى سلام ولا سلام يقول السيد الرب" [16] وكما جاء في ميخا: "هكذا قال الرب على الأنبياء الذين يضلون شعبي الذين ينهشون بأسنانهم وينادون سلام" (مي 3: 5)، وفي إرميا: "لأنهم من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مولع بالربح ومن النبي إلى الكاهن كل واحد يعمل بالكذب، ويشفون كسر بنت شعبي على عثم قائلين سلام سلام ولا سلام" (إر 6: 13-14).   

ويرى العلامة أوريجينوس أن الثعالب [4] تشير إلى الشياطين[121]، إذ يقول المرتل: "يدخلون في أسافل الأرض، يدفعون إلى يدي السيف، يكونون نصيبًا للثعالب" (مز 63: 10-11). فإن الثعالب مفسدة للكروم (نش 2: 15)... وكأن هؤلاء الأنبياء إذ يخدمون لحساب مملكة إبليس يُحسبون جنوده أو كأنهم أرواح شريرة تفسد كرم الله.

يقول العلامة أوريجينوس: [ننتقل إلى آيه أخرى توبخ هؤلاء الأنبياء والمعلمين الكذبة. وإني أطلب أن أُحفظ من هذا التوبيخ بفضل صلواتكم عني.

ما هو إذن هذا التوبيخ؟

"أنبياؤك يا إسرائيل صاروا كالثعالب في الخرب" [4]. الثعلب حيوان غير نافع، خبيث، متوحش ومفترس. يقول المخلص: "قولوا لهذا الثعلب: ها أنا أُشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل" (لو 13: 32).

احتاج شمشون إلى هذه الثعالب ضد الغرباء، إذ أمسك 300 ثعلبًا وربط أذيالهم، وجعلها مشاعل، ثم أطلقها لإحراق زرع الأعداء (قض 10: 24). هذه هي نوعية المعلمين الكذبة، إذ هم خبثاء وأشرار، يشبهون هذه الحيوانات.

إن كنت أنا هكذا فلا أكون فقط ثعلبًا وإنما أكون ثعلبًا في خرب.

هؤلاء المنافقون الخبثاء التافهون يسكنون القفار والخرب، ودائمًا هم في أماكن منعزلة (عن الله). إذا سكن الله في النفس، وامتلأت من الروح القدس، فلا يمكن أن تدخل إليها عقائد الهراطقة. أما إذا غاب عنها السيد المسيح ففي هذه الأماكن تنتشر سموم التعاليم الخاطئة الشريرة[122]].

2. النبيَّات الكاذبات:

ذكر الكتاب المقدس نبيات أعطيت لهن مواهب مقدسة مثل مريم النبيه أخت هرون التي خرجت تضرب بالدف وسط النساء ترنم تسبحة النصرة بعد عبور البحر الأحمر (خر 15: 20)، ودبورة القاضية (قض 4: 3-4)، وزوجة إشعياء (إش 8: 3)، وخلدة النبية (2 مل 22: 14) وحنة بنت فنوئيل (لو 2: 36) وأربع بنات فيلبس المبشر (أع 21: 9). أما هنا فيتحدث حزقيال النبي عن النبيات الكاذبات اللواتي حولن كلمة الرب إلى تجارة ومكسب مادي: "أفتصطدن نفوس شعبي وتستحيين أنفسكن، وتنجسنني عند شعبي لأجل حفنة شعير ولأجل فتات من الخبز لإماتة نفوس لا ينبغي أن تموت واستحياء نفوس لا ينبغي أن تحيا بكذبكن على شعبي السامعين للكذب" [18-19]. إنها تجارة رديئة، تُباع النفوس بثمن بخس، من أجل حفنة شعير أو فتات من الخبز، يسلمن النفوس البريئة للموت، ويبرئن النفوس الشريرة المستحقة للموت.

إنهن يصطدن النفوس البشرية بالكلمات الناعمة اللينة كالوسائد لكل رأس، وكأنها تنصب الفخاخ لتصطاد طيورًا. لهذا يتدخل الرب من أجل اسمه الذي يتنجسن إياه هؤلاء المخادعات، ومن أجل النفوس المسكينة التي تسقط ضحيتهن، فيمزق الرب وسائدهن وينقذ الشعب من فخاخهن.

جاءت في الترجمة السبعينية: "ويل للواتي يُخطن وسائد لاصطياد النفوس" [18]. هؤلاء كما يقول القديس أمبروسيوس[123]: [يخطن القديم بالجديد... لكن قد جاء مسيحنا الذي صنع كل شئ جديدًا (رؤ 21: 5)، لأنه هو القيامة (يو 11: 25) بكر الراقدين (كو 1: 18)، لا يتركنا في إنساننا القديم بحرفه القاتل.


 

من وحي حزقيال 13

وصيتك لكل نفس!

v     قدمت وصيتك لي ككاهن،

وتقدمها للشعب أيضًا!

نفسي ثمينة جدًا في عينيك،

سواء كنت سيدًا أو عبدًا،

شيخًا أو شابًا أو طفلاً،

رجلاً أو امرأة!

محبتك عجيبة لكل نفس بشرية يا سيدي!

v     تحذرني من الأنبياء الكذبة والنبيات المخادعات،

وفي نفس الوقت تسألهم التوبة والرجوع إليك!

تكره الخداع، لكنك تطلب نفوس المخادعين!

تكره الهرطقات والبدع، لكنك تشتهى توبة الهراطقة!

عجيب أنت يا مخلص العالم!

v     هب لي ألا أسقط في خداع الكلمات الناعمة،

ولا أتكئ على وسائد المعلمين الكذبة،

ولا أثق في عذوبة لسانهم المملوء سمًا قاتلاً!

v     احفظني لئلا تخدعني أفكاري أو كلماتي أو أعمالي!

فأني أُعطي حسابًا عن كل فكر باطل،

وعن كل كلمة عقيمة،

وكل عمل لا نفع له!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الرابع عشر

المسئولية الفردية

إذ تحدث عن ضرورة قبول مشورة الأنبياء الحقيقيين ورفض كلمات الأنبياء الكذبة والنبيَّات المخادعات، بدأ يوضح الحاجة إلى شعبٍ مقدس يسأل النبي الحقيقي بقلب تائب، فيستجيب لهم الرب. فالسائل ينبغي أن يكون مقدسًا والنبي كذلك. فإن أخطأ السائل يُحاسب على خطيئته، وأيضًا إن ضل النبي يُلزم العقاب عن ضلاله.

1. إثم السائل الشخصي               [1-8].

2. إثم النبي الشخصي                [9-11].

3. التزام الإنسان بتصرفاته          [12-20].

4. اهتمام الله بالبقية التائبة          [21-23].

1. إثم السائل الشخصي:

عندما جاء رجال من شيوخ إسرائيل وجلسوا أمامه يسألون، صارت إليه كلمة الرب: "يا ابن آدم هؤلاء الرجال قد أصعدوا أصنامهم إلى قلوبهم ووضعوا معثرة إثمهم تلقاء أوجههم، فهل أُسأل منهم سؤالا؟!" [3]. حقًا لقد جاءوا يسألون الله لا الأصنام، يسألونه خلال حزقيال نفسه النبي الحقيقي، لكن كيف يستجيب الله لسؤال من قد عبد الأوثان في قلبه؟! لقد صار إثمهم غير المنظور معثرة يغلق باب استجابة الله في وجوههم. إنه يجيب لا حسب قلب النبي بل حسب كثرة أصنامهم؟ التي ملكت قلوبهم [4-5].

لقد توقف عن إجابتهم لكي يثير فيهم روح التوبة... "توبوا وارجعوا عن أصنامكم، ومن كل رجاساتكم اصرفوا وجوهكم" [6]. إنه يتحدث معهم بكل صراحة أنه لن يجيبهم حتى يطردوا أصنامهم من قلبهم لكي يعود فيملك الرب نفسه في القلب.

2. إثم النبي الشخصي:

"فإذا ضل النبي وتكلم كلامًا، فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي، وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل، ويحملون إثمهم. كإثم السائل يكون إثم النبي" [9-10]. ليس لديَّ محاباه إن أخطأ السائل أجازيه حسب قلبه الشرير، وإن أخطأ النبي أجازيه حسب قلبه. الله يُدين الكاهن كما الشعب، الخادم كما المخدومين.

3. التزام الإنسان بتصرفاته:

كانت كلمة الله له: "يا ابن آدم إن أخطات إليَّ أرض وخانت خيانة، فمددت يدي عليها وكسرت لها قوام الخبز وأرسلت عليها الجوع وقطعت منها الإنسان والحيوان، وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب" [13-14].

يقول "إن أخطأت إليّ الأرض"، ماذا يعني بالأرض؟

أ. يرى العلامة أوريجينيوس أنه لا يُقصد بها سكان الأرض.

ب. في رأيه أن كل خاطئ يُحسب أرضًا: [يُدعى الخاطئ أرضًا، لأنه قيل لآدم: "أنت أرض وإلى أرض تعود" (تك 3: 19). هكذا نستطيع القول بإن ارتكاب الخطية يجعل الخاطى أرضًا... عندما تنظر الأرض الله تتزلزل وتضطرب... ونحن أيضًا كالأرض نرتجف ونضطرب بسبب خطايانا[124]].

لقد أكد الرب أنه إن أخطات الأرض وخانته فضربها بالجوع وكان بها هؤلاء الثلاثة "نوح ودانيال وأيوب" فلن يُخَّلصوا أحدًا إنما تخلص نفوسهم ببرهم. ثم عاد فأكد أنه إذا ضربت الأرض بالوحوش المفترسة الرديئة فأثكلت سكانها فلن يُخَّلص هؤلاء الرجال البنين ولا البنات. مرة ثالثة إن جلب الرب سيفًا يقطع به الإنسان والحيوان من الأرض فلا يخلص هؤلاء الثلاثة البنين أو البنات. وأخيرًا للمرة الرابعة إن جلب على الأرض وباء وسكب غضبه عليها بالدم فلن يخلص هؤلاء ابنا ولا ابنة، إنما يخلصون أنفسهم ببرهم. وكأن الرب - في سفر حزقيال - كان على الدوام يؤكد مسئولية الإنسان الشخصية عن إيمانه وحياته، فقد رأينا السائل (الشعب) يحمل إثم نفسه، والنبي أيضًا، وهنا يؤكد أنه إن وجد إنسان بار يخلص لكنه لا ينقذ حتى ابنه أو ابنته إن كان الأولاد لا يسلكون في البر كآبائهم. فإن كان هذا الجيل من نسل إبراهيم أب الآباء ورجل الإيمان، فهو لا ينفعهم شيئًا، وإن كان الجيل الذي سبقهم قد انحرف إلى العبادة الوثنية فهذا لا يلزمهم بالغضب الإلهي، إنما يُطالبون عن أنفسهم... هذا ما سيعود فيؤكده بأكثر إيضاح في الأصحاح الثامن عشر.

على ضوء هذا الأصحاح نفهم دور القديسين في حياتنا، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كنا مهملين لا نستطيع أن ننال خلاصنًا ولا بمساعدة الآخرين... أقول هذا لا لكي أنفي طلبات القديسين إنما لكي أوقف إهمالكم واكتفاءكم بالاتكال على الآخرين وأنتم مطروحون على ظهوركم]، كما يقول: [ما أعظم بركات صلوات القديسين إن كنا نحن أيضًا نعمل].

لقد كانت الشفاعة عن الشعب جزءًا حيًا من عمل الأنبياء والكهنة فصموئيل النبي يقول: "وأما أنا حاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم" (1 صم 12: 23). وفي المصفاة إذ هاج الفلسطينيون عليهم قالوا لصموئيل: "لا تكف عن الصراخ من أجلنا إلى الرب إلهنا فيخلصنا من يد الفلسطينيين" (1 صم 7: 8). وأيضًا موسى كان يشفع في شعبه حتى قال الرب له: "اتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم فأصيَّرك شعبًا عظيمًا" (خر 32: 10)... صلوات القديسين تسند النفس المجاهدة الراغبة في التوبة، أما إذا أصرت على عنادها فلا نفع لها، إذ يقول الرب لإرميا النبي: "وأنت فلا تصلِ لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح عليَّ لأني لا أسمعك" (إر 7: 16، 11: 14). الله الذي قال: "أحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي" (2 مل 19: 14) وفي أيام حزقيا الملك البار لم ينطق بهذا في أيام الشر المتكاثر حين أسلم المدينة لنبوخذنصَّر.

لماذا اختار هؤلاء الرجال: نوحًا ودانيال وأيوب؟

ربما لأنهم يمثلون عّينة من رجال أبرار عاشوا في وسط أشرار، فنوح عاش وسط جيل فاسد استحق الطوفان، وأيوب احتفظ ببره وسط جو وثني، أما دانيال فإما قُصد به دانيال الذي عاش مع الثلاث فتية في أرض السبي طاهرًا وهو بعيد عن كل إمكانيات الحياة المقدسة أو ربما قصد به دانيال الوارد في ألواح راس شمرا Ras-shamra التي ترجع إلى حوالي 1400 ق.م، كان رجلاً حكيمًا، وقاضيًا فينيقيا، يحكم بالعدل في قضايا الأرامل والأيتام[125]. بهذا يكون الرب قد وبخ هذا الشعب اليهودي إذ قدَّم ثلاث رجال أبرار ليسوا عبرانيين هم نوح وأيوب قبل إبراهيم ودانيال رجل فينيقي، وكأن الله يؤكد لهم عدم محاباته. إنه يُريد خلاص كل نفس مهما يكن جنسها مادامت تتجاوب مع محبته ووصيته.

ويرى القديس أغسطينوس أن هؤلاء الرجال يمثلون رموزًا، إذ يقول: [قدم الله في هؤلاء الرجال الثلاثة بلا شك رموزًا للدرجات الثلاث من الناس الذين يخلصون].

أعتقد أن نوحًا يمثل قادة الأمم الأبرار بسبب تدبيره الطوفان كرمز للكنيسة، ودانيال يمثل الأبرار في الطهارة، وأيوب يمثل الأبرار المتزوجين[126].

ويرى العلامة أوريجانوس أن كل واحد من الثلاثة مرّ بمراحل ثلاث: فترة سعادة يلحقها مرحلة من الحزن والألم ثم عودة إلى الفرح والسعادة[127]. هكذا يبدأ الإنسان حياته الروحية بتعزيات إلهية يلحقها طريق ضيق ومتاعب تدخل به إلى أمجاد روحية جديدة... هذا هو طريق الصليب الممجد، أو طريق الشركة مع المسيح المتألم القائم من الأموات، أو طريق الخلاص.

أما العقوبات المُرَّة التي يسقط تحتها الإنسان بسبب خطاياه فهي أربعة:

أ. الجوع الذي يقطع الإنسان والحيوان عن الأرض [13].

ب. الوحوش الرديئة التي تُحوِّل الأرض خرابًا وتُثكل الأمهات [15].

ج. السيف الذي يقطع الإنسان والحيوان عن الأرض [17].

د. الوبأ الذي يسكب غضب الله على الأرض بالدم [19].

أما ذكره "الإنسان والحيوان"، فلأن الإنسان يشير إلى الجانب العقلي أو النفسي، والحيوان إلى الجانب الجسدي، وكأن الخطيئة وهي تحرم الإنسان من الله إنما تفقده البركات الروحية والزمنية، أو بركات النفس الداخلية والجسد أيضًا.

الجوع، وفقدان الأمان (الوحوش الرديئة)، ونزع السلام (السيف)، والحرمان من الصحة (الوباء) إنما هي ثمار طبيعية يجتنيها الإنسان من الخطيئة التي تعزله عن الله مصدر شبعه وأمانه وسلامه وصحته. لهذا إذ يشعر القديس أغسطينوس بالجوع والقلق يلجأ إلى الله، مناجيًا إياه:

[إلهي... لقد جعلت نفسي قادرة على أن تسع جلالك غير المحدود، لئلا يكون لها شيء يقدر أن يملأها سواك!

إلهي... إنك صنعتنا لأجلك... لذلك يبقى قلبنا مضطربًا، قلقًا، عديم الراحة على الدوام حتى يستريح بك[128]].

هذه الضربات بما تحمله من رموز إنما تمثل جوانب أربعة نتيجة لعمل الخطيئة في حياة الإنسان هي: الجوع بسبب فقدان معرفة الحق، الوحوش الرديئة التي تمثل سيطرة الشياطين على النفس فتقتل كل فضيلة فيها وتجعل النفس كالأم الثكلى بلا رجاء، والسيف إذ يفقد الإنسان حيويته فيصير كالقتيل بلا نفع، وأخيرًا الوبأ إذ يصير الإنسان جرثومة فساد يُحطم من هو حوله. وكأن الضربات ترمز إلى حرمان الإنسان من الحق وخضوعه لسيطرة إبليس، وحرمانه من كل حيوية وصيرورته بؤرة فساد للآخرين!

4. اهتمام الله بالبقية التائبة:

في كل مرة يتحدث الله عن تأديب شعبه أو غضبه بسبب خطاياهم المتكاثرة لا ينسى أن يؤكد اهتمامه بالبقية القليلة التائبة.

 

 

 


 

من وحي حزقيال 14

أخطأت! أخطأت!

v   إلهي... ما أصعب على نفسي أن تعترف!

اكشف لي أعماقي الخفية فأصرخ:

أخطأت! أخطأت!

v   قديمًا كان الشعب يلقى باللوم على الكهنة،

وكان الكهنة يلقون اللوم على الشعب،

وكل جيل يحسب أنه يُعاقب عن أخطاء آبائه.

لكنني أعترف لك:

أخطأت! أخطأت!

v   أبى لن يشفع في إن أهملت خلاصي!

وأنا لا أعاقب عن ضعفاته!

اعترف لك بمسئوليتي الشخصية!

أخطأت فسامحني واغفر لي!

v   موسى النبي شفع عن شعبه،

وصموئيل النبي لم يكف عن الصلاة من أجلهم،

إننا محاطون بسحابة من الشهود،

يشفعون ويصلون لأجلنا ويسندوننا!

علمني أن أهتم بخلاص نفسي،

فتكون السحابة بحق سندًا لي!

v   أشكوك نفسي فقد حطمتني الخطية:

حلت بي مجاعة في كلمة الرب!

وصرتُ قفرًا يسكنني الأفكار الشريرة كوحوش رديئة!

ضرب سيف الخطية أعماقي محطمًا طاقاتي!

صرت بخطيتي كوباء مفسد لمن هم حولي.

أعترف لك بخطيتي،

فأنا وحدي المدين!

خلصني... انقذني!

<<

 

 

 

 

الأصحاح الخامس عشر

عود الكرم

الكرمة الإلهية:

كثيرًا ما يناجي الله شعبه بكونه كرمته الإلهية التي غرسها بيمينه ورعاها بنفسه ولم يدعها في عوز إلى شيء. اختار الله الكرمة لأنها بين الأشجار الأخرى تُعتبر صغيرة، لينة العود... لا يصلح خشبها كألواح لأغراض البناء ولا كأوتار ودعامات للخيّم، ولا حتى كوقود، إذ تلتهمها النار بكليتها في لحظات... إن ميزتها الوحيدة تقريبًا هي الثمر المتكاثر. فإن لم تثمر لا تصلح لشيء بالمرة. هكذا ما يطلبه الله من كنيسته: ثمر الروح النفيس.

ففي إشعياء النبي يعلن أنه أقامها على أكمة خصبة، نقبها ونقى حجارتها وبنى برجًا في وسطها ونقر فيها معصرة (إش 5: 1-2). لقد وهبها كل إمكانية للإثمار، سيَّج حولها بروحه القدوس وأزال عنها الطبع الحجري، ووهبها برج المعرفة الإلهية... وانتظر منها ثمرًا جيدًا فإذا به عنب رديء. لهذا يعاقبها قائلاً: "والآن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا احكموا بيني وبين كرمي، ماذا يُصنع أيضًا لكرمي وأنا لم أصنعه له؟! لماذا انتظرت أن يصنع عنبًا صنع عنبًا رديئًا؟! فالآن أعرّفكم ماذا أصنع بكرمي: أنزع سياجه فيصير للرعي، أهدم جدرانه فيصير للدوس وأجعله خرابًا لا يقضب ولا ينقب، فيطلع شوك وحسك وأوصي الغيم أن لا يمطر عليه مطرًا. إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل، وغرس لذته رجال يهوذا، فانتظر حقًا فإذا سفك دم، وعدلاً فإذا صراخ" (إش 5: 3-7).

مرة أخرى يصف المرتل شعب الله ككرمة الرب التي رعاها بيمينه لكنها لم تحتفظ بكيانها... إذ يقول: "كرمة من مصر نقلت، طردت أممًا وغرستها، هيأت قدامها فأصَّلت أصولها فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله. مدت قضبانها إلى البحر وإلى النهر فروعها. فلماذا هدمْتَ جدرانها فيقطفها كل عابري الطريق، يفسدها الخنزير من الوعر، ويرعاها وحش البرية؟!" (مز 80: 8-13).

هذا ما حدث حرفيًا مع شعب إسرائيل كما يحدث رمزيًا في حياة الكثيرين فمن الناحية الحرفية أقام الرب شعبه في مصر كأول نبتة على مستوى أمة خاصة به، ثم نقلها من هناك على يدي موسى بيد رفيعة وذراع قوية. طرد الكثير من الأمم من أمام وجهها لتقطن في أرض الموعد، فتزايد شعبها وكثر عددهم وملأت أرض الموعد، واحتضنت جبال إسرائيل وأرز لبنان، امتدت شرق البحر الأبيض إلى نهر الأردن... لكنها إذ انحرفت عن الله هدم الرب سورها ودخل إليها كثير من الغرباء يذلونها، وصارت نجسة بدخول العبادات الوثنية إلى هيكلها، وعوض رعاية الرب لها صار وحش البرية في داخلها يفترس أولادها.

أما من الناحية الرمزية فإن المؤمن وهو مغروس في مصر (العالم) يعبر به الرب إلى أورشليم العليا، ويدخل به إلى السمويات على يدي السيد المسيح نفسه بيد قوية. يطرد من أمامه كل قوات الظلمة فلا يكون لها موضع في قلبه ويعيش ملكًا، له سلطان أن يدوس على الحيات والعقارب، يحتضن في داخله الجبال المقدسة (أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد) وأرز الله إذ يدخل في شركة مع القديسين الذين يعيشون في استقامة الأرز. تمتد حياته إلى البحر والنهر أي إلى مجاري المياه المقدسة، أو نهر المعمودية المبارك لكي تعيش على روح الله القدوس كسر استنارتها ونموها الدائم. مثل هذه النفس إن لم تثبت فيما وهب لها حتى النهاية تضيع فتصير ألعوبة الشيطان!! لهذا يحذرنا الرسول بولس "إذا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (1 كو 10: 12).

عود الكرم:

إن كانت كنيسة العهد القديم كما العهد الجديد قد دعيت بالكرمة بين شجر الوعر، لأنها حملت عنقود الحياة - رب المجد يسوع - الذي هو سر فرحنا وتهليلنا. حملت ثمرًا بين أشجار الوعر غير المثمرة، فإنه في هذا الأصحاح دعى الشعب القديم بعود الكرم فوق كل عود أو فوق القضيب الذي من شجر الوعر. أنه غصن الكرمة الذي كان يلزم أن يكون حاملاً للعنقود، لكنه للأسف إذ قطع عن الأصل صار جافًا وبلا عمل. لقد جف وأكلته النار من طرفيه كما حرق وسطه، فهل يصلح لعمل ما؟! "هوذا حين كان صحيحًا لم يكن يصلح لعمل ما، فكم بالأحرى لا يصلح بعد لعمل ما، إذ أكلته النار فاحترق؟!" [5].

أولاً: قد قُطع عن الأصل، ففقد حياته ولم يعد يصلح بعد إلا للحرق بنار الدينونة وكما يقول القديس أغسطينوس: [الغصن يناسب فقط أحد أمرين: أما الكرمة وإما النار. فإن لم يكن ثابتًا في الكرمة يكون نصيبه النار. وإن أراد أن يهرب من الموضع الأخير يلزم أن يكون له موضعه في الكرمة[129]].

ثانيًا: احتراق طرفيه هو إشارة إلى ما أصاب هذا الشعب بسبب خطاياه، فقد سقطت مملكة الشمال عام 721 ق.م في السبي البابلي، ومملكة الجنوب في أول سبى لها حوالي عام 597 ق.م. لقد أصابها اعتزالها الله نفسه، الاحتراق الداخلي بسبب الخطيئة. لهذا لابد أن يتم الاحتراق الكلي.

 

 


 

من وحي حزقيال 15

ثبتني فيك أيها الكرمة الحقيقية!

v   ثبتني فيك أيها الكرمة الحقيقية،

فبدونك أجف ولا أصلح حتى للحريق!

v   هوذا أنا قصبة مرضوضة، فلا تقصفني!

أصلح حالي بلمسات يدك الشافية!

هب لي روحك القدوس عاملاً فيّ!

عوض الجفاف احمل ثمار الحية

وعوض الموت اتنسم حياة أبدية!

v   رويت كرمك بدمك الثمين،

غرست كنيستك كرمة صالحة،

حوطتها بأسوار روحك القدوس،

وقدمت لها كل إمكانية للإثمار!

لتعمل فأحمل ثمرك في داخلي أيها القدوس!

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح السادس عشر

قصة العروس الخائنة

بعد أن تحدث عن المسئولية الشخصية لكل إنسان عن خطاياه، سواء على مستوى الشعب أو الأنبياء، قدم لنا في هذا الأصحاح صورة حياة الشعب - كما النفس البشرية - الفاسدة، وعمل الله معه، واختياره كعروس له، ومقابلة هذا الحب الإلهي بالخيانة والزنا.

يقول العلامة أوريجانوس[130]: [إننا نشبه عبيدًا لدى سيد واحد، نرى العبد رفيقنا والسابق لنا في منزل سيده قد أخطأ فعوقب وعندما سلك كما يليق أُمتدح، فنتعظ منه. هكذا يقدم لنا الكتاب المقدس أورشليم مثلاً يلزم أن تنتفع به كنيسة العهد الجديد حتى تتجنب أخطاءها ولا تسقط فيما سقطت فيه].

1. أورشليم الفتاة المُزدرى بها       [1-6].

2. الله يخطبها لنفسه عروسًا         [7-14].

3. خيانتها له                         [15-34].

4. عقاب الخيانة                     [35-51].

5. طريق الاصلاح: الخجل!           [52-58].

6. الوعد بقبولها من جديد            [59-63].

1. أورشليم الفتاة المزدرى بها:

إن كان هذا الأصحاح في الحقيقة يمثل أنشودة الخلاص المجاني الذي قدمه لنا الله بالرغم من خطايانا ونجاسات قلبنا، ويبقى يقدمه لنا كل أيام غربتنا حتى يدخل بنا كعروس مقدسة للسيد المسيح، فإن بدء هذه الأنشودة هو "اكتشافنا خطايانا" لكي نتقبل عمله فينا. تبدأ كلمات الرب هكذا: "يا ابن آدم عّرِف أورشليم برجاستها" [2]. هذا هو الطريق الذي هيأه القديس يوحنا المعمدان للسيد المسيح، حينما جاء يكشف عن الضعف البشري، لكي يقبل الخطاة ذبيحة المسيح الكفارية.

هذا هو عمل الروح القدس فينا، يفضح ضعفاتنا أمام بصيرتنا الداخلية فنعترف بها، وكما يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير: [إذا أسلمت النفس ذاتها للرب بكل قوتها فإن الله الصالح يظهر لها هذه الأوجاع والعيوب واحدة واحدة لكي تحيد عنها]. ويقول القديس مار إفرام السرياني: [لا تستطيع أن تصغي لكلماته وأنت بعد لم تعرف ذاتك[131]].

ما هي رجاستها؟ "قل هكذا قال السيد الرب لأورشليم: مخرجك ومولدك من أرض كنعان أبوك أموري وأمك حثية" [3]... كان يهوذا وأيضًا إسرائيل يفتخران أنهما من نسل إبراهيم، جنس مختار. لكن الرب يعلن لأورشليم أنها لم تخرج من صلب إبراهيم روحيًا ولا ولدت منه، بل من أرض كنعان، أبوها أموري وأمها حثية. لقد سقطوا في خطايا الأموريين والحثيين وارتبطوا بهم من خلال الشر، فنزعت عنهم بنوتهم لإبراهيم أبي المؤمنين، بل ونزع عنهم انتسابهم لله، وصاروا بالحق أبناء هذين الشعبين. وكما يقول العلامة ترتليان: [إنهم ليسوا من سلالة هذين الشعبين، إنما دعوا أولادًا لهما بسبب تشبههم بشرهما، هؤلاء الذين دعاهم قديمًا أبناء له بإشعياء النبي، قائلاً: "ربيت بنين ونشأتهم" (إش 2: 1)[132]]. ويقول القديس أغسطينوس: [إذ كان الأموريون والحثيون أشرارًا، وقد تمثل اليهود بهم في شرهم وجدوا فيهم والديْن لهم، ليس لأنهم ولدوا منهم وإنما لأنهم اشتركوا معهم في دينونتهم إذ سلكوا في عاداتهم[133]].

ويقول العلامة أوريجانوس: [ارتكبت أورشليم مثل هذه الخطايا (عبادة الأوثان) فلا تستحق أن تدخل في وعود الله[134]]. لقد صارت كنعانية أمورية الأب، حثية الأم، خارج دائرة المواعيد الإلهية. هكذا من يقبل التعاليم الغريبة والفلسفات الكاذبة، بعيدة عن روح الكتاب المقدس يبقى خارجًا، فلا يُحسب أورشليم المقدسة بل كنعانيًا أو أموريًا أو حثيًا!

لاحظ العلامة أوريجانوس أنه عند توبيخ أورشليم ذكر الرب ان والدها من جنسية (أموري) ووالدتها من جنسية أخرى (حثية)، لأنه حيث توجد الخطية يوجد انقسام وانشقاق وتفريق، وحيث الفضيلة توجد الوحدة، إذ يقول: [حيث توجد الخطايا تكون العثرة والانفصال والهرطقات والخلافات؛ وحيث الفضيلة فهناك الوحدة والاتحاد، حيث يكون المؤمنون بقلب واحدٍ وروح واحدة. لنقل في صراحة إن أصل الشرور هو الكثرة وبداية الصلاح أن نحيا في وحدة... فتكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدة. لكن إن كنا غير متحدين فنقول: أنا لبولس وأنا لأبولس وأنا لصفا... بجانب هذا نكون منقسمين ومنفصلين ولا نصل إلى موضع من جمعتهم الوحدة وكما أن الآب والابن واحد كذلك يكون واحدًا جميع الذين لهم روح واحدة[135]].

أما عن بدء ارتكابها الرجاسات فهو كما يقول: "أما ميلادك يوم ولدت، فلم تقطع سرتك، ولم تُغسلي بالماء للتنظف، ولم تملحي تمليحًا، ولم تقمطي تقميطًا. لم تشفق عليك عين لتصنع لك واحدة من هذه لترق لك. بل طُرحت على وجه الحقل بكراهة نفسك يوم وُلدت" [4-5]. كان الطفل حديث الولادة يُدلك بالملح بخفة ويُقمط وتترك يداه ورجلاه مقمطة لعدة أيام. كانت الأمهات يعتقدن أنه بهذا يصير أطفالهن أقوياء، محفوظين من أي ميكروب. هذه هي عادة الشرق قديمًا، لذا نسمع عن السيدة العذراء أنها قمطت الطفل يسوع.

عدم تقميط الطفل أو تمليحه يعني أنه طفل غير مرغوب فيه[136]. إنها صورة مؤلمة للجنس البشري كله إذ يولد الإنسان ورجاساته تعمل في داخله، ليس من يقدر من البشر أن يغسل أدناسه أو يستر عليه بقماط أو يحمله من عاره! لهذا يصرخ المرتل قائلاً: "هآنذا بالإثم صورت، وبالخطية حبلت بي أمي" (مز 51: 5)، ويقول إرميا النبي: ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر (الجسد) ذراعه وعن الرب يُحيد قلبه" (إر 17: 5)... هكذا يشعر الإنسان بالعجز الكامل عن التقديس، ليس من يسنده ولا من يُعينه، لهذا كان لابد لله نفسه أن يتدخل.

يرى بعض الآباء في قوله "لم تقطع سرتك" إشارة إلى الخطيئة الأولى حين سقطت حواء في النهم وأغوت رجلها معها، وإلى خطيئة  الانشغال بالأكل والشرب التي سقط فيها الشعب اليهودي كقول الرسول: "كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب" (1 كو 10: 7، خر 32: 6). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا إن آدم بعد ضبطه لبطنه طرد من الفردوس، ولنفس السبب حدث الطوفان في أيام نوح[137]...]. كما يقول: [ليس الجسد ولا الطعام من الشيطان. بل الترف وحده، فعن طريقه يُقدم الشيطان الخبيث شروره بلا عدد. بهذا يصير له ضحايا من كل البشر[138]]. يقول الأنبا موسى الأسود: [اعلم يقينًا إن كل إنسان يأكل ويشرب بلا ضابط ويحب أباطيل هذا العالم أنه لا يستطيع أن ينال شيئًا من الصلاح بل ولن يدركه لكنه يخدع نفسه[139]]. ويقول مار إسحق السرياني: [جالس الضباع ولا تجالس الشره الذي لا يكتفي[140]].

2. الله يخطبها لنفسه عروسًا:

يؤكد الرب للنفس البشرية: "فمررت بكِ ورأيتكِ مدوسة بدمك... فمررت بكِ ورأيتكِ وإذا زمنك زمن الحب" [6-8]. مرّ عليها السيد فوجدها عريانة، ليس من يستر عليها. فتقدم إليها بالحب وخطبها عروسًا له: "فبسطت ذيلي عليكِ وسترت عورتكِ، وحلفت لكِ، ودخلت معكِ في عهد يقول السيد الرب فصرتِ لي" [8]. لم يستنكف القدوس من أن ينزل إلينا في أرض الشقاء، ويمد يده إلى ضعفنا ليهبنا الاتحاد معه، مقدمًا ذاته عريسًا لنا، لنكون عروسًا له. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما قلت إن ذاك الذي هو عظيم وقوى، هكذا رغب في زانية، وإنني أتكلم عن الطبيعة البشرية تحت ذلك الاسم "زانية" إن كان إنسان يرغب في زانية فإنه يُدان، فكيف يرغب الله في زانية حتى يصير عريسًا لها؟! ماذا يفعل؟! إنه لم يرسل إليها واحدًا من خدامه لا ملاكًا، ولا رئيس ملائكة، ولا شاروبًا ولا ساروفًا، بل نزل بذاته ذاك الذي يحبها مقتربًا إليها... فطالما تعجز هي عن أن تصعد إلى العلي نزل هو على الأرض، جاء إلى الزانية ولم يخجل أن يمسك بها وهي في سكرها... وكيف جاء؟ جاء ليس (معلنًا) جوهر طبيعته بطريقة مجردة، إنما صار مثلما الزانية عليه (فيما عدا الخطية)، لا بحسب النية بل بالحقيقة صار مثلها، حتى لا ترتعب منه عندما تراه فتجري وتهرب!! جاء إلى الزانية وصار إنسانُا![141]...].

ماذا قدم لها الله؟

"فحممتك بالماء وغسلت عنك دماءك، ومسحتك بالزيت.

وألبستك مطرزة ونعلتك بالتُخس وأزرتك بالكتان وكسوتك

بزًا، وحليتك بالحلي، فوضعت إسورة في يديك وطوقًا في

عنقك، ووضعت خزامة في أنفك وأقراطًا في أذنيك وتاج

جمال على رأسك، فتحليت بالذهب والفضة ولباسك الكتان

والبز والمطرز، وأكلت السميذ والعسل والزيت، وجملت جدًا

جدًا فصلحت لمملكة، وخرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنه

كان كاملا ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب" [9-14].

إنها صورة رائعة لعمل السيد المسيح معنا. خاصة من خلال مياه المعمودية المقدسة ومسحة الميرون وسر الإفخارستيا، وقد سبق لنا تفسير هذا النص في كتابنا "الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر".

لقد دخل بها إلى مياه المعمودية المقدسة لكي يغسلها من دماء خطاياها [9]. وكما يقول القديس أغسطينوس: [بميلادنا من الماء والروح القدس نتطهر من كل خطيئة، سواء كانت من آدم الذي به خطيء الكل أو بفعلنا وقولنا، لأننا نغتسل منها في المعمودية[142]]. يدهنها بزيت المسحة المقدسة فتصير بروحه القدوس في ملكيته، لها ختم الروح. يلبسها ثياب البرّ، تحتذي لتسلك طريق الله. تلبس الكتان علامة النقاوة والطهارة، والبز علامة البرّ. يقدم لها حليًا ليست من هذا العالم، لكنه عربون الروح الذي يكسب النفس جمالاً، يضع أسوره في يديها وطوقًا في عنقها وخُزامة في أنفها وأقراطًا في أذنيها وتاج جمال على رأسها، ما هذه إلا أعمال الروح القدس في حياتنا الداخلية إذ تقدس كل حواسها وطاقاتها لحساب الملكوت، فتمتد يدها للعمل بلا كسل، وينحني عنقها لحمل أثقال الآخرين بفرح، وينفتح أنفها لتشتم رائحة السماء وتتزين أذناها بسماع الوصايا الإلهية، أما تاج جمالها فهو السيد المسيح نفسه الذي يملأ فكرها ويدبر كل تصرفاتها. هذا هو عمل الله فينا! إنه يقدم لنا الذهب والفضة، أي يقدم لنا "الحياة السماوية" التي يُشار إليها بالذهب، وكلمة الله التي هي مصفاة سبع مرات كالفضة. يشبع نفوسنا بالجسد المقدس ولا يتركنا جائعين إلى شيء! بهذا تجمل النفس جدًا جدًا وتصلح أن تدخل مملكة عريسها كملكة مزينة ببهاء عريسها الكامل الذي يسكبه عليها، ويصير لها اسم هو اسم مسيحها القدوس.

3. خيانتها له:

بعد أن قدم الرب للنفس كل هذه الإمكانيات، إذا بها تخونه، إذ يقول لها: "فاتكلت على جمالك وزنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر فكان له" [15].

هنا يتحدث عن الزنا الروحي، الذي هو انحراف النفس وراء عريس آخر غير عريسها، وارتباطها بالأمور الزمنية على حساب علاقتها بالله. في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [الزنا بمعناه الواسع يحوي كل صور الخطيئة، فإنه يوجد زنا بمعنى أنه عندما تدخل النفس في علاقة متبادلة مع الرب الكلمة وتتحد معه بنوع من الزواج ثم تفسد وتتدنس بآخر، هو عدو ذاك الذي ملك عليها بالإيمان - كلمة الله - الذي هو الرب يسوع، عريس النفس العفيفة والطاهرة وقرينها. وكما يقول الرسول: "لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح، ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 2). إذًا مادامت النفس متحدة بعريسها وتسمع كلماته وتتعلق به تنال منه ثمر الكلمة... فإذا كانت النفس تحبل من أعمال المسيح تلد أولادًا، من أجلهم قيل لها: "ستخلص بولادة الأولاد، إذا ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل" (1 تي 2: 15)... حقًا طوبى لهذه النفس المخصبة التي ساهمت في إنجاب كلمة الرب وتجاوبت في أحضانه بهذا تلد ذرية أصيلة فتخرج الطهارة والبر والصبر والوداعة والمحبة وكل نسل جليل. أما إذا كانت النفس بائسة فتترك المرقد المقدس لكلمة الله وتدخل إلى أحضان الفساد، وتنخدع بضلال إبليس والشياطين، فإنها بالتأكيد تلد، لكنها تنجب أطفالا كتب عنهم أنهم فاسدون غير كاملين، ذرية من مرقد المنافق يحذفون[143]].

يرى العلامة أوريجانوس[144] أن الزنا هنا يعني ترك بيت الزوجية أو الخروج عن الأسرة المقدسة... هكذا الخطاه بزناهم الروحي يبقون خارج خيمة الرب، أما القديسون ففي داخلها.

من يرتبط بكلمة الرب ويسلك في طاعته يعيش كما في بيت الزوجية الروحي، أما من يرتبط بالفلسفات الكاذبة فيحرم نفسه من العُرس السماوي ويُحسب زانيًا.

هذا هو الزنا الروحي الذي ترتكبه النفس بتركها الله عريسها وتلجأ إلى إبليس وطرقه. أما ملامح هذا الزنا الروحي فهي:

أ. الكبرياء: "فاتكلت على جمالك وزنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر فكان له" [15]. بدء السقوط هو الكبرياء، حيث يتكل الإنسان على ذراعه البشري، ويظن في نفسه شيئًا، فتتخلى عنه نعمة الله ويصير ملهىً لكل خطيئة. ويقول مار إسحق السرياني: [الذي يحب الكرامة لا يستطيع أن ينجو من علل الهوان[145]]. ويقول القديس أنبا موسى الأسود: [الذي يعتقد في نفسه أنه بلا عيب فقد حوى في ذاته سائر العيوب[146]]. ويقول الأب غريغوريوس (الكبير): [حقًا إن النفس التي تثق في جمالها وتظن أنها بارة تقوم بدور الزانية بسبب شهرتها، لأنها فيما تفعله حسنًا لا تفعله لإعلان مجد خالقها بل تطلب مجدها الذاتي].

ب. تدنيس الجسد: "وأخذت من ثيابك وصنعت لنفسك مرتفعات موشاه وزنيت عليها" [16]. إن كانت الثياب في الكتاب المقدس تشير إلى الجسد، فإن الله يعاقب الإنسان الذي يجعل من جسده مرتفعات أي مواضع شر، عليها تُقدم ذبائح للأوثان ، فيجد الشيطان له مواضع كثيرة في الجسد، خلال العين والأذن واليد والبطن... يتحول جسدنا الصالح إلى آلات إثم للموت. لهذا يقول الرسول: "لا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر لله" (رو 6: 13)، "لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدًا للبر للقداسة" (رو 6: 19). "فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1).

ج. تدنيس مقدسات الله: "وأخذتِ أمتعة زينتك (مجدك) من ذهبي ومن فضتي التي أعطيتك وصنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها" [17]. هكذا يُعاقب الرب عروسه، ليس لأنها خائنة فحسب، بل لأنها أخذت غناه ومقدساته لتستخدمها في خيانتها له.

يقول العلامة أوريجانوس: [إنها أخذت الأشياء التي يُصنع منها ما هو لمجدها وفخرها، التي كتب عنها موسى في سفر العدد من مباخر وكؤوس ومنارة ذهبية... وصهرت هذه كلها وصنعت لنفسها تماثيل ذكور للفساد والزنا، فصارت نفسها زانية. هذا عن التفسير الحرفي أما الرمزي فيرى العلامة أوريجانوس هو استبدال مفاهيم كلمة الله بمعانٍ مزيفة، فيصهر الأشرار الكلمة الإلهية التي قدمت لهم لمجدهم ويستبدلون الحق بالباطل، والله وبصور أخرى... لقد قدم لنا الله الناموس والأنبياء لمجدنا الداخلي لكننا نُسيء استخدامه[147]. إنها تستخدم ذهبه وفضته [17] وزيته وبخوره [18] وخبزه وكل طعام قدمه لها من سميذ وزيت وعسل[148]! تأخذ النفس الجاحدة ذهب المسيح وفضته لتصنع بهما لنفسها صورًا، أي تستخدم الأمور السماوية (الذهب) وكلمته الإنجيلية (الفضة)، لا في رفع النفس إلى الحياة الإلهية بل لخدمة أفكار الزمنية. يصير الإيمان بالنسبة لها ليس اتحادًا مع الله بل وسيلة لأهداف أرضية.

نذكر على سبيل المثال دافع الحب الذي يهبه الله للبشرية، وينميه في حياة المؤمن... لكن البعض يحّول الحب إلى شهوات جسدية، فتُستخدم عطية الله لحساب ملكوت الظلمة.

ما يقوله عن الحب ينطبق على الغضب، فهو عطية، به يغصب الإنسان على نفسه ضد الخطية، لكن البعض يستخدمه للغضب على الآخرين.

"وأخذِت ثيابكِ المطرزة وغطيتها بها" [18].

ما هي هذه الثياب الجميلة المزينة بالألوان إلا أحشاء الرحمة والاتضاع والصبر واحتمال الآخرين... هذه هي الزينة التي يتحلى بها المؤمن ويتغطى بها.

يقول العلامة أوريجانوس: [إن الهرطوقي يمزج فلسفته المهلكة للنفس بثياب خارجية مزينة مخادعة، فيحمل صورة الطهارة والعفة والوداعة ليقتنص البسطاء إلى الهلاك المدمر لحياتهم كلها، فيكون كمن يغطي المعبودات الوثنية بزينة جميلة.

[لنحترس جدًا من الهراطقة الذين يظهرون كما بحياة كاملة... فالشيطان كصياد العصافير يصنع طُعمًا ليصطاد بسهولة العصافير مقدمًا لها طعامًا شهيًا.

يوجد للشيطان نوع من الطهارة ومن الوداعة... لإغراء النفس البشرية حتى يمكن بالكلام المزيف يقتنصها في شبكته وفخاخه المتنوعة، فالشيطان يُجاهد حتى يُفقد الإنسان كل شيء].

مرة أخرى يقول: [إن الشيطان يتمم كل ما يبدو حسنًا... ويخلط ويشوش الأمور ليهلك الطبيعة البشرية. من يكون حريصًا على خلاص نفسه فإنه لا يندفع وراء هذه الخدع[149]].

"ووضعتِ أمامها زيتي وبخوري" [18].

المعنى الحرفي يعني عوض استخدام الزيت والبخور للمنارة الذهبية ومذبح البخور الذهبي، أُستخدما في العبادة الوثنية الزيت يشير إلى مسحة الروح، والبخور إلى صلوات القديسين، وكأنه عوض التمتع بقيادة الروح القدس ورفع القلب للصلاة كي يتمتع المؤمن بالشركة مع الله في ابنه يسوع المسيح بالروح القدس، تتحول عبادته إلى إرضاء الناس، فيصيرون متعبدًا لهم... يفقد أقدس الأمور وأثمنها خلال هذه العبودية... العبودية للمجد الباطل وطلب مديح الآخرين. أما زيت الرب وبخوره فيشيران إلى العبادة، عوض أن تكون سلمًا روحيًا للارتفاع نحو الأبديات تصير شكليات تخدم مصالحها الذاتية.

أما أنواع الطعام فهى العطايا الإلهية التي يقدمها الله لها، فتنحرف بها عن هدفها الروحي "وخبزي الذي أعطيتك السميذ والزيت والعسل الذي أطعمتك، وضعتها أمامها رائحة سرو" [19]. ما هو هذا الطعام الذي يقدمه لنا الله ألا كلمته في العهدين، الناموس والأنبياء هي السميذ أو الدقيق الفاخر، والعهد الجديد هو العسل. كلمة الله في العهد القديم هي خبزنا الذي نقتات عليه بدونه ما كان يمكننا أن نتعرف على مسيحنا في العهد الجديد، الذي هو "مشتهى الأمم"، العسل الحلو المذاق في أعماق النفس! أما الهراطقة فيستخدمون حتى كلمة الله، الطعام الروحي، لإفساد عقول البسطاء!

حقًا ما أصعب أن يرى الله وسائط الخلاص والنمو الروحي والاتحاد معه هي بعينها تستخدم لتحطيم العلاقة معه، بل تُستخدم لحساب عدوه!

د. تحطيم طاقات النفس والجسد: "أخذت بنيك وبناتك الذين ولدتهم لي وذبحتهم لها طعامًا... إنك ذبحت بنى وجعلتهم يجوزون في النار لها" [20-21]. لقد صنع الشعب هذا بصورة حرفية حينما قدموا أطفالهم الذين هم أطفال الله وذبحوهم وأَجَازوهم في النار في عبادات وثنية. كانت الأمهات يأخذون أطفالهن حديثي الولادة ويقدموهن ذبائح للإله ملوخ. يستلمهم الكهنة، وعلى أصوات ضرب الطبول العالية يلقون على أذرع الإله النحاسية المحماة بالنار، فلا يسمع أحد صرخات الأطفال، بل يرقص كل طربًا ويزنون... كعبادة للإله!! الأطفال الذين كان ينبغي أن ينشأوا كأولاد لله مقدسين في الحق يُقدمون ذبائح للشيطان! أما رمزيًا فالبنون والبنات الذين نلدهم للرب ثم نعود فنذبحهم لحساب الشيطان، فهم طاقات النفس والجسد التي تتقدس بالروح القدس، ثم نعود فنُنجسها في رجاسات شريرة. فالمؤمن إذ يتقبل من يدي الرب المحبة ليتسع قلبه بالحب لله والناس، أحيانًا ينحرف بها لتصير شهوة جسدية لتخدم أغراضه الذاتية لحساب عدو الخير. وهكذا كل دوافع النفس وميولها وطاقاتها يلهبها الروح القدس لتصير كأبناء وبنات لله تعمل، داخل القلب لحسابه، متى انحرفت صارت لخدمة مملكة الظلمة.

هـ. تحولها إلى هياكل وثنية: "إنك بنيتِ لنفسك قبة، وصنعت لنفسك مرتفعة في كل شارع. في رأس كل طريق بنيت مرتفعتك ورجست جمالك... الخ" [24-25]. عوض أن تكون النفس هيكلاً مقدسًا لسكنى الله فيها، تصير قبة الشيطان، وتقيم له موضعًا في كل حياتها. تضع مرتفعات للشيطان في كل شوارعها، أينما سارت لا فكر لها سوى ملذات الجسد ومحبة العالم. في رأس كل طريق تبنى مرتفعة، في حياتها العائلية أو العمل أو العلاقات الاجتماعية... لا تفكر فيما لله بل فيما للخطيئة.

لقد رجست جمالها الذي خلقه الله، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [النفس البشرية جميلة جدًا، جمالها رائع، لأن الله خلقها قائلاً: "لنجعل الإنسان على صورتنا ومثالنا". أي جمال أبرع من هذه الصورة وهذا المثال؟. لكن بعض الزناة التافهين ينجذبون لجمالها، فيرغبون في افسادها... لهذا يقول بولس الحكيم: "ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3)[150]...].

يقول أيضًا: [إن الهراطقة يفسدون جمال النفس والعقل بأفكارهم الخاطئة، إذ تسقط النفس في زنا روحي يفسدها[151]].

ز. تخطئ بلا شبع: "زنيت مع جيرانك بني مصر الغلاظ اللحم وزدت في زناك لإغاظتي... وزنيت مع بني أشور إذ كنت لم تشبعي فزنيت بهم ولم تشبعي أيضًا. وكثرت زناك في أرض كنعان إلى أرض الكلدانيين، وبهذا أيضًا لم تشبعي" [26-29]. مع أن مصر وآشور كانا متضادين لكن اليهود في ذلك الحين كانوا في حالة عدم شبع، يقبلون آلهة مصر وفي نفس الوقت آلهة آشور، كالإنسان الذي تتحول الخطيئة في حياته إلى حالة مرضية، يخطئ يمينًا ويسارًا بلا هدف وبلا شبع. يرتكب خطايا متضادة في وقت واحد، كأن يسقط الإنسان في خطيئة الكبرياء والاعتداد بالذات وفي نفس الوقت يلتهب القلب بالشهوات الرديئة..."ما أمرض قلبك يقول السيد الرب؟!" [30].

و. تخطئ بلا حياء: لقد شبهها الرب بامرأة "زانية سليطة" [30]، ترتكب الخطيئة بلا حياء، فهي تدعو الآخرين ولا تطلب أجرة بل تقدم هدايا ورشوة: "لكل الزواني يعطون هدية أما أنت فقد أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك" [33]. قد يعلل الإنسان ارتكابه الخطأ لاحتياجه أو عوزه لأجل مصالحة المادية أو الاجتماعية... لكن الإنسان إذ يعتاد الخطيئة يرتكبها على حساب صحته أو مصلحتة المادية أو الاجتماعية...

حينما كتب القديس يوحنا الذهبي الفم[152] لصديقه الساقط في الزنا والكاسر لنذر البتولية ثيؤدور وأراد أن ينتشله من اليأس في هذا الأصحاح صورة حية لمحبة الله التي تدعو الزناة بهذا الشكل البشع للرجوع إليه.

ويرى القديس جيروم في إحدى رسائله في هذا الوصف صورة رمزية للنفس العاطلة التي بلا عمل، تترك نفسها كمجال للشر في كل موضع وبكل نوع، لهذا يحذرنا من الحياة العاطلة، قائلاً: [في مصر وضعت الأديرة قانونًا ألا تستقبل أحدًا ممن لا يرغب في العمل، إذ يتطلعون للعمل ليس كأمر ضروري لاحتياجات الجسد فحسب وإنما لخلاص النفس. لا تدع ذهنك يجول في أفكار باطلة فيكون كأورشليم في زناها تفتح رجليها لكل عابر (حز 16: 25)[153]].

يقدم لنا العلامة أوريجانوس[154] تفسيرًا رمزيًا للزانية السليطة التي ترتكب الزنا بلا حياء... إنها تمثل الإنسان المتدين الذي يخطئ ويبقى في مظهره متدينًا. فالشرير يزنىي روحيًا ويعترف بزناة، في خجل، أما المتدين فيزني وفي عدم حياء يحمل مظهر المتدين.

ما هي الهدايا التي تقدمها الزانية لعشاقها؟ إنها تأخذ ما لرجلها وتقدمه للزناه هذا ما يفعله الهراطقة حين يسيئون فهم كلمة الله وعطاياه فيستخدمونها لحساب مملكة عدو الخير .

4. عقاب الخيانة:

أ. تأديبها العلني: سبق لنا أن تحدثنا كيف يستر الله على خطايانا، ينصحنا خفية لعلنا ننتصح فإن إصرارنا على الخطأ يسمح بالتأديب العلني لا للتشهير بل للتأديب (أصحاح 5). هنا إذ صارت في زناها "زانية سليطة" [30] ودخلت في حالة مرضية لا تشبع من الخطيئة ولا تكف عن ارتكابها مع كل عابر التزم الرب لتأديبها أن يتدخل معها بشيء من القسوة لأجل خلاصها، إذ يقول: "هأنذا أجمع جميع محبيك الذين لذَذْتِ لهم وكل الذين أحببتهم مع كل الذين أبغضتهم فأجمعهم عليك من حولك وأكتشفُ عورتك..." [37].

ب. يترك الفساد يُحطم نفسه بنفسه، فالذين وجدت فيهم لذتها هم الذين يحطمون حياتها. "أُسلمك ليدهم فيهدمون قبتك ويهدمون مرتفعاتك وينزعون عنك ثيابك، ويأخذون أدوات زينتك ويتركونك عريانة وعارية" [39].

الأمور التي يظن الإنسان أنها موضوع سعادته تصير هي بعينها سر شقائه، وما يظن أنه سر شبعه يجده في النهاية سر جوعه وعطشه وعريه وخزيه!

ج. غضب الرب عليها: إذ يندفع الإنسان نحو الشر، ليس فقط يصير الشر في ذاته عقابًا له، لكنه يحرم من الوجود مع الله فيسقط تحت الغضب الإلهي. أما أمرّ درجات الغضب الإلهي وأقساها فهي أن الله "لا يعود يغضب بعد" [42]، أي يتجاهلها تمامًا. فإن كان الله يغضب علينا لأنه يحبنا ويشتهى اتحادنا معه. فإننا إذ نصرّ على رفضه لا يعود يغضب فنفقد كل حب إلهي. "وأحلّ غضبي بك فتنصرف غيرتي فأسكن ولا أغضب بعد" [42].

في هذا يقول القديس جيروم: [إن أشد درجات غضب الله ضد الخطاة يكون حينما لا يظهر غضبًا... "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6). فالأب يرشد ابنه، والمعلم لا يصحح طريق تلميذه لو لم يحبه إذ يرى فيه علامات الوفاء. حينما يتوقف الطبيب عن الاهتمام بالمريض يكون ذلك علامة يأسه منه[155]]. كما يقول: [بمعنى آخر، حين كنت مجرد زانية أحببتك بحب مملوء غيرة، لكن إذ صار لك عشاق كثيرون ازدريت بك، لا أعود أغضب عليكِ. بنفس الطريقة يغير الإنسان على زوجته حينما يحبها، لكنه إن كان غير غيور عليها إنما يكرهها، فلا يقول كلمات (الله) "أفتقد بعصا معصيتهم" (مز 89: 33)، بل يقول "لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين" (هو 4: 14)[156]].

هـ. تصير مضربًا للأمثال: "هوذا كل ضارب مثل يضرب مثلاً عليك قائلاً: مثل الأم بنتها" [44]. حينما يسقط المؤمن في الشر غالبًا ما يكون أشر من غير المؤمن، لأنه يأخذ ما لله بالإمكانيات القوية التي وهبت له ويستخدمها للشر، لهذا يصير مثلاً أمام الكثيرين. هنا يُعاتب الشعب أنهم تركوا الله كأب لهم. وصارت أمهم حثية وأبوهم أموريًا بانتسابهم لهم من خلال اشتراكهم معه في شرهم، وصارت أختهم السامرة (إسرائيل أو مملكة الشمال) التي اندفعت في الشر زمانًا طويلاً، وأختهم الصغرى سدوم التي استحقت أن تحرق بالنار، وإنما صارت أشر من هؤلاء جميعًا، إذ يقول: "ولا في طريقهن سلكتِ ولا مثل رجاساتهن كأن ذلك قليل فقط ففسدتِ أكثر منهن في كل طرقك" [47].

يركز على الخطايا التالية [49]

1. الكبرياء [49-50] تدفع إلى الثورة ضد الله والعصيان... نهاية الكبرياء السقوط. يقول العلامة أوريجانوس: [ما هي إذن أكبر الخطايا جميعًا؟ بالطبع تلك التي سببت سقوط الشيطان ما هي هذه الخطية التي سببت انهيار تلك العظمة حيث يقول الرسول: "لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6). فالتصلف والكبرياء والعجرفة هي خطايا الشيطان، بسببها ترك السماء ونزل إلى الأرض. لذلك: "يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (يع 4: 6).

لماذا يتكبر من هو تراب ورماد فيتعجرف الإنسان، ناسيًا ما سيكون عليه مصيره، ناسيًا أنه إناء هش، متجاهلاً الأقذار التي يغوص فيها والنفايات التي تخرج من جسده؟[157]].

يوبخ العلامة أوريجانوس الكهنة المتكبرين، قائلاً: [كم نسوا الاتضاع حين نُصبوا كهنة؟! كأنهم قد رُسموا لكي يكفوا عن الاتضاع مع إنه كان يجب أن يسلكوا طريق الاتضاع، إذ يقول الكتاب: "بمقدار ما تكون عظيمًا هكذا إزدد في الاتضاع" (ابن سيراخ 3: 18). الجماعة تختارك وأنت تحني رأسك، جعلوك رئيسًا فلا تتعالى، كن بينهم كواحد منهم. يلزمك أن تتضع وأن تتذلل وتهرب من الكبرياء لأنه منبع الشرور].

2. الشبع من الخبز [49]، حيث يطلب الإنسان الشبع المادي ويتكل على الزمنيات، مستهينا بكل القيَّم الروحية.

3. سلام الاطمئنان [49]: أو تهدئة الضمير... عوض الاعتراف بالخطأ وتقديم التوبة يستكين الإنسان ويقول لنفسه: سلام...؛ أي اختيار الطريق الواسع والحياة المدللة عوض التوبة وحمل الصليب.

5. طريق الاصلاح: الخجل!

"فاحملي أيضًا خزيك أنتِ القاضية على أخواتك...

فاخجلي أنتِ أيضًا واحملي عارك بتبرير أخواتك،

وأُرجع سبيهن: سبي سدوم وبناتها، وسبي السامرة وبناتها، وسبي مسبييك في وسطها...

يرجعن إلى حالتهن القديمة" [52-55].

لاحظ العلامة أوريجانوس أن طريق العودة إلى الحالة القديمة، أي حالة ما قبل السبي تستلزم حمل الخزي والشعور بالخجل مما ارتكبه الإنسان من خطأ ورجاسات. ففي تعليقه على العبارات السابقة يقول:

[ينبغي ألا يُمارس عمل مخزي، بل كل ما هو صالح بطبيعته، يُوجَّه إلى الله في ثقة حقيقية. ولكن بما أننا كبشر نخطئ كثيرًا... يلزمنا أن نخزى، نخفض عيوننا باتضاع بسبب جرائمنا، ولا نتقدم بوجه وقح كمن يخطئ في شيء ما قط.

فإنه خير للإنسان أن يشعر بالخزي بعدما أخطأ، خاصة وأن المخادع، صانع الشرور، كثيرًا ما يجعل الخاطئ يتصرف كأنه على حق بدلاً من أن يتذكر العقاب المستوجب. يمكننا أن نرى ونتعلم من الحياة اليومية كم من أناس بعدما يرتكبون خطاياهم لا يندمون على ما فعلوه، بل يدافعون باطلاً عن فسادهم... لهذا قيل: "فاخجلي أنتِ أيضًا..." لا تظن أن هذه الكلمة قد قيلت لأورشليم وحدها، وإنما قيلت لكل أحد منا، نحن الذين نجرد أنفسنا من الأخطاء. "ليفحص كل ما فكر به... يستحق الخزي أمام فاحص القلوب والكلى (مز 7: 10)، عندئذ يخزى عندما يميز بتدقيق الأفكار والأعمال والكلمات... ويسمع قول النبي: فاخجلي... فإن الخجل يتبع الخزي. من يمارس عملاً يستحق الخزي يجعله الله خجولاً، ويقول له: "فاخجل"[158]].

إن كان الله يأمر أورشليم أن تحمل خزيها وتخجل، إنما لكي تعترف بما ارتكبته من رجاسات، وبالتوبة يردها من حالة العار إلى الكرامة، يردها من سبيها إلى وطنها، إذ يقول: "وأرجع سبيهن... يرجعن إلى حالتهن القديمة"

يعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بقوله:

[إنه عار للمواطن أن يُنفَى من وطنه...

يدرك الديان العادل ذلك فيقول لمن يرتكب الأعمال المعيبة: لا تستقبل أيها المستوجب العقاب نفيك بحزن، فإن تذمرك على العقاب يجعلك غير مستحق للرحمة؛ بل بالأحرى افهم أنك مستوجب العذاب الذي تعانيه. وحينما تتضع وتعترف بعدالة الحكم الصادر بشأنك يمكنك أن تنال الرحمة من القادر بعد إدانتك أن يعيدك إلى حالتك القديمة، كما يمكن لرئيس عظيم أن يفرج عمن في جزيرة أو منفي أو سجن هكذا بالأكثر يمكن لإله الكون أن يرد الكرامة القديمة لمن فقدها، بشرط أن يعترف بخطية وأنه مستحق للآلام التي يُعانيها[159]].

يقدم العلامة أوريجانوس مثلاً عمليًا في الكنيسة إن حُرم إنسان من الكنيسة، سواء من الكهنوت أو الشعب. فإنه إن أثار الشعب يجر وراءه الأشرار ويذخرون لأنفسهم غضبًا (رو 2: 5). أما إن قبل ذلك في اتضاع كامل، سواء كان حرمانه عن حق أو ظلم، تاركًا الحكم لله، محتملاً الحكم بصبر، ينال رحمة من الله، وغالبًا ما يرجع إلى حالته القديمة (العضوية الكنسية) في أكثر مجد وكرامة.

عندما نخجل هنا ونخزى نُحرِّك في الدهر الآتي "أحشاء رحمة إلهنا" (لو 1: 78)، فيُنزع عنا العار، أما من يتذمر هنا فيسقط في العار أو الخزي الأبدي.

لاحظ أيضًا العلامة أوريجانوس أن الرجوع من السبي إلى الحالة القديمة يتم حسب حالة الإنسان... بدأ بسدوم وبناتها ثم السامرة وبناتها وأخيرًا أورشليم وبناتها [55]. فمن يعرف أكثر يُضرب أكثر. سدوم الأممية معرفتها أقل من السامرة (الهراطقة)، ومعرفة السامرة أقل من أورشليم.

[كلما زاد قُربنا من الله... كلما زاد بُعدنا عنه إذا أخطأنا، فنقترب إلى عذابات رهيبة أكثر؛ لأن حكم الله بار "لأن الحقير المتضع يُسامح من طريق الرحمة؛ وأما الأقوياء فيعذبون عذابًا شديدًا" (حكمة 6: 7). من كان صغيرًا جدًا (1 كو 15: 9) يستحق رحمة سريعة[160]].

يعلق العلامة أوريجانوس على قول الكتاب: "وأختك الكبرى السامرة هي وبناتها الساكنة على شمالك، وأختك الصغرى الساكنة عن يمينك هي سدوم وبناتها [46]، قائلاً: [كما أن الفضيلة تجعلني أخًا للسيد المسيح هكذا الخبث (الشر) يكسبني أخوات كثيرات كلهن خطاة. عندما بدأت أورشليم تميل إلى الخطية لم تكن لها بعد السامرة أختًا ولا شقيقتها سدوم، لكنها إذ توغلت في الجريمة... أصبحت وسط أختيها الكبرى السامرة والصغرى سدوم[161]].

لكي يُبرز مدى رجاسات أورشليم أوضح أنها بما فعلته من رجاسات بررت إخوتها مثل السامرة، إذ تقول:

"ولم تخطئ السامرة نصف خطاياك،

بل زدتِ رجاساتك أكثر منهن،

وبررت أخواتك بكل رجاساتك التي فعلتِ...

هن أبر منكِ" [51-52].

يقول العلامة أوريجانوس:

[بالفعل تبررت السامرة وسدوم برجاسات أورشليم... لنحذر فإنه في يوم الدينونة سيحاكمنا من هم أقل منا شرًا ونحن ندين آخرين. واحد فقط الذي هو مبرر أمام الجميع، ولا يتبرر أحد أمامه. سدوم مبررة بأورشليم التي ارتكبت رجاسات أكثر منها، وربما تتبرر أورشليم بمدينة أخرى أشر منها...

من الذي يبرر ضد المسيح الذي سيظهر أكثر إجرامًا من الكل؟!...

ليس من يتبرر قدام (الله). فإبراهيم كان بارًا، وموسى وغيرهما من المشاهير، لكنهم إن قورنوا بالمسيح فلا يحسبوا أبرارًا. عندما يقتربون من نوره يُحسب نورهم ظلامًا، كما يظلم المصباح في أشعة الشمس. هكذا يشرق نور الأبرار أمام الإنسان، لكنه لا يضيء أما المسيح. فإنه لم يقل فقط "فليضئ نوركم" بل قيل "فليضئ نوركم قدام الناس"، لأنه لا يمكن لنور الأبرار أن يضيء قدام المسيح].

6. الوعد بقبولها من جديد:

بعد أن أعلن هذه الصورة البشعة ليهوذا في زناها العلني السليط الذي فاق شر الأمم، وقدم لها التأديب، عاد يفتح لها باب الرجاء بعودتها إليه خلال العهد الجديد الذي تدخل فيه في المسيح يسوع ربنا: "وأقيم لك عهدًا أبديًا... وأنا أقيم عهدي معك فتعلمين أني أنا الرب، لكي تتذكري فتخزي ولا تفتحي فاك بعد بسبب خزيك حين أغفر لك كل ما فعلت يقول السيد الرب" [60-63]. هذا هو العهد الأبدي، الذي فيه لا نعود نذكر خطايانا بل نجد فيه غفرانا لكل ما فعلنا فيستريح قلبنا فيه إلى الأبد.       


 

من وحي حزقيال 16

لست واحدًا بين البلايين!

v   الآن عرفت أنني لست واحدًا وسط البلايين!

إني موضع حبك واهتمامك الشخصي!

v   طرحتني خطيتي في الطريق فصرت ككمية مُهملة!

ليس من ينظر إليّ، ولا من يسأل عني!

ليس من يحملني من وسط تراب الطريق ومخاطره!

v   مررت بي، وتطلعت بنظراتك الإلهية عليّ!

أحسست بدفء الحب.

سمعتك تهمس في أذنَّي:

زمنك زمن الحب!

v   حملتني على ذراعيك الأبديتين،

غسلتني في مياه المعمودية،

مسحتني بزيت الميرون،

صرت أنت ثوبي، اختفي فيك!

صرت أكلي وشربي! غناي وثروتي!

فرحي وبهجة قلبي!

أشرقت ببهائك عليّ،

فصارت أعماقي جميلة جدًا جدًا ومجيدة!

v   حسبتني ابنًا لك،

عروسًا مقدسة لك يا ملك الملوك!

جعلتني ملكة،

أجلس في السمويات!

صيرتني عضوًا في جسدك المقدس!

وهيأتني سماءً ثانية لملكوتك المفرح!

v   ترى من يهتم بي مثلك؟!

من لي على الأرض وفي السماء غيرك؟!

إني مشتاق إليك يا عريس نفسي!

<<

 


 

الأصحاح السابع عشر

الكرم والنسران

في هذا الأصحاح يصف السبي خلال أحجية خاصة بالكرم والنسرين:

1. أُحجية الكرم والنسرين            [1-10].

2. تفسير الأحجية                    [11-21].

3. الوعد بالمملكة الجديدة            [22-24].

1. أُحجية الكرم والنسرين:

طلب الرب من حزقيال النبي أن يحاجٌ بيت إسرائيل بأحجية حملت صورة حية ودقيقة لما تم في السبي الأول ليهوذا وما تبعه من أحداث ومواقف.

قال إن نسرًا عظيمًا كبير الجناحين، كثيف الريش ومتنوع الألوان، كثير المخالب[162]، قد رسم[163] أن يدخل لبنان. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن وصف النسر هنا يختلف عن بقية النسور من حيث حجمه الضخم وأجنحته الهائلة ومخالبه القوية، كما أنه مخطط للدخول إلى لبنان، يخلع غصون أرز مختارة ويقتلعها ويذهب بها إلى أرض كنعان، مدينة التجار، المحاطة بأسوار... أنه يحمل الزروع إلى الخارج، ليغرسها في حقل قريب من ماءٍ جارٍ[164].

أوضح الرب إن هذا النسر هو ملك بابل [11]، فهو كبير الجناحين وكثير المخالب رمز لقوة أسلحته وضخامة جيشه[165]. أما كثافة ريشه وتنوع ألوانه فيشيران إلى الممالك الكثيرة التي كانت تحت سيطرته. لقد وضع هذا الملك في قلبه أن يستولى على لبنان التي تُشير إلى مملكة يهوذا.

يقول العلامة أوريجانوس عن نبوخذنصَّر: [لقد كان النسر العظيم، كبير الجناحين، واسع المناكب (حز 17: 3)، إذ تجرأ فقال: "بقدرة يدي صنعت وبحكمتي، لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب، ونهبت ذخائرهم، وحططت الملوك كبطل. فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش، وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض" (إش 10: 13-14)...

لم يكن لهذا النسر العظيم سلطان أن يدخل لبنان... لكنهم إذ أخطأوا عند الرب، انتزعهم هذا النسر العظيم، انتزع فروع الشجرة كلها، ونقلها إلى كنعان حيث يُقال عن أرض البابليين (الملعونيين ككنعان)، إذ يقول نوح: "ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته" (تك 9: 25)].

حوالي عام 597 ق.م دخل نبوخذنصَّر المدينة المقدسة عاصمة يهوذا (رمزيًا لبنان) بعد أن حاصرها ثمانية عشر شهرًا، فماذا فعل الملك؟

أ. أخذ أعلى فرع في الأرز [3] أو بحسب الترجمة السبعينية فروع الأرز المختارة. فإن كانت شجرة الأرز هنا تُشير إلى بيت داود الملوكي، فإن فرعه المختار أو المرتفع هو الملك يهوياقين مع عائلته الذين حملهم إلى بابل.

ب. قصف رأس خراعيبه [4]، أو رؤوس الأغصان الجديدة ودخل بها إلى مدينة التجار، مشيرًا إلى حصده خيرة الشباب من أصحاب مهارات عالية وأبناء الكهنة والأرستقراطيين وجمعهم في شباكه إلى بابل، وترك لهم كمال الحرية في العمل هناك، فقاموا بأعمال تجارية ضخمة أثناء سبيهم.

ج. أخذ من بذار الأرض وألقاها في الحقل خصيب ورواها بمياه كثيرة فصارت كشجر الصفصاف [5]، يستظل تحتها الكثيرون. نبتت البذار وصارت كرمة منتشرة لكنها قصيرة الساق. مالت أغصانها نحو النسر لتضمه إليها لكن أصولها أو جذورها كانت تحته [6].

ما هذه البذار إلا صدقيا الملك ابن أخ يهوياقين الذي أقامه نبوخذنصَّر ملكًا على يهوذا عوض عمه يهوياكين، فإن نبوخذنصَّر لم يحطم المدينة ولا هدم الهيكل إنما اكتفي بأخذ بعض الشباب مع آنية بيت الرب. لقد ترك صدقيا ليرعى الحقل الخصيب بمياه كثيرة ويضم شعبه بعد أن تمت معاهدة وأقسم الملك بعدم الخيانة. وبالفعل بدأت البذار تكبر لتصير كرمة منتشرة، لكنها قصيرة الساق لأنها تحت سيطرة ملك بابل. لقد مالت بأغصانها لتضم النسر، أي دخلت مع الملك في معاهدة، أما جذورها فكانت تحته، علامة سلطانه عليها.

إنها قصيرة الساق وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لم يكن ممكنًا أن تكون إلا قصيرة الساق، تلك التي انبتت في بابل. كيف كان يمكنها أن تحتفظ بقوتها القديمة تلك التي بدأت تصبح كرمة بابلية؟! لقد نقلها النسر العظيم لأنها لم تكن قد أنتجت ثمارًا في المدينة المقدسة. ها هي تستقر في كنعان، فصارت قصيرة الساق، هزيلة. لما كانت في الأرض المقدسة كانت كرمة عظيمة، وإذ نُقلت إلى أرض الخطاة صارت ضعيفة وهزيلة. وأنتِ أيتها الكرمة التي تسمعيني، إن أردتِ أن تكون عظيمة لا تخرجي عن حدود الكنيسة. استقرى في الأرض المقدسة، في أورشليم، وإلا فبسبب خطاياك تصيرين في حالة سيئة، تُنقلي إلى أرض أخرى. تصيرين كرمة هزيلة ويابسة، تسقط ثمارك، وتجف جذورك، فتشتاقي إلى الراحة بالقرب من النسر الآخر[166]].

[لقد أُخذ البعض وحُملوا إلى بابل، هؤلاء الذين كانوا أمراء في الكنيسة، بسبب خطيتهم نُقلوا من قمة لبنان... لنصِلِّ حتى لا يُنقل أحد من أورشليم إلى كنعان، وألا نتجه بعيدًا عن مشيئته حتى لا يُصاب الغصن بالفساد، فيجف الثمر مع الجذور. فإن غرس أورشليم لا يقدر أن يأتي بثمر على أرض أخرى، ولا ينتج زرعًا في أرض غريبة، بل يجف وييبس بثمره ما لم يثبت في مشيئة الرب وفي كنيسته، أي في الأعمال والوصايا وإدراك حقيقة يسوع المسيح[167]].

أما النسر العظيم الآخر فهو فرعون مصر، هو كبير الجناحين رمز لقوة جيشه، ولـه ريش كثيف[168] رمز لضخامة عدد جنوده، لكنه ليس متنوع الألوان، لأنه لا يسيطر على أمم كثيرة مثل بابل، هذا الذي مالت إليه الكرمة بجذورها، واتجهت بأغصانها ليسقيها مع نمو زرعها[169]. هذه الكرمة تشير لصدقيا الملك الذي مال مع غالبية الشعب نحو الالتجاء إلى فرعون مصر ضد نبوخذنصَّر، فخان الملك العهد وحنث بالقسم إذ فكر في الثورة على ملك بابل. وهنا قام حزقيال بتحذير الملك من خطأين: أولهما الحنث بالقسم حتى وإن كان مع ملك وثني، والثاني الاتكاء على ذراع بشر (فرعون مصر) عوض التوبة والرجوع إلى الله من كل القلب. لقد أعلن أن مصير صدقيا سيكون كمصير سابقيه يهوآحاز الذي أُخذ أسيرًا إلى مصر عام 607 ق.م (19: 4)، ويهوياقين الذي أسر إلى بابل (19: 9).

إذ تمرد صدقيا الملك على نبوخذنصَّر بإرساله رسله إلى مصر ليعطوه خيلاً وشعبًا كثيرين [15]، يسأله الله: "هل تنجح؟" [9] وجاءت الإجابة في الحال: "أفلا يقلع أصولها ويقطع ثمرها فتيبس؟! كلٌّ من أوراق أغصانها تيبس، وليس بذراع عظيمة أو بشعب كثير ليقلعوها من أصولها؟! ها هي المغروسة فهل تنجح؟! ألا تيبس يبسًا كأن ريحًا شرقية أصابتها. في خمائل نبتها تيبس؟!" [9-10]. هكذا يؤكد أكثر من مرة أن الكرمة تيبس في جذورها وثمرها، وفي أوراقها كما في خمائل نبتها، أي تجف تمامًا على كل المستويات!

تساؤلات:

يتساءل العلامة أوريجانوس عن سبب دعوة كل من نبوخذنصَّر وفرعون "نسرًا"، وهو من الطيور المكروهة (لا 11: 13)، وفي نفس الوقت يشبه الأبرار والصالحون بالنسور. فقد جاء في الأمثال: "لا تتعب لكي تصير غنيًا، كفّ عن فطنتك؛ هل تطير عينيك نحوه وليس هو؛ لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة؛ كالنسر يطير نحو السماء" (أم 23: 4-5)؛ (فالإنسان البار يعتني لا بفطنته إنما يصنع لنفسه جناحي نسر، هما الإيمان والأعمال أو محبة الله ومحبة الناس، بهما يطير إلى السماء ليستقر بنعمة الله في الحضن الإلهي) كما قيل أيضًا: "وأما منتظروا الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون" (إش 40: 31).

يقول العلامة أوريجانوس: [إن كان النسر مكروهًا وملعونًا فلا يليق بنا أن نتخذ أجنحة كأجنحة عندما نكون صالحين، وإن ازدادت ثروات الأغنياء، فلا ينبغي أن يصنعوا لأنفسهم أجنحة كالنسور[170]] فلماذا استخدم النسر تشبيهًا للصالحين؟

يجيب على هذا التساؤل، قائلاً:

[يوجد في الكتاب المقدس أسماء لبعض الحيوانات يمكن اعتبارها خيّرة وشريرة في نفس الوقت...

فمثلاً الأسد له جانبان: جانب خيِّر "يهوذا جرو أسد، من فريسة صعدت يا ابني... جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه؟!" (تك 49: 9). وجانب شرير: "لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9). علاوة على هذا، فإن الماكر المخادع إذ يرغب في الوقوف بنا وسقوطنا: "يكمن في المختفي كأسد في عرينه يكمن ليخطف المسكين" (مز 10: 9).

إذن، كما رأينا يمكن اعتبار الأسد من جانبين: أحدهما خيِّر والآخر شرير، هكذا أيضًا النسر...

الصالح ليس نسرًا، وإنما كالنسر، لأنه ينافس النسر.

وبالمثل الحية النحاسية (عد 21: 8) كانت رمزًا للمخلص، لأنها لم تكن حية حقيقية بل شبيهة بها. إنها تُشير إلى المخلِّص: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان" (يو 3: 14)... ومن وفي موضع آخر يؤمر الإنسان الصالح أن يكون حكيمًا كالحيات (مت 10: 16)، لا أن يصير هو نفسه حية، وذلك بالطبع لكي يتجنب اكتساب خداع الحية الحقيقية...

النسر والأسد ضمن الكائنات الطاهرة إذ نجد للشاروبيم "وجه إنسان ووجه أسد لليمين لأربعتها، ووجه ثور من الشمال لأربعتها، ووجه نسر لأربعتها" (حز 1: 10)... إنهما طاهران، لأنه ليس شيء دنسًا في حضرة الله.

وأنت أيها المؤمن قد صرت طاهرًا، وما صيَّره الله طاهرًا لا تجعله أنت دنسًا. هكذا قيل لبطرس الرسول عن كل شيء: "ما طهره الله لا تدنسه أنت" (أر 10: 15).

هكذا أعلن أيضًا عن طهارة الأسد والنسر اللذين ظهرا مع الشاروبيم. علاوة على هذا فإن التنبؤ عن مجيء المسيح يتم بالتعرف على الأسد الطاهر والنسر الطاهر... "فيسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والأسد كالبقر يأكل تبنًا" (إش 11: 6)، وذلك عندما يتحقق ذلك بالإيمان بالمسيح، حيث تتحد الطبائع المختلفة فيما بينها، فلا يكون الأسد مكروهًا، إنما ينسى وحشيته. وكل الحيوانات التي يُقال عنها أنها مكروهة في شريعة الله تتسلم مرة أخرى طبيعة حالتها القديمة في بدء الخليقة. وقد بدأ هذا التحول بالفعل ويتحقق عند المجيء الثاني...

لا تندهش إذن كثيرًا إن كان قد شُبه كل من فرعون ونبوخذنصَّر أنهما كالنسر[171]...].

2. تفسير الأحجبة:

لم يترك الرب الأحجبة غامضة بل قدم للبيت المتمرد [12] تفسيرها حتى لا يكون لهم عذر في اندفاعهم على الاتكال على فرعون مصر وجيوشه، وقد ركز في التفسير على خطورة كسر العهد ونقضه والحنث بالقسم حتى وإن كان مع ملك وثني، مما اضطر الرب نفسه إلى التدخل لتأديبهم بالهزيمة. لقد أكد أن الخراب لا يتم بقوة بشرية بل قام الله نفسه ضدهم لتأديبهم. إنه يؤكد:

"فهل تنجح؟!

هل يفلت فاعل هذا أو ينقض عهدا ويفلت؟!

حي أنا يقول السيد الرب إن في موضع الملك

الذي ملكه الذي ازدرى قسمه ونقض عهده فعنده

في وسط بابل يموت.

ولا بجيش عظيم وجمع غفير يعينه فرعون في

الحرب بإقامة مترسة وببناء برج لقطع نفوس كثيرة.

إذ ازدرى القسم لنقض العهد وهوذا قد أعطى يده

وفعل هذا كله فلا يفلت.

لأجل ذلك هكذا قال السيد الرب. حيّ أنا إن قسمي

الذي ازدراه وعهدي الذي نقضه أردهما على رأسه،

وأبسط شبكتي عليه فيؤخذ في شركي وآتي به إلى

بابل وأحاكمه هناك على خيانته التي خانني بها، وكل

هاربيه وكل جيوشه يسقطون بالسيف، والباقون يذرون

في كل ريح فتعلمون أني أنا الرب تكلمت" [15-21].

هكذا اعتبر الله أن القسم قسمه هو، والحنث به إهانة له شخصيًا، فلا يقدر فرعون بكل جيوشه أن ينقذه من يد الرب ولا من يد نبوخذنصَّر، وأن الذي يصطاده في شبكته هو الرب، فيحمله إلى بابل ليموت هناك مقابل خيانته للعهد. سيسقط هو ومشيروه وجيشه بالسيف وبقية الشعب يُسبى، ويشتت في كل ريح[172]!

لهذا حذرنا السيد المسيح من القسم نهائيًا بقوله: "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوفِ للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البته، لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير" (مت 5: 33-37).

لقد حذر القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا من استخدام القسم، فمن كلماته:

[إني مستعد اليوم لا أن أظهر دمار بيت أو أثنين أو ثلاثة بسبب القسم بل دمار مدينة بأسرها وشعب محبوب من الله كان يتمتع دائمًا بالكثير من الرعاية الإلهية وجنس هرب من مخاطر كثيرة، أورشليم نفسها، مدينة الله، التي كان بها الهيكل المقدس وكل الخدمة الإلهية، التي وجد فيها الأنبياء ونعمة الروح والتابوت ولوحا العهد والإناء الذهبي، والتي كانت الملائكة كثيرًا ما تفتقدها... قد هلكت فقط بسبب قسم[173]].

[ليس القسم هو الذي يجعل الإنسان موضع ثقة، إنما شهادة حياته واستقامة كلماته وحسن صيته. كثيرون يفتحون حناجرهم بالقسم ومع ذلك لا يقدرون أن يقنعوا أحدًا بالثقة فيهم، وآخرون مجرد يعبرون عن قبولهم الشيء يكونون مستحقين التصديق أكثر من الذين يقسمون كثيرًا[174]].

[حقا أن متاعب القسم عظيمة للغاية...

إذ نعرف ذلك فلنتجنب القسم، وليمارس فمنا على الدوام القول "صدقني" فيصير هذا ينبوعًا لكل سلوك ورع. فإنه إذ يتدرب اللسان على استخدام هذا التعبير وحده يصير في حياء ويخجل من أن ينطق بكلمات شريرة ورديئة[175]].

[عندما نمتنع عن القسم نهائيًا نغلق أمام (الشيطان) المدخل تمامًا، فإذا نطقنا بقسم واحد نقدم له فرصة ليسبب لنا مضارًا بلا نهاية[176]].

ويطالبنا القديس يوحنا الذهبي الفم ليس فقط ألا نقسم بل ولا نطالب الآخرين أن يقسموا، إذ يقول:

[أسألك، هل أنت في شك بخصوص أمور مالية، فتقتل نفس (أخيك بطلبه أن يقسم)؟!...

إن كنت تعتقد أنه صادق فلا تلزمه أن يقسم، وإن كنت تعرف أنه كاذب فلا تجبره على ارتكاب القسم كذبًا[177]].

3. الوعد بمملكة جديدة:

إن كان الدخول مع ملك بابل في معاهدة قد أعان يهوذا إلى حين، فصارت كشجر الصفصاف وككرمة منتشرة لكنها قصيرة الساق [5-6]، وإن كان الالتجاء إلى فرعون مصر قد حطمها تمامًا، فلهذا لا خلاص للإنسان بذراع بشرى. لابد أن يتدخل الله نفسه ويغرس كرمته بيديه، يغرسها فيه هو الجبل العالي المتشامخ فلا يقدر العدو أن يقترب إليها. "هكذا قال السيد الرب: وآخذ أنا من فرع الأرز العالي وأغرسه وأقطف من رأس خراعيبه غصنا وأغرسه على جبل عال وشامخ" [22]. إنه يأخذ من فرع بيت داود (الأرز)، حيث يتجسد السيد المسيح بن داود فيغرس الكنيسة فيه! إنه رأس الأغصان الجديدة، هو الغصن المغروس لا بذراع بشري  ولا من بذار بشرية، لكنه كلمة الله المولود قبل كل الدهور يتجسد في جبل إسرائيل العالي، ويظهر كغصن مثمر، ويصير أرزًا كبيرًا يسكن تحته المؤمنون من كل لون ومن كل قبيلة ولسان وأمة. يطيرون إليه بالروح القدس ويستقرون في ظل أغصانه [23]!

هكذا وسط النبوات المظلمة والتأديبات القاسية يشرق الرب عليهم بالرجاء في الخلاص بذراع إلهي من خلال المسيا، الملك الحقيقى، من نسل داود، الذي يضم في جسده أعضاء من كل الشعوب!

الله الذي سمح لهم بالنسرين: ملك بابل وفرعون مصر لتأديبهما، يحملهما كما بجناحي نسر لا ليدخل بهم إلى أرض الموعد، وإنما ليحمل البشرية من كل الأمم إلى حضن الأب، في أورشليم العليا، حيث لا تقدر النسور أن تخطف!

 


 

من وحي حزقيال 17

احملني كما بجناحي نسر!

v   قديمًا حَملتَ شعبك من عبودية فرعون كما بجناحي نسر،

وأتيت بهم إليك،

ودخلت بهم إلى أرض الموعد!

لكنهم إذ تركوك صاروا فريسة النسور!

حملهم نبوخذنصَّر كنسر يلتهمهم،

لجأوا إلى فرعون مصر، فإذا به كنسر يخطفهم!

الآن قد أتيت إلى عالمنا البشرية المؤمن بك،

تحملهم كما بجناحي نسر إلى حضن أبيك!

v   إلهي... كم أنا محتاج إليك!

هوذا خطاياي أثارت النسور عليّ!

هربت من بين يديك فصرت فريسة رخيصة!

تعال أيها العجيب في حبك،

احملني فيك، واخفيني، واستر عليّ!

هب لي جناحي حمامة فأطير إلى السماء!

هب لي روحك القدوس عاملاً فيها!

لتحملني إلى حضن أبيك أيها القدوس!

كم أنا مشتاق إليك يا صخرة نفسي!

<<

 


 

الأصحاح الثامن عشر

المسئولية الشخصية

في الأصحاح الرابع عشر تحدث عن مسئولية الإنسان الشخصية عما يرتكبه من آثام أو يفعله من برّ، فالنبي الكاذب إذ يضل يكون إثمه عليه، وكل فرد من الشعب يسأل نبيًا كاذبًا أو يرتكب إثمًا يحمل إثم نفسه. وأكد أنه متي عاقب الرب المدينة لشرها فإن وجد "نوح ودانيال وأيوب" يخلصون أنفسهم ولا يخلصون الشعب ولا حتي أبناءهم أو بناتهم. أما هنا فيتحدث عن التزام كل إنسان بما يفعله بغض النظر عن والديه وسلوكهما، أو ماضيه وما كان عليه، مقدمًا أمثلة لذلك:

1. المسئولية شخصية                [1-9] .

2.  ابن شرير لأب بار                    [10-13] .

3.  ابن بار لأب شرير                    [14-20] .

4. رجوع الإنسان عن طريقه           [21-32].

1.  المسئولية الشخصية:

في هذا الأصحاح عالج الرب المثل الشائع بين الشعب اليهودي: "الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست" [2]. فقد شعروا أن ما يحل عليهم من غضب إلهي إنما هو ثمرة شر آبائهم الذين أدخلوا العبادة الوثنية إلي المقدسات الإلهية. لكن الرب أراد أن يؤكد أنه لن يجازي إنسانًا من أجل خطايا والديه. وأن ما يسمح به من تأديب فهو من أجل ما يصنعه الناس في ذلك الوقت.

سبق أن عالجنا هذا الموضوع أثناء تفسير سفر الخروج، إذ يقول الرب: "لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ" (خر 20: 5). رأينا أن الله لا يعني بهذا أنه يُحمِّل جيلاً ما خطايا الأجيال السابقة، لكنه في محبته يطيل أناته علي جيل وجيلين لعلهم يتوبون، فإن لم يتوبوا يحمِّل الجيل الثالث وأيضًا الرابع التأديب لأنهم لم يتوبوا عن طريق آبائهم، إذ يسميهم "من مبغضيَّ أما إذا تابوا عن طريق آبائهم فلا يحسبون أبناء للأشرار بل يصير الله نفسه أباهم، فينعموا بنعمته.

v   النفس التي لا تسكن في الله هي مصدر شرورها، فتخطئ، والنفس التي تخطئ هي نفسها تموت[178].

القديس أمبروسيوس

ليس لدي الله محاباه، نفس الأب كنفس الإبن، أو كما يقول: "ها كل النفوس لي. نفس الأب كنفس الابن، كلاهما لي. النفس التي تخطئ هي تموت" [4]... هنا نتسأل:

أولاً: ألا يرث الإنسان شيئًا من ضعفات أبيه؟

ثانيًا: هل تموت النفس؟

أولاً: ألا يرث الإنسان شيئًا من ضعفات أبيه؟

لا يتجاهل الكتاب المقدس أثر الوالدين علي حياة الإنسان، فالإنسان الذي يولد في بيت مقدس، يتربي بين أبوين تقيين، يجد إمكانية تساعد علي نمو حياته الروحية، وانطلاق نفسه للحياة مع الله. وبالعكس إذا وجد أب شرير وأم شريرة إن لم يشجعا ابنهما علي الخطيئة والشر فلا أقل من أن يقفا عثرة أمام نموه الروحي. ومع هذا فكثير من الأبناء أحبوا الشر بالرغم من تقوي والديهم مثل ابني عالي الكاهن، وأيضًا من الأبناء من أحبوا البر بالرغم من شر آبائهم. البيئة التي يحيا فيها الإنسان قد تكون صالحة أو شريرة لكنها لا تلزمه بالصلاح أو الشر. بل إن الإنسان نفسه قد يبدأ حياته بالشر ثم يعود فيكمل طريقه مع الله، وقد يبدأ بالروح ليعود فيسقط في الشر ويعيش في الخطيئة. لهذا قدم لنا هذا الأصحاح أربعة أمثلة: من كان شريرًا لأب بار، ومن كان بارًا لأب شرير، ومن كان بارًا ثم انحرف أو العكس. وقد تم ذلك في ملوك يهوذا. فحزقيال الملك الصالح كان خادمًا مكرسًا "عمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمله داود أبوه" (2 أي 29: 2) افتتح حكمه بترميم الهيكل وتطهيره وأزال المرتفعات وطرح التماثيل... أما أبوه آحاز فقد تعلق قلبه بحب الأصنام من أول حكمه وأجاز ابنه في النار وذبح علي المرتفعات (2 مل 16: 3-4) بل وأغلق أبواب رواق الهيكل وأطفأ السرج ولم يوقد بخورا ولا أصعد محرقة لله الحي (2 مل 29: 7). أما منسي بن حزقيا فأضل شعبه عن الحق، وجعلهم يذبحون لكل جند السماء، وعملوا ما هو أقبح من كل الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل ( 2 مل 21: 2-9) وإن كان في أواخر أيامه أصلح الكثير مما أفسده (2 أي 33: 1-20).

ثانيا: هل تموت النفس؟

يميز القديس جيروم[179] بين قول المرتل: "أي إنسان يحيا ولا يري الموت؟!" (مز 88/89: 49)، وما جاء في حزقيال النبي: "النفس التي تخطئ هي تموت" [4]، قائلاً: [إن هناك فارقًا بين رؤية الموت وتذوقه، فإن من يري، يري بالتأكيد لكنه لا يتذوقه، ومن يتذوقه بالضرورة يراه]. يقصد بهذا كل البشرية تري الموت، موت الجسد، لكن من كانت نفسه مقدسة في الرب يري موت جسده لكنه لا يذوق الموت إذ هو حامل قوة قيامة المسيح عاملة فيه.

v     كما يوجد موت الجسد يوجد موت للنفس... موت النفس علي أي الأحوال ليس كموت الجسد، إنه مفزع للغاية. موت الجسد هو انفصال النفس عن الجسد، الواحد عن الآخر، فيعتق الإنسان من الاهتمامات المعلقة والأتعاب وينقل الآخر (النفس) إلي مسكن واضح. عندئد إذ ينحل الجسد ويتحلل يعود فيجُمع من جديد في عدم فساد ويتقبل النفس التي له مرة أخري. هذا هو موت الجسد، أما موت النفس فمخيف ومرعب. ففيه إذ يحدث انحلال لا تنتهي النفس كالجسد إنما ترتبط بالجسد مرة أخري ولا تفني بل تلقي معه في نار لا تُطفأ.

القديس يوحنا الذهبي الفم[180]

v     هذا الموت (للنفس) ضده وعدوه ذاك القائل: "أنا هو الحياة" (يو 14: 6).

العلامة أوريجانوس[181]

v     حسب الكتب المقدسة نحن نتعلم أنه يوجد ثلاثة أنواع من الموت:

موت عندما نموت عن الخطيئة ونحيا لله. مبارك هو هذا الموت الذي به نهرب من الخطيئة ونتكرس لله، فيفصلنا عما هو مائت ويقدسنا لذاك الذي هو غير مائت.

والموت الآخر هو الرحيل عن هذه الحياة كما مات الأب إبراهيم والأب داود ودفنا مع آبائهما، عندما تتحرر النفس من قيود الجسد.

والموت الثالث هو ما قيل عنه  "دع الموتي يدفنون موتاهم" (مت 8: 22). بهذا الموت لا يموت الجسد فقط بل والنفس أيضًا، لأن "النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 4) تموت عن الرب لا من خلال ضعف الطبيعة وإنما من خلال ضعف ارتكاب المعصية. هذا الموت ليس تركا لهذه الحياة بل هو السقوط في الخطأ.

إذن الموت الروحي شيء، والموت الطبيعي آخر، والثالث هو الموت العقوبة.

القديس أمبروسيوس[182]

يري القديس أكليمنضس الاسكندري أن الكلمات الواردة بهذا الأصحاح [4-9] "تحوي وصفًا لسلوك المسيحيين، حيث يحثنا الله بنبل علي الحياة المطوَّبة التي هي مكافأة حياة الصلاح، الحياة الأبدية"[183]. فقد شمل هذا الوصف الجوانب الإيجابية والسلبية في حياة المؤمن:

أ. يليق بالمسيحي أن يسلك في البر، يفعل الحق والعدل [5]، لا يأكل علي الجبال التي تدنست بذبائح الوثنيين ولا يرفع عينيه إلي أصنامهم. هكذا يتقدس بالكلية، يتقدس في قلبه بالبر والحق والعدل، ويتقدس في أكله بامتناعه عن الاشتراك في الولائم الوثنية، بل ويتقدس في نظرات عينيه، فلا يرفع عينيه إلي أصنامهم. يتقدس بالعمل الايجابي الذي هو فعل البر وحب الحق والعدل، وسلبيًا بامتناعه عن كل ما هو شر...

ب. المسيحي لا يُنجس امرأة قريبه ولا يقرب من زوجته متي كانت طامثًا، يحب القداسة في حياته الداخلية وفي جسده كما في الآخرين، إنه لا يشتهي امرأة أخيه...

ج. لا يمارس ظلمًا ضد أحد لا بإعطائه الآخرين حقوقهم الشرعية فحسب، إنما يعطي الفقير حقه في مشاركته احتياجاته، ويهب العريان حقه في مشاركته ثيابه، ويقدم للمدين المحتاج حق الحب والرحمة فلا يطلب منه ربا، كما يقدم للآخرين حق مساندة المظلوم ضد الظالم، فلا يقف في سلبية بل "يجري العدل الحق بين الإنسان والإنسان" [8].

د. أما سر حياته البارة فهو دخوله في الوصية الإلهية، إذ يقول الرب: "سلك في فرائضي وحفظ أحكامي ليعمل بالحق فهو بار" [9].

2. ابن شرير لأب بار:

أول مثل قدمه الرب عن المسئولية الشخصية هو الابن الشرير للأب البار إنه "لا يحيا؛ قد عمل كل هذه الرجاسات فموتًا يموت. دمه يكون علي نفسه" [13]. بر أبيه لا ينقذه من ثمر رجساته بل موتًا يموت.

كتب القديس جيروم إلي الشماس سابنيانُس Sabinianus يحثه علي التوبة هكذا: [ربما تغتر في نفسك أن الأسقف الذي سامك رجل قديس، فتظن أن استحقاقاته تكفر عن معاصيك. لقد سبق فقلت لك إن الأب لا يُعاقب عن ابنه ولا ابن عن أبيه. النفس التي تخطئ هي تموت[184]].

3. ابن بار لأب شرير:

لقد ظن الشعب في أيام الملك صدقيا أنهم أبر من الشعب في أيام الملك منسي فشعروا أنهم يتحملون إثم آبائهم، لكن الرب يؤكد هنا: "إن وَلد ابنا رأى جميع خطايا أبيه التي فعلها فرآها ولم يفعل مثلها... فإنه لا يموت بإثم أبيه، حياة يحيا. أما أبوه فلأنه ظلم واغتصب أخاه اغتصابًا وعمل غير الصالح بين شعبه فهوذا يموت بإثمه" [14-19].

إذ يرتكب الإنسان إثما يفقد حياته كقول القديس غريغوريوس النيصي: [الخطيئة ليست إلا تغربًا عن الله الذي هو الحياة الحقيقية وحده[185]].

لكن ربما يتساءل البعض، كيف لا يحمل الابن البار إثم ابيه وقد قيل: "ليذكر إثم آبائه لدي الرب ولا تمح خطيئة أمه" (مز 109: 14)؟

يُجيب القديس أغسطينوس: [هل يفهم أنه يحل بالإنسان حتي إثم آبائه؟ الذين يتحولون في المسيح لا يحل عليهم إثم آبائهم، إذ لا يعودون بعد أبناء للأشرار لكونهم لم يتمثلوا بسلوكهم. لذلك يُضاف للكلمات: "افتقد ذنوب الآباء في الأبناء... من مبغضيَّ" (خر 20: 5)، أي الذين يبغضونني كما أبغضني آباؤهم[186]].

4. رجوع الإنسان عن شره:

قلنا إن الرب أراد بحديثه هنا أن يدفع شعبه نحو التوبة، بعدم ارتباكهم بسبب خطايا آبائهم، بل وأيضًا عدم ارتباكهم بخطاياهم الشخصية السابقة أو الحالية إن قدموا توبة صادقة، إذ يقول: "فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقًا وعدلا فحياة يحيا. لا تموت" [21]. يعتبر البعض هذه العبارة هي مركز السفر كله، أثمن عبارة وردت فيه، إنها دعوة قوية للتوبة! "هل مسرةً أُسر بموت الشرير، يقول السيد الرب، إلا برجوعه عن طريقه فيحيا؟!" [23] إنه يفتح باب الرجاء علي مصراعيه لكي لا تهلك نفس واحدة بروح اليأس القاتل.

لقد وجد الآباء الكنسيون في هذا الأصحاح حقلاً خصبًا يدخل إليه كل ساقط يائس ليأكل من ثمر التوبة فيمتلئ رجاءً، كما يقدم تحذيرات واضحة للنفوس القائمة لئلا تفقد بتهاونها كل تعبها الماضي. وفيما يلي بعض تعليقات الآباء:

v   بالتشجيع يخفف من ثقل الخطايا ويقلل من الشهوات، باعثًا الرجاء في الخلاص.

القديس اكليمنضس الاسكندري[187]

v   من أجل الذين هم في خطر اليأس قدم لهم ملجأ الغفران، ومن أجل الذين هم في خطر الرجاء (الاستهتار) وهم يماطلون بالتأجيل جعل يوم الموت غير أكيد.

القديس أغسطينوس[188]

v   إن سمعوا هذا الصوت وآمنوا به يشفوا من اليأس، ويقوموا من الهوة التي لا نهاية لأعماقمها التي سقطوا فيها.

القديس أغسطينوس[189]

v   نحن لا نيأس من إنسان مادامت أناة الله تقتاد الأشرار إلي التوبة، فلا نطرده من هذه الحياة.

القديس أغسطينوس[190]

v   لا تيأس من الخلاص. تذكر ما هو مكتوب في الكتاب المقدس أن الساقط يقوم والضال يعود (إر 8: 4) والمجروح يشفي، والذي سقط فريسة للوحوش يفلت، والذي يقر بخطاياه لا يحتقر... إنه وقت للاحتمال وطول الأناة، وقت للشفاء والتصحيح، فهل تعثرت؟ قم! هل أخطات كف عن الخطيئة!

القديس أغسطينوس[191]

v   التوبة هي "حياة" أفضل من الموت...

لتسرع إليها أيها الخاطئ، وتحتضنها كما يحتضن الغريق بعض العوارض فتنشلك من الغرق وسط أمواج الخطايا، وتحملك إلي الميناء الإلهي المملوء حنوًا.

العلامة ترتليان[192]

v     مادام ما يقوله الرب هو حق، عندما اتوب ينسي كل خطاياي الماضية وكل آثامي لماذا تخيفنني؟

الله يعدني بالغفران، فهل تسقطني أنت في اليأس؟

الأب قيصريوس أسقف آرل[193]

في الوقت الذي فيه فتح أبواب الرجاء بكل قوة أمام الخطاة لكي يتوبوا إذا به يحذر القيام لئلا يسقطوا، قائلاً: "وإذا رجع البار عن بره وعمل إثمًا وفعل مثل كل الرجاسات التي يفعلها الشرير أفيحيا؟! كل بره الذي عمله لا يذكر في خيانته التي خانها وفي خطيته التي أخطأ بها يموت" [24]. وكما يقول القديس أنبا أنطونيوس: [ليتنا نثبت في تدريبنا كل يوم، عالمين أننا إذ نهمل لمدة يوم واحد لن يغفر لنا الرب من أجل الماضي، بل يحل غضبه علي إهمالنا... فقد أفسد يهوذا جهاده الماضي بسبب ليلة واحدة[194]].

ويقول القديس باسيليوس الكبير: [متي حدث تغير يصير تعب البار باطلاً كما لا يُلام الخاطئ وذلك بانحراف الأول عما هو حسن إلي ما هو أشر، وميل الثأني عما هو شر إلي ما هو أفضل[195]].

لكن ألا تعتبر هذه العبارة قاسية وعنيفة؟ يُجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد أظهر الله حتي في هذا الأمر عظمة حنو محبته، مقدمًا لنا هذه الأمور المرعبة لكي يقيمنا ويوقظ فينا شهوة الملكوت[196]] ويقول القديس اكليمنضس الاسكندري: [إن عقوبات الله هي للخلاص، والتأديب يقودنا إلي التوبة، إذ يشتاق الله إلي التوبة أكثر من موت الخاطئ[197]].

"لأني لا أُسر بموت من يموت يقول السيد الرب. فارجعوا واحيوا" [32].

هذه الكلمات ينطق بها الله لك إن كنت بائسًا: "لأني لا أُسر بموت شرير".

حتي أن كنت تريد موتك، فأنا لا أريد ذلك.

إنك لم تخلق نفسك، لكنك باليأس تهلك.

علي أي الأحوال، لقد خلقك الله حين لم تكن موجودًا، بعد ذلك هو بحث عنك عندما ضللت، ووجدك خلال دم ابنه وخلصك.

هو نفسه يدعوك: ارجع من هاوية اليأس. تعال، فإنني لا أشاء موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا...

لا تفقد الثقة بسبب اليأس من جهة خطاياك، وفي نفس الوقت لا تثق في طول الحياة. لذلك تب... لماذا لا تتب اليوم ؟

الأب قيصريوس أسقف آرل[198]

يري العلامة أوريجانوس في هذا الحديث الإلهي الخاص بإمكانية رجوع الخطاة إلي الله وبتحذير القائمين من السقوط، تأكيد خطأ القائلين بوجود طبائع مختلفة تخلق هكذا، موضحًا أنه يمكن للخاطئ أن يصير صالحًا والعكس بالعكس[199].


 

من وحي حزقيال 18

لم تخلقني لأموت!

v   خلقتني كملك أحيًا في العالم - قصري الملوكي!

لم تخلقني لأموت، بل لأحيا بك ومعك!

v   عجيب أنت يا رب في حبك لي،

فإنني حتي إن طلبت الموت أنت تُريد حياتي!

أني لا أعرف ما هو لبنيأني ومجدي!

أما أنت فتعرف كل ما هو لحياتي يا خالقي!

v   إنك لا تشاء موتي بل حياتي،

لا تحاسبني علي أخطاء آبائي،

ولا تجرح مشاعري عن خطايا تركتها،

انك عجيب في اهتمامك بي!

v   أنت مخلص النفوس من الفساد،

أنت وحدك تقدر علي تجديد طبيعتي يا مخلصي!

<<

 

 


 

الأصحاح التاسع عشر

مرثاة على الملوك

كشفت الأصحاحات السابقة خطايا الشعب ورجاساتهم، والآن يفضح الرب شرَّ ملوكهم.

1. اللبوة وشبلاها           [1-9].

2. الكرمة المقتلعة         [10-14].

1. اللبوة وشبلاها:

إذ يقدم مرثاة على ملوك يهوذا خاصة الملكين يهوآحاز الذي لقى مصيره المحزن بسبيه إلى مصر عام 608 ق.م بعد مُلك دام 3 شهور، والملك يهوياكين الذي أسر إلى بابل عام 597 ق.م بعد مُلك دام أيضًا حوالي 3 شهور.

في هذه المرثاة نُلاحظ:

أ. أنه لا يقول "مرثاة على رؤساء يهوذا" أو "ملوك يهوذا" بل على "رؤساء إسرائيل"... فإن ما يصيب أحد المملكتين إنما يصيب الشعب كله. الله يتطلع إلى البشرية المؤمنة كشعب واحد، إن تألم عضو تتألم معه بقية الأعضاء، "وإن كان عضو واحد يكرم فجميع الأعضاء تفرح معه" (1 كو 12: 27). لم يسيء هذان الملكان إلى نفسيهما وحدهما بتصرفاتهما الخاطئة، ولا إلى مملكة يهوذا وحدها، بل إلى كل إسرائيل الذي كان يمثل شعب الله في ذلك الحين، هكذا حين يضعف عضو فينا إنما يضعف معه الجسد كله، وبتوبة أحد الأعضاء تفرح له كل السماء! عبادتنا هي علاقة شخصية مع الله لكنها ليست فردية، أي غير منعزلة عن الجماعة المقدسة، سواء المجاهدة أو المنتصرة أو حتى عن الأعضاء القادمين في المستقبل. إنها كنيسة واحدة متفاعلة معًا بالحب وروح الوحدة

ب. "وقل ما هي أمك؟ لبوة ربضت بين الأسود، وربَّت جراءها بين الأشبال" [2]. إنها ملكة تربض بقوة بين الملوك، أما تشبيهها باللبوة لا الأسد، فلأنها ملكة تنجب ملوكًا وتربيهم "ربت واحدًا من جرائها فصار شبلاً وتعلم افتراس الفريسة. أكل الناس. فلما سمعت به الأمم أُخذَ في حفرتهم فأتوا به بخزائم إلى أرض مصر" [3-4]. إنه يهوآحاز الذي تربى في أسرة ملكية وصار ملكًا وتعلم الحرب ، ولكنه عوض أن يُحارب لحماية شعبه حارب أولاده ليأكلهم. صار يعمل لحساب ذاته لا لحساب المملكة التي ربته وأقامته ملكًا. لقد أثبت أنه ضعيف، مجرَّد من المبادئ الأخلاقية، سباه فرعون نخو ونزل به إلى مصر ولم يعد قط إلى أرضه.

على أي الأحوال إنه شبل، لم يحمِ شعبه ولا حتى نفسه، بل صار يفترس رعيته...

ما أصعب أن ينقلب الراعي إلى ذئب، وعوض أن يحمى خرافه يذبحهم ليشبع هو! كان يجب أن يقدم حياته ذبيحة حب عن شعبه لا أن يذبح شعبه لأجل كرامته أو مصالحة الخاصة. في هذا يقول الأب افراهات: [تمثلوا براعينا الحلو (يسوع) الذي لم تكن حياته أعز عليه من خرافه. هذبوا الصغار، أحبوا الحملان، واحملوهم في أحضانكم، حتى متى مثلتم أمام الراعي الأعظم تقدمون القطيع كاملاً، فيهبكم ما وعدكم "حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا[200]].

ويقول القديس أغسطينوس: [ليتنا لا نحب ذواتنا بل نحبه هو، وبرعايتنا لغنمه نطلب ما له وليس ما لنا... لأنه من لا يقدر أن يحيا بذاته يموت بالتأكيد إن أحب ذاته. وهو بهذا لا يكون محبًا لنفسه، إذ بحبه لنفسه يفقد حياته...

ليت رعاة القطيع لا يكونون محبين لذواتهم لئلا يرعوا القطيع كما لو كان ملكًا وليس بكونه قطيع المسيح،

فيطلبون ربحًا ماديًا بكونهم "محبين للمال".

أو يتحكمون في الشعب بكونهم منتفعين،

أو يطلبون مجدًا من الكرامة المقدمة لهم بكونهم متكبرين،

أو يسقطون في هرطقات كمجدفين،

ويحتقرون الآباء القديسين كعصاة على الوالدين.

ويردون الخير بالشر على ما يرغبون في إصلاحهم حتى لا يهلكوا بكونهم ناكرى المعروف.

ويقتلون أرواحهم وأرواح الآخرين كمن هم بلا رحمة،

ويحاولون تشويه شخصيات القديسين كشهود زور،

ويطلقون العنان للشهوات الدنيئة كغير طاهرين،

ويشتكون دائمًا... كغير رحماء.

ولا يعرفون شيئًا عن خدمة الحب كمن لا عطف فيهم،

ويُقلقون البشرية بمناقشاتهم الغبية كعنيدين،

ولا يفهمون ما يقولونه أو ما يُصرّون عليه كعميان،

ويفضلون المباهج الجسدية عن الفرح كمحبين للذات أكثر من حبهم لله.

هذه وغيرها من الرذائل المشابهة، سواء كانت كلها في مجموعها تظهر في شخص واحد، أو أن إحداها تسيطر على شخص وغيرها على آخر، فإنها تظهر بشكل أو آخر من منطلق أن يكونوا محبين لأنفسهم. هذه الرذيلة التي يلزم أن يتحفظ منها من يرعون قطيع المسيح، لئلا يطلبوا ما لذواتهم وليس ما ليسوع المسيح، ويستخدمون من سفك المسيح دمه لأجلهم لأجل تحقيق شهواتهم[201]].

لقد افترس يهوآحاز غنمه عوض أن يدافع عنهم ويبذل حياته من أجلهم فصار هو فريسة الأمم؛ سقط في فخاخهم واقتيد أسيرا إلى مصر. إن من يرعى ذاته على حساب إخوته وعلى حساب خلاص نفسه يفقد حتى متعته الجسدية وكرامته الأرضية.

تكرر الأمر مع ملك آخر "يهوياكين" الذي لم يكن أفضل من السابق بل أكل شعبه وخرَّب مدنهم بتصرفاته الشريرة فأقفرت الأرض بسببه، فأسر إلى بابل.

2. الكرمة المقتلعة:

بعد أن قدم مرثاة على هذين الملكين بدأ يقدم مرثاة على شعب الله الذي كان ككرمة مغروسة على مياه النعمة الإلهية فكانت "مثمرة مفرخة من كثرة المياه" [11]. لم تقف أمامها الأمم بل ارتفع ساقها وكثرت أغصانها... لكنها إذ تركت عنها إلهها وارتدَّت إلى الوثنية أقتلعت من أرضها ونقلت إلى بابل فيبست برياح التأديب وفقدت ثمارها بخطاياها المتكاثرة... صارت أغصانها وقودًا ودخلت إلى حالة ضعف شديد، وليس من يسندها! هذه هي مرثاة كل إنسان يترك طريق الرب ويجرى وراء شهوات قلبه وملذات جسده يُحرم من التمتع بمياه الروح القدس الواهبة الحياة والمعطية ثمارًا، وينقل من مركز البنوة لله ليصير بقلبه الشرير وحياته الرديئة في أرض العدو (إبليس) غريبًا وأسيرًا، تتحطم أغصانه لتصير وقودًا تأكلها النيران، وتجف نفسه تمامًا كأرض قفرة!


 

من وحي حزقيال 19

رد لي ملوكيتي!

v   تحول ملوك إسرائيل من رعاة إلى ذئاب!

افترسوا الرعية، ومارسوا حب السلطة!

طلبوا ما لذواتهم لا ما لشعبهم!

فهلكوا، وفقدوا كل غنى ولذة وكرامة!

v   إني أشكو لك نفسي!

نسيت ملوكيتي وتحوَّلت إلى الافتراس،

لم أطلب الحب، ما هو للآخرين بل ما هو لذاتي!

ردُ لي طبيعة الملوكية يا ملك الملوك!

علمني الحب فأصير ملكة!

<<

 

 

 


 

الأصحاح العشرون

تمردهم المستمر

إذ قدم مرثاة على الملوك ثم على إسرائيل ذاتها بكونها الكرمة التي لاقت عنايته ورعايته فاقتلعت ونقلت إلى أرض غريبة للتأديب، عرض هنا صورة سريعة لتمرد هذا الشعب المستمر عبر التاريخ بالرغم من إحسانات الله لهم غير المنقطعة.

1. عتاب مع الشيوخ                 [1-4].

2. تمردهم في مصر                  [5-9].

3. تمردهم في البرية                 [10-17].

4. تمرد الجيل الجديد في البرية      [18-26].

5. تمردهم في دخولهم كنعان        [27-29].

6. تمردهم في أيام حزقيال           [30-32].

7. تمردهم في أرض السبي [33-39].

8. العودة والإصلاح                  [40-44].

9. سيف نبوخذنصَّر المدمر           [45-48].

إنه عرض تاريخي لمعاملات الله مع الإنسان، هو يقدم كل الحب ورعاية، والإنسان يقدم كل تمرد وعصيان. هذه هي طبيعة الإنسان بعد السقوط، لا يرى في الله صديقًا له بل الآمر الناهي، لهذا كثيرًا ما يعطيه القفا لا الوجه، يعجز عن تنفيذ وصاياه.

1. عتاب مع الشيوخ:

في السنة السابقة جاء جماعة من الشيوخ يسألون النبي في أرض السبي عما سيحدث لمملكة يهوذا وللشعب المسبي في ذلك الحين، أما هو فوجه الحديث إلى توبة، إذ قال الرب: "حيّ أنا لا أُسأل منكم يقول السيد الرب" [3] إن كنتم قد أتيتم لتسألوني فانزعوا أولاً عنكم طبيعة التمرد التي عاشها آباؤكم وتعيشونها أنتم، حينئذ أستجيب طلباتكم.

كثيرًا ما نصرخ إلى الرب في وقت الضيق، وهو يريد أن ينقذ، ويشتهى أن يخلص، لكنه يريد أن يحقق الضيق غايته وهو توبتنا القلبية ورجوعنا من كل القلب إليه! إن كان الله يتأخر في الاستجابة ليس لإهماله إيانا وإنما علامة رعايته، إذ ينتظر صدق توبتنا لكي ننتفع من التجربة. طبيعتنا المتمردة تحتاج إلى نار الضيقة لكي نرتد إلى إلهنا ونطلبه بإخلاص.

2. تمردهم في مصر:

طبيعة التمرد ليس أمرًا جديدًا في حياتهم لكنها لازمتهم منذ بدء ظهورهم كشعب أو أمة في أرض مصر. لقد دخل يعقوب وأولاده إلى مصر كعائلة، وخرج كشعب تحت قيادة أول قائد هو موسى النبي. في مصر حيث نبتت هذه الأمة وهذا الشعب كانت أصنام مصر ترعى في داخل قلبهم. لقد كشف الرب سرّ عبوديتهم في مصر، ليس قساوة قلب فرعون إنما انحراف قلب الشعب: "قلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه، ولا تتنجسوا بأصنام مصر، أنا الرب إلهكم، فتمردوا عليَّ" [7-8]. في الوقت الذي كان الله يتجسس لهم الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا "فخر كل الأراضي" [6]، رفضوا طرح أرجاس عيونهم والتخلي عن الأصنام، ومع هذا لم يسخط عليهم في أرض مصر بل أخرجهم بقوة لأجل اسمه القدوس [9]، حتى يتمجد فيهم وسط الأمم.

هكذا يهتم الله بالإنسان منذ خلقته، بل دبر خلاصنا وعبورنا من عبودية الخطيئة والدخول بنا إلى أحضانه، فردوس الحق الذي يفيض للنفس عسلاً ولبنًا، بينما يولد الإنسان وميكروب العصيان يسرى في دمه. التمرد طبيعة ورثناها عن عصيان أبوينا الأولين، لهذا يحتاج إصلاحنا إلى تغيير شامل لطبيعتنا.

3. تمردهم في البرية:

ما أكثر عطايا الله في البرية! أعطاهم طعامًا طازجًا كل يوم مجانًا، فلا يحتاجون لا إلى حرث الأرض وتنقيتها، ولا إلى الزرع والحصاد، ولا إلى جمع الحصاد وتهيئة الطعام. وقدم لهم صخرة تفجر ماءًا عذبًا تتبعهم أينما ذهبوا، الأمر الذي يكلف الإنسان كثيرًا خاصة في الصحراء! لم تعوزهم ثياب جديدة أو أحذية ولا أدوية لعلاج مريض... كان يرعاهم في كل كبيرة وصغيرة، ومع هذا ففي عتابه لهم لم يذكر شيئًا من هذا بل ركز على أمرين اعتبرهما أفضل ما قدمه لهم: الوصية الإلهية وسبوته، إذ يقول: "وأعطيتهم فرائضي وعرفتهم أحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها، وأعطيتهم أيضًا سبوتي لتكون علامة بيني وبينهم ليعلموا أني أنا الرب مقدسهم" [12]. قدم لهم الوصية كفرائضه وأحكامه الخاصة به، والسبوت بكونها سبوته هو. بالوصية يحيا الإنسان، وبالسبوت يتقدس. هذا في رأى الله قمة ما فعله معهم في البرية.

أما الوصية فهي علامة حب الله للإنسان ورعايته، إذ لم يقبل أن يجعله كالكائنات غير العاقلة يسير حسبما تمليه عليه الطبيعة التي وهبت له من الله، بل قدم له الإرادة الحرة، ووهبه الوصية علامة هذه الحرية، له أن يقبل الحياة مع الله وله أن يرفضها. وكما يقول العلامة ترتليان: [لقد مكَّنه ككائن بشري أن يفتخر بأنه الوحيد الذي كان مستحقًا أن يتقبل وصايا من قبل الله، بكونه كائنًا قادرًا على التعقل والمعرفة، يضبط نفسه في هدوء برباطات الحرية العاقلة، خاضعًا لله الذي أخضع له كل شيء[202]].

والوصية أيضًا هي المجال الذي فيه يسلم الإنسان للرب إرادته بالطاعة فيتقبل الإرادة الإلهية عاملة فيه. إنه إذ يقبل الوصية إنما يقبل كلمة الله الذي يعمل فيه. لهذا يقول الرب: "إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8: 31، 33)، "الكلام الذي أكلمكم به روح وحياة" (يو 6: 63). ويقول القديس مرقس الناسك: [يختفي الله في وصاياه، فمن يطلبه يجده فيها[203]].

أما السبوت التي وهبنا الله إياها لتقديسنا، فتُشير إلى السيد المسيح نفسه الذي جاء في اليوم السابع كَسِرَّ راحتنا الحقيقية. لأن كلمة "سبت" تعني بالعبرية "راحة"، فلا راحة لنا إلا في المسيح يسوع. أنه سرّ السبت، فيه استراح الآب فينا، إذ وجده نائبًا عنا موضوع سروره، وفيه استرحنا نحن في الآب إذ نجد فيه أحضان الآب تستقبلنا. السيد المسيح هو سر سبتنا وسر تقديسنا!

يقسم القديس أغسطينوس تاريخ العالم الخلاصي إلى أيام الأسبوع هكذا:

اليوم الأول: من آدم إلى الطوفان،

اليوم الثاني: من الطوفان إلى إبراهيم،

اليوم الثالث: من إبراهيم إلى داود،

اليوم الرابع: من داود إلى السبي،

اليوم الخامس: من السبي إلى تجسد المسيح،

اليوم السادس: من التجسد إلى يوم الرب العظيم،

اليوم السابع: هو يوم الرب العظيم الذي فيه تجد البشرية راحتها في المسيح يسوع ربنا. بهذا يدخل بنا الرب إلى حياة بلا نهاية، فيه تستريح نفوسنا مع أجسادنا. "هناك نستريح ونرى، نرى ونحب، نحب ونُسبّح. هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية، فإنه أي هدف لنا نقصده لأنفسنا إلا بلوغ الملكوت الذي بلا نهاية[204]"؟!

يقول القديس أكليمنضس الاسكندرى: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطيئة[205]].

قدم الرب وصيته لهم علامة تقديره للإنسان أكثر من كل خليقة أرضية أخرى، أما هو فاحتقرها ولم يسلك فيها. وقدم له سبوته لأجل تقديسه أما هو فنجَّس سبوت الرب كثيرًا [13]. ومع هذا يقول الرب: "لكن عيني أشفقت عليهم عن إهلاكهم فلم أفنهم في البرية" [17]. هذه هي طول أناة الله نحونا وحبه لنا!

4. تمرد الجيل الجديد في البرية:

عاد الله يؤكد للجيل الجديد الذي ولد في البرية ألا يسلكوا بروح آبائهم الذين خرجوا من مصر يحملون أصنامها في قلبهم، بل أن يسلكوا في فرائضه ويحفظوا أحكامه ويعملوا بها، ويقدسوا سبوته علامة العهد بينه وبينهم، ولم يكن الأبناء أقل تمردًا من آبائهم. لقد انجذبوا إلى أصنام آبائهم لا إلى الرب إلههم. ومع هذا كله فمن أجل اسمه لم يرد أن يسكب غضبه عليهم في البرية حتى لا يُحتقر أمام عيون الأمم.

ربما يعترض البعض على القول الإلهي:

"وأعطيتهم أيضًا فرائض غير صالحة وأحكامًا لا يحيون بها، ونجستهم بعطاياهم إذ أجازوا في النار كل فاتح رحم لأُبيدهم حتى يعلموا إني أنا الرب" [25-26].

إذ يُصِّر الخطاة على العصيان يقدم لهم وصاياه وأحكامه لخلاصهم [11]، لكنه لا يُلزمهم بها... فإن استمروا في إصرارهم يسلمهم إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق (رو 1: 28).

كلمة "أعطيتهم" هنا تعني "سمح لهم" أن يقبلوا الفرائض والأحكام الخاصة بالعبادات الوثنية فيمارسوا الإجازة في النار... ويهلكون.

5. تمردهم في دخولهم كنعان:

إذ أطال مدة سياحتهم في البرية أربعين عامًا لكي ينسوا أصنام مصر التي حملوها معهم في قلوبهم، ودخل بهم إلى أرض جديدة، إذا بهم يتبنون العبادة الوثنية التي لهذه البلاد، فصاروا يقيمون عبادتهم على المرتفعات كأهل المنطقة. بدلاً من أن يكونوا شعب الله المقدس يمجدون الله في وسط الأمم، ساروا وراء نجاسات الأمم.

6. تمردهم في أيام حزقيال:

عملية التمرد ليست عملية تاريخية لكنها واقعة حاضرة، انطلقت بظهور الشعب كأمة، ولاحقتهم في البرية حتى الجيل الجديد، والتهبت بالأكثر عندما دخلوا أرض الموعد، ولا تزال عاملة فيهم حتى في الوقت الذي كان فيه يتحدث حزقيال مع الشيوخ. يوبخهم الرب: "هل تنجستم بطريق آبائكم وزنيتم وراء أرجاسهم، وبتقديم عطاياكم وإجازة أبنائكم في النار تتنجسون بكل أصنامكم إلى اليوم؟!" [30-31]. لهذا كانت الإجابة "حيّ أنا يقول السيد الرب لا أُسْأَل منكم". إنه لا يقبل سؤالهم ولا يستجيب طلباتهم حتى تتغير قلوبهم. إنه يؤدبهم بيد قوية وبذراع ممدودة، ويسكب سخطه عليهم ويشتتهم ويحاكمهم علانية [33-35].

7. تمردهم في أرض السبي:

في هذا كله لا ينتقم بل يؤدب ليدخل بهم في عهد جديد. "وأُمِرُّكم تحت العصا وأدخلكم في رباط العهد، وأعزل منكم المتمردين والعصاة عليَّ " [37-38] إنه يدخل بهم إلى البرية، لا برية سيناء كما فعل بآبائهم، بل إلى حالة جفاف وقحط داخل السبي وتشتيتهم بين الأمم لأجل توبتهم خلال العصا (لا 27: 32).

8. العودة والإصلاح:

بعد أن قدم صورة لانحراف إسرائيل نحو الوثنية، بكونه انحرافًا قديمًا وعنيفًا ومهلكًا في نتائجه، وبالرغم من الماضي المظلم الشرير لكنه يشرق عليهم في نفس الأصحاح بمستقبل مملوء رجاءً بعودتهم من السبي وإصلاحهم كرمز إلى عودة الإنسان من سبى الخطيئة وإصلاح طبيعته الفاسدة. إنه يدخل بنا إلى "جبل قدسه"، إلى مقدساته، الجبل العالي، أي إلى كنيسة المسيح حيث تتعبد لله في المسيح يسوع، فيًشْتَمّ الله تقدماتنا رائحة سرور [41] ويرضى عنا. إنه خلاص لا عن استحقاقاتنا الذاتية، إنما من خلال النعمة المجانية إذ يقول: "لا كطرقكم الشريرة ولا كأعمالكم الفاسدة يا بيت إسرائيل يقول السيد الرب" [44].

9. سيف نبوخذنصَّر المدمِّر:

إن كان قد أشرق عليهم بالرجاء في عودتهم وإصلاحهم لكنه يؤكد ضرورة التأديب أولاً بسيف نبوخذنصَّر المدمر الناري. إنه يبدأ بحريق فائق للطبيعة في منطقة الجنوب، حريق التأديب المُرّ حتى يحرق كل أشواك الخطيئة.

يبدأ بالتيمن[206]، الصحراء الجنوبية، إشارة إلى التأديب مملكة الجنوب (يهوذا وأورشليم).

أدار النبي وجهه نحو الجنوب [46-47]، أي نحو أرض إسرائيل ليرى كما من بعيد غابات لبنان... معلنًا: "هكذا قال السيد الرب: هأنذا أضرم فيك نارًا فتأكل كل شجرة خضراء فيك وكل شجرة يابسة؛ لا يُطفأ لهيبها الملتهب، وتحرق بها كل الوجوه من الجنوب إلى الشمال" [47]. هكذا يسكب الله نار دينونته عليهم ليدرك الكل قداسته وعدله.

يختم النبي الأصحاح بقوله: "آه يا سيد الرب؛ هم يقولون: أما يمثل أمثالاً؟!" [49]. هذا هو حال النفس المتراخية في بحثها عن مخلصها، فإنها تجد حديثه أمثالاً غامضة. وكما يقول القديس أمبروسيوس في تعليقه على كلمات النشيد: [في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته" (نش 3: 1). (إنها تطلبه في الليل لأنه يتكلم بأمثال، فقد جعل الظلمة مسكنه وليلاً فليلاً يُظهر علمًا (مز 19: 3)... لكنها لا تجده بهذه الطريقة[207]...].


 

من وحي حزقيال 20

انزع عني تمردي!

v   كلك حب يا إلهي،

أما أنا فإنسان متمرد!

من يخلصني من طبيعتي الجاحدة غيرك يا مخلصي؟!

v   سألك الشيوخ في أرض السبي،

لم تجبهم، لأنك تريد توبتهم ورجوعهم إليك.

أرى في حديث نبيك معهم طبيعتي الجاحدة!

في مصر تمردوا عليك،

خرجوا بيدٍ قوية وذراع رفيعة،

لكنهم حملوا عبادة المصريين في قلوبهم!

في البرية كنت عجيبًا في رعايتك لهم،

أما هم فلم يكفوا عن التذمر.

في أرض الموعد كنت حصنًا لهم،

أما هم فعصوا وصاياك، واشتركوا في عبادة الأوثان!

أدبتهم بالسبي... وهناك عوض التوبة امتلأوا رجاسات!

تُرى ماذا تعمل معهم؟!

v   لم تخلق الظروف في التذمر،

بل أنا بفساد قلبي أتعلل بكل ظرف لأعلن تمردي!

خلصني يا رب من جحودي المستمر!

ثبتني فيك فأحمل شركة الطبيعة الإلهية.

بتناولي جسدك ودمك المبذولين أحمل طبيعة الحب الباذل!

<<

 

 


 

الأصحاح الحادي والعشرون

أنشودة السيف المدمر

إذا أعلن الرب عن تخليه عن حماية المدينة بل وأكد إشعالها بالنار، أجاب اليهود قائلين: "أما يُمثِّل هو أمثالا؟!" (20: 49)، لهذا تحدث الرب بصراحة في هذا الأصحاح عن هذه النار، أو السيف الناري المؤدب:

1. نبوته ضد أورشليم                [1-7].

2. سيف حاد مصقول                 [8-17].

3. طريقا ملك بابل                    [18-24].

4. حديث ضد صدقيا الملك            [25-27].

5. نبوة ضد بني عمون               [28-32].

1. نبوته ضد أورشليم:

طلب منه أن يوجه نظره نحو أورشليم [1] ويتنبأ صراحة ضد الأرض المقدسة والمدينة المقدسة والهيكل المقدس.

الذي سبق فوقف يشفع فيهم ويتضرع لأجلهم في أكثر من موضع (9: 8) يُدعي الآن لكي يُعلن أحكام دينونة الله التي تحل على إسرائيل التي اعلنت رفضها للوصية وعنادها المتعمد. إنه ينطق بكلمات الرب، قائلاً: "هأنذا علىكِ وأستلُّ سيفي من غمده، فأقطع منك الصدِّيق والشرير" [3]. إذ لم تعد هذه المواضيع في عيني الرب يرسل علىها سيفه ويقف ضدها، ويقطع منها الصديق والشرير. لا يعني هنا أن يقتل الاثنين بلا تمييز بينهما، إنما ينزع الصدّيق عنها لينقله إلي أرض الكلدانيين كالتين الجيد (إر 24)، وينزع الشرير بقتله في يهوذا فتخسر الأرض الاثنين خلال السبي والسيف. وقد أوضح الرب موقفه من التين الجيد في سفر إرميا هكذا: "كهذا التين الجيد هكذا أنظر إلي سبي يهوذا الذي أرسلته من هذا الموضع إلي أرض الكلدانيين للخير، وأجعل عيني علىهم للخير وأُرجعهم إلي هذه الأرض وأنبتهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقطعهم، وأعطيهم قلبًا ليعرفوني أني أنا الرب فيكونوا لي  شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا لأنهم يرجعون إليّ بكل قلبهم" (إر 24: 5-7) هكذا يقطع التين الجيد والرديء عن أورشليم، لكن يفرز هذا عن ذاك.

لقد طلب منه أن يتهند بمرارة علانية ليسألوه عن سبب تنهده فيُجيب صراحة "على الخبر، لأنه جاء فيذوب كل قلب وترتخي كل الأيدي، وتيأس كل روح، وكل الركب تصير كالماء، ها هي آتية وتكون" [7]. إن الله لا يُعطي مثلاً بل خبرًا حقيقيًا وأمرًا واقعًا يرتجف له الكل!

2. سيف حاد مصقول:

هذا السيف المرهب في الحقيقة ليس سيف نبوخذنصَّر بل هو سيف الله نفسه الذي يستخدم هذا الملك للتأديب. إنه يقوم بدوره حسنًا، فهو مصقول وحاد، يذبح رؤساء يهوذا والشعب، سيف قاتل عظيم، يُلوِّح مرة فثانية فثالثة. يأتي في المرة الأولي بعد التحذير الشفوي، والمرة الثانية بعد أن يصفق النبي على فخذه [12] والمرة الثالثة بعد أن يصفق كفًا على كف [14]، وكأن انطلاق السيف ليس غاية في ذاته، إنما ينطلق حينما يرفض المسئولون والشعب إنذارات الله.

يلاحظ أنه سيف حاد قاتل للأشرار، لكنه بالنسبة لأولاد الله هو"عصا التأديب يذبح فيهم العود الأخضر (العبادة الوثنية) لا نفوسهم، إذ يقول عنه: "عصا ابني تزدري بكل عود [10]، وليس بكل نفس. إنه قادم لإبادة الشر والخطيئة لا الخطاة. هو سيف امتحان [13] أو عصا اختبار إن ازدري  أحد بها تعرضه للهلاك، لكن إن رجع أحد عن شره خلص.

كما يلاحظ أنه موجه على الشعب كما على كل رؤساء إسرائيل الذين رفضوا نبوته... إنه لا يُحابي مسئولاً على حساب أفراد الشعب، إنما الكل متساوون أمامه.

أخيرًا فإنه يقف عند كل باب، متقلبًا، يضرب يمنةً ويسارًا، فلا يفلت أحد منه [15-16].

3. طريقا ملك بابل:

يبدو أن ملك بابل جاء إلى ملتقى طريقين، أحدهما يؤدي إلى أورشليم والآخر إلى  ربة عاصمة بني عمون، وهنا بدأ يفكر أيهما يحاربها أولاً: أورشليم أم ربة. لقد استخدم كل وسيلة وثنية من صقل السهام لكي يصوبها في الطريقين ويلقي قرعة، ومن سؤال بالترافيم[208]، والتطلع إلي كبد الذبيحة التي يقدمها لإلهه... فجاءت الإجابة أن يبدأ بأورشليم. حسب الظاهر جاءت الإجابة بطرقه الشريرة الوثنية، لكن الواقع أن الله هو الذي خطط خفية للتأديب. إن العرافة كاذبة، لكن الله ضابط الكل حول شر الملك وعرافته لتأديب الشعب.

يلاحظ أن الرب يقول: "عَيّنْ طريقا ليأتي السيف على... يهوذا في أورشليم إذ يبدو أن شعب يهوذا قد تجمهر غالبيته في العاصمة أورشليم ظنًا أنه حتى إن سقطت كل مدن يهوذا فإن الله يُدافع عن أورشليم بكونها "مدينة الملك العظيم". لكن الله يؤكد أنها ستأخذ الضربة الأولى القوية ليس قبل كل مدن يهوذا فحسب بل وقبل مدن بني عمون. أورشليم التي عرفت كثيرًا عن الله استحقت أن تضرب أكثر، لأنها لا تخطئ عن جهل أو عدم معرفة بل في تمرد وعصيان.

4. حديث ضد صدقيا الملك:

يوجه الله حديثه ضد صدقيا الملك مباشرة، الذي يحطم شعبه بشرِّه، قائلاً: "وأنت أيها النجس الشرير" [25]، لقد جاء يوم نزع العمامة ورفع تاج الملك عنه [26]. لقد ظن في نفسه أنه عظيم فحطم شعبه، لهذا ينقلب الحال، ويفقد الملك تاجه إلي الأبد "منقلبًا منقلبًا أجعله" [27]. ويُنزل بهذا الملك المتعجرف إلي الحضيض "حتى يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه" [27]. يأتي السيد المسيح باتضاعه فيملك إلى الأبد.

إن كان شعب صدقيا قد هلك بمشورة ملكه، فسيملك رب المجد ويقيم شعبه ويخلصهم ليملكوا معه إلي الأبد.

5. نبوة ضد بني عمون:

لقد أفلت بنو عمون من سيف الدينونة بسبب انشغال نبوخذنصَّر بأورشليم، وقد وقفوا شامتين.

لقد عيَّر بنو عمون الشعب لهلاكه وأورشليم لحرقها، لكن تأديب أورشليم إلي حين حيث يقوم الملك الروحي ويخلص المؤمنين به، أما السيف الذي يُحطم بني عمون، وهو ذات السيف الذي حطم يهوذا، فيضرب لكن لا للتأديب بل للإهلاك، فلا يعود يذكر بعد.

لم يدخل بنو عمون في عهد مع الله كما دخلت إسرائيل، ومع ذلك فسقطوا في التأديب الإلهي، لأن الله لا يطيق الخطية لا في حياة شعبه أو في حياة غيرهم.

 بنو عمون يشيرون إلي الشر لا الأشرار، يهلك بيدٍ قوية ولا يقوم بعد (ضُربت عمون بعد أورشليم بخمس سنوات).

 

 


 

من وحي حزقيال 21

السيف المدمر والمنفذ!

v   استخدمت يا إلهي نبوخذنصَّر سيفًا للتدمير،

فذاب كل قلب، وارتخت كل يد، وصارت كل الركب كالماء!

ضربت بالسيف لتفصل في القلب ما بين الشر والخير!

أردت بالسيف المدمر التوبة والرجوع إليك!

v   أمام تأديباتك ترتجف نفسي، ويهتز كل كياني!

مادام السيف في يدك يا ضابط الكل، يا محب البشر،

تطمئن نفسي وتستريح يا قابل الخطاة!

إن سمحت بالتأديب فاسمح لي بالتوبة.

توبني فأتوب، اشفني فأُشفي!

v   سَخَر بنو عمون بأورشليم وكل يهوذا يوم تأديبهم،

لكن السيف الذي أدبّ يهوذا هو بعينه حطم عمون!

حطم في داخلي عمون،

وأدِب في داخلي أورشليم!

بدِّد في داخلي كل الشر،

وقدّس عملك في يا واهب الخلاص والحياة!

إني مطمئن مادام السيف في يدك أنت مخلصي!

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني والعشرون

خطايا يهوذا

بعد أن عرض أنشودة السيف المدمر قدم ثلاث رسائل بخصوص يهوذا من جهة قائمة الخطايا التي ارتكبتها، وأثرها عليها. وشيوعها علي كل المستويات:

1. قائمة بخطايا يهوذا                [1-16].

2. إدانة يهوذا كزغل في نار          [17-22].

3. شيوع الخطية في كل المستويات   [23-31].

1. قائمة بخطايا يهوذا:

قدم الرب ملخصًا لأهم الخطايا البشعة التي كانت ترتكبها مملكة يهوذا في ذلك الحين؛ وقد ركزها في أمرين: سفك الدم والتنجس بالأصنام، حتي لقب أورشليم بسفاكة الدم [3]، ونجسة الاسم [5]، بدلاً من أن تكون المدينة العادلة، المقدسة.

أ. دُعيت بسفاكة الدم، لأنها ارتكبت جرائم بشعة ذهبت ضحيتها دماء بريئة، لا بالمعنى الحرفي الضيق بل بالمعنى المتسع. لهذا اعتبر الرب إهانة الوالدين وظلم الغريب واضطهاد اليتم والأرملة وأخذ الرشوة والربا من المحتاجين هي جرائم سفك دم، لأن فيها اغتصاب لحقوق الآخرين وظلمهم.

والمسيحي، إذ يرى السيد المسيح متجليًا في كل إنسان، فإن كل اغتصاب لحق من حقوق الآخرين يُحسب إهانة موجهة للسيد المسيح نفسه.

هذا ما أكده السيد نفسه في موقفه يوم الدينونة العظيم، حيث يتطلع إلي الذين عن يمينه قائلاً: "الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40) وللذين عن يساره: "الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا" (مت 25: 45).

ب. دعيت "النجسة الاسم"، لأنها صنعت نجاسات أساءت إلي الله نفسه الذي هو صاحب المدينة، لأنها "مدينة الملك العظيم". أهم هذه النجاسات هي الاستهانة بمقدسات الله وتنجيس سبوته، ارتكاب الزنا في أبشع صوره كالزنا مع القريبات المحرمات (مثل الكنة أو الأخت) أو امرأة القريب أو الزوجة الطامث...

2. إدانة يهوذا كزغل في نارٍ:

كانت إسرائيل قبل انقسامها إلي مملكتين (إسرائيل ويهوذا) في عصر الملك داود وابنه سليمان كرأس ذهبية متلألئة، وبعد الانقسام صارت كقضيبين من فضة، أما وقد انحرفت المملكتان إلي عبادات متنوعة وثنية وانجرفت إلي سفك الدم والرجاسات فقد تحولتا إلي نحاس وقصدير وحديد ورصاص... أنواع معادن رخيصة ورديئة، بل صارت زغلاً، إذا وضعت في النار احترقت. فالعيب ليس في النار بل في المادة التي تتعرض للنار، إذا كانت ذهبًا أو فضة ازدادت نقاوة وبريقًا، أما إن كانت زغلاً فتستهلك وتلقي خارجًا.

في عتاب مُرّ يقول: "صار لي إسرائيل زغلاً" [18]، وكأنه يعلن أن ما صاروا إليه بسبب شرهم لا يتحملون آثاره وحدهم بل يسيئ لله نفسه الذي اقتناهم ودعا اسمه عليهم. إن كل خطيئة نرتكبها إنما تجرح مشاعر الله نفسه، لأننا أولاده، وبسببنا يُجدف على اسمه من الأمم.

3. شيوع الخطيئة في كل المستويات:

بعد أن قدم قائمة بأهم الخطايا البشعة التي ارتكبتها يهوذا فصارت زغلاً للرب، عاد ليؤكد أن هذا الوباء حل بالجميع: الأنبياء والكهنة والرؤساء، والشعب. صار الأنبياء كأسود لا لتحمي الشعب بل لتفترسه وترمل نساءه. والكهنة عوض تقديم الوصية الإلهية وتقديس الشعب بالعبادة النقية الخالصة خالفوا أحكام الله وفرائضه ونجسوا مقدساته خاصة سبوته. والرؤساء عوض بذلهم عن الشعب اهتموا بمكسبهم المادي وصاروا كذئاب خاطفة سافكة للدماء. أما الشعب فصارت طبيعته الظلم والاغتصاب.

ويلاحظ أنه لا يقول: "أنبيائي، كهنتي، رؤساء شعبي، شعبي "وإنما يقول" أنبياؤها، كهنتها، رؤساؤها، شعب الأرض" [25-28]، لا يُريد أن ينسبهم إليه في شرهم، لأنهم رفضوه واعتزلوه، فرفضهم حتي يؤدبهم ويردهم إليه.

ويصف أورشليم بكل هذه المستويات هكذا: "أنت الأرض التي لم تطهر، لم يمطر عليها في يوم الغضب" [24]. فقد رفض اليهود بكل طبقاتهم الإيمان بالمسيح يسوع، المطر النازل من السماء ليطهر العالم كله، ويجعل من القلوب فردوسًا خصبًا... لقد صاروا أرضًا بلا تطهير، بلا مطر أي بلا مسيح، ليس من يشفع فيهم في يوم الغضب!

هذا يُذكرنا بالعلامة التي طلبها جدعون من الله في الليلة الأولى: "ها إني واضع جزة الصوف في البيدر فإن كان طل علي الجزة وحدها وجفاف علي الأرض كلها علمت أنك تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت" (قض 6: 37) فكانت الجزة تُشير إلي الشعب اليهودي الذي قبل كلمة الله وحده دون سائر الأمم في العهد القديم، فكانت الجزة بها طل ماء وحدها وجفاف علي الأرض كلها. أما الليلة التالية حيث تُشير إلي العهد الجديد فطلب العكس إذ صار طل علي الأرض كلها وجفاف علي جزة الصوف، فكان إشارة إلي رفض الأمة اليهودية السيد المسيح، كلمة الله، أو الطل السماوي، بينما قبل العالم الأممي الإيمان به. لقد صارت الأمة اليهودية الأرض التي بلا مطر!

أخيرًا إذ عرض لشمول الخطيئة في كل المستويات عاتبهم الله قائلاً: "وطلبت من بينهم رجلاً يبني جدارًا ويقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أجده" [30]. من هو هذا الرجل الذي يمكنه أن يبني سورًا أو جدارًا أمام غضب الله ويقف متشفعًا عن البشرية كلها لكيلا يخربها؟!

إنه ليس من كائن ما يقدر أن يحتمل غضب الله عن الأرض ويشفع فيها، لهذا أرسل ابنه الوحيد ابنًا للإنسان، هذا وحده يستطيع أن يسد هذه الثغرة ويقف حاملاً الغضب الإلهي في جسده عنا، يشفع فينا بدمه الطاهر ويردنا إلي حضن الآب.

في هذا يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

[حيث أنه كلمة الآب وفوق الكل، كانت له وحده لياقة طبيعية أن يجدد خلق كل شيء، وأن يحتمل بالنيابة عن الكل، وأن يكون شفيعًا عن الكل لدي الآب".

"كان ضروريًا ألا يتجسد أحد سوي الله الكلمة نفسه،" لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلي المجد أن يجعل رئيس خلاصهم كاملاً بالآلام" (عب 2: 10) ويقصد بهذه الكلمات أنه لم يكن اختصاص أحد آخر أن يرد البشر عن الذي قد بدأ سوي كلمة الله الذي هو أيضًا صنعهم من البدء... لأنه بذبيحة جسده وضع نهاية للحكم الذي كان ضدنا[209]].

ماذا يعني: "يقف في الثغر أمامي على الأرض" [30]؟

لقد وقف ابن الإنسان، كلمة الله المتجسد في الثغر، أي في الهوة التي بين الآب والبشر لكي يتمم المصالحة بينهم (1 تي 2: 5) ونحن أيضًا إذ ننعم بالمصالحة مع الله نشتهي أن نقف في الثغر لنعمل ونصلي من أجل كل خاطئ، كي يلتقي بمخلصه، ويختبر ذات المصالحة التي صارت لنا. ليكن كل واحد منا هو الرجل الذي يقف في الثغر أمام الله يشفع ويبذل كل الجهد مشتهيًا خلاص كل إنسان. وكما يقول الرسول بولس: "إذًا نسعي كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله (2 كو 5: 20).

يؤكد هنا أيضًا أهمية الصلاة والشفاعة في الآخرين، فإنه إذ لم يجد الله من يشفع عن شعبه حلّ الخراب بالشعب. لقد خلص لوطًا من النار المهلكة بسبب صلاة إبراهيم (تك 19)، وخلص إسرائيل من الدمار بصلاة موسي النبي (عد 14: 11-21)، وأُنقذت أورشليم من يد سنحاريب بصلاة حزقيا الملك (إش 37: 1-7، 34-36).

 

 


 

من وحي حزقيال 22

من يقف في الثغر؟

v   أورشليمي الداخلية صارت زغلاً،

فلماذا ألوم النار التي أهلكتها؟!

قلبي الظالم صار سافكًا لدماء المساكين،

وأفكاري الدنسة نجست هيكل الرب في داخلي،

صارت هناك هوة بيني وبينك يا الله!

من ينزع هذه الهوة؟!

من يقف في الثغر أمامك يشفع فيّ أنا أول الخطاة؟!

من يسدد ديني ويجدد طبيعتي فألتقي بك؟

v   أشكرك يا مخلصي، يا كلمة الله المتجسد،

أنت وحدك حملت خطاياي،

أنت وحدك ارتفعت علي الصليب،

حولت أرضي إلي سماء!

قدمت لي روحك القدوس عاملاً فيّ،

ورفعت قلبي إلي حضن أبيك!

ماذا لك أيها الشفيع العجيب والفريد؟!

هب لي أن أحب الخطاة وأصلي لأجلهم وأُبذل حبًا فيهم!

<<

 


 

الأصحاح الثالث والعشرون

أهولة وأهوليبة

في هذا الأصحاح يقدم لنا تاريخ شعب الله قديمًا من خلال أختين دعاهما "أهولة وأهوليبة"، اللتين عشقتا الغرباء، وخانتا الله.

1. خيانة أهولة (السامرة)            [1-10].

2. خيانة أهوليبة (أورشليم)          [11-21].

3. عقاب أهوليبة                     [22-35].

4. خطاب ختامي للأختين             [36-49].

1. خيانة أهولة:

هذه هي المرة الثالثة والأخيرة في سفر حزقيال التي فيها يتهم الله شعبه بالخيانة العظمى (ص 16، 20، 23)، غير أن هناك فارقًا بين اتهامه لشعبه في الأصحاح السادس عشر وهنا. هناك تحدث عن الخيانة لعريسها السماوي من جهة انحرافاتها الروحية، أما هنا فقد ركز على انحراف شعبه بشقّيه (إسرائيل ويهوذا) في الزنا بالفكر السياسي الخاطئ، أي اتكال شعبه تارة على أشور وأخرى على فرعون مصر، وإن كان هذا الاتكال قد حمل في عيني الله إهانة له وعدم إيمان بقدرته على خلاصهم من جهة، كما فتح أبواب الأرض المقدسة لاستقبال المعبودات الوثنية ورجاساتها من بابل ومن مصر في ذلك الحين.

لقد شبه الله إسرائيل ويهوذا بأختين لأم واحدة، عاشتا في حياة الزنا منذ صباهما، الكبرى تسمى أهولة والصغرى تسمى أهوليبة، الأولى تشير إلى السامرة (عاصمة إسرائيل) والثانية إلى أورشليم (عاصمة يهوذا). الأولى هي الكبرى لأنها تضم عشرة أسباط، والأخرى هي الصغرى لأنها تضم سبطين.

ارتبط الاسمان بكلمة "أوهل ohel" العبرية والتي تعنى "خيمة".

لعله أراد أن يذكِّر شعبه أنه في حقيقته يلزم أن يكون "الخيمة" التي يحل بمجده فيها ليسكن في داخلها معهم (خر 33: 7-10).

وربما أراد بدعوتهما هكذا أن يذكرهما بتغربهما على الأرض، فلا يستقران في بيوت أو مساكن ثابتة بل في خيام متنقلة ليعبروا من حال إلى حالٍ أفضل، ومن مجد إلى مجد. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يسكن في الخيام من يركض نحو الله حرًا بلا قيود ولا أحمال[210]].

[إذا تساءلنا: ما هو الفارق بين المسكن والخيمة؟... المسكن شيء ثابت قائم، له حدوده الثابتة، أما الخيمة فهي مسكن الرُحَّل المتنقلين على الدوام، هؤلاء يجدون لرحلاتهم نهاية[211]].

ولهذا أقام العبرانيون عيد المظال (لا 23: 43) تذكارًا لإقامتهم في خيام في البرية، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يليق بكل واحد منا متى خرج من مصر (محبة العالم) ودخل البرية أن يقطن في خيمة ويقيم عيدًا في الخيام، من أي مادة يجب أن تصنع هذه الخيام إلا من كلمات الناموس والأنبياء، والمزامير وكل ما تحويه الشريعة؟! عندما تنمو النفس بواسطة الكتب المقدسة تنسى ما وراء وتمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، تترك البقاع السفلي وتنمو وتتقدم إلى ما هو أعظم. تنمو في الفضائل، فتغير موضع الإقامة خلال تقدمها المستمر، بهذا يمكننا القول إننا نسكن في الخيمة[212]].

إذ نعود إلى الأختين نجدهما من أم واحدة، إذ كانا شعبًا واحدًا، وقد سقطت الأختان معًا في الزنا منذ صباهما في مصر. لقد سلما جسديهما بلا خجل للشر ففقدتا عذراويتهما الروحية، وفتحتا قلبيهما لأصنام مصر منذ نشأتهما (خر 20: 7)، الأمر الذي انكشف في البرية بإقامتهما عجل أبيس يتعبدون له في غياب موسى على الجبل. وكما سبق أن قلنا في تفسيرنا لسفر الخروج إن غياب موسى لم يكن إلا المحك الذي كشف الآلهة التي حملها الشعب في قلوبهم سرًا.

لقد كبرت أهولة (إسرائيل)، لكنها لم تنضج روحيًا ولا اتعظت بسقوطها في مصر، إنما مالت إلى شباب آشور اللابسين ملابس أسمانجونية، كلهم شهوة، رجال حرب، فرسان راكبون خيلاً [5]. يقول الرب "زنت تحتي" أي رفضتني كعريس لها وطلبت لها رجالاً غرباء، رفضت الرب السماوي الحق واشتهت الذين لبسوا الإسمانجوني (رمز السماء)، الذين تظاهروا بالتدين وهم أرضيون شهوانيون مملؤون شراسة. رفضت عريسها الذي حارب عنها في أرض عبوديتها وفي البرية وفي دخولها أرض الموعد، وظنت في الغرباء كفرسان أنهم قادرون على حمايتها تحت رعاية ملك آشور "لتكون يداه معه ليثبت المملكة في يده" (1 مل 15: 19)، وكان ذلك حوالي عام 738 ق.م. هذا الاتكال على آشور دفع الأخير إلى التفكير في تخريب إسرائيل عام 721 ق.م.

لم يتكل بنو إسرائيل على آشور سياسيًا فحسب، إنما اشتهوا آلهته وجروا وراء أصنامه ورجاساته، إذ قيل: "عمل بنو إسرائيل سرًا ضد الرب إلههم أمورًا ليست بمستقيمة، وبنوا لأنفسهم مرتفعات في جميع مدنهم... وأقاموا لأنفسهم أنصابًا وسواري على كل تل عال وتحت كل شجرة خضراء... وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل، وعبَّروا بنيهم وبناتهم في النار، وعرفوا عرافة وتفاءلوا وباعوا أنفسهم لعمل الشر في عيني الرب لإغاظته.." (2 مل 17). لهذا أسلمهم الرب للذين اشتهوهم حسب سؤل قلبهم، فصاروا تحت السبي، وكشفوا عورتهم، أي صاروا في عار وخزى، وقتلوا أولادهم وبناتهم، وصار بنو إسرائيل كامرأة خائنة ذاقت مرارة خيانتها أمام كل النساء، عبرة ومثلاً لهن!

هذه صورة حية لطبيعة الخطيئة وفاعليتها، إنها مخادعة وجذابة، يجرى وراءها الإنسان ظنًا منه أنه يجد فيها الشبع الجسدي والنفسي، لكنها سرعان ما تحدره تحت قدميها وتفقده كرامته وتحرمه سلامه، كما تضره جسديًا، وروحيًا ونفسانيًا. لقد وصف سليمان الحكيم عمل المرأة الزانية في حياة الساقطين في حبائلها هكذا: "عند كل زاوية تكمن، فأمسكته وقبلته. أوقحت وجهها وقالت له: عليَّ ذبائح السلامة، اليوم أوفيت نذوري، فلذلك خرجت للقائك لأطلب وجهك حتى أجدك. بالديباج فرشت سريري، بمُوشَّي كتان من مصر. عطرت فرشي بمُرّ وعود وقرفة، هلم نرتو ودًا إلى الصباح، نتلذذ بالحب... أغوته بكثرة فنونها بملث شفتيها طوحته. ذهب وراءها لوقته كثور يذهب إلى الذبح، أو كالغبي إلى قيد القصاص. حتى يشق سهم كبده كطير يسرع إلى الفخ ولا يدرى أنه لنفسه" (أم 7: 12-23).

2. خيانة أهوليبة:

لم تنتفع الأخت الصغرى "أورشليم" لا من سقطة صباها في مصر بالاشتراك مع أختها الكبرى (قبل الانقسام)، ولا من تجربة أختها الكبرى أهولة التي جرت وراء آشور وعبدت آلهتهم فسقطت في السبي، بل بالعكس في الفترة الأخيرة ملأت كأس شرها أكثر مما فعلته السامرة قبلها، إذ يقول الرب: "فلما رأت أختها أهوليبة ذلك أفسدت في عشقها أكثر، منها وفي زناها أكثر من زنا أختها" [11]. حقًا بعد الانقسام ظهر ملوك يهوذا أكثر قداسة من ملوك إسرائيل وحينما انحرفت حاول بعض المصلحين نزع الرجاسات، لكنها سرعان ما عادت مرة أخرى في أيام منسي إلى الفساد بطريقة بشعة أكثر مما كان لإسرائيل في أيام شره، ثم امتد هذا الفساد زمانًا. وقد أوضح هذا الأصحاح ملامح هذا الفساد:

أ. عشقت أورشليم بني آشور الولاة من أجل فخامة ملابسهم التي ترمز إلى فخامة أجسادهم وعظمة مظهرهم، مع قوتهم وشهواتهم كشبان، فانخدعت بهذه الأمور كأختها. لم تتعلم أورشليم من السامرة الدرس، بل صنعت ما هو أشر، إذ أرسل آحاز ملك أورشليم إلى فلاسر ملك آشور يقول له: "أنا عبدك وابنك اصعد وخلصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين عليَّ، فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية" (2 مل 16: 7-8).

ب. لم تكن هناك فرصة لرجال آشور لإغراء أورشليم، إنما أرسلت أورشليم إليهم تطلبهم ليصنعوا الشر معها، قبل أن تراهم أو تلتقي معهم، إنها مجرد رأت صورهم على الحائط، فبُهرت بهم عند لمح البصر. كان الشر قد صار كامنًا في قلبها. تجري إليه وتسعى وراءه، لا الشر هو الذي يبحث عنها ويحاول إغراءها.

يسقط الشباب أحيانًا فيما يسمونه بالحب لأول نظرة أو من أول لقاء مع شخص من الجنس الآخر، ويرى علماء النفس في هذا الحب نوعًا من عدم النضوج، لأنه لا يقوم على دراسة فكرية مرتبطة بالجانب العاطفي... إنما هو قرار يأخذه غير المختبرين. أما يهوذا فلم يسقط في الشهوة عند أول نظرة، وإنما من خلال صورٍ على الحائط!! إنها لا تعرف النضوج!!

ج. لم يقف الأمر عند سقوطها مع آشور، لمجرد رؤية صور رجاله في لمح البصر، لكنها أيضًا عادت إلى فرعون مصر تطلب الشر كما فعلت قبلاً في صباها [19]. وكأنها إنسانة بشعة تطلب هذا وتجري وراء ذاك بتهور وبلا شبع. هنا أيضًا إشارة إلى الاتكال على فرعون مصر لينقذ أورشليم ضد آشور كما فعل صدقيا الملك.

الفتاة التي تعشق شابًا وتعلن له أنها قد كرست كل قلبها له وحده، ثم تعود لتمارس نفس الأمر مع آخر من وراء الأول تُحسب إنسانة "لعوب"، تخدع هذا وذاك... فماذا لو كانت تفعل هذا مع شاب ومع عدوه في نفس الوقت. هذا ما فعلته مملكة يهوذا، في علاقتها مع آشور وفرعون مصر!

كانت أهولة تمثل صورة رمزية للنفس التي جذبتها وخدعتها فكانت براقة وجميلة جذابة، لكنها قاتلة ومميتة، أما أهوليبة فتمثل النفس التي تجرى وراء الخطيئة، تسعى إليها بلا تفكير، في تسرّع، وبلا شبع، تتخبط يمينًا ويسارًا.

3. عقاب أهوليبة:

إذ لم ترتدع أورشليم بعد أن رأت بنفسها سبي السامرة أختها، بل زادت عنها في فسقها، استخدم الرب محبيها - بابل وكل الكلدانيين خاصة قبائل الحرب فقود وشوع وقوع وكل بني آشور - لتأديبها.

أما فقود فهي قبيلة آرامية كانت تسكن في السهل شرقي نهر الدجلة، على مسافة غير بعيدة من مصبه (إر 50: 21).

وشوع هو اسم سامي معناه "غنى"، اسم قبيلة آرامية تقطن شرقي بابل وكانت دائما في حرب مع الآشوريين، وكان الآشوريون يدعونهم في سجلاتهم "سوتر".

وقوع قبيلة اشتركت مع البابليين في الهجوم على أورشليم، ويرجح أنها القبيلة التي تُدعى "قوتو" في وثائق الآشوريين، وقد سكنت شرقي نهر دجلة.

إذ أُعجبت بهذه القبائل كرجال حرب، ورؤساء مركبات [23] أسلمها لهم ليذلوها عندما هاجمت بابل أورشليم وحطمت كل إمكانياتها وشوَّهت كل جمال فيها، إذ يقول الرب:

"يقطعون أنفك وأذنيك وبقيتك تسقط بالسيف، يأخذون بنيك وبناتك وتؤكل بقيتك بالنار، وينزعون عنك ثيابك ويأخذون أدوات زينتك، وأبطِّل رذيلتك عنك وزناك من أرض مصر فلا ترفعين عينيك إليهم ولا تذكرين مصر بعد" [25-27].

إنهم يقطعون أنفها، أي ملكها الذي ينبغي أن يكون في مقدمتها له حاسة التمييز فيدرك الطريق الآمن ويميزه عن الطريق الخطر. فإذا أساء التصرف والتجأ إلى فرعون مصر ضد ملك بابل يقطعونه عن أورشليم. أما بالنسبة لنا فثمر الخطيئة هي فقداننا روح التمييز الذي به ندرك الحق ونرفض الباطل، فنحيا بلا تذوق للحق ولا إدراك للمعرفة.

أما قطع الأذنين فيشير إلى سبي الكهنة ومشيري الملك، الذين عوض أن ينصتوا للأنبياء الحقيقيين استمعوا للمشورات الشريرة الكاذبة، ودفعوا الشعب للهلاك. هكذا إذ نفتح آذاننا للمشورات الباطلة نفقد سماعنا لصوت الرب، كعالي الكاهن الذي لم يسمع نداء الله الذي سمعه الطفل صموئيل.

أما بقية أورشليم فتسقط بالسيف، إشارة إلى الشعب الذي يهلك بسبب هذه التصرفات. هذا يرمز إلى الجسد الذي يتدنس ويهلك بسبب حرماننا من نعمة التمييز وعدم سماعنا للصوت الإلهي.

أما حرق الأبناء والبنات في النار، فيتم باستخدامهم ذبائح بشرية للإله بيل أو ملوخ. هذه إشارة إلى تبديد الطاقات والمواهب التي كان يجب إن تقدم لمجد الله وبنيان النفوس، فتُستخدم لحساب الشيطان وتحطيم النفس وعثرة الآخرين.

نزع الثياب وسحب أدوات الزينة منها يشير إلى دخولها في عار وخزي علني أمام الأمم. هذه هي نهاية الخاطئ الذي يفقد كل كرامة له ويصير في خزى أمام الكل، خاصة في يوم الرب العظيم، إذ يقول: "وتكونين للضحك والاستهزاء" [32]، إذ يصير مثلاً وعارًا بعد أن تحطمه الخطيئة تمامًا.

4. خطاب ختامي للأختين:

يعتبر هذا الخطاب حديثًا ختاميًا يوجهه الرب للأختين معًا يكشف لهما فيه عن شرهما بصورة واضحة ويعلن عن بشاعته، سواء من جهة الرجاسات أو سفك الدم:

أ. لقد ارتكبتا خيانة زوجية، إذ تركتا الله وجرتا وراء الأصنام، ثم عادتا تنجسان مقادسه وتدنسان سبوته، فصارتا أشر من الأمم. هكذا إذ ينحرف المؤمن، يخلط المقدسات بالشر، فيجدف على اسم الله ومقدساته بسبب تصرفاته.

ب. ارتكبتا أبشع أنواع الجرائم البربرية، مثل تقديم أولادهما ذبائح للإله ملوخ، الذين هم أولاد الله.

ج. أرسلتا إلى رجال آتين من بعيد ليرتكبوا معهما الشر، وقد تزينتا بكل زينة، واستخدمتا بخور الله وزيته في الشر. وكأنهما لم يسقطا عفوا ولا نتيجة غواية من الآخرين، بل دبرتا خطة الشر بنفسيهما واستخدمتا حتى المقدسات الإلهية لتدفع الغير لارتكاب الشر معها.

د. لقد قبلتا من الرعاع أسورة في يديهما وتاجًا على رأسيهما عوض مواهب الله وأكاليله الأبدية.

بهذا استحقتا التأديب بيد هؤلاء الذين اشتركتا معهم في عبادة أصنامهم ورجاساتهم وسلمتا جسديهما وقلبيهما لهم، فيصيرا عبرة للجميع فلا يرتكبون فظائعهما [48]. ولعله قصد بهذا أن كنيسة العهد الجديد التي جاءت من الأمم، والتي كانت أممية وزانية، إذ رجعت إلى الله من خلال الإيمان بالسيد المسيح ودخلت إلى حياة الطهارة تستفيد من الدرس الذي تحقق في هاتين المملكتين قديمًا.

 

 


 

من وحي حزقيال 23

هب لي أن أنتفع من سقطات إخوتي!

v   هب لي أن أنتفع من سقطات إخوتي.

سقطت السامرة عاصمة إسرائيل،

فلم تنتفع أورشليم عاصمة يهوذا،

إذ ظنت أنها فوق كل قانون!

عوض التوبة سقطت في الرجاسات،

وصارت أكثر فسادًا من أختها!

علمني يا رب ألا أُدين أحدًا،

ولا أشمت في أحد،

ولا استكبر،

بل أتعظ من سقطات إخوتي!

v   أعترف لك بضعفي،

وأصرخ إليك طالبًا مراحمك.

اسندني، واسند اخوتي!

أعني وأعنهم،

متى نخلص جميعًا،

وننعم بشركة أمجادك يا محب البشر؟!

<<


 

الأصحاح الرابع والعشرون

الحصار النهائي

هذا هو ختام الحديث عن سبي يهوذا النهائي وتحطيم مدينة الملك العظيم، بدأت رؤياه بالمركبة النارية الإلهية لكي يلتهب قلبه رجاءً وسط الأنباء المُرّة (ص1)، وانتهت بهذا الحديث المُرّ، القدر المُلقى داخل النار، وتنهدات قلبه المكتومة كنار متأججة في داخله من أجل موت زوجته - شهوة عينيه - فجأة دون أن يبكيها أو يعلن حزنه عليها.

1. القدر والنار             [1-14].

2. وفاة زوجته             [15-27].

1. القدر والنار:

حدد الرب لحزقيال النبي السنة التاسعة من حكم يهوياقين في الشهر العاشر في اليوم العاشر كيوم اقتراب نبوخذنصَّر من أورشليم. لقد طلب الرب منه أن يدَّون هذا التاريخ في مذكراته، وقد جاء مطابقًا لتاريخ حصار أورشليم النهائي (2 مل 25: 1)، وكأن الرب أراد أن يعلن أن ما يحدث ليس وليد المصادفة ولا هو خطة بشرية لكنها أحداث تتم بسماح إلهي بخطة مرتبة في توقيت دقيق.

طلب الرب من حزقيال أن يضرب مثلاً "للبيت المتمرد" [3]، الذي يصير حالاً بيتًا خربًا ومدمرًا، فقد شبه أورشليم بالقدر المملوء زنجارًا (صدأ) وقد جمع فيه قطع لحم "طيبة، الفخذ، والكتف" وأن تملأ بخيار العظام لكي تغلي فتسلق عظامها في وسطها. وكانت كلمات الرب: "ويل لمدينة الدماء، القدر التي فيها زنجارها وما خرج منها زنجارها. أخرجوها قطعة قطعة، لا تقع عليها قرعة... كثِّر الحطب. أَضْرِم النار. أنضج اللحم، تبِّله تتبيلا، ولتُحرق العظام، ثم ضعها فارغة على الجمر ليحمي نحاسها ويحرق فيذوب قذرها ويفنى زِنجارُها" [6-11].

لقد رأى أورشليم كقدر والنار متقدة تحتها كما سبق أن رآها إرميا النبي (1: 13)، لكنها بخلاف المفهوم الذي حمله رؤساء الشعب حينما ظنوا أن أورشليم هي القدر الذي يحمي اللحم داخلها، فلا يقدر أحد أن يقترب إليه مادام في داخل القدر(خر 11: 3)، إذ ظنوا أن أورشليم تبقى سورًا نحاسيًا تحمي من بداخلها، يُدافع عنها الله مهما تكن الظروف لأنها مدينته. هنا يعلن حزقيال النبي العكس، إنها القدر الذي يسكب الله نار غضبه تحتها بسبب زنجارها أي فسادها. فالنار تُشير إلى مرارة السبي وتدمير لمن فيها بأمر إلهي، إذ يقول الرب للكلدانيين: "كثِّر الحطب، أضرم النار". لقد تزايدت جدًا في شرها لهذا تحتاج إلى نيران كثيرة لتأديبها.

أما وضع الماء مع القطع داخل القدر فإشارة إلى حالة الرخاوة التي صارت إليها يهوذا، قادة وشعبًا. لقد صار الكل كالماء لا حول له ولا قوة، كله ميوعة!

أما وضع القطع المختارة من الفخذ والكتفين مع العظام فإشارة إلى أنه لا يفلت العظماء والمسئولون كما لا يفلت الشعب. الكل يسقط تحت النار، ويخرجون قطعة قطعة ولا تقع عليهم قرعة، علامة خروج الجميع من المدينة بلا اعتبار لكرامة أحد أو قدراته أو إمكانياته، يتشتت الجميع في أرض غريبة بلا ترتيب. تُفرغ أورشليم من شعبها، وتدمَّر لكي تُطهر من صدأها المتكاثر، حيث دخلت العبادة الوثنية إلى هيكل الرب ومقدساته، على كل مرتفعة في الجبال والتلال، كما في الوديان وعلى ضفاف النهر، وتحت كل شجرة خضراء!

إنها صورة رهيبة لأورشليم المتقدة نارًا، لكن ليس بلا هدف. إذ يرى القديس جيروم أنه في هذا عودة للإصلاح، قائلاً: [وضع اللحم في القدر يعني أن الخطاة يصيرون لطفاء. فتتغير قساوتهم ويتحولون نحو الله، فتصير قلوبهم الحجرية قلوبًا لحمية... يا للرحمة العظيمة! يا له من سر عظيم! توضع قطع اللحم في القدر لكي يذوب قلب الإنسان ويعرف أنه هو الرب! [213]].

2. وفاة زوجته:

هذه خاتمة إعلانات الله لحزقيال النبي عن سبي يهوذا النهائي وهلاك المدينة، لقد بلغت الذروة حينما صار له الأمر الإلهي بأن زوجته تموت، وأن يعلن ذلك لرجال يهوذا، لا يذرف عليها دمعة، ولا يصنع مناحة ولا ينطق بكلمة حزن، يلف عصابته ويلبس نعليه ولا يُغطي شاربيه ولا يأكل من خبز الناس مع أن زوجته هذه هي شهوة عينيه! وبالفعل كلم الشعب هكذا وفي المساء ماتت زوجته لينفذ كل ما أمر به في اليوم التالي.

إنها صورة مرعبة لتدمير الشعب، العروس المحبوبة لدى الله، لكنه ليس من يبكي ولا من يسكب دمعة واحدة من شدة الحزن القاتل، فيتوقف اللسان عن الكلام وتجف الدموع، ويُبتلع الإنسان من الحزن الداخلي، ويصير كمن هو في ذهول.

لقد تحقق ذلك بالفعل، وكان ذلك آخر سهم يصيب حزقيال النبي بكونه قد صار آية لهم (24، 27)... يتنهد في مرارة داخله ولا يقدر أن ينطق، لقد رفض أن يقبل خبز الناس، أي خبز الحزن، حيث اعتاد الشرقيون أن يرسلوا طعامًا في بيت الحزن ليأكلوا... إنه لن يقبل شبعًا من يد بشرية ولا تعزية من إنسان!

لم يصنع مناحة على زوجته، لأنه لا يوجد في أورشليم من يبكي على قتلاها والمطرودين منها. أما لف العصابة عليه واحتذاؤه بالنعلين وعدم تغطية شاربيه فعلامة أنه لا مجال للبقاء في البيت للحزن... الكل يخرج ويهرب، ليس من يبكي ميتًا! أخيرًا تمت وفاة زوجته مساءً في الظلمة علامة عدم استعدادهم لهذه الأحداث رغم التحذيرات الإلهية المستمرة خلال الأنبياء.

 


 

من وحي حزقيال 24

جنازة بلا دموع!

v   شبهت شعبك باللحم الذي في قدر به صدأ،

تشتعل النيران بلا نفع،

لأن اللحم يصير ناضجًا، لكنه مسموم!

v   اسمح لي يارب أن أنتفع بنار تأديبك،

إنزع عن قلبي صدأ الخطية،

واقتلع جذور السموم من أعماقي،

عندئذ أنتفع بنيران تأديبك،

وأصير طعامًا نافعًا!

v   سمحت لنبيك أن تموت زوجته،

إنها شهوة عينية التي أحبها،

لكنه لا يبكيها ولا يقبل عزاءً فيها من إنسان!

ماتت في المساء وسط الظلمة،

هكذا تموت نفسي الثمينة جدًا،

تموت وسط ظلمة الخطية،

لا أطلب تعزية من بشر،

إنما أطلب عونك وتعزيتك،

أنت وحدك قادر أن تُقيمها من ظلمة قبرها،

وتجعلها هيكلاً مقدسًا لروحك القدوس!

<<

 

 

 


 

 

 

الباب الرابع

 

 

 

 

 

 

 

نبوات ضد الأمم لتأديبهم

 [ص 25- ص 32]

 

 

 

 

 

 


 

إذا دخلت أورشليم في الحصار وسقطت تحت التأديب بدأ حزقيال النبي يعلن عن إقامة الملكوت الجديد، الأمر الذي يحتاج أولاً إلى تحطيم الشر، فجاءت النبوات ضد الأمم الغريبة الشامتة في الشعب رمزًا لتحطيم قوى عدو الخير إبليس للدخول في الإصلاح الحقيقي في العصر المسياني، وعودة البشرية من سبي الخطيئة، وكأن الإصلاح يتحقق بواسطة جانبين متلازمين ومتكاملين: هدم مملكة الشر، وإقامة مملكة الله.

هذا ما رأيناه في دراستنا لليتورجيات الخاصة بالمعمودية[214]، فقد ظهر الخط واضحًا في جحد الشيطان وطرد قوى الشر من جانب وقبول مملكة المسيح من جانب آخر. وكأن طالب العماد، لكي يُقبل في الجيش الروحي للخلاص، يلتزم باعتزاله جيش إبليس. لهذا يقول الأب ثيؤدور المصيصي لطالبي العماد: [مادام الشيطان الذي أطعتموه مرة خلال رأس جنسكم (آدم) هو علة كل الشرور التي تلحق بكم لهذا يجب أن تتعهدوا بتركه[215]]، [الآن قد أُخْتِيرت لملكوت السموات، ويمكن التعرف عليك، إن فحصك أحد يجدك جنديًا عند ملك السماء[216]].

عددهم الرمزي:

لاحظ القديس جيروم في تفسيره للمزامير أن عدد الشعوب المقاومة في العهد القديم كما وردت في (مز 83) أحد عشر وليس اثنى عشر. فإنهم وإن كانوا أقوياء ومعاندين لكنهم لم يبلغوا رقم الكمال (12) الذي يشير لملكوت الله على الأرض... يبدو العدو قويًا لكننا متى تسلحنا بالله نفسه يضعف للغاية. لهذا إذ صرخ المرتل قائلاً: "اللهم لا تصمت لا تسكت ولا تهدأ يا الله، فهوذا أعداؤك يعجبون ومبغضوك قد رفعوا الرأس" (مز 83: 1-2) يعود فيقول: "يا إلهي اجعلهم مثل الجل، مثل القش أمام الريح، كنار تحرق الوعر، كلهيب يشعل الجبال، هكذا اطردهم بعاصفتك وبزوبعتك روعهم. املأ وجوههم خزيًا فيطلبوا اسمك يا رب. ليخزوا ويرتاعوا إلى الأبد، وليخجلوا ويبيدوا" (مز 83: 13-17).

لهذا كان القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا ما يؤكد أن الشيطان وإن تظاهر بسلطان عظيم لكنه بلا سلطان علينا، إنما يخدعنا ويضللنا. والخطيئة وإن كان قتلاها أقوياء، لكنها في حقيقتها ضعيفة وعاجزة إن رفضناها. بخوفنا نسقط تحت أسر الشيطان ونقبل الخطيئة في داخلنا فنصير تحت ذلها.

غير أن الأمم التي تنبأ ضدهم حزقيال هم سبعة إشارة إلى تحطيم كل قوى الشر، لأن رقم 7 يشير إلى الكمال، فلا يكون لها مجال في ملكوت الله. كما يلاحظ أنه لم يذكر بابل ضمن هذه الأمم الغريبة ربما لأنها هي الأداة التأديبية التي يستخدمها الله.

أخيرًا فإن حزقيال لم ينفرد وحده بهذه النبوات بل أعلنها أيضًا إرميا (46-51) وإشعياء(13-23) وعاموس (1، 2) وصفنيا (2: 4-15).

<<

 

 


 

الأصحاح الخامس والعشرون

نبوات ضد أربع أمم شامته

إن كانت إسرائيل في العهد القديم تشير إلى شعب الله فإن الأمم المعادية لها كانت في القديم رمزًا للشر والخطيئة، لهذا فإن كان الله قد أعلن تأديبه لشعبه في أحاديث طويلة وبطرق متنوعة، لكنه يعود فيعلن تحطيمه للشر من خلال هذه الرموز. وقد بدأ بالأعداء الأربعة الذين ترجع عدواتهم للشعب إلى ما قبل قيام المملكة، وإن كانت العداوة تزايدت على مر الأيام، هؤلاء الأعداء هم: بنو عمون، موآب، أدوم، الفلسطينيون.

1. نبوات ضد بني عمون             [1-7].

2. نبوات ضد موآب        [8-11].

3. نبوات ضد آدوم                   [12-14].

4. نبوات ضد الفلسطينين             [15-17].

1. نبوات ضد بني عمون:

بنو عمون من نسل بني عمِّي[217]، ابن لوط (تك 19: 38). كانوا قساة القلوب، يقدمون أولادهم ذبائح للإله مَلْكوم (1 مل 11: 5-33)، كما كانوا يعبدون كموش إله الموآبيين في أيام يفتاح (قض 11: 24). تحالفوا مع بني موآب ضد بني إسرائيل، لذلك حكم الله عليهم ألا يدخل منهم أحد في جماعة الرب حتى الجيل العاشر (تث 23: 3).

كانوا في حرب دائمة معهم (1 صم 11: 1-10، 2 صم 12: 26-31، 2 أي 20: 1، 2 مل 24: 2). وحينما سقطت يهوذا تحت السبي البابلي أقام ملك بابل جدليا في أورشليم حاكمًا من قبله فصار يجمع البقية الباقية من اليهود، فأرسل بعليس ملك بني عمون إسماعيل بن نثنيا وقتله ليُشتت اليهود (إر 40، 41)، وكانوا دائمًا يسخرون باليهود ويهزأون بهم في سبيهم لهذا هددهم إرميا النبي بالدمار (49: 1-6)، وعاموس (2: 13-15) وصفنيا (2: 8، 11). وقد عارضوا نحميا في بناء السور بعد السبي (نح 4: 3، 7). أخيرًا حاربهم اليهود في عهد المكابيين وانتهى تاريخهم بالتدريج في العهد اليوناني والعهد الروماني، وأقيمت مدينة عمان على بقايا عاصمتهم ربة عمون.

لقد طلب الرب من حزقيال النبي أن يجعل وجهه ضد بني عمون ويتنبأ عليهم [2]، وكأنه يمثل الله إذ "وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم" (مز 34: 16). فإن كان الرب قد أعلن تأديباته ضد إسرائيل إنما لتوبتهم، أما بنو عمون وهم يمثلون خطية الكبرياء فإن الله يوجه وجهه ضدها ليبيدها.

يمثل بنو عمون خطية الكبرياء، التي هي أولى الرذائل، إذ يقول: "من أجل أنك قلت هه على مقدسي... من أجل أنك صفقت بيديك وخبطت برجليك وفرحت بكل إهانتك للموت على أرض إسرائيل..." [3-6]. لقد وقفت في عجرفة تتفاخر على مقدس الرب، وتهلل بيديها وتخبط برجليها وتفرح بما حلّ بأورشليم، الأمور التي لم يَرَها حزقيال إذ كان في أرض السبي لكن الرب كشفها له. لهذا يذلها الرب ويسلمها لبني المشرق [4] يستغلون كل إمكانياتها ويجعلون عاصمتها "ربة" مناخًا للإبل وكل مدنها مربضًا للغنم [5].

في كبرياء شمتت في خراب يهوذا وبليتها ولم تعلم أنه بعد خمس سنوات يعود نبوخذنصَّر ويهاجمها ويخرب عاصمتها المدينة الجميلة الغنية "ربة"[218] فتصير خرابًا وتأتي القبائل من شرق عمون: قبائل الآراميين Aramaean والعربية وتستخدمها مناخًا (اصطبلاً) للإبل وتتحول مدنها إلى مربض للأغنام.

حينما يتعالى الإنسان بالكبرياء يسقط، فيصير بهاؤه خرابًا، ويصير قلبه مرعى للحيوانات: "تربض في وسطها القطعان كل طوائف الحيوان" (صف 2: 14). يتحول الإنسان من إنسانيته الرقيقة التي خلق بها على صورة الله ومثاله إلى الحيوانية المفترسة غير العاقلة. هذا ما فعلته الكبرياء بالملك بلطشاصَّر، طُرد من بين الناس وصار مسكنه مع حيوان البر وطعامه العشب كالثيران (دا 4: 25). لهذا كان الآباء الكنسيون يهتمون جدًا بالتمتع بروح الاتضاع والهروب من الكبرياء، حتى قال أحدهم: "لا تسكن في موضع له اسم، ولا تجالس إنسانًا عظيم الاسم"[219]. كما قال القديس باسيليوس الكبير: [إن أردت أن تكون معروفًا عند الله فاحرص ألا تكون معروفًا عند الناس[220]]. وقال الأنبا تيموثاوس: [إذا كرَّمك الناس فخف جدًا... اهرب من كرامة الكثيرين، لئلا يغرقوا مركبك[221]].

2. نبوات ضد موآب:

أن كان بنو عمون هم نسل بني عمى ابن لوط من ابنته الصغرى، فإن موآب هو الابن الذي من ابنته الكبرى، وقد دعي هكذا لأن أمه أنجبته من أبيها لوط فدُعِىَ موآب أي "من الأب" أنجبته من أبيها وهو في حالة سكر وعدم وعي. هذا ما دعى القديس جيروم أن يعتبر موآب يشير إلى الشيطان والخارجين عن الله أبيهم، الذين لا يفكرون في أبيهم[222].

امتدت ذرية موآب في شرقي بحر لوط وطردوا الإيميين من هناك (تث 2: 11)، وعبدوا الإله كموش. كانت علاقتهم بالعبرانيين أحيانًا طيبة، فقد أوصى الله العبرانيين ألا يأخذوا أرضهم (تث 2: 11)، لكن غالبية الوقت كانت العلاقة عدائية، ففي أيام القضاة أخضع الموآبيون العبرانيين ووضعوا عليهم جزية إلى أن قتل أهود عجلون ملك موآب (قض 3: 12-30)، وكانت راعوث الفتاة المحبة لحماتها موآبية.

حارب شاول الملك الموآبيين، وحينما هرب داود من أمام وجهه جعل والديه تحت حمايتهم (1 صم 22: 3-4)، لكنه إذ صار ملكًا ضربهم بشدة (2 صم 8: 2) وجعلهم عبيدًا له. وبعد موت سليمان صارت موآب جزءًا من المملكة الشمالية، وفي مُلك يهوشفاط هجموا على اليهودية لكنهم انهزموا أمامها (2 مل 3)، وبعد ذلك صارت موآب تارة خاضعة وأخرى مستقلة. وفي أيام الملك يهوياقيم حالفت موآب الكلدانيين ضد يهوذا (2 مل 24: 2).

في نبوته ضد موآب ربط بها سعير [8] مركز الأدوميين لاتحادهما في الشر. ويلاحظ أن كلمة "سعير" عبرية تعني "كثرة الشعر"، أطلقت على الأرض التي استولى عليها عيسو أو أدوم ونسله من الحوريين (تك 32: 3)، وكانت تسمى جبل سعير لأنها منطقة جبلية، تقع على الجانب الشرقي من البرية العربية، وهى جبل سعير الذي في أرض يهوذا (يش 15: 10).

إن كانت دولة بني عمون تشير إلى خطيئة الكبرياء، فإن موآب تشير إلى "روح عدم التمييز"، فقد ظنت أنه لا فرق بين الله الحيّ والإلهة الوثنية، وحسبت بهلاك يهوذا وتدمير أورشليم أنه لا خلاص للشعب مرة أخرى: "يقولون هوذا بيت يهوذا مثل كل الأمم" [8]. لهذا يؤدبهم الرب بفتح مدنهم الحصينة التي على الحدود "بيت بشيموت[223] وبعل معون[224] وقريتايم[225]" التي هي سر قوتهم ليُحطمها الكلدانيون ويتركوها خرابًا فيأتي بنو المشرق ويستخدمونها للحيوانات كما يفعلون ببني عمون.

إن كان بنو عمون قد فقدوا حياتهم بسبب كبريائهم. هكذا يفقد بنو موآب حياتهم بسبب عدم التمييز أو الإفراز. وكما يقول القديس مار إفرام السرياني: [وبغير طين لا يُبنى البرج، بغير معرفة لا تقوم فضيلة[226]].

3. نبوات ضد آدوم:

"آدوم" معناها "أحمر" أو "دموي (سافك دم)"، كما تعني "من الأرض"[227] لهذا يشير بنو آدوم إلى سفك الدم أو خطيئة الظلم.

"آدوم" هو لقب عيسو الذي كان عنيفًا يحمل عداوة ضد أخيه يعقوب، أُطلق هذا الاسم على الإقليم الذي يسكنه عيسو، أي على أرض سعير (تك 32: 3)، وهو إقليم جبلي وعر، استولى عليه عيسو ونسله بعد طردهم الحوريين (تث 2: 12). لم يأذنوا للعبرانيين أن يعبروا في أرضهم بعد خروجهم من مصر (عد 20: 14-41)، وإن كانوا يُعتبرون إخوة لهم (تث 23: 7-8). غزا داود آدوم وأقام عليها حراسًا (عد 24: 18)، فهرب هدد - أحد أمراء آدوم - إلى مصر وصار خصمًا لسليمان (1 مل 11: 14-22). في أيام يهوشفاط غزا الأدوميون والعمّونيون والموآبيون يهوذا لكنهم عادوا يحاربون بعضهم البعض (2 أي 1: 20، 22، 23). وقد عاون الأدوميون إسرائيل ويهوذا في حربهم ضد ميشع ملك موآب (2 مل 3: 4-27) لكنهم ثاروا في أيام حكم يورام بن يهوشفاط فقهرهم، لكنه لم يقدر أن يخضعهم (2 مل 8: 20، 1 أي 21: 8-10). وقتل أمصيا عشرة آلاف من الأدوميين إذ طوح بهم من فوق قمة الصخرة فقتلهم في وادي الملح وأخذ منهم سالع[228] عاصمتهم (2 مل 14: 7، 2 أي 25: 11-12). غزا الأدوميون سبط يهوذا، وأخذوا منهم أسرى في أثناء حكم آحاز... وقد ابتهجوا عند تخريب نبوخذنصَّر أورشليم (مز 137: 7). كما استولوا عليها حتى مدينة حبرون. وقد تنبأ الأنبياء ضدها بسبب عدائها الشديد لإسرائيل، كما تنبأوا بإدماجها ضمن ملكوت الله (إر 49: 7-22، مرا 4: 21-22، يؤ 3: 19 الخ). وفي القرن الخامس ق.م طردهم الأنباط من جبل سعير، وفي القرن الثاني ق.م استولى يهوذا المكابي على حبرون وغيرها من المدن التي استولى عليها الأدوميون (1 مكابيون 5)، وقد أرغم يوحنا هركالوس الأدوميين على الاختتان وأدخلهم ضمن جماعة اليهود[229]، وكان هيرودوس الكبير أدوميًا.

إن كانت أدوم تشير إلى خطيئة الظلم وسفك الدم، فإنه بالكيل الذي به تكيل يكال لها. هي انتقمت لهذا يقول الرب "أمد يدي على أدوم وأقطع منها الإنسان والحيوان" [13]. ومن يقتل بالسيف فبالسيف يقتل. إنه صيِّرها خرابا من التيمن[230] في الشمال إلى دوان[231] في الجنوب حيث يسقطون بالسيف.

4. نبوات ضد الفلسطينيين:

كان الفلسطينيون في العهد القديم يمثلون عداوة شديدة لشعب الله، ويفسر القديس جيروم اسمهم "موت بسبب جرعة سامة" لذلك كانوا في رأيه يمثلون الذين يشربون كأس غواية الشيطان فيسقطون سريعًا[232]، إنهم انتقموا من يهوذا مثل بني آدوم، ولعل الأخيرون قد أغووهم على ذلك. على أيه الأحوال هزمهم نبوخذنصَّر بعد سقوط أورشليم بوقت ليس بطويل.

استئصاله الكريتيين، ربما قصد بهم جماعة فلسطينية كانوا قد قدموا من جزيرة كريت في الربع الأول من القرن الثاني عشر ق.م.

العداوة بين العبرانيين والفلسطينيين قديمة من بعد دخول الأولين أرض الموعد حيث احتلوا بعض مدنهم بعد موت يشوع (قض 1: 18)، لكن الفلسطينيون استردوا مدنهم وسقط العبرانيون في قبضتهم (قض 10: 6-7)، ثم أُنقذوا. عاد الفلسطينون فأذلوا العبرانيين أربعين سنة حتى أنقذهم شمشون (قض 14-16). وفي عهد صموئيل النبي استولوا على تابوت العهد (1 صم 4-6) ثم عاد فهزمهم صموئيل بعد عشرين عامًا... ودخلوا في حرب مع العبرانيين أيام شاول الملك، والتجأ إليهم داود الملك مرتين، ولما ملك حاربهم. وبعد موت داود لم نسمع عنهم كثيرًا...

 

 


 

من وحي حزقيال 25

حطم يا رب فساد الأمم فيّ!

v   إني أعلم حبك لكل بني البشر، لجميع الأمم!

ما تنبأ عنه أنبياؤك إنما لتحطيم الشر الذي فيّ!

من هم بنو عمون إلا الكبرياء الذي يحدر نفسي؟!

من هم بنو موآب إلا رفضي أبوتك وانتسابي إلى أب آخر؟!

من هم الأدوميون إلا طبيعتي العنيفة سافكة الدماء؟!

من هم الفلسطينيون القدامى إلا الارتباك الداخلي؟!

حطم يا رب فسادي لكي أتقدس لك!

انزع كبريائي فأنعم باتضاعك!

ردني إلى أبوتك فأترك أبوة إبليس!

جدد قلبي الحجري فيترفق بكل أحد!

انزع كل ارتباك في داخلي لأحمل سلامك الأبدي!

<<

 


 

الأصحاح السادس العشرون

نبوات ضد صور

بعد أن عرض سريعًا للنبوات ضد بني عمون وموآب وأدوم والفلسطينيين خصص الأصحاحات الثلاثة (26-28) للنبوات ضد صور، الأصحاح الأول تحدث عن إدانة صور، والثاني مرثاة على صور، والثالث عبر إلي رئيس صور نفسه. أما الأصحاح الأول (26) فتحدث عن:

1. شر صور                         [1-2].

2. الله ضدها                         [3-6].

3. نبوخذنصَّر يُخربها                 [7-14].

4. أثرها على الجزائر                [15-19].

5. هبوطها في العالم السفلي          [20-21].

1. شر صور:

صور مدينة فينيقية شهيرة، ظهرت حوالي عام 2750 ق.م في البر، ولكن مع الزمن ولأسباب دفاعية نقلت إلي جزيرة صخرية مجاورة حملت ذات الاسم مساحتها 142 فدانًا، لها ميناءان وهي أقرب إلي بني إسرائيل من صيدون وتفوقها في العظمة، لم يحتلها العبرانيون في أيام يشوع. أرسل ملكها مواد البناء لداود الملك (2 صم 15: 11) ولسليمان الحكيم (1 مل 9: 10-14). أسلم الصوريون بني إسرائيل إلي أدوم  (عا 1: 9) وجردوهم من سلعهم، وباعوهم عبيدًا لليونانيين (يؤ 3: 5-6). حاصرهم نبوخذنصَّر 13 سنة (585 – 573 ق.م) وأخيرًا تفاوضت معه واعترفت بسلطانه. كما حاصرها الإسكندر الأكبر واحتلها عام 332 ق.م. ثم ما لبث أن استعادت مجدها، وبعد موته وقعت تحت صولة السلوقيين ثم أخذها منهم الرومانيون.

مر على شواطئها السيد المسيح (مت 15: 21-28)، (مر 7: 24-31) كما اتصل به قوم من صور (مر 3: 8، لو 6: 17). وقد دخلت المسيحية إليها في العصر الرسولي (أع 21: 3-4)، وقد دفن العلامة أوريجانوس في الباسيليكا بصور، وشيد فيها القديس بولينوس كنيسة فخمة ألقي فيها يوسابيوس المؤرخ عظة يوم تكريسها سنة 323. وفي القرن الرابع وصفها القديس ايرونيموس أنها أشرف مدن فينيقية وأجملها وقال إنها تتجر مع العالم كله. وكانت متميزة عن كل أسقفيات الكرسي الأنطاكي بعد أنطاكية، فكان رئيسها يسلم البطريرك عصا الرعاية أثناء تنصيبه[233].

أما اسم "صور" فهو اسم سامي يعني "صخر"، ربما لأنها قامت على جزيرة صخرية، إلا أن القديس جيروم يرى أن كلمة "صور" في العبرية تعني "محنة"[234]، لذا يرى سكانها يمثّلون الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه.

على أيه الأحوال جاءت هذه النبوة (حز 26) ضد صور في السنة الحادية عشر في أول الشهر، أي بعد خراب أورشليم، لكن لم تكن أية أخبار قد وصلت إليه وإلي المسبيين في المرحلة الأولى، إذ عرف في السنة الثانية عشرة في الشهر العاشر في الخامس من الشهر (حز 33: 21).

أما خطيئة صور فهي الطمع إذ استغلت خراب أورشليم؛ لقد شمتت قائلة: "هَهْ قد انكسرت مصاريع الشعوب، قد تحولتْ إليَّ، أمتلئُ إذ خرِبتْ" [2]. كانت أورشليم أشبه بمصاريع (أبواب) الشعوب بأحد معنيين إما أنها كانت قوية كالأبواب المغلقة لا تقدر الشعوب أن تقهرها، فصارت مفتوحة على مصراعيها وخربة يدوسها الجميع، مفتوحة لصور كما لغيرها من الشعوب، وإما أنها (أورشليم) كانت مركزًا للتجارة العالمية وبخرابها انفتحت أمام صور لتغتصب منها كل عملائها وتغتني على حسابها، لأن صور كانت تعيش على التجارة.

2. الله ضدها:

إذ طمعت في أورشليم، استغلت خرابها لتمتلئ متهللة مبتهجة لاغتنام هذه الفرصة، لهذا يقف الله نفسه ضدها فيُهيج الأمم عليها كما يرسل البحر أمواجه بلا توقف. إنه يحدثها باللغة التي تفهمها صور كجزيرة وسط البحر. لقد ظنت بخراب أورشليم أن تأتيها السفن من كل العالم تطلب بضائعها فتغتني، لكن هوذا البحر عوض أن يرسل سفنه يرسل إليها أمواجه فيخرب أسوارها ويهدم أبراجها ويسحب ترابها عنها ويجعلها صخرة عارية تمامًا.

لقد فرحت لأن أبواب أورشليم المغلقة انفتحت لها قسرًا، هوذا صور نفسها قد صارت بلا أسوار ولا أبواب ولا أبراج، بل بلا تراب، صخرة لا تصلح للحياة، لا يسكنها إنسان ولا يستريح فيها حيوان، ولا ينبت فيها نبات. حقًا إن من يظن في أخيه أنه غنيمة له يجعله الرب غنيمة للآخرين، لا بل يصيّره بلا نفع لشيء قط! هذا هو ثمر الطمع في حياة الإنسان!

3. نبوخذنصَّر يُخربها:

إن كان نبوخذنصَّر قد حطم أورشليم، فإنه حاصر أيضًا صور بجيشه ثلاثة عشر عامًا حتى فتحها. صارت غنيمة له ولجيشه، وقد صوَّر النبي حال صور الطامعة في أورشليم في النقاط التالية:

أ. يقتل بناتها [8]، وربما هنا يقصد قتل عملائها الذين يأتون من كل العالم يتاجرون معها... وترمز البنات إلي أعمال الجسد وثمره، فالإنسان الشامت في أخيه يصير بلا ثمر. عوض اغتنام صور من وراء أورشليم تفقد كل ثمر مادي!

ب. بكثرة جيشه وخيله يغطيها بغبارها، فتفقد كل رؤية وتخسر كل جمالها، فلا يفد إليها تجارها.

ج. يقتل شعبها بالسيف فتسقط إلي الأرض أنصاب عزها [11]. علامة قتل شعبها وقادتها الذين يسقطون من العز والكرامة إلي التراب.

د. ينهبون ثروتها ويغتنمون تجارتها ويهدمون أسوارها وبيوتها البهجة ويضعون حجارتها وخشبها وترابها في وسط المياه، فتصير صخرة عارية تمامًا من كل شيء حتى من التراب!

هـ. يبطل أغانيها وصوت العود والفرح [13].

هذا هو عمل الطمع، ليس فقط يخسر الإنسان ما قد طمع فيه، إنما يفقد ثروته وقوته وجماله وفرحه وصحته، ويفقد الآخرين ويصير مجردًا من إنسانيته وكل حيوية فيه!

ظنت صور أنها تقتني مكاسب كثيرة بخراب أورشليم، فإذا بها تدخل لا في خسائر مادية فحسب وانما تفقد بنيها وبناتها.

حسبت أنها تصير موضع انشغال العالم بابادة أورشليم، فإذا بالجيوش تحيط بها فيغطيها الغبار، ويسخر الكل بها.

تترقب كرامة وعظمة بانهيار أورشليم فيُقتل شعبها مع قادتها...

عوض المكاسب التي تتنبأ بها بخراب أورشليم تصير غنيمة لناهبيها، تفقد كل حصانتها، ويزول جمالها، وتتحول إلي صخرة عارية.

صارت تغني وترقص طربًا بهلاك أورشليم، فنُزع عنها الفرح والبهجة!

4. أثرها على الجزائر:

"أما تتزلزل الجزائر عند صوت سقوطك عند صراخ

 الجرحى عند وقوع القتل في وسطك؟! فتنزل جميع

رؤساء البحر عن كراسيهم، ويخلعون جببهم

وينزعون ثيابهم المطرزة، يلبسون رعدات،

ويجلسون على الأرض، ويرتعدون كل لحظة،

ويتحيرون منك، ويرفعون عليك مرثاة" [15-17].

انهيار صور يزلزل بقية الجزائر، فقد ظنوا أن هذه الجزيرة الغنية والشهيرة، التي تقف كالصخر وسط البحر لا يقدر أحد أن يهزمها أو يفتحها. لقد انهارت صور، فماذا تفعل البلاد الصغيرة؟!، لا يحتاج الأمر إلي محاربتهم، إنما ينزل الرؤساء عن كراسيهم من الخوف ويخلعون ثياب الملك، وتلبسهم الرعدة، ويجلسون على الأرض في خوف وحيرة! إنهم يرفعون مرثاة على صور وهم في الواقع يبكون حالهم!

لقد سقط حنانيا وسفيرة وماتا لأنهما كانا طماعين، كذبا على الروح القدس واختلسا من ثمن الحقل (أع 5: 3)، فصار خوف عظيم على جميع الذين سمعوا بذلك. لقد صارا كصور الطامعة، ففقدا حياتهما مع ممتلكاتهما وفصارا عبرة للآخرين.

لعل هذه الجزائر تشير إلي التجار القادمين إليها للتعامل معها أو إلي السفن القادمة تحمل البضائع من كل العالم... إنها تقدم مرثاة على صور مركز التجارة. يا للعجب حين سقطت أورشليم مدينة الملك العظيم لم تجد من يرثيها بل وجدت من يستهزئ بها ويُعيّرها، أما صور فحين خربت قامت الجزائر ترثيها. أورشليم سقطت لكن الرب أقامها بعد أن تأدبت، أما صور فسقطت فرثاها العالم أما هي فلم تقم بل زالت إلى الأبد! هكذا يسقط المؤمن تحت التأديب وليس من يشفق عليه لكن عين الرب تترفق به وتسنده، أما الشرير المصمم على شره فحين يسقط يرثيه الكثيرون أما هو فلا يقوم! وربما قصد هنا "الشر" ذاته إذ يسقط ولا يقوم.

5. هبوطها في العالم السفلي:

"أُهبطك مع الهابطين في الجب إلى شعب القدم.

وأُجلسك في أسافل الأرض، في الخرب الأبدية مع

الهابطين في الجب لتكوني غير مسكونة، وأجعل فخرًا

في أرض الأحياء، أُصيّرك أهوالا ولا تكونين، وتُطلبين

فلا توجدين إلي الأبد" [20-21].

إن كانت صور تمثل خطيئة الطمع، فإنها وإن كانت تبدو في البداية براقة وجذابة ويشتهيها الكثيرون، لكنها مخادعة، تبيد ولا تعود توجد بعد. إنها كغيرها من جميع الخطايا، يظن الإنسان فيها كل شعبه ولذته وسعادته، لكنه سرعان ما يكتشف أنها ليست بموجودة. إنها كالسراب يجري وراءه الإنسان ولا يرتوي!.

 

 


 

من وحي حزقيال 26

لتسقط هي فأغتني!

v   لتسقط هي فأغتني أنا!

هذا ما تغنت به صور عندما انهارت أورشليم!

انها شامتة طامعة على حساب غيرها!

v   تُرى ماذا اقتنت بصور بخراب أورشليم؟

عوض أن تقتني التجار فقدت بناتها،

عوض انشغال العالم بها وحدها صارت غنيمة الجيوش،

عوض نوال كرامة قُتل شعبها،

وعوض الفرح والغناء صارت صخرة عارية بائسة!

v   علمني يا رب الحب والرحمة،

فلا أشمت بمصائب إخوتي، ولا أستغل هذه الفرص لصالحي!

انزع صور من قلبي،

وهب لي أن أُبذل لأجل إخوتي،

أشاركهم مشاعرهم،

وأحسبهم فرحي وإكليلي!

<<

 

 


 

الأصحاح السابع والعشرين

مرثاة على صور

طلب الرب من حزقيال النبي أن يرفع مرثاة على صور، جاءت عناصرها هكذا:

1. صور السفينة الفينيقية الكاملة    [1-11].

2. حمولتها الثمينة                   [12-24].

3. تحطيم السفينة                    [25-36].

1. صور السفينة الفينيقية الكاملة:

إن كانت أورشليم تشير إلى النفس التي قبلت نعمة الله - ففي العهد القديم تشير إلى الكنيسة المتمتعة بالناموس الموسوي والأنبياء، وفي العهد الجديد تشير إلى الكنيسة وقد تمتعت بالخلاص الأبدي من خلال النعمة الإلهية في المسيح يسوع - فإن صور هنا تمثل الإنسان الطبيعي: مركزه وإمكانياته وعطايا الله له ثم سقوطه وانهياره من خلال الخطيئة. فما يقوله هنا عن صور إنما يقوله عن الطبيعة الإنسانية كلها. لقد شبهها بسفينة فينيقية في موقع ممتاز، تتعامل مع كثرة من الشعوب، قوية البناء، ثمينة للغاية، فاخرة في صناعتها، طاقمها ممتاز، لا ينقصها  شيء. هذا هو الإنسان "عمل يديْ الله محب البشر".

لقد أقامها الله "عند مداخل البحر"، إذ تقع صور في شرق البحر الأبيض المتوسط كجزيرة جميلة لها ميناءان، موقعها يجعلها قادرة على جلب التجار من كل بلاد الشرق؛ "تاجرة الشعوب إلى جزائر كثيرة" [3]، "تخومك في كل البحار" [4]. لقد أقام الله الإنسان عند مداخل البحار "فوق كل خليقة أرضية" بكونه على صورة الله، فيتسلط على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض (تك 1: 26)، سلمه هذه التجارة ليصير سيدًا لا عبدًا للأمور الأرضية الزمنية؛ جعل تخومه في كل البحار، أي صاحب سلطان على كل شيء. إنه لم يرد أن يخلقنا لنعيش في حالة حرمان مادي أو نفسي، بل أراد لنا شبعًا في كل شيء.

وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [في مقاله عن الخليقة أن الله لم يخلق الإنسان إلا بعدما خلق العالم كقصر ملوكي، فإنه لا يليق الإعلان عن الملك ما لم

يُعد قصره].

أقام الله الإنسان جميلاً في كل شيء، أكمل خليقته على الأرض، لهذا بعد أن خلقه قيل: "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا" (تك 1: 31)... وتقول المرثاة: "بنَّاؤوك تمموا جمالك" [4]، سر جمالنا هو الله الذي بنى حياتنا، ووهبنا الإمكانيات الداخلية والجسد كعطية مجانية من قبله. لكن الإنسان في كبرياء قبله عوض أن يشكر الله ويمجده ينسب كل كمال لنفسه، إذ تقول المرثاة: "يا صور أنت قلت أنا كاملة الجمال" [3].

أما سر جمالها فهو:

ألواحها من سرْو سَنير[235]،

سواريها من أرز لبنان،

مجاذيفها من بلوط باشان[236]،

مقاعدها من عاج مطعم في البقس من جزائر كتيم.

شراعها كتان مطرز من مصر،

غطاؤها أسمانجوني وأرجوان من جزائر أليشة[237].

ملاحوها من أهل صيدون[238] وأارواد[239]،

وربابنتها حكماء من صور ذاتها،

قلافوها من شيوخ جبيل وحكمائها،

رجال حربها (حراسها) من فارس ولود[240] وفوط[241]،..

هكذا قدمت المرثاة تفاصيل كثيرة لمواد البناء للسفينة وجنسية طاقمها وحراسها. ومما يلزم ملاحظته أن السفينة عند الأمم كثيرًا ما تشير إلى رحلة الحياة التي يعيشها الإنسان في العالم ليدخل إلى الميناء، كما أن سفينة نوح رمزت إلى الكنيسة أو إلى الإنسانية المتمتعة بالخلاص الإلهي، لهذا كثيرًا ما تُبنى الكنائس على شكل سفينة[242]، وكما يقول الأب هيبوليتس: [البحر هو العالم، نزلت إليه الكنيسة حتى العمق لكنها لم تهلك لأن قبطانها المسيح ماهر. إذ تحمل صليب الرب إنما تحمل الغلبة على الموت في داخلها...

 البحارة هما العهدان (القديم والجديد).

والجبال المحيطة بها هي محبة المسيح التي تربط الكنيسة.

 الشبكة التي معها هي جرن الميلاًد الجديد الذي يجدد المؤمنين.

الروح القدس حال فيها كبحار ماهر يُختم به المؤمنون...

لها مراسي من حديد تحتفظ بها، هي وصايا المسيح نفسه، قوية كالحديد!

 بها نوتية على اليمين واليسار، خدام كالملائكة القديسين يديرون الكنيسة ويحفظونها.

 السلم الذي نصعد به إلى ظهر السفينة هو تذكار آلام المسيح، به ترتفع قلوب المؤمنين إلى السماء.

القلاع فوق السفينة هي شركة الأنبياء والشهداء والرسل الذين يدخلون راحتهم...[243]].

وكما تشير السفينة إلى الإنسانية المتجددة من خلال صليب المسيح، فهي تشير أيضًا إلى الطبيعة الإنسانية قبل السقوط، ولهذا فإن ما ورد في المرثاة من تفاصيل إنما تشير إلى عطايا الله لنا خلال إنسانيتنا من جسد صالح، ونفس عاقلة وعواطف وأحاسيس وميول ودوافع وطاقات مباركة، لأنها هي عمل يدي الله الصالح محب البشر.

نستطيع القول أن ألواح السفينة أو عوارضها هي أعضاء الجسد، وساريتها هي العقل، والمجداف هو اللسان، والمقاعد هي بقية الحواس، والشراع هو القلب، والغطاء هو السلوك اللظاهري، والملاحين هم طاقات النفس الداخلية، وربانها هو روح الإفراز والتمييز، والقلافون هم المواهب، والحراس هم الدوافع الداخلية.

أ. كل الألواح من سرو سنيز، أي أن كل أعضاء الجسد التي هي بمثابة عوارض السفينة تأتي من جبل النور (سنيز)، وليس كما ظن الغنوصيون أنه من مملكة الظلمة. لهذا كثيرًا ما عالج الآباء هذا الأمر، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هؤلاء (أتباع ماني) يدعون الجسد غدارًا، من أصل شرير... ألا يلزمهم بذلك أن يفقأوا أعينهم لأن الشهوة تدخل إلى النفس عن طريقها؟! لكن الحقيقة ليست العين ولا أي عضو آخر هو الذي يلام إنما إرادتنا الفاسدة وحدها هي موضع اللوم[244]]. كما يقول: [لقد وُهبت لنا الأعين لننظر بها الخليقة، فنمجد السيد الرب، لكننا إن كنا نسيء استخدامها تصير خادمة للزنا...[245]]. كما يقول القديس أغسطينوس: [الروح صالحة، والجسد صالح. والإنسان المكون من الاثنين هو بالتأكيد صالح، سواء كان صلاحه هذا قليلاً أو كثيرًا[246]].

ب. السارية: أي العقل، مأخوذ من أرز لبنان، هذا الذي يُعرف باستقامته، فقد خلق الله للإنسان عقلاً مستقيمًا يقوده كل الطريق بغير انحراف إذ "الإنسان العاقل حقًا له اهتمام واحد، وهو أن يطيع الله القدير من كل القلب وأن يرضيه، وهو يُعّلم نفسه شيئًا واحدًا فقط، وهو كيف يصنع قدر استطاعته ما يوافق الله، شاكرًا إياه على عنايته المتحننة التي تعمل في كل ما يحدث له في حياته"[247].

ج. المجداف الذي يقود السفينة هو اللسان، إذ يقول معلمنا يعقوب: "هوذا السفن أيضًا وهي عظيمة بهذا المقدار وتسوقها رياح عاصفة تديرها دفة صغيرة جدًا إلى حيثما شاء قصد المدبر، هكذا اللسان وهو عضو صغير ويفتخر متعاظمًا" (يع 3: 4-5). ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أُعطينا لسانًا نعلم ونسبح به الخالق، لكننا إن لم نحترز لأنفسنا يصير علة تجديف[248]].

د. المقاعد هي الحواس التي ينبغي أن تكون من العاج المطعم، أي مملوءة طهارة ونقاوة. يقول القديس يوحنا سابا: [كل من يشاء الآن أن يحفظ نفسه وضميره من الأعمال الشريرة، فليحفظ هذه الحواس ويسلمها في يد الله الأمين معين الضعفاء[249]].

هـ. الشراع هو القلب ينبغي أن يكون من الكتان الطرَّز، نقيًا طاهرًا، فإذ يتقدس القلب يصير الإنسان مسكنًا لله، لهذا يصرخ المرتل: "قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدد في أحشائي" (مز 51).

و. غطاء السفينة الذي هو السلوك، فمن أسمانجوني أي يحمل الطبيعة السماوية، ومن الأرجوان أي يحمل سمة الملوك. فالسلوك إنما يعبر عما يحمله القلب في الداخل، إن كان القلب مرتفعًا إلى السماء حيث يوجد كنزنا يكون سلوكنا أيضًا متجهًا نحو السمويات، وحيث يوجد عند الله الملك الحقيقي يكون سلوكًا لائقًا بأبناء هذا الملك. لهذا يقول الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات".

"أطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3: 1).

ويقول القديس يوحنا الدرجي: [عظيم هو ذاك الذي يقهر النار الناشئة عن اللذات الأرضية بواسطة التأمل في مباهج السماء![250]].

ز. الملاحون أي الطاقات الداخلية للنفس، فيأتي بهم من صيدون وإرواد. فإن كانت "صيدون" تعني "مكان الصيد"، فإن الإنسان الحيّ هو الذي يستخدم كل طاقاته الداخلية للبناء، يعيش كصياد ماهر يعرف كيف يقتنى ما هو للبنيان. إن لم تستخدم للبنيان تصير تلك الطاقات ذاتها للهدم، وإن لم تكن كجنود روحيين لحساب مملكة الله تصير كجنود أشرار لحساب مملكة الظلمة.

س. ربانها الذي هو روح الإفراز أو التمييز من صور، أي كالصخرة لا يهتز. هذا هو سر قوة الإنسان الروحي، إنه يسلك بتمييز، يعرف كيف يفصل بين الخير والشر، والحق والباطل، النور والظلمة. فيتقبل ما هو لبنيانه ويرفض ما هو للهدم بقوة دون أن يتزحزح.

ش. القلافون أي المواهب، هم من شيوخ جبيل وحكمائها. فقد أعطى الله لكل إنسان مواهب خاصة يضرمها بقوة وحكمة فتكون فيه كشيوخ حكماء، تعمل معًا مع مواهب الآخرين لأجل بنيان البشرية كأسرة واحدة.

ص. أما حراسها الذين هم دوافع النفس الداخلية فمن فارس ولود وفوط، رجال حرب متمرنون ومتنوعوا الخبرة، يعملون لحمايتها. من هذه الدوافع الغضب والخوف والأمومة والأبوة والحب الخ... هذه جميعها دوافع مقدسة إن كانت تعمل في الإطار الروحي للبنيان. فبالغضب ينتفض الإنسان من الخطيئة ويلوم نفسه، وبالخوف يهاب الله ولا يجرح مشاعره وبالأمومة والأبوة والحب يجمع في قلبه محبة طاهرة نحو البشرية بروح الحكمة غير المتهورة. هذه هي رجال الحرب الذين في داخل النفس، يحاربون إما لحسابنا أو ضدنا. فمن يغضب على الآخرين لا على نفسه ومن يخاف الناس لا الله ومن يحب لأجل الشهوة الجسدية يحوّل رجال الحرب ضده.

هذه صورة سريعة ومختصرة للسفينة "كاملة الجمال" التي وهبها الله إيانا، أي الطبيعة البشرية قبل انحرافها وسقوطها!

2. حمولتها الثمينة:

بعد أن عرض لمواد بناء السفينة الثمين وطاقمها الممتاز وحراسها كجبابرة خبرة، بدأ يتحدث عن حمولتها الثمينة، فقد امتلأت ببضائع قيمة جاءت بها من بلاد كثيرة. إنها تشبه النفس الحكيمة التي تعرف كيف تستفيد من كل إنسان روحيًا، لا تحتقر أحدًا ولا تعتمد على خبرتها منفردة. الإنسان كالنحلة يعرف كيف يمتص من كل زهرة ما هو عذب وجميل!

في حديثه عن المواد التي تاجرت فيها السفينة، جاء الترتيب حسب مواقع البلاد، فبدأ بسواحل البحر الأبيض المتوسط، ثم الأراضي الشرقية في ثلاثة خطوط متوازية من الجنوب إلى الشمال. وفيما يلي البلاد المذكورة والمواد التي تتاجر فيها.

ترشيش: الفضة والحديد والقصدير والرصاص.

ياوان وتوبال وماشك: العبيد وآنية النحاس.

بيت توجرمة: الخيل والبغال.

ددان Rhodes أو Rodam: العاج والأبنوس.

آرام: البهرمان والأرجوان والمطرز والبوص والمرجان والياقوت.

يهوذا وإسرائيل: حنطة مِنِّيت وباناج Pannag: اسم مكان أو ربما نوع من الحلوى، ربما قصد به تين مبكر كما في بعض الطبعات وعسل وزيت وبلسان.

دمشق: خمر حليون والصوف الأبيض.

دان وياوان: الغزل والحديد المشغول والسليخة وقصب الذريرة.

دوان: لباد السروج للمركبات.

العرب وقيدار: الخراف والكباش والماعز.

شبا ورعمة: الطيب والحجارة الكريمة والذهب.

حُرَّان وكِنَّة وعدن: ثياب أسمانجونية نفيسة ومطرزة وسجاد غنى الألوان مربوط بحبال مصنوعة من الأرز.

هذه قائمة البلاد التي تقوم بالاتجار مع صور والمواد التي تتاجر فيها، وفيما يلي نبذة مبسطة عن بعض هذه البلاد:

ترشيش: هذا الاسم غالبًا مشتق من كلمة "رشش"، وجدت في اللغة الأكادية مرتبطة بالمعادن البراقة ومنتجات المناجم، لهذا اشتهر هذا الاسم بمعنى "تكرير المعان"[251].

شعب ترشيش جاء عن ياوان (تك 10: 4)، ويعتقد أنها ترتيسوس الواقعة في جنوب أسبانيا قرب جبل طارق[252]، ولعلها هي قرطاجنة المدينة الواقعة شمال غرب أفريقيا. كانت غنية جدًا بالمعادن كالفضة المطرقة، والمصنوعة ألواحًا (إر 10: 9) والحديد والقصدير والرصاص. إن كانت شبا وددان يمثلان التجارة في الشرق، فإن ترشيش تمثل التجارة في الغرب، لهذا جاء في حزقيال النبي: "شبا وددان وتجار ترشيش وكل أشبالها يقولون لك: هل لسلب سلب أنت جاء؟! هل لغنم غنيمة جمعت جماعتك لحمل الفضة والذهب؟! لأخذ الماشية والقنية لنهب نهب عظيم؟!" (13: 38).

وحينما يقال "سفن ترشيش" فلا تعني بالضرورة أنها سفن ملك ترشيش أو تقوم بالاتجار مع ترشيش، لكن لشهرتها التجارية أطلقت على السفن الضخمة العابرة المحيطات التي كانت تبحر خصيصًا لجلب المعادن الثمينة.

ولا ننسى أنه حينما طلب الرب من يونان أن يكرز في نينوى في الشرق هرب إلى الغرب في سفينة مبحرة إلى ترشيش (يونان 1: 3).

ياوان: جاءت ياوان مع توبال والجزائر البعيدة في (إش 66: 19) حيث يأتي إليها الأمم ويخبرون بمجد الله، وذُكر بنو الياوانيين كتجار يشترون أسرى يهوذا وإسرائيل ليبعدوهم عن تخومهم في (يوئيل 3: 6)، وهنا في (حز 27: 13) مع توبال وماشك كتجار للمسبيين والعبيد وآنية النحاس. هذه العبارات الثلاث إنما تشير إلى المستعمرات الياوانية أي اليونانية التي على ساحل آسيا الصغرى[253]. ويلاحظ أن تعبير ياوان Jonia يقترب جدًا من تعبير الأشوريين والمصريين عن "اليونان".

هذا وإن "ياوان" الواردة في (حز 27: 19) تعني ياوان أخرى هي غالبًا قبيلة في العربية أو مستعمرة يونانية في العربية.

في (دا 8: 21، 10: 20، 11: 2) ترجمت ياوان "يونان"، وغالبًا ما تشير هنا إلى الإمبراطورية اليونانية المقدونية.

توباك وماشك: شعبان أو إقليمان في آسيا الصغرى، ارتبطا معًا (إش 66: 19)، وكانا ليافث (تك 10: 2، أي 1: 5)، ظهرا في التواريخ الأشورية باسمي Tabali و Mushki كمقاومين عنيفين ضد آشور في القرن الثاني عشر ق.م.

بيت توجرمة: يقع في جنوب أرمينيا، سكنه نسل توجرمة، الابن الثالث لجومر(تك 10: 1-3 أي 1: 6).

ددان [15]: شعب في شمال العربية، جاء عن كوش بن حام (تك 10: 7)، وجاء في (تك 25: 3) أنه من نسل إبراهيم عن قطورة بعد موت سارة. ليس صعبًا أن نفهم الارتباط هنا إن تذكرنا النسب بين العربية وكوش[254].

كانوا رجال تجارة، من بلاد العرب (إش 21: 3) يقطنون جنوب الأدوميين (إر 25: 23، 49: 8). لا يزال الاسم باقيًا في ديدان جنوب غربي تيماء. أما ددان الحديث فهو "العلا" واحة في وادي القرى شمال الحجاز.

آرام: مأخوذة عن الأكادية وتعني "الأرض المرتفعة" آرام أحد أبناء سام (تك 10: 22-23). تمتد آرام من جبال لبنان غربًا إلى ما وراء الفرات شرقًا ومن جبال طرسوس شمالاً إلى دقش جنوبًا. وقد أطلق على هذا الإقليم في الترجمة السبعينية سوريا. دُعي إبراهيم "آراميا تائهًا" لأنه خرج من حاران (إحدى مدن آرام تك 11: 3 إلى كنعان تث 26: 5). وقد ظهرت عدة دويلات آرامية مثل آرام النهرين (تك 24: 10) التي تقع فيها مدينتا نصيبين والرها، وآرام دمشق، وآرام صوبة أو صوبا غرب الفرات (وامتدت أحيانًا إلى حدود حماه)، وآرام معكة قرب جبل حرمون من نصيب منسي (يش 12: 5، 13: 11)، وحشور كدولة آرامية قرب معكة شرق الأردن أيضًا من نصيب منسي (تث 3: 14) وإليها هرب أبشالوم بعد قتله أخيه أمنون (2 صم 13: 37؛ 15: 8)، وآرام بيت رحوب غالبًا قرب مدخل حماه (عد 13: 21؛  يش 19: 28).

دمشق: عاصمة سوريا، عرفت منذ القدم كمركز تجارى هام. تقوم عند السفح الشرقي لجبل لبنان الصغير حيث ينبع في هذه السلسة من الجبال نهرَّي أبانه وفرفر (2 مل 5: 12) ويدعيان الآن بردى والأعوج.

دان: وهو اسم عبري معناه "قاضي" أو "ديان"، وهي مدينة في شمال حدود فلسطين؛ دعيت لايش (قض 28: 29) أو لشم (يش 19: 47)، لكنها ليست كما يظن البعض عند تل القاضي. فقد حدث اللبس بسبب تشابه الأسماء، لأن "دان" معناها "قاضي".

قيدار: اسم سامي يعني "قدير أو أسود"، وهو الابن الثاني لإسماعيل (تك 25: 13). كان نسله غالبًا يعيشون على الرعي في خيام سوداء، لذلك صارت قيدار رمزًا للون الأسود (نش 1: 5). وكان بعضهم متحضرًا (إش 42: 11). كانوا أصحاب مواشي وبارعين في الحرب، خاصة في الرمي بالقوس، لذلك قاوموا نبوخذنصَّر كثيرًا لكنه نكَّل بهم.

شبا: ذكر شبا وأخوه دان كابني رعمة من بني كوش (تك 10: 7) كما ذكر الاسمان كابني يقطان بن إبراهيم من قطورة زوجته (تك 25: 7).

وتعتبر شبا إحدى أربع قبائل هامة أو شعوب قديمة قطنت جنوب العربية Qatabanians, Mineans و Chattramothites بالعبرية حضرموت Hazarmaueth وكانت أهمهم في أيام ستروبا. اشتهروا كتجار توابل وذهب وأحجار كريمة، وكانوا أغنياء جدًا. تاجروا في الرقيق (يؤ 4: 8) وحُسبوا حراسًا للصحراء (أي 1: 15، 6: 19).

أمدَّتنا النقوش الأشورية ربما بأقدام شهادة عن وجود شبا، إذ سجل الملك Tiglathpileser الثالث (745-727 ق.م.) عن قبول الجزية من إتعمارة ملك شبا...

يبدو أن هذا الشعب الذي أقام في جنوب غرب الجزيرة (تك 10: 28) هاجرت بعض عائلاته إلى الحبشة (كوش) فدعيت بالكوشيه (تك 25: 3)، والبعض امتد فيما بعد إلى

الشمال الغربي للجزيرة حتى بلغ إلى سوريا.

أما قصة ملكة سبأ فأعطتهم شهرة خاصة، وكشفت عن مكانة المرأة في وسط هذا الشعب اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا.

رعمة أو رعما: رعمة بن كوش، والد شيا وددان (تك 10: 7)...

يصعب تحديد مكان رعمة التي يُظن أن سكانها من ذرية رعمة أو رعما وظن البعض أنها رجمة بطليموس Patalmy غرب الخليج الفارسي، ويرى آخرون أنها رعمنيت Rammaitae في جنوب العربية، شمال غرب حضرموت وشرق شبا القديمة، وهذا الرأى الأخير أكثر احتمالاً.

حران (حاران): الاسم ربما من أصل أكادي، معناه "طريق" أو "قافلة" تقع المدينة في شمال غرب المصيصة Mesopotamia ، على نهر بليخ، فرع للفرات، تبعد حوالي 280 ميلاً شمال شرقي دمشق، و60 ميلاً شرق كرمشيش (تك 11: 31-32). وتعتبر ملتقى أحد الطرق الرئيسية بين بابل وساحل البحر الأبيض، تمثل مركزًا تجاريًا هامًا، كانت المركز الرئيسي لعبادة الإله Sim  إله القمر.

تغرب فيها تارح وإبراهيم زمانًا، واستقر فيها ناحور لذلك دعيت باسمه (تك 42: 10، 27: 43). استولى عليها الأشوريون (2 مل 19: 12). حاليًا قرية صغيرة لا تزال تحتفظ بالاسم حران.

كنة: ظن بعض الدارسين أنها "كلنة" (عا 6: 2)، لكن الأرجح أنها مدينة أكادية مجهولة "Kannu"، غالبًا في منطقة المصيصة (ما بين النهرين) بالقرب من حران.

عدن: اسم عبري يعني "بهجة"، وهي غير جنة عدن. مقاطعة ما بين النهرين، ورد ذكرها في النقوش الأشورية Bit Adini، جنوب حران، عند منتصف نهر الفرات.

3. تحطيم السفينة (صور):

إن كانت صور قد صارت كسفينة ضخمة كاملة في بنائها، قوية من جهة حُراسها، صاحبة خبرة وحكمة من جهة طاقمها، محبوبة من كل الشعوب التي تتعامل معها وتطلب ودها، لكنها إذ طمعت وأرادت أن تغتنم أختها "يهوذا" يوم سبيها، كسرتها ريح شرقية ونزلت بها إلى الأعماق مع ثروتها وبضائعها وطاقمها وعملائها ورجال حراستها... ليس من ينقذ ولا من يُعين وقف الكثيرون في حزن ومرارة، حلقوا رؤوسهم فجعلوها قرعة كمن يندب ميتًا، وأقاموا مرثاة على من كانت تشبعهم بالخيرات [33]، صاروا في مرارة واقشعر ملوكهم ، بينما وقف البعض يصفرون مستهزئين بها لأنها طمعت فخسرت حتى وجودها إلى الأبد!

 

 


 

من وحي حزقيال 27

قُدْ سفينة حياتي!

v   "صور" المدينة العظيمة هي سفينة من صنع يديك،

أنت صانعها، وأنت واهبها كل غنى،

لكنها اتكلت على غناها،

وقاومت عملك،

فتحطمت تمامًا!!

v   إني سفينتك يا خالقي!

قُدْ سفينة حياتي، فإني من صنع يديك!

v   ما هذه الألواح التي من سرو إلا أعضاء جسدي؟!

إنها خليقتك الجميلة،

وهبتني الجسد مع النفس ليمجداك!

قدِّس عيني وكل حواسي فتشبع بك!

قدِّس عواطفي ومشاعري يا شهوة قلبي!

جسدي بين يديك، هو عطيتك الثمينة لي!

v   ما هذه السارية التي من أرز لبنان

التي أقمتها فيّ إلا العقل العجيب؟!

خلقته مستقيمًا لينشغل بك طوال رحلة حياتي القصيرة!

عقلي يتأمل مشيئتك، فيشتهي الطاعة لوصيتك،

يرى فيها عذوبة الشركة معك يا مصدر الحياة!

v   ما هذا المجداف الصغير الذي يحرك كل حياتي إلا اللسان؟!

قدّسه، فلا يجدف عليك،

ولا يلعن أحدًا،

ولا يتحرك باطلاً بلا هدف!

قُدْه فيباركك ويسبحك ويشكرك على الدوام،

ويبارك الناس ويفيض عذوبة على كل أحد!

v   ما هذه المقاعد التي من العاج المطعم،

إلا الحواس الطاهرة التي وهبتني إياها؟!

لتُشبعها بروحك القدوس فتراك عريس النفس السماوي،

تلتهب حبًا لك ولكل خليقتك! إنها ليست مسرحًا للشياطين،

ولا ملهي للشهوات الجسدية!

حواسي وعواطفي وكل مشاعري هي لك يا حبيب!

v   ما هذا الشراع الذي من الكتان المطرز،

إلا قلبي الصغير الذي وهبته النقاوة؟!

بروحك القدوس اتسع ليحمل من لا تسعه السماء والأرض!

مفاتيحه بين يديك يا ابن داود،

لتدخل وتتعشى فيه،

ولتجمع فيه أصدقاءك السمائيين والأرضيين،

تقيم منه ملكوتك المفرح وهيكلك المقدس!

v   ما هذه الأغطية التي لسفينة حياتي

إلا السلوك الذي أمارسه بعمل نعمتك؟!

إنه أسمانجوني يحمل لون السماء،

ومن الأرجوان لباس الملوك.

عجيب أنت يا ملك الملوك السماوي،

فإنك تريدني في سلوكي أن أحمل سماتك،

أسلك على الأرض بقلب سماوي،

وأحيا في ضيق العالم كملك صاحب سلطان!

v   من هم الملاحون الذين صيدون إلا طاقات النفس الداخلية؟!

هب لها أن تكون صيَّادة ماهرة،

تعمل دومًا لبنيان نفسي وبنيان أخوتي،

لا تعرف الهدم ولا التحطيم!

وهبتني طاقات عجيبة كجنود روحيين،

قُدْها للعمل لحساب ملكوتك،

فلا تكون جنودًا أشرارًا لحساب مملكة الظلمة!

v   من هو هذا الربان الذي من صور

إلا روح التمييز والإفراز؟!

هو عطية روحك القدوس،

به أتعرَّف على الخير وأميزه عن الشر،

به لا انحرف عن طريقك الملوكي يمينًا ولا يسارًا!

لا يخدعني البر الذاتي، ولا تجتذبني الشهوات!

به أتعرف عليك إيها الحق!

v   من هم القلاَّفون إلا مواهب التي سلمتني إياها؟!

أضرم يا رب مواهبك فيّ،

فأعمل بقوة وحكمة!

أعمل متناغمًا ومنسجمًا مع مواهب أخوتي،

بلا تشامخ وبلا صغر نفس.

أشكرك لأنك قدمت ليّ المواهب التي تناسبني!

v   من هم هؤلاء الحراس الذين من فارس ولود وفوط

ألا الدوافع التي خلقتها فيّ!

بدافع الحب التقى بك واحب خليقتك!

بدافع الغضب أثور على خطيتي وأشكو لك نفسي!

بدافع الخوف أخشاك في محبة!

قدّس كل الدوافع فلا تنحرف بعد!

v   بائسة هي صور، السفينة الجميلة الغنية،

اتكلت على ذاتها، وعصت خالقها،

فتحطمت وغرقت في بحر هذا العالم!

v   قُدْ أيها القبطان العجيب سفينة حياتي،

ليكن صليبك هو سارية حياتي،

ووصاياك هي البحارة!

هب ليّ حبالاً تسند سفينتي.

إنني في وسط تيارات بحر هذا العالم،

لكنني محمول بروحك القدوس إلى الميناء السماوي!

<<

 


 

الأصحاح الثامن والعشرون

دينونة رئيس صور

بعد أن تنبأ ضد صور (ص 26)، وقدم مرثاة عليها (ص 27)، انتقل إلى التنبؤ ضد رئيسها ثم تقديم مرثاة على ملكها. ربما قصد العائلة الملكية كلها، وأخيرًا التنبؤ ضد صيدون بكونها قد ارتبطت كثيرًا بصور.

1. نبوة ضد رئيس صور    [1-10].

2. مرثاة على ملك صور   [11-19].

3. نبوة ضد صيدون        [20-25].

1. نبوة ضد رئيس صور:

يرى القديس جيروم أن كلمة "صور" تعني "محنة"[255]، لهذا فإن ما ورد بخصوص رئيس صور أو ملكها إنما قصد به الشيطان بكونه يدفع الناس إلى المحن والتجارب. وقد رأى الكثير من الآباء أن ما ورد في هذا الأصحاح يصف سقطة الشيطان من درجته الملائكية. وجاء ذلك الوصف مطابقًا لما ورد في (إش 14: 12) عن لوسيفر.

ويلاحظ في هذا الأصحاح أن رئيس صور أو ملكها وصف كخليقة الله الصالحة، بل الكاملة، لأن الشيطان لم يُخلق شريرًا، إنما هو خليقة الله الصالحة والتي سقطت بسبب الكبرياء بإرادتها الحرة.

لقد وصف هكذا:

"أنت خاتم الكمال، ملآن حكمة وكامل الجمال.

كنت في عدن جنة الله.

كل حجر كريم ستارتك عقيق أحمر... أنشأوا فيك صنعة الفصوص وترصيعها يوم خلقت.

أنت الكروب المنبسط المظلل وأقمتك،

على جبل الله المقدس كنت.

بين حجارة النار تمشيت.

أنت كامل في طرقك من يوم خلقت حتى يوم وجد فيك إثم" [12-15].

لقد كان الشيطان من أكبر الطغمات السمائية وأعظمها، طغمة الكاروبيم الحاملة للعرش الإلهي، الملتهبة نارًا كمركبة نارية إلهية! كان خاتمًا للكمال، لأنه يحمل العرش، مملوءًا حكمة، إذ نعرف أن الكاروب مملوء أعينًا، كامل الجمال إذ يعكس بهاء الله عليه. يتزين بكل حجر كريم، إذ لم ينقصه الله شيئًا، يظلل بأجنحته على جبل الله المقدس، حيثما وجد إنما يعلن عن وجود الله الذي يقدس كل شيء. كان يتمشي بين حجارة نار علامة الحضرة الإلهية النارية. خلق بلا عيب كاملاً في كل طرقه.

واضح أن الحديث هنا لا ينطبق على الإنسان أكمل خليقة الله على الأرض ولا على أي طغمة سماوية بل على أعظم الطغمات وأسماها... يقول العلامة ترتليان: [إن عدنا إلى نبوة حزقيال نجد أن هذا الملاك كان صالحًا بخلقته لكنه فسد باختياره. فإنه في شخص ملك صور قيل عن الشيطان: "أنت خاتم الكمال... الخ"، وواضح أن هذا الوصف [11-16] إنما يخص عصيان الملاك لا رئيس صور، فإنه ليس من بين الكائنات البشرية من ولد في فردوس الله، حتى آدم نفسه إنما نقل إليه، وليس من هو كاروب يوضع على جبل الله المقدس، أي في أعالي السموات إلا ذاك الذي شهد عنه الرب أنه من هناك سقط (لو 10: 18) [256]].

يتحدث العلامة أوريجانوس الإسكندري عن الشيطان وملائكته كخليقة صالحة أخطأت بإرادتها قائلاً: [الذين يقولون إن الشيطان ليس خليقة الله مخطئون. فبقدر ما هو شيطان ليس خليقة الله، أما الكائن نفسه (كمخلوق) فهو خليقة الله. وذلك كالقول بأن القاتل ليس خليقة الله، لكنه كإنسان هو خليقة الله[257]].

ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [لم يخطئ (الشيطان) عن إلزام كأن فيه نزوعًا طبيعيًا للخطيئة، وإلا ارتدت علة الخطيئة إلى خالقه أيضًا. إنما هو مخلوق صالح وبإرادته الحرة صار إبليسًا، فتقبَّل الاسم من خلال عمله. كان رئيس ملائكة، لكنه دعي "إبليسًا" بسبب أضاليله. كان خادمًا لله صالحًا، فصار شيطانًا بحق. لأن "الشيطان" يعني "الخصم". هذا التعليم ليس من عندياتي إنما هو تعليم حزقيال النبي الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلاً: "كنت خاتم صورة الله، تاج البهاء، ولدت في الفردوس"، ثم يعود فيقول: "سلكت كاملاً في طرقك من يوم خلقت حتى وجد فيك إثم". بحق قال: "حتى وجد فيك إثم"، إذ لم يأته الإثم من الخارج بل هو جلبه على نفسه. وللحال أشار إلى السبب، قائلاً: "قد ارتفع قلبك لبهائك. بسبب كثرة خطاياك طعنت فطرحت إلى الأرض". هذا القول يتفق مع قول الرب في الإنجيل: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء" (لو 10: 18)[258]].

إذ يرفع مرثاة على الشيطان يعلن عن عطايا الله له والإمكانيات التي وهبت له يوم خلقته، فبقدر ما وهب له الكثير يطالب بالكثير، وبقدر ما تمتع بعلو شاهق صار سقوطه عظيمًا. أما أهم العطايا الإلهية له فهي:

أ. عطية الحكمة: "ها أنت أحكم من دانيال. سِرّ ما لا يخفي عليك" [3]. وهبه الحكمة فكان أحكم من دانيال النبي، هذا الذي كشف له أسرار الملك وأحلامه الشخصية وتفاسيرها ليسنده في غربته. وكأن الله في معاملاته مع الشيطان قبل سقوطه قد كشف له أسرارًا كثيرة حتى قال: "سِرّ ما لا يخفي عليك". تعامل معه كصديق مؤتمن وموضع ثقة فلم يخفِ عنه سرًا ما بقوله له: "أنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال" [12]. جعله أكمل خليقته السماوية وأجملها ليس منظرًا بل في الحكمة، لكنه إذ سقط في الكبرياء سقط من هذا العلو إلى الهاوية!

والإنسان أيضًا أكمل خليقة الله على الأرض، زيَّنه الله لا بجمال الجسد بل بما هو أعظم: جمال الحكمة، إذ خلقه "على صورته ومثاله" وأراد منه أن يكون سيدًا يسيطر على الخليقة الأرضية بروح الحكمة الإلهية، كما نزل الكبرياء بالملاك إلى شيطان، هكذا أحدر الكبرياء الإنسان إلى الطبيعة الفاسدة الشهوانية، جعله في أمور كثيرة يتصرف كأدنى من الحيوانات، حتى المفترسة.

ب. إقامته في جنة الله: "كنت في عدن جنة الله" [13]. كلمة عدن تعني "بهجة"، وكأنه أقامه في الفرح الإلهي ينعم بالحضرة الإلهية، بل يشترك مع بقية الكاروبيم في حمل العرش الإلهي وصار إلى عذاب داخلي لا ينتهي.

والإنسان أيضًا أقامه الله في جنة عدن ليعمل ويفرح، وبكبريائه فقد فردوسه الحقيقي، وحرم نفسه من الله مصدر الفرح. لهذا كان لزامًا لإصلاح طبيعتنا أن نُغرس من جديد في الله لنصير كمن في الفردوس الأبدي.. لهذا يحدث القديس كيرلس الأورشليمي المتقدمين للمعمودية هكذا: [حالاً سيفتح الفردوس لكل واحد منكم[259]]، إذ يدخلون إلى الاتحاد مع الله في المسيح يسوع الفردوس الحقيقي.

ج. عطية العمل: يقول السيد المسيح: "أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل " (يو 5: 17). إنها سمة الله الذي يعمل بلا انقطاع، وهبها الخليقة العاقلة لكي تعمل دومًا، لكن الشيطان عمل لا لمجد خالقه بل لحساب مجده الذاتي فصار عمله لا لبنيانه بل لهدمه. "وبحكمتك وبفهمك حصَّلت لنفسك ثروة وحصَّلت الذهب والفضة في خزائنك. بكثرة حكمتك في تجارتك كثَّرت ثروتك" [4-5]، بهذا يفرح الله إذ يشتهي أن يرى خزائن خليقته دائمًا تمتلئ من كل ثروة ثمينة وغنى، لكن ما أحزنه: "فارتفع قلبك بسبب غناك" [5] الغنى بركة ونعمة، لكن ارتفاع القلب يفسد قلب الغني فيظن في نفسه إلهًا: "من أجل أنك جعلت قلبك كقلب الآلهة، لذلك هأنذا أجلب عليك غرباء عتاة الأمم، فيجردون سيوفهم على بهجة حكمتك ويدنسون جمالك، ينزلونك إلى الحفرة فتموت موت القتلى في قلب البحار" [6-8]. ما يحل به ليس بسبب حكمته ولا جماله ولا غناه لكنه بسبب كبرياء قلبه، ظن أنه إله فحُرم من حكمته وجماله وغناه ومن الحياة ذاتها.

لقد تحدث الآباء كثيرًا عن العمل وأهميته، والغنى وبركاته... معلنين أن الكبرياء هو الذي يفسد العمل والغنى. وقد كتب القديس إكليمنضس الإسكندرى كتابًا في هذا الموضوع عنوانه: "من هو الغني الذي يخلص؟"[260] جاء فيه: "لا نُلقي بالغني أرضًا، هذا الذي يفيد إخوتنا... لا يبدد الإنسان غناه، بل بالأحرى يليق به أن يُحطم شهواته الداخلية التي تتعارض مع الاستخدام الصالح للغنى. فإذ يصير الإنسان فاضلاً وصالحًا يمكنه أن يستخدم هذا الغنى بطريقة صالحة. إذن لنفهم ترك مملكاتنا وبيعها (مر 10: 13-17) أنه ترك وبيع لشهوات نفوسنا".

د. أعطى كل حجر كريم [13]: جاءت في الترجمة السبعينية نفس الحجارة الاثنتى عشرة التي كانت توضع على صدر ورئيس الكهنة، والتي زين بها سور أورشليم السماوية (رؤ 21: 19-20). وهي تشير إلى الفضائل الإلهية والمواهب التي يزين بها الله النفس لكي تدخل بها إلى مقدساته بهية ومتلألئة. لهذا يُعزي الرب كنيسته المجاهدة، قائلاً لها: "أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية. هأنذا أبني بالإثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شرفك ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة... هذا هو ميراث عبيد الرب وبرّهم من عندي يقول الرب (إش 54: 11-17). الله يزين خليقته العاقلة بالمواهب والفضائل... لكنها متى سقطت في الكبرياء صارت علة دينونة عليها!

هـ. الطبيعة النارية: "أنت الكروب المنبسط المظلِّل وأقمتك، على جبل الله المقدس كُنتَ" [14]. لقد أقامه بطبيعة نارية، كاروبًا متقدًا، وأسكنه في المقدسات، فصار بلا عذر. لقد وهبنا الله إمكانيات الطبيعة الجديدة وغرسنا فيه "الجبل المقدس" فصرنا بلا عذر أمامه.

و. بين حجارة النار تمشيت [16]، إذ كان ككاروب يتمشى بين الكاروبيم والسيرافيم المتقدون نارًا. فكان يلزمه أن يبقى مثلهم كنار مقدسة ولا يسقط من بينهم. فالكاروبيم يدينون الشيطان، لأنه كان معهم وسقط! والرسل أيضًا سيدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر، لأنهم كانوا يهودا وقبلوا الإيمان أما اليهود فرفضوا الإيمان بالمسيح سر تقديس البشرية وخلاصها!

دينونته:

الكبرياء تجعل من المخلوق - في عيني نفسه - إلهًا: "فقد ارتفع قلبك وقلت أنا إله" [2]، لهذا تحدره ليموت أبشع ميته: "موت الغلف تموت بيد الغرباء، لأني أنا تكلمت يقول السيد الرب" [10]. كان الفينيقيون يمارسون الختان[261]، ويعتبرون أن من يموت أغلف يكون محتقرًا وفي عار عظيم! هكذا فالكبرياء لا تقتله فقط بل وتجعله في عار عظيم!

أما موضع القتل فكما جاء في الترجمة السبعينية "أقطعك (أطرحك) كمن ذبح من جبل الله" [16]. يوضح لنا القديس جيروم جبل الله هذا الذي ذبح فيه ملك صور، قائلاً: [جبل الله غني في بركاته (مز 86: 16)، هذا هو الجبل الذي ذكره حزقيال عليه عوقب ملك صور[262]].

[يشير (الجبل) إلى حضرة المخلص الذي صار جسدًا، لأن فيه سكنت الطبيعة الإلهية. حقًا، ليست هناك طريق أخرى وجد فيها الروح القدس سكناه في الحال وعلى الدوام إلا في المخلص، وكما يقول يوحنا: "الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو" ( يو 1: 33)، "الرب يسكن فيه إلى الأبد"  (مز 86: 18)، في الجسد الذي أخذه من الطوباوية مريم[263]]. خلال هذا الجبل المقدس جُرح الشيطان، إذ لم يجد له فيه موضعًا، خلال السيد المسيح طرد الشيطان عن البشرية.

نبوة ضد صيدون:

سبق أن تحدثنا عن صيدون بكونها "أرض الصيد"، اشتركت مع صور في السخرية من يهوذا عن سبيها، وصارت سلاء ممررًا وشوكة موجعة. إذ مرَّرت حياة أولاد الله لذلك يرسل عليها الوبأ ليكون شوكة مؤلمة لها.

أخيرًا يوضح أنه يفعل هذا كله لكي يجمع شعبه المتفرق ويقدس اسمه فيهم، يشبعهم بالخيرات ويهبهم سلامًا! هذا هو شوق الله المستمر أن يرى البشرية قد رجعت لتستريح فيه وتشبع وتمتلئ سلامًا كعروس مقدسة له.

 

 


 

من وحي حزقيال 28

درس من الشيطان!

v   صار الشيطان درسًا لي!

خلقته بين الكاروبيم كاملاً ومملوء حكمة وجمالاً!

يعرف الكثير من أسرارك الإلهية!

لكنه بالكبرياء انهار من السماء إلى الهاوية!

أوجدتني أروع خليقتك على الأرض،

وهبت لي عقلاً وحكمة وجمالاً!

هب لي روح الاتضاع فالتصق بك،

وأنعم ببهاء جمالك عليّ!

v   أقمته في السماء فرحًا متهللاً بحضرتك،

بعناده انهار إلى عذاب أبدي!

أقمتني في جنة عدن لأعمل وأسبح!

متى ترفعني إلى فردوسك أتمتع بالمجد الأبدي؟!

v   أعطاه الله غنى، فارتفع قلبه بغناه!

لم تدعني معوزًا من أعمال كرامتك!

متى أقتنيك يا كنزي وغناي!

أنت حبي! أنت تسبيحي!

أنت فرحي وتهليل قلبي!

أنت شبعي وغناي!

معك لا أُريد شيئًا!

v   زينته بكل حجر كريم،

بعصيانه صار في قبح، محرومًا من كل ما جميل وثمين!

زينتني بالمواهب كحجارة ثمينة،

أضرم فيّ مواهبك كميراث ثمين!

v   خلقته كاروبًا ناريًا،

أسكنته في المقدسات،

وبإرادته انهار ليسكن في نار أبدية لا تنطفئ!

جددتني بروحك القدوس الناري،

ليحملني إلى عرش مجدك، إلى نورٍ لا يُدنى منه!

متى أصير كالكاروب وكخادمٍ من نور!

أني أتترقب مجيئك أيها النور الحقيقي!

<<

الأصحاح التاسع والعشرون

نبوات ضد فرعون مصر

الأصحاحات الأربعة (29-32):

ترك النبي فرعون مصر في النهاية ليفرد أربع أصحاحات يقدم فيها نبوات ومراثي عن فرعون مصر في تشبيهات كثيرة وبتوسع لسببين: الأول أن مصر في ذلك الحين كانت صاحبة سلطان ضخم، فالنبوة ضد فرعون مصر تحمل نبوة ضد العالم الوثني بأجمعه. والثاني أن يهوذا اتكل على فرعون مصر لينقذه من يديْ ملك بابل فتحطم، فصار فرعون مصر رمزًا للاتكال على الذراع البشري عوض التوبة والرجوع إلى الله.

في الأصحاح 29 تحدث عن خطية فرعون مصر "الكبرياء".

في الأصحاح 30 تنبأ ضد فرعون مصر بانهزامه أمام بابل.

في الأصحاح 31 شبه فرعون مصر بالأرز المتشامخ يقطع ويطرح في الهاوية.

وفي الأصحاح 32 قدم مرثاة على فرعون، التمساح الذي أهلكه ملك بابل .

تحدث الأصحاح التاسع والعشرون عن:

1. فرعون التمساح الكبير            [1-7].

2. تأديب مؤقت                       [8-12].

3. عودة وإصلاح لمصر              [13-16].

4. تسليمه لملك بابل                  [17-21].

1. فرعون التمساح الكبير:

يحدد حزقيال النبي هذه النبوة بالسنة العاشرة من السبي، حيث قدم فرعون بجيوشه نحو أورشليم ليخلصها من الحصار. لم يسمع رجال يهوذا لتحذيرات إرميا ولا حزقيال، واتكاؤا على فرعون ضد بابل، وقاموا بثورة ضد بابل، وخرج فرعون مصر ينقذهم من بابل... الأمر الذي أدَّى إلى تدمير المدينة فيما بعد وقتل الكثيرين.

لقد قدم الله التشبيه المناسب، إذ كانت صور جزيرة غنية بتجارتها، معتزة بتجارها، شبهها بالسفينة الثمينة بمواد بنائها وشحنتها، والكاملة في طاقمها وحراسها، أما فرعون مصر فيعتمد مع رجاله على نيل مصر الذي جعل مصر خصبة، لهذا شبهه بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره [3] فقد اشتهر نهر النيل بالتماسيح.

دعا الله فرعون "التمساح الكبير" ربما لأن المصريين قد عبدوا التماسيح فصاروا تماسيح، ودعي ملكهم "التمساح الكبير". من يعبد الحجارة يصير حجرًا، ومن يعبد الباطل يصير باطلاً، ومن يعبد الله الحق يصير "حقًا" ويتمتع بشركة الطبيعة الإلهية.

خطيئة صور هي استغلالها سقوط يهوذا واغتنامها بطمع هذه الفرصة، أما خطيئة فرعون فهي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء، "الذي قال: نهري لي وأنا عملته لنفسي" [3]. يقال إنه قصد به فرعون خفرع الذي افتخر بأمرين أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا إنما لأجله هو. لقد أقام "الأنا" إلهًا، هي الصانعة للنهر سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيرودت عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرون عامًا وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلاً إن الله نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته. تحدث إرميا النبي عن هذا الكبرياء هكذا: "من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم مياهها؟! تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه، فيقول أصعد وأغطى الأرض، أهلك المدينة والساكنين فيها" (إر 46: 7-8).

ماذا يفعل الله مع هذا التمساح المتكبر الذي يظن أنه خالق النهر لحساب ذاته؟!

يقول: "أجعل خزائم في فكيكَ،

وألزق سمك أنهارك بحرشفك، وأُطلعك من وسط أنهارك، وكل سمك أنهارك ملصق بحرشفك.

وأترك في البرية أنت وجميع سمك أنهارك.

على وجه الحقل تسقط فلا تجمع ولا تُلمّ.

بذلتك طعامًا لوحوش البرية ولطيور السماء" [4-5].

إذ ظن بكبرياء قلبه أن ما فيه من قوة ورخاء إنما هو صنعة يديه، لهذا يحرمه من هذه النعم، ويطرده من وسط أنهاره، ليموت كما تموت السمكة خارج المياه. وإذ ظن أن كل شيء إنما خلق لخدمة ذاته، يعمل الكل لخدمته لحسابه، لهذا يُلقى في البرية، يموت وليس من يسأل عنه ولا من يدفنه، يصير فريسة لوحوش البرية وطعامًا لطيور السماء! وإذ جمع حوله الكثيرين يحتمون به أو يحاربون معه يصيرون كالسمك الملتصق بحراشيفه، سواء كانوا أممًا أو قوادًا، أو مركبات أو جيشًا، ينالون نفس مصيره. هكذا يفقده الكبرياء خيراته وكرامته بل وحياته، ويذل حتى الملتصقين به المتكلين عليه. وقد قيل إن فرعون هذا خرج ليُحارب أهل القيروان الذين طردوا صديقه أريكيوس Aricius ملك ليبيا، ويرده إلى ملكه، لكن المصريين ثاروا عليه في غيبته فلم يعد هو ولا قواده إلى مملكته وألقى في البرية معهم.

هذا هو عمل الكبرياء في حياة واحد ينتسب إلى أكبر طغمة سمائية (إبليس) الذي فقد بكبريائه السماء ليسقط إلى الهاوية، وعوض الصداقة الإلهية دخل في العداوة مع الله، وعوض المجد السماوي دخل إلى الذل الدائم، تحطم وحطم معه كثيرين من ملائكته وأيضًا من البشريين! بذات الداء، سقط أبوانا الأولان من الفردوس وحُرما من الوجود الدائم في الحضرة الإلهية وورَّثا نسليهما كل تعب وشقاء! لقد طُردنا من نهر الحياة، وألقينا في برية هذه الحياة لنموت روحيًا ونصير غنيمة لكل وحوش البرية (شيطان الظلم والقسوة) وطيور السماء (شيطان الكبرياء).

عاد ليشبه فرعون مصر بعكاز قصب لبيت إسرائيل [6]، فهو كالعصا لكنها من القصب (البوص) إذ يتكئ عليها الإنسان تنكسر، أما المتكئ عليها فيتمزق كتفه ويضعف. عوض أن تسنده تحطم طاقاته، كقول إشعياء النبي: "فإن مصر تعين باطلاً وعبثًا لذلك دعوتها رهب الجلوس" (إش 30: 7) لقد شجع فرعون مصر صدقيا الملك ليثور ضد بابل ويخون العهد ويحنث بالقسم، فضاع حزقيا وتحطمت أورشليم وكل مدن يهوذا وانهزم فرعزن.

ومما يُلاحظ هنا أن تأديب فرعون والسمك الملتصق بحراشيفه كان بتركهم يموتون في البرية لتأكلهم وحوش البرية وطيور السماء، هذه أبشع ميته يكرهها المصريون الذين كانوا يخافون على الجثمان، وبنوا السراديب لحفظها حتى متى عادت الروح تلبس جسمها مرة أخرى.

2. تأديب مؤقت:

ظن فرعون في كبرياء قلبه أنه صانع النهر العظيم، وأنه المدافع عن الأمم المحيطة به، فإذا بالرب يجلب عليه سيفًا فيستأصل الإنسان والحيوان. بالكبرياء يفقد الإنسان إنسانيته "حياته الفكرية"، وأيضًا حيوانيته "حياته الأرضية"، يفقد ما هو للعقل والجسد معًا. أما حدود هذه الخسارة فهي خسارة كاملة ممتدة من الشمال "مجدل"  إلى الجنوب

"أسوان" على حدود كوش.

"مجدل migdol" اسم سامي معناه "برج"، غالبًا مدينة محصنة على تخوم مصر الشمالية الشرقية تجاه فلسطين، حاليًا تل الهير Tell-el-Her، تبعد 12 ميلاً غرب البلسم. وهي على الطريق الذي عبر منه اليهود أثناء خروجهم من مصر.

أسوان، كانت بالمصرية Sewen، على الضفة الشرقية من النهر على الحدود الجنوبية لمصر. يُقابلها من الجانب الآخر "جزيرة الفيلة". كانت مصدرًا للجرانيت لإقامة التماثيل المصرية، كما كانت مركز دفاع قويًا على الحدود الجنوبية.

أما كوش، فغالبًا ما يقصد بها "أثيويبا" أو "الحبشة" وهنا يقصد بها بلاد النوبة.

إذن تأديب فرعون مصر تأديب شامل، فتصير أرضه خرابًا لا يسكنها إنسان أو حيوان، ممتد من أقصي الجنوب، لكنه في نفس الوقت مؤقت ولمده محددة (40 عامًا)، على عكس بقية الأمم إذ صدر الأمر أن يكون التأديب أبديًا. إنه يشتت المصريين ويبددهم إلى حين، ربما كان هذا إشارة إلى ما تحمله مصر في قلب الله من دالة بعد قبولها الإيمان بالسيد المسيح، إذ يقول في إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر... فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا يوفون به" (إش 19).

إنها تقضي أيام وثنيتها كمن هي في البرية تائهة لتعود إلى الإيمان بالله مخلصها وتتعبد له.

3. عودة وإصلاح لمصر:

لقد أعطى الرب لفرعون مصر درسًا هذا الذي أثار ملك يهوذا وجعله لا يسمع لصوت الأنبياء، فبدلاً من أن يسنده صار هو وشعبه مشتتًا أربعين عامًا، ثم أعاد مملكة مصر إلى أرض فتروس Pathros [14]، وهي كلمة مصرية تعني "أرض الجنوب". يقصد بفتروس صعيد مصر، مقابل "مصر السفلى والوسطى"، وقد كان الوجه البحري أو مصر السفلى أكثر شهوة من مصر العليا أو صعيد مصر. ويلاحظ أنه بعد أن أسر نبوخذنصَّر أورشليم استوطن بعض اليهود فتروس (إر 44: 1-2، 15).

كأنه يقصد بعودة المملكة إلى "فتروس" أي ضعفها وعدم إمكانيتها للحرب ومساندة الآخرين، فلا تعود بعد إلى كبريائها، ولا تخدع شعب الله بكونها سندًا لهم ضد بابل.

4. تسليمه لملك بابل:

أخيرًا عوض الدفاع عن يهوذا يسقط فرعون مصر في قبضة ملك بابل، يأخذ ثروته ويغتنمه غنيمة وينهبه. يسلمه الرب لملك بابل مجازاة له على ما فعله مع صور. لقد اغتنمت صور أورشليم ونهبتها، فأثار الله بابل ضدها، وإذ حطم صور كافأها بثروة فرعون. لقد هاجم نبوخذ نصَّر مصر في السنة السابعة والثلاثين من ملكه (568-567 ق.م) ونال الكثير منها لكنها لم تصر ضمن مملكته.

أما الموضوع الرئيسي فهو ليس مكافأة ملك بابل الذي أهلك صور الشامتة بأورشليم، إنما ما يشغل ذهن الله أن يقيم قرنًا (أي قوة) لخلاص شعبه [21] ويفتح فم نبيه في وسط الشعب ليعلن عن هذا الخلاص بروح الرجاء والفرح، إذ يقول: "وأجعل لك فتح الفم في وسطهم فيعلمون أني أنا الرب" [21].


 

من وحي حزقيال 29

نهري لي، أنا عملته لنفسي!

v   يعتز فرعون مصر بنهر النيل،

فيحسبه نهره الذي عملته يداه لنفسه!

ما أعجب الإنسان الذي ينسب لنفسه ما هو لإلهه،

عوض الشكر والتسبيح لله خالق العالم لأجله،

يظن في نفسه إلهًا!

v   أدَّبت مصر إلى حين،

وأتيت إليها يا مخلص كما بسحابة خفيفة!

حطمت أوثانها وأقمت مذبحك في وسطها!

v   لتسرع يا مخلص إلى نفسي!

لتهتز أوثان قلبي أمام حضرتك!

ولتقم مذبحك الإلهي في داخلي!

v   انزع عني الجحود وعلمني الشكر!

نهر النيل هو من عمل يديك!

عطاياك أكثر من أن تحصى!

ماذا أرد لك يا رب من أجل كثرة إحساناتك؟!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثلاثون

انهزام فرعون مصر أمام بابل

في هذا الأصحاح تحدث عن الهزيمة التي لحقت بفرعون مصر الذي ظن أنه قادر على إنقاذ يهوذا. كانت هزيمته على مستوى عالمي حطمت نفسيته وأضاعت ثروته، وأخيرًا فقد ذراعيه.

1. التحطيم النفسي لفرعون [1-9].

2. تحطيم ثروة فرعون               [10-19].

3. تحطيم ذراعي فرعون             [20-26].

1. التحطيم النفسي لفرعون:

حينما طلب الرب من حزقيال النبي التنبؤ ضد فرعون مصر، لم يوجه الدعوة إلى فرعون أن يولول ولا إلى كل شعب مصر. إنما وجهها دعوة عامة إلى العالم الوثني كله، بكون فرعون مصر يمثله في ذلك الحين، فيقول "ولولوا يا لليوم" [2]. ودعا يوم فرعون "يوم الرب"، لأنه تأديب من قبل الرب لجميع الأمم!. لهذا قيل: "من صوت سقوطه أرجفت الأمم عند إنزال إياه إلى الهاوية مع الهابطين في الجب" (31: 16)، "يرجفون (ملوك شعوب كثيرة) كل لحظة، كل واحد على نفسه في يوم سقوطك" (32: 10). هكذا يدوي خبر سقوطه في العالم كله، وترتجف له كل الخليقة.

ومما يجب ملاحظته أن فرعون هنا يشير إلى "الشيطان" بكونه المحرض على عصيان الكلمات النبوية، الذي يظن في نفسه أنه صاحب سلطان قادر أن يسند الكثيرين. وقد تحدثنا عن فرعون كرمز للشيطان أثناء دراستنا لسفر الخروج في مقاومته لموسى النبي وهرون. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في رأيي أن بعض أسماء الشعوب أو الملوك التي نقرأ عنها في الكتاب المقدس تخص بلا شك الملائكة الأشرار أو السلاطين المضادة مثل فرعون ملك مصر ونبوخذنصَّر ملك بابل وأشور[264]].

إن كان فرعون - كرمز للشيطان - يظن في نفسه أنه صاحب سلطان تلجأ إليه الأمم الأخرى وتحتمي فيه، فإن الله يعلن هزيمته النفسية، وتحطيمه بالخوف. لقد جعل يومه "يوم غيم" [2]. فالغيم أو السحاب كما سبق فرأينا علامة المجد الإلهي، يغطى الجبل المقدس أو الخيمة المقدسة أو الهيكل إعلانًا عن دخول الإنسان في أسرار غير منظورة لا يمكن إدراكها، أما بالنسبة للشيطان أو فرعون فالسحاب يمثل حالة من الظلمة، من خلالها لا يقدر أن يتصرف ولا يعرف ماذا يفعل. إن كان قد ظن نفسه قائدًا، فإنه في الظلمة يسلك فيعثر ويتعثر معه الملتصقون به والمحتمون تحت جناحيه. لهذا يقول: "في ذلك اليوم يخرج من قبلي رسل في سفن لتخويف كوش المطمئنة، فيأتي عليهم خوف عظيم كما في يوم مصر، لأنه هوذا يأتي" [9]. إن أقرب دولة له هي "كوش" التي ربما قصد بها النوبة، وأيضًا بعض مناطق في آسيا. على أيه الأحوال ملأ الرعب قلب فرعون، بل وقلب أقرب مملكة له كانت تحتمي تحت ظله، فماذا يكون مصير الأمم الأخرى البعيدة؟! الذي أرعبهم هو الرب نفسه: "يخرج من قبلي رسل في سفن لتخويف كوش المطمئنة" لأنها تركت الرب ولجأت إلى فرعون.

بسقوط فرعون ورعبه، "يسقط معه كوش (النوبة أو أثيوبيا) وفوط ولود وكل اللفيف وكوب وبنو أرض العهد" [5].

سبق لنا الحديث عن كوش وأيضًا فوط ولود (حز 27: 10)، وأما قوله "كل اللفيف" ويترجمها البعض "الشعب المختلط" والآخر "العربية"...

أما كوب فيرى البعض أنها لوب (ليبيا)، غالبًا شعب سكن في شمال شرقي أفريقيا، وجاءت الترجمة السبعينية: "الليبيون" "بنو أرض العهد" يقصد بها االبلاد التي دخلت مع فرعون في عهد لحمايتها خاصة من هجوم ملك بابل.

لابد من أن ينحط كبرياء إبليس بالكامل في كل مملكته، من أقصى الشمال (مجدل) إلى أقصى الجنوب (أسوان) [6]، وينهار مع كل أعوانه والمرتبطين به: "فيعلمون أني أنا الرب عند إضرامي نارًا في مصر ويكسر جميع أعوانها" [8].

2. تحطيم ثروة فرعون:

مقابل الكبرياء والعجرفة، حل الخوف والرعدة بفرعون وكل الدول المحيطة به والمحتمية فيه. وعوض غناه وثروته قائلاً: "نهري لي وأنا عملته لنفسي" (29: 3، 9)، تصير الأنهار يابسة [12]. وعوض ملكه وسلطانه يسلم أرضه للأشرار الغرباء [12]. عوض الطمأنينة والراحة يضرم الرب نارًا وتفقد مملكته رجاءها، إذ تخسر شبابها في الحرب، وبناتها في السبي! كان يظن في نفسه إلها، هوذا تتحطم أوثانه وعبادته [13].

لابد لمملكة إبليس أن تنتهي، تزول مهابته وخشيته المخادعة، وتنهار كل إمكانياته ويلقى في النار الأبدية مع كل الذين تبعوه واحتموا به.

ستتحطم كل مراكز القوى التي كانت تعمل لخدمته تحت سلطانه، والتي رمز إليها بالمدن المصرية الحصينة المذكورة هنا، أهمها:

أ. نوف Noph: "هكذا قال السيد الرب: وأبيد الأصنام وأبطل الأوثان من نوف، ولا يكون بعد رئيس من أرض مصر، وألقى الرعب في أرض مصر" [13]. حينما أراد أن يتحدث عن إبادة كل سلطان لفرعون (رمز الشيطان) ونهاية مملكته فلا يظهر بعد منه رئيس، اختار "نوف" (بالعبرية) التي هي بالمصرية "منيفي أو مينفري" وباليونانية "ممفيس" وتعتبر أشهر مدينة في مصر، أقامها مينا عندما وحَّد الوجهين البحري والقبلي، وصارت عاصمة مصر القديمة، لا تُضاهيها في الحجم والأهمية سوى طيبة حتى أقام اليونان مدينة الإسكندرية كعاصمة.

تبعد ممفيس حوالي 10 أميال جنوب القاهرة بجوار ميت رهينة. كانت قصور الملوك تقام داخل العاصمة ممفيس أو بجوارها، كما أقيمت الأهرامات بجوارها على بعد 12 ميلاً جنوب مركز خرائب ممفيس، فيها يدفن الملوك.

بعد إقامة الإسكندرية صارت ممفيس في المركز الثاني، وكانت تزدحم بالسكان حتى دخول العرب مصر فخربت بسرعة. نمو الفسطاط والقاهرة قام جنبًا إلى جنب مع خراب ممفيس حيث نقلت الحجارة من ممفيس ومواد البناء.

كان عجل أبيس يُعبد في ممفيس كمقدس للإله بتاح، الإله الرئيسي للمدينة "إله النار".

ب. فتروس [14]: قلنا إنها "أرض الجنوب" يقصد بها صعيد مصر كما يُبيد الأوثان من منوف في مصر السفلى، هكذا يُخرب مصر العليا.

ج. صوعن [14]: على الضفة الشرقية من الدلتا، بنيت بعد حبرون بسبع سنين (عد 13: 22). أشير إلى حقول صوعن في (مز 78: 12، 43) بكونها الموضع الذي فيه تمت العجائب المرتبطة بخروج بنى إسرائيل من مصر وذكرت في (إش 19: 11، 13؛ 30: 4) ربما بكونها عاصمة مصر. كانت معروفة باسم "افرس Avaris" كعاصمة للهكسوس؛ أهملت بعد طردهم، لكن أعيد الاهتمام بها في العهد الرعمسيسى، أيام حكم سيتى الأول، ورمسيس الثاني، وحملت اسم "رعمسيس" (خر 1: 11)، أما اسمها اليوناني فهو "تانيس"، حاليًا تُسمى "صا الحجر".

د. نو No: يقول إن الله يجري أحكامه على نو ويستأصل جمهورها [15].

نو، نو آمون، آمون نو: اسم مصري معناه مدينة آمون. وهو أكبر آلهة مصر خاصة ابتداء من الأسرة السابعة عشر. (كلمة آمون بالمصرية تعني المختفي أو المحتجب، وبالعبرية تعني آمين أو الصانع).

تقع نو آمون، التي هي مدينة طيبة، في صعيد مصر، 400 ميلاً جنوب ممفيس على ضفتي النيل. أعطاها أحمس أهمية كبرى بطرده الهكسوس وتحرير مصر وإعادة توحيدها ووضع حجر الأساس للإمبراطورية المصرية التي بنتها الأسرتان 18، 19. واعتنى خلفاؤه بالمدينة فازدادت روعة وفخامة. كان لها مئة بوابة، وكان كاهنها - كاهن آمون - يعتبر الرجل الثاني في الدولة. وحتى حينما صارت ممفيس فيما بعد عاصمة لمصر بقيت لطيبة أهميتها بسبب عبادة الإله آمون وما احتوته من غنى في الهياكل والمباني والمسلات. وفي القرن السابع ق.م إذ وصل إليها آسر حدون الفاتح السوري سنة 671 ق.م وابنه آشور بانيبال سنة 664 ق.م فتحها واحتلها (نا 3: 8) لكنه لم يقضِ عليها تمامًا. ولما تزعمت ثورة مصر العليا ضد الرومان، دمرتها الجيوش الرومانية فصارت مجموعة من الآثار. ولا تزال تشهد تلك المنطقة في الأقصر والكرنك والقرنة وهيبو ومقابر الملوك والدير البحري الخ... بعظمة تلك الآثار التي تشد أنظار العالم كله كمتحف لأعظم حضارة بشرية شاهدها التاريخ.

هـ. سين Sin: وأسكب غضبي على سين حصن مصر [15]: "سين تتوجع وجعًا" [16]. وهي المدينة الوحيدة التي وضعت تحت تصرف أشوري قامت بلا شك في موضع البلسم لتحفظ أبواب مصر مفتوحة أمام الملك الأشوري.

سميت حصن مصر إذ جرت عندها مواقع كثيرة. موقعها الآن تل الفرما على بعد 20 ميلاً شمال شرقي القنطرة.

و. آون: "شبان آون وفيبسته يسقطون بالسيف، وهما تذهبان إلى السبي" [17].

مدينة آون On Aven، بالمصري "إنو" وباليونانية "هيليوبوليس". كرسي إله الشمس رع Ra. حاليًا تل حسن أو عين شمس، تبعد سبعة أميال شمال شرق القاهرة، فيها وجد بيت حمى يوسف (تك 41: 45، 50).

معبدها له أهمية كبرى، أحبه الملوك، وكان كهنته أكثر الكهنة علمًا، لهذا وجد تقليد بأن أفلاطون وكثيرًا من الفلاسفة اليونان درسوا في هيليوبوليس.

 كأن الله أراد أن يعلن بأن شباب هذه المدينة صاحبة العلم يسقطون بالسيف وينتهي كيانها، فإن العلم بغير الإيمان لا يبني النفس.

ز. فيبسته أو فيبسث: اسم مصري معناه "بيت الإلهة باست". (بي بستيس)، اسمها اليوناني "بوباستس". حاليًا تسمى تل بسطة، بجوار الزقازيق شرق الدلتا.

ح. تحفنحيس: "ويظلم النار في تحفنحيس عند كسرى أنيار مصر هناك وتبطل فيها كبرياء عزها" [18]. وهي المدينة التي التجأ إليها بعض اليهود حين هربوا إلى مصر بعد قتل جدليا (إر 43: 7). تسمى باليونانية "دفنة"، حاليًا "تل دفنة" على بعد 10 أميال غربي القنطرة، جاءت في الترجمة السبعينية "تفنيس"، أما معناها فهو "حصن أو قلعة بناحس Penahse." كان بناحس غالبًا قائدًا صاحب سلطان من طيبة، عاش في القرن 11 ق.م، قام بثورة في الشمال، فنشأت عدة مدن تحمل اسمه.

يذكر هيرودت أن تحفيس كانت قلعة مصر من الجانب الأسيوي، وأن اليونان حرسوها. وجد في آثارها الكثير من الأواني الفخارية اليونانية وأيضًا أسلحة حديدية ورؤوس سهام من النحاس والحديد تحمل طابعًا يونانيًا، هذا بخلاف الكثير من الآثار التي تشهد أنها كانت طريق تجارة ضخم.

3. تحطيم ذراعي فرعون:

إذ تحدث عن الخراب الذي حل بمدنه الحصينة بدأ يتحدث عن ذراعه كيف أصابها جرح مميت لا يُمكن شفائه، فلا يعود يقدر أن يحمل سلاحًا لا للدفاع عن نفسه ولا عمن احتموا فيه. في نفس الوقت يشدد الله ذراعي ملك بابل ويجعل السيف في يده لتأديب فرعون مصر فتسقط يداه ويشتت شعبه!

هذه صورة للعمل الشيطاني المقاوم للتدبير الإلهي إذ ينتهي بالفشل الكامل، مهما ظهر في البداية ناجحًا.

 

 


 

من وحي حزقيال 30

نار في مدينة النار!

v   عبد المصريون الإله تباح في ممفيس مدينة إله النار!

وظن فرعون أنه الرجل الناري،

صاحب السلطان، تلجأ إليه الأمم فيحميها.

هوذا الرب يجعل يوم فرعون يوم غمام،

يوم ظلمة وخوف،

فتتحطم نفسيته، ويحل الرعب في كل مصر!

يضرم الله نار تأديبه فيكسر كل طاقات فرعون!

v   عوض حماية الآخرين يصير هو رعب!

يفقد ثروته وتتحطم ذراعاه!

v   علمني يا رب روح الاتضاع!

أنت ملجأ لي ولإخوتي!

محتاج أنا وهم إلى حمايتك ورعايتك،

يا راعي النفوس الحكيم!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الحادي والثلاثون

مرثاة شجرة الأرز

إذ سبق أن تنبأ عن صور قدمها كسفينة ثمينة في مواد بنائها وحمولتها. لها طاقمها الممتاز وحراسها رجال حرب، جنحت وسط البحار وغاصت مع حمولتها إلى الأعماق فانهار العاملون عليها وتجارها وصارت عبرة لكل السفن الأخرى. أما هنا إذ يتنبأ عن فرعون مصر يقدم لنا "شجرة الأرز" العالية حتى بلغت قمتها السحاب، والغنية في فروعها لتأوي طيور السماء وحيوانات البرية تحت ظلها... هذه التي تنهار أيضًا وتسقط. هذه الشجرة كما وردت في الترجمة السبعينية "آشور" وكأنه يقدم لفرعون مثلاً عمليًا أمامه، دولة آشور التي انهارت ليحل محلها الإمبراطورية البابلية. ويرى بعض الدارسين أنه يتحدث عن فرعون مصر نفسه كشجرة الأرز العالية، على أي الأحوال المثال ينطبق على فرعون مصر المتشامخ كما على آشور من قبله، بل ينطبق على كل نفس متشامخة متكبرة.

1. شجرة الأرز المتشامخة           [1-9].

2. سقوط شجرة الأرز                [10-18].

ينقسم الأصحاح إلى قسمين:

1. شجرة الأرز المتشامخة:

يأمر الله حزقيال أن يسأل فرعون مصر:

"من أشبهت في عظمتك؟

هوذا (آشور)[265] أعلى الأرز في لبنان،

 جميل الأغصان،

وأغبى الظل،

 وقامته طويلة وكان فرعه بين الغيوم..." [2-3].

إن كان يوبخ فرعون مصر لأنه يتعاظم في عيني نفسه بسبب ما وهبه الله من عطايا ومواهب، أو يقدم له آشور التي حملت ذات السمة "الكبرياء" كمثال له، فإن الصورة المقدمة تنطبق على الإنسان الذي غمره الله بكل إمكانية للنجاح، فعوض أن يمجد الله سقط في الكبرياء فانهار. هذه مرثاة على كل نفس، تقترب من المرثاة على رئيس صور كرمز لإبليس الذي جعله الله فوق كل خليقة أرضية وسماوية، كاروبًا، في جنته يحمل العرش. لا يخفي عنه شيئًا من الأسرار، لكنه إذ تكبر سقط.

يرى البعض أن الله يطلب من فرعون أن يفكر في آشور، المملكة العظيمة التي سقطت. ففي سنة 609 ق.م ذهب فرعون نخو إلى كركميش لمساعدة الإمبراطورية الآشورية التي كانت تتعرض هجمات بابلية. لكن المجهودات باءت بالفشل، وأُنتزعت آشور من التاريخ، كشجرة أرز في لبنان قد اقتلعت.

والآن، ماذا قدم لنا الله؟

لخص الرب عطاياه لنا في أمور ثلاثة:

أ. "هوذا (آشور) أعلى الأرز في لبنان" [3].

كانت آشور أعظم دولة في ذلك الحين، تبدو كشجرة الأرز العالية، ملكها أعظم من كل ملوك الدول المحيطة بها، والخاضعين له.

 خلقنا الله كأكمل خليقة أرضية، إذ أقامنا في اليوم السادس بعد أن أوجد كل شيء لراحتنا. وهبنا نفسًا عاقلة على صورته ومثاله، ومنحنا سلطانًا على كل خليقة أرضية. أراد لا أن يذله بل أن يرفعه، لا أن يحرمه بل أن يشبعه، لا أن يقيمه آله طيَّعة في يده بل كائنًا ذا إرادة حرة... لقد سما به إلى أبعد الحدود

 "كان جميلاً في عظمته، وفي طول قضبانه...

الأرز في جنة الله لم يفُقه السرو ولم يشبه أغصانه، والدُلب لم يكن مثل فروعه، كل الأشجار في جنة الله لم تشبهه في حسنه. جعلته جميلاً بكثرة قضبانه حتى حسدته كل أشجار عدن التي في جنة الله" [7-9]. إنه غرس الله، صنع يديه، غرسه في جنته وأقامه جميلاً أجمل كل أشجار جنته، حتى حسده الشيطان من أجل بهائه الذي سكبه الرب عليه، فحثّه على الكبرياء والتشامخ على الله!

ب. "جميل الأغصان" [3]. حسده الشيطان بسبب كثرة فروعه [9]، إذ "عششت في أغصانه كل طيور السماء، وتحت فروعه ولدت كل حيوان البر، وسكن تحت ظله كل الأمم العظيمة" [6].

يُشبِّه الدول الخاضعة لآشور كطيور تأوي بين أغصان الشجرة، أو كحيوانات الأرض التي تلد تحت فروعها.

 ما هذه الأغصان الكثيرة الجميلة التي وهبها الله، لتحمي طيور السماء وتلد تحت ظلها حيوانات البرية إلا طبيعة الحب التي أوجدها الله فيه، ليمتد الإنسان بقلبه نحو كل البشرية، بل ونحو كل خليقة أرضية. فيه يستريح القديسون، وفيه يستريح المتألمون، وإليه يلجأ الكل ليجد فيه قلبًا متسعًا قادرًا أن يضم الكثيرين، لقد خلق الله الإنسان كائنًا محبوبًا ومحبًا، موضوع حب الله وملائكته، ويتسع قلبه أيضًا لكي يحب.

حقا اتسع آشور بجبروته وسلطانه ليضم أممًا كثيرة تحت لوائه، وأيضًا فرعون مصر تحت سلطانه، لكن أولاد الله يتسعون بالحب الحقيقي الداخلي لكي إن أمكن يحبوا حتى المقاومين والأشرار، ليجد الكل فيهم راحتهم.

ج. غرسه على مجاري المياه الفياضة: "قد عظمته المياه ورفعه الغمر أنهاره جرت من حول مغرسة وأرسلت جداولها إلى كل أشجار الحقل" [4]. إن كان فرعون يرتوي من مياه النيل الفياضة التي أكسبته غنى وثروة وسندته في عظمته، حتى ارتوى وأفاض على بقية الأمم مرسلاً جداول المياه إلى كل أشجار الحقل. فإنه في هذا يشبه آشور أيضًا الذي اعتمد على الدجلة والفرات... لكن هوذا آشور قد سقطت!

أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين، فإنه يلزمنا أن نختبر هذا هو عمل نعمة الله فينا. فإذ نُغرس على مياه المعمودية المقدسة، ونرتوي داخليًا بالروح القدس الذي يهبنا استقامة حتى تدخل قامتنا إلى السحاب (الغيم)، وتمتد أغصاننا في كل اتجاه، بل وينعكس هذا حتى على الآخرين، فيقبلون عمل الروح فيهم. يلتهبون بناره إذ يروننا ملتهبين بناره القدوس، ويتمتعون بعمل المعمودية المقدسة إذ يلمسون فاعليتها فينا.

إن كان ارتفاع شجرة الأرز حتى تبلغ قمتها السحاب [3] يشير إلى حياة الكمال والتقديس التي وهبها الله للإنسان، إذ بهما يدخل إلى أسرار الملكوت ويعاين الأمجاد الإلهية المخفية، وإن كانت كثرة الأغصان تشير إلى قوة الحب ليتسع القلب للجميع، فإن كليهما "القداسة والحب"  هما عطية الروح القدس الذي يعمل فينا من خلال مياه المعمودية المقدسة، إذ يقول: "فلذلك ارتفعت قامته على جميع أشجار الحقل وكثرت أغصانه وطالت فروعه لكثرة المياه إذ نبت" [5]. ففي مياه المعمودية ننبت كغصن جديد في الكرمة الحقيقية وبالروح الإلهي ننمو على الدوام في استقامة إلى فوق وبكثرة الأغصان عرضًا.

لهذا يقول الأب مار اسحق السرياني: [إن صنع معك خيرًا، علنًا أو خفية، فتأكد أن المعمودية والإيمان هما الوسيطان لهذا الخير، إذ بهما قد دعيت إلى الأعمال الصالحة فـي

المسيح يسوع[266]].

ويقول الأب ميثوديوس: [يتقبل الذين يستنيرون ملامح المسيح... فإنه حتمًا يطبع على كل واحد منهم شكل الكلمة وصورته وملامحه، حتى يُحسب المسيح مولودًا في كل منهم وذلك بفعل الروح القدس... ويصير الذين يُعمَّدون مسحاء آخرين[267]].

كما يقول القديس يعقوب السروجي في ميمر له عن المعمودية: [المعمودية تكتب اسمك فوق في السماء، في بيعة الأبكار، فتصير ابنًا للأب الجالس في الأعالي!].

هكذا المؤمن الحقيقي يجمع بين الجمال الروحي والعلو والسمو، والقوة والحب... حتى يفوق كل الأشجار الأخرى، بل وتحسده.

2. سقوط شجرة الأرز:

يركز سفر حزقيال النبي على خطيئة الكبرياء كسر للسقوط. هنا يقول: "من أجل أنك ارتفعت قامتك، وقد جعل فرعه بين الغيوم، وارتفع قلبه بعلوه، أسلمته إلى يد قوىِّ الأمم فيفعل به فعلاً، لشره طردته" [10-11]. كان الله يشتهي أن يراه وقد ارتفعت قامته وبلغت قمته داخل السحاب (الغيوم)، لكن إذ ارتفع قلبه بتعاليه، سقط من علو قامته ونزلت قمته من السحاب. كثيرون ارتفعت قامتهم الروحية ودخلوا إلى أسرار الله الخفية، كما حدث مع القديسة مريم محتفظين بقلب متضع. لقد سبحت العذراء الله قائلة: "أنزل لأعزاء عن الكراسي، ورفع المتضعين". لهذا حذرنا الآباء من الكبرياء والمجد الباطل أو الزهو كما حثونا على الاتضاع.

يقول القديس يوحنا الدرجي: [الاتضاع هو السلم السماوي، الذي يستطيع أن يرفع النفس من هوة الآثام إلى السماء].

[إذ كان كبرياء بعض الملائكة حولهم إلى الشياطين (إش 14: 14 الخ 3: 6)، فبلا شك يستطيع الاتضاع أن يجعل من الشياطين (النفوس الساقطة) ملائكة، لهذا فليتشجع الذين سقطوا[268]].

أما ثمر الكبرياء وعمله فينا فهو:

أ. لقد أذل الكبرياء آشور وأخضعها لبابل، وأيضًا هكذا يفعل بفرعون مصـر:

"يستأصله الغرباء عتاة الأمم" [12]. حقًا إن نعمة الله تتخلى عن الإنسان المتكبر فيصير فريسة للشياطين، بهذا يستأصله هؤلاء الغرباء العتاة. أما الإنسان المتضع فتسنده نعمة الله، وتخضع له وحوش البرية، ويملك على الأرض. لهذا قيل: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (مت 5: 5).

ب. لا يقف الأمر عند هياج الشياطين ضده، إنما يفقد هو سماته الداخلية التي وُهبت له: "تتساقط قضبانه (فروعه) على الجبال وفي جميع الأودية، وتنكسر قضبانه عند كل أنهار الأرض، وينزل عن ظله كل شعوب الأرض ويتركونه" [12]. هذه صورة مُرّة للنفس، فإن هلاكها ليس نتيجة حرب خارجية، وإنما نتيجة موت داخلي، فتتساقط فروعها بعد أن تجف وتفقد كل حيوية أينما وجدت، سواء على الجبال العالية أو في الوديان المنخفضة، في البراري أو عند الأنهار. ينبع فساده في داخله مهما تكن الظروف، فيصير بلا أغصان، عقيمًا جافًا لا يستظل به أحد، ولا يستريح له إنسان، ويُترك وحيدًا.

لقد كتب القديس يوحنا الذهبي الفم مقالات كثيرة في هذا الشأن معلنًا أنه لا يقدر أحد أن يؤذى إنسانًا ما لم يؤذِ الإنسان نفسه. بالكبرياء يُحطم الإنسان حياته، معللاً فشله للظروف المحيطة به أو الأشخاص الذين يتعاملون معه. فالعيب في الشجرة التي حملت جفافها لا في الجبال أو الوديان أو الأنهار أو الشعوب التي تركتها.

ج. عوض أن تطير إليه طيور السماء لتستريح في ظل أغصانه، وتهرب إليه حيوانات البرية لتلد تحت ظله قيل: "على هشيمه (الشجرة الساقطة) جميع طيور السماء وجميع حيوان البر تكون على قضبانه" [13]. صارت الشجرة هشيمًا لا نفع فيه، فتستقر عليه الطيور محتقرة إياه، ويأتي إليه الحيوانات كما إلى موضع خراب. تصير النفس حاملة طيور السماء أي روح العجرفة والتعالي، وتحمل حيوانات البر أو روح العنف والشراسة والحيوانية.

د. تسقط في الهاوية فتصير عبرة للأشجار الأخرى: "لكيلا ترتفع شجرة ما... لأنها قد أسلمت جميعًا إلى الموت إلى الأرض السفلي في وسط بني آدم مع الهابطين في الجب" [14].

هـ. يفقد الإنسان فرحه ويدخل به وبالمحيطين به إلى الحزن: "في يوم نزوله إلى الهاوية أقمت نَوْحًا. كسوتُ عليه الغمر، ومنعتُ أنهاره وفنيت المياه الكثيرة وأحزنتُ لبنان عليه وكل أشجار الحقل ذبلت عليه. من صوت سقوطه أرجفت الأمم عند إنزالي إياه إلى الهاوية" [15-16].

تفقد النفس سر فرحها، إذ تحرم من أنهار النعمة المقدسة وتجف المياه الحية بالنسبة لها، فتحزن عليها النفوس الأخرى، وترتجف أيضًا خوفًا على نفسها هذه التي تشترك معها في خطاياها.

و. ختم حديثه عن نهاية المتكبرين بقوله: "يضطجع بين الغلف مع المقتولين بالسيف" [18]. ليس نهايته الموت البشع أي القتل بالسيف فحسب وإنما حتى في اضطجاعه يكون بين الغلف أي الدنسين، كأنه قد فقد حياته هنا على الأرض في أبشع صوره وهي القتل بالسيف، ويفقد حياته الأخرى بإحصائه مع الدنسين.

هكذا تضيع كل عظمة، ويزول كل مجد، وتحرم النفس من ثمرة النعمة الإلهية التي قدمت لها مجانًا! هذا هو عمل الكبرياء!

 

 


 

من وحي حزقيال 31

انزع عني الكبرياء!

v   لم يتعلم فرعون مصر من ملك آشور،

شجرة الأرز الشامخة،

التي صارت ملقاة على الأرض.

عوض أن تأوي طيور السماء وتظلل حيوانات البرية،

صارت يابسة بلا قيمة!

v   انزع عني الكبرياء يا معلم الاتضاع!

علمني أن أُغرس بمياه نعمتك في فردوسك،

واحمل ثمر الروح الحق!

v   اعترف لك بخطيتي وضعفي،

وأشكرك على غنى نعمتك في حياتي!

كل صلاح فيّ هو من عندك يا صانع الخيرات.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثاني والثلاثون

مرثاة على فرعون مصر

ختم نبواته عن فرعون مصر بمرثاة مُرّة على فرعون مصر، وأخرى على جمهوره الذي صار قتلى بالسيف بين الغلف، إنهار رجاله الجبابرة مع الأمم التي اتكأت عليه:

1. مرثاة على فرعون مصر         [1-10].

2. مرثاة على جمهور فرعون       [11-16].

3. مرثاة على فرعون مع الأمم      [17-32].

1. مرثاة على فرعون مصر:

بدأت المرثاة الأخيرة بفرعون ثم جمهوره ثم بالأمم المتشبهين به أو المتكلين عليه. جاءت هذه المرثاة بعد حوالي شهرين من وصول أخبار احتلال أورشليم إلى حزقيال النبي ورجال السبي.

بدأت المرثاة هكذا: قال له: "أشبهت شبل (أسد) الأمم وأنت نظير تمساح في البحار" [2]. ظن في نفسه أسدًا يحمي الأمم من ملك بابل ولم يدرك أنه مجرد تمساح حبيس نهره، لا يقدر أن يخرج من أرض مصر لينقذ أورشليم أو غيرها من يديْ بابل. لقد ظن أنه قادر على الإنقاذ فأثار ملك يهوذا، وعندما حوصرت أورشليم لم يقدر أن يخلصها، صار كمن يعكر الماء برجليه فلا يستريح ولا يترك غيره في راحة. هذا هو "التمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره" (29: 3).

في الأصحاح 29 كان التمساح الكبير يفتخر بنفسه قائلاً: "نهري لي وأنا عملته لنفسي" (29: 3، 9). هذه الروح المتعجرفة لم تُحطم التمساح وحده بل حطمت السمك المتعلق بحراشيفه. تدفق بأنهار كبريائه على أنهار الآخرين فعكرها برجليه [2]. لهذا صارت دينونته قاسية ومُرّة، جلبت على غيره أيضًا الموت. فقد بسط الرب شبكته ليصطاد هذا التمساح مع الأسماك، (الشعوب) الكثيرة المتمثلة به أو المتعلقة بحراشيفه (32: 3، 29: 4).

أما تأديبات الرب فهي:

أ. يكرر ذات العقوبة الواردة في الأصحاح 29. إنه يخرجه من نهره، موضوع افتخاره وعجرفته، ويطرحه على الأرض اليابسة ليموت مع السمك المتعلق به، ويصير فريسة

لطيور السماء وحيوانات البرية.

ب. إذ يعتز هذا التمساح الكبير بنيله وما يجلبه من فيضان يعطى خصوبة للأرض ويغنيه بالخيرات، لهذا عوض فيضان الماء يفيض الله بدم التمساح على الأرض حتى يبلغ إلى الجبال وتمتلئ منه الوديان [6]. يُحوّل الكبرياء الماء دمًا، فينسكب دم المتكبر يحمل رائحة موت يشمئز منها الكل: الجبال العالية كما الوديان المنخفضة. عوض كلمات الافتخار التي تجتذب الكثيرين ليحتموا فيه، تفوح رائحة الموت فينفر الكل منه.

ج. إذ يخرج دمه منه يصير هذا التمساح الكبير جيفة نتنة ملقاة على الجبال وفي الأودية. بعد أن كان يظن في نفسه سندًا للآخرين إذا به يصير ثقل نتانة يُريد الكل أن يتخلص منه. إنه يصيره هو ومن حوله "أسرى"[269] في أراضى لا يعرفونها [9].

د. لا تقف دينونته عند هلاكه هو. وهلاك الشعوب المتعلقة به، وتحويل مياه النهر إلى دم مميت، وصيرورته ثقلاً تريد الجبال والأودية التخلص من جيفته النتنة، وإنما تبلغ فاعلية كبريائه إلى الشمس والقمر والكواكب الأخرى، إذ قيل: "وعند إطفائي إياك أحجب السموات وأظلم نجومها وأغشي الشمس بسحاب والقمر لا يضئ ضوءه. وأظلم فوقك كل أنوار السماء المنيرة وأجعل الظلمة على أرضك يقول السيد الرب" [7-8].

 إنها صورة مُرّة لعلامات النهاية كما أعلنها السيد المسيح نفسه (مت 24: 29)، ولعلامات المسيح الكذاب (رؤ 8: 12). كأن دينونة الإنسان المتكبر إنما هي عربون الدينونة الكبرى، وظل لعصر المسيح الدجال!

ما هذه السموات التي يحجب نورها إلا فقدان الإنسان كل فكر سماوي وعدم تذوقه للحياة الأبدية؟! ما هذه النجوم التي تظلم إلا الطاقات الروحية الداخلية وحواس الجسد؟! عوض أن تكون سر استنارة داخلية بالروح القدس تصبح سر ظلمة النفس وهلاكها. يغشى الشمس بسحاب، إذ لا تعود النفس ترى مسيحها - شمس البر- مضيئًا فيها؛ ولا يضيء القمر إذ لا يكون للحياة الكنسية بعبادتها وكرازتها أثرًا عليه، أما الأرض التي تغشاها الظلمة فهي جسد الإنسان، عوض أن يكون هيكلاً مقدسًا مستنيرًا بالرب يصير موضع ظلمة.

 في اختصار تحطم الكبرياء الإنسان تمامًا، تفقده المسيح شمس البر، والكنيسة القمر المضىء، وتحطم طاقاته الداخلية وتفسد قلبه وجسده، وتظلم كل أفكاره! تصير السماء والأرض بالنسبة له مظلمتين، الشمس والقمر كأن لا وجود لهما؛ والنجوم تتساقط في داخله.

هـ. أمام هذا الخراب الشامل للنفس والجسد كما للفكر والقلب تسري حالة من الرعب والرعدة في الشعوب الكثيرة بملوكهم، إذ قيل: "وأحيّر منك شعوبًا كثيرين ملوكهم يقشعرون عليك اقشعرارًا عندما أخطِر بسيفي قدام وجوههم فيرجفون كل لحظة كل واحد على نفسه يوم سقوطك" [10]. هلاك المتكبر يرعب قلوب الخطاة إذ يشعرون أن دينونتهم قد اقتربت.

2. مرثاة على جمهور فرعون:

لا يقف التأديب عند فرعون، وإنما يلحق بجمهوره فيسقطون بسيوف جبابرة ملك بابل. يهتز كبرياء فرعون وجمهوره وحيواناته.

 إن كان فرعون يمثل النفس المتكبرة فإن جمهوره يمثل طاقات النفس التي تعمل لبنيانها أو هدمها، أما حيواناته فتشير إلى الجسد بحواسه وطاقاته. يشمل الهلاك الإنسان بكل إمكانياته الخاصة بالنفس والجسد معًا.

أما المياه الكثيرة التي تنضب إنما هي نعم الله وعطاياه المجانية التي يسحبها الله من النفس المتعجرفة.

3. مرثاة على فرعون مع الأمم:

في نهاية النبوة ضد فرعون وجمهوره ضم إليه في المرثاة عليه "بنات الأمم العظيمة" [18] معلنا أن يولولوا عليهن مع جمهور فرعون، لأن الجميع انحدروا إلى الأرض السفلى مع الهابطين في الجب. لعله قصد بأولئك البنات الأمم التي ارتبطت بفرعون وجيشه وسلطانه كما ترتبط النساء برجالهن يطلبن حمايتهن...

إنها نهاية جمهور الأمم أن ينحدروا إلى الجب السفلي، إلى الهاوية، كقتلى مطروحين مع الغلف. وقد تكرر هذا التعبير في هذا القسم كثيرًا [19، 25، 27، 29، 30، 31]. كانوا كجبابرة لهم رعبهم وخشيتهم في أرض الأحياء، فهبطوا بدنسهم (الغلف) قتلى مطروحين في الهاوية.

 لقد قُدم لفرعون وجمهوره أمثلة حية لدول عظيمة كانت كجابرة في أرض الأحياء وانتهت مطروحة كغلف مقتولين بالسيف، نازلين إلى الهاوية، مثل آشور [22] وعيلام [24] وماشك وتوبال [26]، وآدوم [29] وجميع الصيدونيين [30].

سبق لنا الحديث عن هذه البلاد أو الممالك فيما عدا عيلام، التي تنتسب إلى عيلام بن سام (تك 10: 22). ففي أيام إبراهيم كان كدر لعومر ملك عيلام قائد ملوك الشرق الذين غزوا الأردن (تك 14: 1-11). أما حدود هذه المملكة فهي وراء نهر دجلة شرق مملكة بابل وجنوب آشور وميديا وشمال خليج العجم، وغرب فارس. عاصمتها شوشان (شوش) لذلك سمى العيلاميون بالشوشانيين. في القرن الثامن ق.م انتصر ملوك آشور على عيلام واتخذوا من رجالها جنودًا مرتزقة في جيشهم اشتركوا في الهجوم على القدس (إش 22: 6). ضمها المديون (الفرس) إلى إمبراطوريتهم وحولوها إلى ولاية لهم، ولاعتبارهم بمكانتها جعلوا شوشن عاصمة لهم (دا 8: 2). وقد كان العيلاميون من جملة الشعوب التي حُملت إلى السامرة لسكناها بعد سبي يهوذا، ولما عاد اليهود من السبي كان بقايا هؤلاء المهاجرين من الذين قاوموا فكرة بناء الهيكل من جديد (عز 4: 9). حوالي عام 200 ق.م استعاد العيلاميون قوتهم وتسلط بعض ملوكهم على مدن في بابل. حاليُا عيلام جزء من إيران، تسمى مقاطعة خورستان.

 


 

من وحي حزقيال 32

اجعلني شبلاً لا تمساحًا!

v   ارتدى فرعون جلد شبل ليحمي أممًا،

فإذا به تمساح يأكل الأمم كسمك حوله!

v   بروح متعجرفة أدعى أنه صنع نيل مصر بيديه،

ولم يدر أنه بكبريائه قد عكر ماء النيل برجليه،

إنه لم يسترح ولا ترك الأمم حوله تستريح!

v   بسببه حجبت السموات أنوارها، وصارت الأرض في ظلمة!

فسدت نفسه (السماء)، وأيضا جسده (الأرض)!

v   اجعلني يا رب شبلاً،

ابنًا لك أيها الأسد الخارج من وسط يهوذا!

هب لي اتضاعًا فلا أعكر ماء النعمة في قلبي!

اشرق بنورك في داخلي يا شمس البر،

فتُضيء نفسي كسماء جديدة!

ويتقدس جسدي كأرض جديدة!

<<

 


 

 

 

الباب الخامس

 

 

 

 

 

 

 

نبوات عن الرجوع من السبي

[ص 33- ص 39]

 

 

 

 


 

 

إعدادات للمستقبل المبارك

إذ بدأ الاستعداد المبارك بتحطيم العدو الخارجي الذي يرمز إلي الشيطان. كان يلزم أن يُرافقه تغيير داخلي، فعوض "البيت المتمرد" يصيرون "شعبه". وقد بدأ التحول بظهور واحد منفلت من أورشليم (33: 21) جاء يخبرهم بما حلّ بها من خراب، فتبدأ الوعود بالاصلاح والرجوع وبناء الهيكل الجديد خلال التوبة الداخلية الحقيقية وقبول رعاية الله الخلاصية والتزام كل مؤمن بمسئوليته الخاصة عن تصرفاته.

<<

 


 

الأصحاح الثالث والثلاثون

التوبة بدء الإصلاح

إذ يدخل في حلقة جديدة من النبوات يؤكد موقفه الحساس كرقيب أقامة الله ليكون صريحًا في إعلان كلمة الله وإنذارته ووصاياه ووعوده، إن سمع له أحد أو لم يسمع. وإذ شعر كمسئول عنهم أن روح اليأس دب فيهم بدأ في هذا الأصحاح يعلن لهم "إنجيل الرجاء" موضحًا التوبة كطريق ممكن وفي أيدينا لكي ننعم بالإصلاح الإلهي فينا.

1. مسئوليته كرقيب                  [1-9].

2. لا نيأس فإن الله رحوم             [10-11].

3. لا يُحاسبنا الله علي ماضينا        [12-20].

4. التشبه بإبراهيم                    [21-29].

5. عودة قلبية لا شكلية               [30-33].

1. مسئوليته كرقيب:

قبل أن نتحدث عن مسئوليته نود أن نوضح أن حديث الرب إليه كان هكذا: "كلم بني شعبك" [2] ، ولم يقل له "بني شعبي"، وأيضًا يقول "كشعبي" [31]، أي كأنهم شعبي. فإنهم إذ لم ينعموا بعد بالمصالحة مع الله لا يدعوهم الله "شعبي". هذا ما رأيناه في دراستنا لسفر الخروج، فإن الله إذ يكون في حالة مصالحة مع شعبه يقول: "شعبي، سبوتي، أعيادي، بخوري، تقدماتي..." ناسبًا الشعب وكل عبادته وأعياده وتقدماته أنها له شخصيًا. أما في حالة تعبه من جهتهم فيقول للنبي "شعبك" كما يقول لهم "أعيادكم، سبوتكم، تقدماتكم الخ..."[270].

كان الله قد بدأ هذه المجموعة من النبوات والوصايا بعتاب غير مباشر فيقول لهم: لا أستطيع بعد أن أدعوكم شعبي... أنتم شعب حزقيال، كأنكم شعبي. اقبلوا وصيتي وادخلوا إلي التوبة فأجعلكم شعبًا لي وأصير لكم إلهًا، أو كما قال علي لسان حزقيال النبي: "يكون مسكني فوقهم، وأكون إلهًا ويكونون لي شعبًا" (37: 27).

تحدث بعد ذلك عن مسئوليته كرقيب، يلتزم أن يكون صريحًا لخلاص نفوسهم وخلاص نفسه، فإنه إن توقف عن إعلان الرسالة مجاملة لهم تُطلب كل نفس تهلك منه..."فإن رأى الرقيب السيف مقبلاً ولم ينفخ في البوق ولم يتحذر الشعب، فجاء السيف وأخذ نفسًا منهم، فهو قد أُخِذ بذنبه أما دمه فمن يد الرقيب أطلبه" [6]. هذه الكلمات لا تزال ترعب كل أسقف أو كاهن أو شماس... فإنهم إن أهملوا في تحذير الشعب - أيا كانت ظروفهم أو مراكزهم - تطلب نفوسهم عوض النفوس الهالكة... وقد سبق أن قدمنا أمثلة لذلك[271].

فيما يلي بعض تعليقات الآباء علي مسئولية الرقباء والتزامهم بتحذير الخطاه وعدم صمتهم:

v  بحسب ما جاء في حزقيال يلزم ألا يصمت الرقباء علي الرذيلة مادام السيف مسلطًا عليهم، فإن هذا الصمت لا يفيدهم كما لا يفيد الخطاة، إنما بالحري يجب أن يراقبوا ويحذروا، بهذا ينتفع الذين يقدمون التحذير مالم ينتفع الاثنان معًا: المتكلم والسامع.

القديس غريغوريوس النزينزي[272]

v  أول شيء أفعله هو تقديم تقرير لشعبي أستمده من فوق لأتمم عملي كرقيب (إش 21: 6؛ 62: 6؛ حب 2: 1) فإن كنت لا أوقف مجيء السيف فإني أخلص نفسي ونفوس الذين يسمعونني معلنًا عصيان شعبي، حاسبًا ما يخصهم يخصني أنا. بهذا أحصل علي شيء من الراحة والحنو.

القديس غريغوريوس النزينزي[273]

v     لقد وضع الرقباء والنظار في الكنيسة علي الشعب لينتهروا الخطيئة بغير رحمة.

القديس أغسطينوس[274]

v  أي نوع من الدم يطلبه الله من يد الرقيب إلا ذاك الذي ينسكب من الخاطئ؟! فإنه هكذا يهلك قلب الغبي، إذ قيل: "اسمعوا لي يا من فقدتم قلوبكم"، إذ سكبوا الدم وفقدوا قوة النفس الحية.

العلامة أوريجانوس[275]

v  لو أنك أؤتمنت علي حفظ ينبوع مياه نقية للقطيع، ورأيت القطيع يشرب وحلاً أفلا تعمل من أجل إزالة الوحل من المياه؟! لكنك الآن لست تتعهد ينبوعًا من المياه بل من الدم والروح فإن رأيت واحدًا فيه خطيئة، التي هي أخطر من التراب والوحل وجاء إليه أفلا تحزن؟! أما تمنعه؟! أي عذر لك؟! فإن الله قد أعطاك هذه الكرامة لهذا الهدف أن تميز هذه الأشياء. هذه هي وظيفتك؛ هنا يكون سلامك، وهنا يكون لك إكليلك، ليس مجرد أنك تلبس ثوبًا أبيضًا متلألأ!

القديس يوحنا الذهبي الفم[276]

2. لا نيأس فإن الله رحوم:

إن كان النبي ملتزمًا أن يكون صريحًا كل الصراحة في إعلان الوصية الإلهية والنبوات دون مداهنة أو مجاملة، لخلاص نفوسهم ونفسه هو أيضًا، لكن هذا لا يعني أن يقسو عليهم. إن كان قبلاً قد تحدث بعنف لأن خطر السبي كان قادمًا، لكن الآن وقد تحقق السبي فعلاً ودخل الكل تحت مرارة المُرّ فلا حاجة لليأس إنما يبدأ الإعلان عن مراحم الله ومحبته للبشرية حتي في وسط تأديباته القاسية.

"أنتم تتكلمون هكذا قائلين:

أن معاصينا وخطايانا علينا وبها نحن فانون، فكيف نحيا؟!

قل لهم:

حي أنا يقول السيد الرب إني لا أُسر بموت الشرير بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا.

ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئة،

فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل" [10-11].

كانوا قبلاً يشربون الإثم كالماء، مستهينين بالخطيئة وفاعليتها في حياتهم، وحينما بدأوا يسقطون تحت التأديب فعلاً حوربوا باليأس قائلين إنهم فانون أي هالكون فكيف يحيون بعد؟!... لكن الرب الذي كان يوبخهم بمرارة قبل التأديب الآن يُلاطفهم بالحب حتي لا يتحطموا بقطع الرجاء.

يعلق الآباء علي هذه الكلمات الإلهية الواهبة رجاء هكذا:

v  من خلال هذه الكلمات الإلهية يعود الخاطئ إلي الرجاء، لكنه أيضًا يوجد فخ آخر يخشي منه، وهو أنه خلال هذا الرجاء عينه يخطئ بالاكثر (مستهينًا بالخطيئة).

القديس أغسطينوس[277]

v     ليحب لأن الله يُريد الرحمة أكثر من الذبيحة (هو 6: 6)، وليخشَ لأنه يبغض الخطيئة!

ليحب، فإن الله يود توبة الخاطئ لا موته، وليخشَ لأنه يبغض الخطاة الذين لا يتوبون!

العلامة ترتليان[278]

v     إنها رسالة المخلص أن يدعو الخطاة لا الأبرار، لأنه كما قال بنفسه: "لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب" (مت 9: 12-13).

إنه يُريد توبة الخاطئ لا موته (حز 33: 11)، ويحمل علي منكبيه الحمل المسكين الضال. وهكذا إذ عاد الابن الضال استقبله أبوه بفرح.

القديس جيروم[279]

3. لا يُحاسبنا الله علي ماضينا:

إذ يفتح لنا الرب باب الرجاء يُريدنا أن ندخل إليه بكل قوة بلا خوف، لهذا يقدم لنا كل طمأنينة. إنه لا يُحاسبنا علي ماضينا بل ولا علي حاضرنا إن قدمنا الآن توبة صادقة. إنه لا يريد هلاكنا بل يبحث بكل الطرق علي خلاصنا مقدمًا لنا كل إمكانية للعودة إليه. وفي نفس الوقت إذ يخشي الله علي أولاده القائمين من السقوط يحذرهم لئلا يتكلوا علي ماضيهم فيستهتروا ويسقطوا...

يقول القديس جيروم: [في حياة المسيحين لا نتطلع إلي البدايات بل إلي النهايات. لقد بدأ بولس بطريقة رديئة لكن نهايته كانت صالحة. بداية يهوذا كانت مستحقة المديح لكن نهايته كانت ملومة بسبب خيانته...

حياة المسيحي هي سلم يعقوب الحقيقي، عليه يصعد الملائكة وينزلون، بينما يقف الرب عليه باسطًا يديه للذين ينزلقون، ساندا إياهم متطلعًا إلي الصاعدين علي الدرجات المؤلمة[280]].

سبق أن رأينا في تفسرنا الأصحاح الثامن عشر كيف استخدمه العلامة أوريجانوس للرد علي القائلين باختلاف الطبائع البشرية موضحًا أنه يمكن للشرير أن يتوب، وللبار أن يسقط... إذ ظن البعض أن الإنسان يحمل طبيعة صالحة أو شريرة لا يمكن تغيرها. فمن كلماته: [نفس الإنسان البار قابل للتغيير كما يشهد حزقيال قائلاً: بأن البار يمكن أن يهجر وصايا الله فلا يُحسب له بره السابق[281]].

أن رجع البار عن حياته البارة في الرب يموت، بينما أن تاب الشرير عن شره يجد الحياة في المسيح تتلقفه.

"عند رجوع البار عن بره وعند عمله إثما فإنه يموت به.

وعند رجوع الشرير عن شره وعند عمله بالعدل والحق فأنه يحيا بهما" [18-19].

لنحذر إذن من الخطية لئلا نموت، وإن كنا قد متنا بها فلنقبل الرب برنا فنحيا به. يقول القديس أمبروسيوس: [كل من يُسلم نفسه للملذات الشريرة يكون ميتًا، لأن المتنعمة قد ماتت وهي حية" (1 تي 5: 6) والذين بلا إيمان ينحدرون إلي الهاوية وهم بعد أحياء، حتي وإن كانوا يبدون أحياء معنا، فإنهم في الهاوية. كل من يأخذ ربا أو يقترف سرقة فهو ليس حيًا، كما تقرأون في حزقيال. أما أن حفظ ذلك الإنسان وصايا الرب ليعملها فهو يحيا، ويحيا بها [19]... فلنسرع إذن إلي تلك الحياة، فمن يمس الحياة يحيا. وقد مستها المرأة حقًا، هذه التي لمست هدب ثوبه فبرأت، وتحررت من الموت، وقيل لها: "إيمانك قد شفاكِ، اذهبي بسلام" (لو 8: 48، مت 9: 22) إن كان من يمس ميتًا يكون نجسًا، فإن من لمس الحي يخلص حقًا. إذن فلنطلب هذا الحيّ، لكن احذروا أن تطلبوه بين الأموات، فيقال لما كما للنسوة: "لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟ إنه ليس ههنا؛ لقد قام" (لو 24: 5-6).

4. التشبه بإبراهيم:

إستطاع رجل من أورشليم أن يفلت عند ضرب المدينة ويجري إلي حيث حزقيال النبي والشعب المسبي ليخبرهم بضربة أورشليم، وكان ذلك في السنة الثانية عشر من السبي الأول ليهوذا في الشهر العاشر في الخامس من الشهر، أي وصلتهم الأخبار بعد حوالي ستة شهور، وهنا انفتح فمه للكلام ولم يعد بعد حزقيال صامتًا [22] إذ سمع الكل بصدق نبواته التي سبق أن أعلنها لهم.

لقد سبق أن قالوا له إن كان من أجل إبراهيم وهو رجل واحد أورثه الله كل هذه الأرض، أفلا يعطيهم هذه الأرض وهم كثيرون؟! [24] ما أبعد مقاييس الله عن الإنسان، الله يتطلع إلي القلب فيهب بسخاء للقلب النقي ولو كان فريدًا في العالم، ولا يعطي من أجل الكثرة. أما الإنسان فينظر لا إلي نقاوة القلب بل إلي كثرة العدد. لقد ظنوا أن الله لن يتخلي عن المدينة ولا الهيكل مهما فعلوا من رجاسات ماداموا يقدمون الذبائح والتقدمات له، حتي وإن كانت قلوبهم متعبدة للأصنام ومنحرفة نحو الشر. الله يُريد العبادة النقية لا الكثرة في الفروض والشكلية في العبادة! كان إبراهيم المطيع المؤمن مستحقًا أن يرث كل هذه الأرض، بينما لم يوجد وسط تلك الربوات من نسله في ذلك الحين من يستحق الميراث!!! ما أحوج الكنيسة إلي قديسين حقيقيين يستريح الله في قلوبهم، حتي وإن كانت أعدادهم قليلة جدًا! لهذا جاءت كلمة الله لحزقيال النبي أن يتنقوا فيرثوا الأرض. بمعني آخر أن يصيروا كإبراهيم أبيهم فيستحقوا أن يرثوه!

هذه هي التوبة... إنها رجوع إلي الحياة المقدسة الخفية!

5. عودة قلبية لا شكلية:

إذ وصلت الأخبار توافدت الجموع إلي حزقيال تسمع له. لقد عرفوا أنه إنما يتكلم بالحق. وربما أيضًا توافدوا إليه بكثرة وشوق لأنه بعدما كان يحدثهم بكلمات التوبيخ والتوبة قبل سقوط أورشليم بدأ يتحدث عن النقمة من الأشرار الشامتين (ص 25-32) ويعطي رجاء بالعودة والإصلاح. هذا وربما جاءوا إليه أيضًا للاستماع بلفته الأدبية الرائعة.

لقد خشي النبي أن يأتوا إليه يسمعون لمجرد اللذة الفكرية أو البهجة المؤقتة لا التوبة الصادقة، إذ قال له الرب "يأتون إليك كما يأتي الشعب ويجلسون أمامك كشعبي ويسمعون كلامك ولا يعملون به، لأنهم بأفواههم يظهرون أشواقًا وقلبهم وراء كسبهم" [31]. صارت كلماته كشعر موزون يُقدم بصوت جميل علي نغمات الموسيقي يستمتعون به إلي حين ولا يعملون! الله لا يريد مجرد الاستمتاع إنما يريد العمل... التوبة الصادقة  الخارجة من القلب، والعملية!

 

 


 

من وحي حزقيال  33

انزع عني روح الفشل!

v   عجيب أنت يا رب في خطتك نحونا!

سمحت بالتأديب القاسي للشعب حتي السبي البابلي،

وهددت بهدم المدينة المقدسة أورشليم وهيكلها،

وطلبت من نبيك كرقيب أن ينطق بالحق ولو كان جارحًا!

ومع هذا كله إذ سُبي الشعب تنزع عنهم اليأس!

تحثهم بالتوبة الصادقة المملوءة رجاءً!

v   ها أنا بين يديك يا مخلص نفسي!

من ينقذني من الشعور بالفشل غيرك!

في تأديبك لي أمسك بأعماقي فلا تنهار!

تجلى في داخلي فلا تتحطم نفسي!

توبني واسندني بروح الرجاء!

v   أنت يا سيدي تهتم بالقلب لا الشكل!

تطلب قلبًا واحدًا مقدسًا كقلب إبراهيم،

أفضل من كثيرين يخلطون الحق بالباطل!

قدسنا! احسبنا القلة القليلة المقدسة لحسابك!

استلم قلبي وفكري وأحاسيسي!

استلم جسدي وسلوكي!

إني بين يديك اطلب عمل روحك القدوس فيّ!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الرابع والثلاثون

الله يرعى غنمه

إذ قام الله بتأديب العدو الخارجي (ص 25-32) طالب الشعب بالتوبة الصادقة (ص 33)، والآن يبدأ في توبيخ الرعاة الأشرار الذين يرعون أنفسهم لا الشعب. ويتدخل الله ليستلم الرعاية بنفسه مقيمًا نوعًا جديدًا من الرعاية:

1. الرعاة الأنانيون          [1-10].

2. الله يرعى شعبه          [11-22].

3. قيام رعاية جديدة        [23-32].

1. الرعاة الأنانيون:

"ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم.

ألا يرعى الرعاة الغنم؟!

 تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم.

المريض لم تقوّوه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم" [2-4]. إذ يتحول قلب الراعي عن شعب الله إلي ذاته يرعى مصالحه الخاصة، فيعمل لحساب كرامته أو ممتلكاته أو راحته الجسدية الخ... عوض أن يهتم باحتياجاتهم ومصالحهم. إنه لا يُبالي بالمريض أو المجروح أو المكسور أو المطرود أو الضال، بل يهتم بأنانيته. مثل هذا لا يُحسب راعيًا بل أجيرًا، يطلب الأجرة لا البنوة، بل وأحيانًا يُحسب لصًا يسرق الرعية عوض أن يصونها ويسندها.

v   يوجد أجراء يعملون في الكنيسة، يقول عنهم الرسول بولس: "يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح" (في  2: 21).

ماذا يعني: "يطلبون ما هو لأنفسهم"؟ أي لا يحبون المسيح مجانًا. لا يطلبون ما هو لله بل يطلبون المنافع الزمنية، يفغرون أفواههم للربح ويولعون بطلب الكرامة من الناس. متي اشتهي أي رقيب أمورًا كهذه وكان يخدم الله لأجل نوالها، فإنه مهما يكن هذا الإنسان يُحسب أجيرًا ولا يقدر أن يُحسب نفسه بين الأولاد، لأنه عن مثل هؤلاء قال الرب أيضًا: "الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم" (مت 6: 5)...

الأجراء موجودون أيضًا بيننا، لكن الرب وحده يفرزهم، ذاك الذي يعرف القلوب هو يفرزهم، وإن كنا أحيانًا نستطيع أن نعرفهم، لأنه لم ينطق الرب باطلاً في حديثه عن الذئاب: "من ثمارهم تعرفونهم" (مت 6: 17).

القديس أغسطينوس[282]

محبة الراعي لذاته تفقده الأبوة الحانية المُترفقة بالضعفاء[283]، وتحوله لا إلي أجير فحسب بل ومتسلط عنيف، يفقد أبوته ليفتح الباب للتسلط. هذا العنف يدفع الشعب إلي التشتت فيصير غنيمة لجميع وحوش البرية [5] إذ تضل "في كل الجبال وعلى كل تل عال وعلي كل وجه الأرض" [6].

يصير الإنسان فريسة لكل أنواع الشياطين التي تلتهم غنم الله بسبب إهمال الرعاة وانشغالهم بذواتهم. فتسلك الرعية بلا هدف ولا مأوي، تنتقل من جبل إلي جبل، ومن تل إلي آخر، ومن موضع إلي موضع بلا تمييز ولا حكمة ولا معرفة. تلعب بها الشياطين، الواحد يسلمهم للآخر حتي يتحطموا تمامًا.

"هأنذا علي الرعاة، وأطلب غنمي من يدهم" [10].

يقول الأب قيصريوس أسقف آرل:

[مادام الرب قد أقامنا لكي ندبر سفينة كنيسته، ليتنا بمعونته وبتوجيه العهدين أن نحكم سفينة كنيسته حتي لا تنحرف بسبب إهمالنا يمينًا أو يسارًا، بل بدون مجهود نبقي في استقامة الحياة وسط مخاطر هذا العالم العظيمة. وكما أن أيه سفينة لا يمكن أن تنال مكاسب أرضية بدون متاعب، هكذا سفينة الكنيسة لا تقدر أن تنعم بالمكاسب وفرح الأبديات دون متاعب كثيرة].

يصرخ الرب قائلاً: "أيها الرعاة... غنمي صار غنيمة" [7-8]، محمِّلاً إياهم المسئولية، إذ صاروا سر تحطيم للنفوس وهلاكها عوض أن يكونوا ملجأ لها ومأوي من الذئاب الخاطفة.

لقد كتب البابا أثناسيوس الرسولي إلي الأسقف Dracontium يُحمله المسئولية الرعوية، قائلاً له: [قبل أن تتقبل نعمة الأسقفية لم يعرفك أحد، لكنك صرت ذاك الذي يتوقع الشعب منه أن يقدم له الطعام أي تعاليم الكتب المقدسة. عندما يتوقعون ذلك الأمر ويعانون من الجوع بينما تشبع نفسك وحدك يأتي ربنا يسوع المسيح وتقف أمامه، فإي دفاع تقدمه عندما يجد قطيعه جائعًا؟[284]].

لا يقف الأمر أحيانًا عند شرب المياه الحلوة وحدهم أو التهام الطعام الروحي دون شعبهم، وإنما ما هو أمرّ أنهم في أنانيتهم يحتفظون أحيانًا لأنفسهم بالمياه العميقة، يشربون منها ولا يتركوا حتي المياه الضحلة لشعبهم بل يكدرونها بأرجلهم ليقدموها مملؤة وحلاً:

"أهو صغير عندكم أن ترعوا المرعى الجيد وبقية مراعيكم تدوسونها بأرجلكم، وأن تشربوا من المياه العميقة والبقية تكدرونها بأقدامكم، وغنمي ترعى من دوس أقدامكم وتشرب من كدر أرجلكم" [18-19]. يري القديس جيروم أن أقدام الهراطقة الموحلة هي التي تُعكر المياه الصافية فتفسد أيمان الرعية[285].

2. الله يرعى شعبه:

"هأنذا اسأل عن غنمي وأفتقدها" [11]. ليس شيء أثمن لدي الله من النفس البشرية التي أوجدها علي صورته ومثاله. فإن كان قد سلَّم شعبه بين يدي رعاة إنما تكريمًا للبشرية ذاتها لتشترك مع الله وباسمه وبقوته في رعاية النفوس، لكن الله يحتفظ بهذا العمل الإلهي، معتزًا به، قائلاً: "هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها".

في رعايته لغنمه لا يحتمل أنانية الرعاة الذين أقامهم لخدمة أولاده، لهذا يقف بنفسه في مواجهتهم، حاسبًا كل إهمال أو خطأ في الرعاية إنما هو مُوجَّه ضده شخصيًا. إنه يطمئن كل نفس استغلها الرعاة أو أهملوها، قائلاً: "هأنذا على الرعاة، وأطلب غنمي من يدهم وأكفهم عن رعي الغنم، ولا يرعى الرعاة أنفسهم بعد، فأُخلص غنمي من أفواههم فلا تكون لهم مأكلاً" [10]. إنه يقف ضدهم ويتسلم الرعاية بنفسه! يلذ له أن يُسمي نفسه "راعيًا" مكررًا كلمة "غنمي" 14 مرة في هذا الأصحاح، مؤكدًا أنهم شعبه، إذ يقول "شعبي" إنهم له، يُخلصهم من الرعاة الأشرار كما يخلصهم من العدو الخارجي ويتسلم حياتهم بنفسه.

إن كان الرعاة قد افترسوا الرعية، يتسلم الراعي الأعظم قطيعه ليحكم للرعية الضعيفة ضد الرعاة العنفاء: "لذلك هكذا قال السيد الرب لهم: هأنذا أحكم بين الشاة السمينة (الراعي المستبد) والشاة المهزولة (الرعية المسكينة)... فأخلص غنمي فلا تكون من بعد غنيمة وأحكم بين شاة وشاة" [20-22]. يستوي الكل أمامي، الرعاة والرعية، فأُدين الجميع وأحكم بينهم، بين شاة وشاة!

هكذا الخادم الناجح هو الذي يرفع عينيه دائمًا إلي مجيء الراعي الأعظم ليُدين الكل ولا يميز. إنه لا يُحابي الوجوه ولا يهتم بالكرامات بل علي العكس الذي وهب له أكثر يدان أكثر ويطالب بأكثر! هذا والخادم الناصح هو الذي يختفي دومًا في الراعي الصالح، فلا يخدم إلا من خلال الراعي الأوحد، ولا يعمل إلا به حسب فكره الإلهي. بهذا لا ينتفخ الخادم علي مخدوميه، ولا يظن في نفسه أنه أفضل من إخوته.

3. قيام رعاية جديدة:

إذ تحدث عن اهتمام الله بالبشرية أعلن قمة هذه الرعاية خلال "السيد المسيح"، الملك الحقيقي الروحي ابن داود، قائلاً: "وأقيم عليهم راعيًا واحدًا فيرعاها عبدي داود، هو يرعاها وهو يكون لها راعيًا" [23]. بلا شك "عبدي داود" لا تعني قيامة داود الملك من الأموات ليملك من جديد، إنما ظهور السيد المسيح، ابن الله الذي صار عبدًا ليملك علينا من خلال حبه واتضاعه.

في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالنسبة لحزقيال وغيره من الأنبياء فإن حديثهم عن مجيء داود وقيامه مرة أخري لا يعني أنه ذاك الذي مات[286]]. ويقول العلامة أوريجانوس: [إنه ليس البطريرك (الأب) داود الذي يقوم ويحكم القديسين إنما المسيح[287]]. كما يقول القديس أغسطينوس: [يتحدث حزقيال نبويًا في شخص الله الآب، مخبرًا مقدمًا عن السيد المسيح بطريقة نبوية بكونه "داود"، الذي أخذ شكل العبد وصار إنسانًا، هذا الذي هو ابن الله[288]].

يتحدث عن هذا الراعي الصالح، المسيا المخلص، بكونه:

أ. يقطع عهدًا مع البشرية [25] يكتبه لا علي الواح حجرية بل بالدم ينقشه علي جسده المقدس بالحب الإلهي، فيدخل بنا إلي أحشائه ونتقبله عريسًا أبديًا.

ب. ينزع الوحوش الرديئة من الأرض فيسكنون في البرية مطمئنين وينامون في الوعور [25]. ما هذه الوحوش الرديئة التي ينزعها عن الأرض إلا أعمال الإنسان القديم المملوءة عنفًا، تنزع عن أرض جسدنا ونعيش في سلام مطمئنين.

ربما قصد بالوحوش الرديئة الأمم الذين كانوا كالوحوش المفترسة فإنها تتقبل الإيمان وتتحول عن طبيعتها الوحشية لتحيا بروح جديد وطبيعة جديدة.

ج. ينزل المطر في حينه علي الأكمة التي حوله [26]، الذي هو نزول السيد المسيح نفسه من السماء، يرطب النفس ويطفئ نار شرورها.

د. يهب شجرة الحقل - التي هي الكنيسة - ثمرتها، وتعطي الأرض غلتها فيحل الأمان علي الأرض [27]. إنه يغرس شجرة العهد الجديد في جسده المقدس، وتأتي بثمر كثير. إنه يغرسنا فيه فتتبارك طبيعتنا فيه وتصير أرض جسدنا في أمان دائم.

هـ. يكسر نيرهم وينقذهم من يد الذين استعبدوهم [27]. إنه علي الصليب يمزق الصك الذي كان علينا ويعتقنا من عبودية الشيطان الذي تسلط علينا. وكما يقول الرسول: "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب، إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 14-15). لهذا يعود حزقيال النبي فيؤكد بلسان الرب نفسه: "فلا يكونون بعد غنيمة للأمم ولا يأكلهم وحش الأرض بل يسكنون آمنين ولا مخيف" [28]، أي لا يصيرون غنيمة الشياطين ولا يأكلهم وحش شهوات الجسد (الأرض) بل يمتلئون بقوة الروح القدس واهب التعزية والغلبة.

و. لا يقف عمله عند كسر نير عبودية الشر وطرد الطبيعة الوحشية لكنه يقدم الجانب الإيجابي: "أقيم لهم غرسًا" [29]. إنه ينزع الطبيعة القديمة واهبًا الطبيعة الجديدة التي علي صورته لتعمل لإشباع الإنسان به شخصيًا.

ز. أما ما يعتز به السيد فهو أنه يجعلهم "شعبه"، ويكون هو إلههم يسكن في وسطهم ويتحد بهم..."فيعلمون أني أنا الرب إلههم معهم وهم شعبي بيت إسرائيل يقول السيد الرب. وأنتم يا غنمي غنم مرعاي، أناس أنتم. أنا إلهكم يقول السيد الرب" [30-31]. هذا هو ختام عطاياه كلها، إنه يتقدم إلهًا لهم وهم غنمه، شعبه، يعتز بهم وهم يعتزون به. لهذا سمع القديس يوحنا الحبيب وصفًا للسماء أو الحياة الأبدية هكذا: "هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ 21: 3).


 

من وحي حزقيال34

أنت راعيّ !

v   عجيب أنت يا ربي في رعايتك لي!

تهدد كل راعٍ أنانيّ

يطلب ما لنفسه علي حساب رعيتك!

تحكم بنفسك بين الرعاة العنفاء والرعية المحَّطمة!

v   أتيت إلي أرضنا كراعٍ صالح،

بذلت ذاتك لأجلي ولأجل كل إنسان!

فتحت لنا سمواتك كمرعى مشبع!

حوطتنا بروحك القدوس ندى يُلَّطف قلوبنا.

قدمت لنا ثمر الروح في أعماقنا!

v   ما أعذب كلماتك! وما أقواها!

تقول وتعمل:

"هانذا أسأل عن غنمي وافتقدها...

أرعاها في مرعى جيد...

أنا أرعى غنمي وأربضها...

وأطلب الضال،

وإسترد المطرود،

وأجبر الكسير،

وأعصب الجريح،

وأبُيد السمين والقوي،

وأرعاها بعدلٍ".

<<

 

 

 


 

الأصحاح الخامس والثلاثون

نبوة ضد جبل سعير

أثناء النبوات ضد الأمم الغريبة الشامتة (ص 25-33) تنبأ حزقيال النبي ضد سعير[289] مع موآب (25: 8) كما تنبأ ضد آدوم التي تضم في طياتها جبل سعير (25: 12) فلماذا عاد يتنبأ بشيء من التوسع ضد سعير أثناء حديثه عن الإصلاح الداخلي؟

1. لا يمكننا أن نعزل العمل الخارجي عن العمل الداخلي، حقًا لقد أراد الله أن يُهيئ الطريق للعودة والإصلاح الداخلي علي مستوي الشعب والرعاة بهدم قوى الشر الخارجية، لكنه في الواقع العملي يرتبط الإصلاحان معًا. فلا هدم لقوى الشر الخارجي دون بدء انطلاق التوبة في الداخل، ولا إصلاح دون بدء هدم الشر الخارجي. هذا وكل إصلاح داخلي إنما يثير العدو الخارجي (إبليس) ويهيجه، لهذا كان نحميا يبني بيد ويمسك بيده الأخري السلاح، هكذا حينما يعمل الإنسان روحيًا إنما ينبغي أن يكون متيقظًا لكل حرب تثور ضده لتحطيمه.

2. لعله اهتم بأن يتحدث عن جبل سعير بالذات لوصول أخبار إلي المسبيين أن الأدوميين تسللوا إلي يهوذا تدريجيًا بعد انكسار أورشليم، وشغلوها فأراد النبي أن يؤكد لهم أن الله ينقذ البلاد من يد هؤلاء المحتلين لها، خاصة وأن الخلاف علي الأرض بين إسرائيل وأدوم قضية قديمة (تك 27: 40) بهذا فتح علة جديدة للإصلاح، إذ يتدخل الله للإصلاح من أجل افتراءات أهل سعير، الأمر الذي يظهر بوضوح في الأصحاح التالي.

أما الأسس التي قامت عليها النبوة ضدهم فهي:

1. البغضة: بغضة سعير للشعب بغضة قديمة تأصلت في داخل قلوبهم إذ يقول:  "لأنه كانت لكَ بغضة أبدية ودفعت بني إسرائيل إلي يد السيف في وقت مصيبتهم وقت إثم النهاية" [5]. لم تقف البغضة عند حدود الفرح بمصيبتهم، إنما تحولت إلي ظلم وسفك دم، دفعتهم إلي السيف. أحبت الم لذلك فالدم يتبعها، أو كما يقول الرب: "إذ لم تكره الدم فالدم يتبعك" [6].

 بالكيل الذي به يكيل الإنسان يُكال له، وفي الحفرة التي يحفرها لأخيه يسقط هو، الصليب الذي أعده هامان لمردخاي علق هو عليه.

2. أغتنامها الآخرين: "لأنك قلت إن هاتين الأمتين وهاتين الأرضين تكونان لي فنمتلكهما والرب كان هناك..." [10]. هكذا حين يُريد الإنسان أن يغتنم أرضًا غير أرضه، ويملك ما ليس له، لا يدرك أن الله غير المنظور يتطلع وينظر إلي الظلم. لقد أرادت أن تمتلك ما ليس لها لهذا تفقد ما هو لها، إذ تصير مدنها خربة وتكون قفرًا [4].

 3. عجرفتها المملوءة تجديفًا: "قد تعظمتم عليَّ بأفواهكم وكثرتم كلامكم عليَّ أنا سمعت" [13] حين أرادت أن تملك ما ليس لها كان الرب موجودًا هناك يرى شرهم، وإذ تعجرفت في قلبها ونطقت بشفتيها ضد الله كان الله يسمع. لقد أطال أناته كثيرًا، لكنه يُجازيها علي تجديفها.

4. فرحت بضرر يهوذا يوم تأديبه: إذ سقط يهوذا في التأديب لم تتعظ بل فرحت في شماته، لهذا استحقت غضب الله: "كما فرحت على ميراث بيت إسرائيل لأنه خرب هكذا أفعل بك. تكون خرابًا يا جبل سعير أنت وكل أدوم بأجمعها فيعلمون إني أنا الرب" [15].

أي أن ما حلّ بجبل سعير إنما هو ثمرة خطيئتها الداخلية، تحمل ذات الثمر الذي لعملها، وأيضًا لأجل بنيان شعب الله إذ صار هؤلاء مغتصبين لحقوقهم فيدافع الله عن أولاده لأجل اسمه القدوس، "فيعلمون أني أنا الرب".

 


 

من وحي حزقيال 35

ليتبدد جميع أعدائك!

 

v   من هو سعير (آدوم) الشامت في كنيستك

إلا عدو الخير العنيف سافك الدماء؟!

هوذا عدوي يبغضني!

بغضته لي قديمة جدًا،

هي بغضة لك أنت يا حبيب نفسي!

يكرهني جدًا، لأنه يكرهك!

أعَّد لك الصليب، فتحطم هو به!

v   عدوي يُريد أن يغتصب قلبي،

إنه ليس ملكه ولا ملكي، بل هو بكليته لك!

يُريد أن يملك ما ليس له،

يغتصب ملكوتك الذي فيّ!

قم يا رب،

وليتبدد جميع أعدائك،

وليهرب من أمام وجهك كل مبغضي اسمك!

v   عدوي متعجرف،

لكن في الهاوية مصيره!

أما أنا فتحملني بروحك القدوس إلي حضن أبيك!

<<

 

 

 


 

الأصحاح السادس والثلاثون

نبوة عن جبال إسرائيل

في الأصحاح السابق تنبأ حزقيال النبي علي سعير بكونه يمثل عدو الخير المقاوم لله في شعبه. هنا يتحدث عن اهتمام الله بشعبه وغيرته عليهم من عدو الخير الذي يريد تحطيمهم. هذه الغيرة الإلهية تقوم علي إصلاح جذري، وتجديد للطبيعة البشرية، فيتقدس في حياتهم.

1. غيرة الله علي جبله        [1-15].

2. إصلاحهم بعد تأديبهم       [16-21].

3. إصلاح جذري              [22-38].

1. غيرة الله علي جبله:

في هذا الأصحاح كشف الله عن علة جديدة لتدخله لإصلاح حال شعبه وهي غيرته علي اسمه القدوس الذي أهانه الأمم الذين ظنوا في الله أنه ضعيف بسبب ما حل بشعبه من تأديبات. لقد شمتوا في خراب شعبه وأساءوا إلي اسمه القدوس، وتسللوا إلي أرض الميراث، لتصير ميراثًا لهم عوض شعب الله، إذ يقول السيد الرب: "من أجل أن العدو قال عليكم هه. إن المرتفعات القديمة صارت لنا ميراثًا" [2]. لقد فرحوا بالهزيمة واستغلوها، لهذا قام الرب يخلص شعبه "في نار غيرته" [5]. يتطلع الرب إلي الجبال والتلال والأنهار والأودية والخرب المقفرة والمدن المهجورة التي صارت للنهب والاستهزاء لبقية الأمم من حولها ويقول: "هأنذا في غيرتي في غضبي تكلمت من أجل أنكم حملتم تعيير الأمم، لذلك... إني أرفع يدي فالأمم الذين حولكم هم يحملون تعييرهم" [7].

ما هي هذه الجبال إلا الأنبياء، والتلال هم الكهنة، والأنهار هم المعلمون، والأودية هي النفوس الضعيفة، أما الخرب المقفرة والمدن المهجورة فهي الشعب الذي هلك بسبب شره وإهمال رعايته.

إنه يتحدث مع الرعاة والرعية، الكهنة والشعب، العظماء، والمحتقرين، الثابتين كالجبال والمنهارين كالمدن الخربة... إنه يتحدث مع الجميع معلنًا أنه يتدخل لإصلاحهم، ليس من أجل أحد منهم، بل لأجل غيرته النارية بسبب تعييرات الأمم لهم وله!

لقد رفع يده [7] ليتكلم ضد الأمم، وكأنه وقف يعلن القسم، لأن عادة اليهود في ذلك الحين حينما يقسمون يرفعون أياديهم. إنه يؤكد بقسم أنه يتدخل لإصلاحهم بغيرته المتقدة. وفي هذا لا يظلم الأمم، إنما يرد عليهم أعمالهم، إذ "يحملون تعييرهم" [7]. فما يفعلونه مع غيرهم يرتد عليهم، يشربون ذات الكأس التي أعدوها لغيرهم.

يعود فيتطلع الرب إلي الجبال المقدسة كما إلي كنيسته معلنًا أنه يقدم لها إمكانية جديدة للإثمار حتى إذ يرجع إليها شعبه يجد الجبال مزروعة ومثمرة، وتُعمَر المدن وتبني الخرب [10] وتمتلئ الجبال من البشر والحيوانات [12].

عجيب هو الله في حبه للإنسان فإنه يقدم له إمكانية للعودة، لا إلي ما كان عليه قبلاً قبل السقوط والسبي، وإنما إلي حال أفضل، إذ يقول: "أسكّنكم حسب حالتكم القديمة وأُحسن إليكم أكثر ممَّا في أوائلكم فتعلمون أني أنا الرب" [11]. هذا ما فعله معنا السيد المسيح، قدم لنا الجبال المقدسة (الكنيسة) مزروعة ومهيأة للسكني فيها لا كالفردوس القديم المفقود بل وأعظم. ندخل إلي الجبال المقدسة فلا نجد شجرة الحياة بل المسيح نفسه واهب الحياة، عوض الأنهار نجد ينابيع الروح القدس تفيض بالنعم الإلهية، وعوض الدمار والخراب الذي حل بنا يمتلئ القلب بملكوت الله الأبدي.

في عهد النعمة لم يرجع الإنسان إلي حاله الأصلية قبل السقوط فحسب، وإنما صار ابنًا للآب، وعضوًا في جسد السيد المسيح وهيكلاً مقدسًا للروح القدس... أي مجد أعظم من هذا؟! لقد صار حالنا الآن - في المسيح يسوع - أفضل مما كنا عليه في أوائلنا!

ماذا يفعل الرب بجبله المقدس؟ "أكثَّر الناس عليكم... وأكثَّر عليكم الإنسان والبهيمة فيكثرون ويثمرون وأُسكّنكم... وأُمشَّي الناس عليكم شعبي إسرائيل فيرثونك، فتكون لهم ميراثا ولا تعود بعد تُثكِّلُهم" [10-12].

أنه يُكثر الناس داخل كنيسته - جبله المقدس - فيأتي بهم من المشارق والمغارب من كل أمة ولسان وشعب. يكثر الإنسان والبهيمة فيكثرون ويثمرون بمعني أنه ليس فقط يأتي بهم من كل العالم إلي جبله، وإنما يُبارك  كل واحد منهم، يبارك  نفسه (الإنسان) وجسده (يرمز له بالبهيمة) فيكثرهما ويثمرهما، إذ تحمل النفس كما الجسد من ثمر الروح القدس.

 لا تصير هناك عداوة بين الإنسان والحيوان، بين النفس والجسد، بل يسكنان معًا كما في الفردوس، منسجمين معًا، يعملان تحت قيادة الروح القدس.

يقول إن الناس يمشون في الجبال، إذ يدخلون كشعب الله إلي الكنيسة، ويصيرون في حالة تحرك مستمر بلا توقف حتى يرثوا الجبل المقدس، ولا يعود الموت يقترب إليهم! يدخلون إلي الكنيسة الأبدية، الميراث الإلهي، حيث لا موت ولا ألم ولا ضيق.

2. إصلاحهم بعد التأديب:

كأن النبي يسأل: مادمت ترد الشعب إلي حال أفضل مما كان عليه، فتعمر المدن الخربة وتبني الخرائب، فلماذا سمحت بالتدمير والخراب؟ وجاءت الإجابة الإلهية تعلن أن ما صنعه الله إنما لتأديب الشعب بسبب شرهم، حتى إذ سقطوا تحت التأديب وقامت الأمم بتعييرهم يقوم هو بغيرته الإلهية ويردهم إلي حال أفضل مما كانوا عليه. لقد كانت أعمالهم قبلاً نجسة كخرقة الطامث، صنعوا رجاسات وسفكوا الدماء وصاروا سبب تجديف علي اسمه القدوس... ومع ذلك إذ أدبهم عاد فتحنن عليهم من أجل اسمه القدوس.

3. إصلاح جذري:

إذ تحدث عن غيرته للإصلاح بدأ بالحديث عن غاية هذا الإصلاح ثم وسائله. أما غايته فهي: "ليس لأجلكم أنا صانع يا بيت إسرائيل بل لأجل اسمي القدوس... فأقدس اسمي العظيم...فتعلم الأمم أني أنا الرب يقول السيد الرب حين أتقدس فيكم قدام أعينهم" [22-23].

ماذا يعني الرب بهذا؟ هل أنه يعمل لخلاصنا وإصلاحنا من أجل اسمه القدوس وليس لأجلنا؟ هل في هذا أنانية؟ هل يحب مجد اسمه القدوس ولا يهتم بنا؟ يستحيل! إنما في قوله "ليس لأجلكم" لا يعني عدم اهتمامه بنا، إنما لا يعمل عن استحقاق فينا، ولا بإمكانياتنا، إنما يعمل فينا لأجل اسمه بإمكانياته كقدوس. إنه يحبنا فيجعلنا موضع "تمجيد اسمه القدوس"، فيتجلى بقداسته فينا، ذلك كالأب الذي يفرح بأولاده الناجحين كأنما هو الناجح، ويحسبهم مستحقين أبوته. إنه يرفعنا من روح العبودية إلي روح البنوة القادرة أن تعلن بوضوح مجد الآب، أو يقيمنا كجسد مقدس يكشف بتصرفاته الحكيمة عن حكمة الرأس المدبر.

اهتمامه بإعلان قداسة اسمه فينا إنما هو ذات الحب لنا!

أما وسائل الإصلاح الجذري فهي:

أ. "آخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلي أرضكم" [24]. إنها دعوة لإقامة شعب واحد مقدس، يجمعه من جميع الأراضي، أي من كل أمة ولسان وشعب، ويأتي بالكل إلي أرضهم أي إلي الكنيسة التي هي لهم. هذه هي دعوة السيد المسيح للبشرية كلها تجتمع فيه لتصير جسده المقدس، فتستريح فيه كما في أرضها أو بيتها.

ب. إن كان الله من أجل سفك الدماء ورجاسات الوثنية ظهر كضعيف وسط الأمم مسلمًا شعبه لبابل، فلكي يتمجد اسمه القدوس وتظهر قوته لا يحتاج الأمر إلي مجرد عودتهم إلي أرضهم بل بالحري إلي غفران خطاياهم بالدم الكريم المبذول عنهم. هذا الذي يتمتعون به خلال مياه المعمودية المقدسة.

"وأرش عليكم ماء طاهرًا فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أُطهركم"  [25]. بهذا ينالون غفران خطاياهم فيحق لهم العودة إلي مدنهم وبناء خرائبهم: "هكذا قال السيد الرب: في يوم تطهيري إياكم من كل آثامكم أسكنكم في المدن فتبني الخرب وتفلح الأرض الخربة عوضًا عن كونها خربة أمام عيني كل عابر" [33-34].

هذا هو عمل المياه المقدسة، إذ يقول القديس برناباس: [حقًا إننا ننزل في الماء مملوءين من الخطايا والدنس ونصعد حاملين ثمرًا في قلوبنا، حاملين في روحنا خوف (الله) والرجاء بيسوع[290]]. ويقول القديس أكليمنضس الإسكندري: [المعمودية تغسلنا من كل عيب، وتجعلنا هيكل الله المقدس، وتردنا إلي شركة الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس[291].

ج. لا يقف التطهير في المياه المقدسة عند غسلنا من الخطايا القديمة وإزالة كل عيب فينا، وإنما يمتد إلي منحنا طبيعة جديدة تقوم عوض الطبيعة الفاسدة التي كانت لنا، طبيعة تناسب الحياة الجديدة في الأرض الجديدة: "وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم" [26]. هذا القلب الجديد وهذه الروح الجديدة إنما يتحققان بنوالنا الميلاد الروحي الجديد في مياه المعمودية المقدسة. ويقول القديس كبريانوس: [إنها المعمودية التي فيها يموت الإنسان القديم ويولد الإنسان الجديد كما يعلن الرسول مؤكدًا أنه خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس (تي 3: 5)[292]].

د. بنوالنا الغفران وتمتعنا بالقلب الجديد بواسطة الروح القدس داخل مياه المعمودية إنما نتهيأ لقبول الروح القدس فينا في الميرون. هذه هي علامة العهد الجديد، عطية السيد المسيح لنا أنه وهبنا روحه، إذ يقول: "وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" [27]. هذه هي الإمكانية الجديدة للسلوك في وصايا الرب وحفظ أحكامه والعمل بها، إنها إمكانية روحه القدوس الذي وُهب لنا في داخلنا. لهذا ركز الأنبياء علي هذه العطية، فمن أقوالهم:

"وأجعل روحي فيكم فتحيون" (حز 37: 14).

"لا أحجب وجهي عنهم بعد لأني سكبت روحي علي بيت إسرائيل" (حز 39: 26).

"لأني أسكب ماء علي العطشان وسيولاً علي اليابسة. أسكب روحي علي نسلك وبركتي علي ذريتك" (إش 44: 3) (عمل الروح القدس فينا كعمل المياه في العطشان والسيول في الأرض اليابسة).

"ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلامًا ويري شبابكم رؤى، وعلى العبيد أيضًا وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام" (يؤ 2: 28-29).

هـ. تذكرنا الدائم لضعفنا، إذ يقول: "فتذكرون طرقكم الرديئة وأعمالكم غير الصالحة وتمقتون أنفسكم أمام وجوهكم من أجل آثامكم وعلي رجاساتكم" [31]. إن كان الله قد وهبنا غفران خطايانا في استحقاقات دمه وأعطانا طبيعة جديدة وقدم لنا روحه ساكنا فينا، لكننا وسط فرحنا بأعمال الله العظيمة معنا ورجائنا المستمر فيه ينبغي أن نذكر ضعفاتنا تبكيتًا لنفوسنا وتحذيرًا لنا لئلا نسقط. وكما يقول المرتل التائب: "خطيتي أمامي في كل حين" (مز 51). وكأننا بالمفلوج الذي شفي وقام من سرير مرضه لكنه يلتزم أن يحمل سريره فلا ينسي ضعفاته. غير أنه يليق بنا في تذكرنا لخطايانا أن نسلك بروح التمييز، فلا نذكر خطايانا بتفاصيلها فنتعثر بتذكارها، كما لا نذكرها بروح اليأس فنفقد فرحنا بالخلاص. وقد تحدث القديس بينوفيوس كثيرًا في هذا الأمر محذرًا إيانا لئلا بسبب تذكر الخطايا تختنق نفوسنا من رائحة البالوعات الخانقة[293].

و. النمو الدائم: من خلال تذكرنا لضعفنا الذاتي نؤمن بالذي يعمل فينا بغير انقطاع لأجل بلوغنا الكمال. شعورنا بضعفنا ربما يُحطم نفوسنا، لكن إيماننا بالذي يعمل فينا علي الدوام يُنمينا، لهذا يكمل الرب قائلاً: "إني أنا الرب بنيت المنهدمة وغرست المقفرة. أنا الرب تكلمت وسأفعل" [36]. يقول أيضًا: "أكثّرهم كغنم أُناسٍ، كغنم مقدس، كغنم أورشليم في مواسمها فتكون المدن الخربة ملآنة غنم أُناسٍ" [37-38]. إنه يعمل فينا ليملأ أورشليمنا الداخلية بالثمر المتكاثر، وينطق بنا من مجد إلي مجد ليدخل بنا إلي كماله.

 

 


 

من وحي حزقيال 36

أقمني جبلاً مقدسًا لك!

v   أقمني يا رب جبلاً مقدسًا لك!

تجعلني ثابتًا كالجبال،

لا يقدر عدو الخير أن يزحزحني!

v   لترسل روحك القدوس كمطر عليّ،

يحولني إلي جنة مثمرة.

اَحمل في داخلي صليبك.

شجرة الحياة الأبدية.

v   أنت تكثر الناس والبهائم،

تبارك نفسي العاقلة،

وتقدس جسدي فلا يحمل بعد طبيعة حيوانية!

روحك القدوس يجدد طبيعتي فأحيا أبديًا!

v   يا لغنى نعمتك!

يا لفيض حنانك!

أنت تغفر لي خطاياي وعصياني،

تنزع عني نجاساتي وتهبني الحياة المقدسة!

أما أنا فأذكر دومًا ضعفي،

وأعترف لك بفضلك عليّ!

أقمني يا رب جبلاً مقدسًا لك!

<<

 


 

الأصحاح السابع والثلاثون

القيامة من الأموات

إذ يتحدث عن الإصلاح الداخلي من خلال المعمودية المقدسة والتمتع بالقلب الجديد والروح الجديد. ونوالهم الروح القدس في داخلهم التزم أن يحدثهم عن عمل الروح فيهم بكونه "إقامة من الأموات".

1. وادي العظام اليابسة     [1-6].

2. عودة الحياة للعظام      [7-10].

3. قيامة القلب             [11-14].

4. القيامة والوحدة         [15-28].

1. وادي العظام اليابسة:

إذ طرد الشعب من وطنه بسبب رجاساته الوثنية وسفكه الدماء تحولت مدنه إلى خراب لا يسكنها أحد، فصارت وكأنها بقعة ملآنة عظامًا كثيرة ويابسة جدًا. صارت أشبه بأرض معركة قتل فيها كل الرجال ولم يوجد من يدفنهم، فصاروا عظامًا كثيرة مبعثرة، لفتحها الشمس وهبَّت عليها الرياح زمانًا طويلاً فجفت جدًا. بمعنى آخر صارت كأنها قبر مفتوح يضم عظامًا بلا حياة! هذه ليست صورة المدن بل بالأحرى هي صورة الشعب نفسه الذي تشتت في مواضع كثيرة بنفس محطمة فصار أشبه بوادي الموت يحوي عظامًا يابسة تحتاج إلى من يقيمها من موتها، ويجمعها من جديد ويهبها الحياة.

هذه الرؤيا في الحقيقة قدمت لنا القيامة من الأموات كعمل إلهي مستمر عبر التاريخ من جوانب متعددة، منها:

أ. قيامة الشعب القديم برده من السبي البابلي مرة أخرى إلى أرض الموعد كمملكة واحدة بقلب واحد جديد...

ب. قيامة النفوس من موت الخطيئة للدخول إلى حياة البر والقداسة، الحياة السماوية الروحية الإلهية، ذلك بفعل كلمة الله المتجسد واهب الحياة.

ج. قيامة كنيسة العهد الجديد من كل الأمم والشعوب، هؤلاء الذين قبلوا الإيمان فأنعم عليهم بالقيامة من الموت إلى الحياة، ليعيشوا عروسًا سماوية، من خلال الكرازة بالإنجيل.

د. قيامة أجساد القديسين في يوم الرب العظيم حيث تتقبل النفوس التي سبق أن تمتعت بالقيامة من خلال إيمانها بالسيد المسيح، الأجساد التي لها، ليبقى الإنسان نفسًا وجسدًا في الأمجاد الأبدية. فقد استخدمت عبارات هذا الأصحاح في الكنيسة الأولى كشهادة عن القيامة. نذكر على سبيل المثال العلامة ترتليان الذي وافق أن هذه النبوة تشير إلى قيامة الشعب من الموت (السبي)، وفي نفس الوقت يرى فيها إعلانًا عن حقيقة الجسد الذي لا يمكن إنكارها[294]. كما يقول القديس أمبروسيوس: [يا لعظمة محبة الرب المترفقة فقد أخذ النبي كشاهد للقيامة المقبلة، فنراها نحن من خلال عينه. إذ لا يمكن أن يؤخذ الكل كشهود عيان، ففي هذا الواحد صرنا نحن شهودًا[295]].

هـ. يرى البعض أن هذا الأصحاح يتنبأ عن قيام إسرائيل وقبولها الإيمان بالسيد المسيح في أواخر الدهور، فيعمل الروح القدس فيهم ويقيمهم من موت عدم الإيمان.

أما بخصوص الرؤيا فقد جاء وصفها يُعبِّر بدقة عن عمل الله في إقامتنا من الأموات. يبدأ الرؤيا بقوله: "كانت عليَّ يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا، وأمرَّني عليها من حولها، وإذا هي كثيرة جدًا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدًا" [1-2]. إن كانت يد الرب - كما سبق أن رأينا - تشير إلى الأقنوم الثاني، ابن الله المتجسد، فكأنه ما كان يمكن لحزقيال النبي أن ينزل إلى البقعة ولا أن يرى العظام اليابسة الكثيرة المبعثرة ولا أن يشاهد القيامة ما لم يمسك السيد المسيح بيده ويقوده بروحه وينزل به إلى البقعة.

إنه عمل السيد المسيح - يد الرب - أن يخرجنا بروح الرب من ذواتنا وينطلق بها أولاً إلى البقعة، فننزل هناك ونرى ما نحن عليه من موت ليعود فيرفعنا إلى بهجة القيامة معه. إنه وعد بإرسال روحه القدوس ليبكت على الخطيئة (يو 16: 8)، هذا الروح الإلهي الذي يفتح بصيرتنا، فنتعرف على موتنا، وعندئذ نتقبل القيامة فينا.

بمعنى آخر لو أن حزقيالنا الداخلي أراد أن ينزل بنفسه إلى البقعة لما استطاع أن يخرج من "الأنا"، لأن هذا هو عمل روح الرب أن يخرجه ليرى بمنظار الرب لا بالمنظار البشرى القاتم. ولو أنه نزل واكتشف الموت لتحطم تمامًا، لأنه ما كان يمكنه أن يلمس القيامة ويختبرها إلا من خلال السيد المسيح نفسه القائم من الأموات. لهذا يميز الآباء القديسون بين التوبة الصادقة والندامة البشرية، الأولى هي ثمر الروح الإلهي الذي يملأ النفس عزاءًا ورجاء في أمر لحظات التوبة ووسط الدموع، أما الندامة البشرية فتدفع إلى اليأس كما حدث مع يهوذا حين بكَّته ضميره دون الالتجاء إلى المخلص وطلب عمل روح الرب فيه.

2. عودة الحياة للعظام:

إذ تنبأ حزقيال النبي كما أمره الرب صار صوت فرعش وعندئذ تقاربت العظام، كل عظم إلى عظمه [7]. لعل الصوت يشير إلى "كلمة الله" أو الصوت الإلهي الذي يهب الحياة والقيامة، أما الرعش فيشير إلى تدخل روح الله. أما تقارب العظام كل عظم إلى عظمه فيتم بخطة إلهية دقيقة، فيه إشارة إلى تجميع الشعب اليهودي من الشتات وضم أفراد كل سبط معًا. وفيه أيضًا إعلان عن تكامل جسد المسيح الذي هو الكنيسة التي تجمعت من كل جنس ولسان وأمة وكأنها عظام مبعثرة يابسة، ضمها الروح القدس معًا لتصير جسد المسيح المقدس الواحد، العامل معًا. وفي هذا العمل أيضًا صورة حية لعمل الروح القدس في النفس البشرية وقد صارت حطامًا، فإنه يضم العظام معًا بطريقة فائقة لتعمل طاقات الإنسان ومواهبه معًا في انسجام بخطة إلهية.

"قال السيد الرب: هلم ياروح... وهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا" [9]. إنه عمل الله الذي يرسل روحه القدوس على النفس وقد صارت كالقتيل فيهبها حياة. وهنا لا يقف عمل الروح عند ذلك، وإنما يجعلها تحمل قوة عمل وخدمة، إذ يجعل منها "جيشًا عظيمًا جدًا جدًا" [10]. وكأن الإنسان في موته يكون مجموعة عظام كثيرة ويابسة جدًا، وفي قيامته بالله يصير جيشًا عظيمًا جدًا جدًا. حياتنا الروحية لا يعرف فيها أنصاف الحلول، إما موت قاتل أو حياة قوية وفعالة. ففي مزمور التوبة إذ التقى المرتل بالله مخلصه لم يكتف بتوبته ورجوعه إلى الحياة بعد الموت بل قال "أعلم الأثمة طرقك والمنافقون إليك يرجعون (مز 51: 13)... لقد ذاق الحياة بعد الموت فلا يكف على أن يكرز بهذه الحياة لكل أثيم ومنافق لكي يدخل الكل معه إلى هذه الحياة الجديدة.

3. قيامة القلب:

لئلا يظن السامع أن ما رآه حزقيال النبي يخص مجرد رجوع الشعب من السبي إلى أرض الموعد أكد الرب بوضوح أن هذه الرؤيا أيضًا تعلن قيامة النفس التي ماتت باعتزالها إلهها، وقيامة القلب الذي حطمه اليأس فصار قبرًا يضم عظامًا يابسة. لهذا يقول الرب: "ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا. قد انقطعنا... هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي" [12]. إنه يتحدث مع أناس أحياء حسب الجسد أموات حسب الروح، لهذا يفتح قبورهم الداخلية ويقيم نفوسهم. هنا يكرر تعبير "يا شعبي"... فبعد أن كان يدعوه "الشعب" صار الآن بقوة القيامة "شعب الله"، يفرح الرب بأن ينسبه إليه.

4. القيامة والوحدة:

طلب الرب من حزقيال النبي أن يأخذ عصا يكتب عليها ليهوذا ولبنى إسرائيل رفقائه وأخرى يكتب عليها ليوسف عصا أفرايم وكل بيت إسرائيل رفقائه، ويقرنهما معًا كعصا واحدة في يده. وكأن في هذا العمل الرمزي نبوة عن اتحاد يهوذا مع أفرايم، أي مملكة الجنوب مع الشمال... ويلاحظ في هذا الرمز والتفسير الذي قدمه الرب نفسه بطريقة مطولة الآتي:

أ. أن القيامة ليست عملاً فرديًا، لكنها وإن كانت عملاً شخصيًا يتذوقه كل إنسان وينعم به شخصيًا لكنه يتقبل القيامة بكونها دخول به إلى العضوية في الشعب الواحد، الكنيسة الواحدة، عروس المسيح الواحد. حينما تحدث الرسول بولس إلى أهل أفسس عن الكنيسة بكونها جسد المسيح المتمتع بالقيامة معه، تحدث عنها لا كأعضاء منعزلة بعضها عن بعض، بل كأعضاء لبعضها البعض تنعم بإمكانيات السيد المسيح لها. يقول عن الكنيسة: "يجمع كل شيء في المسيح" (أف 1: 10)، "التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل" (1: 23). "الذي فيه كل البناء مركبًا معًا ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب، الذي فيه أنتم أيضًا مبنيون معًا مسكنًا لله في الروح" (2: 21-22). ففي المسيح أجتمع مع كل إخوتي بوحدانية الروح لكي يعلن الجسد كاملاً، وفيه أنمو ليس منفردًا لكنني كجزء لا يتجزأ من الهيكل المقدس الواحد، وأمثل نصيبًا حيًا في مسكن الله الواحد، أي في مقدساته. قيامتي إنما هي جزء لا يتجزأ من قيامة الكنيسة الجامعة، وقيامة الجسد كله إنما هو سر قيامتي في الرب.

ب. اختار الرب في المثل عصوين صارتا في يد النبي عصا واحدة، وكأنهما عارضتا الصليب، العارضة الطولية والعارضة العرضية اجتمعتا في يد الرب فأعلنت الوحدة من خلال الصليب. وقد سبق لي أن عرضت أقوال الآباء عن عمل الصليب وفاعليته بضمنا إلى وحدة طولية وأخرى عرضية[296]. وحدتنا الأولى مع الله وحدة السماء مع الأرض، أما الوحدة العرضية فهي وحدة الأمم والشعوب أو وحدة البشر معًا خلال الصليب، إذ يقول الرسول "ولكنى الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح... يصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به" (أف 2: 13-16). بالصليب قتل العداوة بين السماء والأرض، وقتل العداوة التي كانت بين البشر وبعضهم البعض.

ج. نقشت أسماء الأسباط جميعًا من المملكتين على الصليب (العصوين) ليجد كل إنسان له موضعًا في أحشاء المصلوب المملوء حبًا بلا تمييز.

د. سر هذه الأمة الواحدة أو الشعب الواحد الذي تمتع بالقيامة من الأموات هو إقامة "ملك واحد يكون ملكًا عليهم كلهم" [22]. معلنًا هكذا: "داود عبدي يكون ملكًا عليهم ويكون لجميعهم راعٍ واحدٍ" [24].

سر الوحدة أن ندخل جميعنا "في المسيح يسوع" راعينا الواحد، ونوجد في المحبوب (أف 1: 6)، نجتمع معًا: السمائيون والأرضيون (أف 1: 10). فيه ننعم بالخليقة الجديدة (أف 2: 10)، ويضمنا نحن الذين كنا غرباء وبعيدين فصرنا قريبين إليه (أف 2: 7) ليكتمل بناؤنا فيه كمقدس إلهي حيّ وهيكل الله الأبدي.

هـ. إنه يقيمنا كنيسة واحدة تتمتع بالحياة المقامة أي بحياته الإلهية من خلال العهد الأبدي الذي قطعه معنا، عهدًا مؤبدًا، فيه يتعهد لا بقيامتنا فحسب بل ونموّنا الدائم من خلال إقامته في وسطنا وفوقنا... أي يحل في وسط شعبه، ويصير شعبه عرشًا إلهيًا كالكاروبيم يحملونه فوقهم. هذا ما عناه بقوله "وأقطع معهم عهد سلام فيكون معهم عهدًا مؤبدًا وأقرهم وأكثرهم وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد ويكون مسكني فوقهم" [26-27]. لقد سلمنا هذا العهد في أيدينا فصار معنا نتمسك به، من خلاله نتقدس بحلوله فينا وقبولـه إيانا عرشًا له... هذا هو سر تقديسنا، إذ يقول: "فتعلم الأمم إني أنا الرب مقدس إسرائيل" [28]. هذا هو إسرائيل الجديد الذي قبل الله كَسِر تقديسه!

 


 

من وحي حزقيال 37

وادي العظام اليابسة

v   ماذا ترى فيّ يا مخلصي؟

إني وادي العظام اليابسة!

بروحك القدوس تهبني الحياة المقامة!

عوض الموت تهبني الحياة!

عوض الفساد تهبني النقاوة والقداسة!

عجيب هو عملك أيها القائم من الأموات،

تقيمنى وتجعل مني جيشًا عظيمًا جدًا جدًا!

v   بروحك القدوس تقدس عواطفي وأحاسيسي،

تقدس قلبي وفكري،

تقدس مواهبي وإمكانياتي،

تقدس أفكاري وأقوالي وأعمالي...

وتقيم من هذا كله جيشًا عظيمًا جدًا جدًا!

v   تقيمني فأتحد مع بقية إخوتي!

تجعلنا عصا واحدة،

بقلب واحدٍ وروحٍ واحدة!

أنت هو قيامتنا وسر وحدتنا!

لتملك أيها الرأس القائم من الأموات،

فتجعلنا كنيسة واحدة تنعم بالحياة المُقامة!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثامن والثلاثون

جوج وماجوج

شغلت النبوات ضد "جوج أرض ماجوج رئيس روش ماشك وتوبال" [1]. الواردة في الأصحاحين 38، 39 أذهان رجال العهد الجديد منذ عصر مبكر جدًا، خاصة أن "جوج وماجوج" وردا في سفر الرؤيا (20: 8) بكونهما يمثلان حربًا عنيفة ضد ملكوت الله في آخر الدهور علي مستوي المسكونة كلها، تنتهي بنصرة الحق في النهاية بعد ضيق شديد. لهذا ظهر فريقان من المفسرين أحدهما يرى جوج شخصية حقيقية حملت هذا الاسم كان رئيسًا علي أرض ماجوج قام بحرب ضد إسرائيل الراجعة من السبي، هؤلاء يفسرون ما جاء في هذين الأصحاحين بطريقة حرفية. والفريق الآخر يرى أن ما ورد هنا إنما هو رمز يمثل العداوة لله ومقاومة الملكوت في كل عصر خاصة في أواخر الدهور.

جوج:

أصل الكلمة في اللغة الأكادية gagu يعني زينة ثمينة مصنوعة من الذهب.

كان جوج من أرض ماجوج، رئيس ماشك وتوبال[297]، رمزًا للوثنية بكل طاقاتها المقاومة لملكوت الله. ربما أخذ الاسم عن جيجس Guges رئيس عائلة ملكية ليدية تُدعى ميرمنادي mermnadae دعاه الملك الآشوري أشورينبال "جوجو Gugu". كان جيجس في الحرس الملكي وموضع ثقة الملك، وفي حوالي عام 685 ق.م. قتل سيدة من البيت المنافس للأسرة الهرقلية، وإغتصب عرش مملكة ليدية. كان غنيًا جدًا، قدم هدايا عظيمة لهيكل أبولو في دلفي. لكنه ثار ضد المدن الإغريقية في آسيا الصغرى[298]. وفي سن متأخرة هزمه الغزاة الكامريون  (Gimirra, Cimmerians)، غير أنه قام عليهم وهزمهم بمعونة أشور له. لكن إذ عاد جيجس وأعان مصر للثورة علي أشور أثار عمله هذا ملك أشور الذي سلط عليه الكاميريين ليغزوا مملكة ليدية من جديد حوالي عام 645 ق.م، فيها قتل الملك تاركًا ابنه أرديس Ardys خلفًا له.

يرى البعض أن جوج قد ارتبط بـ Gaga الواردة في الألواح الخاصة بالعمارنة Amarna  وهي مشوهة عن كلمة Gaga ، مقاطعة قفراء بأرمينيا وكبادوكية. عبر شعب هذه المنطقة في بحر النسيان، لهذا ظهر الاسم جوج يحمل معنى بربريًا، أي صارت ذكري لشعب بربري طواه الزمن ونسيه الكل.

آخرون يرون أن جوج جاءت عن إله بابلي يدعي Gaga، أو عن حاكم مدينة Sabi  يدعي Gagi وقد أشار أشوربانبال ملك أشور إلي هذه المدينة.

ماجوج:

اسم شعب متسلل من ماجوج ثاني أبناء يافث (تك 10: 12، 1 أي 1: 5) أو اسم البلاد التي سكنوها، يبدو أنها كانت في أقصي الشمال.

إذ ذكر هنا أن جوج رئيس ماشك وتوبال يملك علي ماجوج، وأنه قاد حملة عنيفة ضد إسرائيل بعد عودتها، جاء بها من الشمال متحالفًا مع جومر وبيت توجرمه لهذا يرى أن ماجوج هي شعب (أو بلاد) في شمال فلسطين ليست بعيدة عن ماشك وتوبال وطنهم في شمال شرق سيليسيا أو كيليكيا Cilicia كما جاء في الوثائق الآشورية[299].

لقد سمي السوريون بلاد التتر ماجوج، وأيضًا دعا العرب الأرض الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود ماجوج، غير أن الأكثرية قبلت ما جاء في يوسيفوس من أن ماجوج هم قبائل السكيثيون[300]. هذه القبائل أشار إليهم هيرودت بأنهم ينتمون إلي شمال كريميا Crimiea[301]، وقد عرفوا بغزواتهم العنيفة الشرسة في آسيا وفي مواضع أخري: زحفوا في القرن السابع ق.م. من جبل قوه قاف وافتتحوا ساردس عاصمة ليدية كما هزموا كياكسرس ملك ميدية ووصلوا إلي مصر فقدم لهم الملك بسماتيك مبلغًا من المال وصرفهم عن بلاده. وصفهم حزقيال النبي كشعب ماهر في الفروسية واستعمال القسيّ ويطابق هذا الوصف ما جاء في تاريخ اليونان، ولكن إذ رأينا أن جوج ملك ماجوج يشير غالبًا إلي جيجس ملك ليدية فلا ينطبق هذا على هذه القبائل اللهم إلا إذا كانت كلمة "ماجوج" هنا تحمل معنى رمزيًا عن عنف جوج وولعه بالهجوم علي الآخرين وشراسته في القتال.

التفسير الرمزي:

إذ ورد اسما "جوج وماجوج" في سفر الرؤيا (20: 8-10) بكونهما يمثلان حربًا تضم جيوشًا من أربع زوايا الأرض تحت قيادة شيطانية لتضليل البشرية ولإثارة حرب ضد القديسين في أواخر الدهور لهذا فسر البعض ما ورد في (حز 38، 39) على أن جوج وماجوج لا يفهمان بالمعنى التاريخي الحرفي بل بالمعنى الرمزي.

أ. يرى البعض أن جوج يرمز للبابليين أو السكيثيين أو Cambyses ملك الفرس أو إسكندر الأكبر أو أنطيخوس الكبير أو أنطيخوس أبيفانيوس الخ...   

ب. يرى آخرون أن جوج ملك ماجوج يشير إلي تحالف حربي وتكتل ضد شعب الله.

ج. يرى آخرون أن ما ورد عن جوج لا يشير إلي أحداث تاريخية معينة وإنما يرمز إلي الحرب الروحية بين إبليس الذي يسيطر علي كثير من الممالك والله الذي يملك علي القديسين. وأنه بالرغم مما يستخدمه إبليس من قوى وعنف لكن النصرة للحق.

د. يُفسر البعض جوج وماجوج علي أنهما رمز لروسيا معتمدين علي كلمة "روش" بكونها اسمًا قديما لروسيا[302]. هؤلاء يفسرون كلمة ماشك كرمز لموسكو عاصمة روسيا وتوبال رمز لتوبالت أيضًا بروسيا. ويرون أن فارس (إيران) وكوش (أثيوبيا) وفوط (ليبيا) [5]... وكأن النبوة تشير إلي آلام تجتازها الكنيسة في آخر الدهور من تحرك عدة شعوب بقيادة روسيا. أما توجرمة فيفسرونها علي أنها ألمانيا (جيرماني) الشرقية. هذا التحرك الحربي يكون علي مستوي ملوك وشعوب من جميع الاتجاهات، لكن أغلبها يأتي من الشمال، إذ يقول: "وتأتي من موضعك من أقاصي الشمال أنت وشعوب كثيرون معك، كلهم راكبون خيلاً، جماعة عظيمة وجيش كثير وتصعد على شعبي إسرائيل كسحابة تغشي الأرض في الأيام الأخيرة يكون" [15]. لكن هذه الشعوب تضم ممالك مثل أثيوبيا وليبيا وسبا وددان وترشيش!!!

أما بخصوص كلمة "إسرائيل" فقد رأى البعض أنها حرب تتجه نحو أورشليم لكن الغالبية يرون أن كلمة "إسرائيل" هنا تعني شعب الله المؤمن، فالحرب موجهة ضد الكنيسة لا منطقة معينة، إذ جاء سفر الرؤيا: "ثم متى تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر، فصعدوا علي عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم" (رؤ 20: 7-8).

حال الكنيسة:

أما عن حال الكنيسة في ذلك الحين فقيل عنه: "هكذا قال السيد الرب: ويكون في ذلك اليوم أن أمورًا تخطر ببالك فتفكر فكرًا رديئًا، وتقول إني أصعد علي أرض أعراء. آتي الهادئين الساكنين في أمن كلهم ساكنون بغير سور وليس لهم عارضة ولا مصاريع"  [10-11]. وكأن الحرب الشاملة في أواخر الدهور ضد الكنيسة لا تقوم علي أساس إثارة الكنيسة للعدو، لكن يراها العدو هادئة آمنة فيظنها ساكنة بلا سور يحميها ولا عارضة تعوق الأعداء عنها ولا مصاريع تغلق أبوابها، مفتوحة وسهلة للنهب والسلب، ولم يعلم أن الرب نفسه هو سور المؤمن وهو الذي يحتضنه ويحميه في داخله، يغلق عليه بأبواب سماوية لا يقدر إبليس وكل جنوده أن يفتحها.

لكنه يخشى أن يكون الأمر هكذا أن المؤمنين في أواخر الأيام يكونون كمن هم في أرض عراء بلا سور ولا عوارض ولا مصاريع حيث يقول الرب: "ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 11-12)، "لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم" (مت 24: 24-25).


 

من وحي حزقيال 38

عدو خطير!

v   عدو خطير يبذل كل الجهد لتحطيم مملكتك!

لكنك أنت يا الله أعظم من كل عدو!

v   أنا لست طرفًا في المعركة،

أني أختفي فيك،

فأغلب بك وأنتصر!

بدأت حرب العدو منذ خلقة الإنسان،

ويزداد سعيرها حتى يأتي ضد المسيح!

تشتَّد الحرب جدًا،

حتى إن أمكن أن يضل المختارين!

لكنك قد وعدت:

ثقوا أنا قد غلبت العالم!

فالعدو خطير لكن أنت واهب الغلبة!

v   إنك لم تخدعنا،

بل أكدت لنا شدة الحرب وتزايدها،

وقدمت لنا ذاتك سرّ الغلبة والنصرة!

<<

 

 

 


 

الأصحاح التاسع والثلاثون

النصرة النهائية

في هذا الأصحاح يكمل الله حديثه عن جوج معلنًا تدميره الكامل، مطهرًا أرض شعبه من جثث قتلى جيش جوج، وأخيرًا يختم حديثه عن الاستعداد للإصلاح المسياني بإعلان غاية الله من تأديب شعبه، موضحًا الفارق بين عقوبة جوج ممثل الشيطان وجنوده وبين تأديب أولاد الله حيث يشتهي الله أن يتمجد اسمه القدوس فيهم.

1. هلاك جوج              [1-7].

2. تطهير الأرض           [8-16].

3. وليمة الطيور            [17-25].

1. هلاك جوج:

عاد ليؤكد الهلاك النهائي لجوج بكونه علامة النصرة النهائية لملكوت الله على مملكة الظلمة.

العجيب أن الله إذ يعلن مقاومته لجوج يقول: "أردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال وآتي بك علي جبال إسرائيل" [2]. كأن ما يفعله جوج من عنف ضد الله وأولاده ليس مخفيًا عن الله بل وبسماح منه لكي يتمجد الله في شعبه.

قبل أن يسمح بهلاكه يضرب الرب قوسه ويسقط سهامه، فإن الله لم يدن الشيطان أولاً وإنما أولاً حطم سلطانه، إذ كسر أسلحته الشريرة علي الصليب حتى يهب أولاده فرصة الغلبة عليه. أما سقوط جوج علي جبال إسرائيل هو وكل جيشه والشعوب الذين معه [4]، فإعلان عن موضع المعركة، جبال المؤمنين الراسخة، أي قلوبهم التي صارت كالصخر لا تتزعزع أمام تجارب إبليس. كما هزم السيد المسيح إبليس علي الجبل، هكذا ندخل معه في معركة داخل القلب فنحطمه ولا يكون له موضع فينا. أراد أن يملك علي القلب، وهناك نسقطه بالنعمة الإلهية تحت أقدامنا.

يسقط جوج فيصير نهبًا للمؤمنين الذين يرتفعون بالنعمة كالطيور، يحلقون في السماويات، والذين يتدربون علي الحرب الروحية فيصيرون كالوحوش الكاسرة لا تقوى الخطيئة أن تقف أمامهم. أما النار التي تحرقه فهي نار الروح الإلهي الساكن فينا، يطهرنا من كل خطيئة وضعف ويحرق كل شر وعمل شيطاني. هذا هو سر غلبتنا علي الشيطان: ارتفاع حياتنا بالمسيح يسوع نحو السمويات، والتدرب علي الجهاد بغير تراخ، ملتهبة قلوبنا بروح الله الناري.

2. تطهير الأرض:

غاية تحطيم إبليس وجنوده هي دخول المؤمنين إلي حالة من السلام النهائي فإذ يُلقى إبليس في النار الأبدية يدخل المؤمنون في الملكوت الأبدي، ويصيرون فيما بعد في غير حاجة بعد إلي سلاح، حيث لا عدو ولا حرب. "يشعلون ويحرقون السلاح والمجان والأتراس و القسيّ والسهام والحراب والرماح ويوقدون بها النار سبع سنين" [9]. أي يحرقون كل أنواع الأسلحة وإلي النهاية، حيث رقم 7 يُشير إلي الكمال.

حيث يغلب المؤمنون تنهزم الشياطين ولا يوجد موضع للنجاسة، إذ يقوم الشعب بدفن الجثث في "وادي عباريم" [11] فتطهر الأرض من هذه الجثث الدنسة، ويسمي وادي عباريم "وادي جمهور جوج" [11، 15]، وتسمي المدينة "همونه" أي جمهور، إذ يدفن فيها الجمهور التابع لجوج أو الشياطين.

وادي عباريم:

"عباريم" بالعبرية تعني "ما عبر"، وهي سلسلة من الجبال شرق الأردن دعيت "عباريم" لأنها عبر النهر، وهي خارج الأرض المقدسة. ذكرها إرميا النبي في تعداد الجبال التي في سوريا من بعد لبنان وباشان (إر 22: 20)، وقد أقام فيها العبرانيون قبلما عبروا نهر أرنون (عد 21: 11)، ثم منحت لبني رأوبين (عد 32: 2-37). تمتد جبال عباريم من وادي قفرين في الشمال إلي وادي الزرقا ما عين ووادي الحسا في الجنوب. ولعباريم قمم منها نبو وهوشع وعجلون، وقد وقف موسى النبي علي جبل نبو ورأى أرض الموعد (عد 27: 12، تث 32: 49، 34: 1).

لعل الرب أراد أن يعلن بأن جمهور جوج يدفنون في عباريم إشارة إلي غلبة أولاد الله وهم بعد في العالم قبل عبورهم الحياة الأخرى. يقفون مثل موسى علي قمة نبو ويرون أورشليم السماوية ويدركون الأمجاد الإلهية فيتطهرون بالروح القدس من كل نجاسة ويغلبون كل قوات الظلمة...

 إن عمل المؤمن في هذه الحياة كما يؤكد هذا الأصحاح أن يقبر جمهور جوج، أي يدفن شياطين الظلمة فلا تكون لهم حياة في قلبه.

يقول: "إذا رأى أحد عظم إنسان يبني بجانبه صُوَّةً حتى يقبره القابرون في وادي جمهور جوج" [15]. يقصد بالصوة علامة. فإن المؤمن إذ يرى آثار سقطات الشيطان يصنع علامة الصليب، التي هي علامة الغلبة حتى يدفن الشيطان تمامًا في هذا الوادي فلا يكون له بعد مكان فيه. رسالتنا هي التمسك بعلامة الغلبة والنصرة حتى نكلل في النهاية.

3. وليمة الطيور:

لعله قصد في هذا الختام أن يوضح الفارق بين سقوط جمهور جوج في الأرض المقدسة والذبيحة العظيمة التي فيها مات كثيرون من أولاده، فإن جمهور جوج ينتهون بإبادتهم تمامًا في النار الأبدية، أما أولاد الله فيتأدبون إلي حين حتى يتوبوا ويرجعوا إلي الله فيتمجد اسمه فيهم.

وربما قصد بالوليمة العظيمة هنا على الجبال المقدسة قتل جمهور جوج الذي هلك... علي أية الأحوال لقد أوضح الرب تمامًا عودة أولاده إليه بالتوبة في سلام فائق، وغيرة الرب عليهم من أجل اسمه القدوس، فلا يعود يحجب وجهه عنهم بعد لأنه يسكب روحه عليهم [29]. بهذا يبلغ سفر حزقيال غايته. لقد فارق مجد الله شعبه وهيكله بسبب الخطيئة، والآن بالتأديب عادوا إليه تائبين فعاد إليهم مجد الله وتقدس اسمه فيهم.

والآن يعلن هذا المجد الإلهي في الأصحاحات التالية من خلال الهيكل الجديد والمدينة الجديدة والشعب الجديد.


 

من وحي حزقيال 39

غلبة وعبور

v   يُريد جوج رمز الشيطان أن يُحطم ملكوت الله تمامًا،

وتشتد حربه جدًا في نهاية الأزمنة!

لكنه يتحطم هو وكل جنوده علي الجبل المقدس!

يسقط العدو صريعًا تحت أقدام المؤمنين،

أما هم فيرتفعون إلي السموات عينها.

عوض أن يملك على القلب،

يصير قلبي مقبرة له!

عوض ان يجرحني بسهامه يموت بذات سلاحه!

v   متي أغلب بعلامة صليبك أيها المخلص؟

متي تنتهي الحرب،

وأرتفع إلي أحضان أبيك،

هناك لا أحتاج إلي سلاح،

لأنه لا يعود يوجد العدو!

هناك أرى العدو ينحدر إلي نار جهنم أبديًا،

ومؤمنيك ينعمون بمجدك وسلامك الفائق!

<<

 

 

 


 

الباب السادس

 

 

 

 

 

 

 

إصلاح الهيكل وأورشليم

 [ص 40- ص 48]

 

 

 

 

 

 


 

التدبير الديني للعصر المسياني

في هذه الأصحاحات (40-48) لم يقدم لنا إسرائيل بعد كدولة بل كمجتمع كنسي روحي يقوم على الهيكل وخدمته. فقد حوى هذا القسم رؤيا واحدة امتدت عبر هذه الأصحاحات، تعتبر أصعب جزء في الكتاب المقدس، لكنها من أعذب ما قُدم إلينا إن فهمناه روحيًا، إذ تمثل هذه الرؤيا عودة مجد الله الذي سبق أن فارق الهيكل المقدس والمدينة، بإقامة هيكل جديد له ملامح جديدة وإمكانيات جديدة، يسكنه الرب ولا يفارقه.

ما ورد هنا من تفاصيل دقيقة عن الهيكل الجديد الذي يقوم في العصر المسياني بضخامته التي لا يمكن تحقيقها بطريقة حرفية تكشف لنا أن ما ورد إنما يحمل معنى روحيًا، إذ يشير إلى هيكل الإنجيل الذي يقيمه السيد المسيح ويؤسسه على رسله الأطهار، معلنا لنا العبادة الروحية من خلال الرموز.

لقد ازدحم هذا الفصل بالتفاصيل الخاصة بالهيكل وخدمته: موقعه وملحقاته وترتيباته وعدد الموائد التي تقدم عليها الذبائح لتذبح، خدام الهيكل وطقوس العبادة الخ... الأمور التي بلا شك تشبع قلب حزقيال النبي الكاهن المحروم من ممارسة عمله الكهنوتي. لقد انفتح باب الرجاء، وأحس بشبع في داخله، ليس من خلال طقس جامد بل من خلال حياة طقسية تعبدية روحية، لا ينفصل فيها الطقس عن الحياة الداخلية والشركة العميقة مع الله وإدراك الحضرة الإلهية. إنه يرى أن التقديس في العبادة داخل الهيكل لا ينفصل عن الحياة بالروح (39: 29)، إنما لابد للروح أن تعبَّر عن نفسها. لقد رأى في الهيكل الجديد أو المدينة الجديدة "سكنى الله وسط شعبه".

وقد شملت هذه الأصحاحات الحديث عن:

1. الهيكل                            [40-43].

2. العاملين في الهيكل، والأعياد     [44-46].

3. الأرض المقدسة                  [47-48].

لقد حاولت الاختصار الشديد في عرض الأمور الخاصة بتفاصيل مبنى الهيكل ومحتوياته حتى يمكن الإلمام به بسهولة ولعدم التكرار إذ سبق الحديث عنه في سفر الخروج.

<<

 


 
الأصحاح الأربعون

الهيكل المقدس

يتحدث في هذا الأصحاح عن:

1. فكرة عامة عن الهيكل والمدينة            [1-4].

2. السور الخارجي                            [5].

3. حجرات الحراسة                            [6-16].

4. الدار الخارجية                              [17-27].

5. الدار الداخلية                               [28-38].

6. الثماني موائد                               [39-44].

7. حجرات المغنين والكهنة                    [45-47].

8. رواق البيت                                 [48-49].

1. فكرة عامة عن الهيكل والمدينة:

حمل روح الرب حزقيال النبي إلى جبل عال جدًا عليه بناء مدينة من جهة الجنوب، متسعة جدًا، وفي نفس الوقت هي بيت الرب أو هيكله. دعيت "مدينة" لأنها مسكن الشعب الذي يتقدس بسكناه مع الله القدوس متمتعًا بمجد الرب، ودعيت "الهيكل" لأنها مسكن الله القدوس الذي يجمع شعبه حوله يقدسهم ويتمجد فيهم.

لقد ختم حزقيال النبي سفره بهذه الرؤيا التي رواها بتفاصيلها الدقيقة، هذه التي تمتع بها بعد حياة مملوءة مرارة وتنهدات بلا انقطاع من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموس الرب، الذين أصروا على الرجاسات وسفك الدم ففارق مجد الرب مدينتهم بل وفارق هيكله ذاته... لكنه ما كان يمكن لحزقيال النبي أن يتمتع بها ما لم يحمله الروح الإلهي إلى قمة جبل عال جدًا، هناك يدخل به إلى المدينة المقدسة، وكأن النبي قد ارتفع بالروح القدس إلى السمويات من خلال الاتحاد مع السيد المسيح الذي يرفعنا عاليًا إلى حضن أبيه. هذا هو غاية إيماننا، وهذه هي نهاية رؤيتنا، بل هذه هي رسالة مسيحنا إنه يُطْلِقنا بالروح القدس إلى قمم الجبال المقدسة، يرفعنا فيه ليدخل بنا إلى حضن أبيه لنوجد معه وفيه إلى الأبد!

ما أجمل أن يختم النبي رسالته بإعلان هذه الرؤيا المفرحة لإخوته الذين يعيشون تحت ذُل السبي ليثير فيهم ذكريات صهيون وهيكلها بخدمته المقدسة لكي يدفعهم بالتوبة ليدخلوا إلى هيكل جديد من خلال المسيا المخلص. في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [قال الذين سُبوا في ذلك الموضع: "على أنهار بابل هناك جلسنا فبكينا عندما تذكرنا صهيون" (مز 137: 1). أي أنهم لم يستطيعوا أن يبكوا إلا بعد أن تذكروا صهيون، فإن تذكار الخير يجعل الإنسان يشعر بأسباب البؤس. إن لم نتذكر صهيون ونرفع أعيننا نحو شريعة الله وجبال الكتاب المقدس لن نبكي بؤسنا[303]].

في دقة يقول "وضعني على جبل عال جدًا" [2]، فإنه ما كان يمكنه أن يتسلق هذا الجبل العالي جدًا ما لم يحمله الرب بنفسه، ويرتفع به إلى قمة الجبل. إنه عمل الله نفسه فينا! هناك رأى حزقيال النبي "كبناء مدينة من جهة الجنوب" [2]. لم ينظر مدينة بل كبناء مدينة، أي شبه مدينة، لأنها ليست مبنى من صنع يد إنسان ولا هي مادية زمنية، بل هي شبه مدينة أقامها السيد المسيح نفسه، إذ يقول: "ولما أتى بي إلى هناك إذا برجل منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب" [3]. إنه السيد المسيح الذي بروحه يرفعنا إلى قمة الجبل المقدس ليدخل بنا إلى المقدسات الإلهية ونسكن في السمويات لننعم بها، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لنقدم شكرنا لمجيء المسيح الذي اغتصب نفوسنا من هذا المشهد (الأرضي) وحولها إلى الاهتمام بالسمويات والتأمل في الحقائق الروحية. هدم كل ما كان يبدو عظيمًا على الأرض، وعمل على تحويل عبادة الرب من المرئيات إلى غير المرئيات ومن الزمنيات إلى الأبديات[304]].

رآه في منظره كمنظر النحاس، أي مملوءًا لمعانًا وبهاءًا وقويًا، يدُكَّ الشيطان تحت قدميه ويسحقه إلى الأبد. هذا ما رآه القديس يوحنا الحبيب: "رجلاه شبه النحاس النقي كأنهما محميتان في أتون" (رؤ 1: 15).

رأي النبي في يده خيط كتان وقصبة قياس، إنه ذلك الخيط النقي الطاهر (الكتان) الذي يشير إلى عمله في حياة مؤمنيه: التقديس والطهارة. أما قصبة القياس فتشير إلى حفظه لأولاده، إنهم معروفون لديه (تحت قياسه) لا يفلت أحد من يده. أما وقوفه بباب المدينة فإعلان أنه لا دخول لهذه المدينة المقدسة إلا به، إذ هو "الطريق والحق والحياة". إنه يُنادي: "أنا هو الباب، إن دخل بي أحد فيخلص ويخرج ويجد مرعى" (يو 10: 9). ليس باسم آخر غيره ننعم بالخلاص (أع 4: 12).

لقد لاحظ النبي أن المدينة مُقامة من جهة الجنوب لأن الشعب الآن في بابل أو بجوارها عند نهر خابور أي مسبيًا لشعب قدم من جهة الشمال، فهو يردهم إلى بلادهم، أرض الموعد، في الجنوب.

2. السور الخارجي:

"وإذا بسور خارج البيت محيط به وبيد الرجل قصبة القياس

ستة أذرع طولاً بالذراع وشبر،

فقاس عرض البناء قصبة واحدة، وسمكه قصبة واحدة" [5].

أول ما رآه حزقيال في هذه المدينة المقدسة أو هيكل الرب هو السور الخارجي، فإن الله يقدم لنا روحه القدوس سورًا ناريًا يحفظ النفس البشرية مقدسًا له كي لا يقترب شيء غريب أو نجس إليها، فيقوم روحه الإلهي بنفسه يحفظها من كل جانب.

هذا السور أيضًا يمثل روح الحق والتمييز، الروح الذي يفصل الحياة المقدسة الإلهية عن الحياة الدنيوية المرتبطة بحب الزمنيات. فإنه يليق بالمؤمن لكي يعيش مقدسًا للرب أن يكون له هذا الروح الإلهي الذي يقوده إلى معرفة الحق ويميزه عن الباطل، يعرف بر المسيح ويميزه عن الحياة الشريرة، فيقبل فيه ما هو حق وما هو للمسيح، مانعًا دخول ما هو غريب عن روح الحق الذي هو روح المسيح.

جاء في سفر زكريا النبي: "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارً من حولها، وأكون مجدًا في وسطها" (2: 5). لا تقدر كل سهام العدو الملتهبة نارًا أن تخترقه!

أما بخصوص قصبة القياس فقد وُجد تفسيران لحقيقة طولها. الرأي الأول والذي يرجحه الكثيرون أن طول القصبة ستة أذرع، كل ذراع يساوي ذراعًا عاديًا مضافًا إليه شبر أي حوالي 22 بوصة، والرأى الآخر أن قصبة القياس طولها 6 أذرع عادية مضافًا إلى الجميع شبر واحد.

3. حجرات الحراسة:

الباب الرئيسي هو الباب الشرقي إذ هو الطريق الطبيعي المؤدي إلى القدس فقدس الأقداس. على أنه يوجد بابان آخران أحدهما من جهة الشمال والآخر من جهة الجنوب، لهما ذات المقاييس التي للباب الشرقي، لكي يدخل العالم كله إلى مقدسات الرب بلا تمييز بين أمة وأخرى وبين جنس وآخر. هذه الأبواب الثلاثة تُشير إلى الثالوث القدوس الذي من خلاله يدخل العالم إلى المدينة المقدسة: أورشليم العليا، أو إلى الاتحاد معه، إذ يتحد الإنسان مع الآب في ابنه بواسطة روحه القدوس. هذه الأبواب تذكرنا بالأبواب الاثنى عشر التي لأورشليم السماوية (رؤ 21: 13)، ثلاثة أبواب من كل جانب... إنها تحمل دعوة عامة لجميع المؤمنين في العالم كله للتمتع بالأمجاد الإلهية من خلال الثالوث القدوس. وكما يقول السيد: "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات" (مت 8: 11).

على جانب كل باب من الأبواب الثلاثة توجد ست حجرات، ثلاث حجرات من جانب وثلاث من الجانب الآخر. وهي حجرات صغيرة ومتساوية تستخدم للحراسة. إن كان المبنى المقدس يشير إلى النفس المؤمنة المتحدة مع الآب في ابنه بروحه القدوس لتكون مقدسًا للثالوث القدوس، فإن هذه الحجرات تشير إلى الحراسة المستمرة للنفس من كل جانب أو عند كل باب: باب الروح، باب العقل، باب الجسد، فلا يقترب إلى الروح أو الفكر أو الجسد بأحاسيسه وطاقاته شيء دنس أو نجس بل يدخل الرب نفسه ليقدس الإنسان بكماله: روحًا وفكرًا وجسدًا. وكما يقول السيد نفسه: "اسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان" (مت 25: 13).

إن كان الله هو سور النفس، وهو الباب، فهو أيضًا الحارس للنفس دون إنكار مسئولية النفس ودورها الإيجابي في السهر والحراسة المشددة، لا بالتحفظ من الشر فحسب، وإنما أيضًا بقبول دخول ربها يسوع المسيح إليها لتتمتع باتحاد دائم معه.

لهذه الحجرات الصغيرة كوى مشبِّكة حول الحجرة وعلى القوائم وفي قبابها. هذه النوافذ الصغيرة تحيط بالحجرة، خلالها ينظر الحارس إلى الخارج كما إلى الداخل وإلى فوق فيرى جلد السماء. وكأن الحجرات ليست للحراسة فحسب وإنما للاستنارة: استنارة بالأمور السماوية العليا، استنارة للنفس الداخلية واستنارة للتصرفات الخارجية أيضًا. حقًا هي نوافذ صغيرة لأنها تحسب ضعيفة جدًا إن قورنت باستنارتنا حين نعبر إلى السماء عينها.

أما تزيين القوائم بالنخيل فإشارة إلى الأبرار، إذ "الصديق كالنخلة يزهو" (مز 92: 11). استخدمت النخلة كوحدة في تزيين هيكل سليمان (1 مل 6: 29) وسعفه اُستُخدام علامة النصرة (يو 12: 13، رؤ 7: 9).

أما سقف الحجرات فكان على شكل قبو تشير إلى أن كل ما في الإنسان ينبغي أن يحمل الطابع السماوي.

4. الدار الخارجية:

حول الدار ممشاة عليها ثلاثون حجرة للشعب يستخدمونها في أيام الأعياد، أما أبوابها فترتفع سبع درجات.

5. الدار الداخلية:

أ. في الدخول إلى الدار الخارجية يلتزم أن يرتفع الإنسان سبع درجات. أما الدخول إلى الدار الداخلية فيحتاج أن يرتفع ثماني درجات [31، 34 ،37]، فإنه كلما اقترب الإنسان إلى الحضرة الإلهية يلزمه أن يرتفع أكثر فأكثر صاعدًا بالروح القدس نحو السماويات.

إن كان الشعب يلزمه للدخول إلى الدار الخارجية أن يرتفع سبع الدرجات فإن الكهنة لكي يدخلوا الدار الداخلية يلزمهم أن يرتفعوا ما بعد سبع الدرجات ثماني درجات أخرى. فالكاهن ملتزم لا أن يحيا كالشعب بل أن تكون له خبرات أعمق وسيرة سماوية متلألئة لكي يُحسب بالحق خادمًا للرب.

اهتم القديس جيروم كثيرًا بأمر سبع الدرجات التي للدار الخارجية، والثماني الدرجات التي للدار الداخلية، فقد رأى في الأولى إشارة إلى العهد القديم وفي الثانية إشارة إلى العهد الجديد وبإضافة الاثنين معًا يكون المجموع خمس عشرة درجة إشارة إلى مزامير المصاعد التي نترنم بها فتقودنا من درجة إلى درجة حتى تدخل بنا ملكوت السموات[305].

ولهذا السبب كان الذين يقطعون الحجارة لبناء البيت 70.000، 80.000 رجل (1 مل 5: 15) أي رجال العهد القديم ورجال العهد الجديد الذين يبنون البيت المقدس الواحد، بكونه هيكل الله المقدس.

يقول القديس جيروم: [إن للهيكل 15 درجة، يقف رئيس الكهنة على الدرجة الأولى ثم الكهنة فاللاويون]. كما يقول: [تأمل كيف أن هذا الهيكل هو مثال للهيكل السماوي، لأن نجمًا يفضل عن نجم في المجد، هكذا أيضًا في القيامة من الأموات (1 كو 15: 41-42). طوبى للإنسان الذي يستحق أن يوجد على الدرجة الخامسة عشرة في أورشليم السماوية في الهيكل، فإن هذا العلو سامٍ، أظنه هو موضع الرسل والشهداء. إذن لنصلِّ لكي نتأهل فنوجد على الأقل على أقل درجات هيكل الرب. إنهم يقفون على درجات الهيكل المختلفة لكي يترنموا معًا بوحدة بمزمور واحد وتشكرات واحدة للرب. الأماكن مختلفة لكن تسبيح الرب (تمجيده) واحد. هذا بخصوص أورشليم السماوية، أما بالنسبة للحاضر فإننا قد وُجدنا في هذا العالم لكي نتأدب كما أظن كل يوم من أيام حياتنا. يوجد أحدنا على الدرجة الأولى، فليتشجع ليبلغ الدرجة التالية. يوجد آخر على الدرجة الثانية، لا يفقد رجاءه في بلوغ الدرجة الثالثة! طوبى للشهداء الذين تأهلوا أن يصعدوا أعلى الدرجات في القمة عينها، أما نحن إذ نعيش في هذا العالم لا نقدر أن نصعد كل الدرجات دفعة واحدة من أسفل الدرجات إلى أعلاها، إنما يليق بنا ألا نتوقف عند البقاء على الدرجة الأولى بل لنصارع لنبلغ الدرجات العليا... أظن هذا هو معنى سلم يعقوب الذي رآه حينما هرب يعقوب من عيسو أخيه[306]].

ولعل القديس جيروم رأى في السبع درجات إشارة إلى العهد القديم لأن رقم 7 يشير إلى الكمال، وناموس الرب كامل بلا عيب. أما رقم 8 فيشير إلى العهد الجديد لأنه يرمز لليوم الأول بعد الأسبوع أى الحياة الجديدة السماوية، أو الحياة المقامة  (إذ قام الرب في أول الأسبوع). وقد سبق لنا شرح رمز العددين 7، 8 في أكثر من مجال[307].

6. الثماني موائد:

وجدت ثماني موائد من الحجر المنحوت تذبح عليها المحرقة وذبيحة الخطيئة وذبيحة الإثم، وهي تشير إلى الذبائح السماوية الروحية، لأننا كما قلنا إن رقم 8 يشير إلى الحياة السماوية، أو إلى ما بعد الزمان الحاضر. تقدم هذه الذبائح في المسيح يسوع السماوي بعد غسل القلب والأيدي، التنقية الداخلية للنفس والجسد معًا.

7. حجرات المغنين والكهنة:

وجدت حجرات للمغنين وأخرى للكهنة، فقد ارتبطت ذبيحة العهد الجديد بالتسبيح المستمر من خلال ذبيحة السيد المسيح. إنها عملان متلازمان ومتكاملان: ذبيحة التسبيح وليتورجية الأفخارستيا، بل هما عمل واحد؛ هما تسبحة روحية سماوية أو قل ليتورجية واحدة روحية.

8. رواق البيت:

وجد رواق للبيت من خلاله ندخل إلى المقدسات، حتى لا يقترب أحد إلى حضرة الله بتهور وتسرع، إنما بوقار، فيعبر في الرواق في هدوء لينسى كل أفكاره عن الأمور الزمنية ويستعد للتأمل في السماويات والإلهيات.

 

 


 

من وحي حزقيال 40

أقم فيّ هيكلك المقدس!

v   ماذا تشتهي نفسي إلا أن تقيم فيها يا مخلصي،

تجعلها هيكلك المقدس الذي هو من صنع يديك؟!

حوِّل قلبي إلى مدينة مقدسة،

يجتمع فيها ملائكة ملائكتك مع قديسيك في حضرتك!

وأقم فيها هيكلك المقدس،

فيه تتعبد النفس لك متهللة مع خليقتك!

v   لتنزل إلى أعماقي،

فتجعل منها الجبل العالي جدًا الذي رآه حزقيال نبيك.

هناك تمسك بيدك خيط كتان وقصبة قياس.

فأنت الذي تقيس الهيكل وتحدد أبعاده!

أنت بانيه ومُقدسه!

v   ما أجمل ذلك السور الذي تحوط به بيتك؟!

انه السور الناري،

لا تقدر كل سهام العدو الملتهبة نارًا أن تخترقه!

أنت سوري وحصن حياتي!

v   ما هي الأبواب الثلاثة التي يدخل منها كل الأمم

إلا أنت أيها الثالوث القدوس؟!

فإننا جميعًا نتحد مع الآب في ابنه بالروح القدس!

هذا هو الباب الحقيقي: إيماننا الثالوثي!

به ننعم بالحياة التعبديه، به نحيا في السمويات!

v   على جانبيْ كل باب ست حجرات للحراسة،

ثلاث من هنا، وثلاث من هناك!

إنه الإيمان الثالوثي الحارس للنفس والجسد والروح!

لتتقدس أيها الثالوث جسدي بكل أحاسيسه!

ونفسي بكل طاقاتها!

وروحي بكل إمكانياتها!

فأكون بكليتي محفوظًا بك ومُقَّدسًا لك!

v   عجيب أنت يا إلهي!

أنت هو الباب، وأنت هو الحارس!

بك أدخل المقادس، وفيك احتمي من العدو المقاوم!

v   ما هذه الكوى الكثيرة في المبنى

إلا علامة اليقظة فمنها يتطلع الحارس الساهر؟!

إنها علامة الاستنارة،

خلالها نرى عربون السمويات!

ما هذه الزينة؟

إنها من شجر النخيل علامة النصرة والاستنارة!

ما هذا القبو الجميل؟

انه علامة الحياة السماوية فينا!

v   هب لي يا رب رجاءً فأصعد على الدرجات،

أرتفع على سبع درجات الدار الخارجية

كما ارتفع مؤمنوك في العهد القديم، طالبين الكمال!

وأرتفع على الثمان درجات للدار الداخلية

كما ارتفع رسلك في العهد الجديد طالبين ما وراء الزمن!

v   لتقم في داخلي ثمان موائد سماوية،

فتشبع نفسي بك أيها الذبيحة الفريدة!

علمني أن يغتسل قلبي ويتطهر بدمك،

فيتأهل لوليمتك على الدوام!

v   أقم يا رب حجرات المغنين وحجرات الكهنة،

فيرتبط التسبيح بالذبيحة،

وتتحول حياتي إلى ليتورجية مقدسة!

v   أقم رواقًا أسير فيه بهدوء،

من خلاله أدخل إلى هيكلك،

وبعبوري فيه ألقي بالزمنيات جنبًا وأتامل في السمويات!

v   ما أعجبك يا من تقيم هيكلك فيّ!

ما أحلاك يا من تسكن في داخلي!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الحادي والأربعون

الهيكل

الوصف المذكور هنا يحتاج إلى شيء من التركيز، وقد حمل بعض الصعوبات لدى المفسرين.

1. الهيكل:

أ. أبعاد عوارضه                                  [1].

ب. باب الهيكل                                    [2].

ج. حائط الهيكل والحجرات الجانبية               [5-6].

د. أساسات الحجرات وحوائطها وأبوابها [8-11].

هـ. أبعاد الهيكل                                  [13].

2. قدس الأقداس                                        [3-4].

3. مبنى خارجي منفصل                                 [12-15].

4. طريقة البناء                                          [16-17].

5. الزينة                                                [18-20].

6. مذبح البخور والمائدة                                 [22].

7. الأبواب                                               [23-26].

1-2 القدس وقدس الأقداس:

يبدو أن أبعاد القدس وقدس الأقداس هي هكذا:

القدس 40 ذراعًا x 20 ذراعًا [2]، أما قدس الأقداس فإبعاده 20 ذراعًا x 20  20 ذراعًا [4]. إلا أن هذه الأرقام تبدو قد ضمنت معها الحجرات المحيطة بالمبنى من كل جهة [5]: من الشمال والجنوب والغرب (لأن الشرق يمثل الباب أو المدخل). بهذا يكون أبعاد المبنى كله فيما عدا الشرق هي (60 ذراعًا من الشمال، 60 ذراعًا من الجنوب، 20 ذراعًا من الغرب) فإن كان عرض الحجرات المحيطة 4 أذرع فيكون المبنى قد اشتمل على 33 حجرة [6] تحيط بالقدس وقدس الأقداس من الجوانب الثلاثة: 15 حجرات من الشمال و15 حجرة من الجنوب و3 حجرات من الغرب (لأن حجرتين أخذتا من الجانبين نحو الشمال والجنوب).

يلاحظ في الباب أنه واسع جدًا (10 أذرع) [2]، لكي يدخل الجميع إلى مقدسات الله وتتمتع البشرية كلها بالأحضان الإلهية. ويلاحظ في [3] أن حزقيال النبي لم يدخل قدس الأقداس إذ لم يقل "وأتى بي إلى داخل..." بل قال: "ثم جاء إلى داخل..." فإن قدس الأقداس يدخله رئيس الكهنة وحده مرة واحدة في السنة، إشارة إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، الذي وحده يقدر أن يدخل إلى حضن الآب مقدمًا دم نفسه كفارة عن خطايانا، فندخل نحن به وفيه!

الحجرات الثلاث والثلاثون التي أحاطت بالمبنى كله ربما تشير إلى ناسوت السيد المسيح الذي أخفي اللاهوت فيه، من خلاله سكن المؤمنون كأعضاء في جسده السري.

3. المبنى الخارجي المنفصل:

في آخر الغرب بجوار السور مقام مبنى ضخم (90 ذراعًا × 70 ذراعًا) ربما كان مستخدمًا كمخزن. ويرى البعض أنها نبوة عن وجود مبنى آخر هو كنيسة الأمم، كان في عيني الله ينتظر الوقت المحدد ليتمتع بالعضوية في جسد المسيح من خلال الإيمان به.

4. طريقة البناء:

كان المبنى يقوم بواسطة حوائط سميكة جدًا في القاعدة، يقل سمكها في المنتصف ثم يقل بالأكثر في القمة، لهذا كلما ارتفعنا إلى فوق قل سمك الحائط وبالتالي أزداد اتساع البناء [7]. هذا هي حال الإنسان المسيحي كلما ارتفع قلبه إلى السموات خفَّ ثقل جسده (الحائط) واتسع قلبه فيه بالحب، واتسعت نفسه بالأكثر ليسكن الرب فيه بملكوته وأمجاده.

لقد حملٍ السيد المسيح جسدنا مختفيًا وراء حائطنا (نش 2: 9)، لكنه لم يحمله ثقيلاً بالخطايا، بل شابهنا في كل شيء ماخلا الخطيئة وحدها، لهذا كان جسده خفيفًا، لا أقصد بالمعنى المادي بل بالمعنى الروحي، كان يمشي على المياه فلا يغرق (مت 14: 25). أما بطرس الرسول إذ دخلت خطيئة الشك في قلبه كان جسدًا كثيفًا أو ثقيلاً وكاد يغرق. لكن الرب إذ أمسك بيده رفعه إليه فصار خفيفًا، لا تقدر المياه أن تغرقه. ذلك كما فعل إليشع النبي الذي ألقى بالخشبة (صليب المسيح) في المياه فطفت الفأس الحديدية الثقيلة على وجه المياه. وكأننا لسنا في حاجة أن نخلع الجسد، الذي هو الحائط، بل أن يتقدس باتحادنا بجسد المسيح فتتبارك طبيعتنا فيه، ويخف جسدنا جدًا ويتسع قلبنا لملكوته[308].

كان المبنى كله من الداخل - القدس وقدس الأقداس - مغطى بالأخشاب أعلى الكوى وأسفلها وعلى الحوائط الخ... [16-17] ليظهر المبنى كله من الداخل كأنه قطعة واحدة خشبية، تختفي وراءها الحجارة المتباينة، ذلك إعلانا عن وحدة جسد المسيح الواحد، أو قيامنا كلنا كجسد واحد مختفٍ وراء الصليب، لا يميز أحدنا نفسه عن الآخر. ففي الصليب - كما سبق أن قلت[309]- تتم وحدة طولية وأخرى عرضية، وحدة السماء مع الأرض، ووحدة الأرضيين معًا. في هذا يقول القديس إيريناؤس: [علق على خشبة ذاك الذي يجمع الكل فيه[310]]، ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [الصليب هو طريق رباط المسكونة[311]]. ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [بسط (الرب) يديه على الصليب ليحتضن أقاصي العالم[312]]. كما يقول القديس هيبوليتس الروماني: [الصليب هو سلم يعقوب، هذه الشجرة ذات الأبعاد السماوية ارتفعت من الأرض حتى السماء. أقامت ذاتها غرسًا أبديًا بين السماء والأرض، لكي ترفع المسكونة... وتضم معًا أنواعًا مختلفة من الطبيعة البشرية].

5. الزينة:

أما وحدتا الزينة فهي الكروب والنخلة: نخلة بين كروب وكروب ولكل كروب وجهان: وجه إنسان من هنا ووجه شبل من هناك [18-19]. إنها صورة رائعة للكنيسة التي تضم البشرية المقدسة في الرب (النخيل) وقد اتحدت مع السمائيين الذين لا يقفون في سلبية بل يتطلعون إلينا، ينظرون بوجه كمثل وجه إنسان أي لهم أحاسيسنا، ومثل وجه شبل إشارة إلى قوتهم الروحية ومعونتهم لنا في المسيح يسوع.

6. مذبح البخور والمائدة:

يظهر هنا مذبح البخور من الخشب، لأنه يشير إلى صلواتنا التي ترفع في حضـرة الله من خلال الصليب. والمائدة تشير إلى مذبح العهد الجديد حيث تقدم عليه ذبيحة الأفخارستيا، خبز الحياة.

7. الأبواب:

هنا الأبواب أكثر إتساعًا مما كان للهيكل القديم، لأنه قد انفتح طريق السماء أمام جميع الأمم من خلال الكرازة بالإنجيل.

 

 

 


 

من وحي حزقيال 41

الهيكل الجديد!

v   أقم في داخلي القدس وقدس الأقداس،

فتحل فيّ،

ويمتلئ قلبي حبًا بقديسيك وملائكتك!

v   ما هذه الحجرات الثلاث والثلاثين المحيطة بالهيكل،

إلا رمز لناسوتك يا من عشت بيننا هذه السنوات؟!

v   ما هذا الباب المتسع

إلا لكي يجد كل إنسان موضعًا

فيدخل إلى حضن أبيك؟!

v   بناء هيكلك عجيب:

يبدأ من أسفل سميكًا جدًا،

ومع كل ارتفاع يقل السُمك...

ترى هل ترفع قلبي فيُنزع عني ثقل الجسد!

أصير خفيفًا، محمولاً بالروح،

لا تقدر مياه العالم أن تبتلعني!

أحطت المبنى كله بالخشب،

فصار في وحدة عجيبة، كقطعة خشبية واحدة!

حوطني مع إخوتي بخشبة الصليب واهب الوحدة والمصالحة!

زينت هيكل قلبي بوحدات من الكاروبيم والنخيل،

وكأن زينة قلبي اتحاد السمائيين مع القديسين (النخيل)!

لكل كاروب وجهان: وجه إنسان ووجه شبل.

أرى السمائيين كأنهم بشر يشاركونني حبي،

أراهم كالأشبال يحفظونني بقوة.

لك المجد يا من ربطتنا بخليقتك السماوية!

v   ما أجمل مذبح البخور الخشبي؟!

عليه أقدم صلواتي في استحقاقات خشبة الصليب!

ما أروع المائدة؟!

فإنني أشبع بجسدك المقدس ودمك الكريم!

v   يا لاتساع أبواب هيكلك الجديد!

تنفتح حقًا لتدعو كل بشر للحياة السماوية الإنجيلية!

<<

 

الأصحاح الثاني والأربعون

المخادع المقدسة

يتحدث في هذا الأصحاح عن:

1. المخادع المقدسة        [1-12].

2. استخدامها               [13-14].

3. قياس البيت كله          [15-20].

1. المخادع المقدسة:

بعد أن تمتع حزقيال النبي بالدخول إلى القدس الذي يمثل موضع العبادة الجماعية، وقدس الأقداس الذي رآه دون أن يدخله إذ يمثل عمل السيد المسيح الكفاري الذي يدخلنا فيه إلي حضن الآب، انطلق به الروح إلي الخارج في مبنى نحو الشمال وآخر نحو الجنوب يمثلان المخادع (الحجرات) الخاصة بالكهنة دعاها "مخادع مقدسة" [13]. هذه المخادع داخل أسوار الهيكل، لها قدسيتها ومتلازمة مع مبنى الهيكل نفسه ومكملة له، إنها تمثل العبادة الخاصة في المخدع، فالحياة الروحية الحقة، أو الاتحاد مع الله في ابنه بالروح القدس لا يتحقق بالعبادة الجماعية وحدها ولا بالعبادة الخاصة وحدها، إنما تتم من خلال العبادة كحياة واحدة يمارسها الإنسان مع الجماعة كعضو حي فيها، ويمارسها مع أسرته وفي خلوته دون أن يعتزل عضويته للجماعة. هذا هو مفهومنا الكنسي للحياة التعبدية، إنها حياة واحدة يعيشها المؤمن؛ يشترك مع إخوته في العبادة خلال علاقته الشخصية السرية مع الله، ويتعبد في مخدعه كعضو حي في الجماعة المقدسة... بمعنى أنه لا توجد ثنائية في العبادة: جماعية وفردية، بل وحدة متكاملة ومتلازمة.

كان المبنى يتسع في الوسط عنه في الأسفل، ويزداد اتساعًا في الجزء الأعلى، لأن حائط المبنى كان يقل سمكه كلما ارتفع فيعطي اتساعًا للطوابق العُليا. وكما قلنا في الأصحاح السابق إنه كلما ارتفع الإنسان بالروح القدس إلي أعلى خف ثقل احتياجات الجسد ورغباته الأرضية الزمنية (السور) واتسع القلب بالحب.

ولعل وجود ثلاثة طوابق [3، 6] حجرات سفلية وأخرى علوية وثالثة في الوسط يذكرنا بما قاله العلامة أوريجانوس[313] في حديثه عن أنواع التفسير الثلاثة لكلمة الله، التفسير الحرفي المُرّ الذي يمثل الطابق السفلي حيث تكون المساحة ضيّقة والحائط سميك للغاية، إذ يجعل النفس ضيقة والعقل غير متسع بينما يكون الجسد ثقيلاً، أما التفسير الروحي العلوي ففيه تنطلق النفس إلي حجال العريس تتعرف علي أسراره ويتسع قلبها بالحب ولا يمثل الجسد ثقلاً عليها. أما التفسير الثالث أو السلوكي فيقف في المنتصف. وقد رأى العلامة أوريجانوس أن هذه التفاسير الثلاثة تنطبق على فلك نوح ذي الطوابق الثلاثة: الطابق السفلي يحوي الحيوانات النجسة، والمتوسط الحيوانات المقدسة، والثالث العلوي يحوي نوح عائلته في الأعالى في شركة مع الله.

إن كان البيت قد غُلِّف كله بالأخشاب لكي يظهر قطعة واحدة، جسدًا واحدًا في المسيح المصلوب، إلا أن هذه الحجرات الكثيرة ترافق البيت كجزء لا يتجزأ منه لتعلن أنه في المجد، وإن كنا جميعًا نمثل جسدًا واحدًا فإن نجمًا يمتاز عن نجم في القيامة من الأموات (1 كو 15: 41). حقًا كل يفرح بوجوده في حضن الآب متحدًا في ابنه بالروح القدس، ويفرح كل واحد لمجد إخوته من أجل طبيعة الحب الفائقة التي تعمل فينا هناك بغير عائق، لكن "مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر" (1 كو 15: 41). في السماء تظهر القديسة مريم والدة الإله ممجدة أكثر من السمائيين والأرضيين، ويظهر الرسل والتلاميذ والأنبياء والشهداء لهم أمجادهم من أجل آلامهم، وشهادتهم لله حتى الدم، وهكذا...

يقول السيد: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2)، لهذا يجاهد كل واحد منا لا ليفوق إخوته في المجد بل ليبلغ إلى شركة أعمق مع الله واتحاد فيه لنبلغ "إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف 4: 13).

2. استخدامها:

يستخدم الكهنة هذه المخادع في أمرين:

أ. فيها يأكل الكهنة الذين يتقربون إلى الله.

ب. فيها توضع ملابس الكهنوت التي للخدمة الإلهية.

كأن لقاءنا مع السيد المسيح في مخادعنا غايته أن ندخل إلى شركة وخبرة عملية مع الله، فنأكل كلمته ونشبع ونرتوي، لكي ننمو كل يوم في الحياة الجديدة التي صارت لنا فيه. وأيضًا أن نلبس المسيح كثوب البر، به وحده نقدر أن نلتقي مع الآب فيقبل صلواتنا وأصوامنا وكل عبادتنا في المسيح يسوع ربنا.

3. أبعاد البيت كله:

قاس أبعاد البيت كله فوجده متسعًا للغاية، 500 قصبة قياس من كل جانب، فهو بيت مربع كما رآه القديس يوحنا الحبيب (رؤ 21)، ومتسع لكل البشرية، يقدر كل أحد أن يجد له فيه مكانًا.

بالرغم من اتساعه الذي يعلن عن مدى شوق الله إلى جمع البشرية كلها فيه، لكنه جعل له سورًا "للفصل بين المقدَّس والمحلَّل" [20]. إن حب الله وطول أناته واتساع ملكوته لا يعني أن يدخل بغير المستحقين من مستهترين وغير تائبين إليه.

 


 

من وحي حزقيال 42

عبادة في المخدع!

v   ما هذا المبنى الخارجي الملحق بالهيكل

إلا عبادة المخدع المرافقة للعبادة الجماعية؟!

علمني أن أعبدك وسط الجماعة،

وأن التقي خفية!

وسط الجماعة أحرص على علاقتي الشخصية بك،

وفي مخدعي أحرص على صلاتي من أجل الجماعة!

v   ما هذه الطوابق الثلاثة للمبنى الخارجي،

إلا السلم الذي يرفعني للتمتع بالإتحاد معك؟!

احملني من الطابق السفلي الضيق والسميك،

أرفعني إلى فوق فأنعم باتساع القلب وخفة الروح!

هب لي جناحي حمامة فأطير إلى السماء!

v   ماذا يفعل الكهنة في هذا المبنى؟

يأكلون ما هو محلل لهم،

ويرتدون الثياب!

أنت هو الخبز السماوي!

أنت هو ثوبنا الأبدي!

بك نشبع، وفيك نختفي، يا محب البشر!

<<

 

 

 


 
الأصحاح الثالث والأربعون

عودة مجد الرب

يتحدث هذا الأصحاح عن:

1. مجد الرب في هيكله               [1-6].

2. شروط الحضرة الإلهية            [7-12].

3. مذبح المحرقة                     [13-17].

4. تقديس المذبح                     [18-27].

1. مجد الرب في هيكله: 

ذهب به الروح إلى الباب الشرقي [1]، في ذات الموضع الذي منه انطلقت المركبة الكاروبيمية، مركبة الله النارية، إلى السماء لتفارق بيت الرب (10: 19) وتفارق المدينة كلها (أصحاح 11). الآن عادت أنفاس النبي الذي تمررت حياته كلها بسبب مفارقة مجد الرب شعبه، وتكللت رسالته بالنجاح بل بلغ السفر كله غايته وتحقق هدف الله فينا.

نستطيع بغير مبالغة أن نقول إن سفر حزقيال هو سفر "مجد الرب"، بدأ السفر بإعلان هذا المجد الإلهي، وصار روح الرب يكشف بكل طريقة محذرًا بأن هذا المجد يفارق الشعب بسبب انغماسه في العبادات الوثنية، والرجاسات وسفك الدم، وقبول مشورة الأنبياء الكذبة والنبيات الكاذبات، وانهماك الكهنة في مصالحهم الشخصية على حساب الرعية الخ... وأخيرًا فارق مجد الرب هيكله ومدينته (أصحاح 10، 11)، إذ تدنس الهيكل وتنجست المدينة وقام الرب بتأديب شعبه بالسبي والجوع وتدمير مدنه ليحثه على التوبة فيعود بمجده إليهم، وأخيرًا قام الرب بتحطيم العدو الخارجي (أصحاحات 25-32)، ووعدهم بعودة مجده، مقدمًا نفسه راعيًا لهم عوض الرعاة الأشرار (أصحاح 34)، وحاثًا إياهم على التوبة فلا يموتون (أصحاح 36)، وواعدًا إياهم بإقامة هيكل جديد ومدينة جديدة وملك جديد ابنًا لداود... هذه كلها من أجل عودة "مجد الرب" في وسطهم.

حقًا إنه سفر "مجد الرب"، فقد تكرر هذا التعبير في الأحد عشر أصحاحًا الأولى 14 مرة!

والآن يصف هذه العودة في شيء من الاختصار، موضحًا النقاط التالية:

أ. جاء المجد الإلهي من المشارق... معلنًا أن عودة المجد الإلهي إلى الطبيعة البشرية إنما يتحقق بمجيء السيد المسيح الذي دُعيَ بالشرق (زك 6: 12)، "شمس البر" الذي يشرق بغير انقطاع ليبدد الظلمة (ملا 4: 2) وقد ظهر نجمه في المشرق (مت 2: 2). لهذا يصرخ الشماس في القداس الإلهي "إلى الشرق أنظروا". وقد تسلمت الكنيسة تقليدًا أن تُصلي في كل ليتورجياتها وفي العبادة المنزلية والشخصية متجهة نحو الشرق، بل وفي أوربا وجدت بعض المقابر أقيمت بطريقة بحيث يتجه وجه الراقدين نحو الشرق، وكان الشهداء والقديسون غالبًا ما ينظرون نحو الشرق حينما يسلمون أرواحهم للرب[314].

ب. في عودة مجد الرب هنا لم يظهر السحاب كما في خيمة الاجتماع أو هيكل سليمان (خر 40: 34-35، 1 مل 8: 10)، فإن مجده في كنيسته الجديدة لم يعلن خلال سحابة الرموز والظلال بل أعلن خلال الابن الوحيد ذاته، إذ التقت البشرية مع الآب في ابنه بلا عائق!

ج. ظهر مجد الرب خلال أمرين: قوة الكلمة والبهاء، إذ يقول: "جاء من طريق الشرق، وصوته كصوت مياه كثيرة، والأرض أضاءت من مجده" [2]. إن كلمته فعالة وقوية تُعلن كصوت مياه كثيرة، أي تعمل وسط شعوب (المياه) وأمم كثيرة لتجتذبهم إليه، أما فاعلية هذا المجد فهي الاستنارة، فتضيء الأرض التي عاشت زمانًا تحت الظلمة. وكما يقول القديس بولس: "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنور في الرب، اسلكوا كأولاد نور" (أف 5: 8). "الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته" (كو 1: 13). ويقول القديس بطرس: "وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب" (1 بط 2: 9).

د. رأى ذات المجد الذي رآه عند نهر خابور (أصحاح 1)، وكما سقط في المرة الأولي وخر على وجهه (1: 28) حتى دخله روح الرب وأقامه ليتكلم معه (2: 2)، هكذا خر هنا على وجهه [3] وحمله روح الرب إلى الدار الداخلية. لا يستطيع إنسان أن يتمتع بالمجد الإلهي ويدخل إلى رؤيته وسماع صوت الرب بدون الروح القدس الذي وعد به السيد قائلاً: "يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 14).

بحق يعتبر المفسرون حزقيال نبي الروح القدس، كما يلقبون إشعياء بنبي الابن وإرميا بني الآب... فليس من حديث لحزقيال النبي إلا ويعلن فيه عمل الروح.

2. شروط الحضرة الإلهية:

أ. عودة مجد الرب ثانية إلى هيكله كمكان كرسيه وموضع باطن قدميه ليسكن وسط شعبه إلى الأبد [7] إنما تم بالحقيقة بحلول الابن الوحيد المتجسد وسطنا حيث "نقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة" (أف 2: 14-15). هذا العمل الإلهي يتم من خلال تجديد العهد الإلهي مع الإنسان؛ فيه قدم الآب ابنه الوحيد كفارة عن خطايانا وفيه نلتزم نحن أيضًا بالسلوك كما يليق بهذا العمل العظيم بفعل نعمته الإلهية. لهذا يحذر الله شعبه ألا ينجسوا اسمه القدوس هم أو ملوكهم [7] مرة أخرى  ، وإلا حسب هذا استهانة بطول أناة الله وحبه. يقول معلمنا بولس الرسول: "كم عقابًا تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا وازدرى بروح النعمة، فإننا نعرف الذي قال: لي الانتقام أنا أجازي يقول الرب. وأيضًا: "الرب يدين شعبه، مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي" (عب 10: 29-31).

ب. إن كان الله قد أعلن لهم عودة مجده ليبعث فيهم روح الرجاء، لكنهم لكي يتمتعوا بهذا ويتعرفوا على مقاييس الهيكل وأسرار بيته وفرائضه وأسراره، عليهم أولاً أن يتوبوا [9-11] "فليبعدوا عني الآن زناهم وجثث ملوكهم فأسكن في وسطهم إلى الأبد" [9]. التوبة هي طريق الدخول إلى سكنى الله في وسطنا والتعرف على أسراره الإلهية.

ج. إذ يتقدس بيته، يتقدس الجبل كله، إذ يقول: "هذه سُنَّةُ البيت: على رأس الجبل كل تخمه حواليه قدس أقداس" [12]. لنهتم بتقديس القلب فيتقدس الجسد كله، ولتتقدس نفوسنا فيقدس الله الذين هم حولنا! الإنسان المؤمن الحقيقي هو سر بركة للذين حوله!

3. مذبح المحرقة:

إذ تحدث عن عودة مجد الرب تكلم أولاً عن التوبة كطريق للدخول إلى الأقداس، لكنها خلال الذبيحة المقدسة. لهذا أتبع عودة مجد الرب بالحديث عن مذبح المحرقة... وكأن الذبيحة هي أساس دخول المجد الإلهي إلى حياتنا. وكما يقول الأب ميثوديوس من أولمبيا: [تنمو الكنيسة يومًا فيومًا في القامة والجمال من خلال تعاونها واتحادها مع اللوغوس الذي ينزل إلينا حتى الآن ويستمر نزوله إلينا في ذكرى آلامه[315] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن ذبيحة السيد المسيح أي الأفخارستيا: [بواسطته تتطهر النفس وبه تتجمل وتلتهب[316] ويلاحظ أن المذبح هنا أكبر مما كان عليه قبلاً، أي قبل السبي (عزرا 3: 3)، حجمه هكذا 6 ياردات مربعة في القمة، 7 ياردات مربعة من أسفل، وأرتفاع 4.5 ياردة. له مقعد يعلو ياردة عن الأرض ويجلس عليه بعض الكهنة للخدمة، ومقعد آخر يبعد ياردتين أخريين يجلس عليه كهنة آخرون. تقدم الذبيحة للذين على المقعد الأول، فيسلمونها للذين هم على المقعد الثاني ليضعوها على المذبح.

4. تقديس المذبح:

يقتضي التقديس ذبيحة يومية لمدة سبعة أيام [25] إشارة إلى عمل السيد المسيح الذبيح غير المنقطع كل أيام غربتنا أو طوال أسبوع حياتنا، وبالتالي  إزالة تامة لخطايانا فلا يكون لها موضع فينا كل أيام غربتنا.

يبدأ الرضى عنهم في اليوم الثامن [27]، وكأن سر رضى الرب عنا أننا ندخل بالسيد المسيح إلى الحياة الجديدة السماوية (اليوم الثامن أي بعد الأسبوع أو اليوم الأول من الأسبوع الجديد)، وهو يوم قيامة السيد المسيح من الأموات فيه نقوم فنتبرر أمام الآب ونحسب معه جالسين في السماويات.

أما تمليح الذبيحة [24] فإشارة إلى النعمة الإلهية، كقول الرسول: "ليكن كلامكم كل حين مصلحًا بملح لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل أحد (كو 4: 6). نعمة الله هي الملح الذي يصلح اللسان وكل أعضاء الجسد، وحواسه ومشاعره كما يصلح النفس بكل طاقاتها والفكر.

أخيرًا فإن الذين يخدمون عليه هم نسل صادوق [19]، وقد دعاهم بالمقتربين إليه. فإن صادوق تعني "صديق أو بار"، فلا اقتراب إلى مذبح الله إلا من خلال التمتع ببر المسيح لنكون في عينيه من نسل صادوق روحيًا.

 

 


 

من وحي حزقيال 43

المجد الإلهي فينا!

v   يا لفرحة نبيك حزقيال!

لقد تحقق هدفه!

مجدك الذي فارق الهيكل والمدينة عاد!

v   عاد مجدك من المشارق.

هكذا لتشرق يا شمس البر فيّ!

لتبدد ظلمتي بنورك العجيب!

v   لتحل بمجدك لا خلال السحاب،

خلال الرموز والظلال،

بل بسكنى روحك القدوس فيّ!

v   بحلول مجدك صار صوت كمياه كثيرة،

وأضاءت الأرض وامتلأت بهاءًا!

لتحل بمجدك فيّ،

فيرعد صوتك داخلي،

وتهتز كل أساسات الشر أمامك!

تشرق ببهائك في أعماقي

فأنعم بجمال روحي فائق!

ليحل مجدك في داخلي،

فأنني أعترف لك بذنبي،

وأشكو لك عاري!

فأنا اعلم أن التوبة هي طريق مجدك الملوكي!

والقداسة هي العين التي ترى بهاءك!

v   اقم مذبحك فيّ،

ولتقدسه بدمك الثمين!

مجدك مرتبط بصليبك!

ها أنا أحمله بك ومعك،

يا حامل خطايا العالم كله بصليبك!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الرابع والأربعون

العاملون في الهيكل

بعد أن أعلن عن عودة مجد الرب إلى هيكله تحدث أولاً عن الباب الذي دخل منه الرب، ثم عن العاملين في الهيكل الجديد، إذ وضع لهم ناموسًا خاصًا بهم يليق بعملهم ورسالتهم الكهنوتية:

1. الباب الشرقي المغلق    [1-3].

2. حراسة البيت            [4-14].

3. شريعة الكاهن           [15-31].

1. الباب الشرقي المغلق:

للمرة الثالثة يأتي به روح الرب إلى الباب الشرقي، ولكنه يجده مغلقًا، بل يؤكد له الرب:

"هذا الباب يكون مغلقًا لا يفتح ولا يدخل منه إنسان،

لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقًا.

الرئيس الرئيس هو يجلس فيه ليأكل خبزًا أمام الرب.

من طريق رواق الباب يدخل ومن طريقه يخرج" [2-3].

إذ يتحدث عن العاملين في الهيكل يبدأ بالحديث عن السيد المسيح بكونه هو العامل الأول والأخير في الهيكل، فيه يختفي كل كهنته وخدامه، هذا الذي دعاه "الرئيس الرئيس"، وكأنه يقول إنه "قمة العاملين في الهيكل أو رئيس الكهنة الأعظم، أما تكرار الكلمة مرتين فلأنه هو العامل في العهد القديم بكونه كلمة الله غير المنظور، وهو العامل في العهد الجديد بكونه كلمة الله المتجسد. لهذا عبر من الباب الشرقي ليصعد السبع درجات للدار الخارجية (40: 22) ثم الثماني درجات للدار الداخلية (40: 27)، وكأنه قد أشرق علينا بنوره في العهد القديم (7 درجات) من خلال الرموز والظلال ثم عاد فأشرق علينا بنوره في العهد الجديد (8 درجات) بتجسده الإلهي... لقد فتح لنا أسرار العهدين القديم والجديد، تارة من خلال الناموس والأنبياء وأخرى من خلال الإنجيل.

ما هو الباب المغلق الذي دخل منه الرب ومنه يخرج ويبقى مغلقًا إلا الأحشـاء

البتولية التي للقديسة مريم، حيث حلّ السيد في أحشائها متجسدًا منها بالروح القدس وولد منها وبقيت بتولاً؟! في هذا يقول القديس جيروم: [إنها (مريم) هي الباب الشرقي الذي تكلم عنه حزقيال، هو مغلق دائمًا، متلألئ دائمًا، وهو مختوم، وفي نفس الوقت يعلن عن قدس الأقداس، من خلاله يدخل ويخرج "شمس البر" (ملا 4: 2)، الذي هو رئيس كهنة على طقس ملكي صادق" (عب 5: 10). من ينتقدني فليشرح لي كيف دخل يسوع خلال الأبواب المغلقة عندما سمح أن تُلمس يداه وجنبه مظهرًا أن له عظمًا ولحمًا (يو 10: 19، 27)، مبرهنًا أنه كان يحمل جسدًا حقيقيًا لا خياليًا، وعندئذ أوضح أنه كيف يمكن أن تكون القديسة مريم أمًا وعذراء في نفس الوقت![317]]. وقد سبق لنا الحديث عن دوام بتولية العذراء مريم في كتابنا: "القديسة مريم في المفهوم الأرثوذكسي".

أما قوله: "هو يجلس فيه ليأكل خبزًا أمام الرب" ففيه إشارة إلى التجسد الإلهي حيث صار ابن الله إنسانًا.

2. حراسة البيت:

دخل الرب بمجده إلى بيته من الباب الشرقي الذي احتفظ به مغلقًا فلا يدخل آخر غيره منه، لكنه ترك الأبواب الأخرى مفتوحة لكل إنسان يرغب في الاتحاد معه. ولم يترك الرب هذه الأبواب المتسعة للجميع والمفتوحة بحبه الإلهي بلا حراسة إنما أقام اللاويين حراسًا عليها.

في عتاب حازم كشف الرب للاويين أخطاءهم الماضية، ليس فقط ليتداركوها فلا يسقطوا فيها في المستقبل، وإنما بالأكثر لكي يعوضوا السنوات الماضية الشريرة بالجهاد الإيجابي لحساب ملكوت الله. وكأن توبتهم لا تقف عند كفِّهم عن الشر بل بالأحرى تلزمهم باستخدام الطاقات والمواهب والوقت الخ ... التي كانت تعمل لحساب الشر لكي تُستخدم لحساب ملكوت الله.

حصر أخطاءهم في أمرين:

أولاً: إهمالهم في حراسة بيت الرب، حراسة أقداسه وإقامة حراس يحرسون عنهم هذه المقدسات [8]، فدخل إلى بيته غرباء غلف القلب والجسد معًا ينجسون بيته! ليس شيء أمرّ على قلب الله من أن يهمل الكهنة والخدام بيت الرب حتى يصبح الموضع الذي فيه يكمن سرّ القداسة هو بعينه مكانًا للشر! لقد حذر الرب كثيرًا في العهدين أن من يفسد هيكل الله سيفسده الرب، وأن من يُسيّب المرأة إيزابل تغوى أولاده وتفسد مقدساته يزعزع الرب منارته. أقول هذا بمرارة لأننا كثيرًا ما نستهين بمقدسات الرب فنخلط بين الحب والترفق وبين التهاون في المقدسات. حبنا للخطاة وترفقنا بهم لا يعني تهاوننا في مقدسات الرب.

كما أن إهمال اللاويين في الحراسة يلزمهم بالتوبة أن يعودوا إلى حراسة بيت الرب [1].

ثانيًا: لقد خدم اللاويون الشعب أثناء عبادة الأصنام وأعثروهم [10]، لهذا وجب عليهم بالتوبة أن يذبحوا للرب من أجل الشعب لكي يردوا العاثرين. وكأنه يليق بنا في توبتنا لا أن نرجع فقط عن سقطاتنا بل ونرد الذين تعثروا بسببنا وذلك من خلال خدمتنا المقدسة لهم في الرب.

3. شريعة الكاهن:

اختار الله بني صادوق وحدهم، هؤلاء الذين بحق حرسوا الحراسة المقدسة حين ضل الشعب، لهذا استحقوا دون سواهم أن يقتربوا إلى مذبحه المقدس ويخدموا مائدته. وقد اهتم الرب أن يضع لهم شريعة خاصة بهم تعالج الكثير من شئون حياتهم، منها:

أ. الملبس: "ويكون عند دخولهم أبواب الدار الداخلية أنهم يلبسون ثيابًا من كتان ولا يأتي عليهم صوف عند خدمتهم" [17]. إنهم يلبسون الكتان أثناء الخدمة علامة النقاوة والطهارة، ولا يلبسوا صوفًا. لعل تحريم الصوف جاء خشية أن يكون من ناتج حيوان ميت، فإنه لا يريد من خدامه أن يدخلوا إلى مقدساته حاملين أية آثار لشيء ميت. كما أعطى تعليلاً لعدم لبس الصوف وهو لئلا "يعرقوا" [18]، فإن خادم المذبح يلزم أن يكون نشيطًا، يعمل بقوة، لأن من يعرق يهتم بجسده ويكون خاملاً.

كما طالبهم بخلع ثياب الخدمة التي يقدسون بها في الحجرات المقدسة الخاصة بهم، فإنه لا يليق أن يخرج بهذه الملابس المقدسة أثناء قضاء حاجاته الزمنية.

لبس ثياب الخدمة الكتانية في مقدّسات الرب يشير إلى لبسنا السيد المسيح نفسه، لأنه هو وحده الراعي الصالح، رئيس كهنة الخيرات العتيدة، به وفيه نقوم بالعمل الكهنوتي والرعوي.

ب. حلق الشعر: طلب منهم عدم التطرف فلا يحلقونه تمامًا مثل كهنة الأمم وأيضًا لا يترك كما هو كنذيرين إنما يقصونه باعتدال. فإن كان كاهن العهد الجديد يكرس قلبه وحياته تمامًا للخدمة، لكنه يسلك حتى في مظهره باعتدال بكونه مثلاً للشعب يقدر أن يكسب الكثيرين بسلوكه الذي يُعبر عن شركته مع الله.

ج. الطعام والشراب: طلب منهم ألا يشربوا مسكرًا عند دخولهم للخدمة [21]. وفي العهد الجديد يقول الرسول بولس: "يجب أن يكون الأسقف غير مدمن الخمر" (1 تي 3: 1، 3). ويعلق القديس إيرونيموس: [الانغماس في الخمر هو من أخطاء الشرهين والمترفهين. عندما يسخن الجسد بالخمر للحال تثور فيه الشهوة. فشرب الخمر معناه التساهل مع النفس، وهذا يعني التنعم الحسيّ. والتنعم الحسيّ يعني كسر العفة. فالإنسان الذي يعيش متنعمًا يكون ميتًا وهو حيّ (1 تي 5: 6). وأما الذي يشرب خمرًا فلا يكون ميتًا بل مدفونًا. إن ساعة واحدة من الخلاعة جعلت نوحًا يتعرى بعدما استتر ستين عامًا بوقار (تك 9: 20-21)[318]].

 طلب الرب من الكهنة ألا يأكلوا من حيوان أو طير ميت ولا من فريسة [31]. إنه يريد من الكاهن أن يكون عفيف النفس، فقبوله أكل شيء ميت أو فريسة علامة دناءة النفس. لعله أراد بهذا أيضًا أن يعيش الكاهن على كلمة الله التي تنعش جسده وروحه وتقدسهما، رافضًا تعاليم الهراطقة التي تجعل من جسده (يرمز له بالحيوان) ونفسه (يرمز له بالطير) ميتين أو فريستين للشيطان. لينهل الكاهن من الينابيع الروحية الحية حتى لا تتسرب الميكروبات إلى حياته وتنتقل إلى شعبه.

د. الزواج: يلتزم الكاهن بمراعاة كرامة عمله الكهنوتي فلا يتزوج أرملة ولا مطلقة حتى لا يتشكك أحد في نزاهته. إنما كان يسمح له بالزواج من أرملة كاهن متنيح [22].

وفي الكنيسة القبطية لا يتزوج الكاهن بعد نواله سر الكهنوت مطلقًا إذ صار أبًا، ينظر إلى جميع الفتيات والنساء كبناته، فلا يتزوج الأب ابنته.

هـ. الكرازة: يليق بالكاهن أن يكون قادرًا على التعليم، فيعلم شعبه "التمييز بين النجس والطاهر" [33]. وأن يكون عادلاً في حكمه: "يحكمون حسب أحكامي ويحفظون شرائعي وفرائضي في كل مواسمي ويقدَّسون سبوتي" [24].

و. أما عن التعليم فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أظهر الرسول ما يخص الأسقف، أن يكون "صالحًا للتعليم" (1 تي 3: 3). الأمر الذي يطلب فيمن هم تحت رعايته،

إنما هو أساسي جدًا بالنسبة لمن يتسلم الرعاية[319]].

ز. حزنه على ميت: طلب الله من الكاهن ألا يمس إنسانًا ميتًا لئلا يتنجس، وإنما سمح له بلمس أبيه أو أمه أو ابنه أو ابنته أو أخيه أو أخته... ويبقى أسبوعًا يتطهر ويقدم ذبيحة خطية ليتسنى له أن يخدم في القدس.

إنه يريد أن يرفع الكاهن فوق كل ما هو زمني ليربط قلبه بالسماويات فلا يحزن على انتقال أحد، لكنه راعى القرابات المذكورة من أجل المشاعر البشرية التي لا يمكن أن نتجاهلها في حياة الكاهن.

ح. إعالتهم: لم يسمح الله لكهنته أن يتقبلوا شركة ميراث مع إخوتهم في أرض الموعد، لكنه تقدم إليهم ليكون هو نفسه ميراثهم؛ فهو ملتزم بإشباع كل احتياجاتهم الروحية والنفسية والجسدية. لقد طلب من بقية الأسباط أن يقدموا لهم العشور والبكور وكأنها مقدمة لله نفسه.

يعلق العلامة أوريجانوس على قول الرب لهم إنه هو ميراثهم [28]، قائلاً: [نصيبهم ليس على الأرض، إنما الرب نفسه هو نصيبهم، إذ قيل عنه إنه نصيبهم وميراثهم. إنهم يمثلون الذين لم يفشلوا بسبب عقبات الطبيعة الجسدية بل اجتازوا مجد الأمور المنظورة ووضعوا في الرب كل حياتهم مع كل تدابيرها، هؤلاء الذين لا يطلبون أمورًا جسدية، أو أشياء غريبة عن العقل، بل طلبوا الحكمة ومعرفة أسرار الله. وحيث يكون كنزهم هناك يكون قلبهم أيضًا (مت 6: 21). إذن ليس لهم ميراث على الأرض، بل ارتفعوا إلى فوق أعلى من السماء، هناك يكونون مع الرب إلى الأبد في كلمته وحكمته ولذة معرفته، يشبعون بحلاوته، فيكون هو غذاءهم ومأواهم وغناهم ومملكتهم. هذا هو مصيرهم، وهذه هي الأملاك التي يعرفونها، وذلك بالنسبة للذين يكون الله هو ميراثهم الوحيد[320]].

هذا بالنسبة لكون الله هو ميراثهم، أما بالنسبة للباكورات فجميعها تكون لهم [30]. يعلق العلامة أوريجانوس على هذا الأمر بقوله: [تأمر الشريعة بتقديم باكورة الثمار والحيوانات للكهنة، فكل من يملك حقلاً أو كرمًا أو بستان زيتون أو حديقة، أو يقوم بأي عمل في الأرض، أو يُربى أدنى ماشية عليه أن يقدم الباكورة كلها لله من خلال الكهنة، إذ يقول الكتاب إن ما يعطى للكهنة إنما يقدم لله. بهذا نتعلم من الشريعة أنه لا يجوز الانتفاع شرعيًا من ثمار الأرض ولا من الحيوانات حتى الأليفة الصغيرة ما لم نقدم الباكورة كلها لله من خلال الكهنة. وفي رأيى أن هذه الشريعة مثل الكثير من الشرائع الأخرى يجب أن نلتزم بها حتى في معناها الحرفي[321]].

ويرتفع العلامة أوريجانوس بذهننا الروحي لنرى في السيد المسيح نفسه الكاهن الأعظم الذي له تُقدم باكورات روحية مثل أبكار آسيا (رو 16: 5) وأبكار آخائية (رو 16: 5)، ومثل كرنيليوس الذي قُدَّم باكورة  بكونه بكرًا لا لكنيسة قيصرية فحسب بل لكل الأمم. ويحسب البتوليون والعذارى (رؤ 14: 4) أبكارًا يقدمون للكاهن الأعظم ربنا يسوع المسيح، ليس فقط البتوليون جسدًا بل والبتوليون بالروح كالعذارى الحكيمات اللواتي كن ينتظرن العريس في منتصف الليل. ويقول العلامة أوريجانوس: [كما قلنا ليشته كل منا أن ينمو لكي يبلغ إلى أن يكون مختارًا من بين الأبكار فيقدم لله ويكون من نصيب السيد[322]].

أما سر بكوريتنا فهو اتحادنا بالسيد المسيح "البكر" الحقيقي. فيه صرنا أبكارًا وحسبنا لله الآب من نصيب كاهنه الأعظم يسوع المسيح. لهذا فإن  السيد المسيح أيضًا يقدم نفسه نيابة عنا كبكر لله . يقول العلامة أوريجانوس: [لقد دُعِيَ بكرًا (1 كو 15: 5-23)، باكورة الراقدين (رؤ 19: 6). وكما دعى ملك الملوك ورب الأرباب وراعي الرعاة ورئيس الكهنة (1 بط 5: 4 ،عب 5: 14) يمكننا أن ندعوه "بكر الأبكار". إنه الباكورة التي لا تقدم لرئيس الكهنة بل لله نفسه، إذ "أسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أف 5: 2)، وبعد قيامته من الأموات: "جلس عن يمين الله" (كو 3: 1)[323]].

في العهد القديم كان الإنسان يلتزم بتقديم البكور لله من خلال الكهنة لكي يرضى الرب عنه، وكان الكهنة يأكلون البكور أو يستخدمونها ويستهلكونها. أما في العهد الجديد فالله يقدم لنا البكر "يسوع المسيح"، يقدمه لشعبه ليقبله فيأكل جسده ويتناول دمه الكريم ويقبل حياته فيه لا لكي يستهلكه بل لكي يتمتع بقوة قيامته الواهبة لنا الحياة. لهذا يقول العلامة أوريجانوس: [الباكورة التي كانت تُقدم في الناموس كانت تُستهلك كطعام... أما نحن فكلما أكلنا أكثر من هذا الطعام نجده أكثر وفرة![324]].


 

من وحي حزقيال 44

الرئيس العامل في الهيكل

v   أنت هو الرئيس الذي يدخل الهيكل والباب مغلق،

تدخل وتجلس فيه ويُبقي الباب مغلقًا!

أنت هو البتول الذي وُلد من البتول،

وبقيت بتوليتها دائمة!

لتدخل في أعماقي أيها العامل فيّ،

لتدخل وتجلس يا من لك مفتاح القلب!

لتدخل فيه ولتغلق بابي أمام كل شر!

من يعمل في هيكل قلبي إلا أنت؟!

من يقدر أن يقدسه غيرك؟!

v   من هم اللاويون الحارسون في داخلي

إلا تلك المواهب التي من عندك

أنت تقدسها وتنمِّيها فيّ؟!

هب لها بالتوبة أن تكون أمينة في حراستها

v   أنت هو رئيس الكهنة الأعظم،

جعلت منا ملوكًا وكهنة لأبيك القدوس

هب لنا الثياب الكتانية البيضاء، فلا نتدنس!

احفظنا في أكلنا وشربنا الروحيين،

ولا ننغمس في ترف العالم وسكره!

اسمح لنا أن نتحد بك كعروس مقدسة بلا غصن!

حقًا أي نصيب لي غيرك؟!

فأنت حياتي وقيامتي وكنزي!

لمن أقدم نفسي نصيبًا إلا لك، يا من أنت الحب كله؟!

<<

 


 
الأصحاح الخامس والأربعون

شريعة القداسة والعدل والفرح

بعد أن قدم الله لشعبه هيكلاً جديدًا، وأقام فيه كهنة له يسلكون ببره، ولاويين يقومون بحراسة أبوابه، بدأ يعلن شريعة هذا الهيكل الجديد التي تقوم أساسًا على ثلاثة أسس هامة: القداسة والعدل والفرح.

1. القداسة وتقسيم المدينة المقدسة            [1-8].

2. العدل والحق في المدينة الجديدة             [9-17].

3. الفرح في المدينة الجديدة                    [18-25].

1. القداسة وتقسيم المدينة المقدسة:

أ.يقول الرب: "وإذا قسمتم الأرض تقدمون تقدمة للرب قدسًا من الأرض... هذا قدس بكل تخومه حواليه" [1]. ما أعجب محبة الله، الذي وعد بإعطاء أرض جديدة بعد عودتهم من السبي ليعود فيطلب من الإنسان قطعة أرض مما أعطاهم كتقدمة من الإنسان لله، تصير سر تقديس للأرض كلها. إنه يأخذ القليل مما وهبنا كأنه منا فيقدس كل ما لنا بسبب هذه التقدمة.

يتقبل الله منا هذه الأرض، مع أن للرب الأرض كلها، ويجعلها ملكًا له، بيتًا مقدسًا يسكن فيه وسط شعبه ليقدسهم.

يحمل هذا صورة رمزية لما تم في العهد الجديد، فالقدس هو السيد المسيح الذي هو ابن الله الوحيد، أخذ جسدنا وطبيعتنا فيه، لكي يتقبله الآب منا ذبيحة حب مقبولة ومرضية فيقبلنا كلنا فيه. يتقبل هذا القدوس نيابة عن البشرية فتتقدس البشرية المؤمنة به من خلال اتحادها معه وفيه. لهذا يقول القديس كيرلس الكبير: [كنا جميعنًا في المسيح، وكانت الشخصية البشرية في عموميتها تتجدد فيه[325]]. [لقد حملنا في جسده، إذ كنا جميعًا فيه من حيث أنه استعلن إنسانًا[326] ويقول البابا أثناسيوس الرسولي: [لم يكن اللوغوس نفسه محتاجًا لانفتاح أبواب السماء... بل نحن كنا محتاجين إلى ذلك، نحن الذين كان يحملنا في جسده[327]]. كان السيد المسيح ولا يزال هو سر تقديسنا إذ حملنا فيه سريًا.

كما يحمل الهيكل الجديد أيضًا صورة رمزية لما يتم داخل النفس البشرية أو داخل الإنسان، فإن كان قدس الأقداس يمثل القلب الذي يسكنه ربنا يسوع المسيح، فإن الهيكل يرمز للجسد الذي يتقدس من خلال سُكني ربنا في النفس، كما يتقدس الهيكل كله من خلال قدس الأقداس. أما أبعاد الهيكل فهي 500 قصبة من كل جانب تذكارًا للعذارى الخمس الحكيمات (مت 25)... أو إلى تقديس حواس الجسد الخمس كعذارى للرب إلهنا يسوع. والكهنة الساكنون حول الهيكل يشيرون إلى العبادة المقدسة التي يقدمها الإنسان في المسيح يسوع، أما اللاويون فيشيرون إلى ضرورة الحراسة المشددة على أبواب النفس والجسد معًا حتي لا يدخل إلينا شيء غريب لا يليق بمقدسات الله. وأما الملك فيشير إلى الذهن أو العقل المقدس الذي يدبر الأمور حسب مشيئة الله، وأما الشعب فيشير إلى طاقات الجسد وأعماله الظاهرة، إذ يتقدس كل شيء فينا ليعمل لحساب ملكوت الله.

ب. حدد الرب نصيب الكهنة واللاويين والشعب والملك حتي لا يتعدى أحد على حقوق الآخر، ولا يستغل أحدهم نفوذه على حساب أخيه... فإنه لا تقديس بدون عدالة واحترام لحقوق الغير.

2. العدل والحق في المدينة الجديدة:

قانون الأرض المقدسة العدالة وعدم الظلم أو الجور، هذه هي سمة النفس التي تقبل الله في داخلها كسر تقديسها. لهذا يأمر الرب المسئولين هكذا: "أزيلوا الجور والاغتصاب وأجروا الحق والعدل. ارفعوا الظلم عن شعبي يقول السيد الرب موازين حق وإيفة حق وبث حق تكون لكم" [10] فإنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل الظلم والغش، وليس شيء يفرح قلبه مثل الرحمة والعدل.

هذا هو دستور الكنيسة التي تجد أن في مسيحها قد تحقق العدل الإلهي، موازين الله العادلة... فقد حمل خطايانا ودفع الدين الذي كان علينا، وكما يقول الرسول: "إذ كنتم أمواتًا في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحًا لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب، إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 13-15) لقد كنا في الموازين إلى فوق، فدفع الثمن ليس كلامًا أو مجرد عواطف بل دفع حياته ثمنًا لخلاصنا فتحقق العدل الإلهي فيه. بهذا يحطم الشيطان مع رياساته وسلاطينه ويُشهرّ بهم جهارًا، إذ يُحطم الظلم والجور... الذي هو قانون إبليس وجنوده.

لهذا بعد أن تحدث عن قانون العدل وعدم الغش في التقدمات والذبائح والمحرقات [15] بكونها رمزًا لذبيحة السيد المسيح التي فيها يتحقق العدل الإلهي!

3. الفرح في المدينة الجديدة:

إن كان أساس الكنيسة هو القداسة التي صارت لنا في المسيح القدوس، وقانونها هو العدل الذي تحقق في ذبيحته، فإن علامتها هي: "الفرح" في الرب. لهذا يتحدث الله معهم عن الأعياد المستمرة... فإن حياة الكنيسة هي "عيد" دائم وفرح سماوي لا تستطيع أحداث العالم أن تنزعه.

المسيحية ليست كآبة ولا ضجر ولا مرارة، لكن في جوهرها فرح داخلي يتحقق كثمر الروح القدس (غلا 5: 23) من خلال اتكائها الدائم على صدر السيد المسيح رأسها الغالب ويبقي غالبًا فينا (رؤ 6: 2) فيه ترى الكنيسة السموات مفتوحة وهي جالسة عن يمين الآب من خلال اتحادها في ابنه الوحيد... هذا هو سر فرحها الدائم: الغلبة الدائمة وانفتاح السموات أمامها باتحادها مع الله في المسيح يسوع!

لقد بدأ الأعياد هنا بعيد رأس السنة [18] في اليوم الأول من الشهر الأول، ثم عيد الفصح [21]، وفي الأصحاح التالي تحدث عن السبوت، والعيد الدائم (المحرقات اليومية لصباحية والمسائية). هذه جميعها في المسيح يسوع عيدنا المستمر، هو بدء حياتنا الجديدة (رأس السنة الجديدة)، وهو فصحنا الذي ذبح لأجلنا (1 كو 5: 7)، وهو سبتنا الحق أي سر راحتنا، وهو العيد اليومي فيه سر فرحنا صباحًا ومساءً كل يوم. وقد سبق لنا الحديث عن الأعياد اليهودية كرمز للعيد المسيحي في دراستنا لسفر العدد.


 

من وحي حزقيال 45

اعلن شريعتك في داخلي!

v   اعلن في داخلي، في هيكلك، شريعتك:

القداسة والعدل والفرح!

v   ما هي شريعتك أيها القدوس

إلا القداسة؟!

فيك يتقدس جسدي، الأرض الجديدة!

وفيك تتقدس نفسي، السماء الجديدة!

وبك تتقدس مواهبي، اللاويون الجدد!

وبك يتقدس عقلي، الملك الجديد!

أنت مقَّدس النفس والجسد والروح!

v   أيها الحق الذي ليس فيه باطل!

ايها العدل الذي بلا ظلم!

هب لي دستور الحق والعدل في داخلي!

انزع عني كل باطل وظلم!

v   حلولك في أعماقي ينزع الغم،

حضرتك ملكوت مفرح!

وجودك يحول حياتي إلى تسبحة لا تنقطع!

إلى عيد دائم!

<<

 

 

 


 

الأصحاح السادس والأربعون

شرائع جديدة

بعد أن قدم للهيكل الجديد والمدينة الجديدة الأساس السليم لهما وهو القداسة، شريعتهما العدل، وملامحهما الفرح الدائم، قدم لنا البعض الشرائع الأخرى:

1. طريقة الدخول إلى الهيكل         [1-15].

2. هبات الرئيس أو الملك            [16-18].

3. مواضع للطبخ والخبز             [19-24].

1. طريقة الدخول إلى الهيكل:

في هذا القسم قدم لنا طريقة دخول الملك ودخول الشعب إلى الهيكل، وخروجهم أيضًا، والمحرقات والذبائح التي يقدمها الملك والشعب في السبوت والأعياد، كما تحدث عن المحرقات اليومية. ويلاحظ أن ما ورد هنا لم يتحقق بطريقة حرفية بعد عودة الشعب من السبي البابلي وإقامة الهيكل بعبادته من جديد بل التزموا بالشريعة الموسوية، وكأن ما ورد هنا لا يقصد به مفهومًا حرفيًا بل المعنى الرمزي في العصر المسياني.

أهم ما ورد هنا من شرائع هي:

أ. يغلق الباب الشرقي للدار الداخلية ستة أيام، وفي يوم السبت وحده كما في يوم رأس الشهر يُفتح ليدخل منه الملك، ومنه أيضًا يخرج، أما الشعب فلا يدخل منه ولا يخرج منه... إنه خاص بالملك. قلنا إن هذا الباب يشير إلى أحشاء البتول فيها دخل ملك الملوك وتجسد ومنها خرج.

إن كان السيد قد دخل إلى البشرية مرة وصار إنسانًا، فإنه لا يزال يدخل إلى حياتنا مشرقًا كالشمس من الباب الشرقي، يأتي إلينا ليجعل أيامنا سبوتًا (راحة) وأعيادًا. يشرق بنوره فينا فلا يكون للظلمة فينا موضع بل نستنير على الدوام، متهللين بسكناه الدائم فينا، وكما أكد السيد نفسه لتلاميذه قبيل صعوده: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).

يدخل الشعب من البابين الشمالي والجنوبي، من يدخل من الشمال يسير متجهًا نحو الجنوب ليسجد ولا يرجع إلى الباب الذي دخل منه بل يخرج من الباب الجنوبي، وهكذا من دخل من الباب الجنوبي يسير نحو الشمال ليسجد ولا يرتد إلى الجنوب بل يخرج من الباب المقابل الشمالي. لقد رأى البعض في هذا التنظيم حفظًا لهدوء الهيكل وعدم ارتباك المرور داخله خاصة في الأعياد حيث تكون الأعداد ضخمة للغاية، لكنني أظن أن هذا النظام يقدم لنا صورة لحياة المسيحي الذي يسير داخل الهيكل ليسجد لله ولا يرتد مرة أخرى! إنها صورة للسير باستقامة في الاتجاه الذي صار له خلال الحياة الكنسية الجديدة دون أن يحيد عن الطريق الإيماني المسيحي.

ب. يفتح الباب الشرقي للدار الداخلية يوم السبت طول النهار حتى المساء، وكأن الله يدخل إلى حياتنا الداخلية، مشرقًا في أعماقنا مادام الوقت نهارًا. يدخل إلينا ليجعل قلوبنا في "راحة (سبت)" دائمة.

يتحدث العلامة أوريجانوس عن الاحتفال بالسبت قائلاً:

[ما هو الاحتفال بالسبت إلا ما قاله الرسول: "إذًا بقيتْ راحة لشعب الله" (عب  4: 9)، أي يتمم شريعة السبت. ليترك شعب الله الشكل اليهودي للسبت ولنَرَ ما يجب أن نفعله كنظام مسيحي في يوم السبت. يلزمنا عدم القيام بأي نشاط دنيوي أو عمل زمني... فنكون متفرغين للتداريب الروحية: الذهاب إلى الكنيسة والإصغاء للقراءات الإلهية والمواعظ والتأمل في السمويات والاهتمام بالحياة العتيدة والتفكير في الدينونة المقبلة والاهتمام لا بالأمور الحاضرة المنظورة بل بالحقائق المستقبلة غير المنظورة. هذا هو حفظ السبت بالنسبة للمسيحي[328]].

 [لنبحث في عمق عن السبت الحقيقي. إنه يعني العمل به في السماء؛ فإننا لا نرى أن كلمات سفر التكوين: "فاستراح (الرب) في يوم السبت (السابع) من جميع عمله الذي عمل" (تك 2: 2) قد تحققت حرفيًا في اليوم السابع، ولا أيضًا يتحقق اليوم. فإن الله يعمل على الدوام، لا يوجد سبت لا يعمل فيه الرب. لا يوجد يوم فيه لا يشرق شمسه على الأشرار الصالحين، أو لا يمطر على الأبرار والظالمين (مت 5: 45). إنه "المنبت الجبال عشبًا" (مز 147: 8)، الذي "يجرح ويعصب" (أي 5: 18) مظهرًا أنه لا يوجد في هذا الدهر يوم سبت فيه يستريح الرب من تدبير العالم والاهتمام بمصائر الجنس البشرى[329]].

لقد سبق أن رأينا في دراستنا لسفر الخروج أن السيد المسيح هو السبت الحقيقي، فيه يستريح الآب إذ يجدنا فيه متبررين ومقدسين له، وفيه نستريح نحن أيضًا إذ ندخل به إلى حضن الآب موضع راحتنا. إنه سبت الآب وسبت المؤمنين، سر الراحة الحقيقية!

ج. يفتح أيضًا الباب في اليوم الأول من الشهر [1] ويبقى الباب مفتوحًا طوال النهار. لعله قصد بذلك "يوم الهلال" الذي كانت له قدسيته عند اليهود مثل السبوت والأعياد والمواسم (1 أي 23: 13؛ 2: 4؛ عز 3: 5، كو 2: 16) فكانوا ينفخون بالأبواق (مز 81: 3) ويحتفلون به في البيوت (أم 7: 20) ويسجدون فيه للرب (إش 66: 23).

يعلق العلامة أوريجانوس على هذا الاحتفال بقوله: [الاحتفال بعيد الهلال الجديد يعني اقتراب الهلال من الشمس واتحاده معها... يقام العيد عند تغيير الهلال، عندما يقترب من الشمس جدًا، ويتحد بشدة مع "شمس البر" (ملا 4: 2)، الذي هو المسيح. إن كان الهلال يعني كنيسته الممتلئة نورًا، التي تتصل وتتحد معه بقوة كقول الرسول: "وأما من التصق بالرب فهو روح واحد" (1 كو 6: 17)، فإنها تحتفل بعيد الهلال إذ تصبح جديدة بترك الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أف 4: 24). وهكذا تستحق الاحتفال بعيد التجديد، عيد الهلال[330]].

د. العيد الدائم: يقول "وتعمل كل يوم محرقة للرب حملاً حوليًا صحيحًا، صباحًا صباحًا تعمله، وتعمل عليه تقدمه صباحًا صباحًا... تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة" [13-14].

يقول العلامة أوريجانوس: [العيد الأول للرب هو العيد الدائم. حقًا إنه مطلوب تقديم قرابين كل صباح ومساء باستمرار بغير انقطاع. كذلك في تشريع الأعياد (في سفر العدد) لم يبدأ الرب بعيد الفصح، عيد الفطير أو عيد القربان المقدس ولا بأي عيد آخر من الأعياد المنصوص عليها، لكنه قرر أن العيد الأول هو عيد الذبيحة الدائمة. إنه يُريد من الذي يبلغ الكمال والقداسة ألا تكون له أيام أعياد وأخرى ليست أعيادًا لله، فإن البار يحتفل بعيد دائم[331]].

هكذا يتحدث العلامة أوريجانوس المعروف بروحه الكنسي، والذي بلا شك كان يبتهج بالأعياد الكنسية على مر أيام السنة، لكنه يجد في كل يوم يعيش فيه مع الله عيدًا. فالمسيحي أعياده لا تنقطع إذ يدخل إلى الفرح السماوي ويتذوق عربون الملكوت الأبدي بغير انقطاع.

2. هبات الرئيس أو الملك:

لقد أراد الله أن يحفظ حق الملك وعائلته، وأيضًا حق الشعب، فقد حدد نصيب كلٍ في الأصحاح السابق. لكن إن أراد الملك أن يقدم هبة لأحد من ميراثه فقد ميز الله بين حالتين: إن كان المتمتع بالهبة ابنا للملك تبقى الهبة ميراثًا له ولأولاده بلا توقف، لأنها تبقى الأرض في ملكية العائلة المالكة، أما إن كانت الهبة لأحد أفراد الشعب، فتبقى له حتى سنة العتق فترد العطية للملك، بهذا لا يتسرب ميراث العائلة الملكية إلى الشعب، ولا ميراث الشعب إلى العائلة المالكة، إذ لا يجوز للملك أن يغتصب أو يقتني شيئًا من ميراث الشعب.

لعل في هذا أيضًا صورة رمزية للميراث في العهد الجديد، فهناك فارق بين الابن والعبد، الابن يرث ويملك إلى الأبد، أما العبد فيتمتع ببركات مؤقتة. لهذا إن أردنا أن نصير ورثة لله، ووارثين مع المسيح الابن الوحيد فلا مجال للميراث الأبدي إلا من خلال التمتع بالميلاد الجديد أو نوال روح البنوة لله.

3. مواضع للطبخ والخبيز:

حدد الرب مواضع للكهنة للطبخ في مخادعهم في الدار الداخلية، كما حدد مواضع أخرى في أطراف الدار الخارجية، في الأربعة أركان... كما حدد أماكن للخبيز.

شتان بين من يدخل الدار الداخلية وبين من يبقى في الدار الخارجية... لكن لا يُترك أحد جائعًا مادام قد دخل إلى الشركة مع السيد المسيح. إنه يُعطي الجميع من مقدساته... لكن يليق بنا أن ندخل دومًا وبغير انقطاع نحو الداخل لكي تكون لنا شركة حياة داخلية معه وشبع من مقدساته.


 

من وحي حزقيال 46

أنت هو راحتي وعيدي الدائم!

v   ما أعجب شرائعك التي سننتها لقلبي، الذي هو هيكلك!

لا تسمح للداخلين إليه إلا أن يسيروا باستقامة!

أنت الحق الذي لا يقبل الانحراف!

v   قدمت لي شريعة أعيادك الأسبوعية والسنوية،

هي سبوت الراحة وأعياد الفرح.

أنت هو سبوتي... أنت راحتي أيها المخلص!

أنت فرحي وعيدي الدائم يا واهب القيامة!

أنت تسبحتي التي لا تنقطع!

v   جعلت للملك حقوقه والتزاماته، وأيضًا للشعب!

ليس لأحد أن يغتصب الآخر أو يستغله!

احفظ عقلي بروحك القدوس ليملك بالعدل،

ولا يفسد حياتي!

v   في اهتمامك بكهنتك أمرت بأماكن للطبخ والخبيز.

عجيب أنت أيها الخبز السماوي،

فإنك تطلب شبع الكل!

<<

 

 

 


 

الأصحاح السابع والأربعون

المياه المقدسة والأرض المقدسة

بعد أن تحدث عن بعض الشرائع الخاصة بالهيكل الجديد تحدث عن:

1.  المياه المقدسة          [1-12].

2. الأرض المقدسة         [13-23].

1.  المياه المقدسة:

في ذهن أنبياء العهد القديم كان عصر المسيا هو العصر الذهبي الذي طال انتظار العالم له، وصفوه كعصر غني بالمياه الفياضة... وقد سبق لنا الحديث عن هذا الأمر[332]، إذ يرى زكريا النبي في هذه المياه المقدسة سر طهارة الشعب (زك 13: 1) ويوئيل النبي سر قداسته (3: 18) وإشعياء النبي سر تحويل البرية إلى حقول مزهرة (44: 3 الخ)... أما حزقيال النبي فيرى الرب قد غسل البشرية وطهرها من نجاساتها، إذ يقول لها "حممتك بالماء وغسلت عنك دماءك ومسحتك بالزيت" (16: 9) كما يختم حديثه عن الهيكل الجديد بوصفه للمياه المقدسة النازلة من تحت عتبة البيت نحو المشرق من الجانب الأيمن للبيت عن جنوب المذبح (حز 47: 1-12) ويلاحظ في هذا الحديث الآتي:

أ. رأى حزقيال النبي المياه تخرج من تحت عتبة البيت نحو المشرق "لأن وجه البيت نحو المشرق، والمياه نازلة من تحت جانب البيت الأيمن عن جنوب المذبح" [1]. ما هو هذا البيت المتجه نحو المشرق إلا كنيسة العهد الجديد التي تتجه نحو السيد المسيح مشرقها، وتحتضن المذبح المقدس حيث تقدم عليه ذبيحة العهد الجديد، أما هذه المياه المقدسة التي تخرج من تحت عتبته فهي "المعمودية المقدسة" التي بدونها لا يقدر أحد أن يدخل إلى العضوية في كنيسة المسيح، هذه المياه التي تستمد قوتها من خلال الذبيحة، كقول الرسول: "الذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، الثلاثة هم في الواحد" (1 يو 5: 8) هذه هي المعمودية المسيحية التي هي من فعل الروح القدس الذي يعمل فيها من خلال دم السيد المسيح.

هذه المياه مطهرة للعالم، وكما يقول القديس جيروم: [إذ يسقط العالم في الخطية ليس من يقدر أن يطهره مرة أخرى سوى ينبوع المياه[333]].

ب. رأى حزقيال النبي رجلاً قاسَ ألف ذراع وعبر به في المياه ثم ألفا ثانية فثالثة وعند الرابعة يقول: "وإذا بنهر لم أستطع عبوره، لأن المياه طمت، مياه سباحة نهر لا يعبر. قال لي: أرأيت يا ابن آدم؟ ثم ذهب بي وأرجعني إلى شاطئ النهر" [5-7]. ما هذا المنظر إلا العبور بحزقيال النبي إلى سر المعمودية؟! نحن نعرف أن رقم 1000 يشير إلى الحياة السماوية لأن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، وكأن حزقيال النبي قد دخل إلى الحياة السماوية من خلال المعمودية، أما تكرار الألف أربع مرات فلأن عمل المعمودية يحتضن شعوب المسكونة من أمم وشعوب قادمة من كل أنحاء العالم (المشارق، والمغارب والشمال والجنوب)، لكي يصطبغ المؤمنون بصبغة سماوية. عندئذ تأمل النبي في أسرار المعمودية فوجدها تفوق كل إدراك بشري، إذ رآها مثل نهر لا يمكن عبوره، والتزم بالعودة إلى الشاطئ ليتأمل عمل الله مع الناس خلال هذه المياه المقدسة.

ج. سؤال النبي: أرأيت يا ابن آدم؟ يذكرنا بقول الله لآدم: أين أنت؟ فإذ كان آدم قد فقد بهاء طبعه وأمجاده في الفردوس، فإنه يستعيد الآن ما قد فقده. هذا هو سر السؤال التعجبي.

د. عند رجوعه إلى الشاطئ رأى النبي أشجارًا كثيرة جدًا من هنا ومن هناك" [7].  إنها صورة رمزية للمؤمنين المغروسين علي مجاري المياه المقدسة، يعطون الثمار في أوانها، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعونه ينجحون فيه (مز 1: 3). هؤلاء هم المؤمنون الذين حل عليهم الروح القدس فصاروا أشجارًا كثيرة جدًا في فردوس الرب.

هـ.  رأى أيضًا "السمك كثيرًا جدًا لأن هذه المياه تأتي إلى هناك فتُشْفَي ويحيا كل ما يأتي النهر إليه" [9]. رأى السمك وإذا هو من أنواع كثيرة كسمك البحر العظيم كثير جدًا [10]. وكما تشير الأشجار إلى المؤمنين المتشبهين بالسيد المسيح "شجرة الحياة" هكذا يشير السمك إلى المؤمنين الذين يتشبهون بالسيد المسيح "السمكة (اخسوس)"، يعيشون في مياه المعمودية. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يدعي المسيح مجازيًا بالسمكة[334]]. ويقول العلامة ترتليان: [نحن السمك الصغير بحسب سمكتنا يسوع المسيح قد ولدنا في المياه، ولا نكون في أمان بأيه طريقة ألا ببقائنا في المياه علي الدوام[335]].

ز. يتحدث عن تقديس المياه، قائلاً: "لأن مياهه خارجة من المقدس" [12].

2. الأرض المقدسة:

بعد أن تحدث عن الهيكل المقدس والمدينة المقدسة بدأ يحدد الأرض المقدسة التي وعد بها شعبه، وتقسيمها بين الأسباط، وهنا نلاحظ:

أ. يقول: "رفعت يدي لأعطي آباءكم إياها، وهذه الأرض تقع لكم نصيبًا" [14].  وكأنه يقدم لهم تأكيدًا أنه لن يحنث بالقسم الذي تعهد به (برفع يديه) لآبائهم، إنه يبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانة الإنسان.

ب. حدد الرب بنفسه موقع الأرض بكل تخومها من جميع الجهات، فإن الله يهتم بأولاده ويحدد لهم مسكنهم لأجل راحتهم.

ج. أعطى الرب لسبط يوسف نصيبين [13] حتي تقسم الأرض إلى اثني عشر قسمًا، لأن سبط لاوي ليس له نصيب في الأرض، بل الرب نفسه هو نصيبه. ويكون التقسيم بالقرعة حتي لا يعطي فرصة للعوامل الشخصية أن تتدخل في تحديد نصيب كل سبط  [22].

د. أعطي للغرباء الساكنين في وسطهم حق المقاسمة في الميراث [22-23]، إشارة إلى دخول الأمم في الميراث الأبدي من خلال الكرازة بالإنجيل إذ يكون الكل واحدًا في المسيح بلا تمييز (رو 10: 12).

 


 

من وحي حزقيال 47

يا لعظمة المعمودية!

v   رأى زكريا نبيك في مياهك تطهيرًا،

ويوئيل تقديسًا،

وإشعياء اثمارًا، إذ يتحول قفري إلى جنة لك.

وحزقيال غسلاً وتطهيرًا من نجاساتنا وتجديدًا لطبيعتنا!

v   يا لعظمة المعمودية!

فهي الغسل والتقديس والاثمار والاستنارة،

علي جوانبها أشجار مقدسة، جنة إلهية.

داخلها سمك كثيرًا!

هب لي أن أحيا في مياه معموديتك فأحيا وأنمو علي الدوام!

v   لا تحرمني من النصيب الذي أعددته لي

في الأرض الجديدة.

معموديتك تدخل بي إلى ميراث مجدك أيها العجيب في عظمتك.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثامن والأربعون

تقسيم الأرض المقدسة

نختتم الرؤيا بتقسيم الأرض المقدسة، وتحديد أنصبة الأسباط، مع وضع خطة للمدينة المقدسة وأبوابها وإعطائها الاسم الجديد:

1. تقسيم الأرض المقدسة            [1-29].

2. خطة للمدينة المقدسة             [30-35].

1. تقسيم الأرض المقدسة:

في اختصار حددت الرؤيا تقسيم الأرض المقدسة هكذا:

أ. حددت سبعة أسباط شمال الهيكل [1-7] وخمسة أسباط  جنوب الهيكل [23-29]، فصار الهيكل بهذا يمثل القلب النابض لجميع الأنصبة، سر حياة سكانها وتقديسهم.

ب. قبل السبي كان الشعب منقسمًا إلى مملكتين، إحداهما تضم عشر أسباط سباهم أشور، والثانية تضم سبطين سباهما بابل... أما هنا في ظل نعمة الله الغنية، في الهيكل الجديد، فتوجد مملكة المسيح الواحدة بلا انقسام.

ج. تحديد أرض الهيكل والكهنة (8-11)، حيث يوجد الهيكل يوجد الكهنة يخدمونه، لهم تقدم القرابين. مرة أخرى يؤكد مكافأة بني صادوق على أمانتهم على قدسية الهيكل حينما ضلَّ اللاَّويُّون [11] لهذا استحقوا وحدهم دون سواهم تقديم الذبائح على المذبح والاقتراب من هذه المقدسات.

د. التقسيم هنا مختلف تمامًا عن التقسيم الذي حدث في أيام يشوع بن نون، ويرى المفسرون أن هذا التقسيم لا يمكن فهمه بطريقة حرفية بل يُفهم بمعنى رمزي.

في تقسيم أرض كنعان في أيام يشوع بن نون نال سبط دان نصيبه في نهاية كل الأسباط (يش 19: 40)، بينما هنا ينال نصيبه في بداية كل الأسباط [2]. وكأن الإعلان الإلهي يود أن يؤكد لنا أننا سنرى في يوم الرب أمورًا عجيبة لم نكن نتوقعها... أولون يصيرون آخرين، وآخرون يصيرون أولين.

يقول العلامة أوريجانوس: [إننا نجد جبابرة عظماء هنا يظهرون كأطفال صغار في يوم الرب، والعكس أيضًا. كما يقول إننا نرى رجالاً أبطال في الإيمان الظاهري يظهرون ضعفاء، وأيضًا العكس!].

وكأن يوم الرب يكشف خفايًا عجيبة لا نتوقعها!

هـ. كل سبط يأخذ نصيبه من الله بما يناسبه، ينال ما يكفيه فلا يكون في عوز، ليردد مع المرتل قائلاً: "يختار لنا نصيبنا فخر يعقوب الذي أحبه (مز 47: 4). ويلاحظ أن حدود كل سبط تمثل حدًا للسبط الآخر، علامة الشركة والوحدة خلال الحب المقدس المشترك.

و. الأرض المخصَّصة للخدمة لا يجوز التصرف فيها بالبيع أو بالتبادل، كما لا يقدم عنها بكورًا لأنها هي بعينها تمثل بكرًا للرب، مقدسة له [14].

ز. المدينة المقدسة مربعة الشكل، أضلاعها متساوية من كل ناحية، كما كانت مدن اللاويين قبلاً... وهي - كما يرى بعض المفسرين - لا يمكن تطبيقها عمليًا بطريقة حرفية لكنها تمثل مدينة الله الحيّ.

كان سكانها قبلاً غالبيتهم من يهوذا وأيضًا بنيامين حيث تقع المدينة في حدود السبطين، أما في المدينة الجديدة فيعمل فيها جميع الأسباط [19] بكونها تمثل ملكوت الله على الأرض لكل البشرية.

ح. يُعطى للملك نصيب خاص به يناسب مسئولياته [1] لكي لا يطمع في أنصبة الشعب.

2. المدينة المقدسة:

يلاحظ أنها تشبه المدينة الجديدة التي رآها القديس يوحنا الحبيب. والتي سبق لنا الحديث عنها في تفسيرنا لسفر الرؤيا (أصحاح 21) من حيث كونها مربعة، لها اثنا عشر بابًا، ثلاثة أبواب من كل جانب إشارة للدخول إلى السماء من خلال الثالوث القدوس، وعلامة انفتاح أبوابها على المشارق والمغارب والشمال والجنوب لتضم المؤمنين من كل لسان وأمة. وعلى الأبواب نقشت أسماء الأسباط رمزًا للكنيسة الجامعة التي تضم كل أسباط البشرية.

ويلاحظ أنه لم يَدْعُ المدينة "أورشليم" ولا "كنعان" بل أعطاها اسمًا جديًدا هو "يهوه شَمَّهْ" أي "الله هناك". هكذا سمع القديس يوحنا الحبيب صوتًا من السماء عن هذه المدينة قائلاً: "هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ 21: 3). وكأن ختام السفر كله هو الدخول مع الله في سكنى دائمة، وشركة واتحاد نوجد معه وفيه، وهو يسكن فينا إلى الأبد.

بدأ السفر برؤيا سماوية حيث المركبة الإلهية النارية المهوبة، فيسقط حزقيال نفسه على الأرض، من هناك الحكم الإلهي بتأديب الشعب، ومفارقة مجد الرب الهيكل والمدينة وينتهي السفر بانفتاح أبواب السماء أمام البشرية من المشارق والمغارب، من كل الأمم والشعوب والألسنة، يتمتعون بشركة المجد الإلهي!

 


 

من وحي حزقيال 48

أنت نصيبي! أنت مجدي!

v   فتحت أبواب السماء أمام نبيك حزقيال،

فارتعب أمام المركبة الإلهية النارية وسقط!

أقمته وسندته ليعلن أسرارك!

سمع عن تأديبات الشعب فاضطرب!

رأى مجدك يُفارق هيكلك ومدينتك فحزن!

هوذا الآن تريه خطة خلاصك،

سماء مفتوحة،

وشعب من كل لسان ينعم بشركة مجدك أبديًا!

v   لتحملني إلى سمواتك،

أُريد أن أرى مدينة أورشليم العليا،

ألتقي بك وجهًا لوجه،

وارتمى في أحضانك إلى الأبد!

أنت نصيبي!

أنت فرحي وبهجة قلبي!

أنت إكليلي ومجدي!

متى أراك وأبقى معك يا شهوة قلبي؟!

<<


 

[1] Baker's Pictorial Introduction to the Bible, 1967, p.189.

[2] Ibid 192.

[3] Torgum: Yer. quoted by Kimhi on Ezek. 1:3.

[4] اسم كادي لا يعرف معناه، يسمى في العبرية كاباري، وهو غالبًا قناة خابارو القديمة في جنوب شرق بابل. وهو غير نهر خابوراس الذي يجري على مقربة من نصيبين في أعالي بلاد ما بين النهرين ويصب في الفرات.

[5] اشتهر حامورابي بشريعته، وهو الملك السادس في الأسرة الأولى لبابل. وقد وجد في عصره ملوك يحملون اسمه في شمال سوريا كما ظن البعض خطأ أنه هو امرافل ملك شنعار الإقليم الواقع حول بابل (تك 1:14،9). اتسعت مملكة حامورابي جدًا، وجاءت رسائله إلى رجاله في كل مملكته ودستور قوانينه المشهورة مع بعض وثائق كثيرة له تكشف عن نجاحه في إدارة أمور مملكته قانونيًا وتجاريًا خلال رجاله الرسميين، وقد أعطى للدولة صبغة علمانية أكثر من الملوك السابقين له، وإن كان أولى الكهنة والمعابد والعاملين فيها الاهتمام، كما ركز على الإله مردوخ كإله لبابل، يمثل الجانب القومي لها.

[6] S.L. Caiger: Lives of the Prophets. SPCK 1936, p.148.

[7] The Jewish Encyclopedia, vol. 5, p. 314.

[8] The Jewish Encyclopedia, vol.5 , p. 316.

[9] Cf. Boyd's Bible Handbook, p. 298.

[10] Cf. The Jerome Biblical Commentary, London 1970, p. 345.

[11] Boyd's Bible Handbook, Oregon 1983, P. 269.

[12] The Jerome Biblical Commentary, London, 1970, p. 344-345.

[13] Boyd's Bible Handbook, p. 296.

[14] Baker's Pictorial Intr., p. 192.

[15] John Howard Raven: Old Testament Introduction, 1910, p. 205-6.

[16] Edward P. Blair: The Illustrated Bible Handbook, 1987, p. 177.

[17] Henrietta C. Mears: What the Bible is All About, 1987, p. 216.

[18] New Westminster Dict. of the Bible: Ezekiel.

[19] In Ezek. homily 1:4.

[20] Scripture Union: The Bible in Outline, 1989, p. 137.

[21] See The Jewish Encyclopedia, vol.5, P.315.

[22] The Jewish Encyclopedia, vol. 5, p. 316.

[23] "تل أبيب" بالعبرية "كومة القمح"، وفي الفولجاتا "تل السنبلة"، وبالسريانية "تل حبيب" أى   "تل الأحزان". تقع جنوب شرق بابل، وهي غير تل أبيب الحالية التي أنشأها اليهود عام1909  بالقرب من يافا في فلسطين كمركز لليهود المهاجرين.

[24] Hom., 75

[25]  راجع كتابنا: الخروج ،1981 ،اصحاح3.

[26]  راجع كتابنا: الخروج ،1981، ص40-42.

[27] كلمة"بيل" ترادف "بعل" في العبرية. وهو الإله القومي، والرئيسي في بابل، يسمى "مردوخ" إش1:46 ،إر2:50،44:51، إله الشمس والربيع.

[28]  الحب الرعوي، 1965، ص 654.

[29] J. Hastings: Dict. of the Bible, N.Y.1977, p. 1037

[30] J. Hastings: Dict. of the Bible, N.Y.1977, p. 1037.

[31] St. Augustine: On Ps 50:3.

[32]  للمؤلف: رؤيا يوحنا اللاهوتي، 1979، ص16، 17.

[33] On Ps. 60:2.

[34] Ad Hesych. 45

[35] PL 15 ; 1814

[36] Sunday Sermons of the Great Frs, vol 2 ,1964, p. 42.

[37] Cat. Lect. 17,14.

[38]  المؤلف: الحب الإلهي ، ص847.

[39] On Ps. 50.

[40] On Ps. 66;10.

[41]المؤلف: رؤيا يوحنا اللاهوتي، 1979، ص62-66. 

[42]  أسقف Pateu ، استشهد عام 304م. 

[43] P G 33 ; 428.

[44] Theodore of Mopseustia ; Cat. Hom., 13:17.

[45] Epist. 53:9

[46] On Ps. , hom 10.

[47] On Ps. , hom 25.

[48] On the Holy Spirit 3:21.

[49] In Matt, hom., 47:4.

[50] In Ioan ,hom 1,6.

[51] Bishop, Ignatius Brianchaninov: the Arena, Medras 1970, p. 7.

[52]  المؤلف: الحب الإلهي ،1967، ص770.

[53]  المؤلف: رؤيا يوحنا اللاهوتي ، اصحاح 4.

[54] Four Homilies, 2.

[55] In Hom 11:3. 

[56] De Trinit. 3.

[57] Jean Daniélou ; The Origins of Latin Christianity, 1977, p. 242.

[58] 1. See H. A. Ironstone: Ezekiel, ch. 2.

[59] للمؤلف: الحب الرعوي، 1965، ص، 17.

[60] المرجع السابق ص 193، 196.

[61] In Matt, hom 68:1.

[62] راجع للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم،  1980 ، ص 170، 171.

[63] المرجع السابق ص، 158.

[64] Instr. 1 ; 9.

[65] In 2 Thess PG 62:498.

[66] المؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم ، ص 186.

[67] الترجمة السبعينية "تسبحه أو أغنية".

[68] Conc. Statues, hom 1:1, 2.

[69] Comm. Ioan. 5:3.

[70] Conc. Repent: 2: 6.

[71] Epis. 147: 3 ( See Epis. 122:1)

[72] Epistle 51:3.

[73] Ibid 40:1.

[74] De Terrac. motu. p 650 ;714.

[75] Conc. Statutes, Homily 13:12.

[76] Sermon 1:3.

[77] Ibid 1:15.

[78] للمؤلف: الحب الرعوي، 1965، 709، 710.

[79] للمؤلف: الحب الرعوي، 1965، ص 694.

[80] In Acts, PG 60: 378.

[81] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1981، ص 322.

[82] الدكتور وهيب جورجي: مقدمات العهد القديم، 1985، ص 276.

[83] Epist. 70 ; 2.

[84] حز 5: 13، 15، 17؛ 17: 21؛ 24؛ 17؛ 21، 17، 32؛ 23: 34؛ 24: 14؛ 26: 4؛ 30: 12؛ 34: 24؛ 36: 36؛ 37: 14.

[85] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم ، ص322.

[86] عا 7: 9؛ هو 4: 13؛ إر 2: 20، 23؛ 7: 31-32؛ إش 57: 3-12؛ زك 12: 7؛ ملا 2: 10-11.

[87] ST. Jerome:  In Ps , hom 9. (On Ps 76: 4).

[88] فى الترجمة السبعينية "غابات".

[89] ربما يقصد التماثيل الخاصة بعبادة الشمس.

[90] إذ أقاموا اغلب المعابد الوثنية على المرتفعات لهذا صار تعبير "المرتفعات" يشير إلى الهياكل الوثنية بصفى عامة.

[91] الترجمة السبعينية.

[92] الترجمة السبعينية.

[93] كلمة عبرية تعنى "حلقة مستديرة أو كعكة".

[94] اسم سامى يعنى جمهور أو كثرة .

[95] في الترجمة السبعينية "شبه منظر انسان ish  وليس نار esh ، وهذا يتفق مع الوصف.

[96]  المؤلف: تفسير الرؤيا، الأصحاح 13.

[97] Boyd's Bible Handbook, P 302.

[98] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر.

[99] Selecta in Eze.

[100] An Answer to the Jews 11.

[101] Adv. Marc, 3: 22.

[102] In Ccolos, Hom 8.

[103] In Tim. Hom 2.

[104] St. Augustin: Sermon on N.T. Lessons 57: 7.

[105] St. Augustin: Sermon on N.T. Lessons 57: 7.

[106] In Matt. Hom 14: 10.

[107] In Eph., hom 23.

[108] المؤلف: الكنيسة بيت الله، 1979 ، ص 39، 40.

[109] Lect. Cat. 16: 14.

[110] Ibid 16: 13.

[111] Ibid 16: 30.

[112] الترجمة السبعينية.

[113] راجع كتابنا: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر.

[114] Reply to Faustus the Manichaean 18: 14.

[115] Conc. Stat., hom 19:11.

[116] Origen: In Ezek. hom. 2:1,2.

[117] Ibid 5.

[118] The Prayer of Job and  David, book 3:3:6.

[119] Ibid 3.

[120] Hom. 87.

[121] In Num., hom., 11:5.

[122] In Num., hom., 11:4.

[123] See: The Prayer of Job and David 7:24.

[124] In Ezek. hom 4:2.   ترجمة إيفون إلياس قيصر

[125] W.H. Morton: "Ras-Shnmra - Ugarit and Old Testament Exegesis" Review and Expostion 45 (1048), P 70-72.

[126] On Forgivness of Sins and Baptism.

[127] In Ezek. hom. 4.

[128]  المؤلف: الحب الإلهي ، 1967  ، ص43.

[129] St. Augustine: In Ioan., tract 81:3

[130] In Ezek. hom. 7:1.

[131] المؤلف: تلميذتي لأب اعترافي، 1974، ص63.

[132] An Answer to the Jews, 9

[133] In Ioan, tnact 53:9

[134] In Ezek. hom. 7:1.

[135] In Ezek. Hom. 9:1.

[136] Boyd's Bible Handbook, P. 302.

[137] In Matt. , hom. 13:2.

[138] In Cor, hom 39:17.

[139] بستان الرهبان (طبعة بني سويف 1976) ص 164.

[140] المرجع السابق، ص 165.

[141] الكنيسة تحبك (طبعة 1966) ص 53، 54.

[142] Epist. 178:28

[143] In Num. hom 20:2

[144] In Ezek. hom. 7:1

[145] بستان الرهبان، ص 318.

[146] المرجع السابق، ص 325.

[147] Cf. In Ezek. hom. 7:2.

[148] In Ezek. hom. 7:3.

[149] In Ezek. hom. 7:3.

[150] In Ezek. hom. 7:6.

[151] In Ezek. hom. 7:6.

[152] Letters to the Fallen Theodore 1:13.

[153] Epist 125:11.

[154] In Ezek. hom.8. ترجمة صموئيل فؤاد سامي 25

[155] Epist 68:1

[156] On Ps. , hom 51

[157] In Ezek. hom 9:2

[158] In Ezek. hom 9:1.

[159] In Ezek;. hom. 10:1.

[160] Ibid 10:2.

[161] In Ezek. hom. 9:3.

[162] الترجمة السبعينية

[163] الترجمة السبعينية

[164] In Ezek. hom. 11:1

[165] St. Chrysostom: Conc. Statues 19:9.

[166] In Ezek. hom. 11:4.

[167] Ibid.

[168] الترجمة السبعينية: "ذو مخالب كثيرة" علامة قوته في الحرب.

[169] الترجمة السبعينية .

[170] In Ezek. hom. 11:3.

[171] Ibid.

[172] راجع 2مل 25 بخصوص السبي الأخير  ليهوذا وتدمير أورشليم.

[173] Conc. Stat. 19:8.

[174] ibid 7 ; 10.

[175] ibid 8: 6.

[176] ibid 14: 5.

[177] ibid 15:15.

[178] Isaac or the Soul 7:16.

[179] In hom. 80

[180] In Eph. hom  18

[181] Comm. In Matt. 13: 9,

[182] On the Belief in the Resurr. 2; 36 , 37,

[183] Instructor 1 ; 10.

[184] Epist 147:10.

[185] Adv. Eunomius 2: 13.

[186] On Ps. 109,

[187] Instructor 1: 10.

[188] In Joan. tract. 33:8.

[189] Sermons on N.T. Lessons 37:10.

[190] ibid 21:21.

[191] Ep, to a lapsed monk 44:2.

[192] Sermon 18:2.

[193] On Repentance 4.

[194] Vita S. Antoni 18.

[195] Ep. to Clilo his disciple 42:2.

[196] In 2 Tim., hom 3.

[197] Strom. 7:7.

[198] Sermon 18:4.

[199] In Matt. 2:11.

[200] للمؤلف: الحب الرعوي ، 1965، ص 466.

[201] المرجع السابق، ص 503 ، 504.

[202] للمؤلف: الحب الإلهي، 1967، ص 95.

[203] المرجع السابق، ص 93.

[204] St. Augustine: City of God, 22:30.

[205] للمؤلف: المسيح في سر الافخارستيا، 1973، ص 125.

[206] "تيمن"  كلمة عبرية تعني "يميني " أو " جنوبي".

[207] Isaac, or the Soul, 5:39.

[208] "تراقيم" كلمة عبرية تعني  "مسعدات"، وهي أصنام أو آلهة رب البيت، صغيرة الحجم جدا لسهولة حملها في الهروب بسرعة، يعتقد الناس أنها مجلبة للفأل الحسن وكانت تستشار في كل المقترحات (زك 10: 2) بحسب القانون البابلي   كان لمن عنده الترافيم الحق في أن يرث النصيب البكر. وقد أباد يوشيا الترافيم مع غيرها من الأصنام (2 مل 23: 24).

[209] للمؤلف: الحب الإلهي ، 1967 ، ص 232 - 234.

[210] In Exod., hom., 5:2.

[211] In Num., hom 17:3.

[212] In Num., hom 17:3.

[213] On Ps. hom 34.

[214] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر.

[215] PG 44:984 A.

[216] Cat. Hom., 13:17.

[217] اسم عبري يعني "بني شعبي".

[218] كلمة عبرية وعمونية تعني "كبيرة"، تقع عند منبع يبوق، شرق الأردن بحوالي 23 ميلاً جملها بطليموس فيلادلفيوس (285-246) ق.م (فسميت فيلادلفيا تكريما له.) ،حاليا مدينة عمان.

[219] بستان الرهبان ، طبعة 1968 ، ص 338.

[220] المرجع السابق ، ص 341.

[221] المرجع السابق ص 341.

[222] On Ps., hom 34.

[223] "بيت بشيموت" اسم عبري يعنى "بيت القفار" وهى مدينة في موآب يقال أنها تل عظيم تبعد 5ر2 ميل شمال شرقي البحر الميت (يش3:12).

[224] "بعل معون" اسم موآبي يعني "بعل السكن"، حاليا تدعى "معين" تبعد 9 ميل جنوب غربي حسبان، بها الآن حرب كثيرة.

[225] "قريتايم" اسم عبري يعنى "القرى" أو "المدن"، بناها بنو راوبين مع حشبون(عد37:32) أو جددوها، لكنها تحولت بعد ذلك إلى مملكة موآب. تسمى حاليًا "القريات " تبعد 10 أميال جنوب بعل معون.

[226] بستان الرهبان ، ص 441.

[227] St. Jerome: On Ps., hom 15:34.

[228] سالع Sela، ربما في موقع البتراء Petra  حاليًا.

[229] Josephus ; Antiq. lib 13, cap 17.

[230] ربما طويلان Tauihan بجوار البتراء.

[231] في الجنوب (إر7:49،8 وهى غير دوان العربية (20:27، 1:38).

[232] On Ps. , hom 15.

[233] قاموس الكتاب المقدس ، ص 559-561.    New Westminster Dict. of the Bible, "Tyre".

[234] PL 25:240.

[235] اسم أموري يعني "جبل أو جبل النور"، أطلقه الأموريون على جبل حرمون (تث9: 3)، ولو أن في (أي23: 5) ذكر الاثنان كجبلين مختلفين، لكن الأغلب أن سنير قسم من جبل حرمون (جبل الشيخ).

[236] اسم عبري يعني "أرض مستوية أو ممهدة" ، تقع في أرض كنعان شرقى الأردن بين جبلى حرمون وجلعاد (عد33: 21)، تربتها خصبة للغاية وماؤها غزير. ذكرت في الكتاب المقدس حوالى 60 مرة.

[237] سواحل أليشة، جزء من جزيرة قبرص.

[238] "صيدون" اسم سامي يعني"مكان صيد السمك" وهى مدينة فينيقية غنية تبعد 22 ميلاً شمال صور، وتعتبر من أقدم مدن العالم، أخذ اسمها من بكر كنعان بن حام بن نوح (تك15: 10). كانت تؤلف الحدود الشمالية من كنعان (تك19: 10)، لكن بنو إسرائيل لم يمتلكوها (قض31: 1)، وفي أيام القضاة ظلموا بنى إسرائيل، وقد عيدوا البعل (1مل32: 16) إلا أن معبودهم الأول هو عشتروت إله الخصب (1مل5: 11).

تنبأ ضدها الأنبياء، فقال حزقيال النبي إنها كانت لإسرائيل سلاء ممرًا (21: 28،22،24) واتهمها يوئيل النبي مع غيرها أنهم غزوا أورشليم وأخذوا فضتها وباعوا بنيها وبنى يهوذا عبيدًا (يؤ4: 3-16).

خضعت صيدون لفارس ثم ثارت على فارس، وفتحت أبوابها للإسكندر الأكبر تخلصًا من الفرس، وفي سنة 63ق.م أخذها الرومان.

[239] "إرواد" ربما تعني"تية"، يحتمل أن تكون هي أرفاد، وتسمى الآن "رواد". تقع على جزيرة صغيرة تبعد ميلين من الشاطئ السورى، وتبعد 30 ميلاً شمال طرابلس.

[240] غالبًا ليديا بغرب آسيا الصغرى، جاء في (تك13: 10) أن شعب لودينتسبون إلى المصريين، وقد عرفوا كرجال حرب خاصًا في حرب القوس (إر9: 6). وفي الترجمة السبعينية جاءت (ليبيو) واعتبرها يوسيفوس "ليبيا".

[241] فوط: شعب ذو صلة وقرابة بالمصريين (تك6: 10،أي8: 1)، يربط البعض فوط بلود بكونهما الجزء الشرقي من ليبيا الحالية.

[242] للمؤلف: كنيسة بيت الله، 1979، ص85-92.

[243] De antichr. 59.

[244] In Cor. homily 23: 2.

[245] هل الشيطان سلطان عليك؟ طبعة 1972 ، ص 58.

[246] العفة 18.

[247] القديس أنطونيوس الكبير (الفيلوكاليا، طبعة 1966، ص 19).

[248] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم، ص313.

[249] للمؤلف: الحب الإلهي ، ص 1033.

[250] سلم السماء ودرجات الفضائل 11: 15.

[251] James Hastings: Dictionary of the Bible. p. 958.

[252] Herod 1: 163: 4: 152.

[253] James Hastings: Dictionary of the Bible. p. 460.

[254] James Hastings: Dictionary of the Bible. p. 209.

[255] PL 25:240.

[256] Tert. Adv. Marc. 2:10.

[257] In Job. tome 2.c7.

[258] Cat Hom 2:5.

[259] PG 33:357A.

[260] للمؤلف:آباء مدرسة الإسكندرية ، 1980، ص 68-70.

[261] Herodotus 2:104.

[262] On Ps. hom 7.

[263] On Ps. hom 7.

[264] In Num., hom 11: 4.

[265] الترجمة السبعينية.

[266] A.J, Wensinch: Mystical Treatises, St. Isaac the Syrian, p. 7.

[267] Conirrum virinum, (Ench patr n 613).

[268] درجة 68:25،63.

[269] الترجمة السبعينية.

[270] للمؤلف: سفر الخروج، 1980. (حز 3: 7).

[271] راجع تفسير حز 3: 15-21 في هذا الكتاب.

[272] In Defence of His Flight to Pontus, 64.

[273] On His Father's Silence.

[274] City of God 1:9,

[275] Dial. with Heraclides,, 164.

[276] In Mat. hom 82;6.

[277] On Ps. 145:7.

[278] Adv. Marc. 2:13.

[279] . Ep.II.

[280] Ep. 54:6

[281] On Comm. Matt 13:30.

[282] للمؤلف:  الحب الرعوي، ص 496، 497.

[283] راجع كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم عن الرعاية كأبوة، في كتابنا: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980.

[284] Ep. 49;2.

[285] Ep. 127;9.

[286] On Matt, hom 2:6.

[287] Comm. Joan 1:23.

[288] City of God 18:34.

[289] سعير تعني شعر أو مملوء شعرًا، لهذا دعي عيسو "شعير".

[290] Epis. of Barnabas 11.

[291] In Luc 22:8.

[292] Epist. 74:5.

[293] راجع المؤلف: تلمذتي لأب اعترافي، 1974، ص 127-137.

[294] De Resur. Carn. 29,33.

[295] On Belief in the Resurrection 2:73.

[296] للمؤلف: الكنيسة بيت الله، فصل "الصليب".

[297] راجع تفسيرهما في حز 27: 13.

[298] Herad. 1:7-15.

[299] J. Hastings, p612.

[300] Josephus: Antiqu. 1:6.

[301] Herodotus 4:17-20,47-58.

[302] ترجم البعض كلمة "روسن" أنها "رأس" أو "رئيس".

[303] In Num., hom 15:1.

[304]Iibid 23:1.

[305] St. Jerome: On Ps., hom 19.

[306] On Ps. hom 41.

[307] للمؤلف: تفسير سفر الرؤيا (رؤ18:13)، آباء مدرسة إسكندرية (1980)، ص180.

[308] راجع للمؤلف: سفر الخروج،1981،ص 95.

[309] راجع تفسير حز15:37-28.

[310] Adv. Haer 5:17:4.

[311] المؤلف الكنيسة بيت الله، 1979، ص 333.

[312] Cat. Lect. 13:28.

[313] راجع للمؤلف: آباء مدرسة الإسكندرية الأولون؛ العلامة أوريجينوس - الكتاب المقد ، طبعة 1980.

[314] راجع للمؤلف: الكنيسة بيت الله، 1979، فصل 5،  المبني الكنسي والاتجاه للشرق.

[315] Banquet 3:8.  

[316] In Joan, hom 4.

[317]  Epist. 48:21.

[318] الحب الرعوي، 1965، ص 668.

[319] الحب الرعوي، 1965، ص 686.

[320]  On Num., hom., 21:1.

[321]  Ibid 11:1.

[322]  Ibid  11:5.

[323]  Ibid 11:4.

[324]  Ibid 11:6.

[325] PG 73:161.

[326]  PG 74:432. 

[327]  PG 25:140.

[328] On Num., hom 23:3.

[329] Ibid.

[330] On Num, hom 23:5.

[331] Ibid 23:3.

[332] راجع كتابنا: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، الباب الأول.

[333] Epist.  69:6.

[334] On Matt. , 5.

[335] عن المعمودية: راجع للمؤلف الكنيسة بيت اللّه، 1979، ص 311. 314.

 

الصفحة الرئيسية