القضاة

 

 

 

 

 

 

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

إن كان سفر يشوع هو سفر الخلاص المجاني، فيه يتسلم يشوع قيادة الشعب ليدخل بهم إلى أرض الموعد، يغلب الأمم الوثنية ويملك ويقَّسم، فإن سفر القضاة يكشف عن حال الإنسان في أرض الموعد، وقد إستهان بعطية الله العظمى، وتَراخى في المطالبة بمواعيده الإلهية المجانية، إذ فترت غيرة الشعب وانصرف غالبيته إلى مشاركة الأمم الوثنية التي تركوها في وسطهم في عبادتهم والتلذذ معهم بالخطية. لكن الله لا يترك أولاده في الرجاسات إنما يؤدب مستخدمًا الأمم ذاتها كعصا قاسية للتأديب، حتى متى رجع الشعب يرسل لهم الله خلاصًا وينقذهم.

نستطيع أن نقول بأن هذا السفر هو سفر حياة كل مؤمن ذاق عذوبة الحياة الجديدة في المسيح يسوع بكونها الأرض الروحية التي تفيض لبننًا وعسلاً، لكن عوض الإنطلاق فيها من قوة إلى قوة يتراخى مستهينًا بفيض نعمة الله، فيرتد إلى الحياة الجسدانية والفكر الأرضي القاتل، الأمر الله يدفع الله إلى تأديبه بالضيقات والآلام حتى يرده إليه إبنًا مقدسًا في الحق.

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

 


 

-

- قضاة

 

الأصحاح الحادي عشر (إقامة يفتاح قاضيًا)

- الباب الأول الأصحاحات [1 -2]

 

الأصحاح الثاني عشر (حرب يفتاح مع أفرايم)

الأصحاح الأول (الاستيلاء على بقية كنعان)

 

الأصحاح الثالث عشر  (شمشون)

الأصحاح الثاني (مقدمة في لاهوتيات السفر)

 

الأصحاح الرابع عشر (زواج شمشون بأممية)

- الباب الثاني الأصحاحات [٣-١٦]

 

الأصحاح الخامس عشر (صراع شمشون)

الأصحاح الثالث (عثنيئيل بن قناز)

 

الأصحاح السادس عشر (شمشون ودليلة)

الأصحاح الرابع (دبورة النبية وباراق)

 

- الباب الثالث  الأصحاحات [17-21]

الأصحاح الخامس (تسبحة دبورة)

 

الأصحاح السابع عشر (تمثال ميخا)

الأصحاح السادس (ملاك الرب وجدعون)

 

الأصحاح الثامن عشر (اغتصاب التمثالين)

الأصحاح السابع (جدعون والمديانيون)

 

الأصحاح التاسع عشر (اللاوي وسريته)

الأصحاح الثامن (قتل زبح وصلمناع)

 

الأصحاح العشرون (حرب ضد سبط بنيامين)

الأصحاح التاسع (فتنة أبيمالك)

 

الأصحاح الحادي والعشرون (مرارة في إسرائيل)

الأصحاح العاشر (إنحراف إسرائيل)

 

 

 

 

 

 

 


 

قضاة

قضاة:

اسم هذا السفر في العبرية "شوفطيم" جمع "شوفط"، إي (قاضٍ)؛ وإن كانت كلمة "قاضٍ" لا تعبر تعبيرًا دقيقًا عن الأصل العبري، المأخوذ في الغالب عن الكنعانية (عا 2: 3)، والتي تعني "قائد" أو (رئيس). فإن القضاة المذكورين في هذا السفر ليسوا قضاة بالمفهوم العام لنا، فلم يكن عملهم القضاء وإصدار أحكام حسب شريعة مكتوبة أو تقليد شفوي[1]. بمعنى آخر لم تكن رسالتهم تحقيق العدل بتطبيق القانون، وإنما رد البر وإعادته في حياة الجماعة، والدفاع عن حقوق هذه الجماعة وتخليصها من الضيق الذي تسقط فيه[2].

هؤلاء القضاة الذين ظهروا في الفترة ما بين موت يشوع وبدء عصر الملوك (شاول)، كانوا ذوي سلطة لكن ليس كالملوك. فكان الحاكم إلهيًا. بمعنى أن الله هو الملك الحق للشعب، يعمل خلال رئيس الكهنة كمُبلغ للمقاصد الإلهية. وكان كل سبط يدبر إموره الخاصة به بواسطة رئيس السبط، أما الأمور الكبرى التي تمس الجماعة على مستوى جميع الأسباط أو بعضها معًا كمحاربة الأعداء والتخلص من نيرهم فيرجع إلى القاضي الذي ليس له أن يسن الشرائع ولا أن يضع أثقالاً على الشعب وإنما يحكم ويؤدب خاصة المنحرفين إلى العبادة الوثنية ويقود المعارك ضد الأمم.

كان الله هو الذي يُقيم القاضي، وأحيانًا الشعب يختارهم؛ وكان غالبيته لا يحمل السلطة على مستوى الإثنى عشر سبطًا بل على مستوى محلي.

غالبًا ما كان يُنظر للقاضي كمخلص، ينقذ الشعب من سطوة الوثنيين خلال التوبة والرجوع إلى الله مع الجهاد.

كاتب السفر:

كاتب هذا السفر على ما يُظن هو صموئيل النبي كما جاء في التقليد اليهودي[3] وقبله كثير من آباء الكنيسة. وقد أكدّ هذا شهادة السفر الداخلية، إذ يظهر أنه كُتب بعد تأسيس النظام الملوكي (19: ١، 21: 15)، وقبل سبي أورشليم (1: 21)، وضمها إلى مدن اليهود في زمن داود الملك (٢ صم ٥: ٦-٨) وبذلك يكون قد كُتب في أيام شاول الملك أو بداية عهد داود الملك[4]، وكان نبي ذلك الزمان هو صموئيل.

ذهب البعض إلى أن كاتب السفر هو حزقيا، ونادى فريق آخر أن عزرا قد جمعه مما كتبه القضاة كل في زمان قضائه. ويعتمد هذا الفريق على العبارة "إلى سبي الأرض" (18: 3) حاسبين أن السفر كُتب بعد السبي البابلي، لكن يظهر مما جاء في (مز 78: 6، 61؛ ١ صم 4: 11) إن السبي هنا يعني ما حدث حين أخذ الفلسطينيون التابوت. هذا وقد جاء السفر خاليًا من الإلفاظ الكلدانية مما يؤكد كتابته قبل السبي البابلي.

وحدة السفر:

حاول بعض النقاد تمزيق وحدة السفر إلى ثلاث وحدات بكون كاتب صلب السفر (ص ٣-١٦) غير كاتب المقدمة (ص ١، ٢) وغير كاتب الملحق له (ص ١٧-٢١)، إذ يرون أن كاتب الملحق في عصر متأخر جدًا. وقد أكد رتشارد فرنش Richard Valpy French وحدة السفر خلال دراسته له من الناحية اللغوية إذ وجد كلمات عبرية كثيرة مشتركة بين صلب السفر والملحق، وبين مقدمة السفر والملحق، وبين المقدمة وصلب السفر[5].

غاية السفر:

يمكننا القول بأن الفترة التي عاصرها القضاة هي فترة إرتداد فيها انشغل الشعب عن متابعة الجهاد لامتلاك أرض الموعد وانهمكوا في العبادة الوثنية ومشاركة الأمم رجاساتهم. لكنه وُجدت قلة من المؤمنين عبدوا الله، كما يشهد بذلك وجود خيمة الاجتماع في شيلوه (١٨: ٣١)، والاحتفال بالعيد السنوي (٢١: ١٩) ووجود رئيس الكهنة والإهتمام بتابوت العهد (٢٠: ٢٧-٢٨)، وتقديم ذبائح لله (١٣: ١٥-١٦، ٢٣، ٢٠-٢٦؛ 21: 4)، وممارسة الختان (١٤: ٣؛ ١٥: ١٨)، وتقديم نذور للرب (١١: ٣٠؛ ١٣: ٥).

جاء هذا السفر لا ليعرض تاريخ هذه الحقبة وإنما ليعالج مشكلة الارتداد، كيف يُفقد الجمعاعة المقدسة قدسيتها ووحدتها، ويحطمها أمام العدو ويذلها. هذا كله ثمرة الارتداد وبسماح إلهي حتى ترجع الجمعاعة إلى الرب بتوبة جماعية مشتركة وتنفتح قلوب الكل لله فيرسل عونًا وخلاصًا.

محتوياته:

يعالج هذا السفر فترة ما بين قرنين وثلاثة قرون أعقبت دخول شعب اسرائيل كنعان على يديّ يشوع، تبدأ بموت يشوع وتنتهي بموت شمشون أو قُبيل بداية صموئيل النبي وانطلاق عهد الملوك على يديه (شاول ثم داود).

يصعب جدًا تحديد مدة هذه الفترة من خلال السفر نفسه، لأنه لو جمعنا الفترات التي حكم فيها القضاء مع فترات الضيق أو العبودية للأمم حيث لم يكن يوجد قضاة لوجدناها 410 عامًا، غير الفترة الحقيقية التي لا تصل إلى هذا الرقم، لأن خلافة القضاة لم تكن متتالية بل عاصر بعضهم الآخر، إذ كان نفوذ البعض على مستوى محلي وليس على مستوى الشعب كله[6]. هذا وقد تأخر البعض عن البعض الآخر فلم يكن القضاة يمثلون حلقة متصلة كالملوك.

وفيما يلي جدول عام للتواريخ الخاصة بالقضاة (مع مراعاة تداخل الفترات فيما بينها).

 الشاهد

 

السنوات

٣: ٨

العبودية لكوشان رشعتايم

٨

٣: ١١

فترة قضاء عثنيئيل

٤٠

٣: ١٤

العبودية لعجلون

١٨

٣: ٣٠

سلام في أيام أهود وشمجر

٨٠

٤: ٣

مضايقة يابين لهم

٢٠

٥: ٣١

فترة قضاء دبورة وباراق

٤٠

٦: ١

الاستعباد لمديان

٧

٨: ٢٨

فترة قضاء جدعون

٤٠

٩: ٢٢

حكم أبيمالك (ليس قاضيًا)

٣

١٠: ٢

فترة قضاء تولع

٢٣

١٠: ٣

فترة قضاء بائير

٢٢

١٠: ٨

مضايقة العمونيين لهم

١٨

١٢: ٧

فترة قضاء يفتاح

٦

١٢: ٩

فترة قضاء إبصان

٧

١٢: ١١

فترة قضاء إيلون

١٠

١٢: ١٤

فترة قضاء عبدون

٨

١٣: ١

الإستعباد للفلسطينيين

٤٠

١٥: ٢٠

١٦: ٣١

فترة قضاء شمشون

٢٠

 

 

٤١٠

 

ورد في الكتاب المقدس ١٤ قاضيًا منهم إثنا عشر قاضيًا في هذا السفر، حتى دعى بسفر الإثنى عشر قاضيًا هذا باعتبار أبيمالك (ص ٩) ليس قاضيًا، واعتباره دبورة وباراق يمثلان قاضيًا واحدًا، إذ يرى القديسان أمبروسيوس[7] وچيروم[8] أن دبورة كانت قاضية، ويرى الأول أن باراق كان إبنًا لدبورة الأرملة والقاضية، وكان مجرد قائد حرب وليس قاضيًا.

المسيح في سفر القضاة:

إن كان سفر القضاة يمثل أحد العصور المظلمة لشعب بني إسرائيل بسبب تهاونهم في التمتع بكمال مواعيد الله وإنحرافهم نحو العبادة الوثنية بعد استقرارهم في أرض الموعد، فإن الله لم يترك شعبه بل كان يرسل لهم مخلصًا أو قاضيًا يدفعهم إلى حياة التوبة ويخلصهم من العدو الذي أسلمهم له الله للتأديب، بل بالحري سلمتهم له خطاياهم ليذوقوا ثمرتها المرّة. وقد جاءت شخصيات هؤلاء القضاة تكشف بعض جوانب المخلص الحقيقي يسوع المسيح، كما جاءت الأحداث التي إرتبطت بهم تعلن الكثير عن خدمة العهد الجديد التي تمس حياتنا الروحية.

هذا هو المنهج الذي أود أن أتبعه في تفسير هذا السفر، في شيء من البساطة، معتمدًا على فكر بعض آباء الكنيسة الأولى وفي نظرتهم لأحداث وأشخاص هذا السفر.

سفر القضاة وروح القوة:

إن كان سفر القضاة يعلن عن شخص السيد المسيح خلال حياة القضاة وتصرفاتهم، فإنه إذ هو سفر الغلبة ضد العدو خلال هؤلاء القضاة يكشف عن "الروح القدس" كروح القوة الذي به ننتصر في جهادنا الروحي. وما فعله القضاة من أعمال مجيدة فائقة كانت بروح الرب وليس بعمل بشري، تقدم لنا إمكانية في حياتنا الروحية وجهادنا ضد إبليس وأعماله الشريرة لا بقوتنا الذاتية وإنما بعمل الروح فينا.

في حديث القديس كيرلس الأورشليمي عن الروح القدس يقول: [تظهر قدرة هذا الروح في سفر القضاة، فبه حكم عثنيئيل (٣: ١٠)، وبه اعتزت قوة جدعون (٦: ٣٤)، وانتصر يفتاح (١١: ٢٩)، وأقامت دبورة كامرأة حربًا، وقام شمشون في فترة سلوكه بالبرّ بأعمال تفوق القدرة الإنسانية[9]].

أقسامه:

يحوي هذا السفر مقدمتين، في الأولى (ص ١) يقدم لنا إمكانية الإنسان أو الجمعاعة في أرض الموعد (الحياة الجديدة) إن يغلب ويملك بلا إنقطاع، وفي الثانية (ص ٢) يقدم ملخصًا للاهوت هذا السفر كله في إيجاز[10]. كما يضم السفر ملحقين هما عبارة عن حادثتين تمتا في عصر القضاة تكشفان عن مدى ما وصل إليه الشعب من إنحطاط أخلاقي وفساد (ص ١٧: ٢١).

١. حال الشعب بعد يشوع (مقدمة السفر)      [ص ١ – ٢].

٢. عصر القضاة                               [ص ٦ – ١٣].

٣. حادثتان أثناء عصر القضاة                 [ص ١٧ – 2١].

<<

 

 


 

 

الباب الأول

 

 

 

 

حال الشعب بعد يشوع

(مقدمة السفر)

 

 

 

v الاستيلاء على بقية كنعان   [ص ١].

v مقدمة في لاهوتيات السفر   [ص ٢].

 


 

 

 

يُعتبر الأصحاحان الأولان مقدمة لسفر القضاة تكشف عن غاية السفر ولاهوتياته. فإن كان السفر يكشف عن فترة ارتداد عاشتها الغالبية العظمى من الجماعة في وسط أرض الموعد، ففي الأصحاح الأول أبرز الروح القدس إمكانية الإنسان في أرض الموعد أن يغلب أدوني بازق (إبليس) ويقتلع الكنعانيين (أعماله الشريرة)، وكأن ما وصل إليه الإنسان من إرتداد حدث بلا عذر، إنما بسبب تهاونه مع الخطية بالرغم من الإمكانيات الجديدة المقدمة له لينعم بمواعيد الله الصادقة.

وجاء الأصحاح الثاني يعرض لنا المفهوم اللاهوتي للسفر كله، ألاَّ وهو أن "الارتداد" (أو الانحراف عن الله) وكسر وصيته هما السبب في الضيق أو المرارة التي حلت بالإنسان. فإن كان السفر يعلن عما حل بالشعب من سلسلة من المتاعب والمضايقات التي حلت بهم بواسطة الأمم، إنما هي صورة مبسطة للمذلة التي هوى إليها الإنسان بإرادته خلال بعده عن الله الحيّ. في هذا الأصحاح نرى ملاك الرب وقد صعد من الجلجال حيث ذكرى "دحرجة عار مصر (العبودية) عنهم"، إذ "جلجال" تعني (دحرجة) (يش 5: 9)، منطقاً إلى "بوكيم" التي تعني "البكاء"... وكأنه أراد أن يدخل بهم إلى الدموع حتى في أرض الموعد ماداموا قد سقطوا في الشر. وباختصار نجد أن هذا السفر هو سلسلة لا تنقطع من الانحراف، فالمذلة، فالصراخ، فالتوبة ثم الخلاص! هذا هو الخط الرئيسي للسفر كله معلنًا في هذا الأصحاح.

<<

 


 

الأصحاح الأول

 الاستيلاء على بقية كنعان

إن كان السفر السابق يعلن ميراثنا أرض الموعد بيشوع الحقيقي، فإن سفر القضاة يكشف عن الإلتزام بدوام الجهاد مادمنا في الجسد حتى نستولي على كنعان كلها، أي ننعم بكمال الوعد. ففي هذا الأصحاح نرى غلبة الإنسان على أدوني بازق رمز الشيطان، ليفقد الأخير سلطانه وينسحق تحت قدمي المؤمن، الذي يملك على أورشليم السماوية عوض إبليس الساقط منها.

١. سقوط أدوني بازق            [١ – ٧].

٢. امتلاك أورشليم ومدن أخرى  [٨ – ٢١].

٣. امتلاك بيت إيل                [٢2 – ٢٦].

٤. التهاون مع الكنعانيين         [٢٧ – ٣٥].

١. سقوط أدوني بازق:

"وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: من منا يصعد إلى الكنعانيين أولاً لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد قد دفعت الأرض ليده؛ فقال يهوذا لشمعون أخيه: إصعد معي في قرعتي... فأصعد أنا أيضًا في قرعتك، فذهب شمعون معه" [١– ٣].

إذ مات يشوع بعد أن عبر بهم الأردن ودخل بهم إلى أرض كنعان التزم بنو إسرائيل أن يحاربو الكنعانيين لكي يرثوا الأرض بعد طرد الوثنيين. لقد مات "يسوع" رب المجد على الصليب بعد أن عبر بنا مياه المعمودية وصارت لنا إمكانية إلهية لكي نجاهد في أرض الموعد، إي خلال الحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع. لكي نطرد الكنعانيين أي أعمال إبليس ونرث في الرب، بمعنى آخر أن موت ربنا يسوع وعبورنا مياة المعمودية ليس نهاية الطريق بل هو بدايته، لكي نجاهد قانونيا بالروح القدس لكي نغلب ونرث، لا إلى حين، وإنما ننطلق من جهاد روحي إلى جهاد آخر، ومن نصرة إلى نصرة، وننعم بالإنطلاق من مجد إلى مجد خلال جهادنا الروحي. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أُعطي له مكان بين المصارعين لكنه لم يبرهن بعد على إستحقاقه للجندية[11]].

إذ سأل بنو إسرائيل الرب عمن يصعد أولاً لمحاربة الكنعانيين، جاءت الإجابة "يهوذا" وقد طلب يهوذا من أخيه شمعون أن يصعد معه في قرعته ليحارب. من هو يهوذا الذي يبدأ بالحرب الروحية سوى ربنا يسوع المسيح "الخارج من سبط يهوذا"، هذا الذي يقود بنفسه الموكب ليغلب وينتصر لحسابنا، هذا الذي رآه القديس يوحنا للاهوتي: "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ ٦: ٣). فإن كان "شمعون" تعني (المستمع)[12] ويشير إلى المؤمن الذي يصغي لسيده ويسمع صوته في طاعة، فإن يهوذا أي ربنا يسوع في صراعه ضد العدو إبليس يطلب من شمعون أي من المؤمن المستمع لوصيته أن يشاركه الحرب الروحية. إذن فالمحارب هو السيد المسيح الذي يدعونا أن نختفي فيه لكي به نجاهد، وبه ننتصر ونكلل! وكما يقول القديس أغسطينوس: [يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يعلم أولاده كيف يحاربون[13]].

إن كان "يهوذا" يعني "اعتراف" أو "إيمان"، فإن ربنا يسوع المسيح يطالبنا في محاربتنا للكنعانيين الوثنيين أي للخطايا التي ملكت في القلب أن ننطلق للجهاد خلال الإيمان أو الإعتراف بالإيمان "يهوذا"، لكن ليس بدون "شمعون" أخيه، أي ليس بدون العمل أو الإستماع للوصية. كأن إنطلاق يهوذا مع شمعون للمعركة الأولى ضد الكنعانيين إنما يعلن الجهاد الروحي خلال الإيمان الحيّ غير المنفصل عن العمل، فإنهما أخوان متلازمان. بمعنى آخر لا إنفصال بين نعمة الله المجانية والجهاد العملي، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يطلب الله منا حجة صغيرة لكي يقوم هو بكل العمل[14]]. كما يقول: [النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا، يسكب عليها غناه بفيض وغزارة تفوق كل طلبته[15]].

إنطلق يهوذا وفي صحبته شمعون ليحاربا أدوني بازق، هذا الذي سبق فأذل سبعين ملكًا بقطع أباهمَ أيديهم وأرجلهم وكانوا يلتقطون الفتات الساقط من مائدته كالحيوانات، فإذا به يسقط أسيرًا وتُقطع أباهمُ يديه ورجليه ويبقى تحت المائدة ذليلاً...  وكما قال: "كما فعلت كذلك جازاني الله" [٧].

كلمة "أدوني" تعني "سيد" أو "مالك" أو "رب"[16]، وكلمة "بازق" تعني "مبرق"[17]. والكلمتان تمثلان سمتي إبليس، فقد أقام نفسه "أدونيًا" أي سيدًا وربًا ومالكًا على حياة الإنسان الخاضع لمشورته، و"مبرقًا" بخداعاته الكاذبة. وقد أعلن الكتاب المقدس هاتين السمتين، فقيل عنه: "رئيس هذا العالم قد دين" (يو 16: 11)، "لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور" (٢ كو ١١: ١٤). إذن أدوني بازق يشير إلى الشيطان الذي أقام نفسه رئيسًا على محبي العالم، مبرقًا عليهم بنور مخادع على شبه ملاك ليقتنصهم وبالفعل أذل البشرية التي كانت تمثل سبعين ملكًا، فقد قطع أباهم أيديهم وأرجلهم، لكن جاء يهوذا ليقطع بالصليب أباهم يدي إبليس ورجليه ويحني عنقه بالمذلة تحت قدمي الإنسان. فقد رأى السيد المسيح الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء (لو ١٠: ١٨) عندئذ قال لرسله: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات" (لو ١٠: ١٩-٢٠). هذا هو أدوني بازق الذي سقط من قلوبنا كما من السماء وصار مدوسًا تحت أقدامنا لا يقدر أن يضرنا في شيء.

والآن ماذا يُعنى بقطع أباهم الأيدي والأرجل؟

يرى كثير من الآباء أن "إصبع الله" يرمز للروح القدس، فإذ قيل "لوحي حجر مكتوب بأصبع الله" (خر ٣١: ١٨) إنما يشير إلى كلمة الله التي تنقش فينا بالروح القدس. فإن كان الأصبع يشير إلى الروح فقطع أدوني بازق أباهم أيدي وأرجل الملوك السبعين إنما يعني نزعه روحهم وإفقاد البشرية التي كان يجب أن تملك في الرب كل قوتها وحياتها؛ قطع أباهم اليد يشير إلى توقف العمل تمامًا لحساب مملكة الله وقطع أباهم الأرجل يشير إلى توقف الحركة أو الإنطلاق في الطريق الملوكي. هكذا أذل الشيطان البشرية ونزع عنها عملها الملوكي وحركتها السماوية، وجعلها أسيرة قصره تأكل من الفتات الساقط من مائدته في التراب، تسلك كحيوانات بلا كرامة ولا سلطان روحي! لكن الله لم يترك أدوني بازق يذل خليقته أبديًا، وإنما على الصليب "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو ٢: ١٥). وكأنه قطع أباهم يديه ورجليه وجعله تحت قدمي المؤمنين بلا سلطان!

صار موضع إبليس الجديد ليس في القلب كي يملك وإنما تحت المائدة يُداس بالأقدام، فاقدًا القدرة على العمل أو الحركة.

نال إبليس جزاء عمله، وارتد فعله إليه كما قيل لأهل أدوم: "عملك يرتد على رأسك" (عو ١٥). هذا القانون يخضع له الجميع، كقول الرب نفسه: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (مت ٧: ٢).

أخيرًا يقول لكتاب: "وأتوا به إلى أورشليم فمات هناك" [٧]. فإن كانت "أورشليم" تعني "رؤية السلام"، فلا يمكن أن يحل السلام في القلب ولا أن تعاينه النفس ما لم يمت أولاً أدوني بازق، أي يضع نهاية لعدو الخير إبليس. يموت إبليس فتحيا النفس في سلام مع خالقها مع إخوتها وبقية الخليقة بل وحتى مع نفسها، إذ تمتلئ بالسلام الروحي الداخلي.

أورشليم التي هي رمز لسلام النفس مع الله وتمتعها بالحياة، هي بعينها موت لإبليس وهلاك للخطية.

لقد أتوا بالعدو من بازق إلى أورشليم، أي من "المبرق" أو من خداعاته التى تجعله يبرق كملاك من نور ليموت في المدينة التي يحل الرب فيها بسلامه.

هذا وإن "بازق" هي "خربة بزقة"، وهي مدينة في وسط فلسطين، تبعد حوالي ١٣ ميلاً شرقي شكيم[18].

٢. امتلاك أورشليم ومدن أخرى:

إذ قيل: "أتوا بأدوني بازق إلى أورشليم" [٧] قدم بيانًا تفصيليًا عن محاربة يهوذا للإستيلاء على أورشليم وقرية أربع (حبرون) وقرية دبير... الأمر الذي سبق لنا الحديث عنه في مفهومه الروحي بشيء من التفصيل، عند دراستنا لسفر يشوع (الأصحاح الخامس عشر)... لذا أرجو الرجوع إليه، مكتفيًا هنا ببعض الإيضاحات الإضافية.

من جهة أورشليم فقد حاربوا أهلها واستولوا عليها، ودخلوا بأدوني بازق فيها كأسير يموت هناك. غير أن الإستيلاء الكامل أو الدائم لهذه المدينة لم يتحقق إلاَّ في عهد داود النبي الملك (٢ صم ٥: ٦-٧). إذ يُقال أن اليبوسيين، سكان أورشليم (يبوس) الأصليين رجعوا إلى حصنهم جبل صهيون ونزعوا المدينة عن يهوذا حتى إستولى إسرائيل عليها من جديد في أيام داود. ويرى البعض أن يهوذا أخذ المدينة ولم يأخذ الحصن الذي بقى في يد اليبوسيين حتى أيام داود الملك.

"وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار" [٨]. جاء في العبرية "ضربوها بفم السيف" كناية عن شدة الحرب إذ كان السيف يلتهمهم كفم يبتلع الفريسة فلا توجد. أما إشعال المدينة بالنار فلا يعني حرقها تمامًا وإنما حرق جزء منها، كالقول بأن الثوب إحترق، بالرغم من أن الجزء المحترق صغير. والدليل على ذلك أن المدينة بقيت يسكنها اليبوسيين مع يهوذا وبني بنيامين (ع ٢١، يش ١٥: ٦٣).

إن كانت [أورشليم الأرضية هذه إنما هي ظل أورشليم السماوية[19]] كما يقول القديس أغسطينوس، فإنها تصير مسكنًا ليهوذا إن ضُرب اليبوسيين (الُمُداسون بالأقدام) بفم السيف، أي حُطم في القلب كل ما يستحق أن يُداس بالقدمين، وأن أُشعلت المدينة بنار الروح القدس الذي ينزع عنها البرود الروحي ويلهبها بنيران الحب التي لا تنطفئ.

إذ تمتع يهوذا بأورشليم الملتهبة بنار الروح القدس لا يتوقف عن الجهاد الروحي بل ينزل "لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل" [٩]. هكذا ينزل من أورشليم المدينة المرتفعه حوالي ٢٥٩٣ قدمًا ليحارب "الكنعانيين" التي تعني "الهياج"، فلا يستطيع من يملك أورشليم أن تكون له "رؤية سلام" أو أن يحتمل الهياج الداخلي للقلب خلال الخطية بل يحاربه حتى يكون له السلام الفائق في المسيح يسوع. أما المناطق التي يحاربها فهي:

أولاً: سكان الجبل، وقد دعيت هكذا لأن الأرض جبلية، تقع جنوبي أورشليم وتضم بيت لحم وحبرون.

ثانيا: الجنوب، تترجم عن العبرية هكذا "الجنوب"، لكنها تعرف بالنجب. كلمة نجب في العربية تعني لحاء الشجر بعد جفافه، أو قشرة ساقه الجافة. وقد دعيت المنطقة بالنجب بسبب إتسامها بالجفاف والقحط، تمتد ٧٠ ميلاً جنوب حبرون حتى تصل إلى التية أو القفر، يحدها شرقًا بحر لوط وغربًا سواحل البحر.

ثالثا: السهل وتترجم "هشفلة"، عبارة عن منطقة منخفضة تحت سفح التلال تمتد بين الساحل المنبسط وسلسلة جبال يهوذا، وتتميز بخصوبة أرضها وكثرة أشجارها ونباتاتها على عكس منطقة النجب في عصر القضاة كان الفلسطينيون يشغلون الساحل المنبسط وبنو إسرائيل يشغلون جبال يهوذا، وكانت المعارك تدور بينهما في السهل (هشفلة).

لقد حارب بنو يهوذا الكنعانيين في هذه الماطق الثلاث: الجبل والنجب (الجفاف) والسهل، وكأن بني يهوذا الحقيقي – يسوع المسيح – يتعقبون الخطية بالروح القدس لكي يحطموها منطلقين إلى الجبل عاليًا بلا خوف من سكانه، وإلى النجب وسط القفار بلا ارتباك، وفي السهل دون إغراء لخضرتها وثمارها. إنهم تجاهدون في كل المواقع: الجبال والقفار والأراضي الخصبة، لا يحطمهم عنف الخطية وقسوتها ولا تجتذبهم إغراءاتها.

أما بخصوص قرية أربع أو حبرون [١٠] فقد رأينا كيف طالبَ كالب بن يفنة حقه في إمتلاكها، وقد طرد بني عناق الثلاثة وقتلهم... وقد حملت أسماء المدينة وبنو عناق معانٍ رمزية سبق الحديث عنها[20].

إهتم كالب بإمتلاك هذه المدينة بكونها مدينة حصينة يصعب الاستيلاء عليها، لهذا يبدو أن داود جعلها عاصمة لمملكته قبل إستيلائه على أورشليم. وكان لهذه المدينة قدسيتها عند اليهود، ودعيت بالخليل تذكارًا لابراهيم خليل الله الذي ضرب خيامه فيها، وفيها دفن مع سارة امرأته (تك ٢٥: ٧-١١)، وقد صارت من مدن الملجأ (يش ٢١: ١١– ١٣). أما دعوتها "قرية الربع"، فيرى بعض معلمي اليهود أنها دعيت هكذا لأن فيها دُفن أربعة آباء: آدم وابراهيم وإسحق ويعقوب مع زوجاتهم (تك ٢٣: ١٩؛ ٢٥: ٩؛ ٤٩: ٣٠، ٣١)، كما سكن فيها أربعة المشاهير: إبراهيم وعابر وأشكول وممرا. لكن الكتاب المقدس ينسب إسمها إلى "أربع الرجل الأعظم في العناقيين" (يش ١٤: ٥)، وقد دعى "أربع" أبي عناق (يش ١٥: ١٣).

بعد الاستيلاء على حبرون أو قرية أربع وقتل بني عناق انطلق يهوذا إلى دبير أو قرية سفر، حيث أعلن كالب بن يفنة أن من يضربها يعطيه عكسة ابنته امرأة... هذه التي تمتعت بالينابيع العليا والينابيع السفلى كهبة من أبيها بعد أن تزوجت بعثنيئيل فاتح قرية سفر أو دبير.

"دبير" من أصل عبري يعني "يقرأ"، أما دعوتها "قرية سفر" أو "كتاب"، أو "قرية سّنة" (يش ١٥: ٤٩) أي ما يحويه الكتاب من شريعة أو سنن، فيُظهر انها كانت مركزًا للعلم والدين عند الكنعانيين. ظن كثيرون أن مكانها الآن قرية الظهرية التي تبعد حوالي ١٣ ميلاً جنوب غربي حبرون، لكن الآن يرجح أن مكانها تل أبيب مرسيم التي تبعد غرباً نحو ١٣ ميلاً جنوب غربي حبرون وعلى بعد ثلاثة أميال شمال غربي شامير[21].

رأينا أن كلمة "عثنيئيل" تعني (إستجابة الرب)، فلا يستطيع أحد أن يغتصب قرية الكتاب المقدس إلاّ من يوهب له من قِبل الله أو يُستجاب لطلبته، عندئذ يتزوج عكسة إبنة كالب أي يلتصق بالحياة المقدسة ويتعرف على أسرارها لا كقرية يسكنها وإنما كعروس يتزوج بها، أما نزول عكسة عن الحمار لتطلب من أبيها الينابيع العيا والينابيع السفلى كهبة منه لإبنته، إنما يُشير إلى النفس التي تنزل عن إهتمامات الجسد الحيواني (الحمار) لتطلب من أبيها السماوي ينابيع المياه الحية، أي ثمار الروح على مستوى سماوي عالٍ، كما تنعم بالثمر الذي تعيش به هنا على الأرض (الينابيع السفلى)[22].

يتحدث بعد ذلك عن إلتصاق بني القيني (وفي الترجمة السبعينية بنو حوباب القيني)، أي أبناء إخوة زوجة موسى، ببني يهوذا إذ صعدوا من مدينة النخل أي أريحا التي خربت ولعنت لذا لم يذكر هنا إسمها، وانطلقوا إلى برية يهوذا إذ كانوا لا يحبون سكنى المدن كسائر أهل البدو (إر ٣٥: ٦-٧)، في جنوبي عراد (تبعد ١٧ ميلاً جنوبي حبرون) وسكنوا مع شعب هذا الموضع أي عماليق! وهكذا إختطلت الحنطة بالزوان!

إشترك السبطان يهوذا وشمعون في ضرب "صفاة" ودعوها "حرمة"، والتي هي في الغالب "تل السبع". كلمة "حرمة" تحمل معنيين: "موضع مقدس، خراب"؛ فقد حطموها تمامًا وضربوها بسبب ما قاسوه فيها من مرارة في حرب العمالقة (عد ١٤: ٤٥).

أما المدن "غزة وأشقلون وعقرون" [١٨]، من عواصم الفلسطينيين الخمس، فقد أخذها الفلسطينيون لكنهم لم يبقوا فيها زمانًا طويلاً، لذلك جاءت الترجمة السبعينية (لم يأخذها يهوذا أي لم يرثها)...

"لم يُطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات من حديد" [١٩]، كان ذلك مع بدء ظهور العصر الحديدي، وقد إحتكر الفلسطينيون صناعته حتى لا ينتفع به الإسرائيليون (١ صم ١٣: ١٩-٢٢)، ولكن نصرة داود على الفلسطينيين كانت بداية لاستخدام الحديد كسلعة عامة في إسرائيل.

وسط هذه الإنتصارات المتتالية أعلن الكتاب تهاون هذا الشعب: "وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم" [٢١]. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إذ نسمع في الإنجيل بأن الحنطة تنمو مع الزوان، بنفس الطريقة يوجد في أورشليم أي الكنيسة اليبوسيون الذي يسلكون بحياة رديئة، هؤلاء الفاسدون في إيمانهم كما في أعمالهم وكل طريقة حياتهم. من المستحيل تتنقى الكنيسة بالكلية طالما هي على الأرض[23]].

٣. امتلاك بيت إيل:

إن كان يهوذا قد جاء متقدمًا كل الإسباط، إذ كانت قرعته هي الأولى في الهجوم بكونه يمثل السيد المسيح نفسه الخارج من سبط يهوذا، فقد جاء بعده في القرعة "بيت يوسف" إي سبطا إفرايم ومنسى. "يوسف" يعني "نمو"، و"إفرايم" يعني "ثمر متكاثر"، "منسى" أي "ينسى"، فإن كنا في المرحلة الأولى قد رأينا يهوذا يطلب من أخيه شمعون أن يخرجا معًا كأخوين متلازمين علامة إتحاد الإيمان بالإستماع للوصية أي بالعمل، ففي هذه المرحلة ينطلق يوسف أي النمو الروحي خلال عمل إفرايم مع منسى أي التمتع بثمر الروح مع نسيان محبة العالم.

يهوذا اقتنى أورشليم أي رؤية السلام، وبيت يوسف أخذ مدينة بيت إيل أي بيت الله؛ فبالإيمان (يهوذا) ننعم برؤية السلام الإلهي الفائق داخلنا، وبالنمو الروحي (يوسف) نصير نحن أنفسنا بيت إيل أي مسكنًا مقدسًا لله.

ليست هناك مدينة تحدث عنها الكتاب المقدس بعد أورشليم مثل بيت أيل، التي كانت تُدعى مدينة لوز؛ أول ما قدم إبراهيم أرض الموعد نصب خيمته في الأراضي المرتفعة قرب بيت إيل (تك ١٢: ٨، ١٣: ٣)، ولما هرب يعقوب من وجه عيسو متجهًا إلى ما بين النهرين بات في مكان قرب مدينة لوز، حيث شاهد السلم السماوي ودعا المدينة بيت إيل (تك 28: 11-19؛ 31: 13)، وللأسف عند إنقسام المملكة أقام يربعام العجلين الذهبيين في بيت أيل (١ مل ١٢: ٢٨–٣٣) لذلك دعاها هوشع النبي "بيت آون" أي بيت الأصنام (هو ١٠: ٥، ٨)، فعوض تابوت العهد (القضاة ٢٠: ٢٧) الذي بارك المدينة وقدسها صارت مركزًا رئيسيًا للعبادة الوثنية في إسرائيل (عا ٤: ٤؛ ٥: ٥).

أما كيف استولى بيت يوسف على بيت إيل فيقول الكتاب: "صعد بيت يوسف أيضًا إلى بيت إيل والرب معهم" [٢٢]. لقد دخلوها خلال معية الله! لا نستطيع إقتحام بيت إيل أي بيت الله إلاّ بالله نفسه الذي يحملنا فيه إلى بيته، ويكشف لنا أسراره، ويمتعنا بحياته السماوية.

ويروي لنا الكتاب المقدس طريقة الدخول إلى بيت إيل بقوله:

أولاً: "واستكشف بيت يوسف عن بيت إيل" [٢٣]، أي أرسل بيت يوسف مراقبين أو جواسيس يستكشفون أمرها، كما سبق فأرسل يشوع جاسوسين لمعرفة أسرار أريحا (يش 2: 1). إن كان يوسف يمثل السيد المسيح في جوانب كثيرة فإن بيت يوسف يمثل الكنيسة التي ترسل مراقبين أي خدامًا للكلمة يشهدون للحق ويفتتحون كل قلب لحساب مملكة الله، لتجعل منه بيت إيل الحقيقي.

إن كانت النفس البشرية هي بيت يوسف الحقيقي، يليق بها ألاّ تكف عن استخدام كل طاقاتها وامكانياتها كمراقبين عملهم تقديس الأعماق بالروح القدس، لكي يظهر القلب كبيت إيل، متحققًا فيه قول السيد المسيح: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21). وقول الرسول: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم؟!" (١ كو ٦: ١٩).

ثانيًا: ينطلق المراقبون إلى مدينة "لوز"، إذ قيل: "وكان إسم المدينة قبلاً لوز" [٢٣]. لم يذكر إسم المدينة بلا هدف، فإن اللوز إنما يُشير إلى كلمة الله كقول الرب نفسه لأرميا (أر ١: ١١-١٢). وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن اللوز يحمل قشرة خارجية تجف وتسقط، وله غلاف صلب يكسر، في داخله اللوز نفسه يؤكل. هكذا يرى أن كلمة الله أو الكتاب المقدس إذ فُسر حرفيًا يكون الإنسان قد أكل الغلاف المرّ الجاف، وإذا توقف عند التفسير السلوكي أو الأخلاقي يكون كمن اهتم بالغلاف الصلب، أما من يدخل إلى التفسير الروحي العميق فينعم باللوزة نفسها الشهية والنافعة[24]].

أرسل بيت يوسف المراقبين ليتعرفوا على لوز ويدخلوا إليها فينعموا ببيت إيل، هكذا لا تستطيع النفس أن تصير بيتًا لله ما لم ترسل المراقبين إلى كلمة الله (لوز) وتتعرف على أسرار الكتاب المقدس لتنطلق بالروح القدس المراقب الحقيقي، القادر أن يدخل بها إلى أعماق مفاهيم أسراره الروحية. لقد انطلق داود النبي بالروح إلى لوز حين قال "ابتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة" (مز ١١٩: ١٦٢).

ثالثًا: "فرأى المراقبون رجلاً خارجًا من المدينة، فقالوا له أرنا مدخل المدينة فنعمل معك معروفًا" [٢٤]. من هو هذا الرجل الذي يعرف مدخل المدينة والذي قاد المراقبين إليها إلاّ جماعة اليهود الذين أؤتمنوا على كلمة الله وصارت إليهم النبوة، فقد دخلوا بالعالم إلى معرفة السيد المسيح وكشفوا للأمم "بيت إيل" ومداخلها لحقيقية، أما هم فذهبوا إلى أرض الحيثيين [٢٦] وأقاموا لأنفسهم مدينة لوز حسب أهوائهم. إنهم كعمال فلك نوح الذي صنعوا الفلك لنوح وعائلته أما هم فلم يخلصوا.

لقد عمل بيت يوسف معروفًا مع الرجل وعشيرته وأطلقوهم [٢٥]، لكن عوض أن يدخلوا معهم المدينة ويشتركوا معهم في الميراث إنطلقوا للحياة مع الحيثيين يشاركونهم جحودهم وعدم إيمانهم!

ما صنعه الرجل مع بيت يوسف يفعله الكثيرون حتى اليوم، يقودون الآخرين إلى معرفة الحق وأما هم فلا يدخلون. هذا ما خشاه الرسول بولس لئلا يسقط فيه عندما قال: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (١ كو ٩: ٢٧). وما خشاه القديس يوحنا الذهبي الفم على نفسه، إذ قال: [إني أسكب الدموع عندما أرى نفسي في كرسي فوق كراسي الآخرين، وعندما يُقدم ليّ إحترام أكثر من غيري[25]].

٤. التهاون مع الكنعانيين:

قلنا أن كلمة "الكنعانيين" تعني "هياجًا"، لذا فاستبقاء الكنعانيين وسطهم من أجل الجزية وعدم طردهم [٢٨-٣٠، ٣٣، إلخ] إنما يُشير إلى إنحراف القلب إلى محبة المال. فقد أعطانا الرب سلطانًا أن نطرد عنا كل هياج وكل تشويش روحي، لكن من أجل الجزية أي محبة العالم لا نطرده بل نستبقيه لنفعنا الزمني... الأمر الذي يحطم النفس هنا ويفقدها أبديتها هناك.

<<

 


 

الأصحاح الثاني

 مقدمة في لاهوتيات السفر

إن كان صُلب السفر كله يحمل نغمة الذل والضيق فقد افتتح الوحيّ السفر بروح الغلبة والنصرة، على أدوني بازق والكنعانيين ليبث فينا روح الرجاء المفرح، والآن إذ تهاون الشعب في طاعة الرب إنتقل ملاك الرب إلى بوكيم لينطلق بهم إلى البكاء بروح التوبة حتى إذ يضيق بهم الأمر جدًا يرسل لهم من ينقذهم خلال روح التوبة.

١. ملاك الرب في بوكيم                   [١-٥].

٢. موت يشوع                             [٦-١٠].

٣. التعبد للبعل وإقامة قضاة               [١١-٢٣].

١. ملاك الرب في بوكيم:

"وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم، وقال: قد أصعدتكم من مصر وإتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآباِئكم وقلت لا أنكث عهدي معكم إلى الأبد، وأنتم فلا تقطعوا عهدًا مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم، ولم تسمعوا لصوتي، فماذا عملتم؟! فقلت أيضًا لا أطردهم من أمامكم بل يكونون لكم مضايقين، وتكون آلهتهم لكم شركًا. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا صوتهم وبكوا، فدعوا إسم ذلك المكان بوكيم، وذبحوا هناك للرب" [١-٥].

تقدم لنا هذه العبارات ملخصًا دقيقًا للاهوتيات السفر كله، وخطًا واضحًا لغايته.

ويلاحظ في هذه العبارات الآتي:

أولاً: ملاك الرب المذكور هنا غالبًا ما يعني ظهورًا إلهيًا لكلمة الله كما يرى غالبية الدارسين. فكلمة الله الحيّ هو الذي قاد الشعب إلى الجلجال وهو الذي صعد بهم إلى بوكيم، بكونه واهب التوبة وقابلها.

ثانيًا: صعود ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم يحمل مفهومًا لاهوتيًا عميقًا فالجلجال كما رأينا في دراستنا لسفر يشوع[26] هو أول معسكر للشعب بعد عبوره الأردن ودخوله كنعان، والإسم يعني "متدحرج" أو "دائرة"، جاء ليعلن عن دحرجه عار العبودية القديم (يش ٥: ٩)، وكأن عار العبودية لا يُنزع عنا إلاّ بدخولنا "دائرة الأبدية". وكان الجلجال مركزًا لعمليات يشوع، وفيه اختتن الشعب ثانية (يش ٥: ٩)، وظهر كموضع مقدس حتى أيام صموئيل النبي (١ صم ٧: ٦) وغالبًا ما كان به هيكل[27]، كما صار مركزًا لعمليات شاول الحربية ضد عماليق الخ... بمعنى آخر الجلجال إنما يعني مقدس القلب الداخلي الذي فيه يدير ربنا يسوع (يشوع) العمل الروحي، وفيه تتجلى الحياة السماوية (الختان الروحي الثاني)، وفيه تقدم ذبيحة شكر لله، وخلاله نصارع مع الشيطان (عماليق)... هذا المقدس يفارقه ملاك الرب معلنًا عصياننا وكسرنا للعهد المبرم مع الله، وينطلق بنا إلى بوكيم، فيتحول قلبنا إلى الندامة والبكاء حتى إذ نرجع إلى الله في أعماقنا نقدم ذبيحة روحية للرب [٥].

ثالثًا: لخص ملاك الرب خطايانا في إعلانه أنه لن ينكث العهد معنا إلى الأبد وإذا بنا نتجاهل العهد الإلهي لنقيم عهدًا مع سكان هذه الأرض، أي مع الخطايا. فإن كان الله إلهًا غيورًا، إنما يريدنا في إتحاد معه على مستوى الإتحاد الزواجي، فكل إتحاد مع غيره (الخطايا) يُحسب زنى، بسببه ينحل عقد اتحادنا الزواجي معه.

رابعًا: الله يقدس الحرية الإنسانية جدًا، فإذ نقيم العهد مع سكان هذه الأرض (الخطايا) يهبنا سؤال قلبنا فلا يطردهم من أمامنا... فيكونون مضايقين لنا، وهكذا جعل الله من تصرفاتنا الشريرة فرصة للتأديب. إنه لا يلزمنا بالتوبة، لكن ثمار خطايانا المرّة تضيق علينا فنرفع قلوبنا بكامل حريتنا لنرى الأذرع الأبدية مفتوحة لنا.

على أي الأحوال فإن صعود ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وحديثه معهم هو بمثابة إعلان عن العلاج قبل استعراض مرارة المرض. هكذا يتعامل الله معنا، إذ يفتح أمامنا أبواب الرجاء مقدمًا حتى متى سقطنا نذكر رحمته وننطلق بالروح القدس إلى بوكيم لنقدم ذبائح التوبة للرب في إستحقاقات الدم الثمين.

والآن إذ قدم العلاج بدأ يكشف عن ظهور المرض فتحدث عن عصر يشوع والشيوخ المرافقين له حيث شهد الكل أعمال الله العجيبة فلم ينحرفوا عن الإيمان، لكن الجيل التالي "لم يعرف الرب ولا العمل الذي عمل لإسرائيل" [١٠].

٢. موت يشوع:

إذ سمع يشوع كلمات ملاك الرب في بوكيم ورأى الشعب يرفع صوته ويبكي لأنه عرف ما سيحل به أو بالأجيال المقبلة كثمرة لتهاونهم مع الأمم الوثنية، ذُبحت ذبائح للرب [٥]، ثم صرف يشوع الشعب... "كل واحد إلى ملكه لأجل إمتلاك الأرض" [٦]، إي ذهب كل سبط ليملك ما قد تمتع به كنصيب له.

يا لها من صورة حية للكنيسة الحقيقية، إذ تجتمع معًا مع يشوع لتمارس التوبة الجماعية في بوكيم، وتقدم ذبيحة الرب بروح واحد جماعي، لكن كل واحد يملك نصيبه! كأن الحياة الكنسية هي حياة جماعية تمثل جسدًا واحدًا، لكن لكل عضو عمله وشركته الخاصة. بمعنى آخر لا تعني الحياة الجماعية تجاهل العمل الشخصي أو العلاقة الشخصية السرية التي تربط النفس بالله، كما أن العمل الشخصي لا يوقف الحياة الجماعية، بل هما متلازمان ومتكاملان غير منفصلين. إني أعرف الرب إلهي كرأس خاص بيّ "حبيبي ليّ وأنا له" (نش ٢: ١٦)، ألتقي معه سريًا على مستوى شخصي، لكن كعضو في الجماعة المقدسة، فهو رأس الكنيسة (أف ١: ٢٢) التي أنا عضو فيها.

تحدث عن حال الشعب في عهد يشوع، قائلاً: "وعبد الشعب الرب كل أيام يشوع وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع الذين رأوا كل عمل الرب العظيم الذي عُمل لإسرائيل" [٧]. متى كان يشوع الحقيقي، يسوع المسيح، هو القائد للكنيسة والمحرك لها روحيًا يعبد الشعب الرب في حرارة الروح؛ ومتى تسلم الكنيسة شيوخ أي رعاة رأوا كل عمل الرب العظيم وتلامسوا مع صليبه تبقى الكنيسة ملتهبة بالروح، أما إن تسلمها رعاة ليس لهم شركة مع يشوع الحقيقي فينحرف الشعب عن عبادة الله الحقة.

أخيرًا "مات يشوع بن نون عبد الرب إبن مئة وعشر سنين فدفنوه في تخم ملكه في تمنة حارس في جبل أفرايم شمالي جبل جاعش" [٨-٩].

إعلان موت يشوع والإهتمام بدفنه في تخم نصيبه إنما يكشف للشعب عن الإيمان بقيامة الجسد، الأمر الذي لم يكن يستطيع اليهود في ذلك الحين إدراكه تمامًا.

دفن في المنطقة الجرداء التي إختارها لنفسه بعد التوزيع للأسباط إذ كان زاهدًا لا يطلب ما لنفسه بل ما هو للآخرين. إنه يدفن في أرض جرداء لينعم بالأرض الجديدة، أي الحياة الأبدية حيث فيض الغنى السماوي.

دفن في "تمنة حارس" أو كما جاء في سفر يشوع "تمنة سارح" (يش ٢٤: ٣)، وقد اشتهرت المدينة بالاسمين، الأول تمنة حارس الذي يعني "نصيب الشمس"، والثاني تمنة سارح الذي يعني "نصيب مزدوج". ويرى الربانيون أنها دُعيت تمنة حارس بسبب وقوف الشمس في عهد يشوع، لذلك رسمت صورة الشمس على قبره. على أي الأحوال دفن يشوع في هذه المدينة ليكون نصيبه شمس البر، يسوع المسيح، أي مات على رجاء التمتع به، وبتمتعه بيسوع يحسب نفسه قد نال نصيبًا مزدوجًا أو وفيرًا.

كانت هذه المدينة في جبل أفرايم شمالي جبل جاعش أي جبل الزلزلة، الذي يذكرنا بالزلزلة التي حدثت عند قيامة يشوع الحقيقي، كأن يشوع قد مات منتظرًا أن يكون "شمس البر" نفسه هو نصيبه المزدوج، به ينعم بالزلزلة للحياة القديمة ليتمتع بحياته المقامة من الأموات.

٣. التعبد للبعل وإقامة قضاة:

الآن إذ أُعلن موت يشوع على رجاء القيامة ومات الجيل الذي عاين أعمال الرب العظيمة "قام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب" [١٠]... وفي عبارات قليلة كشف بقية الأصحاح عن جوهر أحداث سفر القضاة ومعاملات الله مع الشعب في ذلك الحين، إذ قال: "وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب" [١٢]. لقد نسى الجيل الجديد أعمال الله محب البشر مع آبائهم وانسحب قلبهم إلى العبادات الوثنية من أجل ما تحمله من رجاسات وملذات جسديه طريقها سهل، فتركوا إله آبائهم ونقضوا عهده [٢٠] وعبدوا البعليم والعشتاروت [١٣] فأغاظوا الرب الذي حمى غضبه عليهم [٢٠].

ماذا تعني اغاظة الرب وما معنى حمو غضبه عليهم؟ الله ليس فيه انفعالات مثلنا لكنه حب مطلق، وفي حبه يضمنا إليه كعروس له، يغير علينا. يودنا أحباء وأبناء نسكن في حضنه، ويسكب حبه بلا حدود فينا. فاغاظته إنما تعني تهاوننا نحن في قبول حبه واستهتارنا بصداقته، أما غضبه فإشارة إلى سقوطنا تحت عدله الإلهي نجتني ثمر خطايانا... فيبدو الله كغاضب. إذ تركوا الله مصدر حياتهم وانطلقوا إلى العبادات الباطلة سقطوا في الباطل واجتنوا منها ثمر عملهم، وحرموا أنفسهم بأنفسهم من الرحمة الإلهية، ومع هذا فهو يسمح لهم بذلك حتى يضيق بهم الأمر جدًا [١٥]، عندئذ كان يقيم لهم قضاة يُخلصونهم من يد ناهبيهم [١٦]. وللأسف "عند موت القاضي كانوا يرجعون يفسدون أكثر من آبائهم..." [١٩].

هذه هي قصة سفر القضاة كله، بل هي قصة حياة الكثيرين منا، سرعان ما ننسى معاملات الله معنا لنسلك حسب أهوائنا وإذ نخضع لثمر شرنا نصرخ فيُنجي، لنعود مرة أخرى فننسى الرب ونتعدى عهده!

أما عبادة البعل فكانت تُقدم للإله الكنعاني "بعل" وجمعه "بعليم"، ومعناه "سيد" أو "رب" أو "زوج". وكانت زوجته الإلهة عشتاروت. هو إله الخصب ورب المزارع والمهتم بالحيوانات إله الشمس، وهي إلهة القمر. لذا كانت النساء يعجن لها فطيرًا (أر ٧: ١٨) يُرسم عليه صورة القمر. وكان المتعبدون لها يحسبون البعل أبًا لهم وعشتاروت أمًا، وكانوا يُقدمون لهما من أطفالهم ذبائح ومحرقات. إذ كانت بعض الأصنام تصنع من النحاس مجوفة، يوقدون تحتها النيران ومتى إحمرت جدًا وتوهجت تلقي الأم رضيعها على يديه المتوهجتين وتُضرب الطبول حتى لا تُسمع صرخات الرضيع وهو يحترق! وكان للبعل كهنة كثيرون يخدعون الناس بسحرهم وشعوذتهم، كما وُجدت أحيانًا كاهنات هن نساء وبنات يقدمن أنفسهن للزنى والرجاسات كجزء من العبادة وطقسٍ من طقوسها (هو ٤: ١٤).

هذا وقد انتشرت عبادة البعليم في الشرق بصورة متسعة حتى صار لبعض البلاد بعل خاصٍ بها مثل بعل فغور، وبعل زبوب الخ...

<<

 


 

 

الباب الثاني

 

عصر القضاة

ص ٣-١٦

 

1. عثنيئيل بن قناز                     [ص ٣].

2. إهود بن جيرا                      [ص ٣].

3. شمجر بن عناة                     [ص ٣].

4. دبورة القاضية وباراق              [ص ٤ – ٥].

5. جدعون (يربعل)                    [ص ٦ – ٨].

6. رئاسة أبيمالك                      [ص ٩].

7. تولع بن قواة                       [ص ١٠].

8. يائير الجلعادي                      [ص ١٠].

9. يفتاح الجلعادي                     [ص ١١ – ١٢].

10. إبصان                            [ص ١٢].

11. إيلون الزبلوني                    [ص ١٢].

12. عبدون بن هليل                   [ص ١٢].

13. شمشون بن منوح                        [ص ١٣-١٦].

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

عثنيئيل بن قناز

بعد المقدمة السابقة (ص ١، ٢) بدأ بصُلب السفر يعلن انحراف الشعب المتكرر وسقوطهم تحت الضيق وإرسال الله قضاة لإنقاذهم:

١. إنحراف الشعب                    [١٧].

٢. استعبادهم لكوشان                [٨].

٣. إقامة عثنيئيل قاضيًا              [٩١١].

٤. إقامة إهود قاضيًا                 [١٢٣٠].

٥. إقامة شمجر قاضيًا               [٣١].

١. إنحراف الشعب:

"فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل كل الذين لم يعرفوا جميع حروب كنعان، إنما لمعرفة أجيال بني إسرائيل لتعليمهم الحرب" [١-٢]

يبدأ صُلب السفر بتقديم بيان عن الأمم الذين تركهم الرب لامتحان إسرائيل، حتى تتدرب الأجيال الجديدة كيف تحارب، وهنا نلاخظ أن الإسرائيليون قد تهاونوا في طرد الأمم، فسمح الله ببقائهم في وسطهم، ليكونوا أداة لتدريب الأجيال على الحرب، لا بالمفهوم العام للتدريب العسكري، إنما ليختبروا كيف يغلبون وينتصرون خلال الحياة التقوية والاتكال على الرب، فيرون أعماله معهم لنصرتهم، هكذا يخرج الله حتى من ضعفاتنا خيرًا!

يعلق الأب دانيال على هذه العبارة، قائلاً: [ترك الأمم لا لينزع سلام الشعب ولا ليصيبهم ضرر، إنما لعلمه أن في هذا خيرهم. فإذ يضايقهم الأمم بالهجوم يشعرون باحتياجهم إلى العناية الإلهية. لهذا يستمرون متطلعين إلى الله، طالبين معونته، ولا يتهاونون في كسل ولا يفقدون فضيلة الإحتمال والعمل، مجاهدين في الفضيلة[28]].

قدم بيانًا بأسماء هؤلاء الأمم:

أولاً: أقطاب (أمراء) الفلسطينيين الخمسة، وهم حكام المدن الفلسطينية الرئيسية الخمس: جت وأشدود وغزة وأشقلون وعقرون. كان الفلسطينيون في ذلك الحين شعبًا عظيمًا ذا بأس، ومدنهم حصينة، إحتكروا صناعة الآلات والأسلحة الحديدية (١ صم ١٣: ١٩–٢١). بعد موت يشوع أخذ يهوذا غزة وأشقلون وعقرون (١: ١٨)، وضرب شمجر ٦٠٠ رجلاً منهم بمنساس البقر (٣: ٣١)، إلاّ أن الفلسطينيين استردوا هذه البلاد وسقط العبرانيون في قبضتهم (١٠: ٦-٧)... وصارت هناك عداوة مستمرة بين بني إسرائيل والفلسطينيين.

ثانيًا: جمع الكنعانيين[29]، والصيدونيين، والحويين[30] سكان جبل لبنان والحيثيين[31]، والأموريين[32] والفرزيين[33] واليبوسيين[34] (سكان أورشليم أو يبوس).

أما علامة الإنحراف فهي: "اتخذوا بناتهم لأنفسهم نساءً وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم" [٦]. هذه هي العلامة المزدوجة: الارتباط بغير المؤمنين خلال العلاقة الزوجية، وعبادة الآلهة الغريبة، والعجيب أنه يبدأ بذكر الزواج بغير المؤمنين قبل عبادة الآلهة الأخرى، لأن الأولى هي العلة والسبب والثانية هي ثمرة طبيعية للإنسان الشهواني الذي يقبل الزواج خارج دائرة الإيمان، لهذا يحذرنا الرسول، قائلاً: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي إتفاق للمسيح مع بليعال؟! وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!" (٢ كو ١٤-١٥).

٢. استعبادهم لكوشان:

إذ ارتبطوا مع الأمم خلال علاقات زوجية سقطوا معهم في عبادتهم للبعليم والسواري (أعمدة تقام كتماثيل للآلهة)، ولهذا باعهم الرب لكوشان رشعتايم ملك آرام النهرين، لمدة ثمان سنوات [٨].

"كوشان" إسم سامي يعني "يختص بكوش"، و "رشعتايم" تعني "ذي الشرين"، فإن كان الشعب قد إرتكب شرًا مزدوجًا: الزواج بأُمميات، وعبادة الأوثان؛ لهذا أسلمهم للملك (ذي الشرين) ليكون علة تأديبهم لمدة ثمان سنوات بالكيل الذي به يكيلون يُكال لهم!

٣. إقامة عثنيئيل قاضيًا:

"وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، فأقام الرب مخلصًا لبني إسرائيل فخلصهم: عثنيئيل بن قناز أخو كالب الأصغر. فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل، وخرج للحرب فدفع الرب ليده كوشان رشعتايم ملك آرام واعتزت يده على كوشان رشعتايم، واستراحت الأرض أربعين سنة" [٩–١١].

اختيار عثنيئيل قاضيًا لم يأتِ جُزافًا، فقد أراد الله أن يكون أول القضاة ليعلن أن سرّ الغلبة والخلاص يكمن في الله نفسه، إذ كلمة عثنيئيل تعني "استجابة الله"[35] أو "قوة الله"[36]. فما يتحقق من خلاص لا يتم بقوة بشرية إنما هو إستجابة الرب الذي يسمع صرخات أولاده ويعمل فيهم بقوته الإلهية.

عثنيئيل هذا إستولى على قرية سفر (كتاب) وتزوج بعكسة أبنة كالب أخيه (يش ١٥: ١٥–١٩؛ قض ١: ١٣–١٥). فهو يمثل الإنسان الروحي الذي ملك قرية الكتاب أي تعرّف على إسرار كلمة الله بطريقة روحية في حياة تقوية[37]، فتأهل لخدمة الرب، وأمكنه أن يغلب كوشان رشعتايم أي يغلب الشر المزدوج الذي استعبد البشرية، وبه تستريح الأرض أربعين سنة. بمعنى آخر التمتع بكلمة الله هو طريق الغلبة على الشر وتحطيم سلطانه واستعباده كما هو طريق الراحة الحقة بنزع العار والذل. في هذا يقول المرتل: "دحرج عني العار والإهانة لأني حفظت شهاداتك" (مز ١١٩: ٢٢).

ويؤكد الكتاب المقدس أن سرّ القوة في عثنيئيل: "كان عليه روح الرب" [١٠]، معلنًا أن فضل القوة لروح الرب الحالّ عليه وليس في ذاته.

إذن في أول القضاة أعلن الله قوته واستجابته لصلوات شعبه خلال إسمه "عثنيئيل" وأظهر أنه رجل الكتاب خلال تصرفاته "إستولى على قرية سفر" وأكد أن روح الرب حالّ عليه ويقوده ويرشده. ما أحوج الكنيسة في كل عصر إلى مثل عثنيئيل الذي يأتي مدعوًا من الله، يحمل قوته وروحه، مفصلاً كلمة الحق باستقامة!

به استراحت الأرض أربعين سنة [١١]؛ فإن كانت الأرض تُشير إلى الجسد ورقم ٤٠ يُشير إلى الحياة الزمنية المطوّبة[38]، فانه إذ حملنا في داخلنا نفسًا تسلك كهذا القاضي بروح الرب وتنعم بكلمة الله يستريح جسدنا في الرب ويكون مقدسًا في عينيه كل أيام زماننا. ليكن عثنيئيل قائدًا في داخلنا فنستريح ونمتلئ سلامًا فائقًا!

٤. إقامة إهود قاضيًا:

في المرة الأولى باعهم الرب لكوشان رشعتايم ملك أرام لمدة ثمان سنوات، أما الآن إذ رجعوا إلى الشر فسلمهم لعجلون ملك موآب لمدة ثماني عشر سنة حتى يتأدبوا بالأكثر... إننا إذ نكرر السقوط لا يقسو الرب علينا وإنما كطبيب يقدم دواءً أكثر فاعلية حتى وإن بدا أكثر مرارة لشفائنا.

"عجلون" تعني (عجل سمين) أو (مثل العجل)، كناية عن قوته وغضبه الوحشي، هذا بجانب أنه كان رجلاً سمينا جدًا [١٧]. "شدد الرب عجلون" [١٢]، لا بمعنى أنه ألقى القسوة في قلبه، إنما رفع يده الإلهية التي كانت تعوقه عن طبيعته الوحشية نحو اليهود، فتشدد للحرب مستعينًا ببني عمون، إذ كان بنو موآب وبنو عمون متجاورين، أرض موآب شرقي القسم الجنوبي من بحر لوط وبنو عمون إلى جهة الشرق منهم؛ كما تحالف أيضًا مع عماليق وهم قبائل بدوية متوحشة حملوا عداوة لإسرائيل ظهرت أثناء عبور الأخير في البرية (خر ١٧: ٨؛ عد ١٣: ٢٩؛ ١٤: ٢٥). تحالف الثلاثة معًا وضربوا إسرائيل بالسيف وامتلكوا أريحا "مدينة النخل" [٣].

إن كان "الصديق كالنخلة يزهو" (مز ٩٢: ١٢)، فالكنيسة هي مدينة النخل، إن تركت إلهها وانحرفت إلى العالم تسايره في حياته وأفكاره يسمح الله بتأديبها بموآب وعمون والعمالقة ولكن إلى حين حتى تتأدب وترجع إليه. وما أقوله عن الكنيسة هنا أقصد الكنيسة على مستوي القلب (المؤمن) أو على مستوى كنيسة البيت أو العائلة أو جماعة المؤمنين في بلد أو آخر الخ... إن العدو لا يقدر أن يقترب إلى مدينة النخيل مادام ليس له موضع فيها، لكن إن حملت مدينة النخيل سمات الأمم الوثنية تنحني بالعبودية لهم وتنكسر أمامهم، ويسلمها الرب لهم حتى تصرخ لتتقدس به وتنزع الآلهة الغريبة عنها، بمعنى آخر لا يستطيع عجلون وحلفاؤه أن يدخلوا إلى حياتك ويسيطروا على قلبك وفكرك مادام ليس لهم موضع فيك، لكن إن قبلت أفكارهم أو مارست عباداتهم أو سلكت حسب هواهم تتفتح أبواب قلبك أمامهم ليدخلوا ويملكوا عوض الرب!

إذ صرخ إسرائيل بعد ثمان عشرة سنة: "أقام لهم الرب مخلصًا أهود بن جيرا البنياميني رجلاً أعسر" [١٥]. يرى البعض أن كلمة أهود إختصار لكلمة "أبيهود" التي تعني (أبي مجد أو جلال)[39] بينما يرى آخرون أن أهود تعني (متحد)[40]. فإن كان القاضي الأول يُدعى "إستجابة الله أو قوته"، بكونه ثمرة الصراخ والطلبة لله القدير، فإننا هنا نجد القاضي يعني (أبي المجد أو جلال)، وكأنه ثمرة أبينا السماوي الذي يغير على مجده وجلاله فينا فيرسل لنا خلاصًا من عندياته؛ أو يعني (متحد) إذ ننعم بالخلاص خلال إتحادنا مع الله في إبنه يسوع المخلص الحقيقي.

كان أهود رجلاً أعسرًا أي يعمل بيده اليسرى، وقد جاء الأصل العبري بمعنى أنه (رجل مغلق اليد اليمنى) أما الترجمات الأخرى فتعني أنه يعمل بيده اليسرى بمنزلة اليمنى. يقول المؤرخ يوسيفوس أن أهود كان ماهرًا في إستعمال يده اليسرى تكمن فيها كل قوته. وفي مناظرات القديس يوحنا كاسيان قدم لنا الأب تادرس مفهوما روحيًا لاستخدام اليد اليسرى، إذ يقول: [(الرجل الكامل) يشبه في الكتاب المقدس بالأشول... يستخدم يده اليسرى كما لو كانت اليمنى. ويمكننا أن ننال هذه القوة باستخدامنا الأشياء السارة إستخدامًا سليمًا ومفيدًا، هذه التي هي لليمين، واستخدامنا الأشياء المؤلمة التي هي لليسار استخدامًا حسنًا "سلاحًا للبر" كقول الرسول: الإنسان الداخلي له جانبان، أو بمعنى آخر "يدان"، فلا يستطيع أي قديس أن يعمل من غير أن يستعمل يده اليسرى و بهذا يظهر كمال الفضيلة. فالإنسان الماهر يقدر أن يحوّل كل يد له إلى "يد يمينية"... أستطيع أيضًا أن أقول بأن يوسف كان رجلاً أشولاً، ففي أفراحه كان عزيزًا جدًا عند والديه، محبًا لإخوته، مقبولاً لدى الله؛ وفي ضيقاته كان عفيفًا، مؤمنا بالله، وفي سجنه كان أكثر شفقة على المسجونين، متسامحًا مع المخطئين، صافحًا عن أعدائه... إن هؤلاء الرجال (أيوب ويوسف وغيرهما) وأمثالهم بحق يُدعى كل منهم رجلاً أشول، إذ يقدرون أن يستخدموا كل يد لهم كأيدٍ يمينية، قائلين بحق: "بسلاح البر لليمين واليسار، بمجد وهوان، بصيت ردئ وصيت حسن..." (٢ كو ٦: ٧-٨). ويتحدث سليمان في سفر نشيد الأنشاد عن اليد اليمنى واليد اليسرى في شخص العروس، قائلاً: "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش ٢: ٦). وبينما يظهر أن كليهما مفيد إلاَّ أنها تضع إحداهما تحت الرأس لأنه ينبغي أن تخضع الضيقات لمراقبة القلب فتصير نافعة لأنها تهذبنا إلى حين، وتؤدبنا لأجل خلاصنا، وتهبنا الكمال في الصبر. أما اليمينية فتأمل أن تلتصق بها لكي ما تلاطفها فتنال المعانقة المباركة التي للعريس، وفي النهاية تضمها إليه. وهكذا يُحسب كل منا "أشول" عندما لا يؤثر فينا الرجاء ولا العوز. فلا يغوينا الرخاء ولا يدفع بنا نحو الإهمال الخطير، كذلك لا يجذبنا العوز إلى اليأس والشكوى (التذمر) بل نقدم الشكر الله في كل شيء[41]]

نعود إلى هذا القاضي لنجده يحمل سيفًا ذا حدين تقلده تحت ثيابه على فخذه اليمنى ليقتل به عجلون ملك موآب بعد أن يقدم له هدية يحملها كثير من الرجال؛ يقتله بعد أن يصرف الرجال حاملي الهدية ويتصرف معهم، ليعود ويلتقي مع الملك على إنفراد في علية برود، وهي علية خاصة بعجلون في أعلى القصر يجلس فيها كمظلة صيفية ليتبرد من الحرّ. قتله أهود بالسيف في عقر داره ومكان أمانه بعد أن قام عجلون عن كرسيه ليعود فيسقط على الأرض في دمائه ولا يجلس على كرسيه بعد. ترك أهود السيف في بطن عجلون ولم يسحبه وانطلق من الرواق وأغلق أبواب العلية على القتيل. وإذ خرج العبيد ورأوا الأبواب مغلقة قالوا: إنه مغطٍ رجليه في مخدع البرود، وهو تعبير متأدب عن دخوله إلى المرحاض... وإذ طال إنتظارهم خجلوا، فأخذوا المفتاح وفتحوا ليجدوه قتيلاً على الأرض. وإذ هرب أهود جمع بني إسرائيل في جبل أفرايم وأعلن أن الرب دفع إليهم أعداءهم، فنزلوا وراءه وأخذوا مخاوض الأردن إلى موآب وتمكنوا من قتل نحو عشرة آلاف رجل كل نشيط وكل ذي بأس ولم ينج أحد.

هذه القصة كما عرضتها في إختصار شديد تحمل صورة رمزية رائعة لعمل المخلص الحقيقي يسوع المسيح خلال الصليب، إذ نرى فيها الآتي:

أولاً: إسم المخلص أو القاضي "أهود" وقلنا أنه يعني (أبي مجد أو جلال)، كما تعني (متحد)، ففي المسيح يسوع المخلص الحقيقي تمجد الآب كقول السيد في ليلة آلامه: "مجّد إبنك ليمجدك إبنك أيضًا... أنا مجدتك على الأرض" (يو١٧: ١، ٤). كيف مجّد الإبن الآب؟ يقول القديس أغسطينوس: [إذ تمجد الإبن خلال قيامته بواسطة الآب، مجّد هو الآب بالكرازة بقيامته[42]]، وكما يقول: [تحقق هذا بإنجيل المسيح بمعنى أن الآب صار معروفًا للأمم خلال الإبن وبهذا مجّد الإبن الآب[43]]، [يمجدك الإبن، بمعنى إنك تصير معروفًا لكل جسد أنت أعطيته إياه[44]].

هكذا خلال الصليب مات الإبن بالجسد فمجده الآب بقيامته، ومجّد الإبن الآب خلال الكرازة بالقيامة وسحب قلب الأمم إلى خبرة معرفة الآب.

إما المعنى الثاني لكلمة أهود أي (المتحد)، فإن هذا الإسم ينطبق على السيد المسيح بطريقة فريدة إذ هو واحد مع أبيه. وقد جاء إلى الصليب لكي يجعلنا نحن أيضًا متحدين معًا فيه، ففي صلاته الوداعية يقول: "أيها الآب القدوس إحفطهم في إسمك، الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن... ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا" (يو ١٧: ١١، ١٢).

ثانيًا: يظهر أهود حاملاً سيفًا ذا حدين تقلده على فخذه اليمنى ليقتل به عجلون، وكأنه بالسيد المسيح الذي قيل عنه: "تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك" (مز ٤٥: ٣). وكما يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني بقوله "سيفك" إلاَّ "كلمتك"؟! فهذا السيف بدد أعداءه، وبهذا السيف إنقسم الإبن ضد أبيه والإبنة ضد أمها والكنّة ضد حماتها. نسمع في الإنجيل: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" (مت ١٠: ٣٤)... إن أراد أحد الشبان أن يكرس حياته لخدمة الله فيقاومه أبوه يصيران منقسمين ضد بعضهما البعض. فالواحد يعد بالميراث الأرضي والآخر يحب السماوي؛ واحد يعد بشيء والآخر يطلب شيئا آخر. لا يظن الأب أنه مخطئ مع أنه يجب أن يُفضَل الله عنه[45]]. هكذا تقدم السيد المسيح بسيفه أي وصيته على فخذه أي على جسده، إذ جاءنا متجسدًا يتحدث معنا وجهًا لوجه.

يصف سفر القضاة سيف أهود بأنه ذو حدين، وكما يحدثنا الرسول بولس عن كلمة الله أنها كسيف ذي حدين (عب ٤: ١٢)، بالحد الأول يعمل في قلب الكارز وبالثاني في قلوب المستمعين، إذ كلمة الله تعمل في الرعاة والرعية كسيف يبتر الشر ويعزله حتى يُقدَم القلب نقيًا للرب.

ثالثًا: أخذ أهود لعجلون هدية يحملها قوم من عنده، وكأنه السيد المسيح الذي قبل الصليب فرأى الشيطان في ذلك العمل هدية له، عملاً مفرحًا به يتخلص من السيد. وقد حمل سمعان القيرواني مع السيد صليبه، وكأنه كان حاملاً معه للهدية. عند قتل عجلون كان أهود وحده، إذ إجتاز السيد المسيح المعصرة وحده ولم يكن معه أحد من الشعوب كما قيل بإشعياء النبي (٦٣: ٣).

رابعًا: كان عجلون في علية برود كمن يستجم من الحرّ، وهكذا التقى السيد المسيح مع عدو الخير خلال الصليب حين ظن العدو أنه كمن يستجم من نيران كرازة المسيح وحرارة أعماله الفائقة، فبينما كان يظن في نفسه أن يستريح إذا به يُقتل.

خامسًا: قتل أهود عجلون بعد أن قام من كرسيه الملكي، فسقط على الأرض قتيلاً، وكأنه إبليس الذي فقد سلطانه (كو ٢: ١٥) وسقط من السماء كالبرق (لو ١٠: ١٨).

سادسًا: أغلق أهود على عجلون القتيل الباب حتى لا يفتحه إلاَّ خدامه أو عبيده، وهكذا إذ نزع الرب عن إبليس بالصليب سلطانه جعله كقتيل ليس من يلتقي به إلاّ من أراد أن يكون له خادمًا وعبدًا. رجوع الإنسان إلى مملكة إبليس إنما يتحقق بمحض إرادة الإنسان، إذ لا يحمل إبليس سلطانًا عليه يلزمه بالخضوع له. هذا ما أكده القديس يوحنا الذهبي الفم في كثير من مقالاته[46].

سابعًا: بعد قتل عجلون على يدّي أهود، قتل الشعب عشرة آلاف جبار بأس من الموآبيين، فإن كان إبليس قد تحطم تمامًا على يدي السيد المسيح على الصليب، فإن عمل الكنيسة، شعب المسيح، ألاَّ تبقي شيئًا من أعمال إبليس داخل قلبنا. السيد المسيح غلب لحسابنا وخلص البشرية، لكي لا يتوقف المؤمنون به عن الجهاد الروحي ضد الخطية    – أعمال إبليس وجنوده – حتى النهاية.

٥. إقامة شمجر قاضيًا:

قام شمجر بعد أهود، ولا يعني هذا أن أهود قد مات، إذ يرى البعض أن شمجر حارب في أيام أهود وكان عمله محليًا.

ربما لم يجد شمجر آله للحرب فاستخدم منساس بقر، وهي أشبه بعصا في طرفها حديدة حادة تستخدم في رعاية البقر. على أي الأحوال الله يعمل بالقليل كما بالكثير. إنه يستخدمنا للعمل الروحي حتى وإن كنا لا نملك من المواهب والطاقات إلاّ منساس بقر.

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع

دبورة النبية وباراق

في كل عصر يبرز الرب دور النساء الإيجابي حتى لا يعشن في حياة سلبية بل يقمن بدورهن وسط الجماعة، وقد فاقت دبورة النبية والقاضية الكثير من القضاة أنفسهم.

١. سقوط إسرائيل في الشر           [١-٣].

٢. دبورة تحث باراق                 [٤-٩].

٣. دبورة تقتل سيسرا                [١٠-٢٤].

١. سقوط إسرائيل في الشر:

عاد إسرائيل يعمل الشر في عيني الرب فباعهم بيد يابين ملك كنعان الذي ملك في عاصمة الكنعانيين "حاصور" وكان رئيس جيشه سيسرا ساكنًا في حروشة الأمم، وبقي إسرائيل في ضيق شديد لمدة عشرين عامًا.

كلمة "حاصور" تعني (حظيرة) كما تعني (محاط بسور) إذ كانت بمثابة حصن، تقع قرب بحيرة ميروم، المعروفة الآن ببحيرة الحولة (يش ١١: ١-٥). مدينة حاصور تعرف اليوم بتل القدح وربما حضيرة أو خربة صرة. أما "يابين" فغالبًا ما كان لقبًا لملوك كنعان كفرعون لملوك مصر؛ أما سيسرا رئيس جيشه فيرى القديس أغسطينوس أنه يعني (الخروج من الفرح)[47].

إذ تكرر شر إسرائيل باعهم للتأديب بواسطة "سيسرا" أي بفقدان الفرح، وهذا من أقسى درجات التأديب، إذ يفقد الإنسان معية الرب واهب الفرح فيصير في قلق داخلي وكآبة قلب لا ينزعها إلاّ عودة القلب إلى الله ليتقدم كمقدس له أو سماء تحمله في داخله بروح الفرح والتهليل.

كان ملك كنعان أو رئيس "الضجيج" وعدم السلام ساكنًا في "حاصور" عاصمته أي كمن في حصن، يرسل سيسرا إلى القلب ليحطم كل فرح فيه.

كان سيسرا ساكنًا في "حروشة الأمم" [٢]، إي خليط الأمم أو لفيف من الأمم، وهو موضع في شمال فلسطين دعي هكذا نظرًا لإختلاف أجناس سكانه، أو لأن مجموعة مختلفة من الجنسيات قد اختلطت معًا في هذه المنطقة وأنشأت دولة مستقلة دعيت بحروش الأمم. كان سيسرا أي (الخروج عن الفرح) يقطن وسط الخليط من الأمم، بمعنى أن الإنسان يفقد فرحه الروحي حينما يتحول قلبه إلى حروشة الأمم الوثنية أي خليط من الخطايا والرجاسات.

٢. دبورة تحث باراق:

لقد عمل الله بأهود الرجل الأشول، كما استخدم شمجر الذي لا يملك إلاّ منساس بقر يحارب به، والآن يعمل بإمرأة أو كما يقول القديس أمبروسيوس بأرملة، حتى يسند الكل رجالاً ونساءً، المتزوجين والأرامل والعذارى، فيكون لكل دوره الروحي في حياة الجماعة المقدسة.

في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [أظهرت (دبورة) أن الأرملة ليست غير محتاجة إلى معونة الرجل ما دامت غير معوقة بجنسها واضعة على عاتقها أن تحقق التزامات الرجل، فقد عملت أكثر مما تعهدت. فعندما كان القضاة يحكمون اليهود، إذ لم يستطيعوا أن يجدوا من يحكمونهم ببر رجولي أو يدافعون عنهم بقوة رجولية والتهبت الحروب من كل جانب إختاروا دبورة لتحكم عليهم. هكذا حكمت أرملة الآلاف من الرجال في وقت السلام ودافعت عنهم ضد العدو (وقت الحرب). لقد وُجد في إسرائيل قضاة كثيرون من قبلها لك لم توجد قبلها قاضية... وإنني أعتقد أن عملها كقاضية قد سُجل، وأفعالها قد وُصفت حتى لا تتوقف النساء عن العمل الشجاع بسبب ضعف جنسهن. أرملة حكمت الشعب، أرملة قادت الجيوش، أرملة اختارت القواد، أرملة صممت على الحرب ونالت نصرات... ليس الجنس هو الذي يصنع القوة بل الشجاعة[48]]. ويختم حديثه عن دبورة القاضية بقوله: [أيتها النساء ليس لكن عذر بسبب طبيعتكن؛ أيتها الأرامل ليس لكن حجة بضعف جنسكن. لا تنسبن تغيركن إلى فقدانكن عون الزوج، فلكل إنسان حماية كافية إن كانت نفسه لا تعوزها الشجاعة[49]].

إن كنا نرى في القضاة صورًا متباينة لشخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، فإن دبورة تحمل صورة حية لكنيسة المسيح في جوانب كثيرة منها:

أولاً: من جهة الإسم " دبورة" أي (نحلة)، وقد قيل عن الكنيسة كنحلة: "شفتاك ياعروس تقطران شهدًا، تحت لسانك عسل ولبن" (نش ٤: ١٢)، كما قيل عنها: "النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام" (إبن سيراخ ١١: ٣). ويقول القديس غريغوريوس النيصي: [النحلة محبوبة من كل أحد، ويقدرها الجميع، فبالرغم من ضعف قوتها لكنها تحمل حكمة علوية وتسعى دومًا لبلوغ حياة الكمال... هكذا يليق بنا (كالنحلة) أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها، ونجمع من كل منها مخازننا التي للحكمة. هكذا يتكون العسل في داخلنا وكأنه ذلك المحصول الحلو الذي يخزن في قلوبنا كما في خلية نحل، وبواسطة التعاليم المتنوعة تتشكل في ذاكرتنا مخازن على مثال الخلايا الشمعية التي لا تهلك. يلزمنا أن نكون كالنحلة فإن عسلها حلو ولدغتها لا تؤذي، ننشغل في عمل الفضيلة الهام. إنها تنهمك بالحق في تحويل أتعاب هذه الحياة إلى بركات أبدية، وتقديم جهادها لصحة ملوك وشعوب. هكذا أيضًا النفس تجتذب العريس، ويعجب بها الملائكة، الذين يكملون قوتها في الضعف خلال الحكمة المكرمة[50]].

ثانيًا: إسم رجلها "لفيدوث" وهو جمع مؤنث للكمة "لفيد" أو "لبيد" وتعني (مشرق أو مصباح أو مشعل)[51]. أما عريس الكنيسة فهو ذاك الذي قال: "أنا نور العالم" (يو ٨: ١٢؛ ٩: ٥). إنه يشرق في كنيسته لكي تستنير به (مت ٥: 14)، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان السيد المسيح: [حقًا أنا الذي أوقد النور، أما استمرار أيقاده فيتحقق خلال جهادكم أنتم... بالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطل بهاءكم إن كنتم لا تزالون تسلكون الحياة الدقيقة، فتكونون سببًا في تغيير العالم كله. إذن، فلتُظهروا حياة تليق بنعمته حتى إذ تكرزون في أي موضع يصاحبكم هذا النور[52]].

ثالثًا: كانت دبورة "جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إبل في جبل أفرايم" [٥]. ما هذه النخلة التي دعيت بإسمها، وكانت تجلس تحتها ليصعد إليها رجال للقضاء، إلاّ خشبة الصليب التي تحدثت عنها الكنيسة العروس، قائلة: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة في حلقي" (نش ٢: ٣). كانت دبورة تجلس تحت شجرة الصليب بين "الرامة" التي تعني (مرتفعات)، وبيت إيل التي هي (بيت الله)، في جبل أفرايم أي جبل الثمر المتكاثر. وكأن جلوسها تحت الصليب قد وهبها ثمرًا متكاثرًا، إذ كانت تجلس على المرتفعات (الرامة) فوق هموم العالم وإغراءاته، عند بيت إيل إي في بيت الرب لتنعم بمعيته على الدوام. ما أحوجنا أن نكون كدبورة نعمل بغير إنقطاع في دائرة الصليب، مرتفعة قلوبنا إلى السمويات ومنطلقة إلى بيت الله الأبدي فننعم بثمر الروح المتكاثر.

يصف القديس أمبروسيوس حال دبورة كقاضية قبل إنطلاقها للحرب، قائلاً: [في وقت السلم لا نجد شكوى ولا خطأ في هذه الامرأة، بينما كان غالبية القضاة علة لخطايا ارتكبها الشعب ليس بصغيرة[53]].

رابعًا: تُشير دبورة إلى الكنيسة في حث أولادها على الجهاد الروحي ضد إبليس وأعماله الشريرة، أي الرجاسات والخطايا، فقد أرسلت دبورة إلى باراق بن أبينوعم من قادش نفتالي تطالبه بالزحف على جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون لمحاربة سيسرا رئيس جيش يابين.

يرى القديس أمبروسيوس أن باراق هو إبنها، بينما يرى بعض الحاخامات اليهود أن باراق نفسه هو لفيدوت زوجها، إذ أن لفيدوت كما قلنا يعني برق أو مشعل. والمعنى يقترب من كلمة باراق التي تعني برق أو بارق. وقد دُعي هكذا بسبب نشاطه وسرعة حركته خاصة في الحروب، يتحرك كالبرق الخاطف.

يرى القديس أمبروسيوس أن دبورة نجحت في عملها كقاضية خلال نجاحها في حياتها العائلية، إذ قدمت إبنها باراق رجلاً ناجحًا، وسلمته لقيادة الجيش بالرغم من المخاطر التي قد تلاحقه. يقول القدي: [هذه المرأة، قبل كل شيء هيأت كل التدابير الخاصة بالحرب، مظهرة أن احتياجات العائلة لا تعتمد على المصادر العامة وإنما الإلتزامات العامة تقوم خلال تدبير الحياة العائلية، فقدمت إبنها قائدًا للجيش لنعرف أن أرملة إستطاعت أن تدرب مصارعًا، علمته كأم، وأمرته كقاضية؛ بشجاعتها دربته وكنبية قدمته للنصرة[54]]، كما يقول: [يا لعظمة عزيمة أرملة لم تحتجز إبنها عن المخاطر خلال عاطفة الأمومة بل بالحري في غيرة الأم حثت إبنها أن يذهب ليغلب، وكانت نقطة قرار النصرة في يد إمرأة[55]].

لقد حثت دبورة باراق –أيًا كانت قرابته لها– لا لينطلق وحده وإنما ليأخذ معه عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون لمحاربة سيسرا المنجذب إلى نهر قيشون، فيدفعه الرب ليديه. فإن كان باراق يشير إلى الحياة المستنيرة في الرب كالبرق، سريعة الحركة، فإنه يليق بالمؤمن في جهاد الروحي أن يكون كباراق، أما العشرة آلاف رجل فيشيرون إلى الإنسان الحافظ للناموس (رقم ١٠) بطريقة روحية سماوية (× ١٠٠٠) أو بطريقة إلهية، لأن يومًا عند الرب كألف سنة، أما كونهم رجالاً فإنه يليق بالمؤمن ألاَّ يحمل في داخله تدليل النساء ولا عجز الأطفال، بل نضوج الرجال وجديتهم. هؤلاء الرجال يقدمون من بني نفتالي تعني (متسع) وبني زبولون تعني (مسكن) أي يكون لهم القلب المتسع كمسكن الله نفسه.

إن انطلق المؤمن كباراق برجاله أي يقدم كالبرق الخاطف ومعه الفكر الروحي للوصية كفكر يعيشه ويختبره، فيه نضوج الروح، وله القلب المتسع كمسكن الله وكل البشرية عندئذ يجتذب الله سيسرا من قيشون التي تعني (منحنى) ليسلمه في يده، أي يخضع حركات العدو الشرير الملتوية المنحنية تحت قدميه.

نهر قيشون يسقي مرج إبن عامر، تجري إليه المياه من جبل تابور وتلال الناصرة وجبل حرمون الصغير وجلبوع، وهو يجري في وسط سهل إبن عامر بمجرى ملتوٍ ومعوج متجهًا نحو الشمال الغربي فيدخل سهل عكا ويصب بالقرب من حيفا من جهة الشمال، ويسميه العرب "نهر المقطع". أغلب مجراه يجف في الصيف. على شاطئه قتل إيليا النبي كهنة البعل (١ مل ١٨: ٤٠).

٣. دبورة تقتل سيسرا:

طلب باراق من دبورة أن تذهب معه، فقالت له "إني أذهب معك غير أنه لا يكون لك فخر في الطريق التي أنت سائر فيها، لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأة" [٩]. أرادت دبورة أن تحث باراق للخروج للحرب لكنه إذ أصر على خروجها معه قبلت، وبروح النبوة قالت: "لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأة"، فقد ظن باراق أن دبورة تتحدث عن نفسها، غير أنها في الواقع غالبًا ما كانت تقصد ياعيل امرأة حابر القيني التي قتلت سيسرا في خيمتها بالوتد.

يرى القديس أمبروسيوس في باراق الذي قاد المعركة رمزًا لليهود الذين خرجوا يحاربون بتعاليم الأنبياء عن الخلاص، لكن المنتصر ليس باراق بل امرأة أممية هي ياعيل، بكونها رمزًا لكنيسة التي جاء أعضاؤها من الأمم. يقول القديس أمبروسيوس: [هكذا تنبأت دبورة عما حدث في المعركة. إذ أُمر باراق قاد الجيش لكن ياعيل هي التي حملت النصرة. لقد أعلنت نبوة دبورة سرًا عن إقامة الكنيسة من بين الأمم، هذه التي نالت الغلبة على سيسرا، أي على القوات المضادة لها. لأجلنا حاربت تعاليم الأنبياء "باراق"... ولم ينل الشعب اليهودي النصرة على العدو بل كان يجب محاربته خلال فضيلة الإيمان. وبخطئهم جاء الخلاص للأمم، بغباوتهم صارت لنا الغلبة[56]]. كما يقول: [حطمت ياعيل سيسرا، هذا الذي كان يجب على اليهود المحنكين أن يحاربوه بقيادة قائدهم (المبرق)، لأن كلمة "باراق" تعني (مبرقا)، إذ غالبًا ما كانت تجلب القراءة في أقوال الأنبياء وأعمالهم عونًا سمائيًا (يبرق) على الآباء... فالنصرة ابتدأت من الآباء (اليهود) وانتهت بالكنيسة[57]].

يروي لنا الكتاب المقدس قصة نصرة ياعيل (كنيسة الأمم) على سيسرا هكذا:

أولاً: "دعا باراق زبولون ونفتالي إلى قادش وصعد ومعه عشرة آلاف رجل، وصعدت دبورة معه" [١٠]. لم نسمع في بداية الإنطلاق عن دور قامت به ياعيل (الأمم)، إنما قام باراق الذي يمثل آباء اليهود الذين أبرقت فيهم نبوات العهد القديم، وانطلق معه دبورة (روح النبوة)... وكان بدء الانطلاق مع زبولون ونفتالي (أي القلب المتسع كمسكن لله)، من قادش التي تعني (قداسة). وكأن هذه البداية تمثل جهاد رجال العهد القديم خلال روح النبوة لينطلقوا للحرب خلال الحياة التقوية المقدسة.

ثانيًا: يأتي الكتاب بعبارة إعتراضية تهيئ الذهن للتعرف على ياعيل زوجة حابر القيني، إذ يقول: "وحابر القيني إنفرد من قايين من بني حوباب حمى موسى وخيم حتى إلى بلوطة في صعنايم التي عند قادش" [١١]. "حابر" يعني (محالفة)، قد إنفرد من العشيرة المنسوبة إلى قايين، أي اعتزل القينيين، لكنه لم يتمتع بالميراث في أرض الموعد رغم إيمانه بإله إسرائيل، لذلك خيّم في منطقة بلوطة صعنايم ليكون على حدود الكنعانيين وإسرائيل، فتحالف مع ملك الكنعانيين بكونه أمميًا وارتبط بصداقة مع بني إسرائيل كدخيل.

لعل حابر هذا يمثل بعضًا من الأمم الذين بحسب الناموس الطبيعي عرفوا الرب، لكنهم لم يتخلصوا من التحالف مع الكنعانيين إذ كانوا يسلكون في الرجاسات، حتى انطلقت منهم "ياعيل" أي كنيسة الأمم تقتل إبليس "سيسرا" وترفض رجاساته وعباداته الوثنية.

ثالثًا: "قالت دبورة لباراق: قم، لأن هذا هو اليوم الذي دفع فيه الرب سيسرا ليدك. ألم يخرج الرب قدامك؟!" [١٤]. كشفت دبورة عن سرّ النصرة لباراق ألاّ وهو التمتع بالقيامة مع الرب القائم من الأموات، محطم إبليس وجنوده، إذ قالت له "قم".

ما أحوجنا أن نسمع صوت الكنيسة "دبورة"، لننعم بالقيامة فلا يكون لسيسرا قوة علينا لأن الرب القائم من الأموات "يخرج قدامنا" كبكر الراقدين، يدفع سيسرا ليدنا.

رابعًا: "فنزل باراق من جبل تابور ووراءه عشرة آلاف رجل" (عد ١٤). كان باراق على جبل تابور كمن هو في حصنه ومأمنه، وكأنه كان مع التلاميذ الذين رأوا الرب متجليًا هناك فقالوا على لسان بطرس: "جيد يارب أن نكون ههنا". وقد أمرهم الرب بالنزول ليحمل الصليب ويحملونه معه، فيعلن بقيامته نصرته على سيسرا، واهبًا الغلبة لتلاميذه فيه.

خامسًا: "فأزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق، فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه" [١٥]. إن كان باراق قد نزل من جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل، فإنه لم يكن يملك مركبات، فكان بالنسبة لجيش سيسرا أقل بكثير في العدد التي يقدره يوسيفوس بـ ٣٠٠ ألفًا من الرجال، وبعشرة آلاف فارس، وأيضًا أقل في الإمكانيات إذ يقدر عدد مركباته بثلاثة آلاف منها تسعمائة من حديد. لكن الله كعادته لا يخلص بالإمكانيات البشرية الجبارة وإنما إذ تقدم صفوف شعبه أزعج العدو. ويُقال أن العدو إذ رأي الجيش ينزل عليه بغتة اضطرب وصار في حيرة فهربوا فكانت المركبات تصطدم معًا فاضطروا إلى تركها والسير على الأقدام، خاصة وأن يوسيفوس يقول بأن مطرًا غزيرًا تساقط وبردًا عظيمًا أفقدهم التدبر في الأمر، فكان الإسرائيليون يلاحقونهم، وكأنهم يترنمون مع المرتل قائلين: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فإسم إلهنا نذكر" (مز ٢٠: ٧).

أدرك سيسرا أن العدو اقترب منه جدًا فنزل من مركبته بكونها موضع تركيز العدو، خاصة وأنها أوشكت على الإنكسار، كما أدرك أنه من السهل أن يجد لنفسه مخبأ عن أن يختفي هو ومركبته معًا.

هكذا غلب باراق ورجاله سيسرا وجيشه لا بكثرة العدد أو الإمكانيات وإنما بإسم رب الجنود. يقول القديس أمبروسيوس: [لا تغلب الكنيسة قوات العدو بأسلحة هذا العالم، بل بأسلحة روحية "قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا" (٢ كو ١٠: ٤-٥). إن عطش سيسرا قد أطفئ بإناء من اللبن إذ غُلب بالحكمة، فما هو صحي بالنسبة لنا كطعام، فإنه بالنسبة للعدو يُضعف قوته ويقتله. إسلحة الكنيسة هي الإيمان، إسلحتها هي الصلاة التي تغلب العدو[58]].

سادسًا: "خرجت ياعيل لاستقبال سيسرا وقالت له: مل يا سيدي، مل إليَّ، لا تخف، فمال إليها إلى الخيمة وغطته باللحاف" [١٨].

كلمة "ياعيل" تعني (وعل) أي نوع من الماعز الجبلي، فياعيل كما قلنا تمثل كنيسة الأمم، كانت قبلاً جبلية تسكن القفار، هي وزوجها في تحالف مع سيسرا (إبليس). الآن إذ انطلق سيسرا إلى خيمتها دون خيمة زوجها لإدراكه أنه لا يستطيع أحد أن يدخل هذه الخيمة إن أنكرت وجود أحد في ضيافتها لكونها امرأة. والعجيب أنه وجدها خارجة لاستقباله بكلمات تبدو لطيفة للغاية، وإن كانت قد خدعته بالكذب وقتلته الأمر الذي يتنافى مع واجبات الضيافة. لعل ياعيل فعلت هذا ليس من ذاتها وإنما خلال إعلان بطريقة أو بأخرى لأن سيسرا حليف رجلها، وكانت في هذا تمثل الكنيسة التي خرجت من خيمتها القديمة أو إنسانها القديم لكي تبدو كمن يستقبل سيسرا فتقتل إبليس من حياتها وتصير خيمتها قبرًا للعدو ومقدسًا للرب. بمعنى آخر إن كانت الخيمة تمثل الجسد الذي إستضاف بشهواته إبليس، فخلال النعمة الإلهية يعلن الإنسان جحده لعدو الخير وكل أعماله فيتقدس الجسد القاتل للشهوات والحامل لروح الرب فيه.

طلب سيسرا قليلاً من الماء حتى يبدو أنه لا يطمع في شيء ويكفي استضافتها له وإنقاذها حياته فأعطته لبنًا من الوطب وهو غالبًا من الجلد يوضع فيه اللبن فيختمر... وكأنها قد أسكرته حتى يغط مع التعب الشديد والإرهاق في نعاس ثقيل فتحقق خطتها. ما هو هذا اللبن إلاّ تعاليم الإيمان التي تروي نفس المؤمن وتسكرها بحب الله، لكنه يكون قاتلاً لإبليس ومهلكًا له.

في القديم مال إبليس إلى حواء يتسلل إليها خلال الحية ويخدعها بثمر التفاح ليدخل خيمتها فيقتلها مع رجلها ونسلهما إلى الأبد، والآن حواء (ياعيل) تخرج إليه لتبدو كمن تستضيفه وتقدم له طعامًا لتقتله فتنقذ الكل منه، فلا يكون له بعد موضع في خيمتها أو خيمة رجلها أو خيام نسلهما من بعدهما.

ليمت سيسرا بيد امرأة بالميتدة (الوتد) الخشبي الذي في يدها حيث قارت إليه (تمشت نحوه على أطراف إصابعها)، لتضربه بالوتد في صدغه لينفذ في الأرض وهو مثقل نومًا فيموت [١١]. بمعنى آخر لتمت شهوات إبليس فينا بيد الكنيسة عروس المسيح الحاملة للصليب (الوتد)، في خفة وبسرعة تضرب إبليس في رأسه أي في بداية أفكاره وهو بعد مثقل نومًا قبل أن يدخل بأفكاره إلى الأعماق لتصحو وتملك. لنضرب بالصليب في صدغه أي نرفض أفكاره ونصلبها فتتنقى أعماقنا لحساب الرب.

<<

 


 

الأصحاح الخامس

تسبحة دبورة

يرى غالبية الدارسين أن تسبحة دبورة، والتي تُدعى "أغنية النصرة" أو "نشيد الغلبة"، من وضع دبورة نفسها، وضعتها بأسلوب شعري رائع وفي بلاغة تفوق أهل زمانها. لذلك فهي أقدم جزء في سفر القضاة. ويرى العلامة أوريجانوس أن هذه التسبحة هي تسبحة الإنسان المجاهد، الذي يكون كدبورة أو النحلة، يترنم بها أثناء جهاده الروحي حيث يزعزع الرب الجبال الوعرة أمامنا واهبًا إيانا النصرة لكي نملك أبديًا.

والتسبحة تضم ٣١ عددًا، تنقسم إلى ثلاثه أقسام أو فصول كل قسم يتكون من ٩ أعداد (٣-١١، ١٣-٢١، ٢٢-٣٠)، أما العددان ١، ٢ فهما مقدمة للتسبحة، والعدد ١٢ مقدمة للقسم الثاني، والعدد ٣١ خاتمة التسبحة.

١. مقدمة التسبحة                              [١-٢].

٢. الله قائد شعبه                     [٣-١١].

٣. مقدمة الفصل الثاني               [١٢].

٤. معركة دبورة وباراق             [١٣-٢١].

٥. هزيمة سيسرا                     [٢٢-٣٠].

٦. ختام التسبحة                      [٣١].

١. مقدمة التسبحة:

"فترنمت دبورة وباراق بن أبينوعم في ذلك اليوم قائلين: لأجل قيادة القواد في إسرائيل، لأجل إنتداب الشعب (تقدمهم للحرب باختيارهم)، باركوا الرب" [١-٢].

عند الضيق غالبًا ما يصرخ الإنسان طالبًا الخلاص، لكن عند الفرح نادرًا ما يرجع لله بالشكر والتسبيح لأجل أعماله معنا. لقد صرخ عشرة رجال برص، قائلين: "يا معلم إرحمنا" (لو ١٧: ١٣)، وإذ شفاهم رجع واحد منهم فقط ليمجد الله بصوت غريب وكان سامريًا، لذا قال الرب: "أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة؟! ألم يوجد من يرجع ليعطي مجدًا لله غير هذا الغريب الجنس؟!"

إذ خلص الرب شعبه من سيسرا ويابين على يدي دبورة وباراق، انطلقت دبورة تسبح الرب ومعها باراق، لعلها وضعت التسبحة بإرشاد إلهي وقدمتها لباراق، فقادت دبورة النساء للعمل الملائكي التسبيحي وقاد باراق الرجال. عند عبور البحر الأحمر انطلق موسى بالتسبيح (خر ١٥: ١) ووراءه تمثل المريمات اللواتي أعلنَّ القيامة قبل التلاميذ وكان لهن النصيب الأول في التمتع ببهجة القيامة والتمتع بالرب القائم من بين الأموات.

ماذا قالا؟: "لأجل قيادة القواد في إسرائيل"، بمعنى أنهما يسبحان الله الذي عمل في القادة الذين تسلموا مركز القيادة في الحرب معرضين حياتهم للخطر من أجل إخوتهم. وكأن دبورة وباراق وهما يمجدان الله واهب النصرة لا يتجاهلان جهاد أحد وتعبه! وقد جاءت الترجمة السريانية والكلدانية: "لأجل إنتقام إسرائيل"، أي من أجل ما وهبه الله لإسرائيل من قوة للإنتقام من سيسرا.

"لأجل إنتداب الشعب" أي لقبولهم العمل (الحرب) طوعًا، فإن كان القادة قد تسلموا مواقعهم فالشعب أيضًا جاهد بفرح طوعًا... وكأن النصرة الروحية إنما هي ثمر عمل الله في القادة كما في الشعب. ليتنا في الأعمال الناجحة ننسب الفضل كله لله، ولا نتجاهل دور القادة ولا الشعب.

لعل دبورة بقولها: "باركوا الرب" تطلب من القادة الذين كانوا أمناء في مواقعهم وللشعب الذي جاء طوعًا للعمل ألاّ تلهيهم النصرة من تقديم تسبحة الحمد لله والشكر لنعمته الغنية، وإنما يتمثلون بالرسول بولس القائل: "ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنه من أنفسنا بل كفايتنا من الله" (٢ كو ٣: ٥).

٢. الله قائد شعبه:

يبدأ صُلب التسبحة بالعبارة: "اسمعوا أيها الملوك واصغوا أيها العظماء، أنا أنا للرب أترنم، إزمر للرب إله إسرائيل" [٣]. إذ لم يكن لإسرائيل ملوك حتى ذلك الحين فالدعوة هنا موجهة لملوك الأمم الوثنية والتي كانت متعاطفة أو متحالفة مع يابين ملك كنعان لكي تتأمل أعمال الله الحيّ، فترجع عن الآلهة الكاذبة وتخشى الرب الحقيقي.

تؤكد "أنا أنا للرب أترنم"، وكأنها تقول: "أنا دبورة المرأة الضعيفة، أنا هي التي تفتح فمها لترنم لله مخلصها". فإن كنتم ملوكًا وعظماء، لكني وأنا الضعيفة أدعوكم لتدارك الأمر وتفهم أعمال الله معنا. وربما تكرار كلمة "أنا" مرتين يشير إلى الكنيسة، التي ترنمت للرب في العهد القديم خلال الناموس، وتزمر له في العهد الجديد خلال النعمة. إنها الكنيسة الواحدة، لكن كها أعضاء من رجال العهد القديم وأعضاء أُخر من العهد الجديد.

يرى القديس أغسطينوس[59] أن رقم ٢ يشير إلى "الحب" إذ يجعل الاثنين واحدًا، فتكرار كلمة "أنا" مرتين يشير إلى سمة دبورة الحقيقية أي الكنيسة، القادرة على الترنم والتسبيح، إلاَّ وهي سمة الحب، الذي بدونه لا يتقبل الرب عبادتها أو تسابيحها، كقول الرسول: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس ليّ محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن" (١ كو ١٣: ١).

"يارب بخروجك من سعير بصعودك من صحراء أدوم، الأرض ارتعدت، السموات أيضًا قطرت، كذلك السحب قطرت ماء" [٤]. تعود دبورة تذاكرتها إلى معاملات الله مع آبائها حين كانوا في البرية قومًا رحل، من الذي سندهم ضد أرض سعير وأدوم غيره (عد ٢٠: ٢٢؛ ٢١: ٤)! الله الذي خلص في القديم آباءهم هو هو بعينه يرافقهم في جهادهم ضد سيسرا ويابين ملك الكنعانيين.

تعلن دبورة سرّ النصرة بقولها للرب "بخروجك... بصعودك"، فالله لا يقف في معزل عن الإنسان بل في حبه لنا دائم الحركة من أجلنا، فبحبه يخرج من سعير (التي تعني شعر وهو إسم عيسو بكونه مشعرًا) ويصعد من أدوم (تعني دم أو أرض وهو إسم عيسو أيضًا). وكأنه بالحب ينزل إلينا ويحل بيننا لكي يخرجنا من "سعير" أي من الفكر الجسداني، ويصعد بنا إلى ما فوق آدوم أي فوق الدم والأرض. بالمسيح يسوع نخرج ونصعد فلا نعيش بعد على المستوى الجسدي الدموي الأرضي، إنما نشاركه الحياة الجديدة لنحيا في السمويات، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها ويقف بجوار عرش المجد[60]].

هكذا تؤكد دبورة النبية في تسبحتها أن الله هو العامل فينا، فإذ نحمله داخلنا نخرج من سعير ونصعد من أدوم الرمزية، أما ثمر هذا العمل فهو:

أولاً: "الأرض ارتعدت" [٤]. هنا يشير إلى الخشية التي حلت بالأمم تجاه إسرائيل حين سمعوا عن أعمال الله معهم، وكما يقول موسى النبي: يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذ يندهش أمراء آدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة يذوب كل سكان كنعان" (خر ١٥: ١٤، ١٥؛ راجع يش ٢: ٩–١١).

الأرض أيضًا تشير إلى الجسد، فإذ يعمل الله فينا يرتعد الجسد بمعنى يخشى الله فلا يسلك في شهواته وملذاته بل يخضع لروح الرب. وكما قيل في حبقوق النبي: "شققت الأرض أنهارًا" (حب ٣: ٩). فإن كانت أرضنا أي جسدنا قفراء، فإن الرب يفجر فينا بصليبه ينابيع روحه القدوس كأنهار ماء حيّ.

ثانيًا: "السموات أيضًا قطرت، كذلك السحب قطرت ماء" [٤]. إن كانت الأمم الوثنية كالأرض ارتعدت أمام الله، فإن أولاده كسموات تقطر ندى وكسحب تهطل أمطارًا تحول القفر إلى فردوس. بالله القدوس تحمل حياتنا الداخلية – كسموات – ندى الروح القدس وأمطاره السماوية.

ما نقوله عن الأمم الوثنية وأولاد الله نكرره بخصوص الجسد والروح، فإن كان الجسد كالأرض يرتعد أمام الله فلا يطلب شهواته، فإن الروح كسماء تقدم بالرب كل مطر مفرح.

ثالثًا: "تزلزلت الجبال من وجه الرب" [٥]. وكما يقول إشعياء النبي: "حين صنعت مخاوف لم ننتظرها نزلت تزلزلت الجبال من حضرتك" (إش ٦٤: ٣).

في دراستنا لسفر حزقيال رأينا الله يقيم نفوس قديسيه كجبال مقدسة يسكنها، ترتفع فوق الأرضيات، وعدو الخير أيضًا يقيم من خدامه جبالاً دنسة معثرة تتسم بكبرياء النفس وعصيانها للوصية[61]. مثل هذه الجبال تزلزل من وجه الرب، فيسقط تشامخها وتنسحق قدامه.

بعد أن عرضت دبورة أعمال الله مع الآباء في وسط البرية، عادت لتصف حالهم في أيامها وحاجتهم إلى عمل الله، فقالت:

"في أيام شمجر بن عناة في أيام ياعيل إستراحت الطرق (لم تستخدم الطرق)، وعابرو السبل ساروا في مسالك معوجة. خذل الحكام (توقف سكان القرى) في إسرائيل، خذلوا حتى قمت أنا دبورة، قمت أمًا في إسرائيل" [٦-٧].

يبدو أن الضيقة حلت بالشعب في أواخر أيام القاضي شمجر (٣: ٣١)، ولا نعلم إن كانت دبورة قد عاصرته أم لا، أما ياعيل هنا فيرى البعض أنها ياعيل زوجة حابر التي قتلت سيسرا، فربما كانت معروفة بغيرتها على إسرائيل لخلاصه لكنها كانت تعمل في الخفاء خشية بطش سيسرا بها، ويرى آخرون أنها ياعيل أخرى كان لها دورها في أيام شمجر. على أي الأحوال تقدم لنا دبورة صورة مرّة لمضايقات الكنعانيين لهم فقد أغلقوا عليهم الطرق الرئيسية حتى اضطر اليهود في سفرهم أن يستخدموا المسالك الفرعية المعوجة والخطيرة، وصارت الحقول بلا فلاحين إذ هربوا إلى المدن يتحصنون فيها خشية بطش الكنعانيين، فصارت الأراضي الخصبة قفرًا بلا ثمار. إنها صورة عمل عدو الخير مع البشرية، إذ يغلق أمامها الطرق الإلهية خلال قطع الرجاء أو إغراءات الشر، ويدخل بها في المسالك الملتوية الشريرة حتى ينحرف بها عن غايتها، ويحول حقلها الداخلي إلى قفر وجنتها إلى برية قاحلة. وبقيت البشرية هكذا حتى قامت الكنيسة الروحية (دبورة) وأعلنت أمومتها في الرب... "قمت أمًا في إسرائيل". وكأنه لم يكن ممكنًا التحرر من مرارة الكنعانيين إلاّ بقبول دبورة أمًا، أي قبول أمومة الكنيسة الروحية. لذلك يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تعتزل الكنيسة، لأنه لا شيء أقوى منها (كإيمان وحياة). الكنيسة هي رجاؤك وخلاصك وملجأك، إنها أعلى من السماء، وأوسع من المسكونة. إنها لن تشيخ قط، بل هي دائمًا في كامل حيويتها[62]].

"اختار آلهة حديثة؛ حينئذ حرب الأبواب، هل كان يُرى مجن أو رمح في أربعين إلفًا من إسرائيل؟!" [٨].

لم يقف الدمار خلال مضايقة الكنعانيين لهم من الخارج، وإنما تحقق خلال الفساد الداخلي، إذ لجأ اليهود إلى آلهة غريبة حديثة، وكما قيل في سفر التثنية: "ذبحوا لأوثان ليست لله، لآلهة لم يعرفوها أحداث قد جاءت من قريب" (تث ٣٢: ١٧). لهذا تركهم الرب حتى صارت الحرب عند الأبواب، فتحول الموضع الذي كان مجالس الرؤساء والحكام إلى ملحمة دماء، أمام هذا المشهد ماذا يفعل إسرائيل حتى وإن ضم جيشه أربعين ألفًا من الرجال إذ لا يحمل مجن الروح ولا رمح الإيمان! لقد حرمهم الكنعانيون من حمل السلاح، بل هم حرموا أنفسهم من السلاح الروحي بانحرافهم نحو العبادة الوثنية!

إذ صار حال الشعب هكذا، ضيق في الخارج وفساد في الداخل، لم يتركهم الرب بل أرسل إليهم قضاة قبلوا العمل ندبًا (طوعًا) لإنقاذ الكل؛ إذ تطالب الشعب أن يبارك الرب على هذا العمل، قائلة: "قلبي نحو قضاة إسرائيل المنتدبين في الشعب، باركوا الرب" [٩]. هكذا إذ قبل القضاة العمل وسط الضيقات المرّة تطالب أيضًا عظماء الشعب أن يسبحوا الرب الذي أرسلهم لخلاصهم: "أيها الراكبون الأتن الصحر، الجالسون على طنافس، والسالكون في الطريق، سبحوا" [١٠]. إن كان الشعب الفقير الذي يسير على قدميه في الطريق يشكر الله، فيليق أيضًا بالعظماء الراكبين الأتن القادمة من الصحراء، وهي من الأتن الغبراء في حمرة خفية مع بياض قليل، وهي نوع نادر لا يركبه إلاَّ الأغنياء، أما الجالسون على طنافس أي على سجاد ثمين فيُقصد بهم رجال القضاء، هؤلاء جميعًا فليسبحوا الرب.

تختم دبورة الفصل الأول من تسبحتها بقولها: "من صوت المحاصين بين الأحواض هناك يثنون على حق الرب، حق أحكامه في إسرائيل، حينئذ نزل شعب الرب إلى الأبواب" [١١]. جاء الأصل العبري غامضًا لذا اختلف الدارسون في تفسير هذه الخاتمة. فرأى البعض أن المحاصين هم رماة السهام بينما رأى الغالبية أنهم المتقاسمون الغنائم، كل يأخذ حصته، فيأتون بحصصهم من الغنائم إلى أحواض المياه لتشرب وهم يسبحون الرب ويثنون على عمله إذ وهبهم النصرة وقدم لهم من الأعداء غنائم كثيرة يدخلون بها إلى أبواب مدينتهم.

٣. مقدمة الفصل الثاني:

إذ سبحت دبورة الرب، وطالبت الأغنياء والفقراء، وكل طبقات الشعب أن يسبحوه إذ خلصهم من الأعداء ونزع عنهم فسادهم مقدمًا لهم عوض المذلة نصرة، وعوض الفقر خيرات وغنائم، تفتتح القسم الثاني أو الفصل الثاني من تسبحتها بهذه المقدمة: "استيقظي استيقظي يا دبورة استيقظي استيقظي... قم يا باراق واسب سبيك يا ابن أبينوعم" [١٢].

لما كان الفصل الثاني يعلن عمل الله الخلاصي خلال دبورة وباراق بكونه رمزًا وتهيئة للخلاص الذي يقدمه السيد المسيح خلال كنيسة العهد الجديد، لهذا يبدأ في مقدمته بمناداة الكنيسة أربع مرات " استيقظي". إن كانت البشرية في العالم قد نامت نوم الموت بسبب الخطية، فقد جاء السيد المسيح ليعلن قيامة الكنيسة التي يجمعها من جهات المسكونة الأربع، من المشارق والمغارب والشمال والجنوب. لتستيقظ الشعوب والأمم الوثنية من سباتها فقد جاء القائم من الأموات القادر على إقامتها.

إن كان باراق قد قاد المعركة فقد سبى سبيًا وصارت له غنائم كثيرة من العدو. يعرضها على الشعب ليملأ حياتهم بهجة عوض سنوات الذل التي عاشوها. هكذا إذ غلب الرب على الصليب حرر البشرية المسبية تحت عبودية إبليس وانطلق بها إلى حريته على المستوى السماوي، وكما يقول المرتل: "صعدت إلى العلاء، سبيت سبيًا" (مز ٦٨: ١٨). ويعلق القديس چيروم: [لقد صعدت إلى السماء. خلصتنا نحن الذين كنا مسبيين بواسطة الشيطان[63]]. ويعلق القديس أغسطينوس على قول المرتل "سبيت سبيًا" هكذا: [أحدث هذا لأنه غلب الموت الذي أسر الذين ملك عليهم؟! أو أنه يدعو الناس أنفسهم مسبيين إذ كانوق أسرى للشيطان؟... هؤلاء إذ خلصوا من الخطية التي كانوا يخدمونها صاروا خدامًا للبر وأبناءً![64]]. بمعنى آخر نحن الذين كنا قبلاً في السبي تحت نير الخطية تمتعنا بالحرية، فصرنا في المسيح يسوع أبناء لله، يسبينا حبه المفرح... فصرنا كمن في سبي الحب، غنائم محبته الفائقة. دخلنا إلى خدمة البر بفرح طوعًا بعد تذوقنا مرارة سبي الشر!

٤. معركة دبورة وباراق:

يصف لنا الفصل الثاني من هذه التسبحة معركة دبورة وباراق ونصرتهما في الرب.

"حينئذ تسلط الشارد على عظماء الشعب، الرب سلطني على الجبابرة" [١٣]. ماذا يعني بالشارد هنا إلاَّ الهارب أو الطريد بسبب الجور، وقد جاء في بعض الترجمات "البقية" أي ما تبقى في الشعب بعد ظلم الكنعانيين، فقد تسلط هؤلاء المطرودون أو البقية الضعيفة بعد ضيق سنوات طويلة على عظماء شعب الكنعايين... وقد استخدم الرب دبورة لتغلب الجبابرة منهم.

إذ أراد الله نصرة هذه البقية المسكينة أقام دبورة النبية التي جاءت الأسباط تسير وراءها مع باراق ضد الكنعانيين، وقد عددت في التسبحة هذه الإسباط هكذا:

أولاً: سبط أفرايم "جاء من أفرايم الذين مقرهم بين عماليق" [١٤].

كان أفرايم ساكنًا في الأرض التي تحسب حصنًا للإسرائيليين من عماليق، خرجوا للحرب مع باراق.

ثانيًا: "وبعدك بنيامين مع قومك" [١٤]. كان نصيب بنيامين ما بين أفرايم ويهوذا، وبالرغم من قلة عددهم كانوا أشداء بأس، أقوياء، خرجوا للحرب مع أفرايم يختلطون بهم.

ثالثًا: سبط منسى "من ماكير نزل قضاة (حكام)" [١٤]. كانت عشيرة ماكير من سبط منسى، الذين أقاموا غرب الأردن، وقد اشتركوا مع باراق في الحرب، وكان منهم قادة الجيش (حكام).

رابعًا: سبط زبولون "ومن زبولون ماسكون قضيب القائد" [١٤]. جاءت الكلمة العبرية التي ترجمت "قائد" شفر إي "الكاتب"، فكان الكاتب يرفع العصا فوق البهائم ليكون العاشر من كل منها قدسًا للرب (لا ٢٧: ٣٢)، لذا رأى البعض إنه من زبولون قام الكاتب الذي يمسك بيده القضيب ليحصي الجنود ويكتب عددهم. لعله يشير بهذا إلى عمل تعداد للجيش ليتمتع الكل بنصيبه في الغنائم. ويرى البعض أن قضيب القائد أو الكاتب هنا يشير إلى مركزهم القيادي لتحريك الجيش للعمل.

خامسًا: سبط يساكر "والرؤساء في يساكر مع دبورة، وكما يساكر هكذا باراق، اندفع إلى الوادي وراءه" [١٥]. هنا تمدح رؤساء يساكر إذ خرجوا بأنفسهم مع دبورة التي كانت في ساحة القتال، لم يرسلوا رجالهم فحسب بل خرجوا بأنفسهم. ولكي تُظهر شجاعتهم وأقدامهم لم تشبههم بباراق الشجاع بل وشجعت باراق بهم زيادة في المديح. لقد اندفع يساكر مع باراق إلى الوادي (٤: ١٤)، أي إلى السهل الذي ضم الأعداء وفرسانهم ومركباتهم الحديدية.

سادسًا: سبط نفتالي "زبولون شعب أهان نفسه إلى الموت مع نفتالي على روابي الحقل" [١٨]. في الأصحاح السابق رأينا باراق يدعو زبولون ونفتالي إلى قادش للحرب [١٠] ويبدو أنه كان لهم نصيب الأسد في هذه المعركة، لذلك مدحت زبولون بأنه ماسك بقضيب القائد [١٤]، والآن في ختام حديثها عن الأسباط تصف زبولون ونفتالي بأنهما خاطرا بحياتهما حتى الموت في شجاعة نادرة وحب. أما كونهما يخاطران على روابي (الرابية موقع مرتفع) الحقل، فعلامة الشجاعة أن يقفا في مكان عالٍ أمام العدو بلا خوف، وفي الحقل حيث تم حصاد الكثيرين في هذه المعركة.

إن كانت دبورة قد مدحت الأسباط المشتركة مع باراق في الجهاد، فبلطف وأدب وبخت الأسباط التي رفضت الإشتراك معه، خاصة تلك التي قطنت شرقى الأردن في أرض جلعاد "سبطا رأوبين وجاد ونصف سبط منسى[65]"، وقد إشترك معهما في هذا التهاون سبطا دان وأشير.

رأينا في دراستنا لسفر العدد أن السبطين والنصف سبط الذين أرادو السكنى شرقي الأردن يمثلون اليهود الذين لم ينعموا بعبور الأردن ليتمتعوا بميراث العهد الجديد[66]، أما سبط دان فيرى بعض الآباء أنه يشير إلى الهراطقة إذ منهم يخرج ضد المسيح في عصر الإرتداد[67]، أما أشير فتذكر دبورة أنه كان مقيمًا على ساحل البحر أي مرتبطًا بقلاقل العالم واضطراباته. وكأن الفئات التي تحرم من إكليل النصرة هم رافضوا المسيح يسوع (اليهود)، والهراطقة الحاملون لروح ضد المسيح، ومحبو العالم والغارقون في اهتماماته.

وبخت دبورة النبية الأسباط القائمة شرقي الأردن فقالت لرأوبين: "على مساقي (جداول) رأوبين أقضية قلب عظيمة؛ لماذا أقمت بين الحظائر لسمع الصغير للقطعان، لدى مساقي رأوبين مباحث قلب عظيمة" [١٥-١٦]. كأنها تقول لرأوبين وهو البكر بين الأسباط أنه قد خذل إخوته إذ جلس عند مجاري المياه يتباحث في الأمر فارتبط قلبه بخصوبة الأرض عوض النزول مع إخوته للجهاد ضد العدو. لقد فضل الإقامة بجوار حظائر غنمه يسمع صفير الرعاة للغنم عوض الاستماع لصوت بوق القتال. هذا السبط يمثل النفس التي إرتبطت بمجاري مياه العالم وتعلقت بالغنم أي بالجسد الحيواني، بمعنى آخر أفسدت محبة العالم وشهوات الجسد روحهم عن الجهاد الروحي ضد الخطية.

والآن توبخ بقية الأسباط القائمة شرقي الأردن بقولها: "جلعاد في عبر الأردن سكن" [١٧]. جلعاد يمثل النفس التي إستكانت خلف الأردن، فلم تقبل الدفن مع السيد المسيح في مياه الأردن، إنها تختار الطريق السهل المتسع، لا طريق شركة الآلام والدفن مع الرب!

إذ مدحت دبورة القاضية الأسباط المشتركة مع باراق في المعركة ووبخت الأسباط التي تكاسلت، تتحدث عن العدو نفسه أو عن المعركة، فتقول:

"جاء ملوك، حاربوا، حينئذ حارب ملوك كنعان في تعنك على مياه مجدو. بضع فضة لم يأخذوا" [١٩]. تتحدث هنا عن الملوك الذين آزروا ملك كنعان، فقد جاءوا إلى تعنك وهي مدينة تبعد حوالي خمسة أميال جنوب شرقي مجدو، إسمها كنعاني يعني (أرضًا رملية). كانت هذه المدينة تابعة ليساكر ثم صارت لمنسي ثم للاويين. وقد ظن العدو حين نزل إليها أنه يأخذ الغنائم والفضة فدية عن الأسرى أو يأخذ أجرة من ملك كنعان عن مساعدتهم له، لكنهم فوجئوا بما لم يتوقعوا، إذ رأوا السماء نفسها تحاربهم. "من السموات حاربوا، الكواكب من حبكها (طريق مسارها) حاربت سيسرا، نهر قيشون جرفهم، نهر وقائع نهر قيشون، دوسي يا نفسي بعز" [٢٠-٢١].

بينما توقع حلفاء كنعان أن ينالوا النصرة بسهولة فيتمتعوا بأجرة من الفضة ثمنًا لتعبهم مع إقتسام للغنيمة إذ بالطبيعة نفسها تقف ضدهم، فالسموات ثارت ضدهم خلال ظروف الطبيعة القاسية حتى بدت كواكبها كجنود تحاربهم، ونهر قيشون فاض بالمياه فجرف القتلى مع الجرحى والأحياء أيضًا. ذكر يوسيفوس أن الطبيعة لعبت دورًا رئيسيًا في هزيمة ملك كنعان وحلفائه!

حين يرجع الإنسان إلى الله بالتوبة، لا تستطيع ضربات العدو الشمالية أو اليمينية أن تلحق به، إنما يعطيه الرب عونًا من السماء ويكون السمائيون والقديسون كجنود روحيين يستخدمهم الله لعونه، ومياه الأنهار (ينابيع الروح القدس) تجرف الخطية وتهلكها، عندئذ بقوة الروح يقول: "دوسي يا نفسي بعز"، أو كما جاءت في بعض الترجمات "لقد دستِ يا نفسي الأقوياء"، إذ تظفر بإبليس وأعماله الشريرة التي أسرت النفس زمانًا! لتقل نفوسنا: "لا تشمتي بيّ ياعدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور ليّ) (مي ٧: ٨).

٥. هزيمة سيسرا:

إذ كشفت دبورة في الفصل الثاني حقيقة المعركة، أن لله قد تدخل مستخدمًا الطبيعة لحساب مؤمنيه تكشف الآن في الفصل الأخير من تسبحتها عن ضعف سيسرا وهزيمته، فتقول: "حينئذ ضربت أعقاب الخيل من السوق سوق أقويائه" [٢٢]. أدرك جيش سيسرا الهزيمة فحاول الفرار في جنون وهلع فكان يضرب الخيل بشدة للهرب وكانت الخيل تضرب الأرض بحوافرها، لكن "باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدة قوته لا ينجي" (مز ٣٣: ١٧).

ما هذا الخيل الذي يضرب بحوافره الأرض ولا ينجي إلاَّ إتكال الإنسان على البشر أو على ذاته في الخلاص، فيكون كمن يركب خيلاً تعجز عن خلاصه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [مخدوع هو الإنسان الذي يظن أنه يقتني الخلاص من البشر، أو ذاك الذي بتهور شجاعته الذاتية يهرب من الهلاك[68]].

"إلعنوا ميروز قال ملاك الرب، إلعنوا ساكنيها، لأنهم لم يأتوا لمعونة الرب معونة الرب بين الجابرة، تبارك على النساء ياعيل إمرأة حابر القيني" [٢٣-٢٤]. حلت اللعنة بمدينة "ميروز" بكل سكانها بيمنا حلت البركة على ياعيل لأن ميروز إتخذت موقفًا سلبيًا، فإذ رأت سيسرا هاربًا لم تمسك به ولا سلمته لمن سندهم الرب أما ياعيل فقتلته. مدينة ميروز تمثل الإنسان الذي لا يجمع مع الرب فهو يفرق (مت ١٢: ٣٠؛ لو ١١: ٢٣)، أما ياعيل فتمثل الإنسان العامل ضد مملكة إبليس لحساب الرب. أظهرت ميروز المدينة بكل سكانها جبنًا، أما المرأة الوحيدة في خيمتها فأظهرت شجاعة ضد الشر!

يقال أن ميروز مدينة إندثرت تمامًا كانت بالقرب من نهر قيشون، رأت جيش سيسرا هاربًا وربما رأت سيسرا نفسه يهرب فلم تبالي ولم تسند شعب دبورة وباراق.

صارت ياعيل مباركة أكثر كل نساء الخيام، قدمت لسيسرا اللبن (الزبدة) لتضربه بالوتد ومضراب العَملة (به يُضرب الوتد) في رأسه فسحقته، وصار قتيلاً عند رجليها... وكما قلنا انها صورة لكنيسة الأمم التي ضربت بالإيمان بالصليب رأس الحية وسحقت إبليس تحت قدميها فاقدًا كل سلطان له عليها، بل وصار بها حياة.

بينما انتصرت ياعيل لحساب مملكة الرب كانت أم سيسرا في قلقها مع كبرياء قلبها تولول. لقد توقعت بطشه السريع بهذا الشعب ورجوعه بغنائم كثيرة مع مركباته. لكن إحدى النساء في القصر أجابتها ألاَّ تقلق فإنه منشغل بالغنيمة مع جنوده، يقتسم نساء إسرائيل ويسلب الثياب الثمينة المطرزة الوجهين... هذا ما اعتاد عليه هذا العدو قبلاً: يقتل الرجال (النفوس) ويقتنص النساء (الأجساد) كغنائم تعمل لحسابه ويستخدم كل مواهبهم (الثياب) للشر.

٦. ختام التسبحة:

"هكذا يبيد جميع أعدائك يارب، وأحباؤه كخروج الشمس في جبروتها. واستراحت الأرض أربعين سنة" [٣١].

في بعض الترجمات "وأحباؤك"، تُشير إلى شعب الله الذي حطم الله عدوهم (إبليس) وأباده، فأشرقت كالشمس تزداد مجدًا وبهاءً وتشتد حرارتها بعد انبثاقها...

لتسترح أرضنا أي جسدنا في الرب من الشهوات والحروب، مادام الرب نفسه هو العامل فينا العدو الحقيقي!

<<

 

 

 


 

الأصحاح السادس

ملاك الرب وجدعون

إذ سقط الشعب تحت المذلة للمديانيين أرسل الله جدعون قاضيًا ومخلصًا للشعب.

١. إذلال المديانيين للشعب           [١-٦].

٢. الحاجة إلى مخلص               [٧-١٠].

٣. ظهور ملاك الرب لجدعون        [١١-2٤].

٤ . هدم مذبح البعل                  [٢٥-٢٧].

٥. هياج المدينة عليه                [٢٨-٣٢].

٦. جدعون وجزّة الصوف            [٣٣-٤٠].

١. إذلال المديانيين للشعب:

إذ استراح بنو إسرائيل أربعين سنة (٥: ٣١)، نسوا الرب وصنعوا الشر في عينيه، فأسلمهم ليد مديان للتأديب سبع سنوات، وكأن دائرة الخطية فالتأديب ثم الخلاص تتكرر.

جاء بنو مديان من نسل قطورة سارية إبراهيم (تك ٢٥: ١-٢)، وهم جماعة من البدو سكنوا شرقي وجنوب شرقي البحر الأسود. وكانوا مملوئين عنفًا حتى اضطر الإسرائيليون إلى الهرب من جورهم إلى الكهوف في الجبال [٢]. وقد اتفقوا مع العمالقة وبني المشرق (قبائل من عرب البادية) على مضايقة الإسرائيلين، فكلما زرع الإسرائيليون قاموا بإتلاف الحقول مع سلب حيواناتهم، حتى لم يتركوا لهم القوت الضروري للحياة [٤]. كانوا ينزلون إليهم كغزوات مثل الجراد في الكثرة [٥] ليدمروا كل مالهم من مجيئك إلى غزة [٤]، أي من الأردن حتى يصلون الحد الأقصى لإسرائيل في غزة.

هذه هي الصورة المتكررة لا في عصر القضاة فقط وإنما في حياة الإنسان اليومية، عندما يستريح عوض أن يشكر الرب ويسبحه إذا به ينساه فيسقط تحت مذلة الخطية التي تتسلم سلطانًا عليه خلال تراخيه فتسطوا على حقوله الداخلية وتفقده حتى قوته الضروري. وكل خطية تسحب معها خطية أخرى حتى تصير الخطايا كحملة من الجراد تسطو على القلب والفكر والأحاسيس وتبتلع كل إمكانيات الإنسان وطاقاته وتجرده من كل حيوية.

٢. الحاجة إلى مخلص:

مضايقة المديانيين لإسرائيل إنما جذبته للصراخ لله من أجل الخلاص، فأرسل الله لهم نبيًا يكشف لهم جراحاتهم معلنًا لهم رحمة الله التي قوبلت بعصيانهم. وهكذا إذ لم يكرسوا قلوبهم للرب خلال الراحة سلمهم للضيق لأجل خلاصهم، وكأنه يلزمهم بالتوبة خلال مرارة التأديب. وكما يقول القديس بفنوتيوس: [بينما ننشغل بغنى هذه الحياة وأطاييبها إذ تحلق بنا تجربة فجأة فتهددنا بخسارة أو بموت أحد الأعزاء لنا... فما يدفعنا للاقتراب نحو الله استهنا بالسير معه أيام ترفنا. هذه الدعوة الإلزامية غالبًا ما نجد لها أمثلة في الكتاب المقدس عندما نقرأ أنه بسبب خطايا بني إسرائيل يسلمهم لأعدائهم. وبسبب طغيان الأعداء وعبوديتهم القاسية يرجعون ثانية ويصرخون إلى الرب... في هذا يقول المرتل: "إذ قتلهم طلبوه ورجعوا وبكروا إلى الله، وذكروا أن الله صخرتهم والله العلي مخلصهم" (مز ٧٨: ٣٤-٣٥). وأيضًا: "فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فخلصهم من شدائدهم" (مز ١٠٧: ١٩)[69]].

هكذا أرسل الرب لهم الضيق ليسحبهم للخلاص، وبعث إليهم نبيًا يكشف لهم عن محبة الله الفائقة، يقول لليهود أنه فينحاس بن العازار بن هرون. يبدو أن النبي تحدث معهم أثناء احتفالهم بأحد الأعياد، وكما هي العادة يذكرهم بأعمال الله مع آبائهم ليبعث فيهم روح الرجاء واليقين... خاصة أحداث الخروج من أرض العبودية وطرد الأمم من أمامهم ليرثوا أرض الموعد؛ الخط الواضح في معاملات الله مع شعبه في أغلب كتابات الأنبياء.

٣. ظهور ملاك الرب لجدعون:

"وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عُفرة التي ليوآش الأبيعزري، وإبنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين، فظهر له ملاك الرب، وقال له: الرب معك يا جبار البأس" [١١-١٢].

"ملاك الرب" هنا هو أحد ظهورات إبن الله، هذا واضح من قوله لجدعون: "أما أرسلتك؟!... إني أكون معك" [١٤-١٦]، فالملاك لا يرسل الأنبياء أو القضاة من عنده، ولا يقل "أنا أكون معك"، إنما هذه كلمات إبن الله الذي يعلن معيته مع رجال الله. وقد دُعي إبن الله "ملاك العهد" (مل ٣: ١)، و "ملاك الحضرة" (إش ٦٣: ٩).

ظهر إبن الله جالسًا تحت شجرة البطمة في قرية "عفرة" التي تعني (غزالة) أو (ترابي "عفار")، تقع غربي الأردن، سكنها الأبيعازريون من سبط منسى، ربما كان بها مقدس (هيكل) قبل أيام الإسرائيليين، وهي قرية الطيبة التي تبعد حوالي ثمانية أميال شمالي بيسان[70]. ظهر إبن الله لجدعون، الذي يعني إسمه "مخطب بشدة" أو "مصارع"[71]، وكان يضرب سنابل الحنطة بالعصا لينتزع منها الحبوب، ربما لأنه ان قد فقد أدوات الدرس بسبب هجمات المديانيين. كان يخبط الحنطة خفية في معصرة، غالبًا ما كانت في كهف أو مغارة، حتى لا يراها المديانيون وينهبونها... هكذا كان حال الشعب في ذلك الحين.

يرى القديس أمبروسيوس في جدعون رمزًا للمخلص الحقيقي يسوع المسيح، فقد وُجد جدعون تحت البطمة وكأنه تحت ظلال حكمة الصليب الخشبة المحيية، وكان جدعون يخبط الحنطة بعصا وكأنه كان يتنبأ بما يفعله المخلص خلال التجسد العتيد أن يتم بطريقة سرية. فالعصا في رأي القديس أمبروسيوس هي الصليب الذي يعزل الحنطة عن التبن، فيظهر القديسون المختارون المختفون من الذين هم بلا نفع بل نفاية. بالصليب يعلن الحق المُختبر (الحنطة) مفرزًا من أعمال الإنسان العتيق. تظهر الحنطة بالصليب في الكنيسة كما في المعصرة، لأن [الكنيسة هي معصرة الينبوع الدائم الذي يفيض بثمر الكرمة السماوية[72]].

هكذا يعمل جدعون الحقيقي – السيد المسيح- داخل كنيسته كما في المعصرة، يضرب بصليبه سنابل الحنطة ليفرز الحبوب من التبن، ويهرب الحنطة من المديانيين [١١] خفية حتى يقدمها طعامًا! يفرز الرب القديسين ويخفيهم فيه حتى لا يسلبهم عدو الخير بأعماله الشريرة (المديانيين)، فيقدمهم للرب طعامًا سماويًا، أو ثمر حقله السماوي المفرح!

نعود إلى الحوار الذي تم بين ملاك الرب وجدعون، فقد بدأ ملاك الرب بالتحية: "الرب معك يا جبار البأس" [١٢]. لعل جدعون كان معروفًا بالشجاعة والقوة، إن كان كما يقول هو: "ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي" [١٥]. إختار الله جدعون الشجاع القوي لئلا يظن أحد أن الله لا يعمل إلاَّ بالضعفاء وقليلي المواهب... إنه بكثير أو قليل يخلص على كل حال قومًا. لكن فيما هو قوي وشجاع كان يدرك بالمذلة من جهة سبطه وعشيرته ومن جهة نفسه، فسبطه هو سبط منسى القليل العدد والكرامة فهو ليس بالسبط البكر جسديًا كرأوبين ولا من سبط اللاويين المقدس للرب... الخ، هو نفسه الأصغر بين إخوته في السن كما في الكرامة.

كان جدعون رمزًا للسيد المسيح "جبار البأس" إذ هو كلمة الله القدير الذي به كان كل شيء، القادر أن يقيم من الأموات ويخلق من العدم، وبالتجسد صار كمن هو أصغر الجميع، إذ صار عبدًا وخادمًا للبشرية، مرذولاً ومهانًا، يدخل حتى إلى موت الصليب!

كان جدعون أيضًا مملوءًا غيرة من جهة إخوته لهذا عندما قال ملاك الرب: "الرب معك يا جبار البأس"، أجاب: "أسألك يا سيدي إن كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا، قائلين: ألم يصعدنا الرب من مصر؟! والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان" [١٣]. لم يشك في كلمات الرب لكنه في دالة المحبة يعاتب إن كان الله معهم، ولم يقل "معي"، إذ لا يستطيع جدعون أن يتذوق معية الله الشخصية بينه وبين الله خارج الجماعة المقدسة، فكيف يُصاب الشعب بهذا كله بواسطة مديان؟! لا ينكر أعمال الله العجيبه مع آبائه، لكنه يستفسر إن كان الله معهم فلماذا لا يتمتع جيله بما تمتعت به الأجيال السابقة؟! حقًا ما أجمل قلب جدعون الحامل للغيرة المتقدة نحو إخوته في الرب، فيقف بقلب متسع وبدالة يعاتب الرب نفسه ليغتصب منه مراحمه!

"فالتفت إليه الرب (يهوه) وقال: إذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان، أما أرسلتك؟!" [١٤]. هنا يتحدث عن ملاك الرب أنه يهوه، الذي التفت إلى جدعون، فإذ أعلن جدعون غيرته ودخل مع الرب في حوار مفتوح إستحق أن يكون موضوع التفاته، إذ يفرح الرب بقلب كهذا، فيلتفت ليستخدمه إناءً للبر. لقد سأله أن يذهب بقوته هذه، ربما يقصد بغيرته المقدسة، ولعله أراد توبيخه على إتكاله على قوته الشخصية... لكن الواضح من سياق الحديث أن الرب يدعوه للعمل، قائلاً: "أما أرسلتك؟!" وكأنه يقول: لا تخف مما أصابكم فإني أرسلك لأعمل بك كما عملت مع آبائك! وكما سبق فقال ليشوع: "أما أمرتك؟!" (يش ١: ١، ٩).

هنا يقف جدعون في إتضاع لا ليعتذر عن العمل وإنما ليغتصب العمل الإلهي بروح الإتضاع بقوله: "أسألك ياسيدي بماذا أخلص إسرائيل؟! ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي" [١٥]. هنا يدعوه "سيدي" وبالعبرية "دوناوي" وهو لقب خاص بالله وحده، يعترف جدعون بمذلة عشيرته وبصغره هو شخصيًا. هذا هو منهج كل العاملين بالحق في دائرة الرب، إذ يشعرون بضعفهم مع ثقتهم بالله العامل فيهم يتمتعون بالقوة. فنرى موسى يقول: "من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر؟!" (خر ٣: ١١)، فكانت إجابة الرب في الحال: "أنا أكون معك" (خر ٣: ١٢). بنفس الروح يعلن إشعياء في بدء عمله النبوي: "ويل ليّ إن هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" (إش ٦: ٥)؛ وأيضًا يقول أرميا النبي: "آه يا سيد الرب، إني لا أعرف إن أتكلم لأني ولد" (أر ١: ٦).

إذ تمتع جدعون بالدعوة للعمل بالرغم من إعترافه بضعفه وعجزه، وجاء الصوت الإلهي يؤكد معية الرب له وتقديم النصرة له، طلب جدعون علامة من الرب الذي يكلمه، قائلاً: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فاصنع ليّ علامة إنك أنت تكلمني" [١٧]. لماذا طلب جدعون علامة ليتأكد إن الذي يحدثه هو الرب؟ لعله استكثر على نفسه أن يرى الرب نفسه فحسب ما يحدث حلمًا أو خيالاً، أو لأنه استكثر على نفسه أن يتسلم رسالة كهذه فأراد التأكد من شخصية من يحدثه. أما العلامة التي طلبها فهي ليست عملاً خارقًا مجردًا وإنما أراد تقديم (منحة) للضيف ليعلن الرب قبوله هذه التقدمة. سأله أن ينتظر حتى يقدم له لحمًا (جدي معزي) في سل ومرقًا في قدر وفطيرًا أي خبزًا غير مختمر. فسأله ملاك الرب أن يضع اللحم والفطير على صخرة ويسكب المرق عليهما، إذ مدّ ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده صعدت نار من الصخرة وأكلت اللحم، عندئذ اختفى ملاك الرب.

كانت العلامة أن ملاك الرب إنتظر حتى يقدم جدعون التقدمة على الصخرة التي قامت بدور المذبح، فأرسل نارًا لتأكل التقدمة بعد سكب المرق عليها كماء يمنع من الاحتراق (١ مل ١٨: ٣٣– ٣٥)، معلنًا قبوله الإلهي للتقدمة (لا ٩: ٢٤؛ ١ مل ١٨: ٣٨).

يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا روحيًا لهذا اللقاء، إذ يقول: [الصخرة تُشير إلى جسد المسيح، إذ مكتوب: "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح" (١ كو ١٠: ٤)... هنا يعلن بشكل سري أنه عندما يصلب جسد الرب يسوع تُنزع خطايا العالم كله، ليس فقط الخطايا الفعلية وإنما حتى شهوات الذهن الشريرة. فلحم جدي المعزي يُشير إلى الخطايا الفعلية، والمرق يشير إلى إغراءات الشهوات؛ كما هو مكتوب أن الشعب كان يشتهي اللحم فناحوا قائلين: "من يطعمنا لحمًا؟!" (عد ١١: ٤). إذ مد الملاك العكاز ولمس الصخرة فصدرت منها نار، هذه الحقيقة تعلن أن جسد المسيح الممتلئ بالروح الإلهي يحرق كل خطايا الطبيعة البشرية، لذلك قال الرب: "جئت لألقي نارًا على الأرض" (لو ١٢: ٤٩)[73]]. مرة أخرى يقول: [الشجرة التي وقف تحتها الملاك والعكاز الذي أمسك به يشيران إلى الصليب. الصخرة التي قدم عليها جدعون المحرقة هي المسيح، إذ يقول الرسول "والصخرة كانت المسيح" (١ كو ١٠: ٤). جدي المعزي الذي ذُبح يُشير إلى الجنس البشري الذي إرتكب الخطية. كما نفهم حقيقة لمس الملاك للصخرة بالعكاز وانطلاق النار لتأكل جدي الماعز أنه الصليب الذي لمس الصخرة أي المسيح، فانطلقت نار المحبة لتبيد خطايا الجنس البشري. حقًا، المسيح – جدعون الحقيقي– يقول عن نفسه في الإنجيل: "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو ١٢: ٤٩)[74]].

إذ أعلن الرب قبوله تقدمة جدعون، كاشفًا عن سرّ الصليب الذي فيه تغفر خطايانا الفعلية كما شهواتنا الخفية في إسحقاقات الدم، حيث تنطلق نار الحب الإلهي لتبيد كل ضعف فينا، "ذهب ملاك الرب عن عينيه" [٢١]. هذا الإنطلاق كان بطريقة فائقة لا نستطيع التنبؤ عنها، لكننا نعرف أنها هزت أعماق قلب جدعون حتى ظن أنه لا يقدر بعد أن يعيش إذ رأى الرب، فقال: "آه يا سيدي الرب، لأني رأيت ملاك الرب وجهًا لوجه" [٢٢]، لكن الرب أجابه "السلام لك، لا تخف، لا تموت" [٢٣].

خلال اختفاء ملاك الرب علم جدعون يقينًا أنه الرب، وأنه رآه وجها لوجه، فحسب أنه لن يعيش، كقول الرب لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر ٣٣: ٢). لكن الرب طمأنه، أنه وإن كان قد رآه إنما من قبيل تنازله الإلهي، كشف له ذاته في رؤيا قدر ما يحتمل حتى لا يموت. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في مقاله "عدم إدراك طبيعة الله" على لسان الله: [لا أعلن جوهري ذاته، إنما أتنازل (في رؤي) بسبب ضعف هؤلاء الذي يرونني[75]].

أمام هذا الحب الإلهي أقام جدعون مذبحًا تذكاريًا للرب، دعاه "يهوه شلوم" أي "الله سلام"، لأن الرب وهبه السلام، إذ حسب كلماته الإلهية "سلام لك" ليست تحية مجردة وإنما عطية إلهية تملأ أعماقه في الداخل، وتمس حياته بل وحياة كل الجماعة المقدسة.

ليت قلبنا يكون كعفرة الأبيعزريين والتي تعني (أبي معين)، فيه نلتقي مع جدعون بخطايانا الفعلية وأفكارنا الخفية على الصخرة لكي بالصليب يحرقها كما بنار إلهية، ونسمع صوت الرب "سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (يو ١٤: ٢٧). وليقم فيه مذبحًا إلهيًا يذكر أعماله الخلاصية على الدوام.

٤. هدم مذبح البعل:

إذ ظهر الله لجدعون، وتقدس الموضع بهذا الظهور لم يكن ممكنًا أن يبقى البعل مع الظهور الإلهي، ولا أن تقدم محرقات للرب مع ذبائح للبعل، لذلك سأل الرب جدعون أن يتصرف في الثور الذي كان أبوه يعبده للذبح قربانًا للبعل، وأن يهدم مذبح البعل (الشمس) الذي أقامه والده، ويقطع السارية التي عنده وهي عمود خشبي يقام في موضع مرتفع عنده تقدم العبادة للبعل والعشتاروت زوجته، كما أمره بتقديم ثور إبن سبع سنوات بإسم الرب بعد أن يبني مذبحًا للرب، وأن يستخدم خشب السارية وقودًا للمحرقة.

لم يكن هذا الأمر الإلهي تصريحًا لممارسة العمل الكهنوتي على مستوى الجماعة، فهو ليس من سبط لاوي الذي كانوا في الغالب هاربين من الضيق غير قادرين على ممارسة العبادة العامة بطقوسها السليمة. ولا قدم المحرقة عند خيمة الإجتماع في شيلوه... وإنما كان هذا الأمر يمثل عملاً فرديًا إستثنائيًا، غايته إذلال البعل والعشتاروت، خاصة أنه استخدم خشب السارية التي حطمها جدعون وقودًا للمحرقة عوض النار المقدسة.

ومن جهة أخرى فإن هذا العمل كما يقول القديس أمبروسيوس عمل نبوي وسرّ سماوي عتيدًا أن يتم، إذ يقول: [لاحظ الرجل الحكيم النبوي السرّ السماوي العتيد لذلك أطاع كلمات الوحي وقتل الثور الذي وضعه أبوه بجوار الوثن، مقدمًا ثورًا آخر إبن سبع سنوات ذبيحة للرب. بهذا العمل أظهر بوضوح شديد أنه بمجئ الرب تبطل كل الذبائح الوثنية وتبقى ذبيحة آلام الرب تُقدم الله كعمل تقوى للشعب. حقًا كان هذا الثور رمزًا للمسيح، لذلك كان إبن سبع سنوات، إذ في المسيح يحل ملء الفضائل السبع الروحية كقول إشعياء. لقد قُدم المسيح مرة في رمز جدي معزي، وأخرى كغنمة، وأيضًا كثور. كجدي معزي بكونه ذبيحة عن الخطايا، وكغنمة لأنه كان ذبيحًا باختياره (الوداعة)، وكثور بكونه تقدمة بلا عيب. هكذا سبق فرأى جدعون السرّ[76]].

٥. هياج المدينة عليه:

"فأخذ جدعون عشرة رجال من عبيده وعمل كما كلمه الرب، وإذ كان يخاف من بيت أبيه وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهارًا فعمله ليلاً... فقال أهل المدينة ليوآش: أخرج إبنك لكي يموت، لأنه هدم مذبح البعل وقطع السارية التي عنده" [٢٧، ٣٠].

يبدو أن يوآش كان منخرطًا في عبادة البعل بينما كان إبنه مقاومًا لهذا العمل، وكان هذا سببًا في اعتزال الإبن عن أبيه، فكان له عبيده الخاصين به، إختار منهم عشرة رجال، ربما أكثرهم غيرة على عبادة الله الحيّ، فقام جدعون وعبيده بالعمل ليلاً خوفًا من بيت أبيه الأبيعزريين الذين تركوا عبادة الله وانحرفوا إلى عبادة الوثن، ومن أهل المدينة ربما يقصد الكنعانيين الذين كانوا يقطنونها قبلاً وبقوا مع الأبيعزريين.

من هم هؤلاء العبيد العشرة إلاّ الناموس بوصاياه العشرة، فقد أرسله الرب خادمًا للإنسان، يقوده إلى هدم مذبح الشر الداخلي والتمتع بذبيحة الصليب المحيية. أما بيت الأب وأهل المدينة فيمثلون ما أعلنه السيد المسيح أن أعداء الإنسان أهل بيته. أشد المقاومين للإنسان شهوات جسده وانحلال فكره وانحراف مشاعره، أما أخطر عدو فهو "الأنا ego" أو الذات البشرية، التي تربض داخل الإنسان لتقتل فيه كل فكر روحي حيّ.

لنتمسك إذن بالناموس الروحي في المسيح يسوع كعشرة رجال، ولنعمل بالرب بالرغم من كل مقاومة داخلية في الجسد أو الفكر أو الأحاسيس حتى تُصلب الذات ويتجلى الرب نفسه فينا كما في مذبحه أو هيكله السماوي.

نعود إلى جدعون لنجد أهل المدينة يبكرون، ربما ليعبدوا البعل عند شروق الشمس، بكونه إله الشمس وإذ رأوا ما حدث لإلههم ثاروا على جدعون، ربما لعلمهم أنه الرجل الغيور ضد الوثنية، ولما سألوا أباه أن يقتلوه، تأثر الأب بشجاعة إبنه فوقف مستهزئًا بهم، قائلاً: "أنتم تقاتلون للبعل أم تخلصونه... إن كان إلهًا فليقاتل لنفسه لأن مذبحه قد هُدم" [٣١]. إذ أخذ جدعون خطوة أيجابية في دحض الشر، تشددت النفوس الضعيفة كنفس أبيه، وأدرك البعض بطلان العبادة الوثنية العاجزة. وقد دعا يوآش هذا اليوم "يربعل" التي تعنى (يحارب البعل) أو كما يقول القديس إيريناؤس: [لأن يربعل تعني كرسي الحكم على البعل[77]].

٦. جدعون وجزّة الصوف:

إجتمع المديانيون والعمالقة وبنو المشرق لمحاربة إسرائيل في وادي يزرعيل [٣3]، ويعتبر هذا الوادي في قلب فلسطين لهذا كثيرًا ما كان موقعًا للمعارك. يمتد هذا الوادي من جبل الكرمل إلى وادي الأردن، يعبر أحد فروعه بين جبل تابور وتل موره وآخر بين تل موره وجبل جلبوع. وقد حمل الوادي هذا الإسم عن مدينة كانت ذات شأن، حاليًا هي قرية زرعين، ويسمى الوادي حاليًا مرج إبن عامر.

إذ رأى جدعون إجتماع الأمم ونزولهم للحرب ضرب بالبوق بعد أن لبسه روح الرب، فاختفى جدعون في الرب كما يختفي الجسد في الثوب، وصار أداة لتحقيق غاية إلهية. والعجيب أن قومه الذين كان يخشاهم (أبيعزر) إجتمعوا وراءه للحرب، الأمر الذي حدث فجأة بقوة لا عن تأثير جدعون عليهم وإنما بلا شك هو عمل روح الرب الذي لبس جدعون، محولاً المقاومين إلى مجاهدين معه.

هذه صورة حية تقوية يختبرها المؤمن حين يسلك بروح الرب الذي تمتع به خلال سري المعمودية والميرون، فبقدر ما يتجاوب معه يحول الله الجسد الذي كان مقاومًا بشهواته إلى أداة مقدسة تعمل بكل طاقاتها وأحاسيسها لحساب مجد الله، متناغمة مع النفوس المقدسة ومتجاوبة مع عمل روح الله.

تشجع جدعون إذ رأى عشيرته تتحول هكذا سريعًا فدعا بقية السبط كله "جميع منسى" [٣٥]، كما أرسل رسلاً لإسباط أخرى كأشير وزبولون ونفتالي... والعجيب أن أشير الذي خذل دبورة ولم يشترك معها في مقاومة سيسرا (٥: ١٧) جاء مع جدعون يشترك مع جبابرة زبولون ونفتالي. وكأن ضعف الإنسان في المعركة الروحية لا يعني الاستمرار في الاستسلام، فمن كان خائرًا من قبل وغير نافع للخدمة قد يصير جبار بأس في الروح. لذا فالقائد الروحي الحق لا يعتمد على الناجحين في جهادهم الروحي وحدهم وإنما يسند حتى الذين سبقوا ففشلوا لعله بروح الرب يقيمهم ويكونون قادة روحيين لهم عملهم وفاعليتهم في ملكوت الله.

الآن يطلب جدعون من الرب علامة ليخرج للحرب؛ في اتضاع سأله أن يكون طلّ على جزة صوف يضعها في البيدر بينما تكون الأرض كلها جافة، فتحقق له ذلك حتى عصر الجزة فملأت قصعة ماء. وبتذلل سأله علامة أخرى أن تكون الجزة جافة تمامًا والأرض بها طلّ... وكان لهاتين العلامتين مفهومًا روحيًا عبّر عنه كثير من الآباء:

يقول القديس أمبروسيوس: [الندى الذي على الجزة هو الإيمان الذي كان في اليهودية، لأن كلمة الله تنزل كندى. يقول موسى: "ليهطل كمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي" (تث ٣٢: ٢). هكذا عندما كان العالم كله جافًا بسبب حرارة الخزعبلات التي للأمم غير المثمرة، كان ندى الافتقاد السماوي ينزل على الجزة، أي في اليهودية. ولكن بعد أن رفضت "خراف إسرائيل الضالة" (مت ١٥: ٢٤) – حتى كما أظن قد رُمز إليها بجزة الصوف – ينبوع المياه الحية جف ندى الإيمان في قلوب اليهود وتحول المجرى الإلهي إلى قلوب الأمم. لهذا السبب فإن العالم كله الآن مرطب بندى الإيمان أما اليهود فحطموا أنبيائهم ومرشديهم. لا عجب إن كانوا الآن يخضعون لجفاف عدم الإيمان، فقد حرمهم الرب الإله من مطر الأنبياء المستمر، قائلاً: "أوصي الغيم إن لا يمطر (على ذلك الكرم) مطرًا" (إش ٥: ٦). مكرّم هو مطر السحابة النبوية، وكما قال داود: "ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض" (مز ٧٢: ٦). لقد وعدتنا الكتب المقدسة بهذا المطر أن ينزل على العالم كله ويرويه عند مجئ ربنا ومخلصنا بندى الروح الإلهي. وقد جاء الندى بالفعل، وأيضًا المطر. جاء الرب ومعه الأمطار السماوية. لهذا من كان عطشانًا من قبل فليأتِ الآن ليشرب من الروح الإلهي الداخلي. هذا هو ما سبق فرآه جدعون، أن قبائل الأمم تشرب بالإيمان الثمين من الندى السماوي الحقيقي[78]]. مرة أخرى يقول: [أخيرًا على كل الأرض كما في البيدر ارتوت الكنيسة بندى النعمة الروحية بينما بقي المجمع يابسًا وجافًا من كل رطوبة كلمة الله ومطرها[79]].

يقول القديس أغسطينوس: [نزل المسيح نفسه كمطر على الجزة بينما كانت الأرض جافة، وذلك عندما قال: "لم أُرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت ١٥: ٢٤)[80]].

يقول القديس چيروم: [عندما كانت جزة اليهودية جافة بالرغم من أن كل العالم كان رطبًا بندى السماء، وعندما جاء كثيرون من المشارق والمغارب (لو ١٣: ٢٩) وجلسوا في حضن إبراهيم (لو ١٦: ٢٢)، عندئذ توقفت معرفة الله عن يهوذا وعن أن يكون إسمه عظيمًا في إسرائيل وحدها (مز ٧٦: ١) فقد بلغ صوت الرسل إلى كل الأمم وأقوالهم إلى أقاصي المسكونة (مز ١٩: ٤)[81]].

يقول القديس إيريناؤس: [هكذا أشار (جدعون) أنه لا يعود يكون لليهود الروح القدس من الله، كقول إشعياء: أوصى الغيم أن لا يمطر مطرًا" (إش ٥: ٦)، فالندى إنما هو روح الله... منتشرًا في كل الأرض[82]].

يعلق القديس أمبروسيوس على تحقيق هذه العلامة في البيدر (مكان جمع الحنطة) قائلاً: [لم يضع جدعون الجزة بغير مبالاة في حقل أو حديقة إنما وضعها في البيدر حيث يوجد محصول الحنطة، "فالحصاد كثير والفعلة قليلون" (لو ١٠: ٢)، لأنه خلال الإيمان بالرب يوجد حصاد مثمر للفضائل في الكنيسة العتيدة[83]]. وكما يعلق أيضًا على الماء الذي بالجزة، إذ ملأ قصعة لم يستخدمه جدعون في غسل الأرجل إنما تركه للسيد المسيح الذي وحده جاء لا لكي يُخدم بل لكي يخدم (مت ٢٠: ٢٨)[84].

<<

 


 

الأصحاح السابع

جدعون والمديانيون

اطمأن جدعون لمعية الله له، فبكر في محاربة المديانيين:

١. الله يخلص بالقليل                 [١-٨].

٢. جدعون كرغيف شعير            [٩-١٨].

٣. هزيمة المديانيين                 [١٩-٢٣].

٤. القبض على غراب وذئب          [٢٤-٢٥].

 ١. الله يخلص بالقليل:

بكر جدعون ومعه الشعب إلى عين حرود بينما كان جيش المديانيين الذي قُدّرَ ١٣٥ ألفًا من رجال الحرب عند تل مورة في الوادي.

"حرود" كلمة عبرية تعني (ارتعاد)، يبدو أنه دُعي هكذا بسبب ما حلّ بجيش المديانيين من رعدة واضطراب في هذه المعركة [١٩– ٢٢]. يُقال أنها "عين جلود" أو "عين جالوت" حُرفت من "حرود" خلال خطأ في السمع والنطق؛ تقع شمالي غرب جبل جلبوع أو جبل جلعاد، نحو ميل شرق جنوبي يزرعيل وبالقرب من بيسان. أما تل مورة فيبعد حوالي أربعة أميال من العين، ويسمى جبل الدوحى ارتفاعه ١٨١٥ قدمًا عن سطح البحر، وهو بين جبل تابور (الطور) شمالاً وجلبوع (جبل فرقوع أو فقوعة) جنوبًا. أما كلمة "مورة" فكنعانية تعني (معلم).

كانت المعركة في الوادي حيث جاء جدعون من عين حرود والكنعانيون من تل مورة، ولعل مجئ جدعون إلى هذه العين لم يكن بلا معنى، فسرّ النصرة هي الإمكانيات الإلهية التي يتمتع بها المؤمن خلال ينبوع المعمودية التي دعيت بحرود (إرتعاد) لأنها تمثل رعبًا لإبليس. وقد جاءت جميع ليتورچيات الكنيسة الأولى تحمل خطين إساسيين هما جحد الشيطان بكل طاقاته والتمتع بإمكانيات الثالوث القدوس. يقول العلامة ترتليان: [في الكنيسة تحت يد الأسقف نشهد أننا نجحد الشيطان وكل موكبه وملائكته[85]]. ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [بعد ذلك تُمسحون على صدوركم لكي تلبسوا درع العدل وتثبتو ضد حيل الشيطان. وكما أن المسيح بعد المعمودية وحلول الروح القدس خرج وحارب المعاند، هكذا أنتم أيضًا بعد المعمودية المقدسة والمسحة السرية تثبتون ضد القوة المضادة، لابسين سلاح الروح القدس الكامل، وتحاربون قائلين مع الرسول: "إني أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في ٤: ١٣)[86]].

كان عدد الشعب الذي خرج مع جدعون حوالي ٣٢ ألفًا، وقد اسكتثره الرب جدًا، قائلاً: "لئلا يفتخر عليّ إسرائيل قائلاً يدي خلصتني" [٢]. مع أنه عدد قليل جدًا بالنسبة لجيش المديانيين، لكن الله أراد تأكيد النصرة لا بكثرة العدد وإنما بعمله الإلهي في القلوب النقية. وكما يقول القديس غريغوريوس النيسي: [الله لا يُسر بالعدد[87]].

أول عمل قام به هو المناداة في آذان الشعب: "من كان خائفًا ومرتعدًا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد" [٣]، وبالفعل رجع إثنان وعشرون ألفًا وبقى عشرة آلاف. للأسف كان الخائفون أكثر من ثلثي الجيش، هؤلاء يمثلون عددًا ليس بلا نفع فحسب وإنما بخوفهم ورعدتهم يفسدون القلة الشجاعة. وكما جاء في سفر التثنية: "من هو الرجل الخائف والضعيف القلب ليذهب ويرجع إلى بيته لئلا تذوب قلوب إخوته مثل قلبه" (تث ٢٠: ٨).

لم يكتفِ الرب بهذه التصفية، إذ يقول: "لم يزل الشعب كثيرًا" [٤]، طالبًا منه أن ينزل بهم إلى الماء، ليفرز من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب عن الذين يجثون على ركبهم للشرب، فكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم فهم ثلاثمائة رجل، هؤلاء هم الذين استخدمهم في الحرب، أما بقية الشعب فرجع كل واحد إلى مكانه. يرى البعض في الذين أخذوا الماء في أيديهم ولغوا بفمهم أكثر ضبطًا لأنفسهم من الذين شربوا من العين مباشرة وكأن الله انتقى ضابطي أنفسهم للعمل بهم. وكأن الله يعمل بالقلة القليلة جدًا ليحارب بهم من كانوا كالجراد في الكثرة وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة [١٢].

ويرى القديس أغسطينوس[88] أن رقم ٣٠٠ يشير إلى الصليب، لأن حرف "T" الذي يحمل شكل الصليب يشير إلى رقم ٣٠٠ في اليونانية. ويقدم لنا القديس أمبروسيوس ذات التفسير إذ يقول: [اختار جدعون ٣٠٠ رجلاً للمعركة لكي يظهر أن العالم كان يجب أن يتحرر من هجمات العدو الخطيرة بسر الصليب، لا خلال الجماهير الغفيرة، فإن حرف "T" في اليونانية يستخدم لرقم ٣٠٠ ويحمل شكل الصليب[89]].

ينطلق حاملوا الصليب (الثلاثمائة) للجهاد الروحي تحت قيادة جدعون الحقيقي، أما الجمهور الغفير فيرجع كل واحد إلى مكانه أو إلى "الأنا"، إذ لا يصلح للعمل الروحي. بمعنى آخر من لا يحمل سرّ الصليب في حياته إنما يتقوقع حول الذات، ليعمل لا لحساب الله بل لحساب ذاته.

حمل هؤلاء الرجال في أيديهم زادًا مع أبواقهم، وجاء في الترجمة السبعينية أنهم أخذوا الزاد والأبواق من الشعب، أي من الباقين الراجعين إلى خيامهم... ولعل هذا الزاد يُشير إلى الإيمان، والأبواق تُشير إلى كلمة الله، فإننا لا نستطيع أن ننزل إلى المعركة الروحية ضد إبليس وكل أعماله إلاّ بالإيمان والتمسك بكلمة الله، وكما يقول المرتل: "أتكلم بشهادتك قدام ملوك ولا أخزى... لك أنا فخلصني لأني طلبت وصاياك" (مز ١١٩: ٤٦، ٩٤).

٢. جدعون كرغيف شعير:

لم يكن هينًا أن يرى جدعون الله يفرز له ٣٠٠ شخصًا فقط للعمل معه من حوالي ٣٢ ألف، ليحارب ١٣٥ ألفًا من رجال الحرب، خاصة وأن الحرب ستكون في السهل حيث لا توجد حصون طبيعية أو مغاير تمنع سهام العدو، هذا مع قلة الإمكانيات أو العدة الحربية بسبب سلب المديانيين ونهب كل ما كان لديهم خلال سبع سنوات الاستعباد. بالإضافه إلى هذا لم يتدرب رجاله على الحرب سنوات طويلة، فلا يحملون خبرة. بمعنى آخر كان جدعون يقود رجالاً قليلي العدد، ومسلوبي العدة، وبلا خبرة ولا حصون؛ لكن كان معه الرب يهبه وعدًا بالنصرة. ولكي يثبت إيمانه سأله أن ينزل مع "فوره" غلامه أو خادمه، وربما كان حامل سلاحه، متنكرين وسط محلة المديانيين، إلى آخر المتجهزين [١١] أي إلى آخر صفوف جيشهم المتهيئ للحرب، ليسمع بنفسه ويلمس الرعب الحالّ وسطهم من جهته.

هناك سمع وسط الأعداء رجلاً يخبر صاحبه أنه رأى في حلم "رغيف خبز شعير" يتدحرج في محلة المديانيين ويجئ إلى الخيمة ليضربها فتسقط، ويقلبها إلى فوق، كما سمع جدعون تفسير الحلم من مدياني آخر إذ يقول لمن هذا الحلم: "ليس ذلك إلاّ سيف جدعون بن يوآش رجل إسرائيل، قد دفع الله إلى يده المديانيين وكل الجيش" [١٤].

الشعير هو أرخص أنواع الخبز في فلسطين، يأكله الفقراء ويُقدم للحيوانات، وكأن الله يعلن حتى للعدو، أنه يحطم المديانيين بجدعون الذي يبدو في الضعف والفقر كرغيف من الشعير بلا ثمن! كنا نتوقع أن يرى العدو صخرًا يتدحرج إلى الوادي فيحطم من ينزل إليه، أما رغيف خبز الشعير يتدحرج فيحطم الخيمة الملوكية ويقلبها رأسًا على عقب فهذا كما فسر المدياني نفسه أنه عمل إلهي.

في وقد الضيق، لا يختبر المؤمنون وحدهم عمل الله معهم خلال تعزياته السماوية الفائقة، إنما يقف حتى المقاومين مندهشين أمام عمل الله بأولاده الذين يظهرون كرغيف خبز من الشعير!

٣. هزيمة المديانيين:

إن كان الله يستخدم أقل القليل ليعلن فضل القوة لله لا منا لكنه يقدس العمل الإنساني، ولا يحَّقر من الحكمة البشرية، ولا يتجاهل الطاقات والمواهب. ففي حرب جدعون ضد المديانيين إن كان قد أفرز ٣٠٠ رجلاً فقط للعمل لكنه وهب جدعون حكمة للعمل وتدبيرًا حسنًا، إذ قسّم الثلاثمائة إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يحتل موقعًا في جانب من جوانب المحلة حول المديانيين، وجاء الكل ليلاً في الهزيع الثاني حيث كان الليل عند اليهود ينقسم إلى ثلاثة أقسام كل قسم ٤ ساعات يبدأ القسم الأول بالساعة السادسة مساءً. وقد حمل كل رجل بوقًا ومعه جرة ومصباح. وفي الليل إذ كان الجيش المدياني في أغلبيته نائمًا عدا بعض الحراس، فوجئوا بأصوات أبواق من كل جانب دفعة واحدة، كما كسرّ الرجال الجرار ربما كل إنسان كسر جرته في جرة أخيه فأحدثت أصواتًا كأن العدد الحربية قد تشابكت معًا، هذا مع وجود المصابيح أو المشاعل من بُعد... هذا كله جعل جنود المديانيين يقومون فجأة ويظن كل واحد أن المعركة قد دارت وتشابك الجيشان معًا، فصاروا يضربون بعضهم بعضًا بالسيوف إذ حسب كل منهم في الظلمة أن زميله من الجيش المضاد. ووقف رجال جدعون كل واحد في مكانه بينما دارت المعركة بين المديانيين وهم لا يدرون أنهم يقاتلون أنفسهم بأنفسهم.

تطلع المديانيون إلى بعيد فرأوا رجال جدعون بمصابيحهم من كل جانب عن بُعد فحسبوا إمدادات جديدة غير التي بينهم تقاتلهم، فاضطروا وسط الظلام أن يتركوا المحلة ويهربوا إلى بيت شطة [٢٢] أو "بيت هشطة" التي تعني (بيت السنطة) حيث وجدت أشجار السنط، وهو موقع بين وادي يزرعيل وزراح في وادي الأردن.

ومن بيت شطة هربوا إلى صردة في سهل أفرايم في غور الأردن، اسمها يعني (مبرد) أو (بَرْد)، حاليًا ربما مدينة "صرتان" في وادي الأردن.

ومن هناك هربوا إلى حافة آبل محولة أي حدودها، إسمها يعني (حقل الرقص)، وتعرف حاليًا بتل المقلب بوادي الأردن، وإن كان البعض يرى أنها كانت غربي الأردن على بُعد ١٢ ميلاً جنوبي بيت شعان.

ومن حافة آبل محولة ذهبوا إلى طباه، وهي رأس أبو طابات. وكأن العدو كان هاربًا بلا مطاردة، لأن الرب نفسه كان يرعبهم، أو بمعنى آخر سلمهم لأعمالهم الشريرة التي تفقدهم سلامهم واستقرارهم ليعيشوا هاربين بلا توقف. وكما يقول الحكيم: "الشرير يُطرد بشره" (أم ١٤: ٣٢)، "الشرير يهرب ولا طارد" (أم ٢٨: ١). هكذا يهرب الشرير تارة إلى بيت هشطة أي بيت السنط لعله يقدر أن يستظل تحت الإشجار كأبويه آدم وحواء الهاربين من وجه الله، وأخرى ينطلق إلى صردة أي البرد الذي يحطم فيه كل حرارة روح، ومرة ثالثة ينطلق إلى حافة آبل حودة أي إلى حافة بيت الرقص لعل خلاعة هذا العالم وملذاته تقدر أن تهبه فرحًا وسلامًا... ولكنه في هذا كله يكون كطريد بلا راحة، إذ هو بعيد عن الله نفسه واهب السلام ومصدر الراحة الحقيقية.

والعجيب أنه وسط هذا الرعب الذي حل بالمديانيين وهروبهم بلا وعي من موقع إلى آخر طلب جدعون من ساكني جبل أفرايم أن ينطلقوا ليستولوا على كل مخاوض المياه من منطقة المديانيين حتى يبلغوا إلى بيت بارة إلى الأردن. و"بيت بارة" تعني (بيت بور) أو بيت الأراضي غير الصالحة للزراعة، تبعد حوالي ٣٠ ميلاً شمال شرقي أورشليم، غالبًا هي بيت عبرة (بيت العبور أو الخوض) أو جنوبها قليلاً. وكان القصد من الإستيلاء على المياه تحطيم المديانيين تمامًا ومنعهم من الهروب.

ماذا يعني حرمان المديانيين من المياه؟ ربما تشير المياه إلى عطايا الله ونعمه، فإن كان إبليس قد استخدم حتى عطايا الله لنا ومواهبنا وطاقاتنا التي خلقها الله فينا لحساب شره (أي شر إبليس)، فإننا إذ نرجع إلى الرب ننسحب من العدو بكل طاقاتنا ومواهبنا، فلا يكون له فينا موضع، ولا يعود يجد في طاقاتنا آلات تعمل لحسابه بفكره الشرير. وهكذا يهلك العدو تمامًا بالنسبة لنا، ولا تكون له رجعة إلينا ولا مطمع فينا.

٤. القبض على غراب وذئب:

"وأمسكوا أميري المديانيين غرابًا وذئبًا، وقتلوا غرابًا على صخرة غراب، وذئبًا في معصرة ذئب، وتبعوا المديانيين، وأتوا برأسي غراب وذئب إلى جدعون من عبر الأردن" [٢٥].

لم يقف الأمر عند حرمان المديانيين من المياه وإنما قتلوا إميريهم غرابًا وذئبًا، وأتوا برأسيهما إلى جدعون بعد أن تبعوا المديانيين في هروبهم، وقد دُعيت الصخرة التي قُتل عليها غراب بصخرة غراب، والمعصرة التي قُتل فيها ذئب بمعصرة ذئب.

إن كانت الحمامة تُشير إلى الروح القدس كما إلى الكنيسة المنقادة بالروح القدس، فالغراب يُشير إلى الروح الشرير كما إلى مملكة إبليس. ففي قصة نوح إنطلق الغراب من الفلك ليعيش على الجثث الميتة، بلا عودة إلى نوح، وكأنه بالروح الشرير الذي إنحدر من مركزه السماوي ونزل ليعيش على الفساد، ينتقل من جثة إلى جثة، متهللاً بموت الآخرين وفسادهم. وما يفعله الروح الشرير إنما يسكبه في حياة الأشرار الحاملين سماته والسالكين بفكره الدنس.

وكما يشير الحمل إلى السيد المسيح وإلى كل مؤمن اتحد به، هكذا يشير الذئب إلى عدو الخير إبليس الذي في طبعه الشراسة والافتراس، ساكبًا من هذا الروح على تابعيه، يفترسون الحملان الوديعة بلا ذنب.

بمعنى آخر فإن غرابًا وذئبًا أميري المديانيين يشيران إلى عدو الخير إبليس من جهة حبه للفساد (الغراب) والإفتراس (الذئب)، لكننا إذ نرتبط بجدعون الحقيقي ربنا يسوع المسيح، نقتل في داخلنا كل شوق للدنس وكل ميل للعنف والافتراس، وكأننا نقتل فينا غرابًا وذئبًا.

والعجيب أن غرابًا وذئبًا قد قُتلا على صخرة وفي معصرة على التوالي، فإن كانت الصخرة تُشير إلى السيد المسيح كقول الرسول (١ كو ١٠: ٤) والمعصرة تُشير إلى الكنيسة فإن عدو الخير إبليس بكل فساده وعنفه يفقد حياته وكيانه خلال إتحادنا بالسيد المسيح صخرتنا، وعضويتنا الروحية في الكنيسة.

في ختام هذه المعركة التي فيها غلب جدعون ورجاله غرابًا وذئبًا ورجالهما نستطيع أن نقول بين سرّ القوة يكمن في الطريق الروحي الذي إنتهجه جدعون من جوانب عديدة:

أولاً: كان رجاله ثلاثمائة نسمة، وكما قلنا أعلنوا بهذا أنهم حاملوا الصليب.

ثانيًا: انقسموا إلى ثلاث فرق تعمل في وقت واحد وبروح واحدة تحت قيادة جدعون، وكأنهم بالكنيسة الحاملة سمة القيامة، لأن رقم ٣ يشير إلى القيامة بعد الدفن في القبر مع السيد المسيح[90].

ثالثًا: حمل كل رجل بوقًا وهو كلمة الله المنذرة للنفس، وجرارًا تنكسر هي الأجساد المتنسكة خلال إماتتها عن شهواتها لتتقدس في الرب، ومصباحًا هو عمل نعمة الله التي تهب النفس إستنارة.

رابعًا: قتلهم لغراب وذئب أي رفضهم لروح الفساد والشراسة.

هذا هو طريق الغلبة الروحية تحت قيادة السيد المسيح – جدعون الحقيقي – واهب النصرة.

<<

 

 


 

الأصحاح الثامن

قتل زبح وصلمناع

 بروح الاتضاع كسب جدعون رجال أفرايم الثائرين، وبروح الجهاد انطلق ليأتي بملكي مديان زبح وصلمناع ليقتلهما.

1. مصالحة رجال أفرايم             [1-3].

2. موقف سكوت وفنائيل             [4-9].

3. قتل ملكيّ مديان                  [10-21].

4. صنع أفود ذهبية                  [22-28].

5. موت جدعون                     [29-35].

1. مصالحة رجال أفرايم:

كان سبط أفرايم له قوته بين الأسباط، ويحتل أفضل أراضي الميعاد، حتى عندما انقسمت إسرائيل إلى مملكتين دعيت الأسباط العشرة بأفرايم (إر 31: ٩، ١٨، ٢٠). كان هذا السبط يتوقع طلبه من جدعون عند قيامه بالمعركة ضد المديانيين، وإذ لم يفعل هذا خاصمه بشدة [1]. وقد ظهرت قدرة جدعون القيادية الحكيمة في مواجهة هذا الموقف بلطف شديد واتضاع امتص غضبهم، فقد استغل قتلهم لأميري مديان غراب وذئب وقال لهم: "ماذا فعلت الآن نظيركم؟! أليست خصاصة أفرايم خيرًا من قطاف أبيعزر؟! ليدكم دفع الله أميري المديانيين غرابًا وذئبًا. وماذا قدرت أن أعمل نظيركم؟!" [٢-٣].

في اتضاع أعلن أن ما يبقى في كرم أفرايم (الخصاصة) لهو أفضل مما يقطف من كرم عشيرته "أبيعزر"، وإذ مدحهم على إتيانهم برأس الأميرين أي القائدين المديانيين ارتخت روحهم عنه. وكما يقول الكتاب: "الجواب اللين يصرف الغضب" (أم 15: ١).

كان يمكن لجدعون أن يوبخهم لأن المديانيين استعبدوهم 7 سنوات ولم يتحرك منهم أحد، لكنه كقائد حكيم أبرز فيهم الجانب الطيب، موضحًا أن ما عمله لم يكن إلاَّ استعدادًا للمعركة وأما هم فقاموا بالعمل اللائق بكرامتهم وعظمتهم، فكسبهم في صفة عوض أن يخسرهم كأعداء يقاومونه. لقد حسب أفرايم صغير النفس محتاجًا إلى كلمة تشجيع لا إلى مقاومة وتوبيخ!

2. موقف سكوت وفنائيل:

 إذ لاحق الإعياء رجال جدعون خلال مطاردتهم للمديانيين، سأل جدعون أهل سكوت أمرًا لا يكلفهم شيئًا ألاَّ وهو القليل من الخبز لهؤلاء الرجال القليلين الذين يحاربون العدو لحساب كل الجماعة، خاصة وأنهم لم يتوقفوا عن الجهاد بل هم سائرون للإتيان برأسي ملكي مديان زبح وصلمناع. كان يليق بأهل سكوت أن يحاربوا مع جدعون للتحرر من عبودية المديانيين فإذ لم يكن لديهم الإيمان الكافي لهذا العمل فلا أقل من تقديم الخبز له ولجنوده. هؤلاء كانوا أكثر سوءًا من رجال أفرايم لأنهم باردون في مشاعرهم، مستسلمون للعبودية، ومثبطون لهمم العاملين، فكانوا أخطر من الأعداء أنفسهم. لم يتوقفوا عند عدم العطاء وإنما في سخرية حاولوا تثبيط هممهم بقول رؤسائهم له: "هل أيدي زبح وصلمناع بيدك الآن حتى نعطي جندك خبزا؟!" [6].

 "سكوت" تعني (مظالاً)، وهو موضع شرقي الأردن وشمال يبوق، موقعه الآن تل أخصاص غربي دير علة بالقرب من اليبوق (نهر الزرقاء) على بعد 4 أميال شرقي الأردن. وقد حملت اسمه "سكوت" بعد أن أقام يعقوب فيه مظلات له ولبنيه ولمواشيه (تك 33: 17)، وهو من نصيب سبط جاد.

اضطر جدعون أن يهدد أهل سكوت، قائلاً: "لذلك عندما يدفع الرب زبح وصلمناع بيدي أدرس لحمكم مع أشواك البرية بالنوارج" [7]. بدا جدعون المتضع للغاية أمام الله (6: 15) وأمام رجال أفرايم حازمًا للغاية بل وعنيفًا مع أهل سكوت، إذ يود أن يعريهم ليغطي لحمهم بالأشواك ويدوس عليهم بالنوارج لعله كقاضي لإسرائيل رأى من واجبه تأديب هؤلاء القوم بعنف فارزًا التبن عن الحنطة بنوارج التأديب حتى لا تحل اللعنة بالشعب كله.

لو كان أهل سكوت حنطة لمجدتهم النوارج إذ تفرز الحنطة عن التبن، ولكن لأنهم أشواك تحطمهم النوارج وتجمعهم للحرق. الحنطة لا تخاف النورج بل تنتظره بفرح أما الشوك والتبن فيرهبانه !

ما هدد به جدعون لا يمس أهل سكوت وحدهم بل يلحق بكل إنسان يحمل في داخله لحمًا، وينبع في أرضه الداخلية أشواك اللعنة، بمعنى آخر يسقط تحت نورج جدعون المهلك من كان يعيش جسديًا (لحميًا) بفكره وقلبه وحياته، حاملاً أشواك لعنة الخطية فيه، أما من يسلك بالروح ويكون له الثمر السماوي فلا تستطيع النوارج أن تؤذيه بل بالحري تمجده.

لينزع الرب عنا فكرنا اللحمي وليحرق فينا أشواك الخطية الخانقة للنفس ليحطم فينا كل ما هو غريب بنورجه (صليبه) المقدس لكي نحيا بالحق كروحيين نسكن في السماويات.

وما فعله أهل سكوت بجدعون فعله أيضًا أهل فنوئيل، فأجابهم جدعون: "عند رجوعي بسلام أهدم هذا البرج" [9].

كلمة "فنوئيل" تعني (وجه الله)، وهو مخيّم شرقي الأردن، شرق سكوت، فيه نظر يعقوب الله وجهًا لوجه (تك 32: 30)؛ وقد كان يليق بناظري وجه الله أن ينزلوا مع جدعون ليحاربوا المديانيين، لكنهم احتموا في برج مدينتهم أثناء المعركة، وعندما انتهت رفضوا تقيم الخبز لجدعون ورجاله. إنهم يمثلون الإنسان الذي نال خبرة روحية مع الرب إلى حين، كمن رآه وجهًا لوجه، لكنه يرفض الجهاد الروحي متكلاً على بره الذاتي (برجه)... لهذا يستحق هدم هذه الذات حتى يرجع إلى الرب برجه الحقيقي الحصين.

بمعنى آخر إن كان أهل سكوت يمثلون الإنسان الجسداني الذي يستحق تحطيم لحمه وكسر أشواك شهواته الجسدية فإن أهل فنوئيل يمثلون الإنسان الذي له سمة الروح الخارجية لكنه متقوقع حول ذاته "الأناEGO ". الأول مصاب بالضربات الشمالية أي خطايا الجسد، والثاني بالضربات اليمينية أي البر الذاتي. الأول يحتاج إلى نورج جدعون أي صليب الرب لتحطيم شهوات جسده وصلبها والثاني يحتاج إلى آلات جدعون (صليبه) لتحطيم برجه الذاتي.

3. قتل ملكيّ مديان:

كان ملكيّ مديان زبح وصلمناع في قرقر ومعهما ما تبقى من الجيش 15 ألفا، بينما سقط 120 ألفًا من مخترطي السيف [10]. صعد جدعون في طريق ساكني الخيام شرقي نوبح ويجبهة وضرب الجيش، وإذ هرب الملكان تبعهما وأمسك بهما [12].

كلمة "زبح" تعني (ذبيحة)، ربما لأنه كان نذيرًا لآلهة المديانيين، وأما "صلمناع" فمديانية، تعني (الذي لم يقدم له ملجأ) أو (ليس له ظل) أو (الإله "صلم" أي "المظلم" أو "زحل" يحكم). وكلمة "قرقر" معناها (مسطح حتى الأرض) وهي مدينة قرب تخم جاد الشرقي ربما كانت في وادي سرحان.

كان مديان يعتز بجيشه البالغ 135 ألفًا من مخترطي السيف، لكنه لم يبقى مع الملكين سوى 15 ألفا منهكي القوى ويائسين، أما الملكان فيشيران إلى إبليس وأتباعه فالأول باسمه يعني أنه ذبيحة للأصنام والآخر يعلن مملكة الإله صلم أو الإله المظلم... والآن إذ قاد جدعون الحقيقي يسوع المسيح المعركة الروحية خلال رجاله حاملي الصليب لم يبق لإبليس إلاَّ أن يهرب إلى قرقر أي ينزل إلى (مستوى الأرض)، يفقد سلطانه ومهابته أمام المؤمنين.

إن كان العدو يبدو في البداية قويًا وعنيفًا له 135 ألفا من رجال الحرب، لكنه من يختفي في جدعون الحقيقي يستهين بإبليس ويسحقه تحت قدميه كمن هو ساقط على الأرض. وكما يؤكد ربنا يسوع: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء؛ ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء" (لو 10: 19).

هذا ما أكده القديس يوحنا ذهبي لفم في كثير من مقالاته وكتاباته، بل وأفرد مقالات خاصة عن عدم قيام سلطان لإبليس علينا[91].

صعد جدعون في البرية، في طريق ساكني الخيام ليلحق بالملكين فذهب إلى شرقي نوبح ويجبهة حيث ضرب الجيش وإذ هرب الملكان اقتفى أثرهما وأمسك بهما. لقد ظن الملكان أنهما في أمان بعيدًا عن جدعون، لكنهما فوجئا به وسط البرية... وكان جدعون يمثل السيد المسيح الذي أٌصعد بروحه القدوس إلى البرية ليدخل مع إبليس في معركة على الجبل انتهت بنصرة الرب لحسابنا وهزيمة العدو.

"نوبح" كلمة عبرية تعني (نباح)، مدينة في نصيب جاد. وقد جاء الاسم موافقًا للمعركة فكثيرًا ما يُشبه إبليس بالكلب الذي ينبح عند داره بعنف لكنه لا يقدر أن يؤذي إلاَّ الخائف... يشتم رائحة الخائف من إفرازات جسمه الناتجة عن الخوف فيهاجمه، أما الثابت الشجاع فتهرب الكلاب منه. هكذا تُرهبنا الشياطين بنباحها، لكنها تتسم بالجبن الشديد وتهرب أمام المؤمنين الحقيقيين.

أما "يجبهة" فتعني (مرتفعة)، ربما تكون "جبيهات" الحالية وهي قرية تبعد 6 أميال شمال غربي عمان على طريق السلط. بالحقيقة دارت المعركة عند يجبهة أي على المرتفعة أو المتشامخة، إذ هذه هي سمة العدو الأولى، فبسبب كبريائه دخل في عداوة مع الله، نزل إلى معركة خاسرة تنتهي بهلاكه الأبدي. ولعل "المرتفعة" أيضا تعني الجبل المرتفع الذي فيه دارت معركة التجربة (مت 4)، أو لعلها تُشير إلى الصليب المرتفع على جبل الجلجثة، فيه تمت نصرتنا في ربنا يسوع المسيح على الظلمة القاتلة.

إذ أمسك بالملكين رجع جدعون من الحرب "من عند عقبة حارس" [13]. كلمة "حارس" تعني في العبرية (الشمس)، لذلك جاءت الترجمة الكلدانية السابقة: "قبل طلوع الشمس"، لكن البعض يرى أنه أنطلق من مرتفع حارس أي (مرتفع الشمس)، ربما لأن عليه كانت تقام عبادة الشمس.

وإذ رجع جدعون إلى سكوت سأل غلامًا عن أسماء شيوخ سكوت فكانوا سبعة وسبعين رجلاً، فعل بهم كما سبق فهددهم ليتعلم الشعب كله ألاَّ يكون قاسيًا على إخوته خاصة أثناء الضيق، إذ منعوا الخبز عن رجاله وهم خارجون للحرب. هذا الحكم وإن بدا قاسيًا لكننا إلى الآن نراه في أغلب دول العالم ما لم يكن في جميعها يكون الحكم عنيفًا في فترات الحروب والطوارئ لأجل سلامة الجماعة. وصنع جدعون ببرج فنوئيل أيضًا كما سبق فحكم عليه.

هنا نلاحظ أن رقم 77 هو بعينه الرقم الذي نطق به السيد المسيح عندما سأله بطرس الرسول: "يا رب كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له، هل إلى سبع مرات؟" أجابه: "لا أقول لك إلى سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات" (مت 18: 21-22). ويعلق القديس أغسطينوس على هذا الرقم معلنًا أن الناموس يمثل رقم 10، وكسر الناموس يمثل وصية مستترة ضمننا هي: "لا تكسر الناموس" تضاف للوصايا العشر فتكون الوصية الحادية عشر. فإن كان رقم 77 هو حاصل ضرب 11×7 فإنه يرمز إلى الإنسان الكاسر لكل وصايا العهد القديم (11) وأيضًا وصايا العهد الجديد (7)، وكأننا نغفر عن أية خطية يرتكبها إنسان وجدت في الكتاب المقدس. بنفس الفكر يمكننا القول بأن جدعون قتل الشيوخ السبعة والسبعين بالنوارج بين الأشواك إشارة إلى السيد المسيح الذي حطم بصليبه جميع خطايانا وعصياننا وكسرنا للوصايا الواردة في العهدين مع تحطيم أشواك اللعنة التي حلت بنا.

العجيب أن جدعون لم يقتل الملكين في الحال بل أخذهما ليراهما أهل سكوت وأهل فنوئيل، وقد سألهما عن الرجال الذين قتلوهما في جبل تابور، وإذ اعترفا بقتلهم، أصدر الحكم عليهما بأن يُقتلا، فطلب من ابنه البكر "يثر" أن يقوم ويقتلهما، وإذ خاف كفتى طلبا هما منه: "قم أنت وقع علينا لأنه مثل الرجل بطشه" [21]. بهذا ربما أراد جدعون أن يكشف لأهل سكوت وأهل فنوئيل أنه غير متعطش لسفك الدماء، فلا يحكم على أحد إلاَّ بعد أن يفحص أمره، وحتى بعد اعترافهما بشرهما أراد أن يقتلهما ابنه ليظهر أنه لم يكن شغوفًا نحو قتلهما ... إنه كقاضٍ يحب العدل لكن بحزم.

بعد قتله لهما "أخذ الأهلة التي في أعناق جمالها" [21]، كانا قد وضعاها كأحجبة ربما للحفظ من الأضرار إذ كانا يعبدان القمر، وكأنه أخذ آلهتهما التي لم تستطيع أن تحميهما. كانت هذه الأهلة يلبسها أيضًا الرجال (8: 26) والنساء (إش 3: 18) لتجلب لهم الحظ وتحفظهم من الشر.

4. صنع أفود ذهبية:

برهن جدعون إنه مقود بالروح إذ نجح عندما دخل في امتحان قاسٍ، فقد طلبه الشعب أن يملك عليهم، قائلين له: "تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك خلصتنا من يد مديان" [22]. هذه هي المرة الأولى التي فيها تظهر محاولة إسرائيل لإقامة النظام الملكي المتوارث. وكان إسرائيل يحسب أن الله نفسه هو ملكه، لذلك عندما طلبوا من صموئيل إقامة ملك قال الرب: "إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم" (1 صم 8: 7). فإذ كان جدعون سالكًا بالروح لم تغره السلطة بل قال: "لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم؛ الرب يتسلط عليكم" [23]. بعبارته هذه كشف جدعون عن أعماق قلبه أنه في عمله كقاضٍ لم يشته السلطة بل كان بالحقيقة خادمًا للرب ولشعبه، قَبِلَ العمل من أجل الطاعة وفي يقين أن الله هو العامل.

إن كان جدعون قد نجح في رفضه المُلك لنفسه ولأبنائه لكنه في ضعف بشري طلب من الشعب أن يقدم له الأقراط الذهبية التي أخذوها غنيمة من المديانيين، إذ كان للمديانيين أقراطًا ذهبية كالإسماعيليين. حسب الشعب هذه العطية قليلة جدًا أمام عمله الخلاصي ورفضه المُلك لنفسه ولأبنائه، فقدموا له طلبته فكان وزن الأقراط ألفًا وسبع مئة شاقل من الذهب، أي ما يزيد على 26 أقة من الذهب، مما يدل على غنى المديانيين المفرط. وقد صنع جدعون بهذا الذهب أفودًا اختلف المفسرون في أمرها، فالبعض رأى أن الأفود هي ملابس رئيس الكهنة (خر 28: 4). وكأن جدعون الذي رفض المُلك سقط في شهوة الكهنوت بالرغم من كونه ليس من سبط لاوي. ورأى آخرون أن الأفود هنا خاصة بالأصنام، إذ كان الوثنيين يقيمون في كل بيت أفودًا للأصنام خلالها يطلبون المشورة قبل كل تصرف (1 صم 23: 9-12؛ 30: 7-8)، ويعللون ذلك بالقول: "وكان ذلك لجدعون وبيته فخًا" [٢٧].

كثير من الدارسين يروا أن جدعون لم يعبد الأوثان، إذ بقى أمينًا للرب ومات بشيبة صالحة [2]، وقد حسبه الرسول بولس من رجال الإيمان، إنما ما صنعه من أفود احتفظ به دون التعبد له...

5. موت جدعون:

استراحت الأرض أربعين سنة في أيام جدعون، وكان المديانيون في مذلة أمامه.

يذكر لنا الكتاب عن أولاده السبعين، وعن ابنه أبيمالك من سريته التي في شكيم، وذلك لأن الأخير كما سنرى يقوم بدور شرير متفقًا مع أهل والدته أهل شكيم ضد أخوته السبعين ليتسلط على إسرائيل.

بموت جدعون رجع إسرائيل إلى الشر وجعلوا لهم "بعل بريث" أي (سيد العهد) إلهًا، وكأنهم أقاموا عهدًا مع البعل كاسرين العهد مع الله.

<<


 

الأصحاح التاسع

فتنة أبيمالك

كان جدعون رجل إيمان لكن بعد موته قام ابنه إنسانًا مفسدًا، قتل إخوته ليملك، مهيجًا أهل شكيم أهل والدته لقتل إخوته السبعين، فلم يدم ملكه سوى ثلاث سنوات انتهت بالغدر به وتأديب أهل شكيم على ما فعلوه.

1. قتله إخوته                        [1-6].

2. حديث يوثام مع شكيم             [7-21].

3. غدر أهل شكيم بأبيمالك           [22-25].

4. هزيمة جعل بن عابد              [26-41].

5. أبيمالك يضرب شكيم              [42-49].

6. قتل أبيمالك بامرأة                [50-57].

1. قتله إخوته:

كان أبيمالك ابنًا لجدعون من سرية له من شكيم من قبيلة لها سطوتها ونفوذها، غالبًا ما كانت هذه القبيلة كنعانية، وكان أبيمالك إذ يشعر أنه لا يرث مع إخوته السبعين لأنه ابن سرية، لذلك كان مرتبطًا بعائلة أمه، وكانوا هم أيضًا يتعاطفون معه ضد إخوته.

ذهب أبيمالك إلى عائلة أمه ليثيرهم بأن إخوته السبعين يريدون أن يملكوا ويتسلطوا، مع أن أباهم جدعون رفض السلطة لنفسه أو لأولاده، لذلك سألهم أن يساندوه ليملك بمفرده خير من أن يملك السبعون معًا عليهم. هنا يظهر حب السلطة في حياة أبيمالك، الأمر الذي دفعه إلى قتل جميع إخوته (عدا يوثام الهارب) على حجر واحد، وقد قضى حياته القصيرة في ملكه مملوءة قلاقل انتهت بقتله. بمعنى آخر أن كان جدعون قد نجح في رسالته وبسببه استراحت الأرض أربعين عامًا وعاش هو ورجاله وكل الشعب مرفوعي الرأس أمام المديانيين إنما لأن قلب جدعون لا يحمل شوقًا نحو السلطة ولا حبًا للكرامة، أما أيام ابنه فكانت شريرة، تحطم هو وأهل بلده وكل الشعب بسبب حبه للسلطة. لهذا يقول القديس أغسطينوس: [ ليكن المشتغلون بحياة الخدمة في هذا العالم بعيدين كل البعد عن محبة الكرامة ومظهر القوة[92]].

إن كان أبيمالك قد أخطأ في حبه للتسلط، فإن الأفراميين ساكني شكيم أخطأوا إذ قبلوه ملكًا كطلب عائلته (الوثنية). لقد أجرم الملك والرعية، الأول في حبه للكرامة البشرية والآخرون في سوء اختيارهم. ما نقوله عن أبيمالك إنما نكرره في اختيار أي راع أو خادم في كرم الرب. وكما يقول القديس يوحنا ذهب الفم: [إن هؤلاء الذين ينتمون إلى المسيح يدمرون ملكوته أكثر من الأعداء والمقاومين له، وذلك باختيارهم غير المستحقين للخدمة... لا يكفي أن يعتذروا عمن اختاروه بعدم معرفتهم له، لأن عذرهم هذا يزيد من مسئوليتهم... أليسوا إن أرادوا شراء عبد، يقدمونه أولاً للطبيب لكي يفحصه، ويطلبون من البائع ضمانات، ويستعلمون عنه من جيرانه، وبعد هذا كله لا يتجاسرون على شرائه بل يطلبون فرصة ليكون العبد تحت الاختبار، ومع هذا فمن يقدم شخصًا إلى وظيفة عظيمة كهذه يقدم شهادته وتزكيته باستهتار دون اعتناء أو تدقيق، إنما لمجرد لتلبية رغبة البعض؟!... فمن إذًا يتوسط لنا في ذلك اليوم، إن كان الذين يدافعون عنا هم أنفسهم يكونون محتاجين إلى من يدافع عنهم؟![93]].

كانت مؤهلات أبيمالك "أنّا عظمكم ولحمكم" [2]، فتحولت الخدمة إلى مجاملات لحساب القرابة الدموية والعلاقات الشخصية، وكان منطق أهل شكيم (من إسرائيليين وكنعانيين) هكذا: "أخونا هو" [3]، أي من مدينتنا، لن يقاومنا، بل يسندنا حين يملك!

قدم أقرباء أبيمالك له سبعين شاقل فضة من بيت المال في هيكل بعل بريث أو بعل العهد، وهو مبلغ صغير للغاية بالنسبة لما اتسمت به بيوت المال التابعة للهياكل الوثنية في ذلك الوقت. أُعطى هذا المبلغ ليستأجر به رجالاً أشرارًا ينفذون خطة قتل إخوته. وبالفعل أستأجر الرجال وذهب بهم إلى "عُفرة" ليقتلهم جميعًا على حجر واحد، ولم ينج أحد سوى الأصغر "يوثام" إذ رأى هجوم الأعداء على إخوته فاختبأ.

قُتلوا في عُفرة التي تعني (غزالة) أو (ترابي)، قرية الطيبة[94]... عندئذ اجتمع أهل شكيم وكل سكان القلعة (ربما يقصد برج شكيم أو حصنها) وأقاموا أبيمالك ملكًا، وهذه هي المرة الأولى التي فيها نسمع عن وجود ملك بين بني إسرائيل، لكنه لم يكن ملكًا على كل الأسباط، إذ يبدو أن حدود مملكته هي شكيم وبعض البلاد المجاورة... لذا لم يحسب كملك لإسرائيل مثل شاول أو داود.

أُقيم ملكًا عند بلوطة النصب، وهي شجرة بلوط ربما كان الكنعانيون يعتبرونها مقدسة، عندها يقدمون العبادة الوثنية، أما الإسرائيليون فكانوا يعتزون بها، لأن أباهم يعقوب طمر الآلهة الغريبة والأقراط عندها (تك 35: 4) وتحتها أقام يشوع حجر الشهادة (يش 24: 26)، لهذا السبب دعيت بلوطة النصب حيث نصب تحتها حجر الشهادة. ويرى البعض أن هذه البلوطة اتخذت كعمود ينشرون عليه علمهم لذا دعيت بالنصب، أي العلم المنصوب.

2. حديث يوثام مع شكيم:

"يهوثام" كلمة عبرية تعني (يهوه تام أو كامل).

إذ رأى يهوثام هجوم الأعداء على إخوته هرب، فجاء قوم يخبرونه بما فعل أبيمالك بهم وكيف اغتصب السلطة وأقام نفسه ملكًا على أهل شكيم، فذهب يوثام ووقف على جبل جرزيم ورفع صوته مناديًا أهل شكيم أن يسمعوا له، ثم أخذ يروي لهم مثل الأشجار والعوسج ليوبخهم على اختيار أبيمالك ملكًا، وقتلهم إخوته بلا ذنب.

نحن نعلم أن الوادي الذي فيه تقع شكيم (نابلس)، يقع بين جبل الجرزيم وعيبال، على الأول وقف نصف الأسباط ينطقون بالبركات وعلى الثاني النصف الآخر ينطقون باللعنات (يش 8: 33-35). وقف يوثام على الجبل يتكلم كما على منبر، وفي وسط الصحراء يدوي الصوت، فيمكن سماعه في شكيم بل وعلى الجبل المقابل عيبال. تكلم من جبل البركة لا جبل اللعنة حتى يقبلوا السماع له حتى النهاية، إذ بدأ بالمثل بطريقة غامضة ومشوقة حتى يجتذبهم للاستماع والتفكير وختمه بالنتيجة المؤلمة حتى إذا ما ثاروا عليه يستطيع أن يهرب في إحدى مغائر الجبل وكهوفه الكثيرة فلا يعرفون له أثر.

قال يوثام "مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكًا" [8]. إنها قصة خيالية يظهر فيها الأشجار تتحرك معًا، وتفكر وتطلب أن تقيم لها ملكًا، وهو بهذا يجتذبهم للاستماع خلال التمثيل الخيالي، ومن ناحية أخرى يستطيع أن يعلن ما في داخله من مرارة نفس دون تجريح بأسماء معينة.

"فقالت للزيتونة: أملكي علينا. فقالت لها الزيتونة: أأترك دهني الذي به يكرمون بيّ الله والناس وأذهب لكيّ أملك على الأشجار؟!" [8-9]. ما هذه الزيتونة إلاَّ الكنيسة الحية أو بمعنى أدق المؤمن المرتبط بالكنيسة والمغروس فيها كزيتونة خضراء، وكما يقول المرتل: "أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله" (مز 52: 8)، ويقول النبي: "زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب إسمكِ" (إر 11: 16). فالمؤمن المثمر بالروح إذ هو ممتلئ في الداخل لا يسعى نحو السلطة، وحتى حينما يُطلب ليملك يشتهي إن أمكن أن يخدم الله والناس بزيت النعمة الداخلي ولا ينشغل بالمظاهر الخارجية مهما تكن كرامتها. إنه يقول مع الزيتونة صاحبة الثمر: "أأترك دهني (زيت الزيتون) الذي به يكرمون بيّ الله والناس وأذهب لأملك على الأشجار؟!". فما يبهج قلبها أن تقدم زيتها في المنارة الذهبية لتحترق أمام مذبح الله، وتهب بزيتها شفاءً للناس (يستخدم كدواء) وشبعًا لهم (يستخدم في الطعام)، يُستهلك زيتها في بيت الله وفي حياة الناس أفضل من أن تنشغل بكرامات بين إخوتها الأشجار.

"ثم قالت الأشجار للتينة تعالي أنت أملكي علينا. فقالت لها التينة: أأترك حلاوتي وثمري الطيب لكي أملك على الأشجار؟!" [10-11]. التينة أيضًا كالزيتونة تُشير إلى الكنيسة الحية التي تضم أعضاءها في داخلها كالبذر الرفيع تحتضنه بغلاف روح الحب والوحدة الحلو كقول القديس يوحنا الذهبي الفم[95]: [وكأن التينة تتمسك بالغلاف الحلو أي بروح الحب والوحدة لتقدم ثمرًا طيبًا لكل نفس عوض الانشغال بالكرامات الزمنية التي تمزق الوحدة وتنزع الحب عن الجماعة المقدسة.

"فقالت الأشجار للكرمة تعالي أنت وأملكي علينا. فقالت لها الكرمة: أأترك مسطاري الذي يفرح الله والناس وأذهب لكي أملك على الأشجار؟!" [12-13]. إن كانت الزيتونة اشتهت أن تقدم زيتًا يحترق ويُستهلك لأجل الله والناس، والتينة تقدم روح الحب والوحدة من أجل شبع كل نفس، فالكرمة وهي تمثل الكنيسة بكونها بيت الصليب فيها يعصر العنب لينتج مسطارًا (خمرا جديدًا)، فهي تفرح بالصليب والألم لكي يُسر بها الله ويفرح الناس عوض طريق الكرامة المتسع والسهل. إنها تقبل الطريق الكرب والباب الضيق من أجل الرب وخلاص الناس (مت 7: 14). خلال الصليب (المعصرة) تنتج الكرمة خمرًا يستخدم كسكيب على الذبيحة اليومية (خر 29: 38-40) يُشير إلى فرح الله المرتبط بذبيحة المسيح، أو لتعزيتها الملتحمة بالضيقات من أجل الرب[96].

أخيرًا إذا جاءت الأشجار إلى العوسج تطلب ذات الأمر، "قال العوسج: إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكًا فتعالوا واحتموا تحت ظلي، وإلاَّ فتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان" [14-15]. العوسج نبات ذو أشواك يظهر عادة في المناطق الجافة لا يحتاج إلى مياه كثيرة. لقد طلب العوسج من الأشجار أن تحتمي تحت ظله مع أن الأشجار أكثر علوًا وضخامة من نبات العوسج الصغير الحجم، هذا وورقه وأشواكه حادة لا يستطيع أحد أن يستظل تحته، وإذ هو قليل الرطوبة يتعرض للحرق، بل ويسبب احتراقًا للأشجار التي بجواره. هكذا يشبه يوثام أبيمالك بالعوسج الشجيرات الجافة التي بلا نفع، بل بها أشواك مؤذية، وبسبب تعرضها للحريق تحطم الأشجار التي حولها.

يوبخ يوثام أهل شكيم لأنهم قتلوا إخوته الذين لا يطلبون السلطة بل هم كالزيتونة والتينة والكرمة يودون الخدمة والبذل، وأقاموا أبيمالك العوسج الذي يحترق بشره ويحترقون هم معه بعد أن تصيبهم أشواكه المؤذية.

قبل أن يهرب يوثام وبخهم لأنهم ردوا محبة جدعون وجهاده الأمين لأجلهم بقتل أبنائه، وفي سخرية مملوءة تحذيرًا ختم قوله: "فأفرحوا أنتم بأبيمالك وليفرح هو أيضًا بكم. وإلاَّ فتخرج نار من أبيمالك وتأكل أهل شكيم وسكان القلعة، وتخرج نار من أهل شكيم وسكان القلعة وتأكل أبيمالك" [19-20]. ظنوا في اختيارهم لمن هو من مدينتهم أنه قادر أن يسندهم، لكنهم لم يدركوا أن شره كالنار تخرج منه كما من العوسج لتحرقهم مع أنها كأشجار الأرز، وبسبب شرهم إذ اشتركوا معه في قتل إخوته السبعين وتمليك رجل فاسد عليهم تخرج نار لتأكله هو! كأن الاختيار السيئ للقيادة الروحية مهلكة للخادم والمخدومين معًا! إنه احتماء بالعوسج المملوء أشواكًا، يظن أنه قادر على حماية غيره، فإذ به يلتهب بنار الشر فيحترق ويحرق المحتمين فيه.

إذ قال يوثام هذا هرب إلى بئر وأقام هناك من وجه أبيمالك [21]. توجد أماكن كثيرة تحمل هذا الاسم، فالبعض يرى أنه ذهب إلى بئر سبع، والبعض يرى أنه ذهب إلى ما يسمى الآن "البيرة" تبعد عشرة أميال شمال أورشليم.... على أي الأحوال لم يكن ممكنًا ليوثام أن يهرب من أهل شكيم الذين ملّكوا "أبيمالك" عليهم، أي يهرب من الشر الذي يُرى في إبليس ملكًا عليه، إلاَّ بالاحتماء في البئر الحقيقية أي مياه المعمودية المقدسة، التي فيها سحق السيد المسيح إبليس تحت قدميه، واهبًا إيانا بروح القدوس روح البنوة، فنقبل الله الآب ملكًا علينا عوض أبيمالك (تعني أبي يملك).

3. غدر أهل شكيم بأبيمالك:

مسح أهل شكيم أبيمالك ملكًا، لكنه لم يملك على إسرائيل وإنما على منطقة شكيم، فقد كرهه بقية الأسباط ربما لأجل قتله إخوته وأيضًا لأنه ابن سرية ولأنه كان مغتصبًا للسلطة ومحبًا لها. ولهذا قيل: "ترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين"، ولم يقل: "مَلَك"، ولا نعرف كيف عاش هذه السنوات الثلاثة، لكن الرب أرسل روحًا رديًا بينه وبين أهل شكيم [23]، بمعنى أن الله ترك الطرفان يدركان شر بعضهما البعض، فصار فيهما روح البغضة والكراهية والغدر. وكأن الذين شددوا يديه لقتل إخوته صاروا لا يطيقونه؛ ربما شعروا أن من يقتل إخوته لأجل اغتصاب السلطة كيف يمكن أن يبذل لأجل آخرين؟!

"فوضع له أهل شكيم كمينًا على رؤوس الجبال وكانوا يستلبون كل من عبر بهم في الطريق، فأُخبر أبيمالك" [25]. الذي دبرّ خطة لقتل إخوته، الآن يقف أقرباؤه ليدبروا خطة للخلاص منه، وكما قيل بإشعياء النبي: "ويل لك أيها المخرب وأنت لم تُخرب، وأيها الناهب ولم ينهبوك؛ حين تنتهي من التخريب تُخرب، وحين تفرغ من النهب ينهبونك" (إش 33: 1). الذين شددوا يديه ليقتل إخوته ليملك، الآن يبذلون الجهد ليقتلوه هو، فوضعوا رقباء أشرارًا على جبال الجرزيم وعيبال المحيطة بشكيم حتى يروا من يصلح لتدبير خطتهم نحوه، وكانوا يسلبون كل من يمر بالطريق، وربما ليثيروا قلاقل في المنطقة فيرتبك أبيمالك ويخرج ليرى الأمر بنفسه فيقتلوه.

4. هزيمة جعل بن عابد:

رأى الكمين رجلاً يُدعى جعل بن عابد، اسمه عبري يعني "كراهية"، كان يكره أبيمالك ربما لخوفه أن الذي قتل إخوته لا يؤتمن الجانب؛ وكان معه إخوته ربما جماعة من اللصوص أو قطاع الطريق يعلمون تحت قيادته، ففرح به أهل شكيم إذ رأوا فيه أنه قادر على تحقيق خطتهم.

بدأ تحقيق الخطة بطقس ديني وثني إذ خرجوا إلى الحقل وقطفوا كرومهم وداسوا قسمًا من العنب في المعصرة كعادة تلك الأيام لعمل الخمر، ثم صنعوا تمجيدًا [27] أي تغنوا لآلهتهم وسبحوا لها أثناء قطف الكروم ودوسها في المعصرة، كعادة الأمم. لذلك إذ يؤدب الرب موآب قيل: "انتزع الفرح والابتهاج من البستان، لا يُغني في الكروم ولا يترنم، ولا يدوس دائس خمرًا في المعاصر؛ أبطلت الهتاف" (إش 16: 9).

إذ عصروا العنب بالترنم دخلوا بيت "بعل بريث" إلههم وأكلوا في الهيكل وشربوا، ولعنوا أبيمالك [27] بمعنى أنهم طلبوا من آلهتهم أن يتخلى عنه ويكون ملعونًا فيدبرون قتله ويغلبونه بسبب سقوطه تحت لعنة إلههم.

إذ رأى جعل بن عابد هذا الموقف الشعبي أخذته الغيرة وبدأ يستخف بأبيمالك وستهزئ به قائلاً: "من هو شكيم (أي أبيمالك الذي يملك على شكيم) حتى نخدمه؟! أما هو بن يربعل (أي ابن مقاتل البعل أو عدو الآلهة) وزبول وكيله؟! اخدموا رجال حمور أبي شكيم، فلماذا نخدمه نحن؟!" [28]. بمعنى أنه كان الأولى بالملك نسل حمور أي سلالة الملوك الشرعيين لا هذا الغريب ابن السرية. إن كان شكيم بن حمور قد اغتصب دينه ابنة يعقوب فقتله شمعون ولاوي مع رجال المدينة (تك 34)، فقد دخل إسرائيل في علاقة ودّ مع أهل شكيم، وكان لأهل شكيم سطوة وتقدير خاص. وجاء اسم "حمور" من "ذبيحة الحمار" التي كانت مظهرًا أساسيًا في ابرام المعاهدات عند الأموريين في القرن 18 ق.م.

سمع زبول رئيس مدينة شكيم ونائب أبيمالك ما قاله جعل بن عابد وعرف أنه يستعد لمقاتلة الملك، وإذ كان الملك يقطن خارج المدينة في ترمة [31] وغالبًا هي أرومة [41] ومعناها بالعبرية (ارتفاع). ظن البعض أنها "الأرمة" الحديثة وهي تبعد 6 أميال شمال شرقي شكيم. تظاهر زبول بالصداقة مع جعل وأرسل إلى الملك سرًا يخبره بما جرى، وسأله ألاَّ يدخل المدينة وإنما ينزل برجاله خفية ليلاً ويكمن في الحقل، وإذ يخرج جعل ورجاله في الصباح يحاربهم عند أبواب المدينة فلا تكون لجعل حصون يحتمون فيها. وإذ سمع الملك قسم رجاله إلى أربعة فرق ولما رأى جعل الرجال قادمين ليلاً قال لزبول: "هوذا شعب نازل عن رؤوس الجبال، فقال له زبول: إنك ترى ظل الجبال كأنه أناس" [36]. هكذا كان زبول يخدع جعل حتى يفسد خطته ضد أبيمالك ويعيقه عن الاستعداد للحرب معه. لكن إذ عاد فرأى إحدى الفرق نازلة من المرتفعات عن طريق بلوطة العائفين [37] أي بلوطة المشتغلين بالعيافة ومعرفة الغيب، عاد يؤكد لزبول أنهم فرقة قادمة للحرب، وإذ اقتربت جدًا وأدرك زبول أن جعلاً قد تورط في استخفاف قال له: "أين الآن فوك الذي قلت به من هو أبيمالك حتى نخدمه؟!" [38]. وكأنه يقول له: إنك رجل كلام تحمل قوتك في فيكَ لا بالعمل. فخرج جعل أمام أهل شكيم ليحارب أبيمالك، فانهزم جعل وهرب بعد أن سقط كثيرون من رجاله عند مدخل الباب، أي في موقع المعركة ذاتها عند باب مدينة شكيم... وإذ هرب جعل إلى المدينة طارده أبيمالك، إن لم يكن برجاله (رجال حرب) فبإثارة أهل شكيم والوشاية به بعد أن ظهر لهم جعل ضعيفًا وعاجزًا برجاله عن مقاومة أبيمالك.

الفساد كالنار تأكل بعضها البعض، إذ دب في أبيمالك وأهل شكيم لإقامة الأول ملكًا وانتفاع الآخرين بذلك، غدر أهل شكيم به مستخدمين وسيلة شريرة "جعل بن عابد رجاله اللصوص"، فهلكت الوسيلة وتأزم الموقف إذ عرف الملك ما بقلب أهل شكيم فأراد أن ينتقم حتى النهاية، لكنه وإن حطمهم لم يستطع الهروب من جريمة القتل التي ارتكبها ضد إخوته بصورة بشعة!

5. أبيمالك يضرب شكيم:

إذ أدرك أهل شكيم فشل خطتهم حاولوا استرضاء أبيمالك فطردوا جعلاً ورجاله، وخرجوا إلى الحقل يخبرون أبيمالك بعملهم هذا، لكنه إذ عرف غدرهم قسّم رجاله إلى ثلاث فرق. اقتحم هو وفرقته مدخل باب المدينة وقامت الفرقتان بقتل كل من في الحقول... ثم دخل وقتل الشعب وهدمها وزرعها ملحًا. عبارة "زرعها ملحا" لا يعني أنه ألقي ملحًا في الأرضي الزراعية ليفسدها وإنما كناية كانت تستخدم للتعبير عن الخراب الذي يحل ببلد ليبقى زمانًا طويلاً بلا علاج.

سمع أهل البرج بما حدث في المدينة فلجأوا إلى صرح (حصن) بيت إيل بريث، يحتمون بالبرج كحصن مادي وبالآلهة الوثنية... لكن أبيمالك صعد برجاله إلى جبل صلمون؛ يرى البعض أنه جبل سليمان وهو جزء من جبل الجرزيم في جنوبه، ويرى آخرون أنه جبل السلامية أو جبل عيبال. وقد سمى "صلمون" بسبب الأشجار التي تظلله، لأن "صلمون" تعني (ظليل).

حمل الملك فأسًا وقطع غصن شجرة، ففعل رجاله مثله، ووضعوا الأغصان على الصرح وأحرقوه بمن فيه فمات جميع أهل شكيم نحو ألف رجل وامرأة [49]. وكأنه قد تحقق مثل يوثام حرفيًا، إذ خرج من العوسج نار والتهمت أشجار الأرز [15، 20].

6. قتل أبيمالك بامرأة:

إذ قتل أبيمالك أهل شكيم وأهلك بالنار والدخان كل من كان بالحصن ذهب إلى تاباص واستولى عليها. وهي مدينة اسمها عبري معناه (بهاء) أو (ضياء)، قريبة من شكيم، تعرف الآن بطوباس، تبعد 10 أميال شمال شرقي شكيم (نابلس) على طريق "بيسان" أو (بيت شان)، لعل هذه المدينة إذ عرفت تحركات أهل شكيم في البداية قامت هي أيضًا بثورة ضده، إذ كان الكل يود الخلاص منه.

هرب الكل إلى البرج في وسط المدينة ليحتموا فيه، وإذ اقترب من الباب ليحرقه بالنار طرحت امرأة قطعة من حجري الرحى على رأسه فشجت جمجمته [53]. للحال دعا الغلام حامل عدته وطلب منه أن يخترط السيف ويقتله حتى لا يُقال عنه أنه قتلته امرأة...

إن كان العوسج في جفافه يكون علة حرق أشجار الأرز التي ملّكته عليه [15]، فإن العوسج نفسه يحترق أيضًا معها، فيهلك الملك الشرير أو الخادم أو الراعي الشرير مع شعبه!

لقد اختاروا أبيمالك لا لفضيلة فيه وإنما لقرابة الجسد لأهل شكيم فأهلكهم وهلك معهم، لذلك جاء في قوانين الرسل كما في مجمع إنطاكية: [الأسقفية لا تورث ولا يصح الوصية بها ولا الهبة بها لقريب أو غريب، لأن الكهنوت لا يورث[97]].

<<

 

 


 

الأصحاح العاشر

إنحراف إسرائيل

في هذا الأصحاح نجد قصة السقوط المتكررة بالرغم من اهتمام الله بشعبه:

١. إقامة تولع بن فواة               [1-2].

٢. إقامة يائير الجلعادي              [3-5].

٣. إذلالهم ببني عمون               [6-18].

١. إقامة تولع بن فواة:

"وقام بعد أبيمالك لتخليص إسرائيل تولع بن فواة بن دودو رجل من يساكر، كان ساكنًا في شامير في جبل أفرايم" [1].

"شامير" أو "شامور" اسم عبري معناه (شوكْ) أو (صوان)، ربما هي ساتور الواقعة بين السامرة وجنين، قام فيها تولع القاضي مع أنه من سبط يساكر والمدينة في جبل أفرايم، قام ليخلص إسرائيل ربما من تحرشات خفيفة لم تستحق الذكر. وقد مضى لإسرائيل 23 عامًا، غالبًا ما اتسمت بالسلام.

"تولع" تعني (دودة) أو (قماش قرمزي)، و"فواة" تعني (عروق الصباغين)... وكأنه إذ انتهى حكم أبيمالك الرجل المحب للسلطة، العوسج الذي أخرج نارًا دمرته ودمرت من أقامه ملكًا عليهم، هذا الذي لم يهلكه أعداء من الخارج وإنما قتله أهل بيته وهو قتلهم؛ بموته قام قاضٍ وهو تولع بن فواة، وكأنه بالقماش القرمزي الذي من صنعة الصباغين، اصطبغ بالدم المقدس (القرمز)، فأعطى للشعب سلامًا 23 عامًا، مع أنه كان ساكنًا في شامير ودفن فيها، أي عاش وسط الأشواك.

اختار أبيمالك الطريق السهل فأمّن حياته ومملكته بقتل إخوته، فلم يتسلط إلاَّ ثلاث سنوات لم يذق فيها طعم الراحة، انتهت بمأساة حطمته تمامًا، أما تولع وإن كان كدودة حقيرة لكنه قبل طريق الأشواك والآلام فقدم لشعب الله سنوات طويلة مملوءة راحة. وكأنه يمثل الراعي الذي يحمل الأشواك لكي يستريح الآخرون، يموت كل يوم لينعم إخوته بالحياة في الرب. ما أجمل كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم الراعي الباذل: [ليتكم تستطيعون معاينة النيران الملتهبة في قلبي لتعرفوا إني أحترق أكثر من سيدة شابة تئن بسبب ترملها المبكر، فإني لست أظنها تحزن على زوجها، ولا يحزن أب على ابنه كحزني أنا على هذا الجمهور الحاضر هنا![98]]، [إني أود أن أقدم بكل سرور عيني ربوات المرات وأكثر إن أمكن من أجل توبة نفوسكم[99]].

٢. إقامة يائير الجلعادي:

إذ دفن تولع الذي يحمل اسمه معنى (دودة)، بعد أن قدم للشعب راحة لسنوات طويلة، قام يائير الجلعادي ليقضي لإسرائيل 22 سنة غالبًا ما كانت سنوات سلام، ولا نعرف عن أيامه سوى أنه كان له ثلاثون ولدًا يركبون ثلاثين جحشًا علامة الكرامة والغنى، ولهم ثلاثون مدينة هي في حقيقتها مزرعة امتلأت بالمباني والمنشآت فدعيت مدنًا. وقد سميت "حووت يائير" أي (مزارع يائير).

إن كان اسم "تولع" بالعبرية يعني (دودة) علامة اتضاعه، أو (قماش قرمزي) علامة اصطباغه بدم المخلص والتطهر به، فإن "يائير" تعني (ينير). فالأول "تولع" حمل دم السيد المسيح ليقضي بروح الوداعة، والثاني "يائير" يحما استنارة الروح القدس، روح السيد المسيح نفسه. ليصير نورًا للعالم كمرسله القائل: "أنتم نور العالم" (مت 5: 14). يرى البعض أن يائير هذا ربما يكون من نسل يائير المذكور في سفر العدد (32: 41).

إن كان يائير يشير إلى النفس المستنيرة بالروح القدس خلال مياه المعمودية فإن أولاده الثلاثين يشيرون إلى مواهب الإنسان وأحاسيسه وطاقاته التي تتقدس كأولاد له في الرب، يركب كل منهم جحشًا أي يصير مكرمًا وغنيًا في الرب ويملك على مدينة أو مزرعة إذ يصير كل ما بداخلنا مقدسًا للرب، لا يليق به أن يسلك في الرجاسات أو يستخدم للشر إنما يكون مكرمًا بالحياة المقدسة!

أما رقم 30 هنا فيشير إلى "معمودية السيد المسيح"، إذ اعتمد في مياه الأردن في سن الثلاثين، خلال معموديته صار لنا حق التمتع بالمعمودية. نُحسب فيه ملوكًا وكهنة مقدسين فيه، نملك كأحرار ولا نُستعبد لإبليس وأعماله الشريرة. هذا ما دفع القديس جيروم للقول: [لم يكرز المخلص نفسه بملكوت السموات إلاَّ بعد تقديسه الأردن بتغطيسه في العماد[100]].

٣. إذلالهم ببني عمون:

إذ استراح الشعب عاد يشترك مع الوثنيين أو الأمم في عبادتهم للأوثان، فصاروا يعبدون البعليم أي آلهة الشمس، والعشتاروت آلهة القمر؛ كما عبدوا آلهة آرام وعاصمتها دمشق، منها الإله رمون (2 مل 5: 18) إله الرعد والأمطار. وعبدوا آلهة صيدون أي صيدا ومنها البعليم والعشتاروت وإن كان لكل أمة بعلها الخاص وعشتاروتها الخاصة بها؛ وآلهة موآب مثل كموش وبعل فغور؛ وآلهة بني عمون مثل ملكوم أو مولك (لا 18: 21)، وآلهة الفلسطينيين مثل داجون وهو إله السمك وكان تمثاله مركب من وجه إنسان ويدي وجسم سمكة.

بدأوا أولاً بعبادة هذه الآلهة جنبًا إلى جنب مع عبادتهم لله، وكأنها سمة عدم التعصب، لكن سرعان ما تركوا عبادة الله الحيّ حيث الطريق الضيق واكتفوا بالعبادة الوثنية حيث الباب المتسع والطريق السهل. وكان ثمر شرهم أن الله الذي اقتناهم بحبه باعهم للفلسطينيين ولبني عمون [7] حتى يتذوقوا مرارة ما اختاروه، فصاروا في مذلة 18 سنة، وتضايقوا جدًا [9]، وإذ صرخوا إلى الرب عاتبهم على تصرفاتهم الجاحدة ومقابلتهم رعايته وخلاصه لهم من الضيق بالشر... وفي أبوة حازمة قال "لا أعود أخلصكم" [13]، لا ليغلق الباب، وإنما ليؤكد لهم حزمه ويطالبهم بالدخول إلى العمق في حل مشكلتهم. والدليل على ذلك أنهم إذ أزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم وعبدوا الرب "ضاقت نفسه بسبب مشقة إسرائيل" [16]. وكأنه لم يحتمل مشقتهم ولا آلامهم. إنه أب مملوء حبًا، لا يستطيع أن يرى دموع أبنائه، فيقول في سفر النشيد: "حوّلي عني عينيك فأنهما قد غلبتاني" (نش 6: 5). فإنه إذ يؤدب بحزم يعود بحبه ليقول: "قد انقلب عليَّ قلبي، اضطرمت مراحمي جميعًا. لا أجري حمو غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9).

عجيب هو الرب في محبته، فهو لا يحتمل توبة إنسان، ولعل أعظم مثل لذلك ما فعله مع آخاب الشرير الذي قتل وورث (1 مل 21: 19)، وقد شهد عنه الكتاب: "لم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشر في عيني الرب" (1 مل 21: 25) لكنه إذ سمع كلام الرب ضده على لسان إيليا النبي وشق ثيابه وجعل مسحًا على جسده، ولم يحتمل الرب هذا المنظر، بل قال لإيليا النبي: "هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي؟ فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه" (1 مل 21: 29).

هكذا إذ رجع الشعب إلى الله لم يتركهم وعندما نزل بنو عمون إلى جلعاد واجتمع بنو إسرائيل في المصفاة [17] كان الله يهيئ لهم مخلصًا هو يفتاح الجلعادي.

"المصفاة" اسم عبري معناه (برج النواطير) دعي مصفاة جلعاد (11: 29)، ورامة المصفاة (يش 13: 26)، وراموث جلعاد (1 مل 4: 13). وهي موضع الرجمة التي أقامها يعقوب وقم لابان شهادة على العهد الذي أقيم بينهم (تك 31: 49). ربما موضعها تل رميث، أو السلط، وكانت من نصيب جاد.

<<

 


 

الأصحاح الحادي عشر

إقامة يفتاح قاضيًا

كان يفتاح ابنًا لامرأة زانية طرده إخوته لكي لا يرث في بيت أبيهم، ولكنه حمل قلبًا متسعًا لهم، وإذ كان روح الرب عليه قام ليخلصهم.

1. هروب يفتاح من إخوته [1-3].

2. شيوخ جلعاد ويفتاح               [4-11].

3. حوار مع ملك بني عمون         [12-28].

4. نذر يفتاح المرير                  [29-40].

١. هروب يفتاح من إخوته:

كلمة "يفتاح" تعني (الذي يفتح)، ولعله بهذا الاسم حمل صورة رمزية لسمة السيد المسيح وتصرفاته الخلاصية. فإذ كان قلب إخوته مغلقًا فطردوه من بينهم حتى لا يرث في بيت أبيهم، اضطر إلى الهروب إلى أرض طوب أي (الطيبة) شرق الأردن، خارج حدود إسرائيل كما يبدو من (2 صم 10: 6) حيث استأجر حانون ملك عمون جنودًا منها عندما أهان داود الملك، ويقال أنها تبعد 10 أميال جنوب جدة وتسمى الآن مقيس أو أم قيس، ومع هذا فقد فتح يفتاح قلبه ليقوم ويقودهم مخلصًا إياهم من بني عمون. كأنه رمز للسيد المسيح الذي أغلقت البشرية أبوابها أمامه فلم يجد له موضعًا يولد فيه بين الناس، فولد في مذود بقر، وفي خدمته أعلن صراحة أن ابن الإنسان ليس له موضعًا يضع فيه رأسه (مت 8: 20)، لكنه وهو المطرود من اليهود بكل فئاتهم مع الأمم فتح قلبه بالحب على الصليب ليضم الجميع ويحملهم إلى حضن أبيه، مصالحًا إيانا معه أبديًا (2 كو 5: 18).

السيد المسيح هو يفتاح الحقيقي، الذي يفتح ولا أحد يغلق (رؤ 3: 7)، يفتح لمؤمنيه أبواب الفردوس بعد أن أحكمنا إغلاقه بالعصيان.

وقد دُعي يفتاح بالجلعادي من جانبين؛ لأنه نشأ في جلعاد، ولأن أبيه يُدعي "جلعاد".

أكدّ الكتاب أنه "ابن زنى"، لكن هذا لا يعيبه، فالابن لا يُطالب بخطية أبيه (حز 18: 20)، إنما إن أخطأ هو يموت. حقًا لقد حرمته الشريعة من دخول جماعة الرب، أي من العضوية في المجمع، لكنها لم تحرمه من قيادة الجيش والقضاء ولا من التمتع بالميراث الأبدي (تث 23: 2-3). في هذا يقول القديس جيروم: [كان يفتاح الذي يحسبه الرسول في عداد الأبرار (عب 11: 32) ابن زانية. لقد قيل: "النفس التي تخطئ هي تموت" (خر 18: 4). النفس التي لا تخطئ تحيا. هكذا لا تنسب فضائل الوالدين أو رذائلهم للأبناء؛ الله لا يحاسبنا إلاَّ من الوقت الذي فيه وُلدنا في المسيح من جديد[101]].

كان يليق بأخوة يفتاح أن يكسبوا أخاهم لا أن يخسروه بلا ذنب ارتكبه هو، فبغير حكمة طردوه، فاجتمع معه رجال بطالون كانوا يخرجون معه ربما للسلب والنهب... فجرفوه إلى الالتصاق بالأشرار وممارسة ما لا يليق، الأمر الذي كان لا يبرر يفتاح لكنه لا يعفي إخوته من المسئولية أيضًا.

2. شيوخ جلعاد ويفتاح:

طُرد يفتاح من إخوته فهرب إلى ما وراء إسرائيل، إلى أرض طوب.... وكأنه بالسيد المسيح المطرود من خاصته ليهرب خارج إسرائيل، منطلقًا إلى الجلجثة بكونها "أرض طوب الحقيقية"، إذ هناك تجلت طيبة الرب وأُعلنت أحشاؤه الملتهبة بالحب نحو كل أحد. وكما قال الرب نفسه: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16).

حين طُرد يفتاح من جلعاد استند اخوته بلا شك على حكم قضائي صدر من شيوخ جلعاد، والآن جاء الشيوخ أنفسهم يسألونه العودة لمحاربة بني عمون، قائلين له: "تعال وكن لنا قائدًا فنحارب بني عمون" [6]. ويبدو أنهم طلبوه كقائد حرب فقط بكونه جبار بأس، لكنه لم يقبل أن يسندهم في الحرب ويطردوه في السلم، معلنًا احتجاجه: "أما أبغضتموني أنتم، وطردتموني من بيت أبي، فلماذا أتيتم إليَّ الآن إذ تضايقتم؟!" [7]. وحينما سألوه أن يكون لهم رأسًا (أي في حالتي الحرب والسلم)، أكد لهم: "فأنا لكم رأسًا" [9]... ودخل يفتاح في علاقة مع الرب في المصفاة [11].

يفتاح يمثل شخصية فريدة، فقد اعتدنا أن نجد أبطالاً روحيين حين تسلموا مراكز قيادية انحرفوا، إذ ابتلعتهم محبة السلطة والكرامة، أما يفتاح فقد بدأ حياته مع رجال بطالين كانوا يخرجون معه، وحينما سُئل أن يكون قائدًا للحرب اشتهى أن يكون رأسًا دائمًا لإسرائيل في الحرب كما في السلم... لكنه ما أن تسلم العمل حتى رأيناه رجل إيمان عجيبًا في تصرفاته. فإن كان البعض لا يحتملون المسئولية ولا الكرامة فينهارون روحيًا، فإن البعض الآخر ترهبهم المسئولية داخليًا لينطلقوا إلى بدايات جديدة لعمل روحي نامٍ في الرب.

تسلم يفتاح العمل بعد حواره مع شيوخ جلعاد لا من أيديهم بل من أيدي الرب نفسه لهذا لم يعتمد على ذاته، ولا على رجاله بل على الرب نفسه، قائلاً: "إذا أرجعتموني لمحاربة بني عمون ودفعهم الرب أمامي..." [9]. إن كانوا هم يرجعونه لكنه يحارب بالرب نفسه، سرّ غلبته ونصرته، بهذا الروح يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لا نقدر أن نجري في طريق الله إلاَّ محمولين على أجنحة الروح[102]].

3. حوار مع ملك بني عمون:

بدأ يفتاح عمله بحكمة روحية عالية فلم ينطلق لمحاربة بني عمون بالرغم من إذلالهم لشعب إسرائيل سنوات طويلة، لكنه بروح الحكمة أرسل ليطلب سلامًا، قائلاً: "مالي ولك أنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضي؟!" [12]. أرسل إليه بلطف يسأله ألاَّ يحاربه في أرضه، لكن ملك بني عمون أجابه أنه يحاربه لأنه قد اغتصب أرضه عندما صعد إسرائيل من مصر ودخل أرض الموعد. حقيقة الأمر أن إسرائيل قد مُنع من محاربة بني موآب وبني عمون (تث 2: 9، 19)، لكن الأرض موضع خلافهم كانت في الأصل لبني عمون وقد استولى عليها الأموريين (عد 21: 26)، وإذ منع سيحون ملك الأموريين إسرائيل من العبور عليها بسلام وخرج لمحاربتهم غلبوه واستولوا على أرضه التي هي في الأصل غالبيتها لبني عمون ولبني موآب، فما استولوا عليه إنما من الأموريين. فمطالبة بني عمون بأرضه الممتدة من نهر أرنون والذي يعني اسمه (مصّوب)، إلى نهر اليبوق والذي يعني اسمه (مفّرغ) وهو نهر الزرقاء، إلى نهر الأردن، هي مطالبة بدون حق.

هذا ومن جانب آخر فإن إسرائيل كان قد استولى على الأرض منذ حوالي 300 عامًا فصارت حقًا له بوضع اليد [26].

أما الحجة الثالثة التي قدمها يفتاح للملك فهي أن ما ناله إسرائيل في الواقع ليس من بني عمون أو بني موآب ولا من الأموريين، إنما تسلمها من الرب نفسه، كعطية إلهية: "والآن الرب إله إسرائيل قد طرد الأموريين من أمام شعبه إسرائيل، أفأنت تمتلكه؟‍! أليس ما يملكك إياه كموش إلهك تمتلك، وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا فإياهم نملك؟!" [ 23-24]. وكأن موضع الحوار وموقعه ليس الأرض وإنما مملكة الله، فالله وهبهم أن يملكوا ويطردوا الأمم فهل يرفضون عمل الله معهم؟ الأرض في ذاتها في عيني يفتاح تحمل علامة ملكية الرب وقبول المؤمنين لوعوده وعطاياه، وكل تراخٍ في امتلاكها يُحسب إهانة موجه ضد الله شخصيًا. بهذا الفكر تطلع الرسول بولس إلى أعضاء جسده وكأنها بالأرض التي ملك عليها بنو عمون وبنو موآب والأموريين زمانًا، لكنه إذ طرد الله الشر عن هذه الأعضاء ليملك بنفسه عليها، فهل يسلمها الإنسان للأمم الوثنية (للخطايا والشهوات) مرة أخرى؟! وكما يقول الرسول بولس: "أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟!" (1 كو 6: 15).

لقد سلمنا الله حياتنا متجددة فيه بالروح القدس، وكأنها بالأرض الممتدة من أرنون (المصّوب) إلى اليبوق (مفّرغ) إلى الأردن حيث نجد السيد المسيح حالاً فيه. هكذا تمتد حياتنا من الأرنون أي نبدأ بعمل التصويب أو تصحيح حقيقي داخلي بروح الله القدوس، إلى اليبوق حيث يحدث تفرغ كامل من الشر وكل أعمال إبليس الذي احتل الموقع، إلى الأردن ليملك السيد المسيح في مياهه معلنًا نصرته على لويثان الساكن في المياه وفاتحًا أبواب السماء لنسمع صوت الآب المفرح وحلول الروح القدس! إذ تسلمنا هذه الحياة الجديدة في الرب أو الأرض المفرّغة من إبليس ليملك الرب عليها، لا يليق بنا أن نترك العدو يحتلها مرة أخرى !

ما أجمل ما قاله يفتاح: "فامتلكوا من أرنون إلى اليبوق، ومن القفر إلى الأردن" [22]! كأنه يقول أن المؤمن يملك من موضع التصويب الداخلي إلى التفريغ... أي يسلكوا في حياتهم الروحية عمليًا، فإذ يطلبون تصحيحي حياتهم وتجديدها في الرب يتفرغون تمامًا عن إبليس وأعماله. أما قوله: "من القفر إلى الأردن"، فتعني كمن ينتقل من القفر والقحط إلى الفردوس حيث يوجد السيد المسيح شجرة الحياة داخله. فالأردن أو المعمودية ليس إلاَّ عودة إلى الحياة الفردوسية على مستوى سماوي، إذ هي دخول إلى الاتحاد مع الآب في ابنه يسوع المسيح كعضو في جسده المقدس، بالروح القدس. هذه احساسات آباء الكنيسة عند حديثهم مع الموعظين، إذ كانوا يشعرونهم أنهم يقودونهم إلى الفردوس عينه، من هؤلاء الأباء القديس يوحنا الذهبي الفم والأب ثيؤدور الميصي.

أخيرًا، إذ أراد يفتاح من ملك بني عمون أن يراجع نفسه في قراره بمحاربة إسرائيل سأله أن يتمثل بملك موآب، فإنه فقد أيضًا أرضه كبني عمون، لكنه لم يحارب إسرائيل، أو ربما بعدما بدأ بالمحاربة عاد ليراجع نفسه فامتنع عن المحاربة.

4. نذر يفتاح المرير:

"ونذر يفتاح نذرًا للرب قائلاً: إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعده محرقة" [30-31].

كان هذا النذر- في رأي كثير من الأباء لا يحمل شيئًا من الحكمة، ولعل الله أراد أن يلقن يفتاح بل وكل المؤمنين عبر الأجيال درسًا قاسيًا، فسمح بخروج ابنته الوحيدة العذراء للقائه، فصار يفتاح في مرارة. لما رآها مزق ثيابه، وقال: "أه يا بنتي قد أحزنتني حزنًا، وصرتِ بين مكدري، لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع" [35]. يقول القديس أمبرسيوس: [كان نذرًا قاسيًا، لكن تحقيقه كان أكثر مرارة، فإذ تممه دخل في علة شديدة للحزن... إنه من الأفضل ألاَّ تنذر من أن تنذر مالا يرغب الله في تقديمه له[103]]. كما يقول: [كان الأفضل له ألاَّ ينذر بالمرة من أن يقوم بإماتة ابنته[104]].

ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لم يوقف تقديم هذه الذبيحة كما فعل في ذبح إسحق بالرغم من عدم قبوله الذبائح البشرية، وذلك لكي تكون درسًا للبشرية، فلا يتسرع أحد بتقديم نذر بقسم لئلا يفقدون أولادهم إذ يقول: [بسماحة تحقيق مثل هذا النذر وضع الله نهاية لتكرار مثل هذا في المستقبل[105]]. كما يقول: [حقًا إنه لم يوقف تحقيق هذه الذبيحة، وإن كان قد عبر عن سروره بمنعها في حالة إسحق إذ لم يسمح بإتمامها (تك 22: 12)، مظهرًا أنه في كلتى الحالتين لا يُسر بمثل هذه الذبائح[106]].

على أي الأحوال بالرغم من كراهية الله للذبائح البشرية لكن يفتاح وابنته       ربما بعدم معرفة اشتاقا أن يقدما أغلى ما لديهما لله، فيفتاح لم يتراجع عن نذره مع أن ابنته عذراء ووحيدة، بمعنى آخر يفقد نسله إلى الأبد. وقدمت ابنته حياتها بالرغم من مرارة نفسها لأنها تموت بلا نسل ويلحقها العار، ولهذا السبب قالت لأبيها: "أتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي" [37]. كانت تبكي عذراويتها إذ كانت كل فتاة في إسرائيل تشتاق أن يكون لها نسل لعل المسيا المخلص يأتي منه، والآن إذ تموت عذراء تفقد هذا الرجاء... على أي الأحوال كان يمكن لها أن تفلت بطريق أو بآخر لكنها منذ البداية قالت لأبيها: "أفعل بيّ كما خرج من فيك" [36]، وبعد الشهرين عادت بكامل حريتها تسلم نفسها للموت بيدي أبيها.

لقد قدم يفتاح ابنته ذبيحة لله، وكان في هذا يحمل رمزًا للإنسان الذي يقدم حياته (ابنته الوحيدة) ذبيحة حب لله. لهذا عندما فقد أحد النبلاء الأثرياء يوليان زوجته وبنتيه كتب إليه القديس جيروم ليدخل إلى الرهبنة، مقدمًا لله حياته نذرًا بتكريسها للعبادة لله، الأمر الذي يُفرح قلب الله أفضل من تقدمات كثيرة. يقول له: [قدم يفتاح ابنته العذراء، لهذا وضعه الرسول في عداد القديسين (عب 11: 32). لا أريدك أن تقدم للرب ما قد يسرقه لص منك أو يستولي عليه عدو.... إنما قدم لله ما لا يستطيع عدو أن ينزعه عنك، ولا طاغيه أن يغتصبه منك، بل يذهب معك إلى القبر، لا بل إلى الملكوت، إلى نعيم الفردوس[107]].

أخيرًا يعلل القديس يوحنا الذهبي الفم سرّ نحيب العذارى بقوله [بهذا يجعلن الرجال أكثر حكمة في المستقبل، فيدركون أن ما حدث لم يكن متفقًا مع فكر الله[108]].

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني عشر

حرب يفتاح مع أفرايم

عوض أن يشكر رجال أفرايم يفتاح على جهاده ضد بني عمون، ومحاربته إياهم لحساب إسرائيل كلها أرسلوا ينتقدونه بطريقة مثيرة كعادتهم؛ لكن يفتاح لم يكسبهم كجدعون (8: 1-3) بل قاومهم وحاربهم فقتل حوالي 42 ألفًا من رجال أفرايم.

1. محاربته أفرايم          [1-7].

2. أبصان                   [8-10].

3. إيلون الزبولوني         [11-12].

4. عبدون بن هليل         [13-15].

1. محاربته أفرايم:

عُرف أفرايم بأبطاله لكنه حمل روح الكبرياء، لهذا أرادوا أن يكونوا في المقدمة على الدوام؛ حينما أنتصر جدعون وبخوه لأنه لم يرسل إليهم ليحاربوا معه فكسبهم بروح الإتضاع (8: 1-3). والآن إذ نجح يفتاح في عمله عبروا إليه في مصفاة جلعاد ليهددوه: "نحرق بيتك عليك بالنار" [1]، لا لخطأ ارتكبه إلاَّ أنه لم يطلبهم ليحاربوا معه. لقد حسبوا إنقاذه لسائر إسرائيل دون الاعتراف بسيادتهم ذنبًا لا يغتفر.

لم يقف الأمر عند العتاب بل بلغ التهديد بحرقه حيًا ومعه أهل بيته، وعوض أن يكسبهم بروح الوداعة والإتضاع عاتبهم أنهم لم يقوموا بدورهم في الخلاص من يد العمونيين، وأنه عندما صرخ إليهم اخوتهم استهانوا بهم حتى لجأ الجلعاديون إلى يفتاح. هكذا فضحهم يفتاح عوض تكريمهم، معلنًا تضحيته من أجل الشعب بقوله: "ولما رأيت أنكم لا تخلصون وضعت نفسي في يدي" [3]. أي عرض حياته للخطر. عاد مرة أخرى يعلن أن الله نصره، وكأن محاربتهم له إنما هي مقاومة لله نفسه العامل فيه [3].

لم يقف الأمر عند التوبيخ بإظهارهم كاذبين، معلنًا أنهم دُعوا للمحاربة ولم يستجيبوا، واتهامهم بالإهمال وعدم الاكتراث، كما اتهمهم بمقاومتهم لله نفسه واهب النصرة له، وإنما جمع كل رجال جلعاد وحارب أفرايم. أما سبب الحرب فهو إهانة أفرايم لأهل جلعاد، إذ كانوا يقولون لهم: "أنتم منفلتوا أفرايم، جلعاد بين أفرايم ومنسى" [4]، بمعنى أن أهل أفرايم كانوا يهينون أهل جلعاد باتهامهم أنهم في حقيقة أمرهم مجموعة من الهاربين من أفرايم بسبب لصوصيتهم أو ارتكابهم جرائم قتل إلخ... فكانوا يهربون من أفرايم ولا يذهبون إلى منسى بل يبقون في جلعاد، أي يلجأون إلى الأرض التي بين أراضي السبطين.

وقف رجال جلعاد عند مخاوض الأردن حتى لا يهرب أحد من الأفراميين، فإن اجتاز أحد يسألونه إن كان أفرايمي، فإن أجاب بالإيجاب قتلوه، وإن أجاب بالنفي سألوه أن يقول "شبولت"، وتعني (مخاضة) فإن نطقها "سبولت" عرفوه أنه أفرايمي، إذ ينطق أهل أفرايم الشين سينًا، كبعض قرى الصعيد إذ يقولون عن الشمس مثلاً "سمس". بهذا ذبحوا على مخاوض الأردن عددًا كبيرًا منهم بلغوا مع قتلى الحرب 42 ألفًا من أفرايم.

إن كان أهل أفرايم يلامون على كبريائهم الذي سحقهم، فإن يفتاح خسر هذا السبط وأفقد الجماعة عشرات الألوف بمقاومته للسبط عوض كسبه بالحب المملوء إتضاعًا.

2. أبصان:

لا نعرف عن هذا القاضي سوى اسمه ومركز عمله "بيت لحم" أي (بيت الخبز) التي على ما يظن أنها ليست بيت لحم يهوذا كما ظن يوسيفوس بل: "بيت لحم زبولون" (يش 19: 1، 15). كما نعرف أنه أنجب ثلاثين ابنًا وثلاثين ابنه وزوج الكل من الخارج ربما ليتسع نطاق العائلة، وإذ قضى لإسرائيل سبع سنوات مات أبصان ودفن في بيت لحم.

لم نعرف الكثير عن هذا القاضي وعن القاضيين التاليين، ربما لأنهم لم يدخلوا في ضيقات أو لم تكن لهم مواقف معينة، إنما قضوا مع الشعب أيامًا هادئة وماتوا... على أي الأحوال، فإن القضاة المذكورين في هذا السفر يمثلون عينات متباينة ونوعيات مختلفة من المؤمنين، والكل استحق أن يُسجل اسمه في سفر الحياة، لكن الذين عاشوا وقت الضيق ينالون مكافأة أعظم إن يسلكوا بروح الإيمان الحيّ.

3. أيلون الزبولوني:

"أيلون" اسم عبري يعني (بلوطة)؛ قضى لإسرائيل عشر سنين ومات في "أيلون" وهي قرية في زبولون، غير أيلون التي في دان (يش 19: 43). يرى البعض أن اسمها يعني (مكان الأيل).

4. عبدون بن هليل:

"عبدون" تعني (عبد)، و"هليل" يعني (تهليل) أو (حمد).

نشأ في "فرعتون" التي في أفرايم، اسمها يعني (ارتفاع)، وهي فرعانة تبعد سبعة أميال ونصف جنوب غربي شكيم (نابلس).

قضى لإسرائيل ثمان سنين، وقد أنجب أربعين ابنًا وثلاثين حفيدًا يركبون سبعين جحشًا علامة الغنى والكرامة.

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث عشر

شمشون

إذ دفع الرب إسرائيل ليد الفلسطينيين أربعين سنة للتأديب، كان يعد لهم شمشون كقاضٍ يخلصهم.

1. ملاك الرب وامرأة منوح          [1-7].

2.  ملاك الرب ومنوح               [8-25].

1. ملاك الرب وامرأة منوح:

 إذ عاد بنو إسرائيل يصنعون الشر دفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة [1]، وقد كان للفلسطينيين في ذلك الزمان حتى أيام داود شأن عظيم، وهم غرباء عن الكنعانيين، يدعون بالكفتوريين نسبة إلى موطنهم الأصلي كفتور "جزيرة كريت".

يرى البعض أن الأربعين سنة انتهت بما ورد في (1 صم 7: 13)، فيكون عالي الكاهن قد مات نحو الزمان الذي بلغ فيه شمشون كمال الرجولية. ويرى بعض المفسرين أن شمشون قضى في أثناء أيام قضاء إيلون في شمالي فلسطين، وربما كان بدء عمله في أيام يفتاح. هكذا كان القضاة أحيانًا يظهرون في وقت واحد في مناطق مختلفة، خاصة وأن الفلسطينيين وبني عمون استعبدوا إسرائيل في وقت واحد، فجاء تاريخ يفتاح يعلن إنقاذهم من بني عمون وتاريخ شمشون يعلن معاملات الله مع شعبه بإنقاذهم من الفلسطينيين.

بدء حياة شمشون بظهور ملاك الرب نفسه، وغالبًا ما يكون إعلانًا للأقنوم الثاني، كلمة الله، جاء لامرأة منوح العاقر يعلن لها عن ولادتها لشمشون والتزامها بالاستعداد والتهيئة لمجيء هذا القاضي "شمشون" نذير الرب.

كان والدا شمشون في "صرعة"، مدينة اسمها عبري معناه (ضربة) أو (زنبور)، كانت في ساحل يهوذا ثم صارت لدان (يش 15: 33؛ 19: 41). تعرف اليوم بصرعة أو سوره، تبعد حوالي 14 ميلاً غرب أورشليم، 23 ميلاً شرقي يافا، قائمة على تل يشرف على وادي سورق أو وادي الصرار.

في صرعة وجد رجل تقي يُدعى "منوح"، وهو اسم عبري معناه (نياح) أو (راحة). ولعل والديه كانا يشعران بالمذلة لكن في رجائهما دعاه منوحًا، شوقًا إلى الراحة من الأتعاب ... لكن منوحًا لم يقم بأي دور ظاهري ملموس في خلاص الشعب، إنما قدم بتقواه هو وزوجته "شمشون"، رجل الإيمان! ويمكننا القول أن منوحًا وزوجته قدما لله والجماعة المقدسة بحياتهما المقدسة وصلواتهما ثمرًا في الرب، حتى وإن كانا لم يقطفا منه في حياتهما على الأرض.

يقول الكتاب: "وامرأة عاقر لم تلد" [2]؛ وربما حكم عليها الأقرباء والغرباء بأحكام كثيرة في القلب، إذ كان العقر في نظر إسرائيل علامة غضب الله، وعارًا. لكن الله في طول أناته كان ينتظر ما أحوجنا أن نقبل الثمر من يد الله، لا خلال الطبيعة، حتى وإن تأخر، وإن كان في تأخره ما يشوه صورتنا في عيون الناس.

جاء في التلمود أن اسم زوجة منوح "هصلفوتى"، وهو اسم عبري يعني (يعطي الظل عليّ). إن كان منوح يُشير إلى النفس التي وجدت نياحها أو راحتها في الرب بالروح القدس، فإن هصلفوتي تُشير إلى الجسد الذي ينعم بظل الصليب عليه، فلا يمثل ثقلاً، ولا يبقى عقيمًا، ولا يأتي بثمر من ذاته بحسب الطبيعة إنما ينال خلال الوعد الإلهي ثمرًا روحيًا فائقًا هو "شمشون" الحقيقي أي (الشمس) الحقيقية... بتجلي السيد المسيح شمس البر فينا.

"فتراءى ملاك الرب للمرأة، وقال لها: ها أنتِ عاقر لم تلدي، ولكنك تحبلين وتلدين ابنًا" [3].

كانت المرأة في عيني إخوتها موضع عار، لكنها في عيني الله تستحق أن يظهر لها في شكل ملاك، قدر ما تحتمل الرؤية. وها هو يبشرها بنفسه: "ها أنتِ عاقر لم تلدي، ولكنكِ تحبلين وتلدين ابنًا"، وكأنه يؤكد لها أنها حسب الطبيعة لا تقدر بذاتها أن تنجب، لكن ما تناله هو ثمرة وعده الإلهي ومحبته.

أمرها ملاك الرب ألاَّ تشرب خمرًا أو مسكرًا، أي لا تشرب أي مادة تسكرها سواء من عصير العنب أو غير العنب؛ وألاَّ تأكل شيئًا نجسًا... وكأن الرب كان يهيئ لشمشون جوًا مقدسًا وهو بعد جنين في أحشاء أمه! هذا المنع لم يكن في عيني الأم حرمانًا بل مشاركة مفرحة لجنينها الذي دُعي للعمل وتهيئه له وهو بعد في الأحشاء !

بشرها ملاك الرب: "فها أنتِ تحبلين وتلدين ابنًا ولا يعلُ موسى رأسه، لأن الصبي يكون نذيرًا لله من البطن، وهو يبدأ يخلص إسرائيل من الفلسطينيين" [5].

إن كان النذير بوجه عام يرمز للسيد المسيح، الممسوح لخلاصنا، فيه يشتم الآب رائحة الرضا نيابة عن المؤمنين جميعًا، لذلك فهو يمثل الرأس الذي لا يُنزع عنه المؤمنون به كشعر رأس يتحدون به ويحيون. لهذا "لا يعلُ موسى رأسه"، حتى لا ينزع المؤمنون عن الرأس.

انطلقت المرأة تخبر رجلها بما رأت وما سمعت، فوصفت له ملاك الرب الذي ظهر على شكل بشري حتى تقدر أن تعاينه وتسمع له وتتحدث معه، وقد وصفته أنه: "كمنظر الله مرهب جدًا" [6]. تحدثت مع رجلها بثقة عجيبة في كلمات ملاك الرب ولم تتشك كسارة أمها. لقد ألهبت قلب رجلها نحو رؤيته حتى سأل الله أن يرسله ثانية ويتحدث معه.

2. ملاك الرب ومنوح:

وثق منوح كامرأته بالوعد الإلهي، وصلى لله قائلاً: "أسألك يا سيدي أن يأتي أيضًا رجل الله الذي أرسلته ويعلمنا ماذا نعمل للصبي الذي يولد" [8]. لقد أخبرته امرأته بكل شيء، وكان في كلامها كل الكفاية، لكن ما طلبه الرجل ليس تأكيدًا لما تمتعت به زوجته من وعد إذ تظهر من لغته ثقته في الوعد ... إنما يطلب أن يأتي ليراه ويتمتع بصوته، وينال البركة التي نالها امرأته.

حقق الله لمنوح طلبته فظهر ملاك الرب لامرأته ثانية وهي جالسة في الحقل، فأسرعت تخبر رجلها الذي دخل معه في حوار مفتوح. وإذ كرر له ملاك الرب الوعد والوصية الخاصة بابنهما، سأله كجدعون (6: 18-19): "دعنا نعوقك ونعمل لك جدي معزي" [15]... لكن يبدو أن منوحًا ظنه إنسانًا ربما نبيًا فأراد أن يقدم له جدي المعزي كطعام مطبوخ. وقد صحح له ملاك الرب الأمر، بقوله: "ولو عوقتني لا آكل من خبزك، وإن عملت محرقة فللرب أصعدها" [16]. لا يُفهم من هذا أن المتكلم لا يقبل المحرقة، وإنما لأن منوحًا ظنه إنسانًا فلا يليق تقديم محرقة له ما لم يدرك منوح حقيقة أمره. بنفس الطريقة يقول السيد المسيح للشاب: "لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلاَّ واحد وهو الله" (مت 19: 17)، مؤكدًا له أنه لا يليق دعوته صالحًا ما لم يعترف أولاً بلاهوته.

لقد أكد له ملاك الرب أنه لا يجوز تقديم العبادة إلاَّ لله وحده، وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [لله وحده يليق العبادة، هذا ما نعرفه من الملائكة أنفسهم، فإن كانت الملائكة أسمى من الخلائق الأخرى في المجد لكنهم خليقة لا يُقدم لهم العبادة، إنما نعبد الرب[109]].

احتار منوح في أمر المتكلم فأراد التعرف عليه من اسمه ليقدم له التكريم اللائق، قائلاً: "ما اسمك حتى إذا جاء كلامك نكرمك؟" [17]. كأنه يقول له: أريد أن أتعرف عليك من اسمك حتى إذا ما تحقق كلامك ليّ ولزوجتي أرد لك الجميل حسب ما يليق بشخصك.

جاءت الإجابة: "لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟!" [18]، وجاءت في الترجمة السبعينية: "لماذا تسأل عن هذا؟ إنه أيضًا عجيب!". هكذا يُدعى اسم الله "عجيبًا"، إذ جاء في أشعياء: "لأنه يولد لنا ولدٌ ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام" (إش 9: 6). وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [نتعلم من هذا أنه يوجد اسم واحد للطبيعة الإلهية هو "العجيب" يكشف عن ما ينبع في القلب بخصوصها بطريقة لا يُنطق بها[110]]. بمعنى آخر أن اسمه "عجيب" أي فائق للإدراك والنطق يدخل بالقلب كما بالفكر إلى حالة من الدهشة والعجب.

خلال الاسم "عجيب" كُشف شخص المتكلم أنه أقنوم إلهي، لذا قام منوح ليقدم جدي معزي تقدمة له على الصخرة [19]. ما هذه الصخرة إلاَّ السيد المسيح، حيث فيه تقدم ذبائح حبنا، إذ صار هو نفسه ذبيحة حبنا.

ما أن أصعد منوح جدي المعزي والتقدمة على الصخرة حتى انسحب قلبهما إلى منظر عجيب. لقد شاهدا صعود لهيب نار من الصخرة أي من المذبح نحو السماء، وقد صعد ملاك الرب في لهيب المذبح، فسقطا على وجهيهما إلى الأرض [20]. امتلأ رهبة وخشية إذ رأيا ملاك الرب يرتفع إلى السماء وسط اللهيب الناري. إنها صورة حية للعمل الخلاصي بالصليب، ففيه يقدم السيد المسيح نفسه ذبيحة حب ملتهبة نارًا، خلالها يمحو كل خطايانا (جدي المعزي)، ويرتفع بنا خلال لهيب محبته كأعضاء في جسده المقدس... يحملنا معه إلى سمواته لنصير نحن أنفسنا لهيب نار أي شعلة التهبت باتحادها معه.

"فقال منوح لامرأته نموت موتًا لأننا قد رأينا الله. فقالت له امرأته: لو أراد الرب أن يميتنا لما أخذ من يدنا محرقة وتقدمة، ولما أرانا كل هذه، ولما كان في مثل هذا الوقت أسمعنا مثل هذه" [22-23].

لقد تعلم منوح من موسى أنه لا يستطيع أحد أن يرى الله ويعيش (تك 32: 2، خر 33: 20). لكن امرأته أدركت أن الله برحمته أظهر نفسه لا ليميتهما بل ليقبل محرقتهما وتقدمتهما ويريهما بعضًا من أسراره ويهبهما مواعيده. أظهر نفسه قدر ما تحتمل بصيرتهما أن تنظره، حتى ينعما بما هو لخلاصهما وبنيانهما. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم على لسان الله نفسه: [لا أُعلن جوهري ذاته، إنما أتنازل (في رؤى) بسبب ضعف هؤلاء الذين يرونني[111]].

رأت امرأة منوح في الرؤيا ثلاث أمور: الله يقبل المحرقة والتقدمة علامة رضائه عليهما، وأنه أراهما كل هذه الأسرار علامة قدرته الفائقة التي لا تحد، واسمعهما وعده لهما بإنجاب ابن نذير له علامة حبه لهما.

بعد هذه الرؤيا ولدت امرأة منوح ابنًا دعته "شمشون". يرى القديس جيروم أن الكلمة مشتقة من "شمس" و"أون" (أي قوة)، وكأن اسمه يعني (قوة الشمس). ويرى البعض أنها تعني (شمسي)، وآخرون أنها تعني (قوي) مشتقة من كلمة "شمم".

تمتع منوح وامرأته بهذا المولود الذي جاء رمزًا لشمس البر، المخلص الحقيقي، يسوع المسيح، وكما يقول الكتاب: "ابتدأ روح الرب يحركه" [25]...

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع عشر

زواج شمشون بأممية

أصر شمشون أن يتزوج بأممية بالرغم من عدم رضا والديه في البداية، وقد أُقيمت وليمة لمدة سبعة أيام قدم فيها أحجية تعّرف عليها الفلسطينيون خلال زوجته. وقد حملت قصة زواجه أمورًا روحية عميقة.

1. زواجه بأممية           [1-4].

2. شق شبل الأسد          [5-9].

3. أحجيته لأصحابه         [10-20].

1. زواجه بأممية:

"ونزل شمشون إلى تمنة ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فصعد وأخبر أباه وأمه وقال: قد رأيت امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فالآن خذاها ليّ امرأة... ولم يعلم أبوه وأمه أن ذلك من الرب، لأنه كان يطلب علة على الفلسطينيين" [1-2، 4].

"تمنة" اسم عبري معناه (قسم معين)، وهي مدينة على حدود أراضي يهوذا، أُعطيت بعد ذلك لسبط دان (يش 19: 42)، كان يقطنها فلسطينيون، تسمى حاليًا تبنة، على هضبة تعلو 740 قدمًا عن سطح البحر، لذلك فهي أقل ارتفاعًا من صرعة مدينة شمشون والتي تعلو 1500 قدمًا عن سطح البحر، لذا يقول: "نزل شمشون". وهي تبعد حوالي 3 أميال جنوب غربي بيت شمس.

على خلاف الشريعة التي تمنع الزواج بالأمميات (خر 34: 16) ومصاهرتهم (تث 7: 3-4) نزل شمشون إلى تمنة ليتزوج بامرأة فلسطينية يقول عنها القديس أغسطينوس أنها زانية، إن لم تكن جسديًا فهي زانية روحيًا بعبادتها الوثنية. لقد أصر شمشون أن يأخذ هذه الأممية بالرغم من رفض أبويه مبدئيًا، وإذ أعلن أنها حسنت في عينيه رضخ الأبوان وهما لا يعلمان "أن ذلك من الرب" [4]، إذ حول رغبة شمشون في الزواج من الغلف ليكون علة لهلاكهم.

حمل هذا العمل رمزًا لعمل السيد المسيح، الذي نزل لا إلى "تمنة" أي إلى (قسم معين)، وإنما إلى الأرض ليخطب لنفسه من بين الأمم عروسًا هي كنيسته الممتدة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. نزل ليخطب البشرية لنفسه روحيًا، الأمر الذي لم تسترح له خاصته (جماعة اليهود) إذ لم يعلموا أن الأمر إلهي من قبل السماء عينها.

2. شق شبل الأسد:

إذ نزل شمشون ووالده إلى تمنة وأتوا إلى كرومها "وإذا بشبل أسد يزمجر للقائه، فحلّ عليه روح الرب فشقه كشق الجدي وليس في يديه شيء، ولم يخبر أباه بما فعل، فنزل وكلم المرأة فحسنت في عيني شمشون. ولما رجع بعد أيام لكي يأخذها مال لكي يرى رمة الأسد، وإذا دبرُ من النحل في جوف الأسد مع عسل، فاشتار منه على كفيه وكان يمشي ويأكل وذهب إلى أبيه وأمه وأعطاهما فأكلا ولم يخبرهما أنه من جوف الأسد اشتار العسل" [5-9].

ما هي كروم تمنة إلاَّ كرم الله نفسه، الذي نزل إليه الكلمة الإلهي ليخطب عروسه الكنيسة المقدسة. لقد نزل شمشون وقبل أن يلتقي بالمرأة كان مع والديه، وإذا به يلتقي مع شبل الأسد الجائع، كان يزمجر ليفترس، وكأنه بالسيد المسيح الذي كان بين خاصته اليهود قبل أن يلتقي بعروسه الأممية في أصلها، وقد التقى بإبليس الذي يجول كأسد مزمجر ملتمسًا من يبتلعه (1 بط 5: 8)، وإذ به يشقه بيديه حين بسطهما على الصليب. وكما لم يخبر شمشون والديه بالأمر، هكذا لم يستطع أن يتعرف اليهود        – خاصة المسيح – على سرّ الصليب، أو سرّ غلبة المسيح على إبليس.

لقد عاد للمرة الثانية ليأخذ امرأته التي سبق فخطبها، وإذ مال لكي يرى جثة الأسد وإذا به دبرُ من النحل في جوف الأسد مع عسل. لقد جفت رمة الأسد سريعًا وسكنها النحل وأخرج عسلاً، فاشتار منه أي جمع العسل واستخرجه من وقبه، وحمله على كفيه وكان يمشي ويأكل وقدم لوالديه ولم يخبرهما ربما لكي لا يكشف الأمر حتى يقدم الأحجية الخاصة بهذا العسل، أو ربما لأنه خشى أن يمتنعا عن أكله لأنه مستخرج من جيفة ميتة، أو خشى أن يحزنا لأنه نذير ولا يليق به أن يلمس جيفة لئلا يتنجس. على أي الأحوال إن كان بالصليب قد مات بالحقيقة سلطان الأسد أي إبليس وصار جثة هامدة بالنسبة للمؤمنين، فقد قدم لنا نحن المؤمنين عسل أسرار محبة الله الفائقة، ننعم بها خلال يدي شمشون الحقيقي، يسوع المسيح. وقد أكل منه والده أي خاصته اليهودية، إذ صار من بينهم مؤمنون به.

جذبت هذه القصة الواقعية فكر الآباء بكونها رمزًا لعمل السيد المسيح الخلاصي، فتحدثوا عن مفهومها الروحي، وفيما يلي بعض مقتطفات من كلمات القديس أمبروسيوس في هذا الشأن:

v   وُلد شمشون بوعد إلهي، ورافقه الروح (13: 25)... وهكذا إذ تظلل بالسر العتيد طلب له زوجة من الغرباء، وكما هو مكتوب لم يعرف أبوة وأمه السبب، وكان الأمر من قبل الرب. حقًا يبدو شمشون أقوى من الآخرين لأن روح الرب قاده، وتحت قيادته حارب الشعب الغريب بمفرده، وفي وقت آخر وقف أمام هجمات الأسد العنيفة ومزقه بيديه بطريقة فائقة. ليته حافظ على النعمة بالقوة التي بها غلب الوحش المفترس!

v   الشعب الأممي الذي آمن صار له العسل؛ الشعب الذي كان قبلاً تحت العبودية صار الآن شعب المسيح.

 القديس أمبروسيوس[112]

v   يا له من سرّ إلهي! يا له من سرّ واضح! لقد هربنا من القاتل وغلبنا القوي. صار لنا طعام الحياة في ذات الموضع الذي كان قبلاً جائعًا لموتنا المزري! لقد تحولت المخاطر إلى سلام، والمرارة إلى حلاوة، وجاءت النعمة عوض العصيان والقوى خلال الضعف، والحياة بدل الموت!

v   قتل شمشون كيهودي هذا الأسد فوجد في جوفه عسلاً، رمزًا للميراث الذي يخلص.

القديس أمبروسيوس[113]

v   قال بعض الأباء أن الأسد يُشير إلى المسيح ربنا، هذا الأمر لائق جدًا. فبالنسبة لنا نجد في فم المسيح بعد موته طعامًا من العسل، لأنه أي شيء أحلى من كلمة الله؟!...

يمكن أيضًا فهم الأسد على أنه الأمم الذين آمنوا، إذ كانوا قبلاً جسدًا باطلاً، والآن صاروا جسد المسيح الذي فيه خزن الرسل – كنحل – عسل الحكمة الذي جمعوه من ندى السماء ومن أزهار النعمة الإلهية. وهكذا جاء طعام من فم الذي مات، إذ كان الأمم قبلاً شرسين كالأسود لكنهم إذ قبلوا كلمة الله التي تسلموها بقلب ورع أنتجوا ثمر الخلاص.

v   شمشون يرمز للشعب اليهودي الذي قتل السيد المسيح عندما طلب الاتحاد المرغوب فيه مع الكنيسة. بالتأكيد لم يثبت اتحاد الكنيسة مع المسيح قبلما يموت الأسد الخارج من سبط يهوذا. لذلك فإن ربنا هو ذات الأسد الذي غُلبَ وغلب. غُلبَ حين قتله اليهود، لكنه غلب بنصرته على الشيطان بموته على الصليب...

v   لنكن طعامًا لله (عسلاً في أحشاء الأسد) حتى لا نكون طعامًا للحية، فإذ يأكلنا المسيح (نصير عسلاً) حتى لا يلتهمنا الشيطان (فنكون ترابًا).

 القديس أغسطينوس[114]

v   عندما وُجد العسل في فم الأسد، يفهم أنه تعاليم المسيح، إذ نقرأ "ما أحلى قولك (مواعيدك) لحنكي أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103). حقًا كما يأتي النحل إلى خلية العسل هكذا يسرع جماعات المسيحيين إلى تعاليم المسيح كما إلى خلية العسل الحلوة.

القديس أغسطينوس[115].

3. أحجبته لأصحابه:

صنع شمشون وليمة في بيت العروس وكان والده حاضرًا وأيضًا ثلاثون من الأصحاب الفلسطينيين، فسألهم شمشون أن يقدم لهم أحجية فإن فسروها خلال أيام العرس السبعة يُعطى لكل واحد من الثلاثين قميصًا (صدرية من الكتان كملبس داخلي)، وحلة ثياب وهي خاصة بحضور الولائم والمناسبات عوض الثوب اليومي. وإن لم يفسروها يلتزم كل واحد منهم بتقديم حلة لشمشون. وإذ أجابوا بالقبول قال لهم: "من الآكل خرج أكل، ومن الجافي خرجت حلاوة" [14]. صاروا يتشاورون ثلاثة أيام فلم يستطيعوا حلّ الأحجية [14]، وكان في اليوم السابع أنهم هددوا المرأة، قائلين: "تملقي رجلك لكي يُظهر لنا الأحجية لئلا نحرقك وبيت أبيك بنار. ألتسلبونا دعوتمونا أم لا" [15]. بكت المرأة أمام شمشون مدعية أنه يكرهها ولا يحبها حتى أخفى عنها سرّ الأحجية. فقال لها: "هوذا أبي وأمي لم أخبرهما فهل إياكِ أخبر؟!" [16]. وإذ بكت لديه السبعة أيام التي للوليمة أخبرها في اليوم السابع لأنها ضايقته، فأظهرت التفسير لبني شعبها. وعند غروب الشمس جاء الرجال يقولون: "أي شيء أحلى من العسل؟! وما أجفى من الأسد؟!" [18]. فقال لهم: "لو لم تحرثوا على عجلتي لما وجدتم أحجيتي" [18]. بهذا القول أوضح لهم أنه عرف بأنهم تعلموا حلّ الأحجية من امرأته التي ضغطوا عليها كما بمحراث حتى أخرجوا ما بداخلها كالأرض المحروثة يظهر ما في باطنها. وإذ قال هذا "حلّ عليه روح الرب" [18]، فنزل إلى أشقلون وقتل ثلاثين رجلاً وأتى بحللهم لمظهري الأحجية، وحمى غضبه وصعد إلى بيت أبيه بينما صارت امرأته لصاحبه.

هذا الحدث يكشف لنا عن قول الكتاب: "ولم يعلم أبوه وأمه أن ذلك من الرب، لأنه كان يطلب علة على الفلسطينيين" [4]. فقد تحولت أيام الوليمة إلى مناحة عوض الفرح إذ كانت امرأته تبكي كل يوم وتسأله عن تفسير الأحجية حتى ضيقت عليه جدًا في اليوم الأخير... وهكذا لم تكن وليمة ولا كانت فرحًا بل غمًا عليها هي وبني شعبها. هذا وكان الرجال في حيرة وارتباك طوال الأسبوع حتى اضطروا إلى تهديد العروس البائسة. وانتهت الوليمة بمقتل ثلاثين من الرجال وسلب حللهم، وانطلق شمشون إلى بيت أبيه وصارت امرأته لصاحبه!! أي عرس هذا؟!

هذا ولا ننسى تأكيد الكتاب أن روح الله كان يحركه، إذ قيل "فكبر الصبي وباركه الرب وابتدأ روح الرب يحركه" (13: 24-25)؛ وعند قتل الأسد قيل: "فحلّ عليه روح الرب فشقه" [6]، وعند نزوله لأرض أشقلون لقتل الأعداء قيل: "وحلّ عليه روح الرب" [ 19]... فإن كنا نسمع بعد ذلك أن سرّ قوته في شعره، إنما لأن الشعر كان إشارة إلى تكريسه للرب ونذر حياته له، فالقوة ليست في الشعر ذاته وإنما في روح الرب الذي يحركه. لقد عبر القديس أغسطينوس عن هذا بقوله: [لقد جاءت القوة التي لشمشون أيها الأعزاء المحبوبون من نعمة الله أكثر من الطبيعة. فلو كانت قوته في الطبيعة لما فارقته عند حلق شعره. إذن أين كانت قوته العظيمة جدًا إلاَّ فيما قاله الكتاب المقدس: "روح الرب يحركه" (13: 25). قوته إنما ترجع إلى روح الرب، أما شمشون فكان إناءً، والملء هو في الروح. الإناء يمكن أن يكون ملآنا أو فارغًا؛ هذا ولكل إناء كماله من آخر. هكذا كانت النعمة تُمتدح عندما دُعى بولس إناءً مختارًا![116]].

يعلق القديس أغسطينوس على زواج شمشون من هذه المرأة الوثنية وإقامة الوليمة وتقديم أحجيته لأصحابه وكشف سرها للمرأة بقوله: [الزانية التي تزوجها شمشون هي الكنيسة التي كانت قد ارتكبت الزنى مع الأوثان قبل أن تتعرف على الله الواحد، هذه التي أتحد بها السيد المسيح بعد ذلك. على أي الأحوال إذ استنارت وقبلت منه الإيمان تأهلت لتعلم أسرار الخلاص منه، فقد كشف لها أسرار الخفيات السماوية. أما بخصوص السؤال الذي ضُمر في الكلمات: "من الآكل خرج أكل ومن الجافي خرجت حلاوة" [14]، ماذا يعني هذا إلاَّ السيد المسيح نفسه القائم من الأموات؟! حقًا من الآكل أي من الموت الذي التهم كل شيء وابتلعه، جاء منه الطعام القائل: "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" (يو 6: 41). لقد اهتدى الأمم وقبلوا حلاوة الحياة من ذاك الذي حمل ظلم البشرية بمرارة، والذي قدمت له خلاً مرًا ومرارة ليشربها. هكذا خرج من فم الأسد الميت أي من موت السيد المسيح الذي ربض ونام كأسد دبرٌ من النحل، أي جماعة من المسيحيين. وعندما قال شمشون: "لو لم تحرثوا على عجلتي لما وجدتم أحجيتي" [18]، فإن هذه العجلة هي الكنيسة التي صارت لها أسرار إيماننا معلنة لها بواسطة رجلها. فبواسطة تعاليم الرسل والقديسين وخلال كرازتهم انتشرت أسرار الثالوث والقيامة والدينونة وملكوت السموات والوعد بالمكافأة بالحياة الأبدية إلى أقاصي الأرض[117]]...

ويعلق القديس أمبروسيوس على قول الكتاب: "فلم يستطيعوا أن يحلوا الأحجية في الثلاثة أيام" [14] وبقوا حتى اليوم السابع بقوله: [ لم يكن ممكنًا أن تعرف الأسرار إلاَّ بإيمان الكنيسة في اليوم السابع، الوقت الذي فيه يكمل الناموس (رقم 7 يشير للكمال) بعد آلام المسيح (أي بعد ثلاثة أيام دفنه)، لهذا نجد الرسل كانوا غير قادرين أن يفهموا "لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد" (يو 7: 39)[118]]. كان لابد للرجال أن ينتظروا ثلاثة أيام التي فيها دُفن المسيح ليتمجد بصليبه وقيامته... وفي اليوم السابع حيث يعلن كمال الناموس خلال إنجيل الحق يدركون السرّ خلال الكنيسة.

ويعلق القديس أمبروسيوس على الحلل بقوله: [في الحلل نالوا مكافأة الحكمة كعلامة المناقشة التي خلالها حُلت الأحجية وفُسرت[119]].

أخيرًا فإن الوليمة التي فيها عرفت الكنيسة (المرأة) الأسرار، وأذاعتها على العالم الوثني (الثلاثين من الأصحاب)، فتمتعوا بحلل الخلاص من خلال مياه المعمودية (لأن رقم 30 يذكرنا بالسن الذي فيه أعتمد الرب)، هي بعينها كانت سرّ هلاك ثلاثين من الغرباء وسلب حللهم. وكأن ما يناله الإنسان من نعم وبركات خلال عمل شمشون الحقيقي ووليمته الخلاصية إنما حُسب هلاكًا لإبليس وسلبًا لممتلكاته التي سبق فاغتصبها. لقد نُزعت عن إبليس كل إمكانياته بعد أن كان قبلاً كوكب الصبح ومجلسه في السماويات لينعم الإنسان بإمكانيات سماوية ويرتفع بين الطغمات الملائكية. في مياه المعمودية ننعم بالحلل البهية بينما يُحرم إبليس من سلطانه علينا.

<<

 


 

الأصحاح الخامس عشر

صراع شمشون مع العدو

فوجئ شمشون أن زوجته قد أخذها صاحبه امرأة له، فكان ذلك انطلاقة صراع مع العدو الذي أذل شعبه سنوات طويلة.

1. حرق حقول العدو                  [1-7].

2. قتله ألف رجل                              [8-17].

3. خروج ماء من الكفة             [18-20].

1. حرق حقول العدو:

بعد مدة إذ خمد غضب شمشون أراد أن يرجع إلى امرأته فأخذ معه جدي معزي كهدية للمصالحة، وكان جدي المعزي من الهدايا المألوفة كثيرًا (تك 38: 17؛ لو 15: 29)، وإذ نزل إلى تمنة منعه والدها من الدخول، قائلاً: "إنيّ قلت أنك قد كرهتها فأعطيتها لصاحبك، أليست أختها الصغيرة أحسن منها؟! فلتكن لك عوضًا عنها" [2]. لقد أخطأ أبوها، لأنها تعجل في الأمر مسلمًا ابنته لصاحب زوجها قبل أن يطلقها رجلها أو حتى ينذره بذلك، وقد ظن أن صغر سن أختها أو جمالها يعوض شمشون عن حبه لامرأته، لكن الحب لا يُرشى بالجمال ولا بصغر السن! على أي الأحوال كان ذلك علة لينطلق شمشون وقد حلّ عليه روح الرب وحرق حقول الأعداء بأخذ مشاعل ووضعها بين ذنبي كل ثعلبين (ابن آوي) مربوطين معًا بعد أن أمسك 300 ثعلبًا لهذا الهدف. وإذ أحرق حقولهم ومخازنهم أغتاظ الأعداء فانطلقوا إلى امرأة شمشون وأحرقوها وأباها بالنار. لكن هذا العمل لم يرضِ شمشون إذ حسبه إهانة له بحرق امرأته، لذلك أراد أن يعود فينتقم منهم ثانية حتى يكف عن الانتقام. "وضربهم ساقًا على فخذ ضربًا عظيمًا" [8]، أي جعلهم بضرب السيف قطعًا بعضهم فوق بعض فصار الساق فوق الفخذ والقدم فوق الرأس وما إلى ذلك. وأخيرًا "أقام في شق صخرة عيطم" [8].

يعلق القديس أغسطينوس على هذا الحديث بقوله: [قيل أن غضب شمشون قد حمى لأن صاحبه تزوج امرأته (14: 19-20). هذا الصاحب هو رمز لكل الهراطقة. حقًا أنه لسرّ عظيم أيها الأخوة، فالهراطقة الذين يقسمون الكنيسة يريدون الزواج بزوجة الرب وحملها بعيدًا عنه. بانفصالهم عن الكنيسة والأناجيل يحاولون بشرهم أي زناهم اقتناء الكنيسة كنصيب لهم، لهذا يقول الخادم الأمين، صديق عروس الرب: "لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2). وبغيرة إيمانه أدرك الصديق الشرير (الذي يود اغتصاب العروس له)، إذ يقول "ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح (يسوع)" (2 كو 11: 3)... الآن، لنرى كيف فعل شمشون عمله السري عندما أُصير بواسطة صاحبه في شخص امرأته. لقد أخذ الثعالب، أي أصدقاءه الزناة الذين قيل عنهم في نشيد الأنشاد: "خذوا لنا الثعالب الصغار المفسد للكروم" (نش 2: 15). ماذا يعني بقوله "خذوا"؟ أي امسكوها، دينوها، اضغطوا عليها، حتى لا تفسد كروم الكنيسة. ماذا يعني بقوله: "خذوا الثعالب" إلاَّ إدانة الهراطقة بسلطان القانون الإلهي، لنسرع ونقيدهم بشهادة الكتاب المقدس كما بقيود! لقد أمسك شمشون الثعالب ووضع مشاعل نار وسط أذيالهم بعد أن ربطهم اثنين اثنين. ماذا يعني رباط أذيال الثعالب؟ ما هي أذيال الهراطقة إلاّ ما بلغوه من نتائج هرطقتهم (كذيل لهم). هذه تربط، أي تقيد وتدان وتُلهب النار في أذيالها، إذ أفسدوا الثمار والأعمال الصالحة للذين سقطوا تحت خداعاتهم[120]].

إذ أحرق شمشون مزارع الأعداء وضربهم حتى جعلهم قطعًا بلا ترتيب هرب إلى شق (كهف) في قمة صخرة بعيطم. "عيطم" كلمة عبرية تعني (مآوى للكواسر)، تقع على بعد حوالي ميلين جنوب غربي بيت لحم بأرض يهوذا.

على أي الأحوال إن كنا مع شمشون نرفض كل فكر يفسد كنيسة الله، ونلهب ذيله بالنار ليحطم ثمر الشر ومملكة إبليس فإنه يليق بنا أن نهرب إلى الشق أو الجنب المطعون الذي للسيد المسيح الصخرة الحقيقية. لنذهب إلى عيطم، إلى (مآوى الكواسر)، فندخل في جراحات المسيح ونحتمي فيها!

2. قتله ألف رجل:

إذ أحرق شمشون حقول الفلسطينيين وقتل الكثيرين منهم شعر أهل يهوذا بالتزام أن يسلموا شمشون في أيدي الفلسطينيين الذين يسودونهم حتى يأمنوا شرهم. لقد حسبوا أنه من الأفضل أن يموت شمشون عن الشعب كله، وكأنه رمز للسيد المسيح الذي قيل عنه من خاصته: "خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" (يو 11: 50). وهكذا كما قيدّ رجال يهوذا شمشون بحبلين جديدين وأسلموه للأعداء دون أن يقتلوه بعد أن اتهموه أنه مجدف وصانع شر، وكأنهم أرادوا أن يوثقوه بحبلين جديدين.

التقى شمشون بالأعداء وهو مقيد بالحبلين الجديدين، "فحلّ عليه روح الرب، فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككتان أُحرق بالنار فانحلّ الوثاق عن يديه" [14]. كأنه بالسيد المسيح الذي واجه العدو على الصليب، إذ هو "القيامة" لم يستطع الموت أن يمسك به، ولا الجحيم أن يعوقه، فحطم بنار لاهوته حبليّ الموت والجحيم، وأعلن كسر سلطانهما عن مؤمنيه المتحدين معه.

عوض أن يقتله الأعداء أمسك بلحي حمار أي فْكه وكان طريًا فقتل به ألف رجل [15]. ماذا يعني هذا إلاَّ أن الإنسان وقد نزل خلال الخطية إلى الحيوانية غير العاقلة، وقد حطمه الموت تمامًا، وأمسك به السيد من جديد كما يمسك بفك حمار، وأعطاه كلمة الإيمان الحيّ الذي به يقتل القوات الشريرة المقاومة أو عمل إبليس الذي يُرمز له بألف رجل شرير.

لقد أراد أن يحقر من العدو المغلوب فقال مترنمًا "بلحيّ حمار كومة كومتين، بلحيّ حمار قتلت ألف رجل" [16]. وكأنه يقول أنه بفك حمار حوّل العدو إلى كومة، كومتين، ثلاث كومات... إلخ، وهكذا صار يحصي أكوام الموتى... هذه هي تسبحة النصرة !

إذ صارت المنطقة أكوامًا من القتلى تحققت بفك أو لحيّ حمار سميت المنطقة "رمت لحيّ" أي (مرتفعات الفك).

 3. خروج ماء من الكفة:

"ثم عطش جدًا فدعا الرب وقال: إنك قد جعلت بيد عبدك هذا الخلاص العظيم، والآن أموت من العطش وأسقط بيد الغلف. فشق الله الكفة التي في لحيّ، فخرج منها ماء فشرب ورجعت روحه فانتعش، لذلك دعا اسمها عين هقوري" [18-19].

يرى البعض أن شمشون يستخدم هنا التورية، فإذ دعا المكان "رمت لحيّ" دعا العين التي أخرج له الله منها ماءً بـ "الكفة" وتعني (منبت السن)، وكأن الله أخرج له ماءً من المنبت السن الذي في فك الحمار.

إن كان قد قتل ألف رجل شرير بالفك فإنه يشير إلى عمل الله الخلاصي وتحطيم قوى الشيطان، فإن فيض الماء من كفة الفك يشير إلى ما تبع هذا العمل الخلاصي على الصليب من فيض مياه الروح القدس التي تنعش النفس وتجددها في المعمودية.

يعلق القديس أغسطينوس على تصرفات شمشون بالفك وخروج ماء من كفة الفك بقوله: [أهلك شمشون ألف رجل بفك من جسم حمار؛ فقد مُثل الأمم بالحمار، إذ يتحدث الكتاب عن اليهود والأمم قائلاً: "الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه" (إش 1: 3). فقبل مجيء السيد المسيح مزق الشيطان الأمم إلى قطع وتبعثروا كعظام جافة من جسم حمار، لكن لما جاء المسيح – شمشون الحقيقي – أمسك بهم جميعًا بيديه الطاهرتين. أصلحهم بقوته، وبهم غلب خصومه. هكذا نحن الذين سلمنا أعضاءنا للشيطان قبلاً حتى قتلنا، أمسك بنا المسيح وجعلنا برّ الله بالرغم من جفافنا لعدم وجود ندى نعمة الله غيّرنا إلى ينابيع وأنهار. قديمًا صلى شمشون فانطلق ينبوع من الفك، وتحقق ذلك فينا بوضوح إذ يقول الرب نفسه: "من آمن بيّ تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38)[121]].

أخيرًا إذ شرب شمشون من العين دعا اسمه "عين هقوري" [19]، أي (عين الداعي) تذكارًا لدعائه إلى الله واستجابة الله لدعائه.

<<

 

 

 


 

الأصحاح السادس عشر

شمشون ودليلة

إن كان روح الله قد لازم شمشون فوهبه قوة، لكن إذ سقط شمشون في حب دليلة واتكأ برأسه علي ركبتيها فقد مجد نذره، وحرم من بصيرته، وصار سخرية للعدو.

1. شمشون في بيت زانية            [1-3].

2. حبه لدليلة                        [4-5].

3. مخاتلته لدليلة                              [6-15].

4. كشف سره لدليلة                 [16-17].

5. سقوط شمشون                   [18-22].

6. موت شمشون                    [23-31].

١. شمشون في بيت زانية:

"ثم ذهب شمشون إلى غِزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها، فقيل للغزيين: قد أتى شمشون إلى هنا. فأحاطوا به وكمنوا له الليل كله عند باب المدينة، فهدأوا الليل كله قائلين: عند ضوء الصباح نقتله. فاضطجع شمشون إلى نصف الليل ثم قام في نصف الليل وأخذ مصراعي باب المدينة والقائمتين وقلعهما مع العارضة ووضعهما على كتفه وصعد بها إلى رأس الجبل الذي مقابل حبرون" [1-3].

إذ استطاع شمشون بفك حمار أن يقتل ألف رجل، فكر في الذهاب إلى أكبر مركز للفلسطينيين ألا وهي غزة، فقد وثق أنه يستطيع بروح الرب أن يدخل إليهم ويخرج دون أن يصيبه منهم ضرر. ذهب إلى بيت زانية فسمع أهل غزة، وجاءوا إلى أبواب المدينة يحرسوها طوال الليل حتى متى خرج في الصباح يمسكوه ويقتلوه وقد أخطأ في هذا بلا شك وإن كان رأي القديس أغسطينوس[122] أن هذا التصرف بكل دقائقه يمثل صورة حية لعمل الرب الخلاصي بدخوله إلى الجحيم – بعد الصليب- ليحطم متاريسه واهبًا لمؤمنيه قوة قيامته. ففي رأيه أن شمشون يكون غير طاهر لو أنه ذهب إلى المرأة الزانية بلا هدف سليم، أما إن كان قد ذهب كنبي فقد حمل في شخصه رمزًا للسيد المسيح الذي دخل إلى الجحيم كما بيت الزانية مفتوح للجميع بلا عائق. ويعلل القديس أغسطينوس ذلك بأن الكتاب لم يذكر عن شمشون أنه اتحد مع الزانية وإنما زارها لينام أو يضطجع هناك. لقد انتظره الأعداء عند باب المدينة ليمسكوه عند خروجه. وكأنما قد جلس الحراس عند القبر للامساك بالرب القائم من الأموات، لكنهم لم يقدروا على معاينته. لقد قام في نصف الليل وحمل معه أبواب المدينة إلى الجبل بعدما ترك بيت الزانية. فإن كانت الزانية تُشير إلى المجمع الذي حكم عليه بالموت، فإنه بعد انفصال المجمع عنه قام الرب خفية كما في منتصف الليل نازعًا أبواب المدينة أي محطمًا أبواب الهاوية. لقد نزعها ولم يردها، وكأنه يحمل صورة السيد الذي حطم أبواب الموت. لقد صعد إلى قمة الجبل، ونحن نعلم بالحق أن السيد المسيح قام وصعد إلى السموات.

إن كان القديس أغسطينوس قد رأي جانبًا رمزيًا في القصة، لكننا لا ننكر أن كثيرًا من الآباء قد رأوا في تصرف شمشون خطأ... إذ لا يليق به أن يدخل بيت زانية ويضطجع هناك حبًا فيها.

يقول القديس أمبروسيوس: [غلب شمشون القوي الشجاع الأسد لكنه لم يستطع أن يغلب هواه. قطع وُثق أعدائه لكنه عجز عن قطع حبال شهوته. أحرق أكداس الظالمين الكثيرين، لكن أحرقه لهيب اللذة الممنوعة التي أوقدتها فيه امرأة واحدة]. والقديس أغسطينوس نفسه لا يبرر تصرفات شمشون، إذ يقول: [عندما حقق شمشون فضائل ومعجزات كان يمثل السيد المسيح رأس الكنيسة، وعندما كان يعمل بحكمة كان صورة للذين يسلكون في الكنيسة بالبر، لكنه عندما كان يُغلب ويسلك بالتهاون فكان يمثل الخطاة في الكنيسة[123]].

2. حبه لدليلة:

"وكان بعد ذلك أنه أحب امرأة في وادي سورق اسمها دليلة، فصعد إليها أقطاب الفلسطينيين، وقالوا لها: تملقيه وانظري بماذا قوته العظيمة، وبماذا نتمكن منه لكي نوثقه لإذلاله، فنعطيكِ كل واحد ألفًا ومئة شاقل فضة" [4- 5].

إن كان روح الرب قد حلّ على شمشون في أكثر من موقع فكان يقوم بدور قيادي ناجح، لكنه إذ سقط في حب دليله انهار تمامًا، وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [كثير من الرجال هلكوا في الزواج مثل شمشون، ولكن ليس بسبب الزواج في ذاته وإنما بسبب إرادتهم المنحلة[124]]. ويقول الأب أفراهات: [حارب (العدو) شمشون خلال امرأة حتى سلبه نذره[125]].

أما كلمة "دليلة" فهي اسم عبري يعني (مدللة) أو (معشوقة)، يرى بعض الدارسين أنها حملت هذا الاسم بعدما كبرت وصارت موضع حب الكثيرين وعشقهم، إذ عاشت كزانية. وكانت محبة للمال لهذا عندما جاءها أقطاب الفلسطينيين الخمسة، أمراء المدن الرئيسية (جت وأشدود وغزة وأشقلون وعقرون)، ووعدوها بتقديم كل واحد منهم ألف ومئة شاقل فضة لتسليم شمشون. وكما يقول أمبروسيوس: [أليست محبة دليلة للمال هي التي خدعت شمشون أكثر الرجال شجاعة؟! هذا الذي مزق الأسد الزائر بيديه...[126]].

نشأت دليلة في وادي سورق، أي (وادي الكرم المختار) وهو يدعى حاليًا وادي الصّرار ويبدأ على بعد 13 ميلاً غرب أورشليم ويمتد إلى البحر الأبيض المتوسط كما يوجد وادِ شمال هذا الوادي اسمه "خربة سوريق".

3. مخاتلته لدليلة:

إذ أحب شمشون دليلة صارت تسأله ثلاث مرات: "أخبرني بماذا قوتك العظيمة؟ وبماذا توثق لإذلالك؟" [6، 10، 13]. لقد ظنت دليلة كأقطاب الفلسطينيين أن شمشون يحمل قوة فائقة نتيجة عمل سحري إن أُبطل فقد قوته وصار إنسانًا عاديًا يمكن التغلب عليه، لهذا كانت دليلة تلح عليه لتعرف هذا السر. ومن جانب آخر نري الفلسطينيين كانوا يكمنون في البيت وينتظرون حتى تلاطفه دليلة وتعرف سرّ قوته ليواجهوه بعد سحب طاقته الغريبة. أما من جهة شمشون نفسه فقد عرف منذ اللحظة الأولى هدفها من السؤال ولهذا خاتلها وخدعها، وكان يجب أن يهرب من بيتها لكن حبه الشديد لها أو بمعنى أخر استعباده لشهوته من نحوها جعله يتهاون في الأمر واثقًا أنه لن يكشف لها سره وإنما يحقق رغبته من جهتها، لكنه لم يستطع المقاومة كثيرًا إذ سقط في حبال الشر وانهار.

في المرة الأولى قال لها أنه يضعف إن أوثق بسبعة أوتار طرية لا تجف، أي سبعة حبال من الكتان أو غيره من النباتات... عوض أن ينتهرها ويوقف سؤالها كذب عليها ففقد صدقة وحكمته ومهابته أمامها.

وفي المرة الثانية إذ ألحت عليه قال لها أنه يضعف إن أوثق بحبال جديدية لم تستعمل من قبل.

وفي المرة الثالثة قال لها إنه يضعف إن ضفرت خصله السبع مع السدى، وهي الخيوط الطويلة التي تستخدم في آله النسيج، بخلاف اللحمه وهي الخيوط العريضة. وقد فعلت ذلك وهو نائم ومكنتها بالوتد... وهنا أقترب إلى كشف السر إذ بدأ يحدثها عن شعره وخصله السبع.

على أي الأحوال في المرة الأولى قطع الأوتار كما يقطع فتيل المشاقة إذا شم النار؛ المشاقة هو ما يسقط من الكتان عند مشقه أو تمشيطه ليُغزل ويستخدم كفتائل للسرج. أما في المرة الثانية فقطع الحبال الجديدة عن ذراعيه كخيط، وفي الثالثة انتبه من نومه وخلع وتد النسيج والسدى.

4. كشف سره لدليلة:

"ولما كانت تضايقه بكلامها كل يوم وألّحت عليه ضاقت نفسه إلى الموت، فكشف لها كل قلبه وقال لها: لم يعل موسى رأسي لأنيّ نذير الله من بطن أمي فإن حُلقت تفارقني قوتي وأضعف وأصير كأحد الناس" [16-17].

 كانت دليلة تضيق عليه بقولها له: "كيف تقول أحبكِ وقلبك ليس معي، هوذا ثلاث مرات قد ختلتني ولم تخبرني بماذا قوتك العظيمة؟" [15]، فضاقت نفسه إلى الموت. إذ انحنت نفسه لشهوات جسده الشريرة تضيق نفسه منجرفة نحو الموت، عوض اتساعها بالحب الإلهي لتقبل الله في داخلها فتنفتح لخليقته.

إذ ضاقت نفسه جدًا حتى الموت لم يستطع أن يتكتم أسراره الروحية فكشف لها عن كل قلبه، قائلاً لها إنه كنذير لا يعل موسى رأسه، فإن حُلقت تفارقه قوته. وقد علق بعض الآباء على هذا التصرف، منهم القديس غريغوريوس النزينزي[127] حينما تحدث عن القديس أثناسيوس كعمود في الكنيسة، شبّه مقاومة الأشرار للكنيسة بما فعله الأشرار بشمشون، إذ نزعوا عنه شعره سرّ قوته؛ هكذا قاوم الأشرار القديس أثناسيوس كراعٍ قوي يسند شعبه حتى إذ يحلقون شعر الكنيسة أي ينزعون عنها مجدها يكونون قد نطقوا عليها بالشر.

وللقديس أغسطينوس تعليق على هذا الأمر نقتطف منه الآتي: [لنحذر أيها الأخوه المحبوبون قدرما نستطيع لئلا نعاني روحيًا ما عاناه شمشون جسديًا. لنفهم العقل بكونه الرجل (شمشون) والجسد ترمز له المرأة (دليلة). إن كان الإنسان يخضع لجسده عندما يتملقه بلطف للانهماك في الملذات فسيعاني من جسده ما عاناه شمشون من المرأة (دليلة). لذلك يليق بنا أيها الأعزاء المحبوبون بمعونة الله أن نجاهد ما استطعنا محقيقين قول الرسول عن نفسه: "أقمع جسدي وأستعبده (أخضعه)" (1 كو 9: 27). لنحذر بمعونة الله من موسى العدو الذي حلق رأس الجنس البشري عندما انخدع آدم وحواء بحيلة لئلا يعلو رأسنا نحن أيضًا، لأن رأسنا هو المسيح. إن كنا نستسلم لامرأة أي لشهوات الجسد المتملقة أو للشرور الأخرى فإننا ننخدع ونُحرم من النعمة الروحية ونكون كمن نُزع عنه شعر النذر... يوجد موسى يقطع بطريقة نافعة وآخر بطريقة ضارة، موسى الشفاء واهب الجمال لنا هو المسيح ربنا، الذي يقطع من قلوبنا أفكار الشر الضارة. إنه يحلق الرذائل عن النفس، ينير الرأس، ويهب الذهن جمالاً ويحررنا من الشعر المميت الذي للعبودية البائسة ويجعل حياتنا مقدسة وفي طهارة وتدبير عندما تنمو كشعر النذير من جديد... انظروا لقد أظهرت الموسى الذي نطلبه، أما الآخر فنرفضه ونتجنبه. الموسى المكرم هو المسيح والموسى المهلك هو الشيطان. المسيح هو رأسنا كقول الرسول، والشعر إما أن يكون فضائل أو رذائل، لذلك عندما تحدث النبي عن خطاياه قال: "أكثر من شعر رأسي (الذي يبغضونني بلا سبب)" (مز 69: 4). فالفصائل والرذائل يرمز لها بالشعر، عندما نحلق بالمسيح نتحرر من كل الرذائل، وعندما نحلق بالشيطان نُحرم من كل الفضائل[128]]. كما يقول: [إن خضع إنسان لشهوة أو انهمك في ملذة يفعل به جسده ما فعلته دليلة بشمشون[129]].

مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس: [الآن ماذا يعني أن شمشون يحمل قوة في شعره؟ لاحظوا هذا بدقة أيها الأخوة. أنه لم يحمل قوة في يديه ولا في قدميه ولا في صدره ولا في رأسه وغنما في شعره. ما هو الشعر؟ يجيب الرسول أن الشعر غطاء (1 كو 11: 15)، وكأن المسيح حمل القوة في الغطاء عندما أختفي (احتمي) في ظلال الشريعة القديمة... ماذا يعني أن سرّ شمشون قد صار موضوع خيانة (من دليلة) وأن رأسه قد حُلقت؟ الشريعة قد احُتقرت والمسيح صُلب! لو لم يزدروا بالشريعة (حلق الرأس) لما قتلوا المسيح، إذ عرفوا أنه ليس من حقهم قتله. لقد قالوا للحاكم: "لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا " (يو 18: 31)[130]].

5. سقوط شمشون:

إذ سلم شمشون نفسه لدليلة وكشف لها أسراره أنامته على ركبتيها [19]... وفي هذه المرة لم يقل الكتاب: "حلّ عليه روح الرب" بل قال: "أخرج حسب كل مرة وأنتفض" [20]. حينما يُسلم الإنسان لشهوات جسدية فتذله الشهوات يفقد رعاية الله له، فيخرج لينتفض، وكأنه يخرج بذاته متكلاً على قوته. وهكذا تلتحم محبة الشهوات بالأنا، وعوض انطلاقه بالروح للجهاد ينحصر في الأنا على ركبتي ملذاته.

لقد سقط الجبار لا على ركبتي دليلة وإنما على ركبتي ملذاته الزمنية؛ بسبب هذه الملذات فتح باب النقاش مع دليلة كما مع الحية فلم يصمد كأبويه الأولين بالرغم مما أتسم به من قوة. لو أنه أغلق باب الحوار كيوسف مع امرأة فوطيفار، القائل في قوة وصراحة: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" وهرب دون نقاش أو عتاب وانتصر بقوة الله.

"لم يعلم أن الرب قد فارقه" [20]، هذه هي كارثته أنه فقد معية الرب، فخسر سرّ قوته، انحط إلى المذلة بين يدي العدو، وفقد بصيرته، وأقتيد إلى حيث لا يريد، وأوثق بسلاسل وصار يطحن في بيت السجن كإحدى الحيوانات. صار سخرية في عيني الأشرار بعدما كانوا يهابونه ويرتعبون منه. في هذا يقول القديس أغسطينوس: [حقًا إن الشيطان عدونا يسخر بالخطاه بشدة عندما تُنتهك نعمة المسيح، حدث عندما نزع عن شمشون شعره. إنه يُفقدهم بصيرة أعينهم، ويضعهم في السجن، ويجعلهم كالحمير يدورون في حجر الطاحونة[131]]. كما يقول: [نصحنا ربنا خلال النبي: "لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم" (مز 32: 9)، حتى لا نفشل في إخضاع عنقنا لنير المسيح ونصيره كالحمار مؤهلاً أن يدور في الطاحونة... بالحقيقة كان الإنسان مكرمًا لكنه سقط في الرذيلة، كما فعل شمشون عندما ترك الحكمة والنعمة فعوقب بالعمي والطحن. هكذا يتأهل الإنسان لممارسة عمل الحيوانات إن حرم نفسه من نور العقل. فمن يخضع لجسده ولملذاته خلال تملق الشريرات يصير كالحيوانات يطحن، يصير كحمار أو بغل يُربط في حجر الرحى بعد عصب عينيه الجسديتين فتضعفان. النفس التي تسقط في الملذات تكون أعين ذهنها قد أصابتها العمى خلال فساد الحياة، وتدور في فكرها الأخطاء كما لو كانت تطحن في طاحونة الشهوات القاسية، بدون بصيرة وتحت قيادة آخر: من يقف في طريق الخطاة يُربط بقيود شهواته، ويكون في سجنه مملوءًا بظلمة خطاياه... يعاني في داخله من قيود الطاحونة. إنه يدير صخرة قلبه الذي تقسي خلال تمسكه بالشر فصار كحجر رحى، ويطحن دقيقًا للعدو خلال الحنطة الفاسدة التي لنفسه[132]]... وأيضًا يقول: [من يمارس الخطايا يطحن حنطة للعدو خلال نخاع حياته ليطعم الشيطان؛ بينما تصير النفس خبزًا له تكون هي مصدر جوع لنفسها[133]].

6. موت شمشون:

ظن أقطاب الفلسطينيين أن إلههم داجون (نصفه الأعلى على شكل إنسان والأسفل بدن سمكة) هو الذي أسلم لهم شمشون عدوهم ولم يدركوا أن سقوط شمشون هو ثمرة مفارقة الرب له بسبب انحلال حياته في علاقته مع دليلة. على أي الأحوال كان لزامًا لشمشون أن يتأدب حتى يرجع إلى الرب إلهه بكل قلبه بعد أن يذوق ثمرة شره، وفي نفس الوقت يتأدب الوثنيون أيضًا على شرهم، فإن كان الله قد أسلم شمشون في يدهم ليسخروا به كيفما شاءوا إنما حين يرجع بقوة أعظم ويُحسب من رجال الإيمان.

في احتفالهم بإلههم وتقديم ذبائح له جاءوا بشمشون ليراه الشعب عبدًا ذليلاً فاقد البصيرة فيسخرون منه ويمجدوا إلههم، وإمعانًا في إذلاله إذ طابت قلوبهم جعلوه يرقص أمامهم ليسخروا به ويكون موضع تسليتهم...

حقًا من يستطيع أن يعبر عن مشاعر شمشون غالب الآلاف وهو أعمى يطحن كالحيوانات في بيت السجن ويلعب لتسليه أعدائه... كل هذا بسبب شهوة وقتية زائلة! ما هي مشاعره نحو دليلة التي سلمته جسدها إلى حين لتسليمه لأعماق العبودية والذل!!!

على أي الأحوال إذ بدأ شعر رأسه بنبت وتذلل قلبه في داخله أدرك أن الرب يكون معه، لذا صرخ قلبه: "يا سيدي الرب اذكرني وشددني يا الله هذه المرة فأنتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين" [ 28]. لقد أدرك وسط الضيق أن الله هو سرّ قوته، ولم يعد يخرج لينتفض متكلاً على ذاته. قبض "على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائمًا عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره، وقال شمشون: لتمت نفسي مع الفلسطينيين. وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه كان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته" [٢٩-٣٠].

يعلق القديس أغسطينوس على الأحداث الأخيرة في حياة شمشون بقوله: [السجن والطاحونة هما عمل هذا العالم؛ عمى شمشون يشير إلى الذين أصابهم العمى بجحودهم ولم يعرفوا المسيح ولا اختبروا سلطانه وصعوده إلى السموات. هذا العمى يُشير إلى ما أصاب اليهود، إذ امسكوا المسيح وقدموه للموت، فإذا به يقتل قاتليه. لهذا أحضره أعداؤه ليلعب كبهلوان (بلياتشو) أمامهم. لاحظ هنا صورة الصليب. شمشون يبسط يديه للعمودين كما لعارضتي الصليب، لذلك بموته غلب أعداءه، لأن آلامه صارت هلاكًا لمضطهديه. لذلك يقول الكتاب: "فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته" [30]. لقد تحقق السرّ بوضوح في ربنا يسوع المسيح، إذ أكمل الخلاص بموته هذا الذي أعلنه أثناء حياته[134]]. كما يقول: [الحقيقة المذكورة بأنه أهلك الأعداء في موته أكثر مما في حياته تعلن سرّ آلام المسيح، فخلالها سقط بيت الشيطان وتهشمت مملكة الموت. حقًا أن البيت الذي ضم أقطاب الفلسطينيين يرمز إلى بيت مملكة الشيطان (فيه يُعبد الإله داجون)، وقد جاء عنه أنه يرتكز على عمودين... هما بلا شك الطمع والملذات، فلا يوجد شر نفهمه إلاّ وينبع عن هذين الشرين... كما هو مكتوب: "لأن محبة المال أصل لكل الشرور" (1 تي 6: 10)، أما عن الملذات فقيل أنها تكدر الجسد (أم 11: 8). هذا وأن شمشون يُشير إلى ربنا يسوع المسيح، أما دليلة القاسية فتُشير إلى المجمع، شمشون اقتنصته دليلة، والمجمع اضطهد المسيح وصلبه على الجلجثة. أما كون شمشون الممثل للمسيح قد أُعمى فيُشير إلى المسيحيين الأشرار الذين آمنوا بالمسيح إلى حين ولم يثابروا على الإيمان والأعمال الصالحة... شمشون وُضعَ في السجن بينما نزل المسيح إلى الجحيم. شمشون بسط يديه للعمودين فانهار بيت الفلسطينيين بأقطابه، وبسط المسيح يديه لعارضتي الصليب كما لعمودين فانطرح بيت الشيطان أو مملكته وتدمر مع ملائكته[135]].

ويرى القديس إيريناؤس: [الغلام الذي قاد شمشون بيده يُشير إلى يوحنا المعمدان الذي أظهر للناس الإيمان بالمسيح، أما البيت الذي اجتمعوا فيه فيُشير إلى العالم الذي يقطنه أمم وثنية متنوعة جاحدة للإيمان تقدم الذبائح للأوثان، وأن العمودين هما العهدان إن حقيقة اتكاء شمشون على العمودين تُشير إلى تعلم الشعب سرّ المسيح (الذي يهدم الوثنية)[136]].

<<

 

 


 

 

الباب الثالث

 

 

 

 

حادثتان أثناء عصر القضاة

(ملحقان للسفر)

 

 

v    تمثال ميخا                    [ص ١٧- ١٨].

v    اللاوي وسريته               [ص ١٩- ٢١].

 


 

 

 

إذ عرض لنا سفر القضاة معاملات الله مع شعبه خلال اثني عشر قاضيًا، خاتم السفر بحادثتين خطيرتين تمتا خلال هذه الحقبة، الأولى: "قصة تمثال ميخا" التي تكشف عن مدى زيغان الشعب على مستوى اللاويين والعلمانيين - أن صح هذا التعبير - نحو العبادة الوثنية ممتزجة بشكلية العبادة لله لإراحة الضمير وتسكينه؛ أما الثانية: "قصة اللاوي وسريته" فتكشف عن مدى الفساد الخلقي الذي بلغ إليه الشعب من شهوات وعنف بصورة لا توصف.

<<

 


 

الأصحاح السابع عشر

تمثال ميخا

 يقدم لنا الوحي الإلهي هذه القصة ليكشف عن مدى العمى الروحي الذي أصاب الشعب، فإذ أرادت سيدة أن ترضي الرب أقامت أفودًا وترافيم في بيتها، وطلب ابنها ميخا من أحد أولاده أن يكون كاهنًا، حتى زارهم غلام من بني لاوي فحسبوه رضى من الله وعلامة سروره أن يستأجروا اللاوي في بيتهم كاهنًا.

1. إقامة التمثال                      [1-6].

2. استئجار لاوي كاهنًا              [7-13].

1. إقامة التمثال:

"كان رجل من جبل أفرايم اسمه ميخا" [1].

حدثت هذه القصة قبل أيام شمشون؛ يبدو أن ميخا كان يدعى "ميخيهو" أي (من مثل يهوه) أو "ميخائيل" أي (من مثل الله)، ويرى علماء اليهود أنه قد صار اسمه "ميخا" بدل "ميخيهو" لأنه عبد الأوثان. اسمه الأول يدل على أن والديه كانا تقيين يعتقدان أن ليس مثل يهوه، لكن والدته انحرفت إلى العبادة الوثنية جنبًا إلى جنب مع عبادة الله فجعلت من الصنم مثلاً لله، وهذا يخالف اسم ابنها.

ويبدو أن ميخا هذا سرق من والدته الغنية ألفًا ومئة شاقل من الفضة، وإذ لعنت السارق، لم يستطيع الابن أن يسمع اللعنة بأُذنيه فجاء بالفضة إلى أمه معترفًا [1]، أما هي فرفضت أن ترد الفضة إلى خزينتها بل أرادت تقديسها للرب بعمل تمثال منحوت وتمثال مسبوك تسلمها لابنها ليضعهما في بيته في موضع مقدس. هذه هي صورة إنسانة تقية أرادت أن تقدس فضتها المسروقة للرب فتُقدم بها تمثالين في بيت ابنها... وإن كان البعض يرى أنها لم تقصد العبادة الوثنية وإنما عبادة الله الحيّ خلال التمثالين... بهذا ظنت أنها تنزع اللعنة عن ابنها، وتجعل من بيته مقدسًا للرب. فعمل ميخا أفودًا أي ثيابًا للكهنة، كما عمل ترافيم وهي تماثيل آشورية تستخدم كآلهة خاصة بكل عائلة. وملأ ميخا يد أحد من بنيه [5] أي أعطاه تقدمات يقدمها للرب ككاهن للرب؛ هكذا أُقيم أحد أبناء ميخا كاهنًا ليس من قبل الرب بل من قبل أبيه، فكان العمل كله يكشف عن جهل العائلة وغباوتها سواء في إقامة آلهة أو ملابس الكهنة أو الكهنة أنفسهم. لكن ما حدث في هذه العائلة كان مثلاً للفساد العام حتى تكرر القول: "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه" [6].

إن كان ميخا قد أقام من فضته لنفسه إلهًا، ومن ابنه كاهنًا حسب هواه، فإن كثيرين إلى يومنا هذا يريدون أن يقيموا آلهة حسب أهواءهم الخاصة، منهم الذين تحدث عنهم الرسول بولس: "آلهتهم بطونهم" (في 3: 19)، ومنهم من كانت آلهتهم كرامتهم الزمنية إلخ... أما بالنسبة للكهنة فكثيرون لا يطلبون كهنة مدعوين من الله يفصلون كلمة الحق باستقامة وإنما يريدون من أبنائهم كهنة حتى يقدمون لهم الوصية حسب أهوائهم ويشوهون الحق بما يشبع رغباتهم وملذاتهم.

2. استئجار لاوي كاهنًا:

لم يقف الفساد عند الشعب وحدهم إذ أقام الكثيرون ترافيم في بيوتهم كآلهة يقدمون العبادة لله خلالها، فامتزجت العبادة الوثنية بعبادة الله الحيّ، وإنما حتى الكهنة واللاويين نسوا رسالتهم كأُناس نصيبهم الرب وعملهم خدمة الهيكل المقدس نيابة عن الجماعة كلها، وخرجوا يبحثون عن المال، فصاروا في وسط الجماعة يسألون عمن يستأجرهم ليكونوا كهنة خصوصيين لهم. وفي أيام نحميا نجدهم يعملون في الحقول (نح 13: 1). هذه هي الخميرة التي كان يجب أن تحمل في داخلها عمل الله لتخمير العجين كله، قد انهمكت بأمور العالم، وصارت مستأجرة للعمل لا لحساب الله بل لحساب بطونهم. من بين هؤلاء اللاويين. وجد غلام أقام في بيت لحم بيهوذا حتى حُسب من عشيرة يهوذا وهو لاوي متغرب [7]، لم يجد هناك من يستأجره فترك بيت لحم وذهب إلى جبل أفرايم حيث التقى بميخا الذي سأله أن يقيم عنده ليكون اللاوي أبًا له وكاهنًا مقابل عشرة شواقل فضة وحلة ثياب بخلاف قوته اليومي. هكذا حسب ميخا نفسه سعيدًا إذ يقيم اللاوي كاهنًا عوض ابنه الذي كان له كاهنًا [5]. وجد الغلام اللاوي العرض سخيًا بالنسبة للظروف التي كان اللاويون يعيشون فيها فقبله.

فرح ميخا إذ صار لديه الآلهة والأفود والكاهن لاويًا... صورة مؤلمة للفساد الذي دبّ في حياة إسرائيل في ذلك الوقت، كثمرة لالتصاقهم بالوثنيين ومشاركتهم عبادتهم متجاهلين الشريعة الإلهية.

<<

 


 

الأصحاح الثامن عشر

اغتصاب التمثالين والكاهن

 إن كانت قصة ميخا واستئجاره الغلام اللاوي كاهنًا تكشف عما أصاب إسرائيل من عمى روحي على مستوى الأفراد والعائلات، فإن اغتصاب سبط دان لتمثالي ميخا والكاهن المقيم عنده يكشف عما هو أمر وأقسى وهو أن هذا العمى أصابهم على مستوى الجماعة، على مستوى الأسباط، إذ أراد دان أن يقيم لنفسه إلهًا وكاهنًا ولو بالاغتصاب.

1. دان يطلب ميراثًا                  [1-2].

2. الرسل في بيت ميخا              [3-6].

3. عودتهم إلى اشتاؤل               [7-10].

4. اغتصابهم الأفود والكاهن         [11-26].

5. استيلاؤهم على لايش             [27-31].

1. دان يطلب ميراثًا:

"وفي تلك الأيام لم يكن مَلِكٌ في إسرائيل؛ وفي تلك الأيام كان سبط الدانيين يطلب له مُلْكًا (ميراثًا) للسكنى، لأنه إلى ذلك اليوم لم يقع له نصيب في وسط أسباط إسرائيل" [1-2].

"في تلك الأيام لم يكن مَلِكٌ في إسرائيل"، إذ كان ذلك بعد موت يشوع في بداية فترة القضاة حيث لم يكن لإسرائيل ملك. رفضوا الرب ملكًا لهم، ولم يكن لهم حتى ملك أرضي فصار الكل يعمل ما يحسن في عينيه (17: 6) على مستوى الأفراد أو العائلات أو الأسباط، ليس من قائد ولا من مدبر أو مشير! في هذه الآونة تطلع بنو دان فرأوا أن ما استلموه من أرض كميراث للسبط يُحسب كلا شيء بالنسبة لعددهم الضخم، وكأنهم بلا نصيب في وسط إسرائيل فاختاروا خمسة رجال من ذوي البأس كجواسيس يفحصون الأرض التي يطلبون امتلاكها... انطلق هؤلاء الرجال للعمل، وفي الطريق مالوا إلى بيت ميخا في جبل أفرايم وباتوا هناك.

2. الرسل في بيت ميخا:

إذ أقم الجواسيس الخمسة في بيت ميخا عرفوا صوت الغلام اللاوي [3]، هل بسبب سابق معرفة إذ كان الغلام قبلاً في بيت لحم وكانت هناك خلطة بين سبطي يهوذا ودان ليست بقليلة، أم عرفوه من لهجته أنه لاوي، أو سمعوه يخدم فعرفوه ككاهن، أو أنه سبق فمرّ بهم أثناء تجوله يطلب عملاً. بدأوا يسألونه عن سبب مجيئه وعمله بشيء من الاستغراب، ربما لأنهم لم يكونوا يتوقعون الالتقاء بلاوي كاهن في هذا الموقع. إذ عرفوا أنه كاهن سألوه أن يستشير الرب في أمرهم فكانت إجابته: "اذهبوا بسلام، أمام الرب طريقكم الذي تسيرون فيه" [6]، أي أن الله يكون حارسًا لطريقكم وحافظًا لكم يهتم بكم وينجح أعمالكم.

إنها صورة تكشف عن بساطة قلوب الكثيرين لكنها بغير حكمة ولا فهم روحي... يشتاقون إلى التسليم في يدي الله ويتعطشون إلى الالتجاه إليه لكن شركتهم مع الوثنيين أفسدت أفكارهم.

3. عودتهم إلى أشتاؤل:

كانت كلمات الغلام وهي أشبه بدعاء للبركة والتشجيع في نظرهم مشورة إلهية ونبوة دفعتهم للانطلاق إلى لايش أو (لشم) وتسمى حاليًا "تل القاضي"، وهي مدينة كنعانية في أقصى شمال فلسطين في الوادي الذي لبيت رحوب. اسمها "لايش" معناه (أسد). لقد وجد الجواسيس المدينة ضعيفة للغاية من الجانب العسكري، يسكنها جماعة من التجار هاجروا إليها من صيدون، يميلون إلى السلم حفاظًا على تجارتهم. وهى بعيدة عن صيدا، ولم تقم تحالفًا مع أحد، وبلا ملك... وكأن كل العوامل تسندهم على الاستيلاء عليها... لذلك رجع الجواسيس إلى اخوتهم يحثونهم على الانطلاق إليها بلا كسل.

إن كانت "لايش" تعني (أسدًا)، فإنها تمثل مملكة إبليس التي لها اسم الأسد المرعب لكنها في واقعها ضعيفة للغاية وبلا ملك حقيقي ولا من يسندها، يستطيع المؤمن الحقيقي أن يهاجم العدو ويغتصب موقعه ويملك! ليتنا لا نهاب إبليس ولا نضطرب منه فهو مرعب بإغراءاته وخداعاته، لكننا إن تمسكنا بربنا يسوع المصلوب نقتحم مملكته فنجده غاية في الضعف. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إبليس ليس هو السبب في آلامنا لو أخذنا حذرنا منه... فإن ضعيفي الإرادة وغير المستعدين والكسالى يسقطون حتى ولو لم يوجد إبليس، يسقطون بأنفسهم في أعماق الشر...]. كما يقول: [لا نخاف الشيطان حتى ولو كان روحيًا بغير جسد، فليس شيء أضعف من ذاك الذي علاقته بنا هكذا (لا يسيطر علينا بغير سماح إلهي) [137]].

4. اغتصابهم الأفود والكاهن:

انطلق ستمائة رجل حرب من عشيرة الدانيين ومعهم نسائهم وأولادهم وأمتعتهم [21]، وكأنهم منطلقون لا للحرب بل ليملكوا، إذ عادة رجال الحرب أن يخرجوا للحرب حتى يغلبوا وعندئذ إذ يستولون على الأرض يأتون بعائلاتهم، لكن هؤلاء الرجال استهانوا جدًا بسكان لايش وحسبوا امتلاكها أمرًا لا يحتاج إلى مجهود كبير وهو أمر محقق، لذا أخذوا نساءهم وأولادهم وأمتعتهم معهم ليملكوا.

إنها صورة حية للجهاد الروحي فينطق الإنسان كرجل حرب (روح قوية) ومعه امرأته (جسده) وأولاده (ثماره الروحية) وكل أمتعته (أي طاقاته)... حتى إذ يستولى على موقع كان قد احتله إبليس يستقر ليملك بروحه وجسده وثماره الروحية وكل إمكانياته المقدسة في الرب.

صعدوا وحلوا في "قرية يعاريم" أي (قرية الغابات)، وهى إحدى مدن الجبعونيين الأربع (يش 9: 17) على تخم يهوذا وبنيامين (يش 15: 9-10 ؛ 18: 14-15) وتدعى "قرية بعل"، من نصيب يهوذا. يُرجح أنها قرية العنب التي تسمى أباغوش تبعد حوالي 9 أميال غربي أورشليم.

حلوا بالقرية مدة ليست بقليلة حتى دعيت "محلة دان" [12]، وربما كانت إقامتهم على حدود القرية من ورائهم [12]، أي غربها، إذ اعتاد الكتاب أن يسمي الشرق أمام والغرب "وراء" والشمال "شماله" والجنوب "يمينه".

انطلقوا من قرية يعاريم إلى جبل أفرايم حيث جاءوا إلى بيت ميخا، وإذ أخبرهم الجواسيس بوجود أفود وترافيم وتمثال منحوت وآخر مسبوك وكاهن وكأنها مقدسات للرب، أصر الرجال على اغتصابها لنوال بركتها... فاغتصبوها بلا عائق، ولما حاول الكاهن الاعتراض، قالوا له: "اخرس، ضع يدك على فمك واذهب معنا وكن لنا أبًا وكاهنًا. أهو خير لك أن تكون كاهنًا لبيت رجل واحد أم تكون كاهنًا لسبط ولعشيرة في إسرائيل؟!" [19]. صورة مؤلمة لمفاهيم الشعب في ذلك الحين وأيضًا الكاهن إذ طاب قلبه [20] عندما عرف أنه سيكون كاهنًا لجماعة كبيرة عوض تخصصه لبيت واحد. حمل الكاهن الأفود والترافيم والتمثال المنحوت لأنها أشياء خفيفة يمكن حملها أما التمثال المسبوك فتركه لهم لكي يحملونه... ودخل في وسط الشعب ليحتمي بهم من بيت ميخا. لقد وجد ما يشبع مطامعه ومن يحميه من الناس، لكنه لم يجد ما يشبع أعماقه ولا من ينزع منه خزيه!

انطلقوا من بيت ميخا وكان الأطفال والماشية والثقل قدامهم [21]. إنهم سلكوا كجسديين، أما الإنسان الروحي فينطلق بروحه متقدمًا الجسد (امرأته) ومواهبه (الأطفال)، إذ يسلك الجسد بالروح القدس خاضعًا لعمل الروح، لا أن يتقدمه الجسد فتحيا الروح خاضعة لشهوات الجسد وملذاته ولا متكبرة بالمواهب (الأطفال).

حاول ميخا وأهل بيته أن يستردوا معبوداتهم وكاهنهم حاسبًا أنهم كل رأسماله، إذ قال ميخا: "آلهتي التي عملت قد أخذتموها مع الكاهن وذهبتم، فماذا ليّ بعد؟! وماذا تقولون ليّ: مالك؟!" [24]. فهددوهم بنو دان... عندئذ رجع ميخا إلى بيته إذ رآهم أشد منه.

5. استيلاؤهم على لايش:

انطلقوا إلى "لايش" أي (الأسد) كما في عرينه حتى يحطموا قوته، وليس من يعينه!

حطموا المدينة واحرقوها بالنار وأعادوا بناؤها من جديد، ودعوها دان... وكأنهم يمثلون المؤمن الذي ينزل إلى مياه المعمودية ليحطم بالسيد المسيح المصلوب قوته ويخلع أعماله الشريرة عنه، كمن يحرقها بالنار، ليحمل الإنسان الجديد على صورة خالقه. وعوض لايش التي لإبليس تقوم دان التي تعني إدانة الخطية بالصليب وخلال الدفن مع ربنا يسوع.

كان يليق ببني دان وقد أحرقوا لايش وأقاموا دان أن يعيشوا للرب، لكنهم للأسف أٌقاموا لأنفسهم التمثال المنحوت... وكأنهم يمثلون المؤمنين الذين بعدما تمتعوا بالإنسان الجديد عادوا إلى الخطية وانحرفوا عن الحياة الإيمانية التقوية ليعيشوا حسب أهوائهم.

<<

 

 


 

الأصحاح التاسع عشر

اللاوي وسريته

 إن كانت قصة تمثاليّ ميخا تكشف عن عمي البصيرة الذي حلّ بالشعب لا على المستوي الفردي وحده وإنما على مستوى الجماعة أيضًا، فظنوا أنهم يرضون الله باقامة تماثيل وأفود وترافيم مع كهنة خاصة إن كانوا من سبط لاوي، حتى وإن كان ذلك يتم اغتصابًا بالسرقة والعنف. فإن قصة اللاوي وسريته التي ارتكب معها أخوته بنو بليعال الشر الليل كله حتى الفجر حتى جاءت لتسقط عند الباب ميته، تكشف عن بشاعة الفساد الخلقي الذي حلّ بهم في ذلك الحين.

1. اللاوي المتغرب وسريته                    [1-10].

2. اللاوي يميل إلى جبعة بنيامين              [11-30].

1. اللاوي المتغرب وسريته:

كانت السرية زوجة شرعية لكنها في درجة أقل من الزوجة العادية، إذ كانت غالبًا من العبيد اللواتي يشترين بثمن، وكانت أحيانًا السرية من أسيرات الحرب...

يروي لنا هذا الأصحاح عن لاوي كان يقطن متغربًا في عقاب جبل أفرايم أو عند سفحه كما جاء في بعض الترجمات، وكانت له سرية من بيت لحم يهوذا ارتكبت الزنا، إذ خافت هربت إلى بيت أبيها. ربما سمع زوجها عن توبتها وحزنها الشديد على ما ارتكبت فذهب إليها ليطيب خاطرها. وهناك أمسكه والدها ثلاثة أيام يقدم فيها واجب الضيافة حسب العادة، وبعد انتهاء الضيافة التقليدية بكر الرجل للسفر لكن والد الفتاة أظهر محبة بقوله: "اسند قلبك بكسرة خبز وبعد ذلك تذهبون" [5]، وبعد الأكل ألحّ عليه أن يبقى يومًا رابعًا. وإذ تكرر الأمر في اليوم الخامس أصر اللاوي أن يرحل في غروب اليوم ومعه الغلام وحماران مشدودان له ولسريته.

2. اللاوي يميل إلى جبعة بنيامين:

انطلق اللاوي وسريته والغلام إلى يبوس (أورشليم) حيث كان يسكنها اليبوسيون، وإذ أراد الغلام أن يميل ليبيت سأله اللاوي أن يذهبوا إلى جبعة بنيامين أو الرامة ليبيتوا بين اخوتهم اليهود، وإذ حلّ بهم الليل في الجبعة توقفوا في الساحة ولم يضمهم أحد للمبيت.

في المساء تقدم إليهم رجل شيخ قادمًا من الحقل، وكان غريبًا عن جبعة؛ يبدو أنه رجل فقير جاء يعمل كأجير طوال اليوم في الحقول. تقدم الشيخ للاوي وتعرف عليه وعرف أنه لا يجد من يستضيفه. قال اللاوي: "عندنا تبن وعلف لحميرنا وأيضًا خبز وخمر ليّ ولأمتك وللغلام الذي مع عبيدك، ليس احتياج إلى شيء" [19]، وكأنه يود تأكيد أنه ليس في حاجة إلاّ إلى المبيت. استضافه الفلاح الشيخ الفقير وإذ كانوا يطيبون قلوبهم إذ برجال بني بليعال يحيطون بالبيت قارعين الباب طالبين من الشيخ أن يُخرج الضيف. هنا تعبير "بني بليعال" يراد به البطالون والأشرار الذين لا يخافون الله.

حاول الشيخ إقناعهم بالعدول عن ذلك باخراج ابنته العذراء والمرأة السرية للاوي يفعلون بهما ما يشاءون ولا يفعلون شرًا باللاوي فلم يقبلوا... هكذا يكشف عن استهانة الرجال بالنساء في ذلك الحين، واستخفافهم بخطية الزنا، فحسب إخراج ابنته وامرأة الضيف لهم ليفعلوا بهما الشر أكرم من أن يفعلوا شيئًا بالضيف. أمسك اللاوي بسريته وأخرجها إليهم إنقاذًا للموقف، فصنعوا معها الشر طوال الليل، فجاءت في الفجر وسقطت عند الباب ويداها على العتبة فاقدة الحياة... الأمر الذي ربما لم يكن يحدث لو باتوا في يبوس بين الغرباء.

إن كانت قد ارتكبت الشر بارادتها من أجل لذة الجسد، فها هي تموت حتى جسديًا بسبب ذات الخطية، فصارت لها شهواتها هي شوكة الموت. أما بسط يديها على العتبة فكان علامة استغاثتها برجلها الذي في جبن ألقى بامرأته خارجًا للشر لينام داخل البيت مستريحًا... إنها بهذا تخاطب ضميره الإنساني، وتمثل صورة مؤلمة لا تفارق ذهنه كل أيام حياته!

حملها اللاوي على الحمار وانطلق بها في بيته ليقطعها بالسكين مع عظامها إلى اثنتي عشر قطعة ليرسلها إلى جميع تخوم إسرائيل، يطالبهم عمليًا بالثأر، ويشكو لهم فظاعة بني جبعة. لقد ارتكب عملاً وحشيًا بسبب شدة غيظه ورغبته في إثارة إسرائيل على جبعة... وبالفعل كان الأمر مثيرًا للغاية، حتى أن كل من رأى قطعة من جسم المرأة قال: "لم يكن ولم يُر مثل هذا من يوم صعود بني إسرائيل من أرض مصر إلى هذا اليوم، تبصروا فيه وتشاوروا وتكلموا" [30].

هذه قصة مُرّة بحق تعلن ما وصل إليه الكل من بشاعة ووحشية!

إذ كتب البابا أثناسيوس الرسولي بخصوص المرارة التي حلت بالكنيسة بسبب الأريوسيين في خطاب دوري للأساقفة لم يجد ما يصف به الكنيسة من معاناة فقال أن ما تعانيه الكنيسة أقسى مما عاناه هذا اللاوي من جهة زوجته. وأقسى من كل اضطهاد، فإن اللاوي تضرر في شخص واحد هو زوجته أما ما فعله أريوس فأساء إلى إيمان الكنيسة كلها.

<<

 

 


 

الأصحاح العشرون

حرب ضد سبط بنيامين

 إذ استلم كل سبط جزءًا من جسد زوجة اللاوي وسمع الكل عما ارتكبه أهل جبعة بها هاج الكل عليهم، وقام الكل ضدهم:

1. هياج الكل ضد جبعة              [1-13].

2. انهزام إسرائيل مرتين             [14-28].

3. انهزام سبط بنيامين               [29 – 48].

1. هياج الكل ضد جبعة:

اجتمع بنو إسرائيل كرجل واحد من أقصى الشمال من دان (لايش) إلى بئر سبع في الجنوب، ومن أرض جلعاد شرقي الأردن (جبل عجلون) إلى بيت الرب في شيلوه (سيلون). اجتمع الكل في المصفاة (على بعد ثلاثة أميال من جبعة) مستعدًا للحرب، ما عدا أهل مدينة يابيش جلعاد، وإذ سمع الكل قصة اللاوي وما فعله أهل جبعة بسريته أصروا على مقاتلة سبط بنيامين ما لم يسلموا بني بليعال الذين في جبعة لقتلهم ونزع الشر منهم، فلم يرد بنو بنيامين أن يسمعوا لصوت أخوتهم بني إسرائيل [13]. كانت الشريعة تأمر بقتل أمثال هؤلاء الرجال وحرق مدينتهم بالنار وكل أمتعتهم لتصير تلاً لا تُبنى بعد (تث 13: 14-17)، لكن بنو بنيامين أرادوا الدفاع عنهم فحدث انشقاق بين الجماعة وخسروا نفوسًا كثيرة وكاد السبط أن يفنى. لم يفكر سبط بنيامين في ثمر الفساد المرّ وإنما كانت حساباته مادية، رأى في نفسه بالرغم من صغر عدده أنه قادر على مقاومة الجماعة كلها، إذ كان البنيامينيون مهرة في الحرب (1 أى 12: 2).

ما أعظم أن يكون الإنسان صريحًا مع نفسه، يبتر الشر من داخله مهما يكن الثمن، غير متكل على إمكانياته الزمنية إنما يطلب بركة الرب الذي يقطن القلوب المقدسة ويحتضن الراجعين إليه. لنزع عنا بني بليعال ليس خوفًا من الجماعة وإنما تقديسًا لنفوسنا في الرب.

2. انهزام إسرائيل مرتين:

اجتمع من رجال إسرائيل أربعمائة ألف رجل مخترطو سيف [2]، وأما من بنيامين ستة وعشرون ألفًا ماعدا سكان جبعة وهم سبعمائة رجل منتخبون عُسر، وكان هؤلاء السبعمائة يجيدون الهدف يرمون الحجر بالمقلاع على الشعرة ولا يخطئون [16]. والعجيب أن يكون في سبط بنيامين الذي يعني (ابن اليمين) هذا العدد من العُسر الذين يعملون بيسارهم ما يعمله غيرهم بيمينهم.

لقد سألوا الله من يصعد منهم أولاً لمحاربة بني بنيامين فقال الرب: يهوذا أولاً [18] ومع ذلك انهزم إسرائيل أمام بني بنيامين وقُتل منهم 22 ألفًا. وتشدد الشعب مرة أخرى وصعدوا أمام الرب وبكوا إلى المساء وسألوا: "هل أعود أتقدم لمحاربة بني بنيامين أخي؟ فقال الرب: اصعدوا إليه" [23]، وفي هذه المرة أيضًا انهزم إسرائيل ومات منهم 18 ألفًا. وعادوا مرة ثالثة إلى بيت إيل حيث بكوا وجلسوا أمام الرب وصاموا اليوم كله حتى المساء وقدموا محرقات وذبائح سلامة أمام الرب وسألوا الرب حيث تابوت العهد قد نقل إلى بيت إيل...، فجاءت الإجاب: "اصعدوا لأني غدًا أدفعهم ليدك" [28].

لماذا انهزم بنو إسرائيل في المرة الأولى والثانية مع أنهم سألوا الرب؟

أولاً: ربما لأن إسرائيل لم يستشر الرب من أعماق قلبه إنما يمارس ذلك من قبيل الشكليات بعد أن أعد نفسه للحرب وأخذ قراره: "لا يذهب أحد منا إلى خيمته ولا يميل أحد إلى بيته" [9]، وألقوا القرعة ودبروا اختيار العشر منهم للحرب... وكأن سؤالهم للرب إنما هو عمل ثانوي تكميلي، فلا يحتل الله المركز الأول في حياتهم ولا يسألونه المشورة في انسحاق ولتضاع وتسليم.

ثانيًا: كان سؤالهم في المرة الأولى: "من يصعد لمحاربة بني بنيامين أخي؟" وكأنهم أخذوا القرار بمحاربة أخيهم وبقى أن يسألوه عمن يصعد للحرب، وكأن اللائق بهم أولاً أن يسألوه هل يصعدون أم لا؟ لعل الله كان يرشدهم إلى مشورة أخرى بها ينزع الفساد دون سفك كل هذه الدماء.

ثالثًا: في الدفعتين الأولى والثانية لم يقل لهم: "إني أدفعهم ليدك"، فسمح لهم بالحرب لكن لم يعدهم بالنصرة لأنه إن كان أهل جبعة قد صنعوا هذا الفساد المرّ، فإن الفساد كان قد دبّ في الأسباط كلها، فكان لزامًا أن يتأدب إسرائيل أولاً حتى إذ يقدم توبة صادقة يعود الرب فيؤدب سبط بنيامين. الله لا يطلب صرخاتنا ولو طالت اليوم كله، إنما يطلب أولاً توبتنا ورجوعنا إليه، فإن تقدست أعماقنا يستجيب حتى للصرخات الخفية وتنهدات القلب غير المسموعة.

ليتنا لا نكون كهذه الأسباط نمتلئ غيرة ضد فساد الآخرين بينما لا نبالي بالفساد الذي يدب في حياتنا الداخلية، حتى وإن بدا فساد الآخرين فاحشًا إن قورن بتصرفاتنا الخفية أو الظاهرة. بمعنى آخر لينق إسرائيل ما بالداخل حتى يقدر بالرب أن ينزع فساد الغير.

3. انهزام سبط بنيامين:

إذ كان إسرائيل قد تأدب في الدفعتين السابقتين وتذلل بالتوبة أمام الله انطلق للحرب هذه المرة في اليوم الثالث من بداية الحرب [29]، وكما نعلم أن اليوم الثالث يشير إلى تمتعنا بقيامة السيد المسيح، فلا نصرة ضد الخطية ولا غلبة على قوات الظلمة إلاّ بالتمتع بقوة قيامة الرب فينا.

دبر إسرائيل كمينًا يحيط بالجبعة وظهر إسرائيل أمام بنيامين ليجتبه خارج المدينة، وإذ بدأ بنيامين يضرب كاليومين السابقين انطلق إسرائيل البعض إلى السكك أي الطرق العامة المؤدية إلى بيت إيل والآخر نحو حقل جبعة، وكان هناك كمين مختفيًا في بعل تامار أي (إله البلح أو التمر) وفي عراء جبعة، أي في أرض بلا شجر ولا بيوت مختف وراء الصخور...

انطلق الكمين المختفي وراء المدينة واقتحمها وضربها بالسيف وإذ أشعلها بالنار وصعد الدخان نحو السماء خرج الكمين الآخر فسقط من بنيامين 25 ألفًا من مخترطي الحرب منهم 18000 قتلوا في الحرب، 5000 في الطرق، 2000 عند صخرة رمون (صخرة الرمان) فيكون المجموع 25000، وبشيء من التدقيق 25100 نسمة [35]، وقد هرب 600 رجلاً إلى صخرة رمون ليقيموا هناك 4 أشهر [47]، ربما تركهم الإسرائيليون استهانة بعددهم. أما بقية رجال حرب بنيامين الذين كانوا يبلغون 26700 نسمة، أي ألف نسمة فغالبًا ما قتلوا في اليومين الأولين حينما غلب بنيامين إسرائيل.

على أي الأحوال خسر إسرائيل في اليومين الأولين حوالي 40 ألفًا وفي اليوم الثالث ثلاثين رجلاً، وخسر بنيامين كل رجاله أما مقتولين أو هاربين... هذه هي ثمرة الخطية والفساد.

<<

 


 

الأصحاح الحادي والعشرون

مرارة في إسرائيل

 إذ تحطم سبط بنيامين شعر إسرائيل أنه فقد سبطًا بأكمله من أسباطه الاثنى عشر، فحدث مرارة وندم.

1. ندم إسرائيل                       [1-15].

2. تدبير أمر زواج البنيامينيين       [16-25].

1. ندم إسرائيل:

غلب إسرائيل بنيامين لكن بقيت النفوس مرة، فقد شعر إسرائيل أنه فقد سبطًا من أسباطه الاثنى عشر، إذ لم يبق منه إلاّ ستمائة رجل حرب هاربين في صخرة رمون، وكانوا قد أقسموا قبلاً في المصفاة ألا يسلم أحد ابنته زوجة لبنياميني، وكأنهم بهذا حكموا على السبط بالزوال نهائيًا. لذلك جاء الشعب إلى بيت إيل وصار يبكي بكاءً عظيمًا.

ندم إسرائيل... وإذ كانوا قد حذروا كل مدينة لا تشترك معهم في الحرب أرسلوا 12 ألفًا من رجال الحرب إلى مدينة يابيش جلعاد، المدينة الوحيدة التي لم تشترك مع الجماعة في الحرب، فضربوا المدينة بحد السيف وقتلوا رجالها ونساءها وأطفالها ما عدا الفتيات العذارى، وكان عددهن 400 فتاة. أتوا بالفتيات إلى شيلوه، وإذ تصالح إسرائيل مع الـ 600 رجلاً بنيامينيًا أعطوهم الفتيات نساء لهم لإحياء السبط من جديد.

 2. تدبير أمر زواج البنيامينيين:

تزوج بعض البنيامينيين بالفتيات اللواتي من مدينة يابيش جلعاد، وأما الباقون فإذ لم يكن ممكنًا لإسرائيلي أن يعطيهم ابنته أوصي شيوخ الجماعة رجال بنيامين أن يترقبوا خروج الفتيات في عيد الرب في شيلوه وإذ يرونهن خارجات يرقصن يخرج الرجال من الكروم ويأخذ كل منهم فتاة له زوجة، فإن جاء آباؤهن أو اخوتهن يطيب الشيوخ قلوبهم، بأنه لا وسيلة للبنيامينيين غير هذه حتى يعمروا مدنهم من جديد ولا ينقطع سبطهم من بين أسباط إسرائيل.

وقد خُتم السفر بالعبارة: "في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه" [25]. وكأن غاية هذا السفر إعلان فساد قلب الإنسان ورغبته لا في الحرية وإنما في الإباحية ليعمل حسب هواه بلا ضابط.

<<


 

 

[1] Jerome Biblical Commentary, P 149.

[2] John L. Mckenzie: Deict. of the Bible, P 465.

[3] J. Raven: O.T. Introduction, P 159.

[4] Richard V. French: Lex Mosaica, P 191.

[5] Ibid 198 – 199: J. Raven: O.T. Introduction, P 158.

[6] Jerome Biblical Commentary, P 150.

[7] Conc. Widows, Ch 8.

[8] Ep. ad Furiam 17.

[9] Cat. hect. 16:28

[10] Mckenzie, P 464.

[11] PG 46:929 C.

[12]  للمؤلف: سفر العدد سنة ١٩٨١، ص ١٥.

[13] للمؤلف: الإنجيل بحسب متى سنة ١٩٨٣، ص ٧٩.

[14] In Rom. PG 60:499.

[15] In Gen. PG 53:76, 77.

[16] James Strong: Dict. of The Words in the Hebrew Bible, article 113.

[17] Ibid, article 966.

[18] New westminster Dict. of the Bible, P 114.

[19] On Ps. 122.

[20] سفر يشوع سنة ١٩٨٢، ص ١٨٢، ١٨٣.

[21] New westminster Dict. of the Bible, P 219.

[22]  يشوع، ص ١٨٤.

[23] In Jos. hom 21:1.

[24]  للمؤلف: آباء مدرسة الاسكندرية الأولون سنة ١٩٨٠، ص ١٦٠.

[25]  الحب الرعوي، ص ٧٦٤.

[26] يشوع سنة ١٩٨٢، ص ٨٢، ٨٣.

[27] Mckenzie, P 311

[28] Cassian: Conf. 4:6.

[29] يشوع ١٩٨٢، ص ٢٣.

[30] المرجع السابق، ص ٢٧.

[31] المرجع السابق، ص ٢٨.

[32] المرجع السابق، ص٢٥.

[33] المرجع السابق، ص ٢٨.

[34] المرجع السابق، ص ٢٩.

[35] المرجع السابق، ص ١٩٨٤.

[36] Strong A Concise Dict. of the words in the Hebrew Bible, article 6274.

[37] يشوع، ص ١٩٨٤.

[38] الإنجيل بحسب متى ص ٩٣، ص ٨٥.

[39] New westminster Dict. of the Bible, article: 6274.

[40] Strong A Concise Dict. of the words in the Hebrew Bible, article 261.

[41] Cassian Conf. 6:10.

[42] In Ioan. tr 105:1

[43] Ibid.

[44] Ibid. 105:2.

[45] On Ps 45.

[46] راجع القديس يوحنا الذهبي الفم، ١٩٨٠، ص ٣١٨-٣٢١.

[47] On Ps. 83.

[48] Conc. Widows 8 (44).

[49] Ibid. 51.

[50] Comm. on Can’t, Ser. 9

[51] Strong Hebrew & Chadec Dict., articles 3940, 3941.

[52] الإنجيل بحسب متى ص ١١٥.

[53] Conc. Widows 8 (45).

[54] Ibid.

[55] Ibid. 8 (46).

[56] Ibid. 8 (47).

[57] Ibid. 8 (48).

[58] Ibid. 8 (59).

[59] راجع زكريا، ص ١٣١ (أيضًا القديس أغسطينوس: تفسير يوحنا مقال ١٧: ٦).

[60] In Ioan, hom. 46.

[61] حزقيال، ص ٦٧-٧٠.

[62] الكنيسة تحبك ١٩٦٦، ص ٤٢، ٤٣.

[63] On Ps. hom 7.

[64] On Ps. 68.

[65] سفر العدد، ١٩٨١، ص ٢١٠-٢١٦.

[66] المرجع السابق، ص ٢١٣، ٢١٤، العلامة أوريجين: في العدد عظة ٢٦.

[67] St. Hippolytus of Rome: On Christ & Anti-Chirst.

[68] On Ps. 33.

[69] Cassian: Conf. 3:4.

[70] Mckenzie, P 628.

[71] Strong: Hebrew & Chadee Dict., article 1439.

[72] Caesarius of Arles: Sermon 117: 1; St. Ambrose: On the Holy Spirit 1:1.

[73] Caesarius 117:2.

[74] Ibid. 117:6.

[75] Incomp. Of Cod 5:4. PG 48:740.

[76] Caesarius 117:3.

[77] Fragments of Lost Writings 17.

[78] Caesarius 117:4.

[79] Ibid. 177: 6 (See Conc. Widows 3).

[80] On Ps 72.

[81] Ep. 58:3

[82] Adv. Haer 3:17:3.

[83] Caesarius 117:5.

[84] Ibid.

[85] Chaplet 3.

[86] Myst. Hom. 3:4.

[87] The Last Farewell 7.

[88] On Ps. 68

[89] Caesarius Ser. 117:3.

[90] راجع تفسير يشوع ٣: ٢.

[91] راجع: من يقدر أن يؤذيك؟، "هل للشيطان سلطان عليك؟

[92] للمؤلف: االحب الرعوي، ١٩٦٥، ص ١٩٦.

[93] المرجع السابق، ص ٢٣٠، ٢٣١.

[94] راجع تفسير ُقض ٦: ١١.

[95] راجع للمؤلف: الإنجيل بحسب متى، ص ١٨٣.

[96] راجع تفسير ٢تي ٤:٦.

[97] رسطا 71، طك 23.

[98] In Hebr. hom 23:9.

[99] In Acts hom 3.

[100]  للمؤلف: الإنجيل بحسب متى ص ٧٥.

[101] Ep. 60:8.

[102]PG 57:30, 53:228.

[103] Duties of the clergy 3:12 (78, 79).

[104] Ibid. 2:50 (264).

[105] Conc. Stat. hom 14:7.

[106] Ibid.

[107] Ep. 118:5.

[108] Conc. Stat. hom 14:7.

[109] Adv. Arian., Dis 2:16

[110] Adv. Eunomoius 8:1.

[111] Incomp. Of God 5:4, PG 48:740.

[112] Of the Holy Spirit 2, Introd. 5, 6.

[113] Ibid. 8, 9.

[114] Caesarius, Ser. 119:1-3.

[115] Ibid. 119:5.

[116] Ibid. 118:2.

[117] Ibid. 118:3.

[118] Of the Holy Spirit 2, Introd. 7.

[119] Ibid. 10.

[120] Caesarius, Ser. 118:4.

[121] Ibid. 119:4.

[122] Ibid. 118:5

[123] Ibid. 118:3

[124] On Philip hom 12.

[125] Demon. 6 on Monks 3.

[126] Duties of the Clergy 2:26 (131).

[127] On the Great Athans. 26.

[128] Caesarius Ser. 120:2.

[129] Ibid. 118:6.

[130] Ibid.

[131] Ibid. 120:3.

[132] Ibid.

[133] Ibid.

[134] Ibid. 118:6.

[135] Ibid. 120:4.

[136] Frag from Lost Writings 27.

[137] هل للشيطان سلطان عليك؟، ١٩٧٢، ص ٥٦، ٥٧.

 

الصفحة الرئيسية