اللاويين

 

 

 

 

 

 

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

 

إن كان الإنسان في سفر التكوين سرعان ما فقد علاقته بالله فخسر سرّ حياته، جاء سفر الخروج يعلن خلاص الإنسان بخروجه من عبودية إبليس، فرعون الحقيقي، لينطلق نحو الأبدية، خلال برية هذا العالم. وجاء سفر اللاويين يعلن إلتصاق الله القدوس بشعبه خلال الحياة المقدسة التي ننعم بها خلال السيد المسيح الذبيح والكاهن في نفس الوقت. وكأن هذا السفر هو "سفر القداسة" التي بدونها لا نعاين الله ولا نقدر على الإتحاد معه، هذه القداسة هي عطية الله توهب لنا خلال ذبيحة السيد المسيح الفريدة التي قدم لها الذبائح الحيوانية الدموية كطريق رمزي يمهد لها؛ هذه الذبيحة قدمها السيد أيضًا بكونه الكاهن السماوي وقد مهد لفهم كهنوته الكهنوت اللاوي أيضًا كرمز.

هذا وقد أبرز هذا السفر إلتحام العطية المجانية للحياة المقدسة خلال الذبيحة الفريدة بالجهاد الروحي الحيّ بالتزامنا بشريعة التقديس.

ليهبنا إلهنا الصالح القدوس أن نتفهم أسرار هذا السفر في حياتنا اليومية حتى ندخل إلى معرفة صليبه ونتقبل عطية القداسة، مجاهدين روحيًا من أجل التمتع بالله القدوس.

 

القمص تادرس يعقوب ملطي


 

-

- سفر اللاَّويين

 

- الباب الرابع الأصحاح [16]

- الباب الأول الأصحاحات [1-7]

 

الأصحاح السادس عشر (يوم الكفارة العظيم)

الأصحاح الأول (ذبيحة المحرقة)

 

- الباب الخامس الأصحاح [17]

الأصحاح الثاني (تقدمة القربان)

 

الأصحاح السابع عشر (المذبح والذبائح)

الأصحاح الثالث (ذبيحة السلامة)

 

- الباب السادس الأصحاحات [18- 22]

الأصحاح الرابع (ذبيحة الخطية)

 

الأصحاح الثامن عشر (القداسة والعلاقات الجسدية)

الأصحاح الخامس (ذبيحتنا الخطية والإثم)

 

الأصحاح التاسع عشر (القداسة والمعاملات)

الأصحاح السادس (ذبيحة الإثم وشرائع الذبائح)

 

الأصحاح العشرون (الأوثان والزنا)

الأصحاح السابع (شرائع الذبائح (تكملة))

 

الأصحاح الحادي والعشرون (شرائع خاصة بقداسة الكهنة)

- الباب الثاني الأصحاحات [8-10]

 

الأصحاح الثاني والعشرون (شرائع خاصة بقداسة المقدسات)

الأصحاح الثامن (طقس التكريس)

 

- الباب السابع الأصحاحات [23-27]

الأصحاح التاسع (ممارسة العمل الكهنوتي)

 

الأصحاح الثالث والعشرون (المحافل المقدسة)

الأصحاح العاشر (العمل الكهنوتي والنار الغريبة)

 

الأصحاح الرابع والعشرون (الفرح الداخلي)

- الباب الثالث الأصحاحات [11-15]

 

الأصحاح الخامس والعشرون (شرائع الحرية الداخلية)

الأصحاح الحادي عشر (الأطعمة المحللة والمحرمة)

 

الأصحاح السادس والعشرون (البركات واللعنات)

الأصحاح الثاني عشر (تطهير الوالدة)

 

الأصحاح السابع والعشرون (النذور والبكور)

الأصحاح الثالث عشر (تطهير برص الجسد وبرص الثياب)

 

 

الأصحاح الرابع عشر (شريعة تطهير الأبرص)

 

 

الأصحاح الخامس عشر (شريعة ذي السيل)

 

 

 

 

 

 

 

سفر اللاَّويين

اسم السفر:

دعاه اليهود بالعبرية "ويقرأ Wayyiqra" أو "فيقرأ"، التي تعني "ودعا"، مستخدمين الكلمة الأولى من السفر أما دعوته باللاويين فجاءت عن الترجمة السبعينية Leueitikon، ربما لأنه يهتم بالأكثر بالكشف عن دور الكهنة واللاويين في طقوس الذبائح وشرائع التطهير والإحتفال بالأعياد والإهتمام بالنذور، كما أعلن عن تكريس هرون وبنيه الكهنة، وقد دعاه اليهود في المشناه[1] "شريعة الكهنة، كتاب الكهنة، كتاب التقدمات"[2].

إن كان هذا السفر في غالبيته يوضح خدمة الكهنة واللاويين ووساطتهم، لكنه هو سفر الجماعة كلها، أي سفر الكنيسة كهنة وشعبًا، لهذا كثيرًا ما يبدأ الشرائع بقوله: "كلم بني إسرائيل". إنه سفر يمس حياة الجماعة كلها وخلاصها وتطهيرها لتحيا مقدسة في الله القدوس. وأما الكهنة واللاويون فليسوا إلاَّ أداة إلهية لخدمة هذه الجماعة الذين هم أعضاء فيها. حقًا هم وسطاء وعاملون باسم الرب، لكنهم يعملون لحساب الجماعة وليس لحساب أنفسهم إلاَّ من حيث كونهم أعضاء فيها.

كاتب السفر:

كاتب السفر غالبًا هو موسى النبي، وقد تكررت العبارة: "وكلّم الرب موسى قائلاً" حوالي ثلاثين مرة، وبين الحين والآخر يذكر إسم هرون معه (11: 1، 14: 33، 15: 1). ولم يخاطب هرون بمفرده إلاَّ مرة واحدة (10: 8).

وضعه:

تحدد مكان وزمان إنزال هذه الشرائع بدقة، أنها أثناء الإقامة بجبل سيناء (7: 38، 25: 1، 26: 46، 27: 34)، في الشهر الأول من السنة الثانية لخروج الشعب من أرض مصر (خر 40: 16، عد 1: 1).

إن كان سفر الخروج يقدم تاريخ إسرائيل حتى إقامة خيمة الإجتماع، فقد جاء سفر اللاويين يكمل العمل كسفر ليتورجي يكشف عن ممارسة العبادة في هذه الخيمة خلال الكهنة واللاويين ملتحمة بالحياة المقدسة اللائقة بشعب يعبد الله القدوس.

إن كان سفر الخروج يعلن عن الله كلي القداسة، الله المهوب، الذي لا يستطيع الشعب أن يقترب إليه حتى في لحظات إستلام الشريعة (خر 19: 21، 24: 2)، فقد جاء سفر اللاويين يعلن عن سكني الله وسط شعبه (لا 22: 32، 26: 12) ليحملوا سماته فيهم: القداسة‍! وكما يقول أحد الدارسين: "لا نجد في سفر اللاويين المشرع يتحدث بلغة الرهبة، ولا يكتب على ألواح حجرية، إنما يظهر بكونه نصيب إسرائيل، الساكن في وسط شعبه، يعلمهم كيف يقتربون إلى حضرته ويقطنون في شركة معه"[3].

وكما يتميز هذا السفر عن سفر الخروج، فإنه يتمايز أيضًا عن سفر التثنية الحاوي للشريعة من جهة الهدف، فالأخير يقدم ملخصًا للشريعة للإستعمال الشعبي العام، أما سفر اللاويين فيهتم بالأكثر بالإعلان عن دور الكهنة[4].

سماته:

1. غاية هذا السفر هو إعلان أن القداسة هي الخط المميز لشعب الله، فما يقدمه شعب من عبادات وممارسات وما يمارسه كسلوك يلتزم أن يتسم بسمة القداسة، بل وأن غاية العبادة في كل صورها وغاية الوصية الإلهية هي تمتع الكل بسمة القداسة في الرب. وكأن مفتاح هذا السفر هو: "إنيّ أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأنيّ أنا قدوس" (11: 44) (راجع 11: 45، 19: 2 إلخ).

قدم لنا "القداسة" ليس مجموعة من الوصايا نتممها ولا ممارسات نلتزم بها، إنما وراء الوصية والعبادة قبول الله القدوس، لذا يكرر في هذا السفر إعلان وقوفهم "أمام الرب" حوالي 60 مرة. هنا ندرك أن القداسة أيضًا ليست إمتناعًا عن النجاسة والخطية فحسب وإنما في جانبها الإيجابي إلتقاء وإتحاد مع القدوس.

2. تعتبر الرسالة إلى العبرانيين خير مفسر موحي به لهذا السفر، إذ تكشف لنا عن الطريق الحقيقي للإقتراب نحو الله خلال النعمة بينما يتحدث سفر اللاويين عن طريق الإقتراب من الله في ظل الناموس. الرسالة إلى العبرانيين تعلن عن ذبيحة السيد المسيح التي قُدمت مرة واحدة وتبقى عاملة واهبة حياة قادرة على رفع خطايا العالم، أما الذبائح الواردة في سفر اللاويين فلا تستطيع أن ترفع الخطية من الضمير الداخلي والقلب إذ تتحول هي عينها إلى رماد يحتاج إلى رفعه عن المذبح. هذا وقد قارنت الرسالة إلى العبرانيين بين الكهنوت اللاوي وكهنوت السيد المسيح الذي على رتبة ملكي صادق (عب 7).

3. سفر اللاويين هو إنجيل الخطاة معبرًا عنه بإصطلاحات العهد القديم، فيظهر بقوة إمكانية دم الذبيحة للتقديس خاصة في يوم الكفارة العظيم (لا 17).

4. إن كان الله يهتم بتقديس شعبه لخلاصهم الأبدي، فإنه لا يتجاهل إحتياجاتهم الزمنية بل يهتم بسلامة ممتلكاتهم حتى الثياب، والإطمئنان على حياتهم هنا خلال سلامة البيوت (شريعة تطهير المنازل)، بل وأكلهم وشربهم (الأطعمة المحللة والمحرمة)، وبعث روح الفرح فيهم خلال أعياد ومواسم أسبوعية وشهرية وسنوية ويوبيلية. وهكذا لا يفصل السفر بين الفداء الأبدي وإهتمام الله بالإنسان حتى في أصغر الأمور الزمنية، دون ثنائية أو تعارض بين حياتين روحية وزمنية.

5. خلال هذا السفر نجد الشعب يمثل وحدة واحدة أو جماعة واحدة، لها مذبح واحد (1: 3، 8: 3، 17: 8-9)، ووسيط واحد هو سبط لاوي... وكأن الله في تعامله مع البشرية يريدهم جسدًا واحدًا للرأس الواحد، دون إنفرادية أو إنعزالية فكر أو أنانية حتى في الحياة الروحية.

أقسامه:

يحمل هذا السفر خطين واضحين ومتمايزين وفي نفس الوقت متكاملين، وهما: الذبيحة والحياة المقدسة. فلا حياة مقدسة خارج الذبيحة التي يقدمها الكاهن على المذبح، ولا قبول للذبيحة عن شعب مستهتر بالحياة المقدسة مصِّر على عناده مع الله. بهذا يلتحم دليل الذبائح مع شرائع التطهير. ولئلا يظن أحد أن الحياة المقدسة هي حياة غم أو تبرم أو حرمان أو كبت خُتم السفر بالأعياد والنذور.

1. دليل الذبائح                       [ص 1-7].

2. تكريس الكهنة                    [ص 8-10].

3. دليل شرائع التطهير               [ص 11-15].


 

4. يوم الكفارة العظيم                [ص 16].

5. المذبح وقداسة الدم               [ص 17].

6. شرائع التقديس                   [ص 18-22].

7. الأعياد والنذور          [ص23-27].

<<

 


 

 

الباب الأول

 

 

 

 

دليـل الذبائـح

ص1- ص7

 

الذبائح والتقدمات:

1. ذبيحة المحرقة          [ص 1].

2. تقدمة القربان            [ص 2].

3. ذبيحة السلامة           [ص 3].

4. ذبيحة الخطية            [ص 4، 5: 5-13].

5. ذبيحة الإثـم            [ص 5: 16- ص6].

 


 

الأصحاحات 1-7

الذبائح والتقدمات

سفر اللاويين هو سفر حياة الجماعة المقدسة بالله القدوس يقوم أساسًا على الذبيحة التي يقدمها الكاهن، فلا إقتراب لله ولا قبول للعبادة إلاَّ من خلال المصالحة بالدم الذي يقدمه الكاهن بأسم الجماعة. وكأنه لا دخول إلى أحضان الآب القدوس ولا راحة أبدية إلاَّ بدم ربنا يسوع المسيح الذي يُطهرنا من كل خطية (1 يو 1: 7)، بكونه ذبيحة الصليب الفريدة والكاهن الأعظم في نفس الوقت.

ولما كانت ذبيحة الصليب فريدة في نوعها وفي إمكانياتها لهذا لم يكن ممكنًا لنوع واحد من الذبائح أو التقدمات أن يكشف عنها، فقدم لنا سفر اللاويين خمسة أنواع من الذبائح والتقدمات كل منها يعلن عن جانب أو جوانب معينة من جوانب الصليب، ومع هذا يمكننا أن نقول بأن هذه الأنواع جميعها بطقوسها الطويلة والدقيقة المتباينة قد عجزت عن كشف كل أسرار الصليب لذا قدم لنا العهد القديم رموزًا وتشبيهات وأحداث كثيرة عبر الأجيال لعلها تدخل بنا إلى أعماق جديدة لهذا السر الفائق: سر الصليب والذبيحة.

أما الذبائح والتقدمات المذكورة هنا فهي:

1. ذبيحة المحرقة           [ص 1].

2. تقدمة القربان            [ص 2].

3. ذبيحة السلامة            [ص 3].

4. ذبيحة الخطية            [ص 4، 5: 1-13].

5. ذبيحة الإثم               [ص 5: 14- ص 6: 7].

يرى بعض الدارسين أن الأصحاحات (1- ص 7: 7) تمثل دليلاً عن الذبائح موجهًا لجماعة المتعبدين مع الكهنة، أما الجزء الأخير (6: 8، 7: 38) فيمثل دليلاً للكهنة عن طقس الذبائح والتقدمات[5].

ترتيب الذبائح وإرتباطها معًا:

جاء ترتيب الذبائح والتقدمات عجيبًا فقد بدأ بذبيحة المحرقة وانتهى بذبيحة الإثم الأمر اللائق من جهة نظرة الآب للذبيحة لا نظرة الإنسان. فالمؤمن في لقائه مع الصليب يراه أولاً كذبيحة إثم وذبيحة خطية إذ يرى فيه كلمة الله المتجسد وقد حمل آلامه وإثمه ليرفع غضب الآب عنه، خلال هذه النظرة يتلمس في الصليب ذبيحة سلامة وشكر فيقدم حياته في المسيح يسوع المصلوب حياة شاكرة عوض طبيعته الجاحدة التي دبت فيه خلال السقوط، كما يرى في الصليب تقدمة قربان فيه ينعم بحياة الشركة في المسيح يسوع المصلوب، وأخيرًا يدرك الصليب كذبيحة محرقة إذ يكتشف فيه طاعة الإبن الوحيد للآب حتى الموت موت الصليب مقدمًا هو أيضًا حياته ذبيحة طاعة ومحرقة حب لله في إبنه. هذا هو ترتيب الذبائح والتقدمات خلال إنتفاعنا كمؤمنين، أما الآب فيتطلع إلى الصليب أولاً - إن صح التعبير- كمحرقة طاعة يشتّم فيه رائحة إبنه المحبوب محرقة حب كامل، وينتهي بالنظر إليه كحامل لخطايانا وآثامنا يدفع عنا الدين ويحمل عنا الغضب الإلهي. لسنا بهذا نميز بين جانب أو آخر في نظر الله الآب أو المؤمن إذ هي جوانب متكاملة غير منفصلة قط، لكن ما نود توضيحه أن الصليب يُعلن - في نظر الآب- بأكثر بهاء لا في إنتزاع آثامنا وخطايانا قدر ما في حملنا طبيعة المصلوب فنصير به محرقة طاعة وحب، نصير لهيب نار لا ينقطع بحملنا ما للإبن من طاعة حتى الموت (في 2: 8)، وحب بلا نهاية. لذا يقول الرسول: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت" (في 2: 5-8).

في اختصار يمكننا أن نقول بأن الله الآب يشتّم رائحة المسيح فينا خلال الصليب هكذا:

1. محرقة الحب الكامل والطاعة له في إبنه (ذبيحة المحرقة).

2. شركة الحياة معه في إبنه الوحيد الجنس (تقدمة القربان).

3. حياة السلام الداخلي والشكر الدائم (ذبيحة السلامة).

4. التمتع بالغسل المستمر من خطايانا اليومية العامة وضعفاتنا التي لا تنقطع (ذبيحة الخطية).

5. الخلاص من كل إثم نرتكبه ونعود إليه بالتوبة (ذبيحة الإثم).

الذبائح الدموية والتقدمات الطعامية:

كقاعدة عامة كانت الذبائح تتمركز حول الدم بكونه يمثل نفس الحيوان، وكأن الإنسان وقد فسدت نفسه تمامًا إحتاج إلى نفس بريئة تحمل عنه أجرة إثمه وتفتديه من الموت بعد أن تفيّ عنه الدين. ولم يكن هذا العمل إلاَّ رمزًا لسفك دم السيد المسيح المخلص الذي وحده قادر أن يفدي البشرية ويدفع دينها لدى الآب بالكامل. وقد آمن اليهود بفكرة إفتداء النفس بالنفس، فنذكر بعض عبارات من مفسري اليهود[6]:

* ترتبط نفس كل خليقة بدمها، لذلك قُدم الدم للتكفير عن نفس إنسان، فتحل نفس عوض الأخرى، وتكفِّر عنها (راشي)[7].

* تحل نفس محل الأخرى (إبن عزرا).

* أقدم لك النفس على المذبح، فتكفِّر نفس حيوان عن نفس إنسان (موسى بن ناخمان).

وقد عبّر كثير من اليهود عن شعورهم بعجز دم الحيوان عن الإيفاء بدين الإنسان أمام الله، الأمر الذي لأجله كانت القلوب في العهد القديم متطلعة بشوق إلى مجيء المسيا كمخلِّص حقيقي لهم.

أما الذبائح الدموية فأستُخدم فيها ثلاثة أنواع من الحيوانات ونوعان من الطيور:

1. البقر.                    2. الغنم.                    3. الماعز.                  4. اليمام.                   5. الحمام.

بجانب هذه الذبائح الدموية وجدت التقدمات الطعامية كالدقيق والفطير وسكيب الخمر... إلخ، وكانت هذه التقدمات غير منفصلة عن الذبائح الدموية. ولتأكيد ذلك كانت هذه التقدمات تختلف في كميتها حسب نوع الذبيحة التي تلازمها (عد 15: 1-12، 28: 1-12، 29: 1... إلخ).

الذبائح والكهنوت:

التحم العمل الذبيحي بالكهنوت، فإن كان الإنسان بعد سقوطه احتاج إلى ذبيحة تفديه وتحمل عنه موته، فالحاجة ملحة إلى كاهن يشفع بهذه الذبيحة لدى الله عن الخاطئ. وقد جاء السيد المسيح إلينا بكونه الذبيحة الحقة ليُقدمها بنفسه بكونه الكاهن الأعظم القادر وحده أن يشفع في الخطاة بدمه أمام الآب، إذ هو حيّ جالس على يمينه، يعمل لحسابنا وبإسمنا. وكما قدم السيد لكنيسته حق تقديم جسده المبذول لا كتكرار للذبيحة بل امتداد لها هي بعينها طريقة سرية هكذا وهو الكاهن الأعظم السماوي وهب كنيسته الكهنوت المقدس بكونه العامل في كهنته والمختفي فيهم، فيعملون باسمه ولحسابه وإمكانياته لا بإمكانيتهم البشرية مهما سمت!

هذا وفي العهد القديم نجد للشعب دوره الإيجابي في الذبيحة، ويرى بعض الحاخامات أن للشعب أن يقدموا الذبيحة ويضعوا أيديهم عليها معترفين بخطاياهم أو آثامهم أو معترفين بالشكر لله. بجانب هذا يسمح لهم أحيانًا بذبحها وسلخها وتقطيعها وغسل أحشائها. لكن هناك أعمال كهنوتية لا يستطيع أن يمارسها أحد غير الكاهن مثل صب الدم من الذبيحة ورشه وإشعال المذبح بالنار إلخ.

تنوع الذبائح وغايتها:

للقديس يوحنا الذهبي الفم  تعليق على تنوع الذبائح وغايتها، فمع كثرة أنواعها لا يجد ذبيحة واحدة تقدم ضد عدو بقصد الانتقام، إنما جميعها تهدف لبنيان الإنسان خلال غفران الخطايا، إذ يقول: [تأمل كم من الذبائح وردت في الشريعة: ذبيحة حمد، وذبيحة معرفة، وذبيحة سلامة، وذبائح للتطهيرات، وأنواع أخرى متعددة، ومع ذلك لا نجد ذبيحة واحدة ضد الأعداء، إنما يُقدم الكل بقصد نزع الخطايا وتقدم الإنسان[8]].

وفي القرن الثاني عشر إذ أتُهم المسيحيون برفضهم تقديم ذبائح للآلهة جاء في دفاع الفيلسوف أثيناغوراس: [يليق بنا أن نقدم ذبيحة غير دموية هي خدمة أذهاننا[9]].

<<

 

 

 


 

الأصحاح الأول

ذبيحة المحرقة

يبدأ دليل الذبائح والتقدمات بذبيحة المحرقة بأنواعها الثلاثة إن كانت من البقر أو  الغنم أو الطيور، فتكشف لنا في طقوسها عن ذبيحة الإبن في طاعته الكاملة لأبيه، مقدمًا حياته كلها محرقة حب ملتهبًا، فأشتمه الآب رائحة سرور ورضى باسم الكنيسة ولحسابها. خلال هذه الذبيحة يلتهب قلب المؤمن بالحب الذي له في المسيح يسوع مشتاقًا خلال الإتحاد في المصلوب أن يرتفع معه إلى الصليب كما على مذبح المحرقة ليتقبل نار الآلام المتقدة بسرور، مقدمًا حياته كلها محرقة للرب.

1. مقدمة                            [1].

2. محرقة من البقر                  [2-9].

3. محرقة من الغنم                  [10-13].

4. محرقة من الطير                 [14-17].

1. مقدمة:

أولاً : "ودعا الرب موسى وكلمه من خيمة الإجتماع، قائلاً" [1].

في بداية الخدمة إستدعى الله موسى لإستلام العمل الرعوي خلال العليقة الملتهبة نارًا، وبعد الخروج إستدعاه أيضًا ليتسلم الوصايا العشر من على الجبل حيث لم تستطع الجماعة أن ترتفع إليه وسط البروق والرعود والدخان... وكأن الله أراد أن يؤكد لنا عجزنا عن الإلتقاء معه بكونه النار الآكلة. لقد اشتهى أن يُقدم لنا وصاياه لعلنا نستطيع أن نقترب إليه من خلالها، لكننا في ضعفنا حُسبنا كاسرين للوصية وسقطنا بالأكثر تحت لعنة الناموس، فلا مصالحة إلاَّ خلال الذبيحة والدم. هذا هو سبب استدعاء موسى في هذه المرة إلى الخيمة لا وسط بروق ورعود وظلمة مرهبة، إنما خلال كرسي الرحمة على غطاء تابوت العهد (خر 25: 22). وكأن في هذه المرة يقدم له سر ذبيحة الصليب الذي به نلتقي مع الله كما في خيمة الإجتماع في سكون وهدوء خلال الحب الإلهي الفائق حيث ينزل إلينا كلمة الله حاملاً طبيعتنا، ساحبًا إيانا فيه لننعم بالشركة مع الآب بروحه القدوس في إستحقاقات الدم الثمين.

ثانيًا: كانت ذبيحة المحرقة بحق: "ذبيحة التكريس والخدمة Sacrificum" Latreuticum، فقد صارت مع الزمن جزءًا لا يتجزأ من الخدمة الصباحية والمسائية في الهيكل، كما كانت تُقدم محرقات إضافية في الأعياد كالسبوت والهلال وبقية العياد، وذلك بعد الخدمة. إنها تُمثل ذبيحة العهد التي يُقدمها الشعب الذي دخل مع الله في عهد[10].

ثالثًا: كان لذبيحة المحرقة قدسية خاصة عند اليهود، فهي الذبيحة الوحيدة التي لم يكن يسمح لغير إسرائيل أن يُقدمها[11].

2. محرقة من البقر:

أولاً: يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا لتعبير "محرقة holocaust"، إذ يقول: [ما هي المحرقة؟ إنها تعني الحرق بالنار تمامًا، فإن causis تعني "حرقًا"، "holou" تعني "كلها"، فالمحرقة تعني حرقها بالنار تمامًا توجد بالأكثر نار معينة هي المحبة الحارقة، حيث يلتهب الذهن بالحب، لينطلق من الذهن إلى بقية الأعضاء... فيلتهب الإنسان كلية بنار الحب الإلهي، مقدمين محرقة لله[12]]. بمعنى آخر المحرقة تعني تقديم الإنسان كل حياته الداخلية وتصرفاته الظاهرة كذبيحة حب ملتهبة لحساب الله. في هذا يقول القديس أغسطينوس: [عندما يوضع الحيوان بأكمله على المذبح ويحرق بكامله بالنار يُسمى محرقة. ليت النار الإلهية تصعدنا بالكلية ويلحق بنا ذلك اللهيب بالتمام[13]]. كما يقول: [تُسمى الذبيحة محرقة حينما تحرق بالكامل... لذلك فكل محرقة هي بالحقيقة ذبيحة، لكن ليس كل ذبيحة هي محرقة[14]].

يحثنا القديس يوحنا الذهبي الفم على تقديم حياتنا ذبيحة محرقة للرب بقوله: [مادام الإنسان أسمى من القطيع، فإنك إذ تُقدم نفسك ذبيحة تكون أسمى من تلك الذبائح... توجد ذبائح أخرى هي بالحقيقة محرقات: أجساد الشهداء، إذ يُقدم الشهداء نفوسهم وأجسادهم أيضًا (محرقة للرب)، هذه الذبائح لها رائحة عذبة. تستطع أنت أيضًا إن أردت أن تقدم ذبيحة، فإنه وإن كنت لا تقدر أن تقدم جسدك محرقة بالنار، لكنك تقدمه بنار أخرى كالفقر الأختياري... فإنه كان في وسع إنسان أن يقضي أيامه في ترف وبذخ لكنه يختار الحياة المُرّة الشاقة وإماتة الجسد، أفليست هذه محرقة؟! لتمت (شهوات) جسدك، ولتصلبه، فتتقبل إكليل الإستشهاد. فالشهداء ينالون الإستشهاد بالسيف، أما هنا فتناله بالذهن بالإرادة القادرة[15]].

يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [لنقدم لله كل أعضائنا التي على الأرض (كو 3: 5)، لنكرس جميعها ولا نقدم فقط جزءًا من الكبد (3: 11)، أو اللية مع الشحم، ولا بعض أعضاء جسمنا الآن والآخر في وقت آخر. لنقدم كل أعضاء الجسد، فنحسب ذبيحة محرقة عاقلة (رو 12: 1)، ذبيحة كاملة... نقدمها لله بالكامل فنتسلمها منه بالكامل[16]].

ثانيًا: إذ تعرفنا على مفهوم ذبيحة المحرقة نتحدث عمن تقدم من أجله المحرقة، إذ يقول الرب لموسى: "كلِّم بني إسرائيل، وقل لهم: إذا قرب إنسان منكم" [2]. يرى العلامة أوريجانوس[17] أنه لم يقل "إذا قرّب أحدكم" بل قال إذا قرب إنسان منكم" ليس بدون هدف. يميز هذا السفر بين تقدمة عن إنسان وأخرى عن "نفس" (4: 1)، أو عن الجماعة كلها (4: 13)، أو عن رئيس (4: 22)، أو عن كاهن... إلخ، وأن كلمة "إنسان" جاءت في رأس القائمة ليعلن الوحي الإلهي أن تقدمة المحرقة تُقدم عن الجنس البشري كله بكونه "إنسانًا".

إن كانت ذبيحة المحرقة هي ذبيحة الطاعة الكاملة التي يُقدمها الإبن للآب، إنما يُقدمها عن البشرية كلها كأنها إنسان واحد... إذ يود الآب أن يشتّم في الكل رائحة سرور ورضا.

ثالثًا: التقدمة ذاتها.

"إن كان قربانه من البقر فذكرًا صحيحًا يقربه" [3].

إذا أراد تقديم محرقة من البقر يختار ذكرًا (عجلاً) صحيحًا، أي بلا عيب، وكما يقول القديس أغسطينوس: [حقًا إنه حمل بلا عيب، بلا عيب تمامًا وعلى الدوام[18]].

يعلق العلام أوريجانوس على هذه الذبيحة بقوله: [ما هي محرقة البقر الصحيحة إلاَّ العجل المسمن لدى الآب الذي ذبحه عندما رجع الإبن الذي كان ضالاً، والذي فقد كل خيراته؟! لقد صنع وليمة وكان فرح (لو 15: 23)، إذ قيل: "يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (لو 15: 10). هذا الإنسان الذي كان ضالاً فوجد لم يكن له برّ ذاتي يقدمه إذ "بذّر ما له بعيش مسرف" (لو 15: 13)، فوجد هذا العجل الذي بُعث من السماء لكنه جاء من نسل إبراهيم. لذلك لم يقل الناموس "محرقة من البقر" فحسب كما لو كانت أية بقرة، إنما قال "محرقة من بقر من قطيع" (الترجمة السبعينية) إذ جاء من نسل البطاركة (القطيع)[19]].

لقد حدد أن تكون المحرقة هنا ذكرًا، ويرى العلامة أوريجانوس أن التمييز بين الذكر والأنثى في المفهوم الروحي لا يعني التمييز بين الجنسين الرجال والنساء، إنما يُشير إلى تمييز روحي بين الرجولة الناضجة والجادة وبين أنوثة التدليل والترف. لهذا كثيرًا ما يقول إننا سنجد في يوم الرب نساء كثيرات هنا يحصين كرجال أقوياء في عيني الرب، ورجالاً كثيرين هنا يظهرون في يوم الرب كنساء إذ عاشوا حياتهم في تدليل وتنعم بالملذات الجسدية.

رابعًا: مقدمها.

أ. "يذبح العجل أمام الرب ويقدم بنو هرون الكهنة الدم..." [5].

كان للكهنة في العهد القديم حق تقديم الذبائح دون غيرهم، وقد جاء السيد المسيح في العهد الجديد ليس على رتبة هرون بل على طقس ملكي صادق يقدم ذبيحة الصليب الفائقة... وقد أوضح الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين الفارق بين كهنوت لاوي وكهنوت السيد المسيح، خاصة من ناحيتين: الجانب الأول كان كهنوت لاوي يتسم بالضعف فيحتاج الكهنة أنفسهم إلى تقديم ذبائح عن أنفسهم قبل تقديمهم ذبائح عن الشعب أما السيد المسيح فبلا عيب. يُقدم الذبيحة عن الشعب. الجانب الآخر كان الكهنة يقدمون ذبائح حيوانية دموية، دم ثيران وتيوس عاجزة عن تطهير الضمير الداخلي، أما السيد المسيح فقدم دم نفسه (عب 9: 12)، فالكاهن والذبيحة هما واحد، لذا فذبيحته فعّاله واهبة حياة. كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عظيم هو الفارق! إنه هو الفدية والكاهن والذبيحة! لو كان الأمر غير ذلك لصارت هناك حاجة إلى تقديم ذبائح كثيرة، وكان يُصلب مرارًا كثيرة[20]]. ويقول القديس أغسطينوس: [أنت هو الكاهن، وأنت هو الذبيحة،

أنت المقدم وأنت التقدمة[21]].

مقدم الذبيحة هو كاهننا السيد المسيح، هذا ما أعلنه آباء الكنيسة بوضوح، فمن كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم: [نحن نقوم بدور الخدم، لكنه هو بنفسه الذي يبارك، وهو الذي يحوّل القرابين[22]].

هذا الكاهن الأعظم الذي يعمل في كهنته إنما يقدم لنا ذات ذبيحته الكفارية الواحدة بلا تكرار، إذ يقول: [بينما يُقدم في مواضع كثيرة فهو جسد واحد وليس أجسادًا كثيرة، وهو ذبيحة واحدة. إنه رئيس كهنتنا الذي قدم الذبيحة التي تطهرنا، لكي نقدم الآن أيضًا ما قد قدمه والتي لا تتكرر... إنها ليست ذبيحة أخرى، بل نقدم دائمًا ذات الذبيحة[23]].

خامسًا: طقس التقدمة.

أ. "إلى باب خيمة الإجتماع يقدمه للرضا عنه أمام الرب" [33].

يترجم البعض "للرضا عنه" بمعنى أن مقدم الذبيحة يقدمها برضاه أي بكمال حريته، بكونها تمثل ذبيحة الصليب التي قدمها السيد المسيح برضاه وبكامل حريته فدية عن البشرية. لكن التعبير جاء بالأكثر يعلن عن رغبة مقدم الذبيحة في التمتع برضا الرب عنه، فقد قدمت ذبيحة الصليب ذبيحة سرور للآب ورضا عن كل المؤمنين المتحدين بالمصلوب. على أي الأحوال لكي يتحقق رضا الله عن الإنسان يلزمه أن ينطلق بالتقدمة إلى باب خيمة الإجتماع، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إلى الباب وليس في الداخل، بل خارج المدخل. بالحقيقة كان يسوع خارج الباب إذ "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11). فلم يأت داخل خيمة (الأمة اليهودية) التي جاء من خلالها إلى الباب ليقدم محرقته، بل تألم خارج المحلة (4: 12). عندما جاء إبن صاحب الكرم أخذه الكرامون الأشرار وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه (مت 21: 38). هذه هي إذن التقدمة التي عند "باب خيمة الإجتماع يقدمه للرضا عنه أمام الرب"، إذ هل يوجد من هو مرضي لديه أكثر من المسيح "الذي قدّم نفسه لله بلا عيب" (عب 9: 14)[24]].

لقد ذُبح السيد المسيح على الصليب خارج المحلة حتى ننطلق معه حاملين عاره خارج المحلة (عب 13: 13)، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [صُلب خارجًا كمدين فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا[25]].

ب. "ويضع يده على رأس المحرقة فيرضى عليه للتكفير عنه، ويذبح العجل أمام الرب، ويقرب بنو هرون الكهنة الدم ويرشون الدم مستديرًا على المذبح الذي لدى باب خيمة الإجتماع" [4-5].

يضع الإنسان يده على رأس المحرقة ليصير واحدًا معها، سواء في إعترافه بإحسانات الله عليه عندما يقدم الذبيحة للشكر أو في إعترافه بخطاياه وآثامه كما في ذبيحة الخطية أو ذبيحة الأثم، لتنتقل الخطية إلى الذبيحة فتكفِّر عنه وتوفي دينه. ونحن أيضًا إذ نضع أيدينا على رأس ذبيحتنا رب المجد يسوع نعلن وحدتنا معه، وكما يقول الكتاب أننا "مملؤون فيه" (كو 2: 10)، وأننا "أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه"، "من التصق بالرب فهو روح واحد" (1 كو 6: 17). صرنا معه واحدًا يُقدم حياته محرقة حب بإسمنا ولحسابنا، وذبيحة للتكفير عن خطايانا التي حملها على كتفيه، كقول النبي: "أما الرب فسُرّ بأن يسحقه بالحزن أن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إش 53: 10).

يعلق العلامة أوريجانوس على وضع اليد على رأس المحرقة، قائلاً: [لقد وضع في جسده خطايا الجنس البشري، إذ هو رأس جسد الكنيسة (أف 1: 22-23)[26]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كيف جعل نفسه مصالحًا؟... لقد حمل العقاب الذي علينا، خاضعًا للتأديبات التي نستحقها، متنازلاً إلى ما نحن عليه. أتريد أن تعرف كيف إحتمل هذا كله؟ يقول الرسول: "المسيح إفتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة من أجلنا" (غلا 3: 13)[27]]. فإن كانت لعنة الناموس قد حلت بنا بسبب كسرنا للوصية الإلهية، إنحنى هو ليحمل عنا اللعنة ويرفعنا من اللعنة إلى مركزه المبارك.

أما من جهة طقس وضع الأيدي على رأس الذبيحة عند اليهود، فكان هذا الطقس لا تمارسه النساء ولا الأطفال أو العميان أو الصم أو غير الإسرائيليين[28]. وكان مقدم الذبيحة أو مقدمو الذبيحة يضعون أياديهم بين قرون الذبيحة ووجوههم متجهة نحو الغرب حيث قدس الأقداس ليدركوا قدسية هذا العمل ومهابته، فهو عمل يمس علاقتهم بالرب نفسه. هذا ولم يستقر الرأي عما إذا كان الإنسان يضع يدًا واحدة أم يديه معًا، لكن المستقر أنه يضغط بيده بكل قوته كمن يلقي بأحماله عليها[29]. وحينما يضع يده يقدم هذا الإعتراف (غالبًا في ذبيحتي الخطية والإثم): "أتوسل إليك يا الله فإنني أخطأت وتمردت وعصيت مرتكبًا... (يذكر إسم الخطأ)، لكنني عدت تائبًا، وليكن هذا للتكفير عني"[30].

يقول: "يذبح العجل أمام الرب" [4]، فإنه كان يذبح خارج المحلة لكنه في الحقيقة يذبح أمام الرب، إشارة إلى ذبيحة الصليب التي قدمها الإبن طاعة للآب، فإن كان قد صلب خارج أورشليم الأرضية لكنه "يظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا" (عب 9: 24)، يتقدم كذبيح وهو جالس عن يمين الآب يشفع بدمه للتكفير عنا، وكما يقول الرسول: "إذ هو حيّ، في كل حين ليشفع فيهم" (عب 7: 5).

خلال هذه الشفاعة الكفارية الفريدة فتح لنا طريقًا جديدًا للعبور معه وبه في طريقه، أي طريق الصليب، لندخل إلى حضن أبيه، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ لنا رئيس كهنة هكذا فلنتمثل به ولنسلك على أثر خطوات[31]]. كما يقول القديس أغسطينوس: [إذ هو شفيع لنا يعيننا في التجارب لا بتقديم العون فحسب وإنما بكونه صار مثالاً لنا[32]].

يقول: "ويقرب بنو هرون الدم ويرشون الدم مستديرًا على المذبح الذي لدى باب خيمة الإجتماع" [5].

الدم المقدس هو سر قوة الذبيحة، به نتطهر من كل خطية (1 يو 1: 7)، وكما يقول القديس بولس: "لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحرى يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميته لتخدموا الله الحيّ... كل شيء تقريبًا يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب 9: 14، 22). كما يقول االرسول بطرس: "عالمين أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1 بط 1: 18-19)، وجاء في سفر الرؤيا عن المفديين أنهم "بيّضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 7: 14)، وأنهم غلبوا إبليس بهذا الدم الثمين (رؤ 12: 11).

خلال هذا الدم الثمين الذي به ننال الغلبة (رؤ 12: 11) حُسب الصليب مجدًا ونصرة، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يظهر أن الصليب مجد وكرامة كما كان السيد يدعوه دائمًا "ليتمجد إبن الإنسان" (يو 12: 23). إن كان يدعو آلام عبيده مجدًا فكم بالحرى تكون آلام الرب؟[33]‍].

أما رش الدم على المذبح مستديرًا، فكما نعرف أن الدائرة تُشير إلى الأبدية حيث ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية[34]، وكأن هذا الدم يعمل فينا أبديًا، ينطلق بنا إلى السماء عينها ليدخل بنا إلى حضن الآب السماوي فنحيا فوق حدود الزمن كمن هم في دائرة الأبدية يمارسون الحياة السماوية عينها.

نقتطف هنا بعض عبارات للآباء في فاعلية دم الصليب والحياة المساوية:

v   إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء الذي يعمل في أبناء المعصية (أف 2: 2)، مهيئًا لنا طريق السموات.

v   حين رُفع جسده إلى العلى ظهرت الأمور التي في السماء.

القديس البابا أثناسيوس[35]

v   إنها ذبيحة سماوية أكثر منها أرضية‍!                                       

العلامة أوريجانوس[36]

v   أليس المذبح أيضًا سماويًا؟‍ كيف؟ إنه ليس عليه شيء جسداني بل الكل روحي يصير ذبائح، فالذبيحة لا تتحول إلى رماد ودخان... بل ما عليه هو بهي وسام... الكنيسة سماوية، بل ما هي إلاَّ سماء‍!

v      إن كنا سمائيين وصارت لنا ذبيحة كهذه فلنخف. ليتنا لا نبقى بعد على الأرض، فإنه يمكن لمن يرغب ألا يبقى بعد على الأرض. فإن حسبانك أنك على الأرض أم لا هو أمر يمس حال الإنسان بمحض إختياره. مثال ذلك يُقال عن الله أنه في السماء، لماذا؟ ليس لأنه محدود بمكان. حاشا‍‍! ولا بمعنى أنه ترك الأرض محرومة من حضرته، إنما ليعلن علاقته الوطيدة بملائكته (السمائيين). فماذا يعني أنني في السماء إن كنت أعاين رب السماء، بل وقد صرت أنا نفسي سماءً، إذ يقول "إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). إذن، لتكن نفوسنا سماءً! 

القديس يوحنا ذهبي الفم[37]

ج. تقطيع المحرقة وترتيبها: "ويسلخ المحرقة ويقطعها إلى قطعها، ويجعل بنو هرون الكاهن نارًا على المذبح، ويرتبون الحطب على النار، ويرتب بنو هرون الكهنة القطع مع الرأس والشحم فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح، وأما أحشاؤه وأكارعه فيغسلها بماء، ويوقد الكاهن الجميع على مذبح محرقة وقود رائحة سرور للرب" [6-9].

إن كانت ذبيحة المحرقة تكشف عن طاعة الإبن الكاملة نحو الآب، لذلك فإن سلخها وتقطيعها وغسلها حتى الأعماق في الأحشاء يعلن أن المسيح يسوع ربنا قد جاز أمام الآب فوجده بلا عيب حتى أعماقه الداخلية، فقد قيل عنه: "على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 53: 9)، "أي شر عمل هذا؟! إنيّ لم أجد فيه علة للموت" (لو 23: 22)، كما قال هو بنفسه: "من منكم يبكتني على خطية؟!" (يو 8: 46). لقد قدم الإبن الطاعة الكاملة بلا عيب، كما بنار حبه الإلهي نحو الآب ونحو البشرية فأشتّم الآب ذبيحته رائحة سرور! أما ترتيب الحطب على النار فيرمز لخشبة الصليب التي حملت كلمة الله الناري مصلوبًا حسب الجسد! أما ترتيب الرأس مع بقية الأعضاء فيُشير إلى أن الصليب وهو صليب السيد المسيح رأس الكنيسة إنما يحمل الكنيسة أيضًا بكونها جسده المتألم، تشاركه طاعته للآب وحبه!

يقدم لنا العلامة أوريجانوس تفسيرًا آخر، فيرى في سلخ المحرقة أي إنتزاع الجلد عن اللحم رمزًا لانتزاع الحرف عن تفسير كلمة الله لكي يظهر التفسير الروحي الداخلي العميق، أما تقطيع الأعضاء وترتيبها على المذبح فيُشير إلى الإنطلاق من لمس هدب ثوب السيد المسيح (مت 9: 20) إلى التمتع بغسل قدميه بدموعنا ومسحهما بشعر رأسنا (لو 7: 44)، ثم إلى دهن قدميه بالطيب، وأخيرًا الإتكاء على صدره كما فعل القديس يوحنا الحبيب فيستريح فكرنا ونتأهل لإدراك أسراره الإلهية ونُحسب أهلاً أن نتقبل أمه أمًا لنا كما تمتع القديس يوحنا في لحظات الصلب. بمعنى آخر يرى العلامة أوريجانوس في طقس ذبيحة المحرقة النمو المستمر في الحياة الروحية والإنطلاق من شرب اللبن الخاص بالأطفال أو بالضعفاء (لمس هدب الثوب) إلى التمتع بالطعام القوي الذي للبالغين (الإتكاء على صدره). فمن كلماته في هذا الشأن: [أظن أن الكاهن الذي يخرج اللحم الذي للعجل المقدم محرقة بسلخ جلده إنما هو ذاك الذي يرفع الحرف عن كلمة الله (2 كو 3: 4)، معرّيًا الأعضاء الداخلية أي يصير له الإدراك الروحي والعلم الداخلي الخاص بالكلمة. يتحقق هذا على المذبح، في مكان عالٍ ومقدس وليس في مكان سفلي. فالأسرار الإلهية غالبًا ما لا يكشف غطاؤها لأناس غير متأهلين يسلكون في السفليات والأرضيات وينطلقون من الأرض إلى الأرض، إنما يكشف الغطاء لمن يحسبون كمذبح للرب، الذين يشعلون النار الإلهية بلا توقف، ويميتون (شهوات) الجسد بلا إنقطاع. على مثل هؤلاء نضع عجل المحرقة ونقطع أعضاءه قطعًا، فنشرح التدبير والتوافق بين الأعضاء كلمس هدب ثوب المسيح، وغسل قدميه بالدموع ومسحهما بشعر الرأس، أما ما هو أفضل فهو دهن قدميه بالطيب. وأعظم من هذا الإتكاء على صدر المسيح (يو 13: 25، 21: 20). أي تقدم هذا، إذ يتمتع كل واحد منا بالفهم الروحي حسب قامته وبما يناسبه، فيتمتع البعض بالأمور البدائية وآخرون يتقدمون أكثر في الإيمان بالمسيح، وآخرون يحسبون كاملين في معرفته ومحبته... هذا هو تقطيع العجل عضوًا عضوًا[38]].

ليتنا إذن خلال محرقة الحب نتقبل المسيح نفسه فننعم بالكشف عن أسرار كلمته، فإن لم نستطع أن نتكئ على صدره بدالة لنحمل كل أسراره، فلندهن قدميه بالطيب ليكون لنا نصيب من بعض أسرار محبته، وإن لم يكن لدينا طيب فلنغسلهما بدموعنا ونمسحهما بشعر رأسنا، وإلاَّ فلنتحفز لنلمس ولو هدب ثوبه فنبرأ من نزف دم الحرفية والناموسية والشكلية!   

د. الغسل بالماء: "وأما أحشاؤه وأكارعه فيغسلهما بماء" [9].

إن كانت هذه الذبيحة تُشير إلى ذبيحة السيد المسيح الذي قدم حياته محرقة لحسابنا، فهي أيضًا ذبيحتنا بأتحادنا فيه، لهذا يرى العلامة أوريجانوس وكثير من الآباء في غسلها بالماء حتى الأحشاء الداخلية إشارة إلى عمل المعمودية، إذ بها تغتسل طبيعتنا الداخلية خلال دم الذبيحة والماء وتتجدد بصلب الإنسان القديم والتمتع بالإنسان الجديد.

في هذه الذبيحة يلتحم الدم مع الماء، الصليب مع مياه المعمودية لننال الإنسان الجديد الذي على صورة السيد المسيح، ولهذا فاض من جنب السيد دم وماء عند صلبه (يو 19: 34). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [فاض هذا لا عن محض مصادفة ولا بلا هدف وإنما لأن بهما تقوم الكنيسة. يعرف المعمدون ذلك، فبالماء يتحقق التجديد، وبالدم والجسد يقتاتون[39]]. كما يقول: [يشير الدم والماء إلى نفس الشيء، لأن المعمودية هي آلامه[40]]. وأيضًا يقول: [عندما نغطس برؤوسنا في الماء يُدفن الإنسان القديم كما في قبر سفلي، يغطس بكليته تمامًا. وإذ نقوم ثانية يقوم الإنسان الجديد عوضًا عنه. كما يسهل علينا أن نغطس برؤوسنا ونقيمها مرة ثانية، هكذا يسهل على الله أن يدفن الإنسان القديم ويظهر الجديد. هذا يتحقق ثلاث مرات لنتعلم أن قوة الآب والإبن والروح القدس تتحقق في هذا كله[41]].

هـ. حرقها بالكامل: "ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقة وقود رائحة سرور للرب" [9].

كما ارتبط الماء بالدم علامة ارتباط المعمودية بالصليب ارتبط أيضًا الماء بالنار علامة ارتباط المعمودية بالروح القدس النار والذي يهبنا التبني لله الآب في استحقاقات الصليب.

هذه النار التي تلتهم الذبيحة هي نار الروح القدس الذي به نقدم ذبيحة الأفخارستيا، أي ذبيحة السيد المسيح لا ليلتهم الذبيحة بل ليحرق كل شر فينا مثبتًا إيانا في المسيح الذبيح. يتحدث القديس أمبرسيوس عن هذه النار، قائلاً: [لقد أُخفيت هذه النار في أيام السبي حيث ملكت الخطية، وأُظهرت ثانية في أيام الحرية[42]]. وكأننا لم ننعم بهذه النار حين كنا تحت السبي لكن إذ حررنا الصليب من سبي الخطية وتمتعنا بالحرية الروحية إنطلقت نار الروح القدس فينا من جديد!

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن فاعلية هذه النار السماوية، قائلاً: [لنبسط

أذهاننا نحو السماء، ولنتمسك بهذه الرغبة ملتحفين بالنار الروحية ومتمنطقين بلهيبها. ليس إنسان يحمل لهيبًا ويخاف ممن يلتقي به، سواء كان وحشًا أم إنسانًا أم فخاخًا بلا عدد، فإنه إذ يتسلح بالنار (الروحية) لا يقف في طريقه أحد بل يتراجع الكل قدامه، لأن اللهيب لا يُحتمل والنار تبدد كل شيء. إذن، لنطلب هذه النار مقدمين المجد لربنا يسوع المسيح مع أبيه والروح القدس[43]].

سادسًا: فاعلية المحرقة:

في المحرقة نتطلع إلى المصلوب لا كحامل خطايانا بل بكونه الإبن الذي أطاع الآب حتى الموت، مقدمًا حياته المبذوله موضع سرور للآب، لذا نسمع العبارة: "محرقة وقود رائحة سرور للرب" [9].

سابعًا: التفسير الرمزي:

نختم حديثنا عن ذبيحة المحرقة التي من البقر باقتطاف بعض العبارات للعلامة أوريجانوس في تفسيره الرمزي لها، إذ يقول:

 [أنت أيضًا لك عجل يجب أن تقدمه. هذا العجل الجموح هو جسدك، إن أردت أن تقدمه للرب تقدمة فاحفظه زاهدًا ونقيًا، قده إلى باب خيمة الإجتماع حيث تستطيع أن تسمع قراءة الكتب المقدسة هناك. لتكن تقدمتك ذكرًا... فلا يكون فيها شيء من التدليل أو عدم الحزم. ضع يدك على المحرقة حتى تكون رضا للرب، واذبحها قدام الرب، بمعنى أن تضع ضوابط للعفة ولا تترك قمع الجسد، بل كن كذاك الذي وضع يده على جسده حين قال: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27). إذبحه أمام الرب ولا تتردد في إماتة أعضائك (كو 3: 5)... ليكن في داخلك كاهن وأبناؤه، أي الروح الذي فيك وحواسه، إذ خلالهم يكون فهم للرب وإدراك للعلم الإلهي. إذن لتقدم جسدك للرب بالزهد لكن مع فهم روحي، كقول الرسول: "ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1)... إذ يقدم البعض أجسادهم محرقة لكن كما بغير كاهن، أي بغير ملء المعرفة... هؤلاء يخزون إذ يطلبون المجد البشري (في زهدهم) أو يتدنسون بشهوة الطمع أو بإرتكاب خطأ الحسد أو الحقد أو يضطربون بهياج الكراهية أو قساوة الغضب. هؤلاء يمارسون زهد الجسد لكنهم يقدمون محرقة بلا كاهن، أي بلا فهم ولا إدراك، فيحسبون من الخمس عذارى الجاهلات اللواتي كن بالحقيقة زاهدات في الجسد كعذارى لكنهم لا يعرفن كيف يضعن زيتًا في آنيتهن: أي زيت المحبة والسلام مع بقية الفضائل. لهذا طُردن من حجال العريس (مت 25)... أما نحن فيليق بنا مع زهد الجسد أن نكون أنقياء الروح... فنتأهل للتشبه بالمسيح الذبيح[44]].

3. محرقة من الغنم:

إذ لم يكن الإنسان قادرًا على تقديم عجل صحيح فليقدم من الغنم ضأنًا أو ماعزًا... غير أن طقس المحرقة لا يختلف كثيرًا عن الطقس السابق، بل يكاد يكون مطابقًا له يحمل ذات المفاهيم.

4. محرقة من الطير:

من لا يستطيع أن يقدم عجلاً أو ضأنًا أو ماعزًا فليقدم يمامتين أو فرخي حمام، الأمر الذي يسهل على الفقراء تقدمته، إذ كان الغالبية العظمى- حتى الفقراء- يربون طيورًا في بيوتهم.

الله لا تهمه قيمة التقدمة ماديًا لكنه يطلب القلب، يريدنا ألا نظهر فارغين أمامه. لنقدم له القليل ولو كان فلسين كالأرملة، إذ هو يطلب ثمر القلب لا العطية. وكما كتب القديس بولس الحامل لروح سيده: "ليس إنيّ أطلب العطية بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم" (في 4: 17).

في الطيور لا يقبل الله إلاَّ تقدمة اليمام والحمام. يرى القديس أكليمندس الإسكندري أن اليمام يُشير إلى الخوف من الخطية، وصغار الحمام إلى الوداعة وعدم الأذية[45]. ويرى العلامة أوريجانوس أن بعضًا من اليمام لا يقبل الذكر إلاَّ أنثى واحدة لا يقترب إلى غيرها حتى إن ماتت، لذا فهو رمز للطهارة. أما الحمام فيُشير إلى الكنيسة الحمامة الحسنة الحاملة لروح الله القدوس الذي ظهر في شكل حمامة عند عماد السيد المسيح، كما يُشير الحمام إلى حياة البساطة. وكأن هذه التقدمة إنما هي تقدمة الكنيسة التي تظهر كفقيرة في هذا العالم لا تملك إلاَّ اليمام والحمام، لكنها غنية بطهارتها وبساطة قلبها خلال عمل الروح القدس فيها.

<<


 

الأصحاح الثاني

تقدمة القربان

إن كانت ذبيحة المحرقة تقدم رائحة السيد المسيح المصلوب في طاعته الكاملة للآب، فإن تقدمة القربان بكل أنواعه تكشف عن جانب آخر من جوانب عمل السيد المسيح الخلاصي، وهو أنه فيما تقدم الكنيسة ذبيحة المسيح للآب للرضا عنها يقدمه الآب للكنيسة كسرّ حياتها الجديدة وموضوع شبعها، الآب يفرح بطاعة الإبن الوحيد الجنس والكنيسة تفرح بإبن الله المتجسد الذبيح كواهب حياة أبدية ومشبع حياتها.

هذا وقد إرتبطت التقدمات الطعامية بالذبائح الدموية لتأكيد الحاجة إلى دم الفادي للخلاص.

1. تقدمة من الدقيق                           [1-3].

2. تقدمة من المخبوز في تنور                [4].

3. تقدمة من المخبوز على صاج              [5-6].

4. تقدمة من طاجن                            [7-10].

5. تقدمة من الباكورات من الفريك            [14-16].

1. تقدمة من الدقيق:

"وإذا قرب أحد قربان تقدمة للرب يكون قربانه من دقيق، ويسكب عليه زيتًا ويجعل عليه لبانًا" [1].

يعلق العلامة أوريجانوس على كلمة "أحد" إذ جاءت في اليونانية "نفس". فيرى أن ذبيحة المحرقة هي ذبيحة الإنسان الروحي الذي يقدم ذبيحته على مذبح الرب فتتقبلها النار المقدسة بكاملها، أما الإنسان "النفساني" الذي قيل عنه هنا "إذا قربت نفسي"، وهو إنسان ليس بروحي ولا في نفس الوقت بجسداني، لا يمتص قلبه بالروحيات ولا يميل بجسده للرجاسات لكنه إنسان منهمك في المشاغل اليومية التي تلهيه عن أبديته. هذا هو الإنسان النفسي أو الطبيعي الذي يقول عنه الرسول: "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأن عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه إنما يُحكم فيه روحيًا، أما الروحي فيحكم في كل شيء" (1 كو 14: 15). مثل هذا إذ يقدم تقدمة قربان للرب من الدقيق ومن خبز الفطير، أي يقدم حياته اليومية العادية يحتاج إلى زيت المراحم الإلهية لتسحبه من إرتباكات الحياة[46].

كأن العلامة أوريجانوس يود أن يقول إن كنت عاجزًا عن أن تقدم كل حياتك مكرسة للرب كمحرقة فقدم عملك اليومي مقدسًا له كقربان دقيق أو فطير صارخًا لله أن يسكب فيك زيت رحمته بلا إنقطاع حتى لا يلهيك العالم عن أبديتك.

ويقدم كثير من الآباء تفسيرًا آخر للتقدمة، إذ يرون فيها "حياة السيد المسيح" كعطية الآب لنا، فيه ننعم بالشركة مع الآب ونتمتع بالسلام الفائق، خاصة وأن كلمة "قربان" في العبرية تعني "منحة" أو "هبة" أو "هدية". فالسيد المسيح هو عطية الآب لنا، وحياته فينا هي عطيته المجانية. وقد جاء طقس التقدمة يكشف عن هذا المفهوم بوضوح، والذي يمكن إبرازه في النقاط التالية:

أولاً: يقدم الإنسان دقيق قمح فاخر للكهنة بني هرون بأسم الرب، فيأخذ الكاهن مقدار قبضة يده ليقدمه مع زيت وكل اللبان على النار، فيتقبل الله هذا القليل الذي هو ملء القبضة "وقود رائحة سرور للرب" [2] كتذكار من الشعب لله على إحساناته. أما بقية التقدمة من دقيق وزيت فمن نصيب الكهنة: "لهرون وبنيه، قدس أقداس من وقائد الرب"[3].

إن كان الدقيق الفاخر يُشير إلى السيد المسيح "خبز الحياة" (يو 6: 35)، فإن الكاهن إذ يأخذ ملء قبضة يده ليقدمه مع زيت وكل اللبان إنما يمثل الكنيسة التي ليس لها ما تقدمه للآب عطية من جانبها سوى ذاك الذي نزل إلينا وصار كواحد منا، كمن في يد الكنيسة وليس كغريب عنها. إنها تجد فيه تقدمة للآب فتحمله إليه لتتقبل منه رضاه ومسرته. "المسيح المصلوب" هو ذبيحة الكنيسة وتقدمتها خلاله تقدم عبادتها من تسابيح وطلبات وصلوات ومطانيات وأصوام... وبدونه لا تقدر أن تبسط يديها لتتعبد[47]. وفيما هي تقدم هذه التقدمة الفريدة إذا بها تتقبل السيد المسيح نفسه في حياتها "قدس أقداس"، تتناول جسده ودمه المبذولين كسرّ حياتها وشعبها الروحي. إن ربنا يسوع المسيح كوسيط عنا بدمه أرسله الآب إلينا ليقدم حياته بإسمنا وفي نفس الوقت نقبله في حياتنا عطية إلهية تشبع الأعماق!

ثانيًا: إن كان مسيحنا القدوس قد صار خبزًا ليشبع نفوسنا به، فإن سكب الزيت عليه [1] يُشير إلى مسحه بروحه القدوس أزليًا كمسيح الرب الذي كرس عمله لخلاصنا، ليقوم بدوره كرئيس كهنة أعظم سماوي يشفع بدمه عنا لغفران خطايانا.

v   إسم "المسيح" مشتق من "المسحة"... بأي زيت مُسح إلاَّ بزيت روحي؟! فالزيت المنظور هو علامة، أما غير المنظور فهو السرّ، وهو داخلي.

مُسح الله لأجلنا وأرسل، فصار إنسانًا مع بقائه هو الله.

القديس أغسطينوس[48]

v   لم يُمسح المسيح بزيت بل بالروح. يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة لدعوة البعض مسحاء، لكن الموضوع الرئيسي هو المسح بالروح، وقد استخدم الزيت (كرمز) من أجله.

القديس يوحنا الذهبي الفم[49]

v   دُعى هرون مسيحًا بسبب المسيحة، التي لما إستخدمت روحيًا صارت تناسب إسم الرب الممسوح بالروح بواسطة الآب، وكما هو مكتوب في سفر الأعمال: "لأنه بالحقيقة إجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته" (أع 4: 27). وهكذا بالنسبة لنا يُمسح الجسد لكن النفع الروحي، وذلك كما في المعمودية نفسها حيث يغطس الجسد في الماء لكن فاعليتها روحية حيث نتحرر من الخطايا.

العلامة ترتليان[50]

ثالثًا: إن كان مسيحنا القدوس يُقدم لنا خبزًا سماويًا يشبع النفوس قد مسحه الآب لخلاصنا وشبعنا بروحه القدوس، فإننا نحن أيضًا إذ نتحد به نصير أشبه بخبز تقدمه للرب، ننعم في إستحقاقات دمه بالمسحة المقدسة، مسحة روحه القدوس الذي يسكن فينا ويقدسنا ويكرس قلبنا وكل طاقتنا لحساب مملكته السماوية، فنحسب قطيع المسيح وجنده الروحيين الحاملين سمته فينا وعلى جباهنا... لا نخاف الخطية ولا نرهب إبليس الذي يحطمه ربنا تحت أقدامنا.

v     العلامة التي تتسمون بها الآن هي علامة إنكم قد صرتم قطيع المسيح.

الآب ثيؤدور المصيصي[51]

v     كما يطبع الختم على الجند هكذا يطبع الروح القدس على المؤمنين.

القديس يوحنا الذهبي الفم[52]

إذ قدم السيد المسيح نفسه على الصليب محرقة حب وتمجّد وهبنا إمكانية سكب هذا الزيت علينا كعطية مجانية يقدمها لكنيسته من عند الآب، إذ قال لتلاميذه "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد ليّ" (يو 15: 26). هذا الزيت الجديد الذي وهبه السيد المسيح لعروسه من عند الآب بعد صعوده هو السند لها في غربتها على الأرض، به تُغفر الخطايا في إستحقاقات الدم، وبه يتقوى المؤمنون في جهادهم الروحي ضد الخطية... وكما يقول القديس أمبرسيوس: [للكنيسة زيت به تضمد جراحات أبنائها لئلا تتعمق أكثر. للكنيسة الزيت الذي تتقبله سرًا! بهذا الزيت غسل أشير قدميه، إذ قيل: "مبارك من البنين أشير، ليكون مقبولاً من إخوته، ويغمس في الزيت رجله" (تث 33: 24). به تدهن الكنيسة عنق أبنائها فيحملون نير المسيح، وبه تدهن الشهداء لتنقيهم من تراب هذا العالم. به تدهن المعترفين أيضًا فلا ينهاروا من الآلام ولا يسقطوا تحت القلق ولا تؤذيهم حرارة هذا العالم. إنها تدهنهم بالزيت السماوي! أما المجمع اليهودي فليس له هذا الزيت، إذ ليس له زيتون، ولا يفهم الحمامة التي رجعت بعد الطوفان تحمل غصن الزيتون (تك 8: 11)، إذ نزلت هذه الحمامة بعد ذلك عندما اعتمد المسيح واستقرّت عليه، كما شهد بذلك يوحنا في الإنجيل، قائلاً: "إنيّ قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرت عليه" (يو 1: 32). كيف يرى الحمامة من لا يرى ذاك الذي نزلت عليه الحمامة؟![53]]:

بهذا الزيت الذي أعطى للكنيسة يلين قلب المؤمن ليحمل لطفًا ومحبة وعوض القساوة، بهذا اللطف تقبل تقدماته وعطاياه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن الإنسان الذي لا يسلك بالروح القدس: [كما أن الحجر لا يخرج زيتًا، هكذا لا تنتج القساوة لطفًا، فإن كان للعطاء جذر قساوة كهذه فلا يُحسب عطاءً[54]]. مرة أخرى يتحدث عن فاعلية هذا الزيت الذي بدونه تفقد مصابيحنا الداخلية قيمتها وبهاءها، فيقول: [لنسكب في هذه المصابيح زيتًا حتى يصير اللهيب أكثر بهاءً ويظهر نورًا عظيمًا. فإن هذا الزيت لا يحمل قوة عظيمة هنا فحسب وإنما حتى عندما ترتفع به الذبائح تصير مقبولة، إذ قيل: "أريد رحمة لا ذبيحة" (مت 12: 7، هو 6: 6) [55]].

إن كان الروح القدس هو الزيت الروحي الذي به تلين قلوبنا عن قسوتها وتمتلئ حبًا، وبه تلتهب مصابيحنا الداخلية بالنور الإلهي فتصير تقدماتنا وذبائحنا مقبولة لدى الله، فإن الخطاة أيضًا لهم زيتهم الذي يسكبونه لخداع البسطاء، يحمل روح إبليس المخادع المتملق، لذا يقول المرتل: "زيت الخاطئ لا يدهن رأسي" (مز 141). ويعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة بقوله: [لا تنمو رأسي بالتملق، فإن المديح في غير محله هو تملق، إنه زيت الخاطئ!... ليكن لكم زيت في داخلكم فلا تطلبون زيت الخاطئ[56]]. بمعنى آخر لتمتلئ مصابيحنا بزيت الروح القدس الذي نلناه في مسحة الميرون فلا نشتهي زيت الشر المخادع!

رابعًا: عند التقدمة يقدم الكاهن كل اللبان [2]، فإن كان يتقبل مع إخوته الكهنة الدقيق والزيت المتبقيان لكنه يلتزم بتقديم كل اللبان. فإن كان ترك الدقيق والزيت يُشير إلى تمتعنا بجسد الرب خبز الحياة ومسحة الروح القدس، فاللبان هو يشير إلى الصلاة (مز 141: 2) والعبادة، فلا يجوز لنا أن نبقي لأنفسنا شيئًا، إذ نقدم كل عبادة لله وحده خلال المذبح!

خامسًا: بقوله "قدس أقداس من وقائد الرب" [3]، يعني أنها كاملة القداسة، لا يأكلها سوى الكهنة وحدهم فهي من نصيبهم دون نساءهم، يأكلونها في دار خيمة الإجتماع وهم مقدسون... لا يمسها أحد أو شيء غير مقدس!

إن كانت التقدمة تُشير إلى جسد ربنا يسوع المسيح، خبز الحياة، فلا يجوز أن يتناوله إلاَّ من نال الكهنوت العام خلال المعمودية (سبق لنا الحديث عن الكهنوت العام الذي يشترك فيه كل المؤمنين والكهنوت الخاص بسرّ الكهنوت لممارسة الأسرار الكنسية). لا يأكله إلاَّ الذكور أي المجاهدين غير المدللين، يأكلونه وهم مقدسون بالرب خلال التوبة والإعتراف، يأكلونه في الخيمة المقدسة أي خلال كنيسة الله المقدسة.

حينما يقال عن الأنصبة أنها "قدس" فقط وليس "قدس أقداس"، تكون من نصيب الكهنة وعائلاتهم، ولا يشترط أن تؤكل في دار خيمة الإجتماع، وذلك كباكورات الزيت والخمر وأنصبتهم من ذبائح عيد الفصح ومن ذبائح السلامة في الأعياد وغيرها (لا 23: 20، عد 6: 20).

2. تقدمة من المخبوز في تنور:

النوع الثاني من التقدمات هو الفطير سواء كان مخبوزًا في تنور (فرن) على شكل أقراص ملتوتة (معجونة) بالزيت، أو بكونه رقاقًا مدهونًا بالزيت... ويشترط فيهما ألاَّ يُستخدم الخمير.

في التقدمة السابقة كان الزيت يُسكب على الدقيق إشارة إلى المسحة المقدسة بالنسبة للسيد المسيح الممسوح أزليًا بروحه القدوس، أما بالنسبة لنا ففيه صار لنا حق المسحة بالميرون كأعضاء جسده المقدس نحمل روحه فينا. أما في هذه التقدمة فالزيت يعجن به الفطير أو يدهن به الرقاق. العجن بالزيت يُشير إلى عمل الروح القدس في التجسد الإلهي، إذ قيل لها: "الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تظللك" ودهنه بالزيت يُشير إلى أنه ممسوح لخلاصنا... أما دخوله التنور فيُشير إلى إحتماله نار الآلام من أجلنا.

3. تقدمة من المخبوز على الصاج:

النوع الثالث من التقدمة هو أيضًا فطير مخبوز لا في فرن وإنما على صاج أي على لوح من الحديد أو النحاس... وكانت التقدمة تفتت ويُسكب عليها زيت.

4. تقدمة من الطاجن:

هذه التقدمة من الدقيق المطبوخ في طاجن أي في إناء فخاري ربما يُشير إلى السيد المسيح الذي تأنس في أحشاء البتول بكونها الإناء الفخاري الذي تقدس ليتحقق فيها تجسد كلمة الله (الدقيق الفاخر) بالروح القدس (الزيت).

وقد اشترط في هذه التقدمات جميعًا ألا يستخدم الخمير والعسل مادامت توقد على المذبح، وإنما يستخدم الملح، ويعلل ذلك للأسباب الآتية:

أولاً: كثيرًا ما يُشير الخمير إلى الشر الذي يؤثر على الآخرين كخمير وسط العجين، ولما كان السيد المسيح ليس فيه عيب إنما حمل شرورنا نحن وخطايانا لهذا ففي سرّ الأفخارستيا يُستخدم الخبز المختمر الذي يدخل النار إشاره إليه كحامل خطايانا خلال نار صليبه.

ثانيًا: يرمز العسل إلى الملذات الزمنية، فلا ننعم بالشركة مع الله في إبنه الذبيح مادمنا نحيا في ملذات العالم بروح التدليل. وكما يعلق القديس جيروم على عدم تقديم العسل إذ يقول: [لا يُسر الله بالأمور اللذيذة والحلوة، إنما يطلب أن يكون الإنسان جادًا يعمل بتعقل، إذ يليق أن يؤكل الفصح على أعشاب مرة (خر 12: 8) [57]].

ثالثًا: يستخدم الملح في حفظ الطعام من الفساد، وكأن الله إذ يرفض الخمير والعسل بينما يطلب الملح يود ألا تتعرض تقدماتنا للفساد خلال الإختمار بالخميرة أو العسل إنما تحفظ بالملح من الفساد. هذا الحفظ يُشير إلى حفظنا العهد مع الله بلا فساد. ولعله لهذا السبب إعتاد الناس في الشرق عند إقامتهم العهد أن يأكلوا ملحًا مع الطعام إشارة إلى حفظ عهد المحبة ثابتًا. وقد شُبه المؤمنون بالملح أيضًا[58].

يتحدث القديس جيروم عن استخدام الملح في الذبائح فيقول: [الملح جيد لذا يجب أن تُرش كل تقدمة به، كما يقول الرسول الوصية: "ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحًا بملح" (كو 4: 6)، ولكن "إن فسد الملح يطرح خارجًا" (مت 5: 13)، فيفقد قيمته تمامًا ولا يصلح حتى لمزبلة، بينما يجلب المؤمنون سمادًا يغني تربة نفوسهم القاحلة[59]].

5. تقدمة الباكورات من الفريك:

"وإن قربت تقدمة باكورات للرب ففريكًا مشويًا بالنار، جريشًا سويقًا (ناعمًا) تقرب تقدمة باكوراتك، وتجعل عليها لبانًا. إنها تقدمة!" [14-15].

يربط العلامة أوريجانوس بين هذه التقدمة ويوم الخمسين أي عيد العنصرة، إذ كانت الباكورات تقدم حسب الناموس في عيد الحصاد أو يوم الخمسين (خر 23: 16، تث 16: 9)، إذ يقول: [نال اليهود الظل في ذلك اليوم (عب 10: 1) أما الحق فحفظ لنا. لأنه في يوم الخمسين بعد تقدمة الصلوات نالت كنيسة الرسل الباكورات من الروح القدس بحلوله عليها (أع 2: 4). كانت بالحقيقة تقدمات جديدة، إذ كان كل شيء جديدًا... كان الرسل ملتهبين بالنار، لأن ألسنة من نار كانت منقسمة على كل واحد منهم (أع 2: 3) منقسمة في الوسط لتفصل الحرف عن الروح. لقد قيل هنا "مشويًا بالنار" أي نقيًا للغاية، لأن حضور الروح القدس ينقي من الأدناس بمنح غفران الخطايا. على هذه الذبيحة يسكب زيت المغفرة ويوضع عليها اللبان ذو الرائحة الجميلة لنصير به "رائحة المسيح الذكية" (2 كو 2: 15) [60]].

في ختام حديثنا عن تقدمة القربان ككل نود أن نؤكد أن نصيبًا منها دائمًا كان يقدم على المذبح ليحرق فيختلط بدم الذبائح المقدمة بلا انقطاع، فلا تحرم التقدمة من فاعلية الدم المقدس لغفران الخطايا.

<<

الأصحاح الثالث

ذبيحة السلامة

في ذبيحة المحرقة يشتم الله في كنيسته الملتهبة بنار المحبة رائحة سرور خلال الذبيح رأسنا يسوع المسيح الذي قدم حياته كلها محرقة طاعى للآب، وفي تقدمة القربان تفرح الكنيسة بعريسها المصلوب كمصدر شبع روحي لها، أما في ذبيحة السلام فيفرح الآب مع الكنيسة بكل فئاتها من كهنة وشعب خلال الشركة معًا. الآب يعلن رضاه خلال الذبيحة، والكنيسة تعلن فرحها وشكرها. لهذا تتسم هذه الذبيحة بتقديم جزء على المذبح بينما يوزع الباقي على الكهنة ومقدمي الذبيحة والمدعوين.

1. مقدمة في ذبيحة السلامة

2. ذبيحة سلامة من البقر            [1-5].

3. ذبيحة سلامة من الغنم            [6-11].

4. ذبيحة سلامة من الماعز         [12-17].

1. مقدمة في ذبيحة سلامة:

أولاً: لاحظ العلامة أوريجانوس في ذبيحة السلامة ألا تقدم من الطيور كما في ذبيحة المحرقة، ولا من الدقيق أو الفطير كما في تقديم القربان، وإنما يلزم [تُقدم تقدمة كبيرة وكاملة، وفي هذا يقول الرسول: "وأما الطعام القوي فللبالغين" (عب 5: 14) [61]]. فإن كانت المحرقة هي تقدمة الإنسان الروحي، وتقدمة القربان هي تقدمة الإنسان النفساني، فإن ذبيحة السلامة في رأي العلامة أوريجانوس هي تقدمة الإنسان الناضج روحيًا أو الكامل الذي ينعم بسلام الله الكامل في حياته الداخلية وفي علاقته الداخلية، بكونها فيض سلام وشكر ينبع خلال السيد المسيح نفسه واهب السلام.

أما مصدر السلام فهو السيد المسيح الذي بدمه صالحنا مع الآب فرد لنا سلامنا مع الآب وسلامنا مع أنفسنا كما مع أخوتنا، السلام الذي فقدناه بسبب الخطية. ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح ليس فقط مصدر السلام بل هو بعينه سلامنا الحقيقي. في هذا يقول: [السلام هو المسيح "لأنه هو سلامنا الذي جعل الإثنين واحدًا ونقض حائط السياج المتوسط" (أف 2: 14)... المسيح إبن الله هو السلام. جاء لكي يجمع من له ويفصلهم عن الشر[62]].

ثانيًا: ذبيحة السلامة هي أكثر الذبائح تعبيرًا عن الفرح الداخلي وحياة الشكر، لذا كانت تسمى "تقدمة الكمال"، تُقدمها الجماعة أو أحد أعضائها إختياريًا في بعض المناسبات المفرحة كذبيحة شكر لله على رعايته ومحبته. وقد إعتادت العشائر أن تختار يومًا أو أيامًا في السنة لتقديمها بإسمها (1 صم 20: 6). وتقدم هذه الذبيحة أيضًا إلزاميًا كذبيحة الملء التي كانت تُقدم في سيامة الكهنة (خر 29: 19-28، لا 8: 22-32)، وذبيحة السلامة التي تقدم في عيد الخمسين (23: 19-20).

ثالثًا: الأفخارستيا هي ذبيحة السلام والشكر التي تقدمها كنيسة العهد الجديد، إذ كلمة "أفخارستيا" في اليونانية تعني "الشكر". ففي ليتورجيا القداس الإلهي إذ نتمتع بجسد الرب ودمه المبذولين ننعم بالثبوت فيه لننال طبيعة الشكر الداخلية، فلا يكون شكرنا مجرد عبارات خلال التسبيح والصلوات وإنما طبيعة داخلية تمس أعماقنا الداخلية بكليتها.

هذا ولقد اعتاد آباؤنا الأساقفة حتى اليوم عند بلوغهم أية مدينة، قبل دخولهم أي موضع يقدمون "صلاة الشكر" ذبيحة سلامة من أجل رعاية الله لهم في الطريق.

2. ذبيحة سلامة من البقر:

إذ ندقق في ذبيحة السلامة ونمنعن النظر فيها نتحقق من جوانب رائعة لذبيحة المسيح غير التي كشفتها ذبيحة المحرقة، والآن إذ نترك الجوانب المشتركة التي سبق ليّ تفسيرها في الأصحاح الأول أكتفى هنا ببعض الجوانب الأخرى، وهي:

أولاً: يُشترط في ذبيحة المحرقة أن تكون ذكرًا صحيحًا، أما في ذبيحة السلامة فيمكن تقديم ذكرًا أو أنثى بشرط ان يكون صحيحًا [1-6]. ولعل السبب في هذا أن ذبيحة المحرقة تقدم بكاملها محرقة للرب على المذبح إشارة إلى تقديم السيد المسيح حياته في كمالها طاعة للآب، أما هذه الذبيحة وإن كانت تُشير إلى ذبيحة السيد المسيح واهب المصالحة والسلام فهي تمثل الشركة بين الله والناس خلال المصالحة والسلام. ولعل قبول الذبيحة من الإناث يُشير إلى دخول الكنيسة كعروس في الإتحاد مع عريسها لتنعم بالإتحاد معه وتتمتع بسلامه الفائق. إنها ذبيحة الكنيسة كلها التي تفرح وتُسر بالصليب فتُقدم حياتها ذبيحة شكر لله.

ثانيًا: في ذبيحة المحرقة لا يأكل أحد منها بل تُحرق بكاملها لله بعد سلخها وتقطيعها وغسلها بالماء ووضعها على المذبح إشارة إلى تقديمها بكاملها للآب الذي وحده يدرك أحشاء إبنه التي بلا عيب، أما هنا فيشترك الإنسان مع المذبح في التمتع بالذبيحة، دون أن نسمع عن السلخ والتقطيع والغسل. إنها ذبيحة الشركة الحقيقية! يشتمها الله رائحة سرور، وفي نفس الوقت يُقدمها مائدة شهية للإنسان ليقول: "ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي" (مز 23: 5). ويقول إشعياء النبي: "ويضع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن" (إش 25: 6). كما يقول السيد المسيح: "هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمناتي قد ذبحت، وكل شيء معد" (مت 22: 1-4).

ثالثًا: وضع اليد على الرأس هنا غالبًا ما يكون للشكر والفراح، فلا ينطق الإنسان بكلمات يعترف فيها بخطاياه إنما يعلن شكره على إحسانات الله معه. وكما يقول الفديس أغسطينوس: [إن الإعتراف له شقان متكاملان: الإعتراف بخطايانا والإعتراف بإحسانات الله علينا، فيتمجد الله فينا خلال ضعفنا كما في إعلان أعماله معنا. فإن كان قد قيل عن العصاة: "زمرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا فلم تبكوا" (لو 7: 32)، فإنه يليق بنا خلال الصليب أن نسمع مزمار الإنجيل فنرقص روحيًا متهللين بأعماله الخلاصية كما نسمع النوح فنبكي على خطايانا. هكذا يمتزج الفرح بالرجاء مع حزن التوبة معًا بلا تناقص[63]].

3. ذبيحة السلامة من الغنم:

لا تختلف كثيرًا عن ذبيحة السلامة التي من البقر في كل طقوسها، سوى إضافة تقريب الآلية على المذبح، وهي الجزء السمين الذي في ذيل الغنم خاصة في البلاد الشرقية، ينزعها من عند العصعص، أي عند آخر فقرة من فقرات العمود الفقري.

4. ذبيحة السلامة من الماعز:

تكاد تكون صورة مطابقة للذبيحة التي من البقر في كل طقوسها.

أخيرًا يختم حديثه عن ذبيحة السلامة بتأكيد عدم أكل الشحم والدم، إذ يقول: "فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم لا تأكلوا شيئًا من الشحم ولا من الدم" [17]. لا يقصد هنا الشحم الذي يتخلل اللحم، وإنما الذي يغشي الأحشاء والمتصل بها والذي على الكليتين (الخاصرتين) [4]. ولعل أسباب منع الشحم واللحم هو:

أ. بالنسبة للشحم، فمن الناحية الصحية يُعتبر الشحم غنيًا بمادة الكولسترول الذي تسبب زيادته في طعام الإنسان أمراضًا كثيرة مثل ارتفاع ضغط الدم وانسداد الشرايين... لذلك إكتفت الشريعة بالسماح للإنسان في العهد القديم أن يأكل الشحم الذي بين اللحم ولا يأكل قطع الشحوم السمينة[64].

ب. أيضًا من الجانب الصحي يرى بعض علماء الطب أن بعض الأمراض المعدية والجراثيم تنتقل بسرعة خلايا شرب الدم...

ج. حرّمت الشريعة على الشعب اليهودي الإمتناع عن شرب الدم بكونه يمثل النفس، وهو مقدم لله وحده في الذبيحة من أجل المصالحة حيث تقدم نفس عوضًا عن نفس. هذا بجانب ما في شرب الدم من إشارة إلى الشراسة والتشفي، فقد خشي عليهم من التعود على ذلك فيسلك الإنسان بقساوة قلب حتى مع أخيه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن السبب لمنع أكل الدم أنه مكرس ليقدم لله وحده، أو لعل المنع كان لأن الله أراد أن يصد الناس عن الإندفاع إلى سفك الدماء البشرية، فمنعهم من أكل دم الحيوانات لئلا يحملهم هذا على السقوط بالتدرج في خطية سفك دماء البشرية. قلت إننا كثيرًا ما سمعنا خصمًا يهدد خصمه، قائلاً: سأقتلك وأشرب من دمك[65]].

حينما انعقد أول مجمع مسكوني بين الرسل والتلاميذ قرر إمتناع الداخلين إلى الإيمان من الأمم عن أكل المخنوق وشرب الدم (أع 15: 28-29). وجاءت القوانين الرسولية تؤكد أن الإكليريكي الذي يأكل حيوانًا بدمه (تك 9: 4) أو لحم فريسة حيوان أو ميتًا طبيعيًا يسقط أما العلماني فيفرز[66]. وقد ظل أمر الإمتناع عن الدم والمخنوق مرعيًا عدة قرون في الشرق والغرب أيضًا، غير أن مراعاته خفت قليلاً قليلاً إلى أن صار منسيًا إن لم يكن في كل كنيسة فعلى الأقل في الغرب. ويرى البعض أن الكنيسة الغربية جرت على ذلك على رأي القديس أغسطينوس الذي يقول: [إن هذا الأمر راعاه المسيحيون قبل تنظيم كنيسة الأمم[67]].

<<


 

الأصحاح الرابع

ذبيحة الخطية

في الذبائح والتقدمات السابقة كما نرى وجهًا معينًا للصليب أنه "موضع سرور الآب" أما في ذبيحتي الخطية والإثم فنرى الجانب الآخر القاتم إذ لا نسمع هذا النغم العذب بل نرى في الصليب الكلمة المتجسد حاملاً خطايانا على كتفيه ليدفع عنا الثمن، أو بمعنى آخر حاملاً لعنة الناموس التي سقطنا نحن تحتها، وكأنه يقبل وهو الإبن المحبوب أن يحتل مركزنا نحن الذين تحت الغضب الإلهي لكي يرفعنا ويسندنا. هذا هو نغم ذبيحتي الخطية والإثم.

وقد جاء تقسيم أنواع ذبيحة الخطية لا حسب نوع التقدمة كما في الذبائح والتقدمات السابقة إنما حسب مركز الخاطئ ودورة في الجماعة.

1. مقدمة في ذبيحة الخطية

2. ذبيحة الخطية عن الكاهن الممسوح        [1-12].

3. ذبيحة الخطية عن الجماعة                 [13-21].

4. ذبيحة الخطية عن رئيس (غير ديني)       [22-26].

5. ذبيحة الخطية عن أحد العامة               [27-35].

1. مقدمة في ذبيحة الخطية:

أولاً: يكشف عن غاية هذه الذبيحة بقوله: "إذا أخطأت نفس سهوًا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها" [2]. فهي ذبيحة مقدمة عن الخطاة الذين يسقطون عن ضعف أو جهل أو سهو في إحدى المناهي مخالفين أوامر الرب ووصاياه لكن ليس عن عناد أو مقاومة متعمدة.

يعلق القديس أوريجانوس[68] على تعبير "نفس" هنا، فيقول أنه يدعو الخاطئ نفسًا، وليس روحًا ولا إنسانًا، فبالخطية لا يسلك الإنسان بالروح فلا يدعى روحًا، كما يفقد صورته لله التي خلق عليها فلا يدعى "إنسانًا"، إنما يدعى نفسًا بكونه يسلك كإنسان طبيعي كما سبق فرأينا في تفسير الأصحاح الثاني[69].

يتساءل البعض ما الفارق بين ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم؟

أ. يرى بعض الدارسين أن ذبيحة الخطية تمثل بالأكثر تكفيرًا عن مقدم الذبيحة أكثر منها ذبيحة عن خطية معينة، حتى وإن قدمها الإنسان بمناسبة إرتكابه خطأ معين. أما ذبيحة الإثم فهي تمثل تكفيرًا عن إثم معين إرتكبه مقدم الذبيحة. لذلك نجد ذبيحة الخطية تُقدم في الأعياد عن كل الشعب كتكفير عام وجماعي ولا تقدم ذبيحة إثم (لا 28: 29).

ب. يرى بعض من الدارسين أن ذبيحة الخطية تقدم عن إنسان إرتكب خطأ لا يحتاج الأمر إلى تعويض لآخر أصابه خسارة، أما ذبيحة الإثم فتقدم عمن إرتكب خطأ يحتاج إلى تصحيح بتقديم تعويض مادي، سواء كان هذا الخطأ ضد الهيكل أو ضد إنسان.

ثانيًا: لا نسمع في هذه الذبيحة إنها للرضى، فمن جانب لا يقدمها الخاطئ أو الخطاة برضاهم إنما عن إلتزام لأجل تقديسهم، وفي نفس الوقت لا تمثل سرورًا للرب بل تكشف المرارة التي ذاقها المخلص، الذي دخل إلى الموت لأجلنا (1 بط 2: 24). إنها رمز للحمل الإلهي الذي لم يعرف خطية فصار خطية لأجلنا، لذا يصرخ "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38، مر 14: 34).

ثالثًا: إن كنا كلنا كبشر ساقطين تحت الضعف، لكن ذبيحة الخطية تكشف عن خطورة الخطية في حياة المسئولين والقادة الروحيين، حسب دورهم. فالكاهن إن أخطأ يعثر الشعب، والرئيس يعثر مرؤوسيه، أما أحد العامة فعثرته أقل. الكاهن الممسوح (رئيس الكهنة) يقدم ثور بقر صحيحًا، وأيضًا إن أخطأت الجماعة ككل، أما الرئيس العلماني فيقدم تيس ماعز ذكرًا، وأحد العامة يقدم أنثى ماعز أو أنثى ضأن... الكل محتاج إلى دم ربنا يسوع للكفير عن خطاياه لكن عثرة كل واحد تختلف عن الآخر.

2. ذبيحة الخطية عن الكاهن الممسوح:

يبدأ الحديث عن ذبيحة الخطية بتلك التي تقدم عن الكاهن الممسوح أي رئيس الكهنة، ليس تكريمًا له عن غيره وإنما لكي يدرك الكهنة ضعفهم ويشعروا أنهم أكثر من غيرهم محتاجون إلى التكفير عن خطاياهم، فيترفقوا بإخواتهم الضعفاء. يشعر الكاهن إنه ليس بمعصوم عن الخطأ ولا هو من طبقة غير طبقة الشعب، إنما هو خادم الجميع وأكثرهم إحتياجًا. هذه الإحساسات أعلنها الرسول بولس بقوله: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1 تي 1: 15)، كما يقول: "فإن الناموس يقيم أناسًا بهم ضعف رؤساء كهنة" (عب 7: 28). وفي القداس الإلهي كثيرًا ما يكرر الكاهن هذه العبارة: [إقبل هذه الذبيحة عن خطاياي وجهالات شعبك].

سجل لنا القديس يوحنا الذهبي الفم الكثير عن شعوره بالضعف كأسقف، لذا فهو يئن مع أنات شعبه ويشعر بضعفهم. كما أعلن كثيرًا عن حاجة الكاهن إلى مراجعة نفسه فإن الحرب عليه أشد من غيره، فمن كلماته: [ينبغي على الكاهن أن تكون روحه أنقى من أشعة الشمس ذاتها... إنه معرض لتجارب أكثر يمكن أن تنجسه إن لم يكن منكرًا لذاته، مجاهدًا بإستمرار[70]]. ويقول العلامة أوريجانوس: ["فإن الناموس يقيم أناسًا بهم ضعف رؤساء كهنة" (عب 7: 28)، حتى يستطيعون بالأكثر بسبب ضعفهم أكثر من الشعب أن يقدموا ذبائح. أنظر مدى تدبير الحكمة الإلهية، إذ يقيم الله كهنة ليس ممن لا يقدرون أن يخطئوا وإلاَّ كانوا ليس بشرًا... لهذا فرئيس الكهنة "يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب" (عب 7: 27) [71]].

يتلخص طقس ذبيحة الخطية التي يرتكبها الكاهن سهوًا في تقديم ثور من البقر، يؤخذ من دم الذبيحة إلى القدس لينضح على الحجاب الذي يفصل القدس عن قدس الأقداس، وعلى مذبح البخور، علاوة على سكب باقي الدم إلى أسفل مذبح المحرقة.

وبعد إيقاد الشحم على نار المذبح يُخرج جميع اللحم والجلد خارج المحلة ويحرق ولا يسوغ لأحد أن يأكل من لحمها، يُحرق في مرمى الرماد [12] وهو المكان الذي تُطرح فيه بقايا الذبائح، ويعتبر طاهرًا لأنه مخصص لعمل مقدس.

يلاحظ في هذا الطقس الآتي:

أولاً: يضع الكاهن الذي من أجله قدمت الذبيحة يده على رأس الثور معترفًا بخطاياه (مز 32: 5)، فإن كان الكاهن يقبل إعترافات الآخرين يلزمه - أيًا كانت رتبته- أن يمارس الإعتراف. إنه يعترف هو أيضًا بخطاياه، معلنًا أنه يسلك مع الشعب طريق التوبة الدائمة والتذلل أمام الله والإعتراف بخطاياه.

ثانيًا: يتركز طقس ذبيحة الخطية في "الدم"، ونظرًا لخطورة خطية رئيس الكهنة، يُدخل دم الذبيحة إلى خيمة الإجتماع ليغمس الكاهن أصبعه في الدم وينضح منه سبع مرات أمام الرب أي قدام تابوت العهد الذي يمثل عرش الله: على الحجاب وربما على الأرض أمام التابوت ثم على قرون مذبح البخور الذهبي، ثم يصب باقي الدم أسفل مذبح المحرقة النحاسي الذي في دار الخيمة الخارجية.

ما يتم بالدم بهذه الدقة لا يمارس بلا هدف، وإنما إذ أخطأ رئيس الكهنة الذي يتوسط لدى الله عن الشعب خلال تابوت العهد مخترقًا الحجاب وخلال مذبح البخور الذهبي ومذبح المحرقة النحاسي، صار هو نفسه محتاجًا لمن يشفع فيه. فينطلق الدم الذي يرمز لدم السيد المسيح يشفع فيه مقدسًا له الطريق. كأنه بالدم الثمين الذي يتمسك به رئيس الكهنة يستطيع أن يخترق الحجاب منطلقًا إلى تابوت العهد لينعم باللقاء مع الله الذي يتجلى على غطاء التابوت فوق كرسي الرحمة، وبالدم يرفع الصلوات كما على مذبح ذهبي، وبه يتقبل الله ذبائح محبته كما من المذبح النحاسي. هكذا ينضح بالدم سبع مرات علامة التقديس الكامل ليمارس رئيس الكهنة عمله الكهنوتي من جديد، فيقبل الله صلواته ويستمع لطلباته ويشتّم تقدماته عن الشعب رائحة ذكية.

من ناحية أخرى، يتمسك رئيس الكهنة الذي أخطأ بالدم لأجل التقديس في داخل قدس الأقداس كما في القدس وفي الدار الخارجية، فإن كانت الخطية تفسد الإنسان بكليته روحًا ونفسًا وجسدًا، فبالدم يتقدس في أعماقه حيث روحه (قدس الأقداس)، ونفسه (القدس) كما في الخارج (الدار الخارجية)... بالدم تغفر خطايانا فتتقدس حياتنا كلها.

يحدثنا القديس أغسطينوس عن فاعلية هذا الدم، قائلاً: [سفك دم المخلص وأبطل الدين. هذا هو الدم الذي سفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا[72]]. أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيقول: [كان يرمز لهذا الدم (الخاص بالعهد الجديد) على الدوام قديمًا على المذبح وخلال الذبائح التي قدمها الأبرار. هذا هو ثمن العالم، به اشترى المسيح الكنيسة لنفسه، وبه زينها جميعها... الذين يشتركون في هذا الدم يقفون مع الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات العلوية، يلبسون ثوب المسيح الملوكي ويكون لهم سلاح الروح، لا فإنني لم أقل بعد شيئًا، إذ هم يلتحفون بالملك نفسه[73]].

ثالثًا: عادة كان الجلد واللحم من نصيب الكهنة، لكن هذه الذبيحة إذ هي عن خطية رئيس الكهنة فيحرق كل شيء حتى الجلد [11]، علامة كراهية الرب للخطية ورذله إياها.

3. ذبيحة الخطية عن الجماعة:

تقدم هذه الذبيحة من أجل خطية جماعية أرتكبت سهوًا بجهالة، أي دون أن يفطنوا إليها... فكما يليق برئيس الكهنة أن يكون مدققًا في تصرفاته، هكذا يلزم على الجماعة المقدسة أن تحتفظ بنقاوتها ولا تشوه جمالها الروحي ولو بخطأ سهو.

يكاد يكون الطقس هنا مطابقًا ذبيحة الخطية التي من أجل رئيس الكهنة، لأن ما يرتكبه رئيس الكهنة يمس الجماعة كلها، وما ترتكبه الجماعة ككل يُسأل عنه رئيس الكهنة.

في الذبيحة السابقة يضع الكاهن الممسوح يده ليعترف بخطاياه، أما هنا فيضع الشيوخ أياديهم نيابة عن الشعب كله معترفين بخطاياهم... هنا لا يضع رئيس الكهنة يده بل الشيوخ ليس تبرئة لرئيس الكهنة من خطايا الشعب الجماعية وإنما مشاركة للشيوخ معه في المسئولية، فلا يعمل رئيس الكهنة بمفرده بل يسنده الشيوخ في التدبير العام لشئون الشعب الروحية.

في هذه الذبيحة أيضًا تبرز أهمية الدم الذي يُدخل به إلى خيمة الإجتماع لينضح منه على الحجاب وقرون مذبح البخور الذهبي ويصب باقي الدم أسفل مذبح المحرقة... إلخ.

4. ذبيحة الخطية عن رئيس:

هذه الذبيحة تخص أصحاب السلطان المدني كالملوك والشيوخ والقضاة، وقد ميزت الشريعة خطيتهم عن خطايا عامة الشعب لأنهم قادة ومسئولون، كل خطأ يرتكبه أحدهم يمكن أن يعثر الكثيرين، ولو ارتكبه إنسان سهوًا أو عن جهل.

كانت الذبيحة في مثل هذه الحالة تيسًا من الماعز ذكرًا، وهنا لا يدخل بالدم إلى القدس كما في حالة الكاهن بل يسكب أسفل مذبح المحرقة فقط بعد أن يرش بعضه على قرون المذبح. إن كان المسئولون وهم قادة لهم دورهم ويمكن أن يتعثر بهم مرؤوسوهم لكن خطورة خطاياهم أهون على الجماعة من رئيس الكهنة، ولا تمس المقدسات الداخلية...

في طقس هذه الذبيحة لا يحرق الجلد واللحم كما في الذبيحة الخاصة بخطية رئيس الكهنة، بل يكونا من نصيب الكهنة. ويقدم لنا الفيلسوف اليهودي الإسكندري فيلون تفسيرًا مقبولاً لذلك، إذ يقول إن أكل الكهنة للحم من ذبيحة الخطية يعطى طمأنينة لمقدمها أن الله غفر خطاياه وقبله [لأن الله لن يسمح لخدامه أن يشتركوا فيها لو لم يكن قد نزع الخطية وغفرها تمامًا عمن كفر عنه[74]].

5. ذبيحة الخطية عن أحد العامة:

تقدم ذبيحة عن الخطأ السهو الذي يرتكبه أحد العامة من الشعب عبارة عن عنز من المعز أنثى صحيحة أو أنثى من الضأن. ولعل تحديد الأنثى لأنها أرخص وفي متناول يد الكثيرين.

يعلق العلامة أوريجانوس على تعبير "نفس من عامة الأرض" [27]، مركزًا على تعبير "عامة الأرض"، إذ يقول: [يلزمنا أن نميز بين من هو من عامة الأرض وليس ممن قيل عنهم: "مدينتنا نحن هي في السموات التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح" (في 3: 20)... فإن مثل هذه النفوس ليست متحدة مع الأرض بل هي بكاملها في السماء، وفي السماء تقطن "حيث المسيح جالس عن يمين الآب" (كو 3: 1). إنها تود أن تنطلق وتكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، لكنها تُلزم أن تبقى في الجسد (في 1: 24-25) [75]].

في طقس هذه الذبيحة لا يدخل الدم إلى القدس كما في حالتي رئيس الكهنة والجماعة.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الخامس

ذبيحتنا الخطية والإثم

في هذا الأصحاح يقدم لنا أمثله عملية لخطايا الجهل أو السهو التي يقدمها عنها ذبيحة خطية، وإن كان بعض الدارسين يرون أن هذه الذبيحة وهي تقدم بسبب خطية معينة لكنها تقدم عن الشخص أو الأشخاص لنزع كل خطاياهم، وليس عن خطية معينة كما في ذبيحة الإثم. أوضح أيضًا الخطايا والآثام التي تقدم عنها ذبيحة إثم بعد أن عرض لموضوع غير القادرين في تقديمهم ذبيحة الخطية.

1. أمثلة لخطايا السهو                         [1-4].

2. ذبيحة الخطية والإعتراف                    [5-6].

3. ذبيحة الخطية لغير القادرين                 [7-13].

4. النوع الأول من ذبيحة الإثم                 [14-19].

1. أمثله لخطايا السهو:

قدم لنا الوحي الإلهي ثلاثة أمثله لخطايا السهو التي بسببها يقدم الإنسان ذبيحة خطية:

أولاً: الإنسان الذي يكتم الشهادة [1]:

إذا سمع مؤمن إنسانًا متهمًا لا يقول الحق أو سمع شهودًا يحلفون في أمر ما وهو يعرف الحقيقة ويخفيها ولا يقر بها إما إشفاقًا على المتهم أو تشفيًا فيه، فهو "يحمل ذنب المتهم"، أي يُحسب شريكًا في عيني الله مع المتهم في خطيته، ويكون مسئولاً عن إصدار حكم خاطئ سواء كان الحكم لصالح المتهم أو ضده. وأيضًا إذا طلب للشهادة وبسبب أو آخر لم يذهب للشهادة فجاء الحكم غير عادل بسبب إهماله في الشهادة وإحجامه عنها يلزمه أن يعترف بخطيته وأن يقدم ذبيحة خطية.

يقول العلامة أوريجانوس: [رضا الإنسان عن فعل خاطئ إرتكبه شخص يُحسب خطية حتى ولو تمثل به[76]]، كما يقول: [يليق بنا أن نعرف أن من يمسك إنسانًا قريبًا له في ذات الفعل ويخفي الأمر ولا يذكر الحقيقة ولا يشهد بها، يحمل خطية المذنب الذي تستر عليه، ويقع عقاب مرتكب الخطية على من أخفاها[77]]. لا يقصد بذلك من يترفق بأخيه ويعاتبه لتوبته إنما يقصد من يتجاهل خلاص أخيه متسترًا على شره.

وللعلامة أوريجانوس تفسير رمزي إذ يرى أن كاتم الشهادة هم جماعة الكتبة والفريسيين الذين أؤتمنوا على شريعة الله وعرفوا المكتوب: "أقسم الرب ولن يندم: أنت الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مز 109: 4)، وفي شرهم أخفوا هذه الشهادة ولم يعلنوا إيمانهم بالمسيا المخلص الذي فيه تحققت النبوات. بهذا التصرف سقطوا تحت الخطية إذ قادوا إسرائيل إلى جحدهم للسيد المسيح بعدم إعلانهم للحقيقة أمام الشعب[78].

ثانيًا: إذا مسّ جثة حيوان نجس، سواء كان حيوانًا بريًا أو مستأنسًا أو من الزحافات... فإن نسى الإنسان أن يتطهر بغسل ثيابه (لا 11: 24-38) أو أهمل بجهل يعتبر مذنبًا ويلتزم بتقديم ذبيحة خطية. لا يقف الأمر عند لمس حيوان نجس (لا 11) أو جيفة حيوان ميت وإنما من لمس إنسانًا أبرص أو مصابًا بسيل (لا 14-15) أو من لمس خثة إنسان ميت (ص 21) ولم يدر ثم عرف بعد ذلك، ولم يكن قد تطهر يلتزم بتقديم ذبيحة خطية.

من الجانب الصحي ربما أراد الله من الشعب أن يحرص عن لمس كل ما قد يسبب مرضًا أو ينقل عدوى تحت إسم "دنس" أو "نجس".

للعلامة أوريجانوس تعليق مطوّل في أمر الدنس الذي يحل بمن يمس حيوانًا دنسًا أو جثة إنسان ميت نقتطف منه الآتي:

 [بالنسبة لليهود نجد الأمر غير لائق ومرفوض، إذ لماذا يعتبر من مس جيفة حيوان مثلاً أو جسم إنسان ميت دنسًا حتى وإن كان الجسد لأحد الأنبياء، أو لأحد البطاركة أو لإبراهيم نفسه؟!... هل إذا مس أحد عظام أليشع التي أقامت ميتًا نجسًا؟!...

أنظر كيف كان شرح اليهود وتفسيرهم غير مناسب، أما بالنسبة لنا فلننظر أولاً ما هو اللمس الذي ينجس وما هو اللمس الطاهر. يعلن الرسول: "حسن للرجل أن لا يمس إمرأة" (1 كو 7: 1). التلامس النجس هو ذاك الذي قال عنه السيد في الإنجيل: "من ينظر إلى إمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 28)، إذ مس قلبه الشهوة وتنجس بها. التلامس بهذه الطريقة كاشتهاء إمرأة أو الجشع في جمع المال أو التلذذ بأي رغبة أخرى هو تلامس نجس مع الخطية. فإن كنت تعاني من تلامس كهذا يلزمك تقديم ذبيحة حتى تقدر أن تتطهر.

أتريد أن أظهر لك شخصية تنجست بتلامس دنس وتطهرت بتلامس طاهر، إنها نازفة الدم التي أنفقت كل مالها على الأطباء باطلاً (لو 8: 45-46)، وقد صارت هكذا بسبب نجاسة الخطية... فأساءت إلى جسدها. لكنها إذا لمست هدب ثوب المسيح بإيمان توقف النزف في الحال وصارت طاهرة. هذه التي عاشت في النجاسة زمنًا طويلاً، عندما لمست الرب المخلص قال: "من لمسني؟... أن قوة خرجت منيّ!" بالتأكيد هذه القوة التي أبرأت المرأة جعلتها طاهرة، بنفس الطريقة نفهم أنه كان لها تلامس مع الخطية وأن قوة شريرة كانت تخرج من الخطية جعلتها تتدنس. نفس التفسير ينطبق بالنسبة للمس جثة إنسان أو جثة حيوان طاهر أو غير طاهر، لأن من يلمس جسد إنسان إنما يعني إتباعه والإقتداء به وهو ميت في خطاياه. ولكي نوضح التلامس مع هذه الجثث نذكر الواحد تلو الأخرى.

بالنسبة للمس جثة إنسان كما سبق وقلنا يمكننا أن نورد ما قاله الرسول لأهل كورنثوس: "كتبت إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة. وليس مطلقًا زناة هذا العالم أو الطماعين أو الخاطفين أو عبدة الأوثان وإلاَّ فيلزمكم أن تخرجوا من العالم. وأما الآن فكتبت إليكم إن كان أحد مدعو أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثن أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا" (1 كو 5: 9-11)... كذلك ما قاله الرسول عن الأرملة: "أما المتنعمة فقد ماتت وهي حية" (1 تي 5: 6)، فإنه يمكننا القول عن مثل هذه إنها جثة إنسان ميت].

يكمل العلامة أوريجانوس حديثه فيتكلم عن لمس جثة الحيوانات الميتة قائلاً بأنه يوجد في الكنيسة أناس هم رجال الله كقول إيليا عن نفسه: "إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء وتأكلك أنت والخمسين الذين لك" (2 مل 1: 10)، أما الذين تركوا التعقل والفهم لكنهم يسلكون ببساطة فيحسبون كحيوانات، إذ يقول المرتل: "الناس والبهائم تخلص يارب" (مز 36: 7). فإن مات أحد هؤلاء البسطاء بالخطية وصاروا كجيفة... من يمسها ويسلك معها في خطيتها يتدنس.

هذا بالنسبة للحيوانات المستأنسة، أما بالنسبة للحيوانات البرية المفترسة فيرى أن الأسد الميت يُشير إلى الإلتصاق بإبليس الذي يقول عنه الرسول بطرس: "لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9). أما الذئاب فتُشير إلى الهراطقة، كقول الرسول بولس: "بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية" (أع 20: 29)، فمن يتبعها في أفكارها الخاطئة يكون كمن تنجس بلمس جيفة ذئب ميت.

ثالثًا من يحنث بالقسم أو يحلف باطلاً، وذلك كأن يعد بشيء سواء للإساءة أو الإحسان [4] في تهور وبزلة لسان في غير تروٍ، ثم عاد إلى فكرة وحنث بما أقسم، فإن ذلك يُحسب خطية تحتاج إلى تقديم ذبيحة.

ربما يتساءل البعض: هل إن أقسم الإنسان للإساءة كأن يضرب أو يقتل ثم تراجع يحسب هذا خطية تحتاج إلى تقديم ذبيحة؟ الخطية هنا لا في عدم إرتكاب الإساءة وإنما في التسرع بالقسم!

ويقدم لنا العلامة أوريجانوس تفسيرًا رمزيًا للقسم المزدوج للإحسان والإساءة معًا، إذ يرى أن المؤمن إذ يدخل مع الله في شركة يكون كمن قدم نذرًا وأقسم للإحسان والإساءة، الإحسان إلى روحه لكي تخلص والإساءة إلى شهوات جسده، إذ يلتزم بإقمع الجسد وتذللَّه، هذا الذي يقاوم الروح (غل 5: 17). فبقمعه للجسد كما للإساءة يقول مع الرسول بولس: "لأنيّ حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10).

يقول العلامة أوريجانوس: [إن حلفنا ووعدنا أن نقمع هذا الجسد الذي يقاوم الروح ويصارعها ولم نفي بالوعد نكون مدانين بخطية لأجل القسم... فبالحلف الذي أقمناه لنحس بالروح نضغط على الجسد... إذ لا يمكن أن نفيد أحدهما مالم نضغط على الآخر. إسمع أيضًا ما يقوله الرب نفسه: "أنا الذي أميت وأحيى" ماذا يميت الرب؟ (شهوات) الجسد بالطبع. وماذا يحيى؟ الروح بلا شك. يضيف أيضًا: "أضرب وأشفي"، ماذا يضرب؟ (شهوات) الجسد. وماذا يشفي؟ الروح. ما هو غاية هذا؟ لكي يجعلك "مماتًا في الجسد ولكن محيى في الروح" (1 بط 3: 18)، خشية عليك لئلا "لا تخدم ناموس الله بالروح بل بالجسد"[79]].

هذه هي الأمثلة الثلاثة التي قدمها لنا سفر الاويين عن الخطايا التي تدفعنا لتقديم ذبيحة الخطية [الإحجام عن الشهادة لإظهار الحق، لمس النجس، الحنث بالقسم]، وقد اشترط أن تكون قد إرتكبت لا عن عناد بل خلال السهو أو الجهل... وكأن الله هو الغني في الرحمة يود أن يطهر أولاده وشعبه حتى مما تبدو خطايا تافهة، ليس تدقيقًا في حرفيات ولا تزمتًا وإنما طلبًا لتقديسنا على أعلى مستوى، إذ يُريد في الإنسان أن يكون كملاك الله، يحيا بقانون السماء.

الله يعرف ضعفنا تمامًا ولا يقسو علينا، ولكنه يُريدنا سمائيين، وقد فتح لنا طريق التقديس بروحه القدوس، مقدمًا حياة إبنه المبذولة على الصليب ثمنًا لتقديسنا. بمعنى آخر في تدقيقة لا يقف آمرًا ناهيًا ولا يبغي مذلتنا وحرماننا، لكنه كأب سماوي يطلب نضوجنا الروحي وسمونا لكي نسمع الصوت الإلهي: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6، يو 10: 34).

2. ذبيحة الخطية والإعتراف:

"فإن كان يذنب في شيء من هذه يقر بما قد أخطأ به، ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيته التي أخطأ لها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزًا من المعز ذبيحة خطية، فيكفر عنه الكاهن من خطيته" [5-6].

إذ يكتشف الإنسان خطأه حتى وإن كان قد إرتكبه عن جهل أو سهو يليق به أن يقدم توبة داخلية معلنًا شوقه للحياة المقدسة في الرب التي بلا عيب. هذه التوبة الداخلية تقترن بأمرين: الإعتراف أو الإقرار بما قد أخطأ به [5]، وتقديم ذبيحة خطية [6]، وهكذا يلتحم إعترافنا بخطايانا بتمسكنا بالدم الثمين غافر الخطية.

مارس اليهود الإعتراف بالخطايا أمام رجال الله وكهنته، كما طلب يشوع بن نون من عاخان (يش 7: 19)، وكما فعل شاول الملك أمام صموئيل النبي (1 صم 15: 24-25)، وداود النبي أمام ناثان النبي (2 صم 12: 13-14). وجاء اليهود إلى يوحنا المعمدان يعترفون بخطاياهم (مر 1: 5). وفي العهد الجديد أعطى الرب سلطان الحِل لتلاميذه (مت 16: 19، 18: 17-18، يو 20: 20-23). وفي خدمة الرسل قيل: "وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مقرين ومخبرين بأفعالهم" (أع 19: 18).

يعلل العلامة أوريجانوس ضرورة الإعتراف بأن عدو الخير إبليس يحرضنا على الخطأ وإذ نسقط فيه يسرع ويتهمنا، فإن أسرعنا نحن واتهمنا أنفسنا نبطل حيله. في هذا يقول: [يلزمنا أن نعترف بكل ما نفعله ونجهر به في الجماعة، نعلن ما فعلناه في الظلمة (يو 7: 4) لا بالكلام فحسب بل وما في خبايا الفكر... فإن الذي يحرضنا على الخطية هو نفسه يتهمنا. لذلك إن بادرنا في هذه الحياة ووبخنا أنفسنا نتجنب خبث إبليس عدونا ومتهمنا. وكما يقول النبي في موضع آخر: "حدِّث أولاً لكي تتبرر" (إش 43: 6) [الترجمة السبعينية]. يود أن يوضح لك إنه يجب عليك أن تسبق ذاك المستعد لإتهامك. حدِّث أنت أولاً قبل أن يسبقك، فإن تحدثت أنت أولاً مقدمًا ذبيحة التوبة تكون كمن سلم جسده للهلاك "لكي تخلص الروح في يوم الرب" (1 كو 5: 5)، فيقال لك: إنك إستوفيت بلاياك في حياتك ولآن تتعزى (لو 16: 25). بجانب هذا يعلن داود في المزامير بالوحي: "أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي، قلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي" (مز 32: 5). ها أنت ترى الإعتراف بالخطية يعني الإستحقاق للغفران والمبادرة بالإدانة فلا يقدر إبليس أن يديننا. إن حكمنا على أنفسنا فهذا يفيد خلاصنا، أما إن انتظرنا ليتهمنا إبليس فتتحول الإدانة إلى عقوبة[80]].

إذ تحدث القديس أمبرسيوس عن التوبة ربطها بالإعتراف، قائلاً: [إنك تمتنع عن ممارسة هذا في الكنيسة التي تتوسل عنك لدى الله فتربح لنفسك عون الجماعة المقدسة. إنه لا مجال للخجل. إنك لا تعترف مع أننا جميعًا خطاة. بالحقيقة يُمدح بالأكثر من كان أكثر اتضاعًا، ويُحسب بالأكثر بارًا من شعر أنه الأقل[81]]. ويقول الأب دورثيئوس: [يقدر الشيطان على اصطياد الرجل الذي يثق في فكره الخاص، ويطمئن إلى إرادته الذاتية وحدها، لكنه لا يقدر على رجل يعمل كل شيء بمشورة[82]]. كما يقول القديس الأنبا أنطونيوس: [رأيت رهبانًا كثيرين، بعد أن تعبوا كثيرًا، وقعوا في دهشة عقل، لأنهم إتكلوا على معرفتهم فقط، إذ لم يصغوا إلى الوصية القائلة: إسأل أباك فيخبرك، ومشائخك فيقولون لك[83]].

3. ذبيحة الخطية لغير القادرين:

لما كانت ذبيحة الخطية إلزامية، لذا حرصت الشريعة أن يقدمها الغني كما الفقير، كل حسب إمكانياته، فقيمة الذبيحة لا في ثمنها المادي ولا في التقدمة في ذاتها وإنما فيما تحمله من رمز لذبيحة السيد المسيح المجانية، التي قدمت عن الجميع بلا تمييز.

إن كان الإنسان غير قادر على تقديم أنثى ضأن أو أنثى معز يقدم يمامتين أو فرخي حمام، وقد سبق لنا الحديث عن اليمام والحمام في ذبيحة المحرقة (1: 14-17)، بكون اليمام يُشير إلى الحياة الطاهرة والحمام إلى الحياة البسيطة. أما اختيار طيرين فلأنه يصعب إنتزاع الشحم من الطير لتقديمه على المذبح ونوال الكهنة نصيبهم من اللحم، لذا تحسب إحداهما عوض الشحم، تقدم على المذبح وتقدم الأخرى للكهنة كنصيب لهم عوض اللحم. وقد حرصت الشريعة أن يتسلم الكهنة نصيبهم من الفقير ولو كان يمامة مذبوحة ليست بذي قيمة مادية، لا ليتمتع بها الكهنة وإنما ليشعروا أنهم كهنة وخدام للأغنياء كما لفقراء بلا تمييز فلا يسلكون بمحاباة، ومن جانب آخر لا يشعر الفقير بحرج في تعامله مع الكهنة... فحتى وإن قدمت له الكنيسة كل احتياجاته الروحية والمادية يلزم على الفقير أن يقدم القليل حتى مما أخذه من الكنيسة علامة شركته الروحية والمادية.

ليتنا لا نحتقر فلسي الأرملة ويمامتي الفقير، فإن الله ينظر إلى القلب لا إلى العطية. ليتنا إن كنا فقراء لا نخجل من تقديم القليل فإن يدّ الله تمتد لتأخذ من الفقير عطية محبته.

ويلاحظ أن الطير الذي يحرق كذبيحة خطية يدعى "محرقة" ليس لأنه ذبيحة محرقة، وإنما لأنه يحرق بكامله دون أن ينزع منه شحم أو لحم.

يظهر حنو الله الشديد نحو الإنسان حتى لا يحرمه من تقديم ذبيحة خطية، إذ سمح للفقير العاجز عن تقديم يمامتين أو فرخي حمام أن يقدم عشر الإيفة من الدقيق قربان خطية. ولكي يميز بينه وبين تقدمة القربان (أصحاح 2) ألزم ألا يوضع عليه زيت ولا يُجعل عليه لبان، إذ لا تقدم هذه التقدمة إكرامًا للرب كتقدمة قربان بل تكفيرًا عن خطية. لكن يسأل البعض: كيف يُقدم الدقيق ذبيحة خطية مع أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب 9: 22)؟ يُجاب على ذلك أن الكاهن يقبض منه قبضته ويوقده على المذبح على وقائد الرب، فيختلط الدقيق بدماء الذبائح الأخرى المقدمة على المذبح. لهذا يرى البعض في هذه التقدمة إشارة إلى ذبيحة الأفخارستيا التي وإن لم تحمل دمًا ظاهرًا ماديًا ملموسًا لكن الخبز والخمر يتحولان حقًا إلى جسد الرب ودمه المبذولين على الصليب كفارة عن خطايانا.

4. النوع الأول من ذبيحة الإثم:

قلنا أن البعض يميز بين ذبيحتي الخطية والإثم بأن الأولى تقدم عن مقدمها ككل، أما الثانية فعن خطية معينة، والبعض يميز بينهما بأن الأولى تقدم عن الخطايا التي لا تسبب ضررًا ماديًا معينًا، أما الثانية فتقدم عن خطايا تصيب ضررًا لحق بالهيكل أو بالناس، لذلك يقسم الوحي ذبائح الإثم إلى نوعين:

أ. ذبائح تقدم عن خطايا تضر المقدسات الإلهية.

ب. ذبائح تقدم عن خطايا تضر إخوته.

في هذا الأصحاح يتحدث عن النوع الأول، قائلاً: "إذا خان أحد خيانة وأخطأ سهوًا في أقداس الرب، يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشًا صحيحًا من الغنم بتقويمك من شواقل فضة على شاقل القدس ذبيحة إثم، ويعوض عما أخطأ به من القدس ويزيد عليه خمسة يدفعه إلى الكاهن" [15-16].

يُقصد بالخطأ السهو ضد المقدسات الإهمال في تقديم الإلتزامات نحو الهيكل مثل البكور من الحيوانات الطاهرة وفداء البكور من الإنسان وأوائل الثمار والعشور... إلخ. وكما قيل في سفر ملاخي: "أيسلب الإنسان الله؟‍ فإنكم سلبتموني. فقلتم بمَ سلبناك؟ في العشور والتقدمة" (ملا 3: 8). ويقصد بالسهو النسيان أو عدم فهم الشريعة.

هنا يلتزم الإنسان بتقديم ذبيحة خطية، إذ لا غفران للخطية حتى وإن كانت بسبب النسيان أو عدم معرفة الشريعة إلاَّ بالدم المقدس الذي يطهر من كل خطية. هذا التكفير لا يعني تجاهل إصلاح الخطأ المادي الذي أصاب الغير حتى وإن كان المضرور الهيكل إن صح هذا التعبير. بالحقيقة لا يصاب الهيكل بضرر مادي، لأن الله هو مصدر شبعه، لكن الشريعة تدرب الإنسان أن يرد ما اغتصبه من الغير أيا كان هذا الغير. أما الذي يقيِّم الضرر فهو موسى النبي نفسه [15]، وفيما بعد صار الكاهن يقوم بهذا الدور (27: 8). ويكون التقييم مقدرًا بشواقل من الفضة مع إعتبار "شاقل القدس" أي شاقل المضبوط المحفوظ في القدس هو المعيار الحقيقي والصحيح للشاقل.

إن كان الله في محبته اللانهائية يغفر لنا كل خطية، فلأجل بنياننا الروحي يطالبنا برد ما قد أخطأنا به خلال إهمالنا مع دفع غرامة تأديبية توازي الخُمس. ويرى اليهود أن الخُمس هنا لا يعني خُمس القيمة، إنما يقدم ربع القيمة لتكون الغرامة هي خُمس المبلغ الإجمالي كله بينما المبلغ الأصلي يصير أربع أخماس. غير أنه للعلامة أوريجانوس رأي آخر وهو أن الشخص يرد المبلغ الأصلي مضافًا إليه مبلغًا يوازيه ومعه الخُمس. فإن كان الضرر يمثل خمسة شواقل فضة فإنه يرد الخمسة مضافًا إليها خمسة شواقل أخرى وأيضًا شاقل آخر...

على أي الأحوال إن كان رقم 5 يُشير إلى الحواس في كثير من كتابات الآباء كالعلامة أوريجانوس والقديسين ديديموس الضرير وأغسطينوس وجيروم، هذه التي يجب أن تكون مكرسة للرب وحده وممتصة بالكامل في محبته لنصير بالحق مع العذارى الخمس الحكيمات (مت 25: 1)، نستقبل العريس السماوي بخمس مصابيح ممتلئة زيتًا منيرة بالروح القدس، فإننا إذ نخطئ في حق المقدسات الإلهية لا يطلب الله رد الظلم الذي سببناه بدفع مال أو تقديم تقدمات، إنما بالأكثر بتقديم حواسنا في وحدة الروح مقدسة للرب، أي نرد لله حق ملكيته علينا وفي أعماقنا حتى نحيا مقدسين له في الداخل كما في التصرفات الظاهرة.

ما هو شاقل القدس الذي يُحسب معيارًا للتعويض؟ كلمة "شاقل" مشتقة من الفعل العبري "شقل" التي تعني "وزن"، وهو معيار لوزن الأشياء الثمينة، كما أنه نوع من النقود الذهبية والفضية غير المسكوكة (تك 33: 15-16)، وكانت جميع العيارات والنقود تحسب بالنسبة إليه. وقد وجد أكثر من شاقل لدى اليهود، إذ وُجد الشاقل المعتاد لوزن الأشياء الثمينة كالذهب والفضة وغيرهما (تك 33: 16، 1 صم 17: 5)، وشاقل القدس يقال أنه ضعف الشاقل المعتاد. أضيف إلى القدس يُحفظ في خيمة الإجتماع أو الهيكل ليكون نموذجًا تامًا مضبوط على الشاقل الصحيح. وشاقل الملك (2 صم 14: 26) ربما يُشير إلى وزن معين كان محفوظًا لدى الملك. هذا وكان العبرانيون يستخدمون شاقل الفضة كنقود وقد ضرب بعد السبي في عهد المكابيين (1 مك 15: 6)، ذكر في العهد الجديد باسم "الفضة" (مت 26: 15)، وأيضًا شاقل الذهب يستخدم كوزن كما كعملة ذهبية.

الآن نعود إلى التعويض الذي يقدمه الخاطئ عند توبته ورجوعه إلى الرب، إذ يقيِّم موسى أو الكاهن الضرر الذي أصاب الهيكل من الجانب المادي بشاقل القدس الذي من الفضة. فإن الفضة تُشير إلى كلمة الله المصفاة سبع مرات كالفضة (مز 12)... وكأن المعيار الذي يقيس به الكاهن تصرفاتنا ليس حكمته البشرية أو تقديره الشخصي وإنما "كلمة الله". هذا هو معيار حياتنا، الذي به نقدم حساباتنا لدى الله في اليوم الأخير. أما كونه "شاقل القدس" أي شاقل حقيقي أصلي غير مغشوش، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [شاقل القدس يصور إيماننا... بالحقيقة يوجد كثيرون لهم إسم المسيح لكن ليس لهم بالحقيقة المسيح، لذلك يقول الرسول بولس: "لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا ليكون المزكون ظاهرين بينكم" (1 كو 11: 19)[84]]. هكذا تُشترى الشاه التي تقدم ذبيحة الخطية مقدرة بشاقل القدس، بمعنى آخر نلتقي بالسيد المسيح حمل الله الحقيقي خلال الإيمان المقدس الحقيقي غير المزيف. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [بكل تأكيد لا ينال أحد مغفرة الخطايا مالم يكن له الإيمان المستقيم المختبر والمقدس، به تقتني "الشاه" الذي بطبعه يغسل خطايا المؤمنين. هذا هو شاقل القدس، الإيمان المختبر، الذي لا يمتزج بمكر وخداع، أي نفاق الهراطقة. هكذا لنقدم إيمانًا مستقيمًا لنغتسل "بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1 بط 1: 19)[85]].

<<

 

 


 

الأصحاح السادس

ذبيحة الإثم

وشرائع الذبائح والتقدمات

في هذا الأصحاح يقدم لنا الوحي الإلهي النوع الثاني من ذبيحة الإثم، وهي الذبيحة التي معها يلتزم مقدمها بتقديم تعويض لإخوته الذين سبب لهم ضررًا ماديًا [1-7]. كما يعرض على الكهنة بعض جوانب طقوس الذبائح والتقدمات التي تهمهم أكثر مما تشغل الشعب، إذ سبق في الأصحاحات وتحدث عنها بما يناسب مقدموها.

1. النوع الثاني لذبيحة الإثم [1-7].

2. شريعة المحرقة                   [8-13].

3. شريعة القربان                    [14-23].

4. شريعة ذبيحة الخطية             [24-30].

1. النوع الثاني لذبيحة الإثم:

بعد أن حدثنا عن ذبيحة الإثم التي تُقدم عمن خان مقدسات الرب، عاد ليُحدثنا عن تلك التي تخص من جحد صاحبه في أمر وديعة أو أمانة (شركة) أو أنكر شيئًا وجده فالتقطه... بهذا يسلب أخاه أو يغتصب حقه.

يقصد بالوديعة ما يودعه إنسان لدى آخر إلى حين كأمانة يجب ردها، أما الأمانة أو خيانة شركة فغالبًا ما تشمل معنى أوسع إذ يعني ما التزم به الإنسان في تدبير شئون آخر كالوصي الذي يدبر أمور قاصر أو مريض أو محجور عليه، إذ يليق بنا ونحن في مركز الأوصياء أن نتوخى الأمانة الكاملة. أما اللقطة فتعني أن يجد إنسان شيئًا ملقيًا فيلتقطه، إذ لا يجوز له أن يخفيه أو ينكره بل يسعى نحو رده لصاحبه.

يعلق العلامة أوريجانوس على إرتكاب مثل هذه الخيانة كأمر غير لائق أن يرد في ذهن المؤمن، إذ يقول: [ليعلموا أن من "خان خيانة بالرب وجحد صاحبه وديعة أو أمانة أو مسلوبًا..." [2]، يسقط تحت دينونة عن خطية كبرى. ليحفظ الله كنيسته! فإنه لا أظن أن أحدًا من جمهور القديسين هذا يسلك هكذا ببؤس حتى ينكر وديعة قريبه أو يغشه في أمانة أو يسلبه خيرًا ليس له، أو يخفي أشياءً مسروقة من آخرين، وإن سُئل عنها يقسم مخالفًا ضميره. كما قلت إن هذا التفكير بعيد عن أحد المؤمنين. فإنني بثقة أقول: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا" ولا هكذا "عُلمتم فيّه" (أف 4: 20-21). هذا وأن الناموس ذاته لا يقدم وصايا للقديسين والمؤمنين... "إن الناموس لم يوضع للبار بل للأثمة والمتمردين، للفجار والخطاة، للدنسين والمستبيحين" (1 تي 1: 9-10) ولأمثالهم. مادام الرسول يقول إن الناموس قد وضع لمثل هؤلاء، فليحفظ الله كنيسته من أن تُداس بخطايا كهذه، ولتكن كنيسته متعلمة ومقدسة بالروح[86]].

والآن إن كانت الوصية بمعناها الحرفي لا يجب حتى التفكير فيها، إذ يليق بمؤمن أن يخون صاحبه في أمر وديعة أو أمانة أو لقطة يجدها، فماذا تعني هذه الأمور في المفهوم الروحي؟

أولاً: أول وديعة إستلمها الإنسان هي روحه التي على صورة الله ومثاله، إستلمها من الله ليسلمها كما هي بلا تشويه. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يلزمك أن ترد هذه الوديعة سليمة وكاملة على ذات الحال الذي أخذتها عليه. فإن كنت رحيمًا كما أن أباكم هو رحوم (لو 6: 36) فإن صورة الله تكون في داخلك... إن كنت كاملاً كما أن أباكم في السموات كامل (مت 5: 48) فإن وديعة صورة الله قائمة في داخلك، وهكذا في كل الأمور الأخرى، إن كنت نقيًا وبارًا وقديسًا ونقي القلب الأمور التي في الله بطبيعته تتمثل أنت بها، بهذا تكون وديعة الصورة المقدسة سليمة وصحيحة. لكن إن كان سلوكك على خلاف هذا فكنت قاسيًا عوض أن تكون رحيمًا، شريرًا عوض التقوى، عنيفًا عوض اللطف، زارعًا للإنقسام عوض غرس السلام، سارقا عوض العطاء بسخاء، فإنك بهذا تكون قد رفضت صورة الله لتأخذ صورة إبليس، تجحد الوديعة الصالحة التي وهبك الله إياها كأمانة. أليست وصية الرسول لتلميذه المختار تيموثاوس: "يا تيموثاوس إحفظ الوديعة" (1 تي 6: 20) [87]].

يُطالبك السيد المسيح برد الوديعة بقوله: "إعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 23). وكما يقول القديس أغسطينوس: [كما يطلب قيصر صورته على العمله هكذا يطلب الله صورته فينا[88]].

ثانيًا: الوديعة التي تسلمناها من الكنيسة هي التقليد الكنسي الذي في جوهره هو الإيمان الحيّ بالثالوث القدوس مترجمًا عمليًا خلال العبادة والسلوك في المسيح يسوع. هذه الوديعة يلزم أن نسلمها بأمانة للجيل التالي لا خلال الكتابة أو الوعظ فحسب وإنما خلال كل حياتنا التعبدية وسلوكنا في المنزل والعمل والشارع... نقدمه تقليدًا حيًا بلا انحراف. يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يكفينا للبرهنة على عبادتنا ذلك التقليد المنحدر إلينا من الآباء، بكونه الميراث الذي تناقلناه بالتتابع منذ الرسل خلال القديسين الذين تبعوهم[89]]. تضم هذه الوديعة المقدسة التي تسلمناها أي التقليد أو التسليم إيماننا بالخلاص وعمل الثالوث القدوس فينا والتمتع بالكتاب المقدس بعهديه وممارستنا للعبادة وسلوكنا بالروح... إلخ.

ثالثًا: يرى العلامة أوريجانوس أن عدم جحد الأمانة يعني الحفاظ على حياة الشركة مع الله في إبنه يسوع المسيح، وشركتنا مع القديسين والسمائيين في الرب بلا إنحراف، إذ يقول: [لنرى الآن ما يجب أن نفهمه من كلمة "أمانة (شركة)". هل تظن أنه توجد ضرورة للتحذير من عدم غش الشريك في أمور مالية أو غير مالية؟ يا لها من تعاسة مُرّة أن يمارس إنسان غشًا كهذا! من أجل الضعف لم يغفل الرسول عن تقديم هذا التحذير: "أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر لأن الرب منتقم لهذه كلها" (1 تس 4: 6). الآن لنبحث عن "الشركة" روحياً. إسمع ما يعبر عنه الرسول بكلماته: "إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما في الروح، إن كانت أحشاء ورأفة، فتمموا فرحي" (في 2: 1-2). أترى كيف فهم الرسول بولس قانون "الشركة"؟ إستمع أيضًا إلى يوحنا إذ يعلن بنفس الروح: "وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع إبنه يسوع المسيح" (1 يو 1: 3). ويقول بطرس نفس الشيء: "تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية" (2 بط 1: 4)، بمعنى أن تكون لنا معه شركة. يقول الرسول بولس: "أي شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14)، فإن كان لا يمكن أن توجد شركة بين النور والظلمة وقد صارت لنا شركة مع الآب والإبن والروح القدس لذا يلزمنا أن نسهر لئلا نجحد هذه الشركة الإلهية المقدسة، فإننا إن تممنا "أعمال الظلمة" (رو 13: 12)، نكون بهذا بالتأكيد قد جحدنا الشركة مع النور[90]].

أمانتنا في الشركة أو في الأمانة التي عهد بها الله إلينا تلزمنا أن نسلك في النور ونرفض أعمال الظلمة، بهذا ننعم بالشركة وذلك بفعل الروح القدس واهب الشركة مع الله في ربنا يسوع المسيح. هذه الشركة تربطنا بشركة مع القديسين كأبناء نور معنا وأيضًا مع السمائيين، إذ يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنا بالفعل في شركة مع الآب والإبن، كيف لا نكون كذلك في شركة مع القديسين، ليس فقط الذين على الأرض، وإنما أيضًا مع الذين في السماء؟! لأن المسيح بدمه صالح السمائيين مع الأرضيين (كو 1: 20) ليوحِّد السماء مع الأرض. أظهر هذه الشركة بوضوح عندما قال أنه يوجد فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب (لو 1: 15)، وأيضًا عندما قال: "في القيامة يكونون كملائكة الله في السماء" (مت 22: 30)، واعدًا الناس بصراحة بملكوت السموات (مت 13: 11). هذه الشركة نجحدها عندما نفترق عن السمائيين بأعمالنا الشريرة ومشاعرنا الردية[91]].

رابعًا: أما بخصوص السرقة وسلب الآخرين، فكما يقول العلامة أوريجانوس: [يوجد لصوص أشرار كما يوجد لصوص صالحون. الصالحون هم الذين قال عنهم المخلص إنهم يغتصبون ملكوت السموات (مت 11: 12). لكن يوجد لصوص أشرار، يتحدث عنهم النبي: "سلب البائس في بيوتكم" (إش 3: 14)، كما يقدم الرسول تصريحًا شديد اللهجة: "لا تضلوا: لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون... يرثون ملكوت الله" (1 كو 6: 9، 10)[92]. أما السرقة بالمفهوم الروحي فهي أن يختفي الإنسان بين القديسين فيكون سارقًا لفكرهم الروحي ومعرفتهم الإلهية دون أن تتجدد حياته، فيكون كمن سلب خمرًا جديدة ووضعها في زقاق قديم، فالزقاق ينشق والخمر تنصب (مت 9: 17).

خامسًا: بخصوص الأمور المفقودة، من يجدها ويخفيها دون أن يردها لصاحبها يُحسب مغتصبًا ما لا حق فيه. ولعل هذا يُشير إلى جماعة الهراطقة الذين يغتصبون نفوس البسطاء ويسلبون الكنيسة أولادها، أو يسلبون الله نفسه وأولاده. هؤلاء إذ يرجعون عن ضلالهم وبدعهم يلزمهم أيضًا أن يردوا النفوس التي انحرفت بسببهم وتركت الإيمان الحق.

الآن إذ نعود إلى الذبيحة التي يُقدمها من ارتكب إحدى الخطايا السابقة نلاحظ الآتي:                  

أولاً: حسب الرب هذا الجحود خيانة له هو شخصيًا، فكل ظلم أو خيانة أو جحود أو سرقة نمارسها ضد إخوتنا يحسبها الله موجهة ضده هو شخصيًا بكونه محب البشر المهتم بخلاصهم، وأيضًا كل حب ولطف وترفق نقدمه لهم يحسبه مقدمًا له شخصيًا. ففي اليوم الأخير يقول: "بما أنكم فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبيّ قد فعلتم" (مت 25: 40). لذلك يقول القديس جيروم: [كل مرة تبسط يدك بالعطاء أذكر المسيح[93]].

ثانيًا: يطلب من المخطئ أن يرد ما قد سلبه أو اغتصبه أو أنكره، فإن كانت الذبيحة قادرة على غفران الخطية لكنها لا تعمل في قلب متمسك بالشر. رد المغتصب لصاحبه هو إعلان صادق عن التوبة وقبولنا لعمل الله الخلاصي عمليًا.

هذا ويلاحظ أن الشريعة طلبت من موسى النبي أن يقيِّم الخسارة أو الضرر، لكن ليس بشاقل القدس (5: 15) كما في الخطية الموجهة ضد المقدسات...

ثالثًا: يطلب هنا أيضًا أن يقدم المخطئ الخُمس إضافة إلى ما قد سلبه. هذا الخُمس يمثل تعويضًا أدبيًا وماديًا عما لحق بالمضرور من خسائر، ومن جانب آخر يُحسب هذا التعويض تأديبًا للمخطئ حتى لا يكرر ما ارتكبه أو يستهين بالخطية. ومن جانب ثالث فإن هذا الخُمس الذي يقدمه للمضرور يُحسب كأنه مقدم لله... فإن كانت حواسه قد تدنست بالخطية يلزم تسليمها للرب كما في النوع الأول من هذه الذبيحة (أصحاح 5).

رابعًا: تقديم ذبيحة لاثمة كبشًا صحيحًا من الغنم... إذ لا تطهير من الإثم بدون سفك دم حمل الله، حتى وإن رد الإنسان ما اغتصبه مضاعفًا! ويرى العلامة أوريجانوس أن مرتكب الإثم يشتري الكبش أو الحمل من البائعين وهم الأنبياء والرسل الذين قدموا كلمة النبوة والكرازة لنقتني بالإيمان دم السيد المسيح غافر الخطية. إنهم يحثوننا على التوبة عن خطايانا والرجوع إلى الله بقبولنا الإيمان بمخلص العالم.

2. شريعة المحرقة :

في الأصحاحات السابقة كانت كلمات الرب لموسى: "كلم بني إسرائيل وقل لهم" (1: 2، 4: 1)، أما هنا فيقول: "أوصِ هرون وبنيه قائلاً" [8، 24]. هذا ما دفع بعض الدارسين إلى الإعتقاد بأن هذا الجزء وما يليه في الأصحاحين 6، 7 موجه للكهنة لا للشعب.

الآن إذ يقدم للكهنة شريعة ذبيحة المحرقة أبرز لهم بعض النقاط الهامة، وهي:

أولاً: توضع المحرقة المسائية  حوالي الساعة السادسة مساءً لكي تظل على نار المذبح حتى الصباح، حيث كان يلزم أن تبقى النار مشتعلة بغير إنقطاع، إذ يقول: "المحرقة تكون على الموقدة (موضع إيقاد النار) فوق المذبح كل الليالي حتى الصباح، ونار المذبح تتقد عليه" [9]. ما هذه المحرقة التي توضع على الموقد الناري الذي للمذبح طول الليل حتى الصباح إلاَّ حياتنا التي نقدمها بنار الروح القدس محرقة حب لله طول ليل هذا العالم دون أن يفتر قلوبنا أو تتراخى روحنا إلى أن يشرق صباح الأبدية التي بلا ظلمة ونلتقي مع شمس البر وجهًا لوجه؟!

يحدثنا العلامة أوريجانوس عن هذه الذبيحة التي نقدمها على النار بلا انقطاع بكوننا كهنة الله - بالمفهوم الروحي العام الذي نناله خلال سر المعمودية - فيقول: [يجب أن تكون لك نار على المذبح بلا توقف. إن أردت أن تكون كاهنًا للرب كما هو مكتوب: "أما أنتم (كلكم) فتدعون كهنة الرب" (إش 61: 6)، وأيضًا كتب عنكم أنكم: "جنس مختار كهنوت ملوكي أمة مقدسة" (1 بط 2: 9)، وإن أردت أن تمارس كهنوتك فلا تبتعد قط عن نار مذبحك. هذه هي وصية الرب في الإنجيل: "لتكن أحقاؤكم ممنطقة ومصابيحكم موقدة" (لو 12: 35). لتكن نار الإيمان وسراج علمك مضيئًا على الدوام بلا توقف[94]].

ثانيًا: في الصباح عند رفع الرماد المتخلف عن الذبائح يلتزم الكاهن بلبس  الثياب الكهنوتية المقدسة من قميص ومنطقة وسروال وقلنسوة (خر 28: 40-42) حتى يدرك الكهنة قدسية هذا العمل. بحسب المظهر هو رفع رماد يتطلب لبس ثياب قديمة، لكن في الفهم الروحي ليس مجرد رفع رماد متخلف إنما هو ممارسة جزء لا يتجزأ من عمل قدسي يمس تقديس الإنسان خلال مصالحته مع الله القدوس.

إن كانت الذبائح الحيوانية يتخلف عنها رماد يحمله الكهنة إلى جانب المذبح بقدسية ومهابة ثم ينقلونه بأنفسهم إلى الخارج، فإن ذبيحة السيد المسيح لم يمسها فساد بل قام السيد من الأموات واهبًا إيانا جسده سرّ حياة، يحملنا من رمادنا إلى الأبدية. السيد المسيح نفسه هو الذبيحة واهبة الحياة لنا نحن التراب والرماد!

ثالثًا: إذ يلتزم الكهنة بحمل الرماد إلى خارج المحلة يخلعون ثياب الخدمة ويلبسون ثيابًا أخرى حتى لا يخرجون بثياب الخدمة إلى الخارج. وكانوا يلقون الرماد في مكان مقدس دعى "مرمى الرماد" (4: 12)، محاط بسور حتى لا يأخذ أحد من الرماد الذي فيه، ولكي لا تذريه الرياح... يا للعجب، حتى آثار الرماد مقدس لا يُمس! إنها صورة لتقديس كل ما يمس الذبيحة الحقيقية كقبر السيد المسيح الذي فيه اضطجع واهب الحياة والذي قيل عنه: "ويكون محله (قبره) مجدًا" (إش 11: 1).

حينما نحمل الذبيحة فينا نصير نحن التراب مقدسين... تتقدس نفوسنا وأرواحنا وأيضًا أجسادنا الترابية! نصير أشبه بقبر السيد المسيح الذي تبارك بحلوله فينا!

رابعًا: يلتزم الكهنة ببقاء نار المذبح متقدة نهارًا وليلاً: "نار دائمة تتقد على المذبح لا تُطفأ" [13]. هذه النار التي جاءت من لدن الله بعد مسح هرون وبنيه (9: 24) إحتفظ بها اليهود بإيقاد الحطب والذبائح عليها، وكانوا يضعونها في ثلاثة مواضع على مذبح المحرقة... ويروي سفر المكابيين الثاني أن اليهود لما سبوا إلى بابل خبأوا النار المقدسة في بئر ليس بها ماء، ولما أرسل ملك فارس نحميا وأصحابه إلى أورشليم أرادوا أن يخرجوا النار من البئر فلم يجدوها بل وجدوا فيها ماءً، فوضعوا الوقود على المذبح ووضعوا عليه الذبائح ثم صبوا ماءً من البئر، ولما ظهرت الشمس محتجبة بالغيم إتقدت نار عظيمة على المذبح، فمجد الجميع الله. ولما علم ملك فارس بذلك تعجب وأمر بأن يُسيج حول البئر واعتبره موضعًا مقدسًا (2 مك 1: 19-36).

3. شريعة القربان:

في الأصحاح الثاني وجه الله حديثه لكل بني إسرائيل خلال موسى بخصوص تقدمة القربان، التي تحدثنا عنها في شيء من التفصيل، أما هنا فيركز على دور الكاهن من جوانب متعددة.

أولاً: يأخذ بقبضته بعض دقيق التقدمة وزيتها وكل اللبان الذي على التقدمة ويوقد على المذبح رائحة سرور تذكارها للرب [15] في دراستنا السابقة لبعض أسفار العهد القديم رأينا أن الذراع واليد يُشيران إلى كلمة الله المتجسد الذي جاء يتمم الخلاص عمليًا كما بيده[95] بينما أصبع الله يُشير إلى روحه القدوس. لعل يد الكاهن وهي تقبض بالدقيق والزيت تُشير إلى السيد المسيح الذي أمسك بطبيعتنا كما بقبضته لنصير فيه تقدمة حب لله، وكما قلنا أن الزيت يُشير إلى الروح القدس الذي به تحقق تجسد الكلمة في الأحشاء البتولي، وهو الروح الذي وهبه إيانا لأجل تقديسنا فنحسب بحق تقدمة سرور لله.

ثانيًا: ما يتبقى من دقيق وزيت يأكله فطيرًا الكهنة في دار خيمة الإجتماع دون إستخدام الخمير... يأكله الذكور دون النساء والأطفال، إذ يُشير إلى تمتعنا بالإتحاد مع السيد المسيح خلال جسده المبذول، فلا ينعم به المدللون (النساء) ولا غير الناضجين روحيًا (الأطفال)، إنما يتمتع به الروحيون السالكون كرجال الله في نضوج وجدية.

أما قوله: "إنها قدس أقداس... كل من مسها يتقدس" [17-18]. فيُشير إلى قدسية هذه التقدمة، فلا يأكلها غير الكهنة، يأكلونها داخل دار الخيمة وهم مستعدون روحيًا وجسديًا... ولعله يقصد أن كل من يمسها يصير قدسًا للرب يتكرّس لخدمته الإلهية.

يعلق العلامة أوريجانوس على هذه العبارة: [المسيح الذبيح (1 كو 5: 7) هو الذبيحة الوحيدة الكاملة التي قدمت كل هذه الذبائح كصورة لها، فمن يلمس جسد المسيح يتقدس إن كان دنسًا، يُشفى من آلامه، وذلك كنازفة الدم التي أدركت أن المسيح هو جسد الذبائح، إنه الجسد المقدس لذلك إقتربت إليه ولمسته[96]].

لقد أدركت الكنيسة فاعلية هذه الذبيحة وقدسيتها، لذلك دعى القديس يوحنا ذهبي الفم سرّ الأفخارستيا: [سرًا إلهيًا[97]]، [مائدة إلهية مهوبة[98]]، [سرًا مخوفًا[99]]، [غير منطوق به[100]]، [ذبيحة مقدسة مرهبة[101]].

أما عن تناوله داخل الدار فيُشير إلى تمتعنا بالحياة السماوية خلال هذه الذبيحة. وقد عبرّ القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا بقوة بقوله: [كإن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة].

والعجيب أن الكاهن وهو يتمتع بنصيب من هذه التقدمة، من دقيقها وزيتها، إذا به يلتزم من جانبه أن يقدم هو أيضًا تقدمة للرب صباحية وتقدمة مسائية. يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس ومعظم علماء اليهود أن رئيس الكهنة كان يقدم هذه التقدمة يوميًا بالنسبة لخطورة مركزه أما الكاهن العادي فكان يقدمها مرة واحدة يوم مستحه فقط[102].

ولعل الحكمة من تقديم الكهنة للتقدمة أن يدركوا رسالتهم أنهم وإن كانوا باسم الرب يتمتعون بأنصبة كثيرة من الشعب لكنهم كجزء لا يتجزأ من الشعب هم أيضًا ملزمون بتقديم تقدمات. ومن جانب آخر الكاهن وهو يأخذ ينبغي أن يعطي... يعطي قلبه لله ولأولاده الروحيين كما يعطي أيضًا جهده وما تملكه يداه، وكما قال الرسول بولس عن نفسه أنه ينفق ويُنفق.

ما هي التقدمة الصباحية التي يلتزم بها الكاهن إلاَّ تقديم ناموس الرب الذي تسلمته كنيسة العهد القديم كما في الصباح عند بدء الحياة الروحية، يقدمه كما على نار الروح القدس الذي ينزع الحرف ويفيح رائحة الروح الذكية. أما تقدمة المساء فهي تقدمة الإنجيل بالسيد المسيح الذي قدم حياته فدية عن البشرية في ملء الزمان، كما في مساء حياتنا على الأرض. هكذا على ذات المذبح نتقبل الناموس روحيًا ملتحمًا بالكرازة بالإنجيل.

وقد أكدت الشريعة أن توقد تقدمة الكاهن أو تحرق بكمالها ولا توكل [23]... إذ يليق به أن يعطي كل حياته محرقة الرب، حتى إن قدم كل حياته للآخرين فهو يقدمها للرب وحده!

4. شريعة ذبيحة الخطية:

أبرز ما في شريعة ذبيحة الخطية نقطتين أساسين:

أولاً: تحسب أنصبة الكهنة منها "قدس أقداس" يأكلها الكهنة في دار الخيمة، من يمس لحمها يتقدس، بمعنى أنه لا يجوز أن يأكل منها إلاَّ من كان مستعدًا، ومن جانب آخر أن من يمسها يُحسب في ملكية الرب نفسه.

ثانيًا: أهم ما أبرز في شريعة هذه الذبيحة هو قدسية الدم، فإن انتثر من دمها على ثوب يُغسل ما انتثر عليه في مكان مقدس، وإناء الخزف الذي تطبخ فيه يُكسر، وإن كان نحاسيًا فيُجلي جيدًا بماء مقدس ويُشطف لأن النحاس لا يمتص شيئًا من الذبيحة.

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن فاعلية دم السيد المسيح الذبيح، قائلاً: [هذا الدم يجعل صورة ملكنا واضحة فينا، ويجلب علينا جمالاً لا ينطق به، ولا يسمح بانتزاع سمونا، بل يرويه دائمًا وينعشه...

هذا الدم متى أخذناه بحق يطرد الشياطين، ويبعدهم عنا، بينما يدعو إلينا الملائكة. فإذ يظهر دم الرب تهرب الشياطين وتجتمع الملائكة. هذا الدم المسفوك يطهر كل العالم... هذا الدم يطهر الموضع السري وقدس الأقداس... هذا الدم يقدس المذبح الذهبي... هذا الدم يقدس الكهنة... هذا الدم هو خلاص نفوسنا... تغتسل النفس وتتجمل وتلتهب. به يلتهب فهمنا كالنار، وتتلألأ النفس أكثر من الذهب[103]].

<<

 

 


 

الأصحاح السابع               

شرائع الذبائح (تكملة)

إذ وجه الحديث لهرون وبنيه عن بعض الذبائح والتقدمات يكمل الحديث في هذا الأصحاح:

1. ذبيحة الإثم              [1-10].

2. ذبيحة السلامة          [11-34].

3. خاتمة                   [35-38].

1. ذبيحة الإثم:

سبق فوجه الحديث إلى بني إسرائيل بخصوص ذبيحة الإثم (5: 16، ص 6)، ورأينا أنها تقترب جدًا من ذبيحة الخطية، والآن إذ يوجه الحديث للكهنة يقدم توجيهات عن هذه الذبيحة تقترب أيضًا من التوجيهات الخاصة بذبيحة الخطية... لذلك فإن ما نورده من تعليقات هنا إنما يُحسب تكملة للحديث عن ذبيحة الخطية.

أولاً: سبق فحدد أن "في المكان الذي تذبح فيه المحرقة تذبح ذبيحة الخطية أمام الرب، إنها قدس أقداس"(6: 25)، هنا أيضًا يقول "إنها قدس أقداس، في المكان الذي يذبحون فيه المحرقة يذبحون ذبيحة الإثم" [1-2]. لماذا يؤكد أن الموضع الذي يذبحون فيه ذبيحة المحرقة هو بعينه الذي يذبحون فيه ذبيحة الخطية وأيضًا ذبيحة الإثم؟

أ. إن كانت ذبيحة المحرقة هي "وقود رائحة سرور للرب" (1: 9، 13، 17). بينما ذبيحتا الخطية والإثم تحملان مفهومًا آخر، إذ تمثلان حمل السيد المسيح لخطايانا وللعنة الناموس عنا، لكن الجانبين متكاملان ومتلازمان. لو ذبحت الأولى في موضع وذبيحتي الخطية والإثم في موضع آخر لصار هناك تمييز بين الذبائح، وفقدت الذبائح وحدتها وتكاملها... ولا نشق الصليب إلى جوانب معتزلة عن بعضها البعض. بمعنى آخر ذبح هذه الذبائح جميعها في مكان واحد، إنما يعلن عن ذبيحة الصليب الواحدة، فيها ننعم بذبيحة المحرقة كما بذبيحة الخطية والإثم. في الصليب ننعم برضا الآب الذي يتقبل طاعة الإبن الكامل حتى الموت، وفيه ننعم بغفران خطايانا وانتزاع لعنة الناموس عنا‍!

ب. ذبح الذبائح الخاصة بذبيحتي الخطية والإثم مع تلك الخاصة بالمحرقة يعطي رجاءً للخطاة، فيتقبلون بذبائحهم بثقة في الله المترفق بالخطاة، وقد أقام لهم موضعًا ليقبل عنهم الذبيحة، فلا يهربون من وجهه ولا يجولون تائهين على الأرض كقايين. لذلك يقول العلامة أوريجانوس: [أنظر إلى عظمة الغفران ومراحم الرب، فإنه في الموضع الذي فيه تقدم المحرقة للرب وحده، فيه أيضًا يأمر بذبح ذبيحة الخطية (وذبيحة الإثم)! لقد أمر بذلك لكي يفهم الخطاة التائبون أن يرجعوا إلى الله (1 تس 1: 9). بهذا يقفون في مكان مقدس ويشتركون فيما يخص الرب... فلا ينسحبون من أمام الرب كما فعل قايين الذي امتلأ خوفًا واضطرابًا (تك 4: 14، 16). بهذا قدم تأكيدًا أن يقف الخاطئ أمام الرب ولا يهرب من أمام وجهه ولا يبتعد عنه بعيدًا بسبب الخطية بل يقدم ذبيحة أمام الرب، هذه التي تقدم عن الخطاة، بكونها قدس أقداس[104]].

ثانيًا: في ذبيحة الخطية قيل: "الكاهن الذي يعملها للخطية يأكلها" (6: 26)، وفي ذبيحة الإثم قيل: "كل ذكر من الكهنة يأكل منها، في مكان مقدس تؤكل، أنها قدس أقداس، ذبيحة الإثم كذبيحة الخطية، لهما شريعة واحدة، الكاهن الذي يكفر بها تكون له" [6-7].

أكل الكهنة الذي يكفر بها منها كما سبق فرأينا يُشير إلى قبول الله لذبيحة الخطية أو الإثم، إذ لا يسمح الله لكهنته أن يشتركوا في مثل هذه الذبائح لولم يكن قد مسح الخطية تمامًا، وكما يقول فيلون اليهودي بأن أكل الكاهن من الذبيحة يعطي طمأنينة في قلب مقدمها بأن الله غفر له الخطية.

يرى العلامة أوريجانوس أن الكاهن الذي يكفر بالذبيحة هو السيد المسيح الذي يقدم دمه كفارة عن خطايانا، فكيف يقوم بأكل الذبيحة؟ [المسيح هو الذبيحة المقدمة عن خطايا العالم كله وفي نفس الوقت هو الكاهن الذي يُقدمها، الأمر الذي يشرحه الرسول بقوله: قدم ذاته للآب (عب 9: 14). إذن هو الكاهن الذي يأكل خطايا العالم ويرفعها، إذ قيل "أنت هو الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق" (مز 109: 4). إذن مخلصي وإلهي يأكل خطايا العالم. كيف يأكلها؟ إسمع الكتاب: "إلهك هو نار آكله" (تث 4: 24). ماذا يأكل الإله الذي هو نار؟ نُحسب في منتهى الحمق إن ظننا أن الرب نار يأكل الخشب والقش... إنما هو نار يأكل خطايا العالم، يحطمها ويبددها، وينقينا منها، إذ قيل في موضع آخر: "أنقيك بالنار فأجعلك ظاهرًا" (راجع إش 1: 25). هذا هو أكل الخطية بواسطة ذاك الذي قدم ذبيحة الخطية، لأنه حمل خطايانا، وبه كنار أكلها وحطمها. نذكر على سبيل المثال أمرًا عكسيًا، فنقول أن الموت يبتلع الذين يستمرون في خطاياهم، كما قيل أن الموت الغالب يبتلعهم (مز 49: 14). أما المخلص فيقول في الإنجيل: "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49). إنني أترجى من السماء أن تضطرم أرضي بالنار الإلهية فلا تحمل شوكًا وحسكًا (تك 3: 18)[105]].

ثالثًا: يأكل الكاهن ذبيحة الخطية وأيضًا ذبيحة الإثم "في مكان مقدس" [6].

إن كان السيد المسيح بناره الإلهية يحرق خطايانا خلال ذبيحته الفريدة، كمن يأكلها ويبددها فإن كهنة المسيح كأولاد له يحملون شركة العمل معه، لا يكفون عن الدخول بنفس كل خاطئ إلى دائرة الصليب حتى تحترق خطاياه، بهذا يحسب الكهنة أيضًا كمن يأكلون ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم. أما موضع الأكل فهو "في مكان مقدس"، الذي هو كنيسة الله.

إن كانت الأرض قد لُعنت بسبب الخطية (تك 3: 7)، لكن خلال الصليب نزعت اللعنة ليصير بها موضع مقدس نأكل فيه من المقدسات، هو كنيسة الله. لذا يقول: "في مكان مقدس تؤكل، في دار خيمة الإجتماع" (6: 26).

رابعًا: كان الجلد يُقدم للكاهن الخديم... ويرى بعض اليهود أن هذا الجلد يذكرنا بأقمصة الجلد التي وهبها الله لآدم وزوجته بعد عصيانهما رحمه بهما، أو مكافأة لهما عن عمل آدم الكهنوتي، إذ يرون في آدم - كما في رئيس كل قبيلة - إنه كاهن الرب يقدم عن القبيلة ذبائح.

خامسًا: يتمتع الكاهن بنصيب من ثلاثة أنواع من التقدمات، إذ قيل "كل تقدمة خبزت في التنور وكل ما عمل في طاجن أو على صاج يكون للكاهن الذي يقربه" [9]. ويرى العلامة أوريجانوس أن هذه التقدمات التي توهب للكاهن إنما هي كلمة الله التي يهبها الله لكهنته فيدركونها بالفهم الحرفي والسلوكي والروحي، أي الثلاثة أنواع من التفاسير[106].

نحن ككهنة يلزمنا أن نلتقي مع كلمة الله، نتقبلها بمفاهيم حرفية وسلوكية وروحية وأيضًا لنعيشها في حياتنا، نأكلها ونشبع بها، ونقدمها لأخوتنا طعامًا روحيًا مقدسًا. يقول العلامة أوريجانوس: [من الصعب أن يقدم الكاهن كلمة الله للشعب أو للجماعة ما لم تسوّى في التنور، أي بنار الروح القدس الملتهب في قلوبنا كتنور (فرن). أما التقدمة التي في الطاجن فهي كلمة الله المقدمة بفكر عميق داخلي، وأما التي على الصاج فتعني الكلمة الإلهية المكشوفة بعد أن نزع عنها برقع الحرف. كأن الثلاثة أنواع من التقدمة تُشير إلى الكلمة الإلهية التي يتمتع بها الكهنة كغذاء لنفوسهم، يقدمونها أيضًا للشعب خلال أتون قلوبهم الملتهبة بالروح، كلمة عميقة، فتنزع عنها برقع الحرف.

سادسًا: يتمتع أيضًا الكهنة بـ "كل تقدمة ملتوتة بزيت أو ناشفة" [10]. التقدمة التي بالزيت هي تقدمة القربان (أصحاح 2)، أما الناشفة التي بلا زيت فهي التقدمة المرافقة لذبيحة الخطية، إذ تقدم لغفران الخطايا بلا زيت الفرح (مز 44: 8)، بلا رائحة زكية.

إن كان الكاهن يُشير إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، فإنه يتقبل تقدمة القربان المفرحة الحاملة زيت رائحته الزكية، كما يتقبل دموع الخطاة وتوبتهم التي بلا زيت الفرح، يبتهج بتسبيحنا المبهج كما بدموعنا!

2. شريعة ذبيحة السلامة:

سبق الحديث مع بني إسرائيل بخصوص هذه الذبيحة (الأصحاح الثالث)، أما هنا فيركز على الجوانب التي تخص الكهنة، ويلاحظ في شريعة هذه الذبيحة الآتي:

أولاً: هذه هي الذبيحة الوحيدة التي يشترك فيها مقدم الذبيحة (مع غيره) في نوال نصيبهم منها، لذلك حددت الشريعة نصيب الرب، ونصيب الكاهن، ونصيب مقدم الذبيحة بدقة. وقد ميزت بين ثلاثة أصناف: ذبيحة السلامة لأجل الشكر، وأخرى لأجل نذر أو نافلة... الأولى تؤكل بكاملها في اليوم الأول، لا يبقى منها شيء إلى الصباح، والثانية والثالثة يمكن أن تبقى يومًا ثانيًا فقط لكنها لا تبقى لليوم الثالث. ولعل الحكمة من ذلك كي لا يفسد لحمها من جانب، ولكي يسرع مقدمها بأكلها مع أصدقائه خاصة الفقراء، فيبتهج الكل معًا بهذه الذبيحة، ولعله إشارة إلى قيامة السيد المسيح حيث قام حيًا في اليوم الثالث.

النذر والنافلة من الذبائح أو التقدمات الإختيارية التي لم يلزم بها الناموس أحدًا. النذر تعهد إختياري، غالبًا ما ينذره الإنسان لأجل أمر يرجوه من الرب، أما النافلة فغالبًا ما تقدم شكرًا لله على نجاح أصابه أو أمر كسبه، النذر يكون مشروطًا أما النافلة فغير مشروطة بشرط إنما هي تطوعية. إذا مات الحيوان الذي نُذر أو فقد أو أصابه عيب يلتزم صاحب النذر أن يقدم ما يساويه في القيمة، أما إن حدث ذلك بالنسبة للمقدم نافلة فلا يلتزم صاحب بتقديم آخر لأنه كان قد تعهد بتقديم حيوان بعينه (22: 17-25).

ثانيًا: مع ذبيحة السلامة تقدم تقدمة طعامية تشمل الآتي:

أ. أقراص زيت (فطير) ملتوتة بالزيت أو رقاق مدهون بالزيت أو دقيق ملتوت بالزيت... هذه التقدمة لا يدخلها خمير.

ب. أقراص خبز مختمر تؤكل مع اللحم، ولا يرفع منها شيء على المذبح، إذ لا يجوز الإيقاد على خمير (3: 12-13).

ثالثًا: يمكننا القول بأن تقدمة ذبيحة السلامة للشكر تضم ثلاثة أنواع: الذبيحة وتقدمة القربان والخبز المختمر، هذه الثلاثة ربما تُشير إلى الإلتزام بتقديم حياة الشكر خلال العمل والكلام والفكر، فلا نشكر الله بلساننا وقلبنا أو فكرنا يجحده أو أعمالنا وتصرفاتنا لا تتناغم مع كلماتنا. لتكن حياتنا كلها الداخلية والخارجية تنشد بقيثارة الروح لتقدم ذبيحة شكر متكاملة تفرح قلب الله.

رابعًا: يرى العلامة أوريجانوس في ذبيحة الشكر أن الكاهن يأكل نصيبه ولا يترك منه للصباح إشارة إلى التزام الكاهن أن يتمتع بكلمة الله كأنها جديدة مع كل صباح: [لحم الذبائح الممنوح للكهنة هو كلام الله الذي يعملون به في الكنيسة... فعندما يعظون الشعب لا ينطقون بكلمات قديمة حرفية لكنهم بنعمة الله ينطقون بكلام جديد، يتجدد دائمًا ككلام روحي[107]]. بمعنى آخر الكاهن الملتهب بالروح يقدم كلمة الله التي لا تتغير لكنها تُحسب كأنها جديدة في كل صباح، أما سر تجديدها فهو القلب الناري الذي يشعل قلوب الآخرين ويكشف لهم أسرار الله بطعم روحي لا يقدم ولا يشيخ. [عندما أعطى الرب الخبز لتلاميذه قال لهم: "خذوا كلوا" (مت 26: 26)، ولم يأمر بحفظ جزء منه لليوم التالي. هذا المعنى السري يمكن إدراكه في الوصية: "لا تحملوا مزودًا للطريق" (لو 9: 3)، حتى تقدموا طعامًا طازجًا على الدوام هو كلام الله الذي في داخلكم. أخيرًا فقد صار الجبعونيون القدامى محتطبي حطبًا ومستقي ماءً (يش 9: 21-23)، لأنهم جاءوا للإسرائيليين بخبز عتيق مع أن الناموس الروحي يطالب باستخدام الخبز الطازج والجديد على الدوام[108]].

خامسًا: أما بالنسبة للذبيحة الخاصة بالنذر أو النافلة، فيمكن أن تؤكل في اليوم الأول كما في اليوم الثاني، أما ما يتبقى لليوم الثالث فتحرق بنار [17]... من يأكلها في ذلك اليوم تحسب نجاسة [18]!

ماذا يعني هذا؟ يقول العلامة أوريجانوس: [على قدر فهمي أظن أن اليومين يفهمان على أنهما العهدان، حيث يُسمح لنا أن نبحث ونتأمل كلام الرب[109]].

سادسًا: تهتم شريعة ذبيحة السلامة أن يتمتع الإنسان بالحياة الطاهرة ولا يكون فيه شيء نجس أو دنس، وقد حذرتنا من ثلاثة أمور:

أ. أن يمس لحم الذبيحة شيئًا نجسًا [19]... حينئذ يُحرق اللحم بالنار ولا يؤكل.

ب. أن يأكل اللحم إنسان نجس، فإن هذه النفس تنزع من شعبها [20].

ج. إن لمس الإنسان شيئًا دنسًا فلا يسوغ أن يأكل منه [21].

إن كان اللحم يُشير إلى كلمة الله وتعاليمه، يمكننا القول أن المنع الأول يُشير إلى الإمتناع عن قبول كلمة الله التي يفسرها الهراطقة فيفسدون قدسيتها. أما المنع الثاني فيُشير إلى الإنسان نفسه فإنه لا يقدر أن يتمتع بقدسية كلمة الله ما لم يتطهر بالدم وتتنقى أعماله، أما المنع الثالث فيُشير إلى أثر الصداقات الشريرة علينا إذ تحرمنا من التمتع بأعماق الكلمة الإلهية وتذوق قدسيتها. بمعنى آخر لكي نتمتع بكمال فاعيلة كلمة الله فينا يلزمنا ألا نتقبلها خلال الفكر الهرطوقي، ولا نتقبلها بحياة فاسدة داخلنا، كما لا نتقبلها ونحن في شركة مع أشرار يفسدون عمل الكلمة فينا.

ليتنا نتقبل كلمة الله الحية والفعالة من الكنيسة المقدسة، وبفكر نقي وقلب مقدس، وفي جو روحي مقدس... بهذا ننعم ببهجة ذبيحة السلامة!

سابعًا: يقوم الكاهن بترديد صدر الذبيحة والساق اليمنى لتكون من نصيبه... ماذا يعني هذا؟ يضع الشحم على يدي مقدم الذبيحة أو أيدي مقدميها ثم يضع الصدر على الشحم ويضع الكاهن يديه تحت يدي مقدم الذبيحة ليرفعها ثم يحركها إلى فوق نحو الجهات الأربع، ويكرر نفس الأمر بالنسبة للساق اليمنى. هذا يُشير إلى أن الكاهن قد قدم الذبيحة لله وقدم شكرًا لذاك الذي يملأ المسكونة من مشارقها إلى مغاربها ومن شمالها إلى جنوبها، ثم يعود ليتقبل من يدي الله صدر الذبيحة وساقها اليمنى. إنه يسلم صدره للرب ليتقبله منه ثانية بقلب متجدد في الرب، ويسلم يده اليمنى ليتقبلها منه يدًا روحية عاملة لحساب الرب.

بهذا الطقس "ترديد الصدر وساق الرفيعة" يعلن الكاهن قبول عمل الله في حياته الداخلية (الصدر) وتصرفاته الظاهرة (ساق الرفيعة)، لتكون حياته كلها مكرسة لحساب الرب.

3. خاتمة:

يختم حديثه مؤكدًا إرتباط الذبيحة بالكهنوت ومعلنًا أن هذه الشريعة هي "التي أمر بها الرب موسى"... يلزم التدقيق بها من أجل قدسيتها.

<<

 

 


 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

تكريس هارون وبنيه

ص 8 – ص 10

 

 

1. طقس التكريس                  [ص 8].

2. ممارسة العمل الكهنوتي                 [ص 9].

3. العمل الكهنوتي والنار الغربية   [ص 10].

 

 


 

 الأصحاحات 8-10

تكريس هارون وبنيه

في سفر الخروج (أصحاحات 25-30) تمتع موسى النبي بالأمر الإلهي الصادر إليه لإقامة خيمة الإجتماع وتأثيثها وعمل الملابس الكهنوتية وتكريس الكهنة، وجاءت الأصحاحات التالية (35-40) تعلن عن تنفيذ الأمر الإلهي بخصوص الخيمة وإقامتها وقبولها لذى الله، وأرجأ أمر تكريس الكهنة إلى الحديث عنه بعد الحديث عن شرائع الذبائح والتقدمات في سفر اللاويين (أصحاحات1-7)، ليربط الذبائح بالكهنوت والكهنوت بالذبائح، فلا ذبيحة بدون كاهن، كما لا عمل كهنوتي خارج الذبيحة.

إن كان كهنوت هرون وبنيه يحمل رمزًا وظلاً لكهنوت السيد المسيح الذي لا يقوم على الطقس اللاوي بل على طقس ملكي صادق (عب 7)، غير أن مسح هرون وبنيه يكشف بطريقة الرمز عن دور السيد المسيح الكهنوتي.

هذا وتكشف هذه الأصحاحات عن مفهوم حياة التكريس لحساب الكاهن الأعظم ربنا يسوع بكوننا مسحاء له متحدين بمسيحنا الحق. هذا التكريس العام الذي يلزم أن يتسم به كل مسيحي قبل في مياه المعمودية أن يكون للرب وحده، مسلمًا كل القلب له، فيصير بهذا كاهنًا له لا بمفهوم الكهنوت الذي نناله في سرّ الكهنوت لممارسة العمل السرائري المقدس، وإنما الكهنوت العام الذي من خلاله يحق لكل مؤمن أن يبسط يديه ليقدم ذبائح الحمد والتسبيح وتقدمات الصلوات والتضرعات... هذا ما أوضحه القديس يوحنا الذهبي الفم الذي تمتع بسر الكهنوت وسجل لنا كتبه الستة عن "الكهنوت" في أروع ما قدمه لنا الآباء في هذا الشأن، فإنه يكتب أيضًا عن الكهنوت العام هكذا: [أنت أيضًا صرت ملكًا وكاهنًا ونبيًا في الجرن. صرت ملكًا تحطم أعمال الشر وتقتل خطاياك بسلطان، صرت كاهنًا تقدم حياتك لله كمن يذبح جسده فيذبح ذاته أيضًا، إذ قيل: "إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه" (2 تي 2: 11). وصرت نبيًا، إذ تعرف ما سيحدث في المستقبل بكونك قد صرت ملهمًا بالله مختومًا (بالمسحة). فكما يُختم الجنود هكذا يختم الروح المؤمنين[110]].

<<

 


 

الأصحاح الثامن

طقس التكريس

قام طقس التكريس على مبدأ هام هو "التقديس بدم الذبيحة" مع التخصيص للعمل الإلهي بالروح القدس.

1. الإعداد لطقس التكريس            [1-5].

2. الإغتسال                          [6].

3. إرتداء الملابس الكهنوتية         [7-9].

4. المسح بالدهن                     [10-13].

5. التقديس بالذبيحة                  [14-36].

6. التخصيص                         [33-36].

1. الإعداد لطقس التكريس:

 "وكلم الرب موسى قائلاً: خذ هرون وبنيه معه والثياب ودهن المسحة وثور الخطية والكبشين وسل الفطير واجمع كل الجماعة إلى باب خيمة الإجتماع، ففعل موسى كما أمره الرب، فأجتمعت الجماعة إلى باب خيمة الإجتماع، ثم قال موسى للجماعة: هذا ما أمر الرب أن يفعل" [1-5].

أعد موسى كل شيء لتتميم طقس التكريس بدقة بالغة، مؤكدين أمرين غاية في الأهمية، هما:

أولاً: إن كان قد أعد هرون وبنيه وأحضرهما كما أعد الثياب الكهنوتية ودهن المسحة والحيوانات للذبح والفطير للتقدمة وجمع الجماعة عند باب خيمة الإجتماع، فإن ما قد فعله كان تحقيقًا لأوامر الله، إذ كانت تسبحة هذا الأصحاح المتكررة: "هذا ما أمر الرب أن يفعل" [5]، أو "كما أمر الرب موسى" [4، 13، 17، 21، 29، 36... إلخ].

لم يكن لموسى النبي وأول قائد للشعب حق التصرف في اختيار الكهنة ولا في تدبير طقس تكريسهم إلاَّ حسب خطة الله وتدبيره، ليعلن أن ما تحقق بمجئ السيد المسيح كان خطة أزلية من تدبير الآب نفسه، إذ يقول السيد "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16)، كما يقول: "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته... إني خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني" (يو 17: 3، 8). هذه الإرسالية لا تقلل من دور الإبن الإيجابي، إذ يقول الرسول: "أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة... كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 2، 25). لقد قام الآب بالتدبير، قام بدور إيجابي وليس كما ادعى بعض الغنوسيين أن السيد المسيح محب للبشر بينما إله العهد القديم قاسٍ وعنيف. قام كل من الآب والإبن بدورهما الإيجابي في خلاصنا، وتطابقت إرادتهما تمامًا إذ هما واحد في اللاهوت والجوهر والإرادة.

إن كان الآب هو الذي أرسل إبنه الذي يحمل ذات إرادة الآب دون تعارض قط، ففي سيامة الكهنة - أيًا كانت درجتهم - يلزم أن نسلم الأمر بين يدي الله ليختار بنفسه ويدعو من يشاء، ليعمل فيهم إرادته الصالحة، لهذا يوصينا السيد المسيح: "أطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده" (مت 9: 38). وبهذه الروح تتضرع الكنيسة في ليتورجيا الأفخارستيا، قائلة: "الذين يُفَصِّلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم يارب على بيعتك يرعون قطيعك بسلام".

من واجب كل عضو في الكنيسة - ككاهن أو كأحد أفراد الشعب - أن يقدم الصلوات والتضرعات مع أصوام ومطانيات لكي يختار الله رعاة قلوبهم حسب قلبه.

ثانيًا: إن كان الكاهن هو اختيار الله، وطقس سيامته بتدبير إلهي دقيق، فإن الله قد أعلن أن الكاهن يُسام من أجل الجماعة، لهذا طلب من موسى أن يجمع كل الجماعة إلى باب خيمة الإجتماع. بمعنى آخر الكنيسة ليست جماعة الكهنة بل هي الشعب ككل يضم الكهنة كخدام للشعب يعملون لحساب مملكة الله، أي لحساب الجماعة المقدسة، وليس لحسابهم الشخصي. هذا ما أعلنه القديس يوحنا الذهبي الفم في أكثر من موضع مؤكدًا أن الكاهن ليس كاهنًا إلاَّ من أجل الشعب...

بهذه الروح أكدت القوانين الكنسية وكتابات الآباء إلتزام الشعب لا بالصلاة من أجل اختيار الكاهن وإنما أيضًا أن يقوم بدوره في الإختيار بروح الله. لذا جاء في تزكية الآب البطريرك: [بفعل الروح القدس واتفاق منا كلنا وطيب قلب واتفاق رأي الجماعة[111]]. وتصّر قوانين الرسل في سيامة الأسقف [يجتمع كل الشعب والقساوسة والشمامسه[112]]، كما جاء في قوانين أبوليدس: [يختار الأسقف من الشعب... وفي الأسبوع الذي يُقسم فيه يقول كل الإكليروس والشعب إنا نؤثره[113]].

لاحظ بعض الدراسين أن كلمة إجتماع هنا بمعنى "كنيسة" أو "إكليسيا" قد وردت هنا لأول مرة في الكتاب المقدس، وكأن الكنيسة تجتمع لأول مرة عند المسحة لتعلن عن وجودها خلال كاهنها ربنا يسوع المسيح الممسوح رأسًا لها، فلا وجود للجسد إلاَّ خلال اتحاده بالرأس.

2. الإغتسال:

قبل أن يرتدي هرون وبنوه الثياب الكهنوتية، قدمهم موسى وغسلهم بماء [6] ليؤكد لهم جانبين هامين في حياتهما الكهنوتية، الأول أن الله القدوس يعمل  في كهنته المقدسين فيه والمغتسلين من كل ضعف، والثاني أن الكاهن - أيًا كانت رتبته - فهو إنسان تحت الضعف يحتاج أن يغتسل هو أولاً لكي يقدر أن يقوم بغسل أقدام الآخرين. هذا ما أكده القديس يوحنا الذهبي الفم لنفسه كما لأخوته الكهنة، معلنًا إلتزام الكاهن باهتمامه بخلاص نفسه حتى يقدر أن يهتم بأولاده الروحيين، فمن كلماته: [إن كلامي أكثر فائدة لحياتي من الذين يسمعونني[114]].

ويرى العلامة أوريجانوس في اغتسال الكهنة قبل إرتدائهم الملابس الكهنوتية إشارة إلى ضرورة الإغتسال الكلى في مياه المعمودية لكي نلبس السيد المسيح، والحاجة إلى الإغتسال المستمر من الشر باعتزالنا إياه لنبقى على الدوام لابسين ربنا يسوع المسيح. فمن كلماته: [بالحق لا يمكننا أن نلبس ما لم نغتسل أولاً. إذن "إغتسلوا. تنقوا، إعزلوا شر أفعالكم" (إش 1: 16). فإن لم تغتسل هكذا لا تقدر أن تلبس الرب يسوع المسيح كقول الرسول: "إلبسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" (رو 3: 14). ليغسلك موسى، وليلبسك بنفسه. كيف يغسلنا موسى؟ موسى في الكتب المقدسة يمثل الناموس، كما قيل في الإنجيل: "عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم" (لو 16: 29). إذًا ناموس الرب هو يغسلك ويذيب دنسك إن أصغيت له... يا من تريدون التمتع بالمعمودية المقدسة ونوال نعمة الروح يلزمكم أن تتنقوا بالناموس، أي تسمعوا كلمة الرب وتنزعوا عنكم رذائلكم الطبيعية، وتلطفوا طبائعكم المتوحشة، حتى متى حصلتم على الإتضاع والوداعة تتمتعون بنعمة الروح القدس. يقول الرب بواسطة الأنبياء: "أي مكان راحتي؟!... (إلى هذا أنظر) إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 1-2). فإن لم تكن وديعًا ومتواضعًا وتقبل كلام الله برعدة لا تسكن فيك نعمة الروح، إذ يهرب الروح القدس من النفس المتكبرة المنافقة[115]].

يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم على الإغتسال الداخلي، فيقول: [أن تصلي بأيدٍ غير مغسولة لهو أمر تافه، أما أن تصلي بذهن غير مغتسل فهو أبشع الشرور. إسمعوا ما قيل لليهود الذين انشغلوا بالدنس الخارجي: "إغسلي من الشر قلبك يا إورشليم... إلى متى تبيت في وسطك أفكارك الباطلة؟!" (إر 4: 14). ليتنا نحن أيضًا نغتسل لا بالوحل وإنما بماء نظيف، بالصدقة لا بالطمع. لنحد عن الشر ونفعل الخير (مز 37: 27)[116]].

3. الملابس الكهنوتية:

إذ غسل موسى هرون وبنيه ألبسهم الملابس الكهنوتية لكي يظهروا أمام الله لا بلباس من أوراق التين كآدم الأول، ولا بأقمصه من جلد حيوان يعلن حاجتهم للتستر، إنما يلبسون السيد المسيح نفسه ويختفون فيه بكونه الكاهن الأعظم الذي يعمل في كهنته. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الرب نفسه هو الذي يعمل وهو الذي يقدم الكل[117]]، [نحن نقوم بدور الخدم، لكنه هو بنفسه الذي يبارك، وهو الذي يحوِّل القرابين[118]].

ما نقوله عن لبس الكهنة للسيد المسيح لممارسة العمل الكهنوتي، نردده بالنسبة لكل مؤمن في ممارسة الحياة التعبدية اليومية، فبدونه لا تقبل عبادتنا. يقول العلامة أوريجانوس: [أود مقارنة المأساة التي لبسها الإنسان الأول عندما أخطأ بتلك التي للقداسة والإيمان. فقد قيل إن الرب الإله صنع "لآدم وإمرأته أقمصه من جلد وألبسهما" (تك 3: 21). هذه الأقمصة الجلدية المأخوذة من حيوانات تتفق مع الخاطئ، إذ كانت رمزًا للموت الناجم عن الخطية وعن سقوطه وفناء جسده، لكنك إذ تغتسل بناموس موسى وتتنقى يُلبسك موسى ملابس غير فانية فلا يظهر خزيك (خر 20: 26)، "لكي يبتلع المائت من الحياة" (2 كو 5: 4)[119]].

شملت الملابس الكهنوتية: القميص والمنطقة والجبة والرداء وزنار الرداء والصدرة وبها الأوريم والتميم والعمامه وصفيحة الذهب الإكليل المقدس [7-9]. وإذ سبق لنا الحديث عن هذه الملابس وما تحمله من رموز في دراستنا لسفر الخروج[120]، لهذا أكتفي الآن بعرض تعليقات خفيفة عن هذه الملابس ذكرها العلامة أوريجانوس في عظاته على سفر اللاويين[121].

أولاً: يلبس الكاهن قميصين - ربما عنى القميص والرداء - ففي العهد القديم كان يجب ممارسة الشريعة بطقسها حرفيًا مع الفهم الروحي، أما كهنة العهد الجديد فمنعهم السيد أن يلبسوا ثوبين (لو 3: 11)، إذ يليق بهم ألا يقبلوا الحرف بل يسلوكوا بالروح. لذلك عندما اجتمع الرسل معًا قرروا ألا يثقل على الداخلين إلى الإيمان من الأمم، واكتفوا بتقديم ثوب الروح للشعب دون حرف الناموس [15].

ثانيًا: يتمنطق الكاهن بالمنطقة والزنار، إشارة إلى إلتزامه بالتحفظ في الكلام كما في العمل، فكما يكرز بالفم يليق به أن يكرز بالعمل أيضًا خلال الحياة الفاضلة وطهارة الجسد.

ثالثًا: يوضع على الصدرة الأوريم والتميم كإشارة إلى إلتزام الكاهن بالحكمة والفهم معًا، أو الحق والمعرفة. [لا يكفي للكاهن أن تكون له الحكمة فقط إنما يلزمه أن تكون له المعرفة... حتى يجيب على كل من يسأله عن سبب الإيمان والحق].

رابعًا: العمامة أو التاج: [ثم يوضع التاج على رأسه، وعلى جبهته توضع صفيحة الذهب [9] حيث ينقش عليها إسم الرب (خر 28: 32، 36). يُسجل إسم الرب على زينة الرأس... إنه رأس كل الأعضاء، وهو زينة كل الأعضاء يوضع فوق الرأس]، [ملء علم الله هو الذي يزين رأسك].

4. المسح بالدهن:

في الأصحاح الثاني إذ تحدثنا عن تقدمة القربان رأينا الزيت يُشير إلى المسحة،

وأن المسحة التي تمتع بها هرون وبنوه كانت رمزًا للسيد المسيح الذي لم يمسح بزيت بل بروحه القدوس كرئيس كهنة أعظم يقدم حياته ذبيحة محرقة وحب عن خطايانا.

مُسح هرون وبنوه حتى يحق لهم تقديم ذبائح عن أنفسهم وعن الشعب، ولكي يمارسوا الصلوات والتضرعات، أما كلمة الله فتجسد من أجلنا كنائب عنا ورئيس كهنة أعظم يشفع بدمه لدى الآب مصليًا عنا، ويسكن فينا لنمارس به صلواتنا وعبادتنا، ويتقبل هذه الصوات... وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنه يصلي من أجلنا وفينا كما نصلي نحن له. يصلي من أجلنا بكونه كاهننا، ويصلي فينا بكونه رأسنا، ونصلي له بكونه إلهنا[122]].

5. التقديس بالذبيحة:

السيد المسيح الكاهن على طقس ملكي صادق قدم حياته ذبيحة على الصليب من أجل البشرية دون حاجة إلى تقديم ذبيحة عن نفسه إذ هو إبن الله الحيّ الذي بلا عيب، أما هرون وبنوه فلم يكن ممكنًا أن يمارسوا عملهم الكهنوتي ما لم يتقدسوا خلال الذبيحة، تتقدس حياتهم وحواسهم ومواهبهم لحساب ملكوت الله، لذلك ففي يوم تكريسهم قدمت الذبائح التالية: ثور الخطية الذي وضع هرون وبنوه أيديهم على رأسه ليحمل خطاياهم وضعفاتهم [14]، كبش المحرقة [18]، كبش الملء الذي أخذ موسى من دمه وجعل على شحمة أذن هرون اليمنى وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى، وكرر نفس الأمر مع بني هرون... ليعلن تقديس آذانهم الروحية (اليمنى) للإستماع لصلوات الرب بفهم وحكمة كقول الرب "من له أذن للسمع فليسمع"، وتقديس أياديهم الروحية للعمل بلا رخاوة في حقل الرب، وأيضًا تقديس أرجلهم الروحية للإنطلاق مع الشعب في طريق الرب نحو السماويات. ثم وضع على كفي هرون وكفوف أبنائه قرصًا من الفطير وقرصًا من الخبز بزيت ورقاقه كقربان للرب، ورددها ترديدًا أمام الرب ثم أوقدها محرقة للرب... أيضًا ردد موسى من صدر كبش الملء ترديدًا أمام الرب...

سبق لنا الحديث عن هذه الذبائح والتقدمات ومفاهيمها اللاهوتية الروحية، أما من جهة الترديد أمام الرب، فيرى البعض أن التقدمة المذكورة وضعت على أيديهم ووضع موسى يديه تحت أيديهم، وردد أيديهم بيديه أمام الرب، وذلك برفع الأيدي إلى فوق ثم تحريكها إلى كل الجهات إشارة إلى الشهادة لله الموجود في كل مكان كواهب نعم وعطايا للإنسان.

6. التخصيص:

سيامتهم ككهنة للرب يعني في جوهره تخصيص كل حياتهم الداخلية وتصرفاتهم الظاهرة لحساب الرب نفسه، لذا قيل: "ولدى باب الإجتماع تقيمون نهارًا وليلاً سبعة أيام وتحفظون شعائر الرب فلن تموتون لأنيّ هكذا أمرت" [35]. يقيمون نهارًا وليلاً كل أيام الأسبوع، لا يعرفون لهم راحة ولا موضع بعيدًا عن هيكل الرب، إنهم يقضون كل أيام حياتهم لخدمة الرب دون إرتباك بالإحتياجات المادية لهم أو للخدمة، إذ هو نصيبهم وميراثهم كما هم نصيبه، يفرح بسكناهم في بيته ويشبعهم بفيض.

<<


 

الأصحاح التاسع

ممارسة العمل الكهنوتي

بقى هرون وبنوه سبعة أيام ملازمين خيمة الإجتماع، وفي اليوم الثامن من المسحة بدأوا كأمر الرب بتقديم ذبائح محرقة وسلامة وتقدمة قربان... إلخ. فتراءى الرب لهم وأعلن مجده لكل الشعب ونزلت نار من عند الرب أحرقت ما على المذبح، الأمر الذي أثار مشاعر الشعب، فهتفوا وسقطوا على وجهوههم.

1. بدء العمل في الثامن              [1].

2. الأمر بتقديم الذبائح               [2-7].

3. تقديم الذبائح والقرابين            [8-21].

4. مباركة الشعب                    [22-23].

5. ظهور المجد الإلهي               [23].

6. النار الإلهية                       [24].

7. هتاف الشعب                     [24].

1. بدء العمل في الثامن:

إذ تم طقس سيامة هرون وبنيه الكهنة لم يمارسوا العمل الذبيحي في الحال بل بقوا ملازمين خيمة الإجتماع سبعة أيام كاملة نهارًا وليلاً، وفي اليوم الثامن بدأوا ممارسة هذا العمل عن أنفسهم وعن الشعب. لقد انتظروا ليبدأوا في اليوم الثامن الذي يرمز للحياة الجديدة الأبدية، أو الحياة المقامة في المسيح يسوع، إذ اليوم الثامن هو اليوم الأول من الأسبوع الجديد، وقد قام السيد في فجر الأحد أي في فجر اليوم الثامن.

وكأنه لا يستطيع الكاهن أن يمارس عمله الكهنوتي إلاَّ بالسيد المسيح القائم من الأموات، فينطلق للعمل بقوة القيامة. يعلق القديس أغسطينوس على اليوم الثامن بقوله: [يوم الرب هو اليوم الثامن الأبدي الذي تقدس بقيامة المسيح، يُشير إلى الراحة الأبدية للجسد والنفس[123]]. بذات الفكر نجد محفل عيد المظال يتم في اليوم الثامن (23: 36) حيث نخلع خيمة (مظال) جسدنا الترابي لننعم بالبناء الأبدي غير المصنوع بيد (2 كو 5: 1) وذلك بقوة قيامة ربنا يسوع. وفي اليوم الثامن أيضًا كانت ذبائح التطهير تُقدم عن صاحب السيل (لا 15: 24، 29) وعن الأبرص (14: 10)... حيث ينال الإنسان بقيامة الرب الخليقة الجديدة في المسيح يسوع (2 كو 5: 17) فلا يكون فينا ما هو دنس من سيل الشر أو برص الخطية.

2. الأمر بتقديم الذبائح:

في السبعة الأيام الأولى كان موسى يقرب الذبائح عن هرون وبنيه، لكن في اليوم الثامن إذ تمت طقوس سيامتهم ودخلوا إلى اليوم الثامن كما إلى قيامة الرب صاروا ملزمين أن يقدموا ذبائح وتقدمات عن أنفسهم وعن الشعب.

يرى بعض علماء اليهود أن العجل الذي قدموه كذبيحة خطية [2] كان تكفيرًا عن العجل الذهبي الذي صنعه هرون للشعب (خر 32: 2)[124]... على أي الأحوال إِلتزم هرون وبنوه بتقديم عجل كذبيحة خطية وكبش كذبيحة محرقة [2]، وذلك من أموال هرون وبنيه وليس من أموال الخيمة أو الشعب، حتى يشعروا بحاجتهم إلى التكفير عن خطاياهم المعروفة لهم وغير المعروفة، مع إلتزامهم بتقديم حياتهم محرقة حب كاملة لله. وقد سبق لنا الحديث عن هاتين الذبيحتين قبلاً (الأصحاحان 1، 4).

هذان الفكران يؤكدهما الله لكهنته على الدوام: الشعور بالضعف مع سائر إخوتهم، والإلتزام بتقديم حياتهم كلها محرقة حب لله في خدمة إِخواتهم!

إذ قدموا هاتين الذبيحتين، عادوا يقدمون عن الشعب ذبيحة خطية، وذبيحة محرقة، وذبيحة سلامة ثم تقدمة قربان من الدقيق الملتوت بالزيت [3-4]. وقد جاء الترتيب مناسبًا لاحتياجات الشعب، فيبدأ الكاهن بطلب الغفران عن الخطية خلال ذبيحة الخطية، ثم يعلن شوقه أن يتقبل حياة الشعب كله كذبيحة محرقة سرور للرب. بهذا يعلن الكاهن شكره لله خلال ذبيحة السلامة وقبوله للشركة مع السيد المسيح المبذول خلال تقدمة القربان من الدقيق الملتموت بالزيت. يبدأ بالتوسل لطلب الرحمة في إستحقاقات الدم وينتهي بقبول حياة المسيح المبذولة كعطية إلهية تعيشها الكنيسة بإتحادها مع رأسها المصلوب!

3. تقديم الذبائح والقرابين:

تمم هرون وبنوه ما أمر به الرب من تقديم ذبائح وتقدمات عن أنفسهم والشعب بطقس دقيق...وقد سبق لنا دراسة المفاهيم الروحية لهذه الذبائح بطقوسها في الأصحاحات السبعة الأولى.

4. مباركة الشعب:

بارك هرون الشعب مرتين، المرة الأولى حيث قيل: "ثم رفع هرون يده نحو الشعب وباركهم وإنحدر من عمل ذبيحة الخطية والمحرقة وذبيحة السلامة" [22].

يلاحظ في هذه البركة أن هرون رفع يده نحو الشعب... ولعله بذلك يعلن السلطان الكهنوتي الذي وهبه الله إياه، ولعل رفع اليد يُشير إلى ظهور السيد المسيح الذي يرمز له باليد[125]، فالبركة التي يقدمها الكاهن إنما هي البركة التي صارت لنا في المسيح يسوع الذي بارك طبيعتنا فيه. وقد تحققت البركة بعد تقديم الذبائح... إذ لم يكن ممكننًا للبشرية أن تتقبل بركة الرب فيها إلاَّ في إستحقاقات الدم الثمين. خلال المذبح يجتمع الكاهن بالشعب ليقدم البركة التي ليست من عندياته إنما هي بركة الرب المبذول عنا.

أما نص البركة فغالبًا ذاك الذي قدمه الرب نفسه لموسى "يباركك الرب ويحرسك، ويضئ الرب عليك ويحرمك، يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 22-26).

أما المرة الثانية لما دخل موسى وهرون إلى خيمة الإجتماع ثم خرجا وباركا الشعب [23]. في المرة الأولى أكد أن البركة تحل خلال الذبيحة المقدسة، أما هنا فيؤكد أن البركة تتحقق خلال أمرين: الأول إجتماع هرون بموسى، إشارة إلى اجتماع الكهنوت بالعمل النبوي، أو العبادة بالفهم الإنجيلي الروحي... فلا إنفصال بين هروننا وموسانا، ولا اعتزال للعمل الكهنوتي عن العمل الإنجيلي، الثاني دخولهما الخيمة معًا إشارة إلى نوالنا البركة خلال الكنيسة المقدسة، فالكاهن عضو في الكنيسة المقدسة التي قبلت الروح القدس عطية عريسها السماوي لها. في هذا يقول القديس كبريانوس أنه لا خلاص خارج الكنيسة[1].

من خلال هاتين البركتين يمكننا في إختصار أن نقول:

أ. البركة هي عطية المسيح الذبيح خلال كهنته.

ب. البركة هي عطية المسيح خلال الكنيسة بالروح القدس الموهوب لها.

ج. لا انفصال بين البركة التي ننالها خلال العمل الكهنوتي (هرون) والتمتع بكلمة الله (موسى النبي).

5. ظهور المجد الإلهي:

إذ قال الشعب البركة على يدي هرون (وموسى) خلال الذبيحة المقدسة داخل الكنيسة، يقول الكتاب "فتراءى مجد الرب لكل الشعب" [23]...

لم نعرف كيف تراءى مجد الرب، هل على شكل سحاب كثيف أحاط بشعب الله؟ أم على شكل عمود نار؟ أم خلال ظهور معين تجاه المقدسات الإلهية؟!... إنما ما نعرفه حينما ننعم بالبركة الإلهية هو تجلي الرب بمجده في أعماقنا بطريقة تلمسها النفس ويشعر بها القلب!

يقول الرسول: "الله ظهر في الجسد... تراءى لملائكة" (1 تى 3: 16). فإننا إذ نقبل بركة الرب نصير كملائكة يتراءى الله بمجده فينا.

6. النار الإلهية:

"وخرجت نار من عند الرب وأحرقت على المذبح المحرقة والشحم" [24].

إن كانت الخطايا تشبه نارًا تحرق النفس كما يقول القديس أغسطينوس[126]، فإن هذه النار لا يغلبها إلاَّ نار الروح القدس الذي يحرق الشر ويلهب النفس بالحياة المقدسة. وهكذا نستبدل النار بالنار!

إذ تبارك الشعب وظهر لهم مجد الرب خرجت نار من عند الرب أعلنت قبول الله لذبيحتهم ورضاءه عليهم... وفي نفس الوقت أعلنت مجد الله ومهابته!

7. هتاف الشعب:

إذ رأى الشعب مجد الله وعاينوا النار الخارجة من لدن الله تلتهم المحرقة لم يتمالكوا أنفسهم بل "هتفوا وسقطوا على وجوههم" [24]، جاء هذا الهتاف ثمرة طبيعية للفرح الداخلي الذي ملأ كيانهم الداخلي. جاء هتافهم ثمرة نوالهم بركة الرب وتمتعهم بالمجد الإلهي ورؤيتهم للنار المقدسة. ليت تسبيحنا نحن أيضًا وهتافنا لا يكون مجرد ترديد كلمات شكر وحمد لله بأفواهنا إنما يكون ثمرة تهليل النفس ونقاوة القلب وبهجته بنوالنا البركة الحقيقية وتجلي مجد الرب فينا والتهاب الروح الناري في أعماقنا، فينطق اللسان بما يحمله إنساننا الداخلي من فرح حقيقي.

هتف الشعب وسقطوا على وجوههم يعلنون سجودهم وخضوعهم تمامًا للرب إلههم، وكأن فرحنا بالرب وتهليلنا هو الدافع الحقيقي لعبادتنا له وخضوعنا تمامًا لإرادته.

<<

 


 

الأصحاح العاشر

العمل الكهنوتي والنار الغريبة

كان اليوم الثامن لسيامة هرون وبنيه مبهجًا لكل الشعب، فيه تراءى مجد الرب لهم، وفيه نزلت النار من لدن الرب تعلن رضاه عليهم وقبوله ذبيحتهم، فهتف الكل وسقطوا على وجهوهم بفرح داخلي مجيد، لكن إثنين من أبناء هرون حولا الفرح إلى غمٍ والبهجة إلى مرارة إذ استخدما نارًا غريبة وهما كما يظن في حالة سكر، فخرجت نار من عند الرب أحرقتهما... مما أرعب الكل!

1. النار الغريبة                      [1].

2. التأديب الفوري          [2- 3].

3. الكاهن والمشاعر الطبيعية        [4-7].

4. الكاهن وشرب الخمر             [8-11].

5. الكاهن وأكل الأنصبة              [12-20].

1. النار الغريبة:

بسيامة هرون وبنيه وتقديم الذبيحة تراءى مجد الرب للشعب بعد نواله البركة، وصار الكل كمن في الفردوس مملوءًا بهجة وهتافًا، إذ عاد الإنسان إلى الله مرة أخرى كما في صداقة جديدة، لكن كما أفسد العصيان بهجة أبوينا الأولين هكذا جلب إبنا هرون ناداب وأبيهو الحزن والغم على الشعب بعصيانهما وتقديمهما النار الغريبة، وعلى ما يبدو أن هذا تم خلال سكرهما، إذ جاءت الوصية في الحال تمنع الكهنة من شرب الخمر أو المسكر في الخيمة [8-9]...

يعلق القديس إيريناؤس على هذا الحدث بقوله: [حقًا يجلب الهراطقة نارًا غريبة على مذبح الله، إذ يقدمون التعاليم الغريبة، فيحترقون بنار من السماء كما حدث مع ناداب وأبيهو[127]]. ويقول العلامة أوريجانوس: [لقد سمعت أن الذين قدموا نارًا نجسة أمام الرب ماتوا، وأنت إذ تلتهب أيضًا فيملأك غضبك وتحرقك الثورة ويشتعل فيك الحب الجسداني تصير ضحية لشهوة مخجلة، فإن هذه النار كلها نجاسة وضد الرب من يشعلها ينال بلا شك نصيب ناداب وأبيهو[128]]. ويقول القديس أغسطينوس: [الشهوة الشريرة تشبه حريقًا ونارًا، هل تحرق النار الثوب ولا تحرق شهوة الزنا النفس؟[129]].

2. التأديب الفوري:

"فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب، فقال موسى لهرون: هذا ما تكلم به الرب قائلاً: في القريبين منيّ أتقدس وأمام جميع الشعب أتمجد، فصمت هرون"  [2-3].

لم يكن سهلاً على هرون أن ينظر إبنيه وقد سقطا على الأرض محترقين بنار أمام الجميع... لكن الله سمح بهذا الدرس القاسي في بداية العمل الكهنوتي ليظهر خطورة دور الكاهن ومسئوليته. إن كان يقف شفعيًا عن نفسه وعن الشعب خلال الذبيحة المقدسة، يليق به أن يمارس الحياة المقدسة اللائقة به وإلاَّ تعرض لتأديبات قاسية وعلانية أكثر من كل الشعب، إذ يقول الرب: "في القريبين منيّ أتقدس وأمام جميع الشعب أتمجد". كان الدرس مرًا، حتى يدرك الكل أن محبة الله لكهنته وسماعه لصوتهم لا يعني المحاباه لهم ولا التهاون معهم، وإنما قدرما يقتربون إليه يلزمهم بالحرى أن يتقدسوا ليعلن الله القدوس ذاته فيهم.

سجل لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مرارة نفسه حينما كان يتأمل مسئوليته أمام الله ليعطي حسابًا لا عن خطاياه وحده وإنما أيضًا عن خطايا الشعب، فمن كلماته: [أي عقاب قاسي يتوقعه إنسان لا يعطي حسابًا عن خطاياه التي ارتكبها بل بالحرى يتحمل خطرًا أعظم بسبب الخطايا التي يرتكبها الآخرون؟! إن كنا نرتعد بسبب دينونتنا عن شرورنا التي إرتكبناها، واثقين أننا لا نستطيع الهروب من النار التي تنتظرنا في العالم الآخر، فأية آلام يجتازها إنسان عتيد أن يجيب عن أخطاء كثيرين؟‍![130]].

3. الكاهن والمشاعر الطبيعية:

بلا شك تأثر هرون وإبناه لما نظروا ما حدث لإبني هرون الآخرين ناداب وأبيهو وقد جاءتهم الوصية ترفعهم فوق المشاعر الطبيعية، إذ قيل لهم: "لا تكشفوا رؤوسكم ولا تشقوا ثيابكم لئلا تموتوا ويسخط على كل الجماعة، وأما إخوتكم كل بيت إسرائيل فيبكون على الحريق الذي أحرقه الرب، ومن باب خيمة الإجتماع لا تخرجوا لئلا تموتوا، لأن دهن مسحة الرب عليكم" [6-7]. إنهم كأب وكأخوين يحملون مشاعر إنسانية لكنهم ككهنة الرب لا يكبتون هذه المشاعر ولا يحطمونها، وإنما يرتفعون بها لتقديمها لا للأقرباء حسب الدم فحسب بل نحوالكل، فيعيشون يخدمون كل الجماعة كأخوة وأبناء لهم. الكاهن الحقيقي يرتفع بكل أحاسيسه ومشاعره لخدمة الله في كل إنسان ولا يحد قلبه بأخوته حسب الدم.

كان على هرون وإبنيه أن يبقوا في الخيمة لخدمة الله أما التزاماتهم حتى من حيث دفن ناداب وأبيهو فيوجد من يقوم بها. هذا ما قاله السيد المسيح للشاب الذي دعاه للخدمة: "دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فأذهب ونادِ بملكوت الله" (لو 9: 60).

يعلق القديس جيروم على هذا الحديث هكذا: [قيل "لا تشقوا ثيابكم" [6]، أي لا تحزنوا كالوثنيين لئلا تموتوا، لأنه بالنسبة لنا الخطية هي موت. وإننا نجد في نفس السفر- سفر اللاويين- نصًا يبدو للبعض قاسيًا لكنه ضروري للإيمان، إذ يُمنع رئيس الكهنة من الإقتراب من الأجساد الميتة التي لوالده أو والدته أو إخوته أو حتى أولاده (21: 10-12)، حتى لا تتشتت النفس التي تنشغل بتقديم ذبيحة لله بأي حزن بل تكون بكليتها مكرسة للأسرار الإلهية. ألم نتعلم ذات الدرس في الإنجيل بكلمات أخرى؟! ألم يمنع التلميذ من توديع بيته ودفن أبيه الميت (لو 9: 59-62)؟![131]].

4. الكاهن وشرب الخمر:

جاءت الوصية موجهة إلى هرون: "خمرًا ومسكرًا لا تشرب أنت وبنوك عند دخولكم إلى خيمة الإجتماع لكي لا تموتوا، فرضًا دهريًا في أجيالكم، وللتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر، ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلمهم بها الرب بيد موسى" [9-11]. كأن الوصية لم تحرم الخمر كمادة إذ كان يمكن إستخدامها كدواء أحيانًا، إنما حرمت كمسكر تفقد الكاهن إتزانه وتعقله فلا يعرف أن يميز بين الطاهر والنجس، ويفقد قدرته على تعليم الشعب الوصايا الإلهية. وكما يقول القديس جيروم: [لكي يحفظ الله عقولهم من غباء السكر، ويمكنهم من فهم ممارسة واجباتهم في خدمة الله[132]].

يرى القديس جيروم في هذه الوصية نوعًا من الصوم[133]، مطالبًا إيانا الهروب حتى من رائحتها إذ يقول: [ليت تنفسك لا يستنشق رائحتها قط كي لا تسمع كلمات الفيلسوف: "عوض تقديمك قبلة أعطيتني طعم خمر". يُدين الرسول الكهنة الذين يشربون الخمر (1 تي 3: 3)، كما تدينهم الشريعة القديمة... وأنا في هذا لا أدين خليقة الله[134]].

ويقدم لنا العلامة أوريجانوس تفسيرين للوصية: أحدهما حرفي والآخر رمزي. ففي تفسيره الحرفي يقول: [يُريد الله من الذين هو ميراثهم (عد 18: 20) أن يكونوا متزنين، خاصة عندما يتواجدون أمام المذبح لكي يصلوا إلى الرب ويتقدسوا بحضرته. هذه الوصية تحفظ قوتهم. وقد أكدها الرسول بنفسه في شريعة العهد الجديد (1 تي 5: 23)... إذ يليق بالكهنة ألا يشربوا خمرًا بل يكونوا متزنين (تي 1: 7-8). فإن كان التعقل هو أم الفضائل فالسكر هو أم كل الرذائل. لقد صرح الرسول بوضوح: "الخمر الذي فيه الخلاعة" (أف 5: 18)، مظهرًا أن الخمر يلد إبنته البكر الخلاعة[135]].

إسترسل العلامة أوريجانوس في تفسيره الرمزي لهذه الوصية التي وجهت إلى هرون وبنيه نقتطف منها الآتي:

 [هرون يُشير إلى ربنا بكونه "رئيس كهنة الخيرات العتيدة" (عب 9: 11)... وأبناء هرون هم الرسل الذين قال لهم: "يا أولادي أنا معكم زمانًا قليلاً بعد" (يو 13: 33)، فما أمر به الناموس ألا يشرب هرون وبنوه خمرًا ولا مسكرًا حين يقتربون من الهيكل [9] يمكن تطبيقة على الكاهن الحقيقي يسوع المسيح ربنا وعلى أبنائه الكهنة رسلنا.

لنحدد هكذا أن هذا الكاهن (هرون) مع كهنته كانوا يشربون قبل أن يقتربوا من المذبح، لكنهم متى بدأوا يقتربون منه ويدخلون خيمة الإجتماع يمتنعون عن الخمر... الآن لنبحث كيف أن ربنا ومخلصنا الكاهن الحقيقي مع تلاميذه الكهنة الحقيقيين يشربون الخمر (روحيًا) قبل اقترابهم من المذبح، لكنهم إذ يبدأون في الإقتراب يمتنعون.

جاء المخلص إلى العالم ليقدم جسده فدية عن خطايانا (غلا 1: 4)، قبلما يقدمه كان كمن يشرب الخمر، إذ قيل عنه "أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة" (مت 11: 19). لكنه إذ جاء وقت الصلب مقتربًا من المذبح ليقدم جسده فدية أخذ الكأس وباركه وأعطاه لتلاميذه، قائلاً: "خذوا إشربوا" يقول لهم: "إشربوا أنتم يا من لم تقتربوا بعد من المذبح أما أنا فلا أشرب إذا اقتربت فعلاً من المذبح". لهذا يقول: "وأقول لكم إنيّ من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي" (مت 16: 29)...

ماذا يعني هذا القول: إنيّ من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت أبي؟ نجيب بأن هذا الوعد قد أُعطى للقديسين أن يتمتعوا بالخمر الجديد، إذ قيل "كأسي ريا" (مز 23: 5)... "هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون" (إش 65: 13). مثل هذا الخمر يذكر في الكتاب المقدس بمعنى فرح النفس وتهليلها، لهذا يجب أن نميز بين سكر الليل (1 تس 5: 7)، وسكر النهار.

لقد فهمنا السكر المقدس، إذ صار الوعد بتهليلهم، ويهذا ندرك معنى إمتناع مخلصنا عن شرب الخمر إلى اليوم الذي يشربه مع قديسيه في ملكوت الله (مت 26: 29)، بمعنى أن مخلصي يبكي على خطاياي، ولا يقدر أن يتذوق الفرح مادمت أنا مستمر في المعصية، لماذا؟ لأنه هو الشفيع (المحامي) عني لدي الآب، كما يصرح بذلك صديقه الحميم يوحنا: "إن أخطأ أحد فلناَ شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا" (1 يو 1: 1-2). كيف إذن وهو شفيع من جهة خطاياي يقدر أن يشرب من خمر الفرح بينما أنا أحزنه بخطاياي؟! كيف يمكن لذاك الذي يقترب من الهيكل كفارة عني أنا الخاطئ أن يكون فرحًا بينما يصعد إليه حزن خطاياي بلا توقف؟!... إنه في حزن مادمنا نحن مستمرين في الخطية... إن كان رسوله يقول: "أنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها" (2 كو 12: 21) فماذا نقول عن ذاك الذي ندعوه "إبن محبته" (كو 1: 21)، "الذي أخلى نفسه" (في 2: 7)، بسبب محبته لنا؟! هذا الذي وهو مساٍو للآب لم يطلب ما لنفسه (1 كو 13: 5) بل ما هو لخيرنا، مخليًا نفسه لأجلنا؟! هل بعدما طلب ما هو لخيرنا يكف الآن عن البحث عنا وعن التفكير في خيرنا؟! ألا يحزن على خطايانا ويبكي على خسارتنا وجروحنا هذا الذي بكى على أورشليم، قائلاً لها: "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23: 37)؟! هذا الذي حمل جراحتنا، ومن أجلنا تألم بكونه طبيب نفوسنا وأجسادها، هل يهمل الآن التهاب جراحتنا؟! يقول النبي: "قد أنتنت، قاحت حُبر ضربي من جهة حماقتي" (مز 38: 5). لهذا السبب يقف أمام وجه الآب يشفع من أجلنا (عب 9: 24)، يقف أمام الهيكل ليقدم لله فدية كفارة لخدمتنا. وإذ اقترب من الهيكل يقول: "لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي" (مت 26: 29). إنه ينتظر حتى نتغير، نتمثل به ونحمل سماته، فيفرح معنا ويشرب معنا الخمر (الفرح الروحي) في ملكوت الآب. الآن إذ هو إله الرحمة والمغفرة (مز 102: 8) فبعاطفة أعظم مما لرسوله يبكي مع الباكين مشتاقًا أن يفرح مع الفرحين، فينوح أكثر من رسوله على الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا بعد (2 كو 12: 21)، إذ لا يليق بنا أن نظن أن بولس يحزن وينوح على فاعلي الشر بينما يكف ربنا عن البكاء عندما يقترب نحو الآب أمام المذبح مقدمًا نفسه فدية كفارة عنا. إننا نقول بأنه إذ يقترب إلى الهيكل لا يشرب خمر الفرح بل يحزن على خطايانا... فإهمالنا في حياتنا يؤجل فرحه!

إلى متى ينتظر؟ إلى أن يتمم عمله (يو 17: 4).

متى يتمم عمله؟ عندما يجعلني أنا آخر الكل وأشر الخطاة كاملاً!

عمله يحسب غير كامل مادمت أنا لست بعد كاملاً، مادمت لست بعد خاضعًا للآب (1 كو 15: 28)، إذ يُحسب كمن هو غير خاضع للآب بسببي ويكون عمله لم يكمل بعد...[136]].

يكمل العلامة أوريجانوس حديثه عن التزام هرون وبنيه الكهنة بالإمتناع عن الخمر عند اقترابهم للخدمة، فبعدما تحدث عن السيد المسيح الذي يرمز له هرون صار يتحدث عن الرسل والتلاميذ بكون بني هرون رمزًا لهم: [لا ننسى أنه ليس هرون وحده لا يشرب خمرًا وإنما أبناؤه أيضًا لا يشربون عندما يدخلون المقدس، وذلك لأن الرسل أيضًا لم يحصلوا على فرحهم بل هم منتظرون حتى ننال نصيبًا معهم في فرحهم. إذ رحل القديسون من هنا لا ينالون المكافأة التي يستحقونها دفعة واحدة إنما ينتظروننا بالرغم من تباطؤنا، إذ لا يكون لهم ملء الفرح ماداموا يحزنون على خطايانا ويبكون علينا... ولكي تكون لك شهادة لما أقوله فلا تشك... بعدما عدد الرسول الآباء القديسين الذين تبرروا أضاف: "فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد، إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا" (عب 11: 39-40). إذن إبراهيم ينتظر لينعم بحالة الكمال، وأيضًا إسحق ويعقوب وكل الأنبياء ينتظرون لكي يحصلوا معنا على السعادة الأبدية... يوجد جسد واحد نقول أنه يقوم يوم الدينونة...

سيكون لك فرح يوم رحيلك من هذه الحياة إن كنت قديسًا، لكن فرحك يكمل عندما لا ينقص عضو من الجسد، فإنك تنتظر أخوتك كما انتظرك أخوتك السابقون لك[137]].

5. الكاهن وأكل الأنصبة:

يبدو أن الحزن كان قد ملأ قلب هرون وإبنيه على ما حدث بخصوص ناداب وأبيهو، أو لعلهم كانوا في خوف ورعدة فكانوا غير قادرين على أكل أنصبتهم، لذلك شجعهم موسى على ترك الحزن وأكل أنصبتهم من وقائد الرب من الفطير وأيضًا من ذبيحة السلامة، مذكرًا إياهم بالوصية الإلهية الخاصة بأكل أنصبتهم بطقس معين. حينما سأل موسى عن تيس الخطية وجده قد احترق بكامله خلافًا للطقس... وكان يجب أن يأكلوا منه نصيبهم علامة قبول الله للذبيحة، فسخط موسى على إبني أخيه ولم يسخط على هرون ربما لأجل مركزه كرئيس كهنة... لكن هرون قدم عنهما عذرًا بأنه لم يكن ممكنًا أن يأكلا في اليوم الذي أصابه هذا في إبنيه، ولعله يقصد أن القلوب حزينة ونشعر بأن ما ارتكبه ناداب وأبيهو هو وصمة عار لنا، فهل يليق بهما أن يأكلا بقلوب هكذا موصومة بعار الخطية؟!

إذ سمع موسى اعتذار هرون "حسن في عينيه" [20]، واقتنع بالأمر، مقدرًا الظرف، ولم يتشبث برأيه.

<<

 


 

 

الباب الثالث

 

 

 

 

دليل شرائع التطهير

ص 11- ص 15

 

 

* الأطعمة المحللة والمحرمة        [ص 11].

*  تطهيرالوالدة                     [ص 12].

* تطهيرالأبرص                     [ص 13].

* شريعة تطهيرالأبرص             [ص 14].

 


 

الأصحاحات 11-15

دليل شرائع التطهير

إن كان الله القدوس يقبلنا شعبًا مقدسًا له خلال الذبيحة (أصحاحات 1-7) التى يقدمها الكاهن (أصحاحات 8-10)، فإن هذه الحياة المقدسة فى الرب لها شريعتها أي قانونها وطقسها الذى يلتزم به كل عضو في هذه الجماعة. وقد قدمت هذه الشريعة للشعب اليهودى البدائي فى حياته الروحية والإجتماعية بطريقة مادية تمس أطعمتهم (أصحاح 11) حتى ميلادهم الجسدي (أصحاح 12)، وسلامة أجسادهم وثيابهم (أصحاح 13)، ونظافته (الأصحاحان 14-15)... الأمور التى يلزم أن نفهمها على مستوى الروح لا الحرف لنعيشها بفهم إنجيلي حيّ يمس أعماقنا الداخلية.

<<

 


 

 الأصحاح الحادي عشر

الأطعمة المحللة والمحرمة

الله في أبوته للبشرية قدم لرجال العهد القديم شريعة الأطعمة المحللة والأطعمة المحرمة بكونه مهتمًا حتى عن إرشادهم بخصوص الطعام. جاءت هذه الشريعة تحمل مفاهيم روحية تمس حياتنا الداخلية، لهذا ختمها بقوله: "إنيّ أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأنيّ أنا قدوس" [44]، مكررًا القول: "إنيّ أنا الرب الذي أصعدكم من أرض مصر ليكون لكم إلهًا، فتكونون قديسين لأنيّ أنا قدوس" [45]... كأن غاية هذه الشريعة ليس الأكل والشرب إنما التمتع بالحياة المقدسة في الرب القدوس.

1. الحيوانات المحللة والمحرمة      [1- 8].

2. الحيوانات المائية                  [9-12].

3. الطيور                            [13-19].

4. الحشرات الطائرة                  [20-40].

5. الزواحف                          [41-43].

6. خاتمة                             [44-47].

1. الحيوانات المحللة والمحرمة:

"هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض: كل ما شق ظلفًا وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون" [2-3].

طالب الله الإنسان ألا يأكل من الحيوانات إلاَّ ما كان منه مشقوق الظلف وفي نفس الوقت يجتر. هذه هي شريعة الحيوانات المحللة للإنسان في العهد القديم. وقد رأى كثير من الآباء في هذه الشريعة رموزًا تمس حياة المؤمن وعلاقته بالله:

أولاً: بالنسبة للإجترار، يرى كثير من الآباء كالأب برناباس والقديس كليمندس الإسكندري وايريناؤس وجيروم وغيرهم[138] أن الإجترار يُشير إلى اللهج الدائم والتأمل المستمر في كلمة الله نهارًا وليلاً. فمن كلمات برناباس: [ماذا يقول (موسى عن الإجترار): إلتصقوا بخائفي الرب الذين يتأملون تعاليمه بقلوبهم المتضعة، ويتحدثون عن إرادة الله ويحفظونها، وفي تأملهم المفرح يهذون بكلام الله[139]].

وفي رأي العلامة أوريجانوس[140] أن إجترار الطعام الذي سبق أكله، إنما يعني الإنطلاق من المعنى الحرفي إلى المعنى الروحي للكلمة الإلهية، والإرتفاع بفهمها من الأمور المنظورة السفلية إلى الأمور العليا غير المنظورة.

ثانيًا: يرى القديس جيروم في الحيوان المشقوق ظلفه إشارة إلى المؤمن الذي يتقبل كلمة الله بعهديها القديم والجديد، يجتر فيهما معًا. فاليهود إذ رفضوا العهد الجديد حسبوا أصحاب ظلف غير مشقوق فهم غير أطهار. وبنفس الطريقة إذ رفض بعض الغنوسيين العهد القديم حسبوا أصحاب ظلف غير مشقوق، أما [رجل الكنيسة فمشقوق الظلف ومجتر، يؤمن بالعهدين معًا وكثيرًا ما يتأملهما بعمق. وما قد دفن في الحرف (كما في معدته) يرده مرة أخرى (ليجتره) خلال الروح[141]].

ثالثًا: يؤكد القديس كليمندس الإسكندري ما قاله الأب برناباس [إن مشقوق الظلف يُشير إلى الإنسان الذي يعرف أن يسلك بالحق في هذا العالم كما فيما يخص الحياة المقبلة[142]]. إنه يقول: [الإنسان الروحي في فمه كلمة الله، يجتر الطعام الروحي، وبالبر ينشق ظلفه حقًا إذ يقدسنا في هذه الحياة كما يدفعنا في طريقنا للحياة الأبدية[143]].

رابعًا: يرى القديس ابريناؤس[144] أن الحيوانات المشقوقة الظلف تُشير إلى المؤمنين الذين لهم إيمان ثابت في الآب والإبن معًا، فلا ينكرون لاهوت الآب ولا لاهوت الإبن، أما أصحاب الظلف الواحد فهم الهراطقة الذين ينكرون الإبن.

خامسًا: إن كان الظلف - كما الأظافر- يمثل جزءًا ميتًا فإن الظلف المشقوق يُشير إلى شق ما هو ميت فينا، أي صلب الشهوات الجسد. فإن كان الإجترار يمثل تمتع النفس بكلمة الله كسرّ حياتها الداخلية فإن شق الظلف يُشير إلى صلب شهوات الجسد، وكأن العملين متكاملان: حياة الروح مع إماتة شهوات الجسد الشريرة.

سادسًا: يرى العلامة أوريجانوس أنه لا يحسب الحيوان طاهرًا ما لم يتحقق الشرطان معًا، إذ [يجب ألا نأكل من هذه الحيوانات التي يبدو فيها إنها غير طاهرة من جانب وطاهرة من جانب آخر[145]]. الذين يجترون وليس لهم الظلف المشقوق، هم الذين لهم الظلف المشقوق دون أن يجتروا، فهم كما يقول العلامة أوريجانوس الفلاسفة والهراطقة الذين قد يظهر بعضهم نوعًا من الخوف من الدينونة ويسلكون بوقار وحذر لكنهم لا يتأملون كلمة الله، وليس لهم الإيمان الحق...

قدمت لنا الشريعة أمثلة للحيوانات النجسة التي لا يجوز أكلها مثل الجمل والوبر والأرنب، إذ هي حيوانات تجتر لكنها بلا ظلف مشقوق، وكالخنزير بكونه له الظلف المشقوق لكنه لا يجتر.

كلنا يعرف هذه الحيوانات عدا الوبر أو الوبار[146] coney أوrock badger        وهو حيوان صغير يشبه الأرنب، لونه أسود يميل إلى الصفرة، وإن كان فراؤه غالبًا ما يتخذ لون الأرض التي يعيش فيها حتى يتعذر رؤيته. يسكن في الصخور (مز 104: 18، أم 30: 26) لكنه لا يقوم بحفر موضع له. حسبه الكتاب مع الحيوانات المجترة من أجل مظهرة الخارجي إذ يحرك فكه الأسفل كمن يجتر. ليس له ظلف مشقوق، إنما له قدمان أماميتان بكل منهما أربعة أصابع تنتهي بمخالب حادة، وقدمان خلفيتان تنتهي كل منهما بثلاث مخالب حادة. يعيش جماعات صغيرة تحت قيادة حارس يقيم في مكان مرتفع ليعطي إنذارًا إذا ما حاق بها الخطر. يكاد لا يُرى إلاَّ عند الصباح أو المساء عندما يخرج ليبحث عن طعامه. وهو يوجد في شبه جزيرة العرب وفي شمال فلسطين وفي منطقة البحر الميت. أما إسمه العلمي فهوprocaira syriaca  ، hyrax  syriacus.

يحسب الوبر دنسًا من أجل عدم وجود الظلف المشقوق، وهو يمثل الإنسان الدنس بشراسته إذ يعرف بعضته المؤذية.

أما الخنزير فيرمز للشره في الأكل أو النهم والدنس[147]. يتحدث عنه القديس أكليمندس الإسكندري كحيوان نجس، فيقول: [الخنزير يرمز لكثرة الكلام (بسبب ضجيجه المستمر)، ولنهمه الدنس، وتهوره في العلاقات الجنسية بطريقة دنسة شهوانية فاسقة، كما أنه مادي يتمرغ في الوحل، يُسمن للذبح والهلاك[148]]. ويعلق الأب برناباس على الخنزير كحيوان دنس بقوله: [كأن موسى يقول: لا تلتصق بأناس يشبهون الخنازير، أي أناس ينسون الرب عندم يكونون متنعمين، ويعرفونه فقط عند العوز، فالخنازير لا تتعرف على سيدها وهي تأكل وإنما عندما تجوع إذ تأخذ في الصراخ حتى تنال أكلها فتهدأ من جديد[149]].

وقد حسب الفينيقيون والأثيوبيون والمصريون الخنزير نجسًا، مع أنهم في مصر كانوا يقدمون خنزيرًا ويأكلونه كذبيحة في عيد إله القمر واوزيريس. ومع هذا إن لمس أحد خنزيرًا يلتزم أن يغتسل. ولم يكن يسمح لراعي الخنازير أن يدخل الهيكل، ويصعب أن يجد فتاة تقبل الزواج منه إلاَّ إن كانت من بنات الرعاة مثله[150]. أما بالنسبة لليهود فكانت رعاية الخنازير من أحقر المهن لا يمارسها إلاَّ المعدومون (لو 15: 15)، إستخدم ذبائح الخنازير إشارة إلى الإباحية الوثنية (إش 65: 4)، وأيضًا أكل لحمه (إش 66: 17). في عصر انتيخوس الرابع صدرت الأوامر لليهود أن يأكلوا لحم الخنازير للتأكد من جحدهم إيمانهم وموالاتهم لدين الغزاة الحكام (1 مك 1: 47، 50، 2 مك 6: 18، 21، 7: 1). لهذا عمل المكابيون على الإمتناع عن أكل الخنزير كعلامة الأمانة لحياتهم الدينية. وقد جاء عن العازر (2 مك 6: 18 الخ) والأخوة السبعة (2 مك 7: 1 الخ) أن يحتملوا العذابات المُرّة حتى الموت ولا يقبلوا أكل لحم الخنزير.

في أيام السيد المسيح كان البعض يرعى الخنازير لا لأكلها وإنما لبيعها لليونان والرومان، فكان هؤلاء الرعاة يمثلون الإنسان محب المال على حساب طهارتهم ونقاوتهم، وقد أعطى الرب درسًا لرعاة خنازير كورة الجرجسيين حينما سمح للشياطين أن تخرج من المجنونين وتدخل في القطيع فاندفع كله على الجرف إلى البحر ومات في المياه (مت 8: 32). وحينما ضرب مثلاً عن ثمار الإنحراف قدمه في شكل إبن مسرف فقد ماله وخرج إلى حقل يرعى خنازير ويأكل معها أكلها (لو 15: 15-16). وأيضًا إذ أراد أن يصوّر بشاعة من لا يبالي بالمقدسات الإلهية قال: "لا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم" (مت 7: 6). هكذا يصور الكتاب الخنزير بالكائن الذي لا أمل فيه حينما قال: "خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة المرأة الجميلة العديمة العقل" (أم 11: 22).

2. الحيوانات المائية:

إن كانت الحيوانات الطاهرة تتسم بالإجترار مع الظلف المشقوق، إشارة إلى الحياة المقدسة في الرب التي تقوم على الإجترار في كلمة الله بلا انقطاع في العهدين القديم والجديد لكي نحيا مقدسين على الأرض كما في الأبدية، أو بمعنى آخر نتقدس هنا فتحيا قلوبنا في السموات مترقبة المكافأة الأبدية الكاملة، فإن الحيوانات المائية الطاهرة تعلن حاجة المؤمن إلى وسائط النعمة المختلفة من صلوات ومطانيات وتمتع بالأسرار المقدسة حتى يمارس الحياة الإيمانية العملية في الرب.

لقد اشترط في الحيوانات المائية أن يكون لها زعانف تساعدها على السباحة في وسط المياه، وحرشف يحميها من البيئة التي تحيط بها. ما هذه الزعانف والحرشف إلاَّ وسائط النعمة التي تسند المؤمن ليسبح وسط مياه هذا العالم بفعل روح الله الساكن فيه دون أن تجرفه التيارات المائية، وما هذا الحرشف إلاَّ عمل هذه الوسائط التي تحميه بالرب من كل مقاومة للشر ضده.

3. الطيور:

إن كانت الحيوانات الطاهرة تُشير إلى إرتباطنا بكلمة الله والإيمان الحيّ فينا، والحيوانات البرية تكشف عن الحاجة إلى وسائط النعمة، فإن الطيور تعلن عن الحاجة إلى السلوك العملي خاصة نحو إخوتنا. وهكذا تلتحم دراستنا بالكلمة الإلهية بعبادتنا وسلوكنا في وحدانية حقة بلا انفصال.

كيف تكشف الطيور الطاهرة عن السلوك العملي في معاملاتنا مع إخوتنا؟ لقد إعلنت الشريعة قائمة بالطيور النجسة المكروهة وقد اتسم أغلبها بالخطف والإنقضاض وأكل الجثث والجيفة... بمعنى آخر تحذرنا الشريعة من الشراسة والسلب والظلم والجشع... إلخ في معاملاتنا مع إخوتنا. فيقول القديس أكليمندس الإسكندري [يُشير النسر إلى اللصوصية، والباز إلى الظلم، والغراب إلى الجشع[151]].

يتحدث العلامة أوريجانوس عن الطيور الدنسة، فيقول: [بالحق تتغذى هذه الطيور على الجثث الميتة. الذين يعيشون هكذا هم غير طاهرين، هؤلاء الذين على ما أعتقد يترصدون موت الغير ويتبادلون العهود بخداع ومكر. وتوجد أيضًا طيور تعيش على الخطف، وهم أناس لهم تعاليم عاقلة فيظهرون كالطيور يقرأون ويبحثون في العلاقات السماوية والعناية الإلهية لكنهم يسلكون بالظلم وسلب القريب مخالفين الناموس، فبعلمهم وكلامهم يكونون كمن هم في السماء، أما بسلوكهم فيتممون أعمال الجسد. بهذا يستحقون أن يلقبوا نسورًا وأنوقًا ينقضون من أعلى السماء على الجثث الميتة النتنة... والبعض الآخر لا يخطف لكنه مغرم بالظلام كالبوم والغواص [17، 19]، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور" (1 يو 3: 20)[152]].

ويقول الأب برناباس: [يقصد (بالطيور الدنسة) ألا تكون لك شركة مع من لا يعرفون أن يكسبوا عيشهم بالتعب والعرق وإنما بالقنص الآثم وافتراس الغير، فتراهم يظهرون كأبرياء وهم ليسوا كذلك. يتربصون لفريستهم لينقضوا عليها، فيشبهون هذه الطيور التي لا تعمل شيئًا إلاَّ اقتناس فرائسها وتمزيق لحومها[153]].

بهذه الكلمة العامة عن الطيور النجسة وما اتسمت بها ككل، أود تقديم كل طير على انفراد مع تعليق بسيط عليه:  

أولاً: النسر eagle: من أقوى الطيور الجارحة، يدعى مجازيًا ملك الطيور، بسبب قوته وضخامة حجمه مع حدة بصره وقدرته على الطيران (تث 28: 49، أي 9: 26، 39: 30، أم 23: 5، 30: 17-19، إش 40: 31، حز 17: 3، حب 1: 8). عرفت النسور برعايتها الفائقة لصغارها، إذ تحوم حولها حتى تقدر النسور الصغيرة على الطيران (خر 19: 4، تث 32: 11، مز 103: 5). ولهذا حينما أراد الله أن يعلن محبته لشعبه ورعايته لهم قال: "كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحه ويأخذها ويحملها على منكبيه، هكذا الرب وحده وليس معه إله أجنبي" (تث 32: 11).

شُبه المؤمن بالنسر الذي يتجدد شبابه ولا يشيخ (مز 103: 5) ربما لأن النسر يُعمر كثيرًا، أو من أجل القصة المشهورة عن طائر العنقاء الذي يتجه نحو هيكل الشمس في مصر ويموت بعد أن يكون قد أعد لنفسه موضعًا يدفن فيه ثم يقوم من جديد... إلخ.

وحينما أراد الله أن يؤدب شعبه أكد لهم أنه يرسل لهم "أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها، أمه جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد" (تث 28: 49-50)، وقد شبه الكلدانيين هكذا "يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل" (حب 1: 8)، وأيضًا قيل عن أدوم المتعجرف: "إن رفعت النسر عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب" (إر 49: 16)، وأيضًا: "إن كنت ترتفع كالنسر وإن كان عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب" (إر 49: 16)، وأيضًا: "إن كنت ترتفع كالنسر وإن كان عشك موضوعًا بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب" (عو 4).

هكذا يرمز النسر لرعاية الله الذي يحمل شعبه كما على جناحي النسر، وفي نفس الوقت يرمز للعنف والسرعة في الخطف فحسبت الأمم المؤدبة لشعب الله كالنسر.

أحد الكاروبيم يحمل وجهًا شبه النسر (حز 10: 14، رؤ 4: 7)، وفي الفن المسيحي يرمز النسر للإنجيلي يوحنا ويُشير للاهوت المحلق في الأعالي كما للقيامة، وفي نفس الوقت أيضًا يُشير للقوة الغاشمة، فقد استخدم الفرس النسر شعارًا لدولتهم القديمة لذلك وصفهم أشعياء النبي بالكاسر من المشرق (إش 49: 11)، كما صار رمزًا للجيش الروماني، وحاليًا يستخدمه الجيش الأمريكي رمزًا له، كما تستخدمه كثير من البلدان.

أما سرّ النظر إليه كطائر نجس في الشريعة الموسوية فهو العنف في الخطف لفريسته!

ثانيًا: الأنوق ossifrage: يسمى باللاتينية ossifrage ويعني كاسر العظام وبالعبرية Peres أي الكاسر، إذ يجد لذته في كسر العظام، فمن عاداته أنه يحمل العظم الضخم أو السلاحف ويطير بها إلى علو شاهق ثم يلقيها على الصخور فتتفتت ويأكل نخاعها أو القطع المتناثرة منها. ويدعى أيضًا بالملتحي أو أباذقن gypaetus  berbatus لأن ريشًا أسود يظهر تحت ذقنه. يبلغ طوله حوالي ثلاثة أقدام ونصف ويبسط جناحيه فيكون طوله نحو تسعة أقدام. وهو من الطيور النادرة، يوجد في الجبال الصخرية المحيطة بالبحر الميت وفي سيناء[154].

ثالثًا: العقاب ospray: من الطيور الكاسرة، يشبه النسر، ويدعى بالنسر السمّاك لأنه يعيش على السواحل يصطاد السمك، وإن كان يتغذى أيضًا على الجيف. والعقاب سريع الطيران، حاد البصر، يعرف بالقوة حتى يُقال في أمثال العرب "أمنع من عقاب الجو".

دُعى في العبرية ozniyyah، أما في الترجنة السبعينية فدعى haliaetos أي Pandion  haliaetus.

رابعًا: الحدأة Vulture: وهي أيضًا من الطيور النجسة لأنها من الجوارح من فصيلة الباشق أو الباز أو الصقر، وهي تشبه النسر لكنها أصغر منه بكثير. لونها أسود، تستطيع أن تقف في الجو باسطة جناحها لتراقب فريستها. توجد أنواع كثيرة من الحدأة، وهي تنتشر بكثرة في فلسطين.

خامسًا: الباشق  Kite: وهي تشبه الحدأة. من ذات الفصيلة وهي أيضًا من الجوارح. كثيرًا ما يحدث خلط بينها وبين الحدأة في الترجمة...

تُعرف بكثرة الصياح والصراخ، لعلها دعيت بالعربية باشق من الفعل "بشق" أي "أحّد" نسبة لحدة البصر، لذلك قيل: "سبيل لم يعرفه كاسر ولم تبصره عين باشق" (أي 28: 7)، بمعنى سبيل لم يره حتى الباشق بالرغم من حدة بصره.

توجد أنواع كثيرة من الباشق (تث 14: 13)، منها[155]:

أ. الباشق الأسود milvus migrans، وهو طائر معروف جدًا كزائر صيفي، يظهر في فلسطين في مارس، يأكل الرمم، يصنع عشه بخرق كثيرة الألوان.

ب. الباشق الـ milvus aegyptius  وهو yellow- billed form.

ج. الباشق الأحمر milvus milvus : gregarious، مشهور في الشتاء. يعيش الباشق على الجراد عندما تحدث غارات من هذه الحشرات على الحقول.

سادسًا: الغراب: معروف بكثرة الخطف والسلب (أم 30: 17)،  شره، يأكل كل ما يصادفه حتى الجيف والقمامة لذلك عندما خرج من الفلك (تك 8: 7) لم يعد ليستريح في حضن نوح كالحمامة إنما وجد له موضعًا على الجيف الغارقة.

الغراب مغرم بتقوير عين فريسته... وحينما أراد الله أن يعلن مدى رعايته بإيليا صار يطعمه باللحم والخبز عن طريق غراب (1 مل 17: 2-7)، وكأن الله حول الأدراة التي للخطف والسلب وللشراهة إلى أداة يشبع بها نبيه.

سابعًا: النعامة: من أكبر الطيور حجمًا، يبلغ إرتقاعها حتى أعلى رأسها مترين ونصف متر، ويبلغ وزنها خمسة وسبعون كيلو جرامًا. معرفة بالرعونة والجفاء (مرا 3: 4) ربما لأنها لا تصنع لنفسها عشًا تضع فيه بيضها كباق الطيور، وإنما تبيض بعض بيضها في العراء فتطأه بقدميها أو تأكله الحيوانات. يتهمها البعض أنها إذ ترى الصيادين تدفن رأسها في الرمل كي لا يعاينوها، وإن كان البعض يرى أن الحقيقة أنها تفعل ذلك لأنها لا تستطيع أن ترى نفسها ضحية الصيادين. تعيش النعامة عادة في الأماكن الرملية القفرة، وجدت في أفريقيا وآسيا الغربية وفي صحراء سوريا. تعرف بسرعة العدو (أي 39: 13-18)، صوتها كالصراخ والنحيب (مي 1: 8، أي 30: 29).

ثامنًا: الظليم night hawk: يرى البعض أنه نوع من البوم أو الخطاف أو الطير المعروف بالسيسي، لكن الأرجح أن المقصود به هو ذكر النعامة، وهو أكبر حجمًا من الأنثى وأكثر جمالاً منها.

تاسعًا: السأف cuckos: جاءت في العبرية شحف shahaph، وفي الترجمة السبعينية laros وفي الفولجاتا larus .

توجد أنواع كثيرة من السأف، وهو يدعى بغراب البحر أو زمج الماء أو النورس، طائر بحري يقتات على الأسماك والحشرات والجيف. يوجد بكثرة على شواطئ فلسطين وبحيراتها.    

عاشرًا: الباز أو البازي hawk: من الطيور الجوارح، من فصيلة الصقر والشاهين، ويوجد منه أنواع كثيرة. منه الـaccipiter nisus  وهو منتشر في لبنان وتلال الجليل في الصيف وفي اليهودية والعربية في الشتاء، والنوع الثاني يدعى falco tinnunculus وهو صقر أكثر منه باز منتشر في فلسطين في خلال السنة كلها. الباز صدره عريض وعنقة طويل، يتسم بسرعته في الطيران وعدم صبره على العطش، شره يأكل لحوم الحيوانات والطيور، يقال أنه يأكل لحوم بني جنسه حتى وإن كانت زوجته أو أحد والديه. وكان الباز طائرًا مقدسًا عند قدماء المصريين، يعتبر قتله من أعظم الجرائم حتى وإن كان سهوًا.

حادي عشر: البوم little owl: تسمى athene saharae (persica) وهي من الطيور الجارحة، تتسم برأسها العريض وبعينيها المتسعتين، يتشائم منها كثير من الشرقيين بسبب شكلها الكئيب وصوتها الحزين ولأنها تسكن في الخرائب والصخور. ويظهر مدى تشاؤم حتى بعض الغربيين منها إنهم يدعون قبيحي المنظر أو الأبلهowlish  أي "مثل البوم"، ومع هذا فالبعض في استراليا كما بين العرب من يتفاءل بها ويحسبها بشيرة خير. يختفي البوم في النهار في أعشاشه ويخرج بالليل ليقتنص الفئران والحشرات ويهاجم الطيور في أعشاشها ويفترسها ويأكل بيضها.

ثاني عشر: الغواصcormorant : ويسمى phalacrocorax carbo ويسمى غرياق أو غاق، وهو طائر يسبح في الماء ويأكل السمك، منتشر بكثرة في فلسطين على شاطئ البحر المتوسط وبحر الجليل.

ثالث عشر: الكركى great owl [156]: يقال أنه في جحم الأوزة، لونه رمادي وفي خدية نقط سوداء، رجلاه طويلتان وذيله قصير. كثير الصياح بالليل، صياحه كصياح البوم لذلك يتشاءم البعض منه. يقال أنه محبوب الملوك لأن له نظامًا معينًا في طيرانه ونومه. فهو يطير في صف يتقدمه رئيس كدليل أو مرشد، وإذا تعب الرئيس يتأخر ليحل محله آخر. وفي نومه ينام جماعات في حلقة يتوسطها حارس، إذا انتهت نوبته يحل محله آخر. يعيش غالبًا في الأماكن القذرة (إش 34: 11) وفي الكهوف والخرائب، وهو منتشر في منطقة بترا وبئر شبع.

جاء إسمه في الترجمة السبعينية والفولجاتاibis  وفي الترجوم "بومة owl ويرى البعض أنها نوع من الصقر أو البوم المصري يسمىbubo ascalaphus

رابع عشر: البجعswan : جاءت في العبريةtinshemeth  وفي الترجمة السبعينيةporphyrion  ويرى البعض أنه "فرخة الماء، وهو طائر مائي يحب الماء، يتغذى على الأسماك والضفادع والطيور الصغيرة والحشرات والثعابين. لونه أبيض وأطراف أجنحته سوداء، ومنه نوع أسود اللون. يدعى أحيانًا بالحوصل بسبب حوصلته الكبيرة.

خامس عشر: القوقpelican  أو القاق: يدعى في العبريةkoath ، وأحيانًا يترجم الغواص أو الصقر أو الحدأة. وهو يشبه البجعة لكنه أصغر منها، محب للماء أيضًا، يسكن البراري (مز 102: 6) والخرائب (إش 34: 11، صف 2: 142).

يوجد نوعان من القوق: القوق الأبيضpelecanus onocratalus   والدلماطي pelecanus crispus  الأول أكثر إجتماعيًا من الثاني، إذ غالبًا ما يرى الثاني منفردًا. تلتحم أصابع قدميه بغشاء جلدي تساعده على الحياة المائية. عنقه ومنقاره طويلان، منقاره الأسفل مشقوق يتدلى منه حوصلة كبيرة يخزن فيها السمك الذي يصطاده ليقذفه لصغاره فتأكله، لهذا يدعونه أحيانًا "المتقئ" بالنسبة لقذفه السمك المخذون في حوصلته.

يرى القوق بكثرة في الشتاء على بحيرة الحولة وبحر طبرية.

سادس عشر: الرخمgier eagle : يُسمى في العبرية "رخم" أو "رخمة" وقد ترجمت أحيانًا حدأة أو "حداة جيفي". ويرى البعض أنه دون شك هو الحدأة المصرية أو فرخة فرعون neophron pernopterus لونه بوجه عام أبيض وأطراف جناحيه سوداء، أما الرخم الصغير فلونه بني.

يشبه النسر في شكله، أما طوله فحوالي قدمين، سريع الطيران، يسكن في الخرائب ويأكل الحشرات والجيف. وهو من الطيور المهاجرة، ينطلق في الصيف من جنوب فرنسا مارًا بجنوب أوربا وشمال أفريقيا إلى غرب الهند[157].

سابع عشر: اللقلق[158]storck: يدعى بالعبرية "حصيدة" وهو محب لصغاره، يسكن السرو (مز 104: 17)، ومن الطيور الرحالة (إر 8: 7).

يوجد منه نوعان: الأبيضciconia alba  والأسودcinconia nigra . الأبيض يقضي الشتاء في أواسط أفريقيا وجنوبها، وفي الربيع يرحل إلى أوربا وفلسطين وشمال سوريا بأعداد كبيرة. إرتفاعه حوالي 4 أقدام، طويل العنق والساقين لونهما أحمر، أما جناحاه فطرفاهما أسودان. يعيش على الضفادع والحلزون والحشرات، وإن لم يجد شيئًا من هذه يقتات على القاذورات. ينظر إليه كطائر مقدس، لذلك حرمت كثير من الشعوب صيده، وهو لا يخاف الإنسان إذ كثيرًا ما يدخل مساكنه.

أما النوع الأسود فوجد في فلسطين، منتشر بكثرة في وادي بحر الميت.

دعى باللقلق لأنه يحدث بمنقاره صوتًا يشبه "لقلق لقلق...".

ثامن عشر: الببغاء[159]heron : في العبرية يسمى "أنفاه"، وهي كلمة يقصد بها فصيلة من الطيور تسمىardeidae  متفرعة عن الطيور الخائضةGrallatores  وهي عادة طيور كبيرة الحجم ذات منقار طويل وأرجل طويلة عارية، بطيئة في طيرانها، تعيش على الأسماك والزواحف. تكثر عند بحيرة الحولة، ترافق الماشية في المراعي القريبة من البحيرة. النوع العام من الببغاءardea cinera  يوجد بكثرة في الأردن وبحيراته، وعلى ساحل فلسطين، ويوجد معه الببغاء الأرجواني (السلطاني)ardea purea وأنواع أخرى من الطيور المائية كأبي قردان.

تاسع عشر: الهدهدlapwing : يدعى في العبرية dukiphath إسمه اللاتيني vanellus cristatus وهو عضو في الفصيلة charadriidea وهو طير صغير جميل الشكل مخطط بخطوط سوداء وسنجابيه، له منقار طويل ومتين، يعرف بريشه الذي على رأسه كتاج أو مروحة. من الطيور الصديقة للفلاح، يأكل الحشرات والديدان. وهو من الطيور الرحالة، توجد في أواسط أوربا وجنوبها، وفي آسيا وشمال أفريقيا وأواسطها تظهر في فلسطين في شهر مارس، وعند اقتراب الشتاء تهاجر إلى مصر.

عشرون: الخفاش[160]bat : يسمى في العبرية "عطاليف"، وهو حيوان ثديي، عُدّ بين الطيور لأنه يطير بجناحين يختلفان عن جناحي الطير، كما أن جسمه مغطى بشعر. يمشي على أربع وهو شكل الفأر، ليس له منقار بل أسنان. لا يبصر جيدًا في النور الساطع لذلك يختفي في النهار، ويبصر جيدًا في النور الضعيف، لذلك فهو يطير في بداية الليل ليصطاد الهوام كالذباب والبعوض ليأكلها وهو طائر. لكنه لا يبصر في الظلام الحالك ومع ذلك لا يصطدم بما يصادفه من عوائق في طيرانه، إذا اكتشف العلماء أنه يرسل اصواتًا من فمه تصطدم بالاجسام التي في طريقه تحدث صدى ترتد إلى أذنيه فيتجنبها، على هذه النظرية اخترعت أجهزة الردار.

الخفاش يسكن في الأماكن الخربة والقذرة والكهوف (إش 2: 20)، ويقال أنه يعمر كثيرًا. وقد ذكره الكتاب في النهاية لأنه ليس من الطيور كما كان يعتقد الناس في ذلك الحين.

4. الحشرات الطائرة:

الحشرات بوجه عام مكروهه، أي ممتنع عنها إلاَّ أربعة أنواع حددها بالجراد والدبا والحرجوان والجندب [22] وهي جميعها أنواع من الجراد... يجوز أكله، أما كل حشرة (دبيب) تطير بأجنحة ولها أربعة أرجل فما أكثر فهي مكروهة [23].

وقد حلل أكل الحشرات الطيارة وإن كان لها أربعة أرجل، لكن الرجلين الخفيتين لهما كراعان "ساقان" [21] والمقصود بذلك أن الرجلين الخلفتين أطول من الأمامتين لأن بهما ساقين طويلتين، وكأن الرجل الخلفية تتكون من ثلاثة أجزاء: جزء يقابل الفخد في الحيوان، وجزء يقابل الساق (الكراع) وجزء يقابل القدم.

بعد تحذيره من أكل الحشرات الطائرة الدنسة حذر من بعض حالات النجاسة وهي:

أولاً: من مس جثث حيوانات نجسة ميتة يُحسب نجسًا حتى المساء، أي حتى ينتهي اليوم ليبدأ يوم جديد، وكان على مثل هذا ألا يدخل بيت الرب ولا يخالط الأطهار ولا يأكل من الذبائح أو يمس شيئًا مقدسًا حتى يأتي المساء ويغسل ثيابه [24-25].

أيضًا يقع تحت ذات الشريعة من مس حيوانًا ميتًا نجسًا، غير مشقوق الظلف أو غير مجتر[26].

ثانيًا: أيضًا يقع تحت ذات الحكم من يلمس جثث حيوانات ميتة نجسة تمشي على كفوفها مثل الكلب والقطة والفأر والقرد... إلخ [27-28].

ثالثًا: عدم لمس الدبيب الميت الدنس، وقد حدد ثمانية أنواع [29-30].

أ. إبن العرسweasel : يحسبه البعض نوعًا من الفئران، شكله يقترب من النمس، يسكن الجحور في الحقول والخلاء وأحيانًا المنازل. شديد العداوة للفئران، يفترسها كما يأكل الحيوانات الصغيرة والجيف كما يؤذي الأطفال الصغار وهم نيام. يخطف الأشياء اللامعة كالنقود ويخفيها في جحره.

ب. الفأر mous: الكلمة العبرية تعني عائلة من الفئران تضم اليربوع والجرذان وغيرهما. يسكن البيوت أو الحقول، والأخير مخرب للغاية إذ يأكل المحاصيل، كما قد يحمل أوبئة (1 صم 6: 4-5). أكله بعض الإسرائيليين في طقس وثني متجاهلين (إش 66: 17). يضرب العرب به المثل في السرقة والسطو، إذ يُقال: "ألص من فأرة".

ج. الضبtortoise : الكلمة العبرية "ضب" تعني "وزغة عظيمة"، وهناك تقارب بين الضب والوزغة والورل فهي زواحف متقاربة.

الضب حيوان بري يشبه التمساح، يسكن البراري، طوله نحو قدمين، وذيله كثير العقد، حتى يقال في الأمثال العامة "أعقد من ذنب الضب". قادر على التلون حسب لون البيئة التي يوجد فيها، مغرم بأكل التمساح.

د. الوزغة lizard: يطلق الإسم على أنواع كثيرة من الزواحف مثل التمساح البري والوزغة الرملية والورل. أجمل الوزغ ما هو أخضر منه يوجد في الغابات والمناطق الزراعية، ومنه ما يدعى بأبي بريص لوجود بقع تشبه البرص على جلده، يتسلق الجدران والصخور.

هـ . الحرذون ferret,  gecks: يسمى في العبرية "أناقة"، والأرجح أنه نوع من وزغ الحائط قريب الشبه بأبي بريص (البرص)، ظهره به بقع بيضاء، كفوفه بها فراغات تجعله قادرًا على تسلق الجدران والأسقف بطريقة ماصة.

الحرذان المنتشر في بيوت الفلسطينيين يدعىhemidactylus turcicus  كما ينتشر في مدنها prydoctylus syriacus.   

  و. الورل chameleon: وهو نوع من الوزغ قريب جدًا من الحرباء. رئتاه كبيرتان جدًا، حين تتمددان تجعلانها شبه شفافة، وعيناه بارزتان عن الرأس، ويتلون حسب البيئة التي يعيش فيها.

عيناه مستقلتان، يمكن أن يرى بالعين في إتجاه وبالأخرى في أتجاه آخر، وذيله الطويل يساعده على تسلق الأشجار. يتغذى على الحشرات التي يصطادها بلسانه الطويل الذي يحمل مادة لزجة تساعد على التصاق الحشرات به.

يوجد ورل بري   psmmosaurus scinus يكثر في فلسطين وسيناء ومصر، وورل بحري (نيلي)  hydrosaurus niloticus يتميز بعرف بارز يعلو ذنبه.

ز. الغطايةsnail : وهو نوع من الوزغ يدعى chalcides sepsoides  يوجد في الصحراء والكثبان الرملية. يدعوها البعض "الحلزون"، شكلها يقارب من شكل الحرباء، وهي لا تؤذي.

ط. الحرباءmole : راجع حديثنا عن الرول.

رابعًا: بالنسبة للأنواع الثمانية السابق ذكرها لا تقف خطورتها عند لمسها وهي ميتة فيتنجس الإنسان حتى المساء، وإنما يخشى عليها بعد موتها أن تسبب عدوى، لذلك جاءت الشريعة حازمة من جهة:

أ. إن سقط أحده ميتًا على متاع من الخشب أو الثياب أو الجلد أو البلاس (قماش مصنوع من شعر المعزى أو غيره كمسوح)، يلقى المتاع في الماء حتى المساء ويغسل ليتطهر [32].

ب. إن سقط في إناء خزفي يكسر الإناء، خشية أن يكون الميكروب قد تسلل إلى مسامه، خاصة وأن الأواني الخزفية كانت رخيصة للغاية [33].

ج. إن سقط على طعام به سائل كالماء أو الزيت لا يؤكل.

د. إن سقط في تنور (فرن) أو موقد يهدم ويُعاد بناءه.

هـ. إذا سقط في عين ماء أو بئر لا تحدث نجاسة إنما يكتفي بنزح بعض الماء، ويلقى بعيدًا [36].

ز. إن سقط على بذور جافة لا تحسب نجاسة، أما إذا كانت البذور مبللة فلا تستخدم [37-38].

خامسًا: بالنسبة للحيوانات الطاهرة المصرح بأكلها إن ماتت بطريق غير الذبح العادي، تحسب جثثها نجسة ولا يجوز لمسها ولا الأكل منها، فإن أكل منها سهوًا يحسب نجسًا حتى المساء [40]، أما إن كان عمدًا فيقطع من الشعب (تث 14: 21، عب 15: 30). ومن يحمل الجثة يتنجس طول اليوم حتى المساء.

5. الزواحف:

تعتبر الزواحف التي تزحف على بطنها كالثعابين نجسة، أيضًا كل ما يمشى منها على أربع مما لم يحلل أكله سابقًا [29-30]، وكذلك ما له أكثر من أربع أجل.

6. خاتمة:

أوضح في نهاية هذه الشريعة غايتها: "أنيّ أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأنيّ أنا قدوس، ولا تنجسوا أنفسكم بدبيب يدب على الأرض، إنيّ أنا الرب الذي أصعدكم من أرض مصر ليكون لكم إلهًا، فتكونون قديسين لأنيّ أنا قدوس" [44-45].

كأنه يؤكد لهم أنه لم يقدم هذه الشريعة بتفاصيلها الكثيرة ليحرمهم من متعة معينة أو من طعام معين، لكنه وهو قدوس يريدهم مقدسين روحًا وجسدًا. لقد أصعدهم من عبودية فرعون فلا ينزلون بدبيب الأرض بل يتقدسون مرتفعين نحو الأمور السماوية.

هذا وإن كانت الشريعة الموسوية قدمت للشعب اليهودي شريعة خاصة بالأطعمة المحللة والأطعمة المحرمة سواء من البهائم أو المائيات أو الطيور أو الحشرات الطائرة أو الزواحف، ففي العهد الجديد إذ صعد بطرس إلى السطح رأى السماء مفتوحة وإناءًا نازلاً عليه مثل ملاءًة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء، وصار إليه صوت: قم يا بطرس إذبح وكُلْ (أع 10: 11-13)، وتكرر الصوت مرة ثانية وثالثة، ليسمع الصوت الإلهي: "ما طهره الله لا تدنسه أنت". وكما يقول العلامة أوريجانوس[161] أن تكرار الصوت ثلاث مرات يُشير إلى التمتع بالحياة المقامة التي صارت لنا في المسيح يسوع القائم من بين الأموات في اليوم الثالث. هذه الحياة المقامة ننعم بها خلال مياه المعمودية حيث ندفن مع السيد ونعتمد بأسم الثالوث القدوس لنحمل الطبيعة الجديدة التي ليس فيها دنس، إذ يقول الرسول: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17).

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثاني عشر

تطهير الوالدة

إذ دخل الله مع شعبه في عهد اعطاهم بيته المقدس – خيمة الإجتماع أو الهيكل- مكانًا مقدسًا فيه يجتمع الشعب في الأعياد يعلنون فرحهم بالله القدوس الساكن وسطهم، وإليه يلجأ كل من سقط في خطية أو نجاسة ليجد فيه ينبوع تطهير له.

بعد الحديث عن الأطعمة المحللة والأطعمة المحرمة قدم شرائع التطهير مبتدأ بتطهير السيدة لتي ولدت. مع أن الأبناء عطية إلهية لكن حياة الإنسان فسدت بالخطية خلال العصيان الأول لذا صارت هناك حاجة لتطهير المرأة التي تلد، كما توجد ضرورة لتطهير من يمس ميتًا، وكأن الإنسان قد ارتبط بالدنس في ميلاده كما في موته، محتاجًا إلى الميلاد الجديد والموت مع الرب المصلوب ليحيا مقدسًا له.

1. نجاسة الوالدة           [1-5].

2. طقس التطهير           [6-8].

1. نجاسة الوالدة:

كانت المرأة – حسب الشريعة الموسوية – تحسب نجسة سبعة أيام إن ولدت ذكرًا حتى يختتن الطفل في اليوم الثامن، وتكون هكذا لمدة أسبوعين إن أنجبت أنثى، تكون "كما في أيام طمث علتها" [2]، أي تحسب كمن هي في مرضها الشهري. وقد قيل "طمث علتها" أي كمن هي بسبب ما يصاحب الولادة من أتعاب وآلام. كما تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها إن كان المولود ذكرًا، وستة وستين يومًا إن كان المولود أنثى، لتقديم ذبيحة محرقة مع ذبيحة خطية بعد أربعين يومًا إن كان المولود ذكرًا أو ثمانين يومًا إن كان المولود أنثى، وذلك للتكفير عن الوالدة.

لماذا كانت الوالدة حديثًا تحسب نجسة حسب الشريعة الموسوية:

أولاً: لأنها تخرج دمًا بعد الإنجاب، والشريعة تحسب كل جسم يخرج سيلاً سواء كان رجلاً أو أنثى أنه نجس (لا 15)، ليس لأن الدم في ذاته نجاسة، وإنما لكي يتوقف الإنسان عن كل عمل ويهتم بصحته حتى يشفى تمامًا، يرى العلامة أوريجانوس في هذه الشريعة كما في شريعة تطهير الأبرص أن الله يظهر لشعبه كطبيب يهتم بشفائهم، مقدمًا لنا دواءً لا من عصير الأعشاب كما كان يفعل الأطباء في ذلك الحين وإنما يقدم لنا فهمًا روحيًا عميقًا لكلماته الإلهية لشفاء نفوسنا، إذ يقول: [يدخل يسوع الطبيب السماوي إلى هذه الجماعة التي هي الكنيسة لينظر جماعة المرضى مطروحين. يرى هنا سيدة صارة دنسة خلال الإنجاب، ويرى هناك أبرصًا موضوعًا خارج المحلة بسبب دنس برصه يطلب الشفاء والتطهير. ولما كان يسوع هو الطبيب إذ هو كلمة الله يقدم علاجًا للمرضى ليس مستخرجًا من الأعشاب، إنما يقدم المعنى السري لكلماته. حقًا إننا نتطلع إلى العلاج الموجود في الكتب المقدسة والحقول بإهمال، غير مدركين فاعلية هذه النصوص، فنستهين بها كما لو كانت بلا قيمة وبلا نفع. لكن قليلين يعرفون المسيح كطبيب للنفوس، فيجمع كل واحد منهم من هذه الكتب التي تُقرأ في الكنيسة كما من السهول والجبال، أعشاب الخلاص، ويتعرفون على معنى الكلمات، حتى متى كانت النفس مصابة بفتور تُشفى بقوة هذه الأعشاب العظيمة بعصارتها الداخلية[162]].

ثانيًا: إن كان الله قد خلق الإنسان وباركه ووهبه أن يتكاثر وينمو ويملأ الأرض (تك 1: 28)، لكن الإنسان بعصاينه سقط تحت العقوبة، فصارت الولادة تصحبها آلام وأتعاب بالرغم من كونها بركة من عند الرب. ولعل هذه الشريعة التي جاءت تعلن عن نجاسة المرأة التي تلد تجتذب الأنظار وسط الفرح بالمولود الجديد إلى الخطية التي تسللت إلينا أبًا عن جد. لهذا يصرخ المرتل: "هأنذا بالآثام حُبل بيّ وبالخطايا ولدتني أمي" (مز 51: 5). وكما قال أليفاز التيماني لأيوب البار: "من هو الإنسان حتى يزكو أو مولود المرأة حتى يتبرر؟!" (أي 15: 14). وفي وضوح يقول الرسول بولس: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12)، كما يقول: "بالطبيعة كنا أبناء الغضب" (أف 2: 3).

ثالثًا: لعله أرد بهذه الشريعة أن يؤكد أن الأم لا تحسب طاهرة حتى تقدم ذبيحة دموية... رمزًا إلى الحاجة إلى دم السيد المسيح الذي يطهر من كل خطية (1 يو 1: 7) حتى ينعم كل مولود جديد بالإنتساب إلى الجماعة المقدسة في الرب، إسرائيل الجديد.

رابعًا: أراد الله أن يعلن قدسية شعبه فأمرهم بالإبتعاد عن كل ما يخدش طهارة النفس أو الجسد حتى تكون الطهارة الخارجية مرآة صادقة تعكس طهارة الداخل.

نعود إلى المرأة التي تحبل وتلد إبنًا ذكرًا فإنها تبقى أربعين يومًا لتتم أيام تطهيرها، سبعة أيام تُحسب نجسة حيث يختتن الطفل في اليوم الثامن، وتبقى الثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها.

من جهة ختان الذكر في اليوم الثامن، سبق لنا الحديث عنه أثناء دراستنا لسفر التكوين (أصحاح 17). وقد عرف الختان في بعض الشعوب كعمل تطهيري، لذا يسمى في العربية "طهورًا".

ويرى العلامة أوريجانوس أن النص اليوناني في الترجمعة السبعينية هو "إذا حصلت في بطنها على زرع وولدت" ليميز بين النساء اللواتي يلدن خلال زرع بشر وبين العذراء التي حبلت دون زرع بشر. فلنساء يحملن ثقل الناموس، أما العذراء فجاءت كاستثناء تلد دون أن تحبل بزرع بشر، ولدت ذاك الذي قبل أن ينحني تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، كقول الرسل: "لما جاء ملء الزمان أرسل الله إبنه مولودًا من إمرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غلا 4: 4-5).

تسمية العذراء مريم "إمرأة" ليس بعجيب، فإن كل ذكر متى بلغ النضوج دعى رجلاً حتى ولو لم يكن متزوجًا، وكل أنثى تُحسب إمرأة متى بلغت النضوج حتى ولو لم تكن متزوجة، وذلك كما قال العبد لإبراهيم: "ربما لا تشاء المرأة أن تتبعني إلى هذه الأرض، هل أرجع بإبنك إلى الأرض التي خرجت منها؟" (تك 24: 5)، قاصدًا بالمرأة فتاة عذراء.

يقدم لنا العلامة أوريجانوس تعليقًا متطرفًا في أمر هذه الشريعة، فهو يرى في الشعور بدنس المرأة التي تلد إعلانًا عن نجاسة المولود ذكرًا كان أم أنثى، وأنه لا يليق بالقديسين أن يبتهجوا بتذكار يوم ميلادهم بل يسبونه. [لا نجد أحدًا من القديسين يحتفل بعيد ميلاده أو يقيم فيه وليمة عظيمة ولا يفرح أحد بعيد ميلاده إبنه أو إبنته، إنما يفرح الخطاه بهذا. ففي العهد القديم إحتفل فرعون ملك مصر بعيد ميلاده (تك 40: 20)، وفي العهد الجديد إحتفل هيرودس أيضًا (مر 6: 21)، وفي الحالتين سال الدم علامة تكريمهما لعيد ميلادهما، فقطعت رأس رئيس الخبازين (تك 40: 22)، وأيضًا رأس القديس النبي يوحنا في السجن (مر 6: 27). أما القديسيون فليس فقط لا يحتفلون بأعياد ميلادهم وإنما هم مملؤون من الروح القدس يسبون هذا اليوم. فإن نبيًا عظيمًا، أقصد إرميا، الذي تقدس في بطن أمه وتكرس كنبي للشعوب (إر 1: 5)، يعلن: "ملعون اليوم الذي وُلدت فيه، اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكون مباركًا، ملعون الإنسان الذي بشر أمي، قائلاً: "قد وُلد لك إبن مفرحًا إباه فرحًا، وليكن ذلك الإنسان كالمدن التي قلبها الرب ولن بندم" (إر 20: 14-16) [163]...]. واسترسل العلامة أوريجانوس في حديثه... ولعل مغالاته في الأمر يكشف عن نظرته التي شابها شيء من المرارة من نحو الجسد، الأمر الذي لا يقبله بعدما حمل السيد جسدنا، وبارك طبيعتنا فيه. أما استشهاده بالمسيحيين في عصره إنهم لا يجتفلن بأعياد ميلادهم، فهذا على ما أظن يرجع إلى فرحة المسيحيين بالعماد كميلاد روحي جديد، لذلك استبدلوا الإحتفال بيوم الميلاد بتذكار يوم عمادهم.

نرجع إلى شريعة تطهير المرأة التي تلد، فإن الفترة الأولى (7 أيام 14 يومًا) تحسب فيها المرأة نجسة، أما الفترة التالية (33 يومًا أو 66 يومًا) فتحسب سائرة في طريقها تطهيرها فمن يلمسها أو يخدمها لا يحسب قد تنجس، إنما لا يجوز لها الذهاب إلى بيت الرب.

يعلق العلامة أوريجانوس على السبعة أيام الأولى التي تحسب فيها المرأة التي تلد نجسة، قائلاً: [أثاء السبعة أيام تبقى منفصلة عن كل ما هو طاهر حتى تمر الأيام السبعة "في دم دنسها" والثلاثة والثلاثون يومًا في دم تطهيرها... في اليوم الثامن يختتن الولد فتصير طاهرة... إننا نرى في هذا الأسبوع رمزًا للحياة الحاضرة، ففي أسبوع واحد إنتهى خلق العالم، وكأننا مادمنا في الجسد لا نستطيع أن نكون طاهرين طهارة كاملة، حتى يأتي اليوم الثامن أي مجئ الدهر الآتي[164]].

يمكننا أن قول أن النفس تكون كإمرأة والدة في أسبوعها الأول مادامت مرتبطة بالعالم، فهي نجسة، لكنها إذ تنطلق إلى اليوم الثامن أي إلى الفكر الإنقضائي وتنعم بالحياة السماوية تحسب طاهرة وهي بعد في العالم. وكأن اليوم الثامن ليس زمانًا ننتظره إنما هو حياة نعيشها أو حال سماوي نكون فيه.

ربما يتساءل البعض: لماذ ضوعفت المدة بالنسبة لولادة البنت؟

أولاً: في دراستنا السابقة كثيرًا ما رأينا الذكر يُشير إلى النفس والأنثى إلى الجسد[165]، فإن كانت النفس تحتاج إى تطهير روحي (في مياه المعمودية) فالجسد وهو ينعم بالطهارة مع النفس في مياه المعمودية لكنه يحتاج إى مجهود مضاعف بعد العماد، إذ يحمل ثقلاً يلزم ضبطه وقمعه.

ثانيًا: لم يكن هذا التمييز يعني تمييزًا بين الجنسين، فإن الذبيحة لمقدمة عن الولد هي بعينها التي تقدم عن البنت، وكما يقول لرسول: "إن الرجل المرأة هما واحد في المسيح يسوع ربنا" (غلا 3: 28، كو 3: 11)، إنما اختلاف المدة ربما يحمل إستنكارًا لغواية إبليس لأمنا حواء.

طقس التطهير:

إذا تكمل أيام التطهير، أي بعد الأربعين يومًا أو الثمانين، تأتي المرأة الوالدة بنوعين من الذبائح: خروف حوالي (عمره سنة) كمحرقة، وفرخ حمامه أو يمامة كذبيحة خطية. وإن لم يكن في مقدروها ذلك تقدم يمامتين أو فرخي حمام، الواحدة محرقة والأخرى ذبيحة.

ويلاحظ في هذه التقدمة الآتي:

أولاً: لا يكفي أن تتم أيام تطهيرها لتحسب طاهرة، فلزمن عاجز عن مسح الخطية أو إزالة الدنس، إنما الحاجة دومًا إلى الدم القادر أن يطهر من كل خطية.

ثانيًا: تمتزج الذبيحتان معًا: ذبيحة المحرقة التي هي موضع سرور للرب مع ذبيحة الخطية... وكأنه في تطهيرنا بالدم الثمين يمتزج الفرح والبهجة بالغفران من الخطية.

 ثالثًا: المحرقة التي للفرح يقدمها كل إنسان حسب إمكانيته فقد تكون خروفًا حوليًا أو طيرًا، أما ذبيحة الخطية فواحدة للجميع للفقراء كما للأغنياء، لكي يكون في قدرة الجميع تقديمها بلا تمييز بين غني وفقير.

والعجيب أن القديسة مريم بحبلها بالسيد المسيح الغني الذي افتقر لكي يغنينا (2 كو 8: 9) قدمت التقدمة الخاصة بالفقراء. هذا وبممارستها للطقس أعلنت خضوعها للناموس مع أنها لم تحمل دنسًا بل حملت القدوس في أحشائها... حملت ذاك الذي خضع بإرادته تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لذلك لم تتعالى هي أيضًا عن طقس الناموس بل تممته (لو 2: 24).

<<

 


 

الأصحاح الثالث عشر

تطهير برص الجسد وبرص الثياب

إن كان الله قد أهتم بصحة المرأة التي تلد فأوصها بالإستكانة مدة زمنية تحت الرعاية، فإنه في شريعة الأبرص يهتم بشعبه حتى لا تنتقل عدوى المرض بينهم، ويهتم حتى بثيابهم كي لا ينتقل العث من الثوب إلى ثوب.

1. مرض البرص                             

2. من كان بجلده ناتئ أو قوباء أو لمعة                [1-8].

3. من كان برصه مزمنًا في جلد جسده                 [9-17].

4. من كان في جلده دُملة قد برئت                      [18-23].

5. من كان في جلده كيّ نار                             [24-28].

6. من كان فيه ضربة في الرأس أو الذقن              [29-37].

7. من كان في جلد جسده لمع لمع أبيض               [38-39].

8. من كان فقد شعر رأسه                              [40-44].

9. حكم الأبرص                                         [45-46].

10. برص الثياب والمتاع الجلدي                       [47-59].

1. مرض البرص:

"البرص" في الطب الحديث هو مرض جلدي خطير يصل في بعض مراحله الخطيرة إلى تآكل بعض أطراف الجسم وتشويه شكل الإنسان بجانب خطورته في انتقال العدوى سريعًا. ولعل ما ورد في العهد القديم تحت إسم "البرص" لا يعني مرضًا معينًا، إنما كل ما يمكن أن يسبب عدوى لا بين الناس فحسب إنما حتى بين الأثاثات كانتقال العث من ثوب إلى ثوب، والسوس من خشب إلى خشب... إلخ.

قد يرى الإنسان في الحكم على الأبرص في ظل الشريعة الموسوية نوعًا من القسوة، مثل عزله بعيدًا عن الجماعة وحسبانه نجسًا حتى يبرأ... لكننا نجد حتى في المجتمعات الحديثة بالرغم مما وصل إليه الطب من تقدم فائق في هذا القرن أن أصحاب الأمراض الجلدية يعزلون في مستشفيات أو مصحات بعيدة عن السكن، ويخشى حتى الأطباء على أنفسهم من انتقال العدوى إليهم.

إرتبط البرص في ذهن اليهود بالخطية لخطورة المرض صحيًا وتشويه جسم الإنسان وسرعة نقل العدوى، لهذا إستخدمه الرب أحيانًا للتأديب كما فعل مع مريم أخت موسى بسبب كلامها ضد أخيها (عد 12: 10)، وما حدث مع جيحزي حين مال قلبه وراء نعمان السرياني يطلب الفضة والذهب ويكذب على أليشع النبي (2 مل 5: 27)، وما أصاب عزيا الملك لاعتدائه على وظيفة الكهنوت (2 أي 26: 16-21).

البرص كالخطية لم يكن لدى اليهود كما بقية الأمم إمكانية الخلاص منه بأنفسهم، بل يشعر الكل بالحاجة إلى تدخل إلهي للخلاص منه. لذلك حُسب الشفاء منه تطهيرًا كما من النجاسة أو من آثار الخطية، كما قيل عن نعمان السرياني حين تطهر منه في مياه الأردن (2 مل 5: 10-14)، وحينما قال السيد المسيح نفسه "البرّص يطهرون" (مت 11: 5)، وحينما توسل إليه أبرص قائلاً: "يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني" فأجابه: "أريد فأطهر" (مت 8: 1-3).

الآن نبدأ بالحديث عن البرص وبعض العوارض التي تصيب جسد الإنسان وثيابه.

2. من كان بجلده ناتئ أو قوباء أو لمعة:

غالبًا ما يقصد بالناتئ هنا إنتفاخًا أو ورمًا، وبالقوباء بقعة حمراء على الجلد بها قشرة، وباللمعة بقعة مختلفة اللون في جلد الإنسان. وإذ يخشى أن يكون الإنسان مصابًا بمرض جلدي مّيز بين حالتين:

الحالة الأولى إن كان شعر الجلد قد أبيض ولون البقعة مختلف عن بقايا الجسم فيحتم بأنها "ضربة برص" [3]، ويحسب الإنسان نجسًا، فيعزل عن الجماعة حتى لا يعديها.

الحالة الثانية متى كانت الضربة لمعة بيضاء في جلد جسمه، ولم يكن منظرها أعمق من الجلد أي لم يكن هذا الجزء في مستوى أدنى من بقية الجسم، ولم يبيض شعرها، فيحجز الشخص سبعة أيام ليراه الكاهن في اليوم السابع فإذا كانت الضربة لم تمتد بل توقفت يحجز سبعة أيام أخرى، فإن لم تمتد أيضًا يحكم الكاهن بطهارته، ويحسبها "حزاز"، بمعنى أنها مجرد علامة لا خطورة منها، أو مجرد قشرة (قوباء). ومع هذا يغسل المصاب ثيابه لأنه كان مشبوهًا في أمره وتحت الفحص... إشارة إلى حاجتنا للإغتسال حتى من شبه الخطية. أما إذا كانت الضربة ممتدة فيحكم عليه بالنجاسة بكونه يحمل ضربة برص.

يقدم لنا العلامة أوريجانوس تفسيرًا رمزيًا لهذه الحالة بقوله: [عندما يُصاب الإنسان بجرح جسدي غالبًا ما تبقى علامة بعد شفاء الجرح تسمى "ناتئ"، ويندر أن يُشفى الإنسان دون ترك علامة للجرح. الآن إذ أعبر من ظل الناموس إلى الحق، حاسبًا أن نفسًا ما تجرح بالخطية فإنها وإن شفيت لكن يظهر عليها ناتئ في أثر الجرح، هذا الناتئ ينظره لا الرب وحده وإنما حتى الذين نالوا نعمة تمييز أمراض النفس وتمييز النفوس التي شفيت تمامًا من كل أنواع الجراحات المؤلمة عن تلك التي لا تزال تحمل علامات المرض القديم كناتئ فيها[166]].

يوجد أناس لهم ناتئ يكشف عن إصابتهم بمرض روحي عضال يصعب شفاءه، كقول النبي: "من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تعصب ولم تلين بزيت" (إش 1: 6). وكما يقول إرميا النبي: "لأنه هكذا قال الرب: كسرك عديم الجبر وجرحك عضال، ليس من يقضي حاجتك للعصر، ليس لك عقاقير رفادة. قد نسيك كل محبيك، إياك لم يطلبوا لأنيّ ضربتك ضربة عدو قاسى، لأن إثمك قد كثر وخطاياك تعاظمت. ما بالك تصرخين بسبب كسرك؟! جرحك عديم البرء لأن إثمك قد كثر وخطاياكِ تعاظمت، قد صنعت هذه بك" (إر 30: 12-15). ومع هذا إن كان الله يكشف عن مدى ما بلغت إليه النفس من مرارة بسبب إصابتها بمرض لا يُشفى، فقد جاء السيد المسيح الذي بلا خطية يحمل خطايانا ويقبل جراحتنا فيه، مقدمًا لنا العلاج بدمه الثمين. إن كنا قد صرنا بسبب الخطية مصابين بضربة برص روحي، فحسبنا نجسين ومطرودين خارج المحلة، فقد خرج هو خارج المحلة يحمل صليب عارنا. لهذا بعدما أعلن الله بإرميا عن الجراحات التي أصابتنا عاد في الحال ليقول: "لأنيّ أرفدك وأشفيك من جروحك يقول الرب" (إر 30: 17). مرة أخرى يقول: "هأنذا أضع عليها رفادة وعلاجًا وأشفيهم وأعلن لهم كثرة السلام والأمانة وأرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل" (إر 33: 6-7).

هذا وإننا نلاحظ في شريعة الأبرص ككل أنها ألزمت الكاهن بالتدقيق في الأمر قبل إصدار الحكم، فيتريث ويتأنى حتى لا يُضار أحد. هذا ما يليق بكل كاهن وكل مسئول، ألا يتسرع أحد في حكمه على الآخرين، إنما يلزمنا أن نعمل بروح الحكمة وطول الأناة لكن دون تهاون على حساب الحق.

ويلاحظ في هذا الأصحاح تكرار كلمة "أعمق" [3، 4، 20، 21، 25، 26... إلخ]. وذلك بخصوص الضربة التي تصيب جلد الإنسان، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [بالحقيقة كل رذيلة في النفس هي في مستوى سفلي عن كل الفضائل[167]]. بمعنى آخر ترمومتر الحياة الروحية الذي يكشف ضربة الخطية إنه ينحط بالنفس إلى التراب ويجعلها سفلية وترابية في تفكيرها وإشتياقاتها، أما الفضيلة الحقة في المسيح يسوع فترفع النفس إلى السماء لتقول بصدق: "وأما سيرتنا نحن فهي في السمويات".

3. من كان برصه مزمنًا في جلد جسده:

في الحالة السابقة كان الأمر يحتاج إلى حجز المريض لاكتشاف المرض، أما في هذه الحالة فلا يحتاج الأمر إلى ذلك، فالمريض يحمل علامات المرض بطريقة واضحة وأكيدة، إذ يوجد ناتئ أبيض قد صيّر الشعر أبيضًا، وقد وضح الناتئ من اللحم الحيّ [10]، أي يظهر اللحم العادي أو لون الجلد العادي وسط البقع البيضاء. وفي الترجمة اليونانية يقول: "من لون حيّ"، أي لون الجسد العادي. هنا لا يحجز الكاهن المريض بل يحكم في الحال بنجاسته.

أما إذا كان الجلد كله مضروبًا من الرأس إلى القدمين ببياض، فلا يكون ذلك الإنسان نجسًا بل هو طاهر، وإن ظهر فيه لون حيّ يكون نجسًا فإن عادت الضربة وصارت بيضاء، أي عاد فصار كل الجلد أبيض يُحسب طاهرًا.

لعله من الناحية الصحية أراد بطريقة مبسطة أن يميز بين من هو مصاب بمرض جلدي خطير حيث يكون بالجلد بقع بيضاء جعلت لون الشعر في هذه المنطقة أبيضًا، فيكون حاملاً لمرض معدٍ، وبين من كان كل جسمه أبيضًا دون أي بقعة للون الجسم العادي فلا يكون ذلك مرضًا يمثل خطورة على الغير.

ماذا تعني هذه الشريعة روحيًا؟

الأول الذي يحمل علامات المرض بوضوح والذي يحكم الكاهن عليه بالنجاسة إنما يُشير إلى الخاطئ الذي يرتكب الخطية بجسارة علانية، فيحسب أبرصًا ويطرد خارج المحلة لا ليبقى في نجاسته مطرودًا، وإنما ليدرك حقيقة مركزه الإيماني فيشعر بالحاجة إلى الطبيب الذي ينتظر دعوته ليشفيه ويرده إلى المحلة المقدسة بعد تطهيره.

هذا المريض أيضًا إذ يحمل في مناطق من جسده علامات المرض واضحة مع وجود لحم حيّ إنما يُشير إلى الإنسان الذي يعرج بين الفرقتين، يستسلم للخطية لتعمل فيه بكل سلطانها وفي نفس الوقت يحاول إرضاء ضميره بشكليات العبادة أو العطاء، فيفقد هدفه وبساطة قلبه.

أما الرجل الثاني الذي صار كله مضروبًا من الرأس إلى القدمين وليس فيه أي لحم حيّ، فيرى البعض أنه يُشير إلى الإنسان الذي أدرك حقيقة موقفه كخاطئ، وشعر أن طبيعته قد فسدت تمامًا، فباعترافه هذا ورجوعه إلى الله بالتوبة يجد ربنا يسوع المسيح الكاهن الأعظم ينتظره ليشفيه ويضعه على منكبيه ولا يطرحه خارجًا.

ويرى العلامة أوريجانوس أن الذي صار كله مضروبًا من الرأس إلى القدمين هو ذاك الذي سقط في مرض عقلي أفقده كل قدرة على التفكير والتصرف، هذا الإنسان لا يُحاسب على أي خطية إرتكبها. لكن إن ظهر فيه لون حيّ، أي إرتد إليه عقله وعولج من مرضه فإن أخطأ نلتزم بالحديث معه عن التوبة ليتطهر من نجاسته.

4. من كان في جلده دُمله قد برئت:

هذه الحالة أقرب إلى الحالة الأولى، فالأولى تحمل أثر جراحات أصابت الجسم وشفيت فتظهر ناتئ أو قوباء أو لمعة، أما هنا فآثار دمل أو خراج أو قرحة في الجلد أو ما يشبه ذلك قد أصابت الإنسان... لذا جاء تصوير الموقف مقاربًا للحالة الأولى.

إن كان قد ظهر على جسم إنسان علامة بيضاء أو لامعة موضع دمل قد أصابه، فإن كان الشعر قد أبيض وصارت الضربة أعمق من بقية الجلد يُحسب الإنسان نجسًا. أما إذا لم يكن الأمر كذلك يحجزه الكاهن سبعة أيام ليرى إن كانت العلامة قد توقفت فيحسب طاهرًا، أما إن كانت تمتد فيحسب نجسًا.

ويرى العلامة أوريجانوس في الدمل الذي يصيب النفس إنما هو غليان الرغبات الدنسة والأفكار العتيقة التي تفقد النفس صحتها الروحية... فإن زالت هذه الأمور يلزم فحص النفس حتى لا يكون المرض مختفيًا في الداخل بلا علاج يرجع إلى النفس مرة أخرى.

5. من كان في جلده كي نار:

بعدما تحدث عن آثار الجراحات وآثار الدمامل يحدثنا الآن عن آثار كي النار. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [أنظر ألا يكون قد أصاب النفس كيُّ بنار "سهام الشرير الملتهبة" (أف 6: 16)، وألا تكون قد احترقت باحتضانك نار المحبة البشرية (الجسدية). هذا هو حريق التهابات النار، أما ما هو أخطر منها فهو إحتضان نار رغبة المجد البشري وإلتهاب الغضب والإضطراب[168]].

6. من كان فيه ضربة في الرأس أو الذقن:

يقصد هنا بالقرع نوعًا من الجرب أو مرضًا جلديًا تظهر أعراضه باختفاء الشعر الأسود وظهور شعر أشقر مكانه دون توقف، وله علاماته على جلد الرأس.

ماذا يعني بالضربة التي تصيب الرجل في رأسه؟ إن كان السيد المسيح هو رأس الرجل كما يقول الرسول بولس (1 كو 11: 3)، فإن ما يصيبنا هنا يعني به ما يمس إيماننا بالسيد المسيح. أما ما يصيب الرجل في ذقنه، فيرى العلامة أوريجانوس إنها الضربة التي تصيب الكهنة خاصة إن سقط أحدهم في خطية شبابية، يفقد كرامة الكهنوت المرموز له بالذقن[169].

أما الضربة التي تصيب المرأة في رأسها، فإن كان الرجل هو رأس المرأة (1 كو 11: 3)، فإن هذه الضربة تعني الخطايا التي تمس علاقتها برجلها. يرى العلامة أوريجانوس[170] أن هذه الضربة هي التعاليم الفاسدة من جهة الحياة الزوجية كتعاليم فالنتينوس ومرقيون وغيرهما الذين يتطلعون إلى الزواج كدنس.

7. من كان في جلد جسده لمع لمع أبيض:

يقصد باللمع الأبيض ظهور علامات البهاق (البهق).

8. من كان قد فقد شعر رأسه:

تُمييز الشريعة بين الحالات الطبيعية غير المرضية وبين الأمراض الجلدية التي تُصيب الرأس وتحمل ميكروب العدوى. فمن سقط شعر رأسه جميعه يحسب كأقرع، ومن سقط شعر رأسه من الجزء الأمامي يُحسب كأصلع، وهما حالتان طبيعيتان طاهرتان. أما إذا أصاب الرأس نوعًا من الجرب بظهور ناتئ أبيض يميل إلى الحمرة كما قد يحدث في بقية الجسم فيحسب مصابًا بالبرص ويحكم عليه بأنه نجس.

يرى العلامة أوريجانوس في الرأس التي يسقط شعرها طبيعيًا أنها تمثل النفس التي تتخلى عن أعمالها الميتة بطبيعتها وتتخلى عنها فهي طاهرة، أما إن ظهر شعر آخر غيره فيعني طلبها الكرامة بعد أن تطهرت لذلك تحسب دنسة وبرصاء[171].

9. حكم الأبرص:

إذ ينظر إلى البرص كرمز للخطية وثمر لها جاء الحكم على الأبرص الذي تعلن نجاسته قاسيًا إذ يفقده طعم الحياة ويعزله تمامًا عن الجماعة المقدسة، إذ جاءت بنوده هكذا:

أولاً: شق ثيابه: أعفي النساء من هذا البند والبند التالي مراعاة للحشمة.

لماذا تشق ثياب الأبرص؟ كثيرون يخفون مرض جسدهم باهتمامهم بإرتداء ملابس ثمينة وجميلة، فيبقى المرض عاملاً في الجسم الذي تستر بمظاهر مخادعة. لذلك حذرنا القديس يوحنا الذهبي الفم من الرياء بكونه الثوب المزركش الذي تلبسه النفس المريضة فيلهيها عن معالجة المرض الحقيقي الداخلي. ويقول العلامة أوريجانوس: [من كان مصابًا بمرض في نفسه، أي بشر دفين، يلزمه ألا يخيط ملابسه ويغظي خزى خطيته. فمن كانت ملابسه مشقوقة يكشف عرى خزى جسده، هكذا من تكدس ببعض الخطايا لا يغطي خزيه ببرقع الكلام أي برقع الأعذار، فلا يصير "قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة (مت 23: 27) [172]].

إن كان الثوب يُشير إلى الجسد[173]، لذلك لم يسمح الله للجند أن يشقوا ثوب السيد المسيح بل ألقوا عليه قرعى لكي تبقى الكنيسة جسده بلا تمزيق، فإن شق ثياب الأبرص يعلن عن أثر الخطية بكونها تسبب إنشقاقات وإنقسامات في الكنيسة جسد المسيح. كل خطية يرتكبها الإنسان، حتى وإن حسب إنها لا تضر الغير، وتمت خفية، فهي في الحقيقة تمس ثوب المسيح وتشقه... يكفي أنها تنزع نفس هذا الخاطئ عن عضويته الحقة في الجسد المقدس إن بقى مصرًا على شره.

ثانيًا: الرأس المكشوفة: إن كان الثوب المشقوق يعلن عن جريمة الخاطئ ضد الكنيسة إذ بخطيته يشقها ويسبب إنقسامات، فإن الرأس المكشوف يعلن عن الجريمة التي يرتكبها ضد السيد المسيح، الذي هو رأس الرجل (1 كو 11: 3). إن كانت توبتنا ونمونا الروحي وحياتنا مع الله يمجد مسيحنا، فإن كل خطية نرتكبها نسبب تجديفًا على إسمه بسببنا.

وللعلامة أوريجانوس تعليق آخر على الرأس المكشوف، إذ يقول: [حتى إن وُجد الخطأ في الرأس أي إرتكبنا إهانة ضد الرب، أو كان الخطأ يمس الإيمان به، فلا نغطية بل نكشفه للجميع حتى أن الخاطئ بشفاعة الكل وتوسلاتهم، ونصحهم، يعترف فينال المغفرة[174]]. 

ثالثًا: تغطية الشاربين: بينما يطلب فضح الجسد المريض بشق الثياب وكشف الرأس إذا به يطلب تغطية الشاربين، أي الفم، فالنفس المصابة ببرص الخطية يلزمها أن تنصت للوصية ولا تعلم الآخرين، حتى وإن كان كاهنًا، إذ يوبخه المرتل، قائلاً: "للشرير قال الله: مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك؟‍" )مز 49: 46). يقول العلامة أوريجانوس: [يجب على الخاطئ أن يغلق فمه، فإن من لا يعلم نفسه كيف يقدر أن يعلم الآخرين؟!‍ (يو 2: 20)، لهذا أمر بتغطية الفم صانع الشر وفاقد حرية الكلام[175]].

لقد حذرنا آباؤنا من الخدمة بالفم دون العمل، إذ يليق بنا أن نحدث الآخرين بحياتنا في الرب وشركتنا معه، لا أن ننطق بكلمات منمقة بلا عمل[176].

رابعًا: إقامته خارج المحلة ومناداته نجس نجس: جاءت كلمة الحاخامات عن المصابين بالبرص تعلن نظرتهم إليهم كأنهم موتى[177]، ليس لهم حق الحياة وسط الجماعة المقدسة، فكانوا يستبعدون عن محلة إسرائيل، وقد فهم التلموديون في عصور متأخرة أن المدن كانت تحاط بأسوار منذ أيام يشوع كعلامة لتقديسها. فخرج الأبرص إلى ما وراء السور علامة موته وحرمانه من شركة الحياة المقدسة. كان إذا حاول اقتحام الموضع يتعرض للجلد أربعين جلدة، إذ يُحسب كل موضع يدخله دنسًا... وإن كان بعد ذلك سمح لهم بالدخول في موضع معين في المجمع في حدود معينة يدخلونه قبل حضور جمهور المتعبدين ويتركونه بعد ترك المتعبدين للمجمع[178].

يعلق العلامة أوريجانوس على إقامة الأبرص خارج المحلة بقوله: [كل دنس يلقي الإنسان خارج مجمع الأبرار، إنه ينفيه بعيدًا عن الجماعة ويعزلة عن موضع القديسين[179]].

أما مناداته: نجس نجس، فإشارة إلى دنسه الداخلي ودنسه الخارجي، أو دنس النفس والجسد معًا.

10. برص الثياب والمتاع الجلدي:

أعلن الرب إهتمامه بشعبه حتى بالنسبة للثياب، فإن أصاب الفساد الثوب في السدى (الخيوط الطولية للنسيج) أو اللحمة (الخيوط العرضية للنسيج)، أو في الأمتعة الجلدية، يقوم الكاهن بفحصها وتحديد موقعها، وفي اليوم السابع يعيد الفحص فإن رآها امتدت أحرق الثوب أو المتاع حتى لا يمتد الفساد إلى غيره. أما إذا كان لم يمتد فيتكرر الأمر بعد غسله وتركه سبعة أيام أخرى للتأكد أن الضربة غير ممتدة...

<<

 

  

 


 

الأصحاح الرابع عشر

شريعة تطهير الأبرص

إن كان البرص يُشير إلى النجاسة والخطية،  فقد جاءت شريعة التطهير تدقق في فحص الأبرص أو من كان مشتبهًا في أمره، ولم يكن للكاهن أن يصدر حكمه بعجلة حتى لا يُضار أحد. والآن إن كان أحد قد برئ من البرص فالأمر يحتاج إلى طقس طويل وإجراءات طويلة ومشددة حتى يتحقق الكاهن من تطهيره، ويقدر أن يدخل به إلى الجماعة المقدسة من جديد. فالخطية مهما بدت صغيرة لكنها تُحرم الإنسان من عضويته في الجماعة المقدسة، وعودته تستلزم تكلفة هذه مقدارها، قدمها الإبن الوحيد لأبيه على الصليب. وكما يقول الشهيد يوستين: [ليفهم البرص كرمز للخطية، والأشياء التي ذبحت كرمز لذاك الذي ذبح لإجلنا[180]].

1. طقس التطهير في اليوم الأول               [1-8].

2. طقس التطهير في اليوم السابع             [9].

3. طقس التطهير في اليوم الثامن              [10-20].

4. طقس التطهير للفقراء                      [31-32].

5. برص المنازل                              [33-56].

1. طقس التطهير في اليوم الأول:

يمكننا إيجاز التطهير الذي يتم في اليوم الأول هكذا:

أولاً: يؤتى به إلى الكاهن:

لم يقل "يأتي إلى الكاهن" إنما "يؤتى به إلى لكاهن"، فالأبرص الذي تطهر لا يقدر أن يأتي إلى الكاهن مباشرة في الوقت الذي يريده، إنما يقوم أحد أقربائه أو معارفه بإبلاغ الكاهن بأمره... ولعل هذا يُشير إلى دور الكنيسة في الدخول بكل نفس إلى الكاهن الأعظم ربنا يسوع المسيح. فإن كانت علاقتنا مع الآب في إبنه الذي يرفعنا إلى حضن الآب ويمتعنا بشركة أمجاده الأبدية، فإن هذا الإبن الوحيد الجنس هو مسيح الكنيسة ورأسها وعريسها. نعرفه في علاقة شخصية داخلية وعميقة، خلال إدراكنا لعضويتنا في الكنيسة جسده المقدس. لا نستطيع أن نتعرف على المسيح كأفراد منعزلين عن الجماعة المقدسة، إنما كأعضاء في هذه الجماعة نتفاعل معها حتى ونحن في مخدعنا الخفي، وتعمل الجماعة فينا وتقدمنا لعريسها مخلص العالم.

الأبرص الذي يتمتع بطقس التطهير عندما يؤتى به إلى الكاهن إنما هو المفلوج الذي حملته الكنيسة متمثلة في الأربعة رجال إلى السيد المسيح، يحمله الأسقف كما الكاهن والشماس والشعب ليقدمه الكل إلى المخلص، فنسمع الإنجيلي يقول: "فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك" (مت 9: 2). إنه ينعم بمغفرة الخطايا والحّل من رباطات الفالج أو التطهير من البرص كعطية شخصية يقدمها له ذاك الذي يحبه، خلال كنيسته التي تحمله بصلواتها وتقدمه له بالحب. لذلك يقول القديس الشهيد كبريانوس: [من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح[181]]. ومن كلماته أيضًا: [من ليس له كنيسة أمًا لا يقدر أن يكون له الله أبًا[182]].

ثانيًا: خروج الكاهن إليه:

إن كانت الكنيسة تحمل بالحب والإيمان الأبرص إلى كاهنها السماوي لتطهيره من خطاياه، فإنها لا تقدر أن تدخل بالأبرص إلى المحلة بل يخرج إليه الكاهن ليحمله معه إلى داخل المحلة. بمعنى آخر إن كنا بالحب نشتهي دخول كل نفس إلى العضوية الكنسية الروحية أو إلى الحياة الجديدة التي صارت لنا في الرب على مستوى سماوي، فإن هذا العمل في الحقيقة هو من صميم عمل ربنا يسوع نفسه الذي ينطلق إلى النفس ليقيمها من موتها خلال مياه المعمودية بروحه القدوس عضوًا مقدسًا في جسده. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إذ لا يستطيع الأبرص أن يدخل المحلة يخرج إليه ذاك الذي يقدر أن يخرج خارج المحلة، معلنًا: "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم" (يو 16: 18)[183]].

أقول بصدق ما أحوج كل كاهن أن يختفي في الكاهن الأعظم السماوي ربنا يسوع، لكي فيما هو يقدم النفس له، ينطلق ربنا نفسه إلى أعماق قلب هذه النفس، يخرج إليها لكي يدخل بها إلى قيامته ويمتعها بحياته ويهبها أمجاده. لنختفي نحن كبشريين في ذاك الذي يقدر وحده أن يجتذب بروحه القدوس النفس ويغسلها ويقدسها لنفسه!

ثالثًا: العصفوران (الطائران):

"يأمر الكاهن أن يؤخذ للمتطهر عصفوران (طائران) حيان طاهران وخشب أرز وقرمز وزوفا" [4].

عند إعلان تطهير أبرص يقدم عنه عصفوران أو طائران حيان طاهران، وقطعة من خشب الأرز طولها حوالي قدم ونصف تقريبًا متوسطة السمك، وقطعة نسيج من الصوف المصبوغ باللون القرمزي مع باقة من نبات الزوفا. لعل العصفورين هنا يقومان بنفس الدور الذي كان يقوم به التيسان في طقس يوم الكفارة العظيم (لا 16) حيث يذبح الواحد ويطلق الآخر حيًا في البرية إشارة إلى السيد المسيح الذي من جانب ذبح على الصليب عن خطايانا ومن الجانب الآخر قد انطلق إلى برية حياتنا قائمًا من الأموات ليُقيمنا معه ويدخل بنا إلى أحضان أبيه السماوي. هكذا في تطهير الأبرص يُذبح عصفور في إناء خزفي على ماء حيّ [5] إشارة إلى ذبح السيد المسيح الذي حمل ناسوتنا كإناء خزفي، مقدمًا لنا فيه دمه الثمين والماء اللذين فاضا من جنبه لتطهيرنا. أما العصفور الآخر الحّي الذي يُغمس في دم العصفور المذبوح [6] ويطلق حيًا على وجه الصحراء [7] فيُشير إلى السيد المسيح القائم من الأموات حاملاً لنا دمه المقدس للتكفير عنا.       

يتحدث الشهيد يوستين عن هذين العصفورين، قائلاً: [شُبه بطير إذ يُفهم أنه من فوق من السماء. يُغمس الطير الحّي في دم الميت ويُطلق، لأن كلمة الله الحيّ قد صلب ومات في هيكل (الجسد) كمن يتألم وإن كان الله لا يتألم[184]].

رابعًا: خشب الأرز:

إن كان برص الخطية يفسد الإنسان ويحطم حياته تمامًا، فإن تقديم خشب الأرز الذي لا يسوس يُشير إلى اتحادنا بخشبة الصليب التي تنزع عنا فسادنا أبديًا فلا يصيبنا شر، بل نصير في عيني الله كشجرة مغرسة على مجاري مياه الروح القدس التي ورقها لا ينتثر. يقول العلامة أوريجانوس: [بدون خشبة الصليب يستحيل أن نطهر من برص الخطية، فإننا نلجأ إلى خشبة المخلص التي يقول عنها الرسول: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15)[185]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الصليب جدد العالم وهداه، وطرد الضلال وأعاد الحق، جعل الأرض سماءً والبشر ملائكة. به لم تعد الشياطين مرعبة، بل تافهة ومزدري بها. به لم يعد الموت موتًا بل رقادًا، فقد انطرح الذي يحاربنا تحت أقدامنا[186]].

خامسًا: القرمز والزوفا:

يقول العلامة أوريجانوس: [القرمز هو صورة الدم المقدس الذي  تفجّر من جنبه بطعنة الحربة (يو 19: 34)... وهو المعين في الخلاص كما جاء في الكتب الإلهية عندما ولدت ثامار "وكان في ولادتها أن أحدهما أخرج يدًا فأخذت القابلة وربطت على يده قرمزًا، قائلة: هذا خرج أولاً" (تك 38: 28). وأيضًا حينما استقبلت راحاب الزانية الجاسوسين وأخذت منهما الوعد بالخلاص، قالا: أربطي هذا الحبل من خيوط القرمز في الكوة التي أنزلتنا منها" (يش 2: 18) [187]].

وللعلامة أوريجانوس تفسير آخر للقرمز، فبجانب لونه القرمزي الذي يُشير إلى الدم، فإنه يستخدم في صبغ الأنسجة ليغير لونها إلى لون آخر، فيحمل النسيج لونًا جديدًا بخلاف لونه الأصلي، هذا يُشير إلى النار التي تحمل سمتين كما لو كانت لونين: فمن ناحية تعطي نورًا ومن جانب آخر تحرق. هكذا السيد المسيح ليلقي نارًا على الأرض (لو 12: 49)، بهذه النار يُنير لكل إنسان آتيًا إلى العالم (يو 1: 9) ويلهب قلوبنا كمن تحترق عندما يفتح أمامنا الكتب، إذ هي نار الإستنارة والإلتهاب الداخلي[188].

وقد سبق لنا الحديث عن القرمز والزوفا في أكثر من موضع[189]. نذكر هنا ما قاله القديس يوحنا الذهبي الفم عن غسلنا ورشنا بالقرمز والزوفا الروحيين لا الماديين: [هؤلاء لم يرشوا بصوف قرمزي ولا بزوفا، لماذا؟ لأن الغسل هنا ليس غسلاً جسديًا، بل هو غسل روحي، وكان الدم روحيًا، كيف؟ إنه لم يفض عن جسد حيوانات غير عاقلة بل عن جسد أعده الروح (القدس). بهذا الدم لم يرشنا موسى بل المسيح خلال الكلمة التي قيلت: هذا هو دم العهد الجديد لمغفرة الخطايا. هذه الكلمة هي عوض الزوفا قد غمست في الدم ورشتنا جميعًا. هناك كان غسل الجسد خارجيًا لأن التطهير كان جسديًا، أما هنا فالتطهير روحي يدخل إلى النفس ويغسلها... هناك كان الرش يتم عند السطح فقط، والذي يُرش يُغسل من آثار الدم... أما بالنسبة للنفس فالأمر غير ذلك إذ يمتزج الدم بكيانها ليجعلها نشيطة ونقية، يقودها إلى ذات الجمال غير المقترب إليه[190]].

يقدم لنا القديس أغسطينوس تعليقًا على الزوفا، إذ يقول: [الزوفا كما نعرفه هو عشب متواضع لكنه يستخدم للشفاء. يقال أن جذره يمسك بالصخر، لهذا فهو يرمز لتنقية القلب. لتمسك بجذرمحبتك في صخرتك (السيد المسيح)، وكن متضعًا كإلهك فتتمجد في إلهك الممجد. يُنضح عليك بالزوفا حين يغسلك إتضاع المسيح. أيضًا لا تحتقر هذا العشب بل أذكر أثره الطبي... فقد اعتدنا أن نسمع من الأطباء أن الزوفا يستخدم في علاج المرضى، لتنقية الرئتين. فإن كان انتفاخ الرئة يحمل كبرياءً إذ ينفث الإنسان بكبرياء كما قيل عن شاول المضطهد أنه كان متكبرًا، إذ كان ذاهبًا ليقيد المسيحين وينفث تهددًا (أع 9: 1). كان ينفث قتلاً، أي ينفث دمًا إذ كان رئتاه غير نقيتين[191]].

ليتنا إذن يكون لنا جذور الزوفا التي تتعلق بالصخرة فلا يغلبنا العدو بالرغم من ضعفنا كعشب فقير متواضع، ولنغتسل بالزوفا ونستخدمه لتنقية صدورنا من كل كبرياء وتشامخ، حاملين فينا إتضاع ربنا يسوع، لكي نتمجد أيضًا معه.

سادسًا: الماء الحّي:

"ويأمر الكاهن أن يُذبح العصفور الواحد في إناء خزف على ماء حيّ" [5].

إن كان السيد المسيح قد حمل طبيعتنا إنما لكي يحلّ في وسطنا مقدمًا دمه كفارة عن خطايانا. إنه كالعصفور الذي يُذبح في إناء خزفي، أي يموت عنا بالجسد، ويفيض ماءً حيًا.

الماء الحيّ هو الماء الذي يؤخذ من نهر جارٍ أو من ينبوع مستخدم غير راكد، هذا الماء الحيّ يرتبط بالدم كسرّ للتطهير، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يؤخذ الماء للتطهير ولإتمام الأسرار بالماء والدم اللذين ينبعان من جنب المخلص (يو 19: 34)، وكما يؤكد يوحنا في رسالته أن التطهير يُعد في الماء والدم والروح (1 يو 5: 6، 8)[192]].

سابعًا: النضج على المتطهر بالدم والماء:

"وينضح على المتطهر من البرص سبع مرات فيطهره، ثم يطلق العصفور الحيّ على وجه الصحراء" [7].

إن كنا نتطهر بالدم والماء فإنه يلزم نضحهما على  الخاطئ سبع مرات ليتطهر، أي يبقى متمتعًا بعملهما طوال أيام حياته (رقم سبعة يُشير إلى سبعة أيام الأسبوع)، وكأن التطهير وإن انطلق في مياه المعمودية لكنه يبقى عملية مستمرة غير منقطعة.

يقول القديس جيروم: [إذ جئتم إلى الكاهن مزق ثيابكم تمامًا، وما بدى سليمًا عندما كان مغطى ظهر بالبرص عندما انكشف. لقد جعلكم الكاهن تنظرون خطاياكم وترون برصكم، وردكم إلى مجمع الله خلال الدم والماء، خلال الدم أي آلام المسيح، والماء أي خلال المعمودية. وإذ تشفون يتحقق فيكم القول: "طهرني من الخطية بالزوفا فأطهر، إغسلني فأبيّض أكثر من الثلج" (راجع مز 51: 7). إنكم لاتزالون في مصر (رمزيًا) إلى هذا اليوم مادمتم لم تأتوا إلى الدم والماء، لذلك لن تخلصوا! أتريدون الخلاص من الملاك المهلك في مصر؟ خذ بعضًا من الزوفا واغمسها في الدم ورشها على قوائم بابك، وإذ يرى المهلك الدم على جبهتك لا يمسك[193]].

ثامنًا: غسل ثيابه:

بلا شك يخلع الأبرص ثيابه المشقوقة (لا 13: 45) قبل لقائه بالكاهن، والآن إذ نضح عليه بالدم والماء مرات لا يحتاج الأمر إلى استبدال ثيابه وإنما يكتفي بغسلها. إننا نستبدل إنساننا العتيق مرة واحدة في مياه المعمودية، لكننا إذ خلعناه لا نحتاج بعد إلاَّ غسل الثوب بدموع التوبة. وكما قال السيد المسيح للقديس بطرس حين أراد أن يغتسل: "الذي اغتسل ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله" (يو 13: 10).

إن كانت الثياب تُشير إلى الجسد بكل أحاسيسه وعواطفه واشتياقاته، فالله لا يُريد تحطيم الجسد ولا إبادة أحاسيسه وإمكانياته وإنما يطلب غسلها وتقديسها لحساب مملكته. الجسد لا يمثل عداوة بالنسبة للمؤمن مادام خاضعًا لروح الرب بل يكون آلة بر تعمل لحساب الله (رو 6: 13)، "ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله" (رو 12: 1).

طالبت الشريعة الأبرص عند تطهيره أن يغسل ثيابه وأن يغتسل أيضًا [9]. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في الحقيقة يلزم نزع كل دنس وكل قذارة لا من ملابسه فقط وإنما من جسده أيضًا، حتى لا تبقى فيه آثار للبرص الذي زال عنه[194]].

تاسعًا: حلق شعره:

يميز العلامة أوريجانوس بين شعر الخاطئ وشعر البار، فشعر الخاطئ يُشير إلى الأعمال الميتة التي تنبع عن شهوات جسده الشريرة، إذ هو بلا روح ولا دم[195]، لذا يليق عنده تطهيره أن يحلقه إعلانًا عن ترك كل ما ينبع عن ماضيه الشرير من أفكار وكلمات وتصرفات هي خطايا ميته. أما البار فيحمل الحكمة الروحية شعرًا ينبع عن جسده الذي تقدس، فلا يليق بالنذير أن يعلو موسى رأسه (1 صم 1: 11، عد 6: 5)، فيقال عنه: "ورقه لا ينتثر وكل ما يصنع ينجح فيه" (مز 1: 3)، وكما قال السيد المسيح لتلاميذه: "شعور رؤوسكم محصاه" (مت 10: 30). [هذا يعني أن كل أعمالهم وكلماتهم وأفكارهم محفوظة أمام الرب، إذ هم أبرار وقديسون، أما الخطاة فعلى العكس يجب إزالة كل أعمالهم وأقوالهم وأفكارهم. وهذا هو ما عناه بقوله أنه يحلق جميع شعر جسمه فيطهر[196]].

عاشرًا: إقامته خارج خيمته:

"ثم يدخل  المحلة لكي يُقيم خارج خيمته سبعة أيام" [8].

بعد إتمام كل الطقوس السابقة من تطهير بالدم والماء وغسل لثيابه وحلق شعره واغتساله يدخل المحلة لكنه يبقى سبعة أيام خارج خيمته. فإن كانت الخيمة تُشير إلى جسده (2 كو 5: 1، 4)، فإننا إذ نتمتع بالخلاص ونغتسل بدم ربنا يسوع المسيح وننزع أعمالنا الشريرة وكلماتنا وأفكارنا كشعر نحلقه لكننا ونحن ندخل المحلة أي نُحسب أعضاء في جسد المسيح، كنيسة الله المقدسة ومحلته، نبقى خارج خيمتنا، أي نعيش كمن هم فوق متطلبات الجسد. نبقى كل أيام غربتنا نشعر بالتغرب حتى عن جسدنا، حتى متى جاء اليوم الثامن، أي يوم الرب العظيم ننعم بالدخول إلى جسد روحاني سماوي يليق بالحياة الجديدة. وكما يقول الرسول بولس: "يُزرع جسمًا حيوانيًا ويُقام جسمًا روحانيًا... وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كو 15: 44، 49).

2. طقس التطهير في اليوم السابع:

"وفي اليوم السابع يحلق كل شعره: رأسه ولحيته وحواجب عينيه وجميع شعره يحلق، ويغسل ثيابه ويرحض جسده بماء فيطهر" [9].

سبق له في اليوم الأول لتطهيره أن حلق كل شعره وغسل ثيابه واغتسل، والآن في اليوم السابع يكرر ذات العمل، فلماذا؟

أولاً: لعل ما حدث في اليوم الأول يُشير إلى ما يتمتع به المؤمن في بداية عضويته الكنسية حين دخل مياه المعمودية ونال البنوة لله وصار طاهرًا في عيني الله. الآن ما يحدث في اليوم السابع إنما يُشير إلى حاجته إلى تجديد عمل المعمودية لا بتكرارها وإنما بالتوبة المستمرة مادام في الجسد خاضعًا للزمن. يبقى الإنسان كل زمان حياته حتى اليوم السابع، أي حتى نهايتها مجاهدًا بلا انقطاع لتجديد العهد الذي أقامه مع الله في مياه المعمودية بالروح القدس. ففي نظر الكنيسة المعمودية هي بداية حياة وليست نهايتها، وبداية جهاد بالرب وليس نهايته. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أعطى له مكان بين المصارعين لكنه لم يبرهن بعد على استحقاقه للجندية[197]]. ويقول القديس مرقس الناسك: [العماد المقدس عمل كامل ويهبنا الكمال، إلاَّ أنه لا يكمل إنسانًا يهمل في تنفيذ الوصايا[198]]. ويقول القديس ماريعقوب السروجي: [أيها المعتمدون في المياه وقد صرتم إخوة الإبن الوحيد، لا تهينوه بأعمالكم الجسدية. لا تختلطوا بالزانية عوضًا عنه. طهروا نفوسكم من الزلات لكي تختلطوا بأبيه[199]].

ثانيًا: لعل ما يمارس من طقس في اليوم السابع يُشير إلى خلع ما هو زمني كل أيام غربتنا حتى النفس الأخير، أي حتى اليوم السابع، حتى متى حلّ اليوم الثامن أي يوم الرب العظيم أو دخولنا إلى الفردوس لا يكون فينا أثر لشيء زمني أو أرضي أو جسداني، بل يظهر كل ما فينا جديدًا.

ثالثًا: يرى  العلامة أوريجانوس في حلق شعر الرأس رمزًا لنزع كل فكر فينا بخلاف إيمان الكنيسة من جهة الرأس يسوع المسيح، فلا يكون فينا فكر غريب عن التعليم الإلهي الكنسي. وحلق شعر اللحية يُشير إلى تجديد شباب الإنسان، والعودة إلى حياة الصبا ليحيا المؤمن بالروح القدس في تجديد روحي لا ينقطع، وشباب لا تصيبه شيخوخة العجز. أما حلق الحواجب العينين فيُشير إلى انتزاع روح الكبرياء باتضاع السيد المسيح ووداعته فلا يكون لنا الحاجب المتشامخ.

3. طقس التطهير في اليوم الثامن:

"ثم في اليوم الثامن يأخذ خروفين صحيحين ونعجة حولية صحيحة وثلثة أعشار دقيق تقدمة ملتوتة بزيت ولجّ زيت" [10].

إن كان في اليوم الثامن يتم كمال التطهير، ففيه كان يتحقق الختان (الثامن من ميلاد الطفل الذكر). وفي اليوم الثامن أو الأول من الأسبوع الجديد قام السيد المسيح من الأموات واهبًا إيانا بره...

لأول مرة يمارس الأبرص المتطهر عملاً بنفسه إذ "يأخذ خروفين..."، يقدم هذه الذبائح للكهنة، أما في الأيام السابقة فكان غيره يقوم بالعمل. وكأنه إذ ينعم المؤمن خلال التطهير الروحي بالعضوية الكنسية يلزم أن يدخل إلى العمل الإيجابي الذي للبنيان خلال تمتعه بقيامة الرب والحياة الجديدة المقامة (في اليوم الثامن).

أما الذبائح والتقدمات فهي خمس:

أ. خروف صحيح يقدم ذبيحة إثم يكفر بها الكاهن عن خطاياه... وهذا هو بداية العمل: الإعتراف بآثامنا والإيمان بالمصلوب كغافر للإثم.

ب. نعجة حولية ذبيحة خطية، واختيارها أنثى يُشير إلى عمل الولادة، فلا يكفي أن يؤمن الإنسان برفع خطاياه، وإنما يلتزم بالإيمان بالله واهب الثمر. فتقديم النعجة هنا كما يقول العلامة أوريجانوس يعني أن النفس [تلد أعمالاً صالحة وتكون غنية في ثمر البر[200]].

ج. خروف آخر صحيح يقدمه الكاهن ذبيحة محرقة موضع سرور الآب. فالمؤمن إذ يتمتع بالصليب لا يرى غفران آثامه وخطاياه فحسب إنما يتحد بالمصلوب ليُقدم حياته ذبيحة محرقة لله. في ذبيحتي الإثم والخطية يعلن رفضه للخطية والإثم وشوقه للعمل الصالح، أما في ذبيحة المحرقة فيعلن ممارسته للفضيلة في الرب، أي ينطلق بالحب إلى الجانب الإيجابي.

بالنسبة للفقير كان يكفي أن يقدم خروفًا كذبيحة إثم مع يمامتين أو فرخي حمام عن ذبيحتي الخطية والمحرقة [21-22].

د. ثلاثة أعشار دقيق ملتوت بالزيت، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يفهم من ذلك إستحالة التطهير خارج سرّ الثالوث[201]]. إن كنا قد رأينا في تقدمة الدقيق (أصحاح 2) إشارة إلى شخص السيد المسيح بكونه تقدمة الكنيسة للآب وفي نفس الوقت هبة الآب للكنيسة إذ يهبها حياة إبنه عطية لها نتمتع بجسده ودمه المبذولين كسرّ ثبوتها فيه وتمتعها بالحياة الأبدية، فإن رقم 3 يُشير إلى قبولنا الإيمان بالثالوث القدوس الذي نتعرف عليه خلال إدراكنا لسرّ تجسد الكلمة وصلبه، أما كونه ملتوتًا بالزيت، فإنه لا يستطيع أحد أن يتقبل سرّ الثالوث ولا أن يقول عن المسيح إنه رب إلاَّ بزيت الروح القدس.

ولعل رقم 3 أيضًا إذ يُشير للقيامة مع المسيح، فإننا إذ نتطهر نقدم تقدمة القربان خلال قيامة الرب، لنقبل أيضًا الرب المقام من الأموات كمصدر شبع روحي حقيقي.

هـ. لجّ الزيت لمسح المريض والسكب عليه، إذ يتحقق تطهيرنا خلال ذبيحة الصليب بعمل الروح القدس الذي مسحنا به في سرّ الميرون. هذا واللج هو مكيال للسوائل يسع ثلث لتر تقريبًا، أما الزيت فكان من زيت الزيتون النقي.

إذ يقدم المتطهر هذه الذبائح والتقدمات للكاهن، يقوم الأخير بالدور التالي:

أولاً: يقف الكاهن والأبرص المتطهر أمام الرب لدى خيمة الإجتماع، إذ يتقدم السيد المسيح الكاهن الأعظم بكونه الباب الذي به ندخل خيمة الإجتماع، أي به ننعم بالعضوية الكنسية أو العضوية في جسده المقدس. ويرى معلمو اليهود أن الكاهن يقف على باب الخيمة من الداخل بينما يقف الأبرص المتطهر خارج الباب.

ثانيًا: يشترك كاهنان معًا في الطقس، فإذ يقف المتطهر أمام ذبيحة الإثم، يضع يده عليها ويذبحها، يستقبل كاهنان الدم، واحد يستقبله في وعاء ليذهب به إلى المذبح ويرشه على جانب المذبح، أما الثاني فيستقبل الدم في يده ليقف أمام الأبرص المتطهر[202]. ويجعل منه على شحمة أذنه اليمنى وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى [14]. يقول العلامة أوريجانوس: [يحتوي التطهير الأخير على تنقية الأذن لكي تكون حاسة السمع طاهرة ونقية، وهكذا اليد اليمنى لكي تكون أعمالنا طاهرة لا تمتزج بدنس أو غضن، هذا ويلزم أن تكون أرجلنا طاهرة لكي تسير نحو الأعمال الصالحة وحدها وتنقاد إليها، ولا تسير وراء الخطايا الشبابية[203]].

ليتنا إذ نتقدم إلى رئيس كهنتنا الأعظم نراه يمد يده المقدسة ليمسح كل حواسنا وأعضاء جسدنا بروحه القدوس خلال سرّ الميرون المقدس، فتكون لنا على الدوام الأذن المقدسة التي تسمع صوته وتستجيب لوصيته، واليد الطاهرة المرفوعة كذبيحة مسائية والعاملة لحساب ملكوته، والرجل المستقيمة التي تنطلق نحو السماء بلا عائق حتى نستقر هناك.

يرى الحاخام يهوذا[204] أن الكاهن يرش على الثلاث مواضع (الأذن وإبهام اليد وإبهام الرجل) في وقت واحد، وإنه إن كان الأبرص قد فقد أحد هذه الأعضاء لن يمكن تطهيره.

ثالثًا: يأخذ الكاهن من لجّ الزيت ويصب في كفه اليسرى وينضح منه سبع مرات أمام الرب نحو قدس الأقداس. ومما فضل من الزيت الذي في كفه يجعل الكاهن على شحمة أذن المتطهر اليمنى وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى على دم ذبيحة الإثم، أي يرش الزيت على نفس الموضع الذي نضح عليه بالدم. أما ما يتبقى من الزيت الذي في كفه فيجعله على رأس المتطهر ويكفر عنه الكاهن أمام الرب [15-18].

يُشير هذا الزيت إلى الروح القدس الذي يهبه السيد المسيح لكنيسته من عند أبيه لكي تنضح به على أولادها لتقديسهم. لذلك يُسميه العلامة أوريجانوس: [موهبة نعمة الروح القدس]. فلا يقف الأمر عند التطهير من الخطية بالدم والماء وإنما يلزم التمتع بالإمتلاء بالروح القدس الذي به ينعم المؤمن بالحلة الأولى والخاتم البنوي (لو 15: 22)، وتتمتع بالمصالحة مع الآب والثبوت في البنوة له[205].

رابعًا: يقدم الكاهن ذبيحة الخطية ويكفر عن المتطهر من نجاسته ثم يذبح المحرقة... بهذا يتم تطهير الأبرص خلال "الدم والماء والروح" كقول الرسول: "والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد" (1 يو 5: 8).

4. طقس تطهير الفقراء:

يمارس الطقس بكل دقة للفقير كما للغني ليحمل ذات المفاهيم، إذ تطهير النفس في عيني الله لا يختلف إن كانت نفس غني أو فقير، لكن الفقير يقدم ذبائح وتقدمات غير مرهقة له، وهي: خروف واحد ذبيحة إثم، يمامتان أو فرخا حمام ذبيحتا خطية ومحرقة، عشر واحد دقيق ملتوت بالزيت، لجّ زيت.

يقبل الله هذه التقدمات المتواضعة واهبًا للفقير ذات العطية التي ينعم بها على الغني بلا تمييز، فإن الله يطلب القلب والثمر الداخلي لا العطاء في ذاته.

5. برص المنازل:

قدم الله لليهود الشريعة الخاصة ببرص المنازل وهم بعد في البرية يسكنون الخيام، معلنًا إهتمامهم حتى ببيوتهم التي لم يسكنوها بعد. فإن كان الله يأمرنا ألا نهتم بالغد، إنما لكي يعلن إهتمامه هو بغدنا.

هنا يقوم الكاهن بدور المهندس في عصر بدائي بالنسبة لليهود، ليطمئن على بيوت الشعب ولا تتعرض حياتهم للخطر. فإن شاهد إنسان في منزله ظهور آثار رطوبة أو نشع على الجدران، فتميل إلى الحمرة أو الخضرة، أو تكون مناطق أعمق من الجدار أي تآكلت، يتدخل الكاهن هكذا:

أولاً: يتم تفريغ المنزل من كل ما فيه قبل دخول الكاهن [36].

ثانيًا: يرى الكاهن العلامات ويخرج من البيت ويغلقه سبعة أيام.

ثالثًا: إن رأى الضربة قد إمتدت يأمر باقتلاع الحجارة المصابة وبإلقائها خارج المدينة في مكان نجس حيث القاذورات وجيف الحيوانات... إلخ. ثم يقشرون حول الضربة ويلقون تراب الملاط أيضًا خارج المدينة في مكان نجس.

رابعًا: يقومون بعملية ترميم ووضع ملاط جديد، فإن عادت الضربة وأفرخت بعد الترميم يُهدم المنزل كله.

خامسًا: لو أن الضربة لم تمتد تُحسب أنها برئت ويتم التطهير بعصفورين وخشب أرز وقرمز وزوفا كما في حالة الأبرص...

يلاحظ في هذا الطقس عدم تسرع الكاهن في الحكم حتى لا يفقد أحد منزله ويخسره إلاَّ بعد التأكد من خطورة الموقف... ولعل في هذا رمز لطول أناة الله معنا نحن مسكنه، فهو لا يحكم علينا بالهدم سريعًا بل يعطينا فرصًا للتوبة، وذلك كالبستاني الذي يشفع في الشجرة ويمهلها سنة فسنة، ينقب حولها ويضع زبلاً لعلها تأتي بثمر فلا تُقطع (لو 13: 6-9).

<<

 


 

الأصحاح الخامس عشر

شريعة ذي السيل

 تُعالج هذه الشريعة الإنسان الذي يكون له سيل، ذكرًا كان أم أنثى. وقد جاءت الكلمة العبرية "زَغب" تعني "فيض"، فإن ذا السيل هو الرجل الذي يقذف الحيوان المنوي  سواء خلال الطبيعة أو لإصابته بمرض تناسلي، وأيضًا المرأة التي تنزف دمًا سواء خلال الدورة الشهرية (الطمث) أو بسبب مرض، وقد ميزت الشريعة بين الحالات الطبيعية والحالات المرضية.

1. مقدمة في ذي السيل

2. الحالات المرضية عند الرجل                [1-15].

3. الحالة الطبيعية للرجل                      [16-18].

4. الحالة الطبيعية للمرأة                      [19-24].

5. الحالة المرضية للمرأة                     [25-33].

1. مقدمة في ذي السيل:

إن كانت الشريعة قد إهتمت بتقديم تطهير جسدي يخص السيل الذي يفيض من  الرجل أو نزف الدم الذي للمرأة في مرضها الشهري أو كحالة مرضية، فإنه يليق بنا توضيح النقاط التالية:

أولاً: إن كانت الشريعة قد دعت السيل (الحيوانات المنوية) نجاسة [1]، وأيضًا دم المرأة في أيام طمثها أو عند نزفها... فما عنته الشريعة هو إهتمام الإنسان بنظافة جسده لأجل سلامة صحته وصحة من هم حوله، فكما رأينا في الله أنه اهتم بكل ما يمس أولاده في العهد القديم حتى من جهة أنواع الأطعمة وسلامة الثياب والمسكن، فبالأكثر  صحة جسده.

ثانيًا: ميزت الشريعة بطريقة واضحة وقاطعة بين ما يحدث للرجل والمرأة خلال الطبيعة وبين ما يتم كحالة مرضية، فالحلة الأولى لا تتطلب تقديم ذبائح ولا تكفير عن خطية وإنما يكتفي بغسل جسده وثيابه أو أي متاع اضطجع عليه الإنسان، أما الحالة الثانية فهي حالة مرضية تحتاج إلى تدقيق صحي لذا تطلبت الشريعة تقديم ذبائح للتكـفير

عن الإنسان.

ثالثًا: السيل الذي يُصيب الرجل أو المرأة يحمل رمزًا للنفس التي بلا ضابط، الساقطة تحت الشهوات الدنسة... لذا يحتاج الأمر إلى تلاق مع القدوس الذي لمسته المرأة نازفة الدم، هذا الذي لم يستنكف منها إذ لا يقدر الدنس أو النجاسة أن يلحق به إنما توقف الدم وبرئت المرأة خلال الإيمان به.

2. الحالة المرضية عند الرجل:

أ. تبدأ هذه الشريعة بالرجل المصاب بمرض تناسلي، فيحدث قذف مستمر للحيوانات المنوية أو احتقان... فقد حذرت الشريعة حتى لا يمس أحد فراشه، ولا يجلس أحد على متاعة الذي يجلس عليه، ولا يمس الشخص نفسه أثناء مرضه، ولا حتى بصاقه، ولا يركب موضعه على دابة... وإلاَّ حُسب الإنسان نجسًا حتى المساء ويلزمه أن يغسل ثيابه ويغتسل.

هذا الإجراء وقائي ضد العدوى من الأمراض التناسلية، إذ كما نعلم أن بعض هذه الأمراض شديدة العدوى، يمكن أن تنتقل خلال لمس المريض أو ثيابه أو الأدوات التي يستخدمها. أما بقاء الشخص نجسًا طوال اليوم حتى المساء، أي حتى يبدأ يومًا جديدًا، إنما يعني أن من يتلامس مع الخطية ويتدنس بالشر لن يتقدس طوال حياته مادام مرتبطًا بالدنس حتى يبدأ مع الرب يومًا جديدًا فيه يترك الماضي وينطلق نحو حياة أفضل. أما غسل ثيابه واغتسال جسده، فيعني حاجته إلى الطهارة الخارجية (الثياب) والطهارة الداخلية (الجسد المختفي في الثوب).

مادمنا في العالم، إذ نحيا في الجسد، نتعرض للتلامس مع الخيطة، لذا يليق بنا أن نتمتع بغسل ثيابنا وأجسادنا بدموع التوبة فنحيا في نقاوة الخارج مع الأعماق الداخلية.

ب. هذا بالنسبة لمن يلمس المريض أما بالنسبة لما يستخدمه المريض، فسريره يُحسب نجسًا لا يجوز أحد أن ينام عليه، ومتاعه الذي يجلس عليه دنسًا لا يجوز أن يجلس عليه إنسان طاهر، وبصاقه دنسًا، وما يوضع على حيواناته التي يمتطيها تحسب دنسه، والإناء الخزفي الذي يستخدمه يستحق الكسر، أما الخشبي فيُغسل بماء‍‍! هكذا تفعل بنا الخطية إذ تدنس حياتنا الداخلية وتصرفاتنا فيصير نومنا وجلوسنا وسيرنا وأدوات طعامنا دنسة!

الإنسان الطاهر حتى في نومه يقول: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 5: 2)، فإن

نام بجسده لكنه متيقظًا بقلبه وفكره، لا يستطيع الشرير أن يمسه بالدنس، أما الخاطئ فإنه وإن تيقظ جسديًا لكنه يكون دنسًا بفراشه الداخلي خلال اتحاده مع الشر وإرتباطه بالدنس.

ما نقوله عن سرير الشرير أو نومه، نقوله عن متاعه أو جلوسه وكل ممتلكاته وتصرفاته. فإن كان السرير يُشير إلى خمول الشرير روحيًا وإتحاده الخفي مع الشرير كما يتحد الرجل بإمرأته خلال سرير الزوجية، فإن المتاع الذي يجلس عليه يُشير إلى حب السلطة والتمتع بالكراسي الأولى، فإن نال الشرير مركزًا حتى ولو كان دينيًا فالمركز لا يشفع فيه بل يدينه. جلوسه على كراسي المسئولية والتعليم يعرضه لدينونة أعظم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا أستطيع أن أحمل الكهنوت مسئولية شرور الكهنة، وإلاَّ كان هذا جنونًا منيّ، فالعاقلون لا يلومون السيف الذي في يدّ المجرم ولا الخمر بالنسبة للسكير ولا القوة بالنسبة للمغتصب ولا الشجاعة بالنسبة للمتهور، بل يلقون باللوم على إساءة إستخدام العطايا الممنوحة لهم من قبل الله[206]].

أما عن بصاقه الذي يُحسب دنسًا فيُشير إلى تعليم الهراطقة الدنس، إذ ينبغي علينا أن نهرب منه كما من بصاق دنس، ونغتسل من أفكارهم المحطمة للإيمان. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يجب أن نحرم العاقد الهرطوقية التي نجدها عندهم، أما الأشخاص فيجب أن نرحمهم تمامًا ونصلي من أجل  خلاصهم[207]].

أما ما يوضع على حيواناته التي يمتطيها مثل السرج والحداجة فتُشير إلى ما يتعلق بجسده من طاقات وأحاسيس، إذ تُحسب دنسة بسبب شره الداخلي.

الإناء الخزفي أو الخشبي الذي يأكل فيه يحسب نجسًا، فإن كان خزفيًا يكسر وإن كان خشبيًا يُغسل بماء فيطهر. كسر الإناء الخزفي يُشير إلى ضرورة إماتة الشهوات الجسدية، أما غسل الخشبي فيُشير إلى تقديس الجسد بطاقاته وعوطفه وأحاسيسه. فإن كان يجب أن نموت عن خزفنا أي فكرنا الترابي إنما لا ليهلك الجسد وإنما لكي يتقدس لحساب مملكة الرب، وكما يقول الرسول بولس: "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية" (رو 6: 12-13). إذن ليُكسر ما هو خزفي (ترابي) فينا، وليُغسل ما هو خشبي ليصير معينًا للنفس في جهادها الروحي.

في اختصار يمكننا أن نقول أن الرجل المصاب بهذا المرض يُشير إلى الخاطئ

الذي يفقد حياته ويدنس جسده بكل أحاسيسه وعواطفه وطاقاته ويكون سبب تعب لمن هم حوله، يرون في مرقده وفي مجلسه كما في أكله وشربه دنسًا فيهربون منه. إنه مع الفارق كيونان وهو هارب من الخدمة من وجه الرب، أساء إلى كل من حوله، بسببه اضطرب البحر وهاجت الأمواج وثارت الرياح وفقد النوتية مئونتهم وسلامهم... وصار كل ما حوله في فقدان بسبب تحوله عن وجه الرب! وعلى العكس إذ كان يوسف مع الله كان بركة حتى لبيت سيده وفي وسط السجن وفي بيت فرعون وأنقذ والدهم وإخوته وتمجد في هذا العالم كما يتمجد في الحياة الأبدية.

ج. إن شفى الإنسان من هذا المرض يبقى تحت الفحص سبعة أيام حتى يتأكد الكاهن من شفائه، ثم "يغسل ثيابه ويرحض جسده بماء حيّ فيطهر، وفي اليوم الثامن يأخذ لنفسه يمامتين أو فرخي حمام ويأتي إلى الرب إلى باب خيمة الإجتماع ويعطيهما للكاهن فيعملهما الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفر عنه الكاهن أمام الرب من سيله" [14]. هذا الطقس التطهيري كثيرًا ما تحدثنا عنه في الأصحاحات السابقة، لهذا أكتفى هنا بإبراز الخطوط الرئيسية لهذا الطقس، وهي:

أولاً: الحاجة إلى إغتسال الثياب كما الجسد بالماء الحيّ أي ماء جارٍ من نهر أو من ينبوع أو بئر مستخدمة غير راكدة... إشارة إلى حاجتنا للتقديس الداخلي (الجسد) والخارجي، وغسلنا في مياه المعمودية لنوال تجديد طبيعتنا بالروح القدس.

ثانيًا: مادمنا في الأيام السبعة الأولى لا نقدر أن نقدم الذبيحة، إنما ننتظر اليوم الثامن، بمعنى أننا مادمنا نعيش خاضعين للزمن (سبعة أيام) لا نقدر أن ننعم بذبيحة ربنا يسوع، لكي إذ يرفعنا الروح القدس إلى اليوم الثامن أي إلى الحياة المقامة في الرب ننعم بالذبيحة السماوية ونتمتع بالدخول إلى حضرة الرب وسكني بيته السماوي.

ثالثًا: إن كان الإنسان يتمتع بالتطهير كعطية شخصية توهب له من قبل ربنا، لكنه ينالها خلال عضويته الكنسية، إذ قيل "يأتي إلى الرب إلى باب خيمة الإجتماع"، فما يناله من تطهير أو تقديس إنما يفرح الجماعة كلها بكونه عضوًا فيها، آلامه آلامها وأفراحه أفراحها!

رابعًا: يقدم الكاهن عنه ذبيحة خطية وذبيحة محرقة معًا... فلا يكفي لطهارته من دنس السيل أن يتمتع بذبيحة الخطية حيث ينال الغفران عن خطاياه إنما يجب أيضًا أن ينعم بذبيحة المحرقة حيث يقدم حياته ذبيحة طاعة ومحرقة حب للآب في المسيح يسوع. بمعنى آخر إن كانت ذبيحة الخطية تعني الجانب السلبي وهو انتزاع الشر، فذبيحة المحرقة تمثل الجانب الإيجابي وهو ممارسة البر. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تنقسم الفضيلة إلى أمرين: ترك الشر وعمل الخير. الإنسحاب من الشر ليس كافيًا لبلوغ الفضيلة، وإنما هو بداية الطريق الذي يقود إليها. لا تزال تبقى هناك حاجة لنشاط عظيم[208]].

3. الحالة الطبيعية للرجل:

بعد أن عالج تطهير الحالة المرضية عند الرجل تحدث عن حالتين طبيعيتين عند الرجل أيضًا:

أولاً: الإحتلام أو "عارض الليل" (تث 33: 10)، والأمر لا يحتاج إلى تقديم ذبائح تكفير إنما فقط إغتساله وغسل ثيابه والمتاع الذي كان مضطجعًا عليه [16-17]. والكنيسة تعتبر الإحتلام فطرًا فلا يجوز للشخص المحتلم التمتع بسرّ التناول في ذلك اليوم.

ثانيًا: المعاشرة الزوجية، والأمر لا يحتاج إلى استحمامهما، ويحسبان نجسان طوال النهار كالمحتلم فلا يدخلان بيت الرب ولا يمسان المقدسات.

4. الحالة الطبيعية للمرأة:

يقصد بالسيل هنا المرض الشهري "فترة الطمث"... وقد حسبها نجسة لمدة سبعة أيام لكي تتمتع بفترة راحة جسدية، وقد منع العلاقات الزوجية في تلك الفترة، ربما لسببين: أولاً لأجل راحة الزوجة في فترة تعبها، وثانيًا لكي يقدس العلاقات الزوجية فلا تكون عن شهوة غير مضبوطة خاصة وأن المرأة لا تحمل في هذه الفترة، فتكون العلاقة خارج هدف الإنجاب.

5. الحالة المرضية للمرأة:

يقصد بها النزف المستمر... وقد حسبها نجسة مادامت تنزف، حتى تدرك خطورة الموقف وتهتم بالعلاج.

إذا شفيت تبقى تحت الفحص سبعة أيام وتقدم ما يقدمه الرجل عند التطهير من سيله، وفي اليوم الثامن (راجع الحالة الأولى).

<<


 

 

الباب الرابع

 

 

 

 

 

 

يوم الكفار العظيم

ص 16

 


 

يوم الكفار العظيم

إن كانت بعض الشعوب قد تعرفت خلال التقليد على الذبائح الدموية، إذ تسلموها عن نوح وبنيه الثلاثة، وقد شوهوا مفاهيمها وغايتها، لكن الشعب اليهودي قد أنفرد بطقس "يوم الكفارة العظيم" الذي عبثًا نجد ما يشبهه لدى أي شعب آخر.

كان لهذا اليوم أهميته الخاصة عند اليهود، وله طقسه الفريد، يقدم لنا مفاهيم رائعة عن ذبيحة السيد المسيح وعملها الكفاري كما كشف لنا القديس بولس الرسول في الأصحاح التاسع من رسالته إلى العبرانيين.

قبلما أتعرض لتفسير الأصحاح السادس عشر من سفر اللاويين الخاص بهذا اليوم الفريد وددت أن أسجل بعض الملاحظات عن هذا اليوم من جهة أهميته وغايته والإستعداد له وطقوسه.

أهميته:

كان لأهمية هذا اليوم وشهرته عند اليهود أن علماء التلمود دعوه "اليوم"، لعله كما جاء في (عب 7: 27)، وأيضًا كما قيل "الصوم" في سفر الأعمال (27: 9)، إذ لا يحتاج إلى تعريف. لعلهم كانوا يتطلعون إليه كما نتطلع نحن إلى يوم "الجمعة العظيمة" بكونه يوم الكفارة العظيم، الذي فيه نرى رئيس كهنتنا الأعظم يشفع بدمه الثمين عن العالم كله، ليدخل بمؤمنيه منهم إلى سماء السموات، فيكون لهم موضع في حضن أبيه السماوي، أو لعله يمثل يوم عماد السيد المسيح الذي فيه أدخلنا إلى التمتع بالسماء المفتوحة خلال اتحادنا مع الآب في إبنه المدفون في مياه المعمودية القائم من الأموات وتمتعنا بالبنوة بروحه القدوس.

وتظهر أهميته أيضًا من دعوته "سبت السبوت" أو "سبت الراحة"، وكأن فيه تتحقق الراحة التامة بكونه "عيد الأعياد". يظهر ذلك بارتباطه بعيد المظال الذي يُحسب خاتمة السنة اليهودية الدينية حيث يقيمون فيه فرحهم بالحصاد وشكرهم لله في الخامس عشر من الشهر السبتي أو السابع آخر شهورهم، يسبقه "يوم الكفارة العظيم" في اليوم العاشر حيث يعلن كمال المصالحة بين الله وشعبه، وتقديس كل الجماعة لكي تتهيأ للفرح الكامل وتقدر أن تقدم ذبيحة شكر لله في عيد المظال. وإن عرفنا أن عيد المظال قد صار فيما بعد رمزًا لضم الأمم للعضوية في الكنيسة المقدسة، يكون يوم الكفارة (الصليب) هو الطريق الذي فيه تم هذا العمل العظيم. هذا ويليق بنا أن نذكر أن السنة اليوبيلية، سنة التحرر الكامل "كانت تعلن لنا دائمًا في يوم الكفارة"[209].

إن الإحتفال بهذا اليوم في العاشر من الشهر السبتي إنما يُشير إلى الكمال (رقم 10) الذي به يتحقق تقديس الشهر السبتي أو الشهر المقدس.

ولأهمية هذا اليوم كان شيوخ السنهدريم السبعون يدربون الكهنة الجديدة على طقوسه وتحفيظه جميع الأمور المتعلقة به.

هذا وسنرى خلال طقوسه الفريدة التي يمارسها رئيس الكهنة بنفسه خلال تطهيرات مستمرة غير منقطعة مع صوم الشعب اليوم كله كيف يكشف عن دور هذا اليوم في حياة الشعب القديم وما حمله إلينا من رموز روحية نبوية تمس علاقتنا بالله وخلالصنا الأبدي.

غايته:

"كفارة" في العبرية "كبوديت"، تعني "تغطية" أو "ستر"، إذ في هذا اليوم تغفر الخطايا ويستر على الإنسان بالدم الثمين، فيكفر رئيس الكهنة عن نفسه وعن الكهنة وعن كل الجماعة بل وعن الخيمة وكل محتويتها تكفيرًا عامًا وجماعيًا عن كل ما سقطت فيه الجماعة ككل أو كأعضاء طوال العام. تختم شريعة هذا اليوم بالقول: "ويكفر الكاهن الذي يمسحه... ويكفر عن مقدس القدس، وعن خيمة الإجتماع والمذبح يكفر، وعن الكهنة وكل شعب الجماعة يكفر، وتكون هذه لكم فريضة دهرية للتكفير عن بني إسرائيل من جميع خطاياهم مرة في السنة" [32-34].

الإستعداد ليوم الكفارة:

كان رئيس الكهنة وحده يقوم بخدمة ذلك اليوم في طقس طويل بعد استعداد طويل، يساعده أكثر من خمسمائة كاهن[210]. كان رئيس الكهنة يقضي السبعة أيام السابقة ليوم الكفارة في حجرة داخل الهيكل خارج بيته. وفي مدة هيكل سليمان كان شيوخ السنهدريم يلازمونه ويقرأون عليه أوامر الرب الخاصة بهذا اليوم مرارًا وتكرارًا. وكان يستظهرها حتى يحفظها جيدًا ويتدرب على أدائها... وفي الليلة السابقة لليوم كان يظل مستيقظًا حتى الصباح حتى لا يتعرض لحلم أو عارض ليل يدنس جسده، وكان الكهنة والشيوخ حوله حتى لا يغفل أو ينعس.

ولما كان رئيس الكهنة يقوم بالخدمة وحده دون أن يراه أحد في قدس الأقداس، لذلك كان الكهنة والشيوخ يستحلفونه هكذا: "نستحلفك بمن أسكن إسمه في بيته أنك لا تغير شيئًا من كل ما نقوله لك".

طقوس يوم الكفارة:

يقوم رئيس الكهنة بأربع خدمات:

أ. خدمة الصباح اليومية أو الدائمة على مدار السنة، وهي خاصة بالكهنة، لكنه في هذا اليوم يقوم بها رئيس الكهنة بنفسه.

عند منتصف الليل تُلقى قرعة ليقوم الكهنة برفع الرماد عن المذبح حتى لا تقدم ذبائح يوم الكفارة على رماد قديم، ولتمييز هذا اليوم عن الأيام العادية[211]. ثم يأخذون رئيس الكهنة إلى المغسل لغسل جسده ثم يغسل يديه ورجليه. يذكر التقليد اليهودي أن رئيس الكهنة يغتسل 5 مرات في هذا اليوم وعشر مرات يغسل يديه ورجليه، وأنه لا يغتسل في الحمام العادي وإنما في إناء ذهبي مخصص لهذا الغرض. هذا وإن كان شيخًا يحتاج إلى مياه دافئة، يسكبون في الإناء ماءً ساخنًا للتدفئة أو يضعون في المياه حديدًا ساخنًا لذات الغرض.

يلبس رئيس الكهنة الملابس الفاخرة التي للمجد والبهاء (خر 28)، ويدخل القدس ويصلح السرج ويرفع البخور، ثم يقدم المحرقة الدائمة خروفًا حوليًا مع تقدمة عشر من الدقيق الملتوت بربع الهين من الزيت المرضوض وسكيبه ربع الهين من الخمر (خر 29: 38-42)، وكانت هذه تضاعف إن كان اليوم سبتًا (عد 28: 9-10).

ب. خدمة الكفارة العظيم... وهي الخدمة التي وردت تفاصيلها في الأصحاح الذي بين أيدينا، نتعرض لها أثناء التفسير.

ج. خدمة تقديم الذبائح الإضافية المقررة لهذا اليوم (عد 29: 7-11) حيث يُقدم رئيس الكهنة محرقات إضافية وهي ثور وكبش وسبع خراف حولية وتقدمتها ثلاثة أعشار دقيق ملتوت بالزيت عن الثور وعشران عن الكبش وعشر عن كل خروف، وسكائبها من الخمر نصف الهين عن الثور وثلث الهين عن الكبش وربع الهين عن الخروف الواحد. كما يقدم ذبيحة خطية أخرى من تيس من المعز.

د. خدمة المساء اليومية أو الدائمة تماثل خدمة الصباح، يقوم بها رئيس الكهنة بملابسه الفاخرة.

السيد المسيح والكفارة:

إذ حمل كلمة الله جسدنا جاء إلينا في عالمنا ليعيش في وسطنا وكأنه قضى عامًا يختمه بيوم الكفارة العظيم، فيكفر عن خطايانا ويحملنا إلى حضن أبيه، مستشفعًا فينا كرئيس الكهنة السماوي لا خلال دم ثيران وتيوس بل بدمه.

يقول العلامة أوريجانوس: [تأمل أن الكاهن الحقيقي هو الرب يسوع المسيح (عب 4: 14) الحامل الجسد كمن يقضي عامًا كاملاً مع شعبه، إذ يقول بنفسه: "روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي المسبيين بالعتق وللمأسورين بالإنطلاق، لأنادي بسنة مقبولة للرب" (إش 61: 1-2). في هذه السنة دخل في يوم الكفارة مرة واحدة إلى قدس الأقداس (خر 30: 10) عندما أكمل رسالته وصعد إلى السموات (عب 4: 14) عن يمين الآب، لحساب الجنس البشري، يشفع في كل المؤمنين به. يتحدث الرسول يوحنا عن هذه الكفارة التي لحساب البشر فيقول: "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا" (1 يو 2: 1-2). ويعلن القديس بولس الرسول أيضًا عن هذه الكفارة بقوله عن المسيح: "الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره" (رو 3: 25).

إذ يمتد يوم الكفارة حتى الغروب، أي حتى نهاية العالم، نقف أمام الباب ننتظر كاهننا الذي تأخر داخل قدس الأقداس، أي أمام الآب (1 يو 2: 1-2) يشفع في خطايا الذين ينتظرونه (عب 9: 28). لكنه لا يشفع في خطايا الجميع، إذ لا يشفع فمن هم من طرف التيس المرسل في البرية (لا 16: 9-10) بل الذين هم من طرف الرب وحدهم، الذين ينتظرونه أما الباب، لا يفارقون الهيكل عابدين بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا (لو 2: 37).

أتظن أنك وأنت تأتي إلى الكنيسة في يوم العيد بكل أناقة (وترف) دون الإصغاء إلى الصوت الإلهي ولا مراعاة لوصاياه أنك من طرف الرب؟! إنيّ أود أن تسمعوا هذا وتجتهدوا لا في الإنصات لصوت الله في الكنيسة فحسب وإنما في ممارسة كلام الله في منازلكم، واللهج في ناموس الرب ليلاً ونهارًا (مز 1: 2)... هذا هو بالحق الإنتظار أمام باب الكاهن الذي يتأخر داخل قدس الأقداس، به نُحسب من نصيب الرب[212]].

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح السادس عشر

يوم الكفارة العظيم

إذ رأينا أهمية هذا اليوم العظيم وغايته وارتباطه بعمل السيد المسيح الكفاري، نتأمل في طقوسة كما وردت في سفر اللاويين مع الإشارة إلى الطقس اليهودي كما جاء في التقليد.

1. الدخول إلى قدس الأقداس                   [1-3].

2. ثياب يوم الكفارة                            [4].

3. ذبائح عن نفسه وعن الشعب               [5-11].

4. تقديم البخور                                [12-13].

5. الدم وغطاء التابوت                        [14].

6. تقديم التيس الأول                           [15-19].

7. تقديم التيس الثاني                          [20-22].

8. تقديم المحرقات وذبيحة الخطية             [23-28].

9. الكفارة فريضة دهرية                      [29-34].

1. الدخول إلى قدس الأقداس:

إذ خرجت نار من عند الرب وأكلت إبني هرون ناداب وأبيهوا لأنهما قدما نارًا غريبة (لا 10) حدث رعب شديد عند هرون وإبنيه الآخرين، إذ خاف الكل من اللقاء مع الله، فجاءت شريعة يوم الكفارة العظيم تعلن عن الإستعدادات اللازمة لرئيس الكهنة ليدخل باسم الجماعة كلها إلى قدس الأقداس مرة واحدة، إذ قيل: "وقال الرب لموسى: كلم هرون أخاك أن لا يدخل كل وقت إلى القدس داخل الحجاب أمام الغطاء الذي على التابوت لئلا يموت، لأنيّ في السحاب أتراءى على الغطاء" [2].

لم يكن ممكنًا حتى لرئيس الكهنة أن يدخل قدس الأقداس ليقف أمام غطاء تابوت العهد حيث يتراءى الله هناك على الغطاء، بين الكاروبين، على "كرسي الرحمة"... إنما يدخل مرة واحدة فقط كل سنة بعد ممارسة طقس طويل ودقيق  واستعدادات ضخمة حتى لا يحسب مقتحمًا للموضع الإلهي ويموت. هذا العجز سره ليس إنحجاب الله عن شعبه أو كهنته، إنما هو ثمر طبيعي لفسادنا البشري الذي أعاقنا عن اللقاء مع القدوس. وكما يقول الرسول بولس: "معلنًا الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يظهر بعد" (عب 9: 8). كان الأمر يحتاج إلى تغيير جذري في طبيعتنا الفاسدة حتى تقدر خلال الدم الثمين أن تخترق الحجاب الذي إنشق بالصليب وتدخل إلى الأقداس الإلهية تنعم بمعاينة المجد الإلهي والإتحاد مع الله. هذا هو ما تحقق بالمسيح يسوع ربنا رئيس الكهنة الأعظم الذي دخل بنا إلى مقدسه السماوي، قدس الأقداس الحقيقي. فطقس يوم الكفارة بكل دقائقه هو ظل لعمل السيد المسيح الذي شق حجاب الهيكل ونزع العداوة بين السماء والأرض، وصالحنا مع أبيه القدوس.

كان الشعب كله يشتاق طول العام إلى هذه اللحظات التي يدخل فيها رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس لمعاينة مجد الله فوق غطاء التابوت، وكأن الكل قد تمتع بما يناله رئيس الكهنة خلال هذه اللحظات. ونحن أيضًا إذ شق رئيس كهنتنا المصلوب حجاب الهيكل بالصليب وهب لنا فيه لا أن ندخل قدس أقداس في أورشليم الأرضية وإنما إلى السموات عينها لنتمتع بجسد الرب ودمه حياة أبدية.

لم يكن ممكنًا لرئيس الكهنة أن يدخل إلاَّ خلال الذبيحة، إذ قيل "بهذا يدخل هرون إلى القدس، بثور ابن بقر لذبيحة خطية وكبش محرقة" [3]، يلزمه أن يكفر عن نفسه كما عن الشعب. وقد التحمت هنا ذبيحة الخطية بكبش المحرقة، وكما سبق فرأينا في دراستنا لطقس تطهير ذي السيل أن ذبيحة الخطية تُشير إلى غفران خطايانا، وذبيحة المحرقة تُشير إلى تقديم حياتنا ذبيحة طاعة للرب، فيلتحم الجانب السلبي مع الجانب الإيجابي. ندخل إلى الأقداس خلال الصليب الذي ينتزع عنا خطايانا ويهبنا برّ المسيح وطاعته!

كان رئيس الكهنة ملتزمًا بشراء الثور والكبش من ماله الخاص... فما يقدمه للتكفير عن نفسه يقدمه من ماله، وما عن الكهنة من صندوق الكهنة، وأما ما عن الشعب فمن الصندوق العام للهيكل.

كان رئيس الكهنة محتاجًا إلى دم آخر يشفع فيه وفي إخوته الكهنة وبنيه حتى يقدر أن يدخل قدس الأقداس، أما ربنا يسوع المسيح فقدم دمه هو عنا إذ لم يكن محتاجًا إلى تكفير. يتحدث القديس أغسطينوس عن تقديم الكهنة الذبائح عن أنفسهم، قائلاً: [الذبائح تدين الكهنة، فإذا ما ادعى أحدهم أنه بار وبلا خطية تجيبه: إننيّ لا أتطلع إلى ما تقوله بل إلى ما تقدمه، فذبيحتك تحكم عليك. لماذا تقدم ذبيحة عن خطاياك لو كنت بل خطية؟! هل تكذب على الله بتقديمك ذبيحتك؟!... إننيّ يا أخوة كاهن الله، أنا خاطئ، أقرع معكم صدري، وأطلب معكم الصفح، أترجى معكم مراحم الله[213]].

2. ثياب يوم الكفارة:

إذ ينتهي رئيس الكهنة من الخدمة الصباحية الدائمة ليبدأ طقس يوم الكفارة يخلع ملابسه الذهبية التي للمجد ويرحض جسده ثم يرتدي ملابس كتانية خاصة بهذا اليوم تتكون من: قميص، سروال، منطقة، عمامة (خر 28: 40-42)، وهي ملابس كهنة عادية، ربما  لكي لا يتعالى أو يستكبر، أو ليشعر أن طقس هذا اليوم إنما لنزع خطاياه مع خطايا إخوته وبنيه من الكهنة والشعب.

رئيس كهنتنا ربنا يسوع لم يكن في حاجة إلى غسالات جسدية أو روحية، فهو القدوس الذي بلا خطية، الذي يقدسنا بدمه. إنه لا يلبس ثيابًا كتانية في ذلك اليوم بل سلم ثيابه يقتسمها الجند فيما بينهم ليُرفع على الصليب عريانًا، فيكسونا بثوب بره. يهبنا ذاته كثوب بر نرتديه، كقول الرسول: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27).

سبق لنا الحديث عن الثياب الكهنوتية في دراستنا لسفر الخروج وأيضًا في تفسيرنا للأصحاح الثامن من هذا السفر، والآن نكتفي بتعليق العلامة أوريجانوس عن هذه الثياب التي يرتديها المؤمن بكونه كاهنًا عامًا (سبق لنا في أكثر من موضع التمييز بين الكهنوت العام الذي نناله في سرّ العماد حيث نحسب أعضاء في جسد ربنا يسوع لنا حق تقديم ذبائح الحمد والشكر... وبين الكهنوت الذي نناله لممارسة الأسرار الكنسية والعمل الرعوي).

يقول العلامة أوريجانوس: [إن دخلنا في كل ساعة إلى القدس بغير استعداد دون أن نرتدي الثياب الكهنوتية وإن نقدم الذبائح التي أُمرنا بها، من غير أن نجعل الله أولاً  في حياتنا نموت، لأننا لا نتمم ما يلزم عمله عند الإقتراب من مذبح الرب. فالشريعة الواردة هنا تخصنا جميعًا، إذ تقدم لنا الطريق الذي به نقترب من مذبح الرب.

يوجد مذبح عليه نقدم صلواتنا، يليق بنا أن نعرف كيف نقدمها. لنعرف أنه يجب أن تنزع "الثياب القذرة" (زك 3: 4)، أي دنس الجسد ورذيلة  السلوك وقذارة الشهوات...

إن كان لك كهنوت (عام) ملوكي، إذن "فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة تسبيح" (عب 13: 15)، ذبيحة الصلاة، ذبيحة الرحمة، ذبيحة الطهارة والبر والقداسة. ولكي تقدمها باستحقاق يلزمك أن ترتدي ثيابًا طاهرة مميزة عن ثياب بقية الناس، وأن تكون لك نار إلهية وليست نار غريبة عن الرب، بل تلك التي يهبها الرب للبشر كقول إبن الله: "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49). من يستخدم نارًا غير هذه مضادة لها كتلك التي قيل عنها: "يغير شكله إلى شبه ملاك نور" ( 2 كو 11: 4)، يتعرض للسقوط تحت ذات العقوبة التي سقط تحتها ناداب وأبيهو (لا 10) [214]].

 ["يلبس قميص كتان مقدسًا" [4]. الكتان يأتي عن الأرض (كنبات مزروع)، فهو إذًا قميص مقدس لبسه المسيح الكاهن الحقيقي عندما حمل طبيعة الجسد الأرضي، إذ قيل عن الجسد: "أنت تراب وإلى تراب تعود" (تك 3: 19). لقد أراد الرب أن يقيم الجسد الذي صار ترابًا فأخذ الجسد الترابي لكي يرفعه عن الأرض ويحمله إلى السماء... بالحقيقة إن قميص جسد المسيح المقدس، لأنه لم يُحبل به من زرع بشر لكنه مولود بالروح القدس.

"وتكون سراويل كتان على جسده" [4]. عادة السراويل تغطي أجزاء الجسم التناسلية. لنتأمل في مخلصنا الذي أخذ جسدًا به تمم الأعمال البشرية من أكل وشرب وما شبه ذلك لكنه لم يتزوج... وأيضًا يليق بكل إنسان يحيا زاهدًا أن يلبس سروال كتان مقدسًا تحيط بأعضائه التي بلا كرامة لتعطيها كرامة أعظم...

"يتمنطق بمنطقة كتان" [4]. وقد سبق فأظهرنا أن يوحنا المعمدان وإيليا كان لهما منطقة من جلد حول متنيهما... تُشير إلى إماتة هذا الجزء، أي إلى العفة والطهارة...

"ويتعمم بعمامة كتان" [4]. ما نسميه عمامة هو زينة توضع على الرأس، يستخدمها الكاهن عند تقديم التقدمات... هكذا ليُزين كل منا رأسه بزينة كهنوتية. فإن كان المسيح هو رأس الرجل (1 كو 11: 3) يليق بنا أن نسلك بطريقة بها ننعم بمجد المسيح[215]].

3. ذبائح عن نفسه وعن الشعب:

إذ سبق فقدم رئيس الكهنة ذبيحتي خطية ومحرقة عن نفسه [3] قل ارتدائه الملابس الكهنوتية، نجده الآن يأخذ تيسين من المعز لذبيحة الخطية واحدًا كمحرقة من مال الجماعة.

عند تقديمه ثور الذبيحة عن نفسه وعن الكهنة يعترف رئيس الكهنة بخطاياه وخطايا الكهنة، قائلاً: "أيها الإله (يهوه)، لقد أخطأت وعصيت أنا وبيتي. لذلك أتوسل إليك يا الله (يهوه) أن تكفر عن خطاياي وآثامي ومعاصي التي إرتكبتها أمامك أنا وبيتي- كما كتب في ناموس موسى عبدك: لأنه في ذلك اليوم يكفر عنكم ويغسلكم، من كل معاصيكم أمام يهوه تغسلون". ويلاحظ أنه في هذا الإعتراف يذكر إسم "يهوه"  ثلاث مرات. ويكرر الإسم "يهوه" ثلاث مرات أخرى حين يعترف على نفس الثور باسم الكهنة، مرة سابعة يذكر إسم يهوه عندما يعمل قرعة على التيسين ليكون أحدهما من نصيب يهوه. ثم يعترف ذاكرًا الإسم ثلاث مرات أخرى حين يعترف وهو يضع يده على رأس التيس الذي يحمل خطايا الشعب. في هذه المرات العشرة التي ينطق فيها إسم يهوه، إذ ينطق بالإسم يسقط الواقفون بجواره بوجوههم إلى الأرض بينما تردد الجموع العبارة: "مبارك هو الإسم، المجد لملكوته إلى أبد الأبد"[216].

بعد ذلك "يأخذ التيسين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الإجتماع، ويلقي هرون على التيسين قرعتين: قرعة للرب وقرعة لعزازيل" [7-8]. يقدم هذين التيسين كذبيحة واحدة عن الخطية، واحد يُذبح عن خطايا الشعب والآخر يُطلق في البرية لإعلان حمل الخطية ورفعها.

كانت القرعة تتم هكذا بأن يوقفهما رئيس الكهنة أمام باب خيمة الإجتماع ووجهيهما إلى الغرب، ويقف كاهنان واحد عن يمين رئيس الكهنة والآخرعن يساره، وكذلك يُوقف التيسان. ويهز رئيس الكهنة صندوقًا صغيرًا به قطعتان رقيقتان صغيرتان من الأبنوس (صارتا بعد ذلك من الذهب) كتب على الواحدة "ليهوه"، وعلى الأخرى "لعزازيل"، ويضع الواحدة على أحد التيسين والأخرى على الآخر، وهو يقول "للرب ذبيحة خطية، وتُقرأ الكتابة على كل قطعة، فإن كانت التي على يمينه "ليهوه" يقول الكاهن الذي على يمين رئيس الكهنة: "إرفع يمينك للعلى"، وإن كانت التي على يساره يقول الكاهن الآخر "إرفع يسراك"، ويميز التيس الذي ليهوه عن الآخر، بوضع خيط أحمر من الصوف حول رأس التيس الذي للرب أو على قرنيه، بينما يميز الآخر بخيط قرمزي.

يلاحظ أن التيسين كانا متشابهين في الحجم والشكل والقيمة، وإن أمكن يشتريا في وقت واحد، هذا وكان الإتجاه العام إلى التفاؤل إن جاء التيس الذي على يمين يهوه والآخر لعزازيل.

هناك تفاسير كثيرة لكلمة "عزازيل"، يمكن إختصارها في الآتي:

أولاً: يرى البعض أن عزازيل إسم شخص، يعني به الشيطان. إن انطلاق التيس في البرية يُشير إلى قوة الذبيحة التي تتحدى الشيطان، وكأن السيد المسيح الذبيح قد جاء ليُحطم إبليس في عقر داره.

ثانيًا: الرأي الغالب إن كلمة "عزازيل" تعني "الإقصاء التام" أو العزل الكامل، وكأن ذبح التيس الأول يُشير إلى حمل السيد للخطية للتكفير عنها، أما إطلاق الآخر فيُشير إلى إنتزاعها تمامًا وإقصائها بعيدًا عن الشعب.

ثالثًا: يرى البعض في التيس الذي يطلق في البرية باسم عزازيل أي "العزل الكامل" رمزًا لعجز الذبيحة الحيوانية عن تحقيق الخلاص الحقيقي، فإطلاق التيس في البرية يعني أن التيس قد انطلق إلى مكان غير مسكون حتى يأتي حمل الله الحقيقي القادر وحده أن يرفع خطايانا كقول إشعياء النبي أن يهوه قد وضع إثمنا عليه (إش 53: 6).

يرى العلامة أوريجانوس في عمل القرعة على التيسين ليكون أحدهما للرب والآخر لعزازيل إشارة إلى وجود أبرار وأشرار في وسط الجماعة، الأبرار من نصيب الرب والأشرار من نصيب عزازيل، إذ يقول: [لو كان كل الشعب قديسين ومطوبين لما كانت تصنع قرعة على التيسين، ويرسل أحدهما إلى البرية بينما يُقدم الآخر للرب، إذ يكون الكل نصيبًا واحدًا للرب الواحد. بالحقيقة يوجد في الجماعة التي تقترب من الرب من هم منتسبون للرب بينما يلزم إرسال آخرين إلى البرية، إذ يستحقون الطرد والعزل عن تقدمة الرب. لهذا السبب يُقدم نصيب من التقدمة أي تيس للرب، أما الآخر فيطلق خارجًا، يرسل إلى البرية، ويُسمى التيس المطلق[217]].

مرة أخرى يقول بأن التيسين يمثلان فريقين، يتأهل أحدهما أن يدخل دمه إلى المقدسات الإلهية ويكون من نصيب الرب، أما الفريق الآخر فيلقى في البرية الجافة عن كل فضيلة والقفرة من كل صلاح. هذا التمايز يظهر عندما تنتهي حياة كل واحٍد منا، إذ قيل: "فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغني أيضًا ودفن، فرفع عينيه في الهاوية..." (لو 16: 22-23). الأول حملته الملائكة كخدام الرب كما إلى مذبحه المقدس، بكونه نصيب الرب، والثاني انطلق إلى الهاوية إلى أماكن العذاب كمن يُترك في البرية.

يقول: [أتريد أن تعرف أن هذا الكلام يخصنا نحن؟ الحيوانان اللذان يُلقى عليهما القرعة ليسا دنسين ولا هما بغريبين عن هيكل الرب، وإنما هما طاهران وكان يمكن استخدامهما كذبائح عادية. إنهما يمثلان من هم ليسوا خارج الإيمان بل داخله، لأن التيس حيوان طاهر يجوز تقديمه على المذبح الإلهي. أنت أيضًا مكرس بنعمة المعمودية لمذبح الرب، إنك طاهر! لكنك إن لم تحفظ وصايا الرب تسمع: "ها أنت قد برئت، فلا تخطئ لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14). لقد تطهرت فلا تتدنس مرة أخرى بدنس الخطايا، ولا تتحول من الفضيلة إلى التراخي، ومن الطهارة إلى الدنس خلال الرذيلة، لئلا وأنت طاهر تُسلم كالتيس الحيّ نصيبًا للبرية[218]].

 [أتُريد أن ترى صورة للقرعة؟ تأمل اللصين اللذين كانا عند الصليب "معلقين واحد عن يمينه والآخر عن يساره" (لو 23: 13). أنظر، الذي اعترف بإيمانه بالرب صار من نصيب الرب وانقاد لا شعوريًا إلى الفردوس، أما الذي جدف فصار نصيبه كالتيس الحيّ الذي انقاد إلى برية الجحيم. أيضًا قيل: "جرد على الصليب الرياسات والسلطات أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 14-15)... أين جردهم إلاَّ في البرية، في الأماكن القفرة؟‍! [219]].

 [قُدم التيس الأول ذبيحة للرب بينما طُرد الثاني حيًا. إسمع في الأناجيل يقول بيلاطس للكهنة وللشعب اليهودي: "من تريدون أن أطلق لكم: باراباس أم يسوع الذي يُدعى المسيح؟!" (مت 27: 17). حينئذ صرخ كل الشعب أن يطلق باراباس لكي يُسلم يسوع للموت[220]].

4. تقديم البخور:

يملأ رئيس الكهنة المجمرة الذهبية الخاصة به من جمر النار عن مذبح المحرقة، وهي النار التي من لدن الرب (لا 9: 24)، ثم يضع ملء حفنتيه من البخور العطر الدقيق "الناعم" (خر 30: 34-37) في إناء صغير ذهبي، وإذ كانت العادة أن يمسك البخور بيمينه والمجمرة بيساره، ففي هذه المناسبة لضخامة حجم المجمرة يُصرح له بالعكس أن يمسك المجمرة بيمينه والبخور بيساره ليدخل للمرة الأولى إلى قدس الأقداس بجنبه كي لا يتطلع بعينيه إلى تابوت العهد، هنا يختفي رئيس الكهنة عن الأنظار ليبقى وحده في قدس الأقداس. يضع المجمرة على الأرض على حجر ضخم ويملأها بخورًا فيمتلئ قدس الأقداس بسحابة البخور لتحجب تابوت العهد عن عينيه فلا يموت.

يُقدم رئيس الكهنة الصلاة التالية بسرعة دون إطالة حتى لا يقلق الشعب عليه:

 [إن حسن في عينيك أيها الرب إلهنا. وإله آبائنا، ألا يحل بنا سبي في هذا اليوم ولا خلال هذا العام. نعم وإن حلّ بنا سبي هذا اليوم أو هذا العام فيكون إلى موضع فيه تمارس الشريعة.

إن حسن في عينيك أيها الرب إلهنا وإله آبائنا ألا يحل بنا عوز هذا اليوم ولا هذا العام. وإن حلّ بنا عوز هذا اليوم أو هذا العام فليكن هذا عن جود أعمالنا المحبة.

إن حسن في عينيك أيها الرب إلهنا وإله آبائنا أن يكون هذا العام عام رخاء وفيض ومعاملات وتجارة، عام مطر غزير وشمس وندى، فلا يحتاج فيه شعبك إسرائيل عونًا من آخر. ولا تسمع لصلاة المسافرين (ربما بامتناع المطر).

أما من جهة شعبك إسرائيل فليته لا يتعظم عدو عليه.

إن حسن في عينيك أيها الرب إلهنا وإله آبائنا ليت بيوت أهل شرون لا تكون قبورًا لهم (ربما لأجل تعرضهم للفيضانات المفاجئة)].

يخرج رئيس الكهنة من قدس الأقداس بظهره حتى يكون وجهه متجهًا أمام الرب.

نستطيع أن نرى في النار التي حملها رئيس الكهنة في المجمرة إشارة إلى تجسد الكلمة، إذ حلّ بملء لاهوته في أحشاء البتول، المجمرة الذهب. وقد وضع ملء يديه من البخور الدقيق إشاره إلى حمله أعماله المقدسة التي قدمها السيد المسيح بيديه المبسوطتين على الصليب لتفيح رائحته الذكية فينا.

يمتلئ قدس الأقداس برائحته الذكية، وكأن السموات تشتم رائحة المسيح الذكية  فينا فيتمجد الآب بنا نحن أعضاء جسد إبنه وحيد الجنس، فإن ما يُقدمه رئيس الكهنة السماوي أي ربنا يسوع المسيح من أعمال مقدسة تحمل رائحته، إنما يقدمها باسمنا. ولحسابنا، واهبًا إيانا نحن أيضًا أن نحمل إلى قدس الأقداس أعماله ورائحته.

يقول العلامة أوريجانوس: [أتعتقد أن ربنا - الكاهن الحقيقي- يتنازل ويأخذ منيّ أنا أيضًا نصيبًا من محتوى البخور الرقيق ليحمله معه إلى الآب؟! أتظن أنه يجد فيّ قليلاً من الشعلة والمحرقة المنيرة فيتنازل ويأخذ هذا الفحم المملوء بخورًا ويقدمه للآب رائحة ذكية؟! طوبى لمن وجد عنده فحم المحرقة ملتهبًا بالنار المنعشة فيحكم عليه أنه مستحق أن يوضع على مذبح البخور! طوبى لمن كان قلبه رقيقًا وروحانيًا لديه الفضائل المذكاه فيتنازل الرب ويملأ يديه ليقدم للآب منه رائحة ذكية! وبالعكس الويل للنفس التي انطفأ فيها نار الإيمان وبردت فيها شعلة المحبة، إذ يأتي كاهننا الحقيقي ليطلب منها الفحم الملتهب المضيء ليقدم بخورًا للآب فلا يجد إلاَّ رمادًا يابسًا ونارًا منطفئة! هذا هو حال الذين يبتعدون عن كلام الرب وينسحبون منه حتى لا يسمعون فيلتهبوا بالإيمان عند سماعهم للكلمات الإلهية ويحترقوا بالحب. أتريد أن أظهر لك النار النابعة عن كلمات الروح القدس التي تشعل قلوب المؤمنين؟ إسمع داود النبي يقول في المزمور "كلام الرب ألهب قلبي" (مز 119: 14). أيضًا مكتوب في الإنجيل أن كلوباس بعدما تحدث معه الرب قال: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو 42: 32). وأنت أيضًا من أين تأتيك الحرارة؟ كيف تجد فحم النار في داخلك إن لم تحترق دومًا بكلام الرب وتلتهب بكلمات الروح القدس؟! إسمع داود أيضًا يقول: حمى قلبي في جوفي عند لهجي إشتعلت النار" (مز 39: 3) [221]].

5. الدم وغطاء التابوت:

يتسلم رئيس الكهنة إناء الدم من الكاهن ويدخل للمرة الثانية إلى قدس الأقداس، وينضح بأصبعه مرة واحدة على غطاء التابوت من ناحيته الشرقية، أي المواجهة للخارج، ثم ينضح سبع مرات على أرضية قدس الأقداس أمام التابوت. بعد هذا يخرج إلى القدس ويترك إناء الدم في مكان معد لذلك على قاعدة ذهبية ثم يخرج خارجًا.

يقول العلامة أوريجانوس: [ليكن النضح من جانب الشرق [14]، لا تظن أن هذا الكلام لغو، فمن الشرق تأتيك الكفارة، من ذاك الذي دعى "الشرق" (زك 6: 12 الترجمة السبعينية)، ذاك الذي هو وسيط بين الله والناس" (1 تي 2: 5). فالدعوة موجهة إليك لكي تنظر إلى الشرق أبديًا (باروخ 4: 36)، لكي يشرق عليك شمس البر (ملا 4: 2، 3: 20) واهبًا إياك النور فلا تسلك في الظلام قط (يو 12: 35). فلا يمسك بك الظلام في الأيام الأخيرة، ولا يستخدمك الليل المظلم، إنما تكون على الدوام في النور، في بهاء المعرفة، يكون لك الإيمان العظيم بدون توقف وتتمتع بنور المحبة والسلام بلا انقطاع[222]].

6. تقديم التيس الأول:

يُذبح التيس الأول الذي وقعت قرعته إنه ليهوه، ويفعل بدمه كما فعل بدم الثور، إذ ينضح على الغطاء وقدام الغطاء على الأرض، ثم يخرج ليضع الوعاء على قاعدة ذهبية.

"فيكفر عن القدس من نجاسات بني إسررئيل ومن سيآتهم مع كل خطاياهم. وهكذا يفعل لخيمة الإجتماع القائمة بينهم في وسط نجاساتهم" [16].

يكفر رئيس الكهنة بالدم عن القدس لئلا يكون قد أساء إليه أحد من بني إسرائيل كهنة أو شعبًا – طالبًا مراحم الله على البيت حتى لا يتركه الرب بسبب خطاياهم. فقد أسلم الرب تابوت العهد لأيدي الفلسطينيين (1 صم 4: 11)، كما أسلم الهيكل وأوانيه للبابليين (2 مل 25: 8-17) بسبب رجاسات بني إسرائيل المتكررة.

يتم هذا التكفير بمزج دم الثور بدم التيس في القدس، ثم ينضح رئيس الكهنة على القدس ومشتملاته ثم يخرج خارجًا لينضح على الدار الخارجية. وكأن رئيس الكهنة يعترف أنه هو والكهنة والشعب يخطئون في حق الله وبيته ويطلبون المغفرة في استحقاقات الذبيحة حتى يبقى الله حالاً في وسطهم خلال بيته المقدس.

يتم ذلك في الوقت الذي فيه ينتظر الكهنة مع الشعب في الدار الخارجية، بينما يقوم رئيس الكهنة بالعمل في قدس الأقداس بمفرده، إشارة إلى السيد المسيح الذي وحده دخل إلى الأقداس السماوية بدمه لتقديسنا، وكما يقول الرسول: "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس ققد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (عب 7: 26).

بقوله: "لا يكن إنسان في خيمة الإجتماع من دخوله للتكفير في القدس إلى خروجه" [17]. يعلن أنه لا يستطيع أحد من البشر أن يقوم بدور الكفارة إنما الحاجة إلى رئيس الكهنة الفريد ربنا يسوع المسيح. يقول القديس أغسطينوس: [إعتاد رئيس الكهنة أن يدخل قدس الأقداس بمفرده لكي يطلب عن الشعب ولا يدخل معه أحد إلى المقدس الداخلي هكذا يدخل رئيس كهنتنا الأماكن السرية للسموات في قدس الأقداس الحقيقي، أما نحن فلازلنا هنا نصلي[223]].

ويقدم لنا العلامة أوريجانوس تعليقًا روحيًا على هذه العبارة بقوله: [أظن أن الذي يتبع المسيح يخترق معه إلى داخل الخيمة ويصعد معه إلى أعلى السموات، لا يكون بعد إنسانًا وإنما يكون كالقول "كملاك الله" (مت 22: 30)، وتكمل فيه كلمات الرب: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6). إذن لنكن مع الرب بروح واحد، وفي مجد قيامته نعبر إلى طقس الملائكة، وبهذا لا يكون هناك إنسان[224]]. بمعنى آخر إذ انطلق ربنا يسوع المسيح إلى الأقداس يكفر عنا، لا يقدر إنسان أن يكون معه مالم يتحد فيه كعضو في جسده المقدس فنُحسب كسمائيين، نحمل حياته السماوية فينا!

7. تقديم التيس الثاني:

بعد تقديم التيس الأول بذبحه والتكفير بدمه، يأتي دور التيس الثاني الذي لعزازيل [20]، الذي يوقف أمام الباب خيمة الإجتماع ليعرضه أمام الله ثم يضع رئيس الكهنة يديه على رأسه وكأنه يلقي بكل الخطايا عليه، ويعترف عن خطاياه وخطايا الشعب كما سبق فرأينا قبلاً وبنفس العبارات.

يُرسل التيس مع أحد الكهنة يعينه رئيس الكهنة ليطلقة في البرية عند صخرة تسمى "زك" على جبل عالٍ، تبعد حوالي 12 ميلاً من أورشليم بينما يوجد عشرة أكواخ على بعد ميل من كل كوخ وآخر، وعندما يصل الكاهن إلى كوخ يخرج منه رجل يصحبه في الطريق حتى الكوخ التالي وهكذا، وإذ يصل الكاهن إلى الصخرة يقطع الخيط القرمزي المربوط به التيس إلى جزئين، يربط جزءًا منه في الصخرة، والآخر بقرني التيس، ثم يلقى بالتيس من أعلى الصخرة ليسقط ميتًا فلا يستخدمة أحد. وإن كان الطقس حسب الكتاب المقدس أمر بإطلاقه لا بقتله.

إذ يلقي الكاهن التيس من الصخرة يُعطي إشارة بعلم خاص يراها من هو بالكوخ الأخير، وذاك يعطي إشارة يراها الذي قبله، وهكذا في لحظات يصل الخبر إلى أورشليم في الهيكل أن التيس قد طرد... فيشعر الشعب كله براحة خاصة، كأن خطاياهم طوال العام قد طردت عنهم.

يُقدم لنا العلامة أوريجانوس تفسيرًا رمزيًا للتيس الحيّ الذي يطلق في البرية، إذ يقول: [التيس الحيّ المطلق يخفي وراءه معنى الطرد أو الرفض. تستطيع أن تفهم ذلك بمثال: إن صعد في قلبك فكر ردئ كإشتهاء إمرأة قريبك أو امتلاك ما هو لجارك، إعلم أن هذا الفكر من نصيب التيس المطلق. إلقه عنك دفعة واحدة، أطرده من قلبك! تقول: كيف ألقه عني؟ إن كان فيك استقامة الرجل المستعد، أي أن كان بين يديك النص الإلهي، وكانت وصايا الرب أمام عينيك، فبالحقيقة تكون مستعدًا أن تلقي عنك ما هو نصيب الغريب وتطرده عنك. أيضًا إن صعد إلى قلبك غضب أو حقد أو حسد أو شراسة لكي تتعقب أخاك (هو 12: 3)، كن مستعدًا أن تلقي هذه الأمور وتطردها في البرية. وعلى العكس إن صعد إلى قلبك أفكار من الرب (1 كو 7: 34) من تسامح وتقوى وسلام فلترتفع لكي تقدم على المذبح إذ هي نصيب الرب، يأخذها الكاهن وتتصالح مع الرب[225]].

نختم حديثنا عن هذا التيس المطلق كمن هو مرفوض ومطرود في البرية بما جاء في رسالة برناباس في القرن الثاني الميلادي إنه يمثل السيد المسيح الذي حمل اللعنة وصار من أجلنا مطرودًا، أما الخيط القرمزي الذي يتوج به رأسه فيُشير إلى ظهوره في اليوم العظيم أما الذين سخروا به وطعنوه ويدركون أنهم صلبوا إبن الله. هذا وإن وجود هذا الخيط القرمزي على رأسه هو إعلان عن التزام تابعيه أن يحتملوا الألم حتى الموت من أجله[226]. هذا ويرى العلامة ترتليان[227] في التيس المطلق تكميلاً لعمل التيس الأول الذي ذُبح، فالمقدم على المذبح كذبيحة خطية يُشير إلى ذبيحة المسيح التي يتناولها الكهنة الروحيون الساكنون في بيت الرب، أما التيس المطلق فيُشير إلى ذات الذبيحة بكون السيد المسيح الذبيح قد طُرد خارج المحلة.

8. تقديم المحرقات وذبيحة الخطية:

إذ ينتهي رئيس الكهنة من خدمة يوم الكفارة يدخل إلى القدس ويخلع الثياب الكتانية ويستعد لارتداء الملابس التي للمجد (خر 28) ويقوم بتقديم المحرقات عن نفسه وعن الشعب بعد أن يرحض جسده.

لم يكن ممكنًا لرئيس الكهنة أن يقدم المحرقات التي هو موضوع سرور الله إلاَّ بعد التكفير عن نفسه والكهنة وعن كل الشعب خلال ذبيحة الخطية. إذ لا يقدر المؤمن أن يُقدم ذبيحة التسبيح والفرح إلاَّ بعد تقديم التوبة لنوال المغفرة في استحقاقات الدم.

كان رئيس الكهنة أيضًا يلتزم بتقديم محرقات إضافية للعيد وهي ثور وكبش وسبعة خراف حوليه (عد 29: 7-11) مع تقدماتها وسكائبها (عد 28: 12-14). وإن كان بعض الدارسين يرون أن هذه الذبائح الإضافية تُقدم بعد المحرقة الصباحية الدائمة قبل البدء في طقس يوم الكفارة.

يقدم رئيس الكهنة أيضًا ذبيحة خطية إضافية هي تيس من المعز (عد 29: 10-11). ربما خشية أن تكون هناك أخطاء قد ارتكبها سهوًا أثناء خدمة اليوم سواء من جانب رئيس الكهنة أو الكهنة أو الشعب.

أما الذي أطلق التيس الحيّ إلى عزازيل فيغسل ثيابه ويرحض جسده بماء، وبعد ذلك يدخل المحلة... هذا العمل ربما يُشير إلى ما فعله ربنا يسوع المسيح الذي غسل طبيعتنا بدمه على الصليب في وقت المساء حتى يدخل بنا إلى مقدسه السماوي.

أما بالنسبة للحم ثور الخطية وتيس الخطية وجلدهما مع فرثهما (بقايا الطعام الذي في الأمعاء) فتخرج خارجًا وتحرق بالنار [27] مع أن لحم ذبيحة الخطية العادية وجلدها من نصيب الكهنة.

في أيام هيكل سليمان كان يحملهما أربعة كهنة شبان، يحمل كل اثنين واحدة منهما على عصوين، وبعد إحراقهما خارجًا يغسلون ثيابهم وأجسادهم ويعودون إلى الهيكل ليقرأوا على الشعب الفصول الخاصة بيوم الكفارة من سفر اللاويين (23: 26-32)، ومن سفر العدد (29: 7-11) والشعب واقفًا يسمع. ثم يباركون الشعب بالبركة الكهنوتية ويطلبون في النهاية من أجل الشريعة والخدمة والإعتراف ومغفرة الخطايا وأورشليم والهيكل وشعب إسرائيل والكهنوت المقدس.

أخيرًا يُقدم رئيس الكهنة ذبيحة المساء اليومية أو الدائمة بنفسه.

9. الكفارة فريضة دهرية:

جعل الله "يوم الكفارة" فريضة دهرية يلتزم بها رئيس الكهنة اللاوي حتى يأتي رئيس الكهنة الأعظم ربنا يسوع فيتممه في جسده ذبيحة فريدة تدخل بنا إلى المقدسات السماوية أبديًا.

مع هذا الطقس الرهيب الذي كان اليهود يمارسونه بمهابة ورهبة كل عام كانوا يشعرون بالعجز، إذ يمارسون الرمز لا الحق ذاته. يظهر ذلك من نغمة ليتورجيتهم في ذلك اليوم، إذ جاء فيها: [بينما المذبح والهيكل قائمان في موضعهما يكفر عنا تيسان خلال القرعة، لكن الآن بسبب خطايانا لو أن يهوه يود هلاكنا فإنه لا يقبل من أيدينا محرقة أو ذبيحة[228]].

<<


 

 

الباب الخامس

 

 

 

 

 

 

 

المذبح والذبائح

ص 17

                              


 

 الأصحاح السابع عشر

المذبح والذبائح

في الأصحاح السابق إذ أعلنت الشريعة دور الذبيحة المقدسة في تقديس هرون أو رئيس الكهنة حتى يخترق الحجاب ويتمتع بالإقتراب من تابوت العهد ليشفع عن نفسه وكل شعب، أراد أن يعلن عن أهمية الذبيحة واربتاطها بالمذبح المقدس وقدسية الدم، حتى لا يحدث لبس بين الشعب.

1. المذبح والذبائح                   [1-9].

2. منع أكل الدم                      [10-12].

3. دم الصيد                          [13-14].

4. عدم أكل الميت أو الفريسة        [15-16].

1. المذبح والذبائح:

كان الأمر الإلهي: "كل إنسان من بيت إسرائيل يذبح بقرًا أو غنمًا أو معزى في المحلة أو يذبح خارج المحلة وإلى باب خيمة الإجتماع لا يأتي به ليقرب قربانًا للرب أمام مسكن الرب يُحسب على ذلك الإنسان دم، قد سفك دمًا فيُقطع ذلك الإنسان من شعبه. لكي يأتي بنو إسرائيل بذبائحهم التي يذبحونها على وجه الصحراء للرب  إلى باب خيمة الإجتماع إلى الكاهن ويذبحونها ذبائح سلامة للرب..." [3-5].

ماذا تعني هذه الشريعة؟ هل تحرم على شعب بني إسرائيل ذبح الحيوانات المحللة للأكل خارج باب خيمة الإجتماع، وتلزمهم بتقديم كل ذبائحهم كذبائح سلامة للرب [6]؟

هناك رأيان:  

الرأي الأول: أن هذا النص يُفسر حرفيًا بالنسبة لشعب بني إسرائيل في البرية، فقد كان الله يهتم بأكلهم وشربهم وكل احتياجتهم، فيرسل لهم المن من السماء، فلم يصرح لهم بذبح حتى الحيوانات المحللة إلاَّ خلال الذبائح المقدمة للرب. ولعل كان غاية هذا تأكيد أن الله يعولهم حتى في أكلهم بطريقة فائقة أثناء تجوالهم في البرية. وما هم أهم أنه خشى عليهم من الذبح للأوثان، لذلك اشترك أن تقدم كل ما يذبح من الحيوانات الطاهرة باسم الرب عند باب خيمة الإجتماع ليكون للرب نصيب فيها. لعل بعض اليهود كان قد مارس الذبح لعجل أبيس في مصر أو كانت صورة الذبائح المصرية أمام عينيه فأراد الرب أن يمسح هذه الصورة حتى من ذهنهم فترة الأربعين سنة.

أما عند بلوغهم أرض كنعان وتقسيم الأراضي على الأسباط، إذ صاروا يأكلون من ثمار أرض الموعد ويذبحون سمح لهم بذبح الحيوانات الطاهرة وأكل لحمها (تث 12: 20-22)، بشرط أن يأتوا بذبائحهم التي للرب (غير الذبائح التي للأكل) وتقدماتهم وباكوراتهم إلى بيت الرب (تث 12: 11- 19، 26-27).

الرأي الثاني: إن ما ورد في هذا الأصحاح يقصد الذبح لا للطعام، وإنما كذبائح للرب، إذا أراد عدم تقديم ذبائح للعبادة خارج دائرة الخيمة أو الهيكل، أي بعيدًا عن مذبح الرب المقدس. هذه الشريعة يلتزم بها المؤمنون حتى لا ينحرفوا إلى الذبح للأوثان أو الإشتراك في العبادات الوثنية. وقد سمح الله لبعض رجال الله أن يقيموا مذبح لله وتقديم ذبائح لمقاصد إلهية إستثنائية كما فعل يشوع على جبل عيبال (يش 8: 20)، وجدعون الذي هدم هيكل البعل وساريته وقام ببناء مذبح الرب بأمر إلهي (قض 6: 25-27)، وصموئيل النبي حين قدم ذبيحة في المصفاة (1 صم 7: 5-11)، وداود النبي في بيدر أرونة اليبوسي (2 صم 24: 18-25)، وإيليا النبي حين قاوم كهنة البعل (1 مل 18: 19-40). هذه الحالات وأمثالها لم تكن ممارسات يومية عادية وإنما تحت ظروف معينة طلب الله من رجاله أن يقيموا له مذبحًا لتمجيدة أو مقاومة العبادة الوثنية أو لرفع غضبه عن شعبه في ظرف طارئ!

في العهد الجديد نتمتع بمذبح إلهي لا تقدم عليه ذبائح حيوانية ولا يرش عليه دم تيوس وعجول، إنما نراه مذبحًا سماويًا يقدم لنا الله الآب بروحه القدوس جسد الرب ودمه المبذولين لتقديسنا. يقول القديس القديس أغسطينوس: [يوجد مذبح غير منظور في الأعالي لا يقترب إليه الشرير... خلال مقدس الله وخيمته وكنيسته إذهب إلي مذبح الله الذي هو في الأعالي[229]].

يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم  على مهابة مذبح كنيسة العهد الجديد، قائلاً: [مهوبة حقًا هي أسرار الكنيسة! مهوبة حقًا هو المذبح! لقد خرج من الفردوس ينبوع يبعث أنهارًا مادية، أما هذه المائدة فأخرجت ينبوعًا يبعث أنهارًا روحية، لا يُزرع على جوانبها شجر الصفصاف غير المثمر بل تزرع أشجارًا تصل إلى السماء وتحمل ثمرًا دائمًا لا يفسد. إن كان أحد لفحة الحر فليقترب من الينبوع فتبرد حروقه وينطفئ ظمأه ويحمل راحة عوض الحروق التي سببتها السهام النارية لا الشمس. فإن بدايته في الأعالي ومصدره هناك، ومن السماء تفيض مياهه. كثيرة هي مجاري هذا الينبوع الذي يرسله المعزي. الإبن هو الشفيع، لا يمسك فأسًا ليمهد لنا الطريق، إنما يفتح أذهاننا. هذا الينبوع هو نور يبعث أشعة الحق، تقف بجواره القوات السمائية في الأعالي تتطلع إلى جمال مجاريه، إذ هم قادرون بالأكثر على إدراك قوة الأمور الموضوعة عليه والبهاء الذي لا يُقترب منه. من يشترك في هذا الدم يقف مع الملائكة ورؤساء الملائكة والقوات العلوية، ملتحفًا بثوب المسيح الملوكي، له أسلحة الروح، لا بل يلتحف بالملك نفسه[230]].

مرة أخرى يقول: [أتوسل إليكم، أنظروا، إنها مائدة ملوكية قد أعدت لنا! الملائكة تخدمها، والملك جالس بنفسه، فهل تقفوا متثائبين؟![231]].

2. منع أكل الدم:

إذ منع تقديم أي ذبيحة للعبادة خارج دائرة الطقس الإلهي حتى لا ينحرف اليهود إلى العبادات الوثنية، رابطًا شعبه كله - كهنة وشعبًا - بالمذبح، ليجتمع الكل معًا في الرب خلال الذبيحة، عاد  ليؤكد منعه أكل الدم لا بالنسبة للأسرائيلين فحسب وإنما حتى للغرباء الذين ينزلون في وسطهم، وقد سبق لنا الحديث عن الحكمة من منع أكل الدم في دراستنا للأصحاح الثالث.

3. دم الصيد:

سمح للإسرائيلين وللنازلين في وسطهم إن اصطادوا صيدًا، سواء كان حيوانًا أو طائرًا - أن يأكلوا منه إن كان من الأطعمة المحللة، أما بالنسبة لدمها المسفوك فيقول "يغطيه بالتراب" [13]. ولعل الحكمة من تغطية الدم هنا بالتراب أن يذكر الإنسان أن هذه الحيوانات التي خرجت من الأرض (تك 1: 24)، تعود إليها... أما الإنسان وقد حمل نسمة حياة خلال النفخة الإلهية فيليق به ألا يلتصق بعد بالتراب حتى لا يعود إلى التراب، إنما يلتصق بالله السماوي لينطلق إلى السماء أبديًا.

ولعل تغطية دم الصيد بالتراب فيه توقير الإنسان لكل كائن، حتى وإن كان حيوانًا أو طيرًا يأكل لحمه، فلا يليق به أن يطأ دمه بقدميه، إنما يغطي الدم بالتراب كمن يدفنه. هذا الفكر يهب للإنسان إتجاه لطف وترفق حتى بدم الصيد، فلا يعيش الإنسان متعجرفًا وعنيفًا.

وربما أيضًا أراد الله أن يقدم شريعة حتى عن تغطية دم الصيد حتى لا يستخدم هذا الدم في أغراض وثنية نجسة كسكبه للأصنام.

4. عدم أكل الميت أو الفريسة:

"وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنيًا كان أو غريبًا يغسل ثيابه ويستحم بماء ويبقى نجسًا إلى المساء ثم يكون طاهرًا. وإن لم يغسل ولم يرحض جسده يحمل ذنبه" [15-16].

حرمت الشريعة أكل الحيوانات الميتة طبيعيًا أو خلال الأختناق، أي ما لم يكن مذبوحًا، كما حرمت أكل الحيوانات أو الطيور التي افترسها وحش... من يفعل ذلك عمدًا كان يتعرض للجلد وأحيانًا للقطع من شعب الله. إنما هنا الشريعة لمن أكل سهوًا أي بدون معرفة، فإن عرف يلتزم أن يغسل ثيابه ويستحم ويبقى نجسًا لا يدخل المقدسات ولا يلمسها حتى المساء.

أما علة منع أكل الميت والفريسة، فهي أولاً لأسباب صحية، حتى لا يكون قد مات بمرض تنتقل عدواه إلى الإنسان، أو افترسه وحش بث فيه سم كالحيات أو حملت أسنانه ميكروبًا. والسبب الثاني إن أكل ما هو ليس مذبوحًا يحمل نوعًا من الشراهة والنهم خاصة وأنه يدرك أن اللحم خاص بميت أو هو فضلة من فضلات الوحوش. وربما كان المنع لأن الدم في الحالتين يحتمل أن يكون قد حبس في اللحم. وأخيرًا فإن الفريسة قد لمسها وحش دنس فتدنست لذلك لا يأكلها الإنسان حتى لا يتدنس.

في عصر الرسل قررت الكنيسة إمتناع الأمم عن أكل الدم والمخنوق وما ذبح للأوثان (أع 15).

<<

 


 

 

الباب السادس

 

 

 

 

شرائع  التقديس

ص 18- ص 22

 

* تقديس الشعب

أ. العلاقة الجسدية                             [ص 18].

ب. العلاقات العامة                   [ص 19].

ج.. الأوثان والزنا                   [ص 20].

* تقديس الكنهة                         [ص 21].

* تقديس المقدسات                     [ص 22].

 

 

     

 

 


 

الأصحاحات 18-22

شرائع التقديس

أبرز سفر اللاويين بشاعة الخطية ونتائجها المُرّة على حياة الإنسان، وما تؤديه من انفصال للنفس عن الله مصدر حياتها، وقد قدم لنا الذبائح المتنوعة تكشف عن جوانب مختلفة للصليب كطريق لعودة الإنسان لله مصدر حياته وتقديسه. وإذ يلتزم المؤمنون بالتجاوب مع عمل الذبيحة في حياتهم اليومية في كل جوانبها قدم الله الشرائع العملية التي تمس أكلهم وشربهم وثيابهم ومساكنهم وصحتهم (ص 11-15)، والآن يقدم الشرائع العملية التي تمس المعاملات سواء مع الله أو مع الأخوة أو مع الخليقة الجامدة، أو التصرف في المقدسات الإلهية. وقد عالجت هذه الشرائع قداسة شعب الله، وقداسة الكهنة ثم قداسة المقدسات الإلهية.

أ. شرائع تخص قداسة الشعب                  [ص 18-20].

ب. شرائع تخص قداسة الكهنة                 [ص 21].

ج. شرائع تخص قداسة الأقداس               [ص 22].

 

<<


 

الأصحاح الثامن عشر

القداسة والعلاقات الجسدية

إفتتح حديثه هنا عن شرائع التقديس خاصة شريعة الزيجة المحرمة لا كأوامر تلتزم بها الجماعة قسرًا وإنما كطريق تتمتع فيه الجماعة بالحياة المقدسة التي لم ينعم بها الأمم، ولكي تتأهل الجماعة لأن تُحسب شعبًا لله القدوس، وأخيرًا حتى لا ينجسوا الأرض بالشر فتلفظهم عنها.

1. مقدمة للشرائع                            [1-5].

2. الزيجات المحرمة                 [6-18].

3. الإنحرافات الجسدية               [19-23].

4. نتائج الأباحية                     [24-30].

1. مقدمة للشرائع:

إن كان الرب يفتتح هذه الشرائع بشربعة "الزيجات المحرمة" فلئلا يظنوا في الشريعة أنها حرمان ومنع أعلن غايتها: "أنا الرب إلهكم، مثل عمل أرض مصر التي سكنتم فيها لا تعملوا ومثل عمل أرض كنعان التي أنا آت بكم إليها لا تعملوا، وحسب فرائضهم لا تسلكوا، أحكامي تعملون وفرائضي تحفظون لتسلكوا فيها، أنا الرب إلهكم، فتحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها الإنسان يحيا بها. أنا الرب" [2-5].

يلاحظ في هذه الإفتتاحية الآتي:

أولاً: أنه يبدأها بقوله: "أنا الرب إلهكم"، ويختمها بقوله: "أنا الرب"، وفي المنتصف أيضًا يقول: "أنا الرب إلهكم"، مكررًا هذا التعبير أثناء حديثه في نص الشرائع ذاتها. وكأنه يود أن يقول أنا الرب إلهكم، أنا هو البداية، وأنا النهاية، وأنا هو طريقكم... ما أقدمه لكم من شرائع ليس حرمانًا ولا تركًا لشيء إنما هو اقتناء ليّ أنا مشبعكم! الله هو غاية الوصية، نقبل وصيته وشريعته لكي نكتشفه ونقتنيه كسرّ حياتنا.

ثانيًا: أوضح في هذه الإفتتاحية أنه بهذه الشرائع أراد أن يفرزهم له، فإن كان قد أطلقهم من أرض العبودية ووهبهم كنعان ميراثًا فلا يليق بهم أن يسلكوا بذات سلوك من استعبدوهم ولا بسلوك من اقتنوا أرضهم. يليق بشعب الله، وبكل عضو فيه أن تكون له شريعته الروحية التي تميزه عن محبي العالم.

ثالثًا: يرى القديس أكليمندس الإسكندري[232] في هذه العبارة أن مصر تُشير إلى محبة العالم وأهل كنعان إلى الخداع، وقد جاءت الوصية الإلهية تحذرنا من محبة العالم كما من الخداع.

رابعًا: يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة "فتحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها الإنسان يحيا بها" قائلاً: [لا يوجد طريق آخر به يكون الإنسان بارًا إلاَّ بحفظ الناموس كله، لكن هذا ليس في استطاعة أحد قط، فقد فشل اليهود في التمتع بهذا البر[233]]. لذلك كانت الحاجة إلى من يحفظ الناموس ولا يكسر وصيه منه، وهو ربنا يسوع المسيح، الذي انحنى تحت الناموس ليتممه بإرادته عاتقًا إيانا من لعنته التي حلت بنا خلال كسرنا وصياه. لهذا قال الرسول بطرس: "إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟!" (يو 6: 68).

2. الزيجات المحرمة:

بعد الإفتتاحية السابقة عرض للزيجات المحرمة، مانعًا الإقتراب إلى جسد الأقرباء، وكشف عورتهم بمعنى الإمتناع عن الإتحاد معهم في علاقة زوجية، وقد حدد الزيجات الممنوعة هكذا:

أ. الزواج من الأب أو الأم [7]، حتى لا يسقط أحد فيما فعله إبنتا لوط (تك 19: 30-38) فأنجبتا للعالم موآب وعمون اللذين أقاما أمتين مقاومتين لله.

ب. الزواج من إمرأة الأب [8] سواء في حياة والده أو بعد وفاته. لقد تمررت نفس يعقوب عندما سمع أن إبنه البكر رأوبين اضطجع مع سريته بلهة (تك 35: 22)، حاسبًا إياه أنه دنس مضطجع أبيه، وبسبب هذا فقد بكوريته (تك 48: 22). إرتكب إبشالوم نفس الخطأ عندما ثار على أبيه داود وأقام نفسه ملكًا واضطجع مع سراري أبيه (2 صم 16: 22)

ج. الزواج من الأخت [9].

د. الزواج من الحفيدة [10].

هـ. الزواج من بنت إمرأة الأب [11] متى كانت مولودة من أبيه... ربما يقصد بهذا أن إبنة إمرأة أبيه حتى وإن كانت ليست من أمه ولا من أبيه، لكنها تحسب مولودة من أبيه لإرتباط أمها به كزوجة. بمعنى آخر لا يجوز الزواج بإبنة إمرأة الأب حتى وإن كانت من أب آخر لأنها هي إبنة لأبيه خلال اتحاد أمها معه.

و. الزواج بالعمة أو الخالة [12، 13].

ز. الزواج من زوجة العم [14].

ط. الزواج من الكنة [15].

س. الزواج من إمرأة وبنتها، أو من إمرأة وإبنة إبنها أو إبنة بنتها [17].

ش. الزواج من أخت كضرة لأختها [18]، بمعنى ألا يتزوج إنسان أخت زوجته بعد تطلق أختها حتى لا تشعر الأولى بالكراهية نحو أختها، وبالأولى أيضًا لا يتزوج إنسان أختين معًا في حياتهما كما فعل يعقوب حين تزوج ليئة وراحيل قبل الشريعة.

والآن: لماذا جاءت الشريعة تحرم الزواج من هؤلاء القريبات جسديًا؟

أولاً: جاء التحريم ليحفظ قدسية الحياة العائلية خاصة وقد عاشت العائلات تحت سقف واحد، فالشاب يتطلع إلى والديه وأخوته وعمه وخاله وزوجة العم أو الخال وبنات الخال والعم بقدسية، خاصة إنهم من لحمه ودمه... فهو يدرك أنه لا يتزوح أحدًا منهم فيتعامل بحب أخوي أو بنوي طاهر، بنظرة بعيدة كل البعد عن أي فكر جسداني.

ثانيًا: من الناحية الصحية يرى علماء الوراثة أن الزواج من الأقرباء كأبناء العم يعرض النسل لأمراض وراثية أكثر مما لو تزوج الإنسان من غير الأقرباء.

ثالثًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[234] أن الإمتناع عن الزواج من أهل الزوجة أو الزوج المقربين إنما يعني الدخول في رباطات حب قوية حتى يحسب الإنسان أهل زوجته أهله، فلا يلتصق بهم بالزواج لأنه التصق بهم خلال زوجته. وبنفس الفكر يرى القديس باسيليوس الكبير[235] أن الرجل لا يستطيع أن يتزوج أخت زوجته حتى بعد وفاتها، لأن الشريعة تمنع الزواج من الأقارب الملتصقين به. فبالزواج إذ صار الإنسان واحدًا مع زوجته لا يجوز له الزواج بأمها أو إبنتها بكونهما أمه وإبنته، وهكذا لا يجوز له الزواج بأختها بكونها قد صارت له أختًا.

رابعًا: هذه الزيجات المحرمة ربما توسع دائرة الإرتباط الأسري، فلا تتقوقع كل عائلة حول نفسها... بل يأخذ الأبناء من عائلات أخرى فترتبط العائلات معًا.

3. الإنحرافات الجسدية:

 بعد منعه من الزواج بالمقربات جدًا، حذرت الشريعة من الإنحرافات الجسدية التي كانت منتشرة في بعض الشعوب الوثنية مثل:

أولاً: "لا تقترب إلى امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها" [19]. تمنع الشريعة من معاشرة الرجل لإمرأته في أثناء مرضها الشهري أو إذا كان بها نزف دم... فإن تم ذلك عمدًا يقطع الإثنان من الشعب (20: 18)، أما إن كان سهوًا يُحسب الرجل نجسًا سبعة أيام (15: 19).

المنع يقوم على أساس صحي، إذ غالبًا ما تكون الزوجة من الجانب الصحي والنفسي غير مستعدة للمعاشرة الزوجية. أما الأساس الروحي، فكما جاء في قوانين الرسل: [إنهم يفعلون هذا لا لإنجاب أطفال بل لأجل اللذة. يليق بمحب الله ألا يكون محبًا للذة[236]].

ثانيًا: الإمتناع عن الزنا [20]، وكان عقاب الرجل الذي يزني مع إمرأة رجل آخر الموت رجمًا هو والمرأة (20: 10، تث 22: 22).

ثالثًا: الإمتناع عن تقديم الأطفال كذبائح بشرية كملوك إله عمون، بإجازتهم في النار أما الصنم [21].

رابعًا: الإمتناع عن الشذوذ الجنسي كمعاشرة الذكور [22]، أو الحيوانات [23].

4. نتائج الإباحية:

إن كان الله في الإفتتاحية أعلن شوقه نحو شعبه أن يحيا مقدسًا ليتسم الشعب بما يليق بإلهه، وأن يكون له سمته الخاصة التي تفرزه عن الأمم الوثنية، الآن في نهاية هذه الشريعة يكشف عن الجانب السلبي، وهو ثمر الخطية خاصة الإباحية الجسدية:

أولاً: حينما يلهو الإنسان في الرجاسات تتنجس الأرض به، ثم تعود فتقذفه خارجًا، وكأنها تجازيه عما فعله بها [25]. إن كان الله قد خلق العالم من أجل الإنسان، فإذ يفسد الإنسان سيد الأرض يفسد الأرض فلا تطيقه بل تتقيأه.                  

في القديم أخطأ آدم وحواء، فسقطت الأرض تحت اللعنة تنبت شوكًا وحسكًا (تك 3: 17)، وحينما سفك قايين دم هابيل، قيل: "لا تعود تعطيك الأرض قوتها" (تك 4: 12)... ويقول الرسول: "فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن" (رو 8: 22). والآن إذ نرجع إلى الرب مقدسين في دمه تباركه الخليقة وتمجده!       

ثانيًا: إن كانت الأرض أو الخليقة لا تطيق الفساد فتقذفه، فبالأولى لا تطيق كنيسة الله المقدسة الشرير المصرّ على شره بل تفرزه وتطرده من العضوية في الجسد المقدس: "كل من عمل شيئًا من جميع هذه الرجسات تقطع الأنفس التي تعملها من شعبها" [29]. كان القطع في العهد القديم غالبًا ما يكون بالرجم، أما في العهد الجديد فبالحرمان من الشركة، كقول الرسول بولس عن ذاك الذي صنع شرًا مع إمرأة أبيه: "فإنيّ أنا كأنيّ غائب بالجسد ولكن حاضر بالروح قد حكمت كأنيّ حاضر في الذي فعل هذا هكذا، باسم ربنا يسوع المسيح أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 3-4). إنه كمن يسلمه للشيطان بطرده من شركة الحياة، لا عن كرهية وإنما لكي إذ تتمرر حياته يرجع تائبًا فيسمع كلمات الرسول نفسه عن ذات الشخص: "تسامحونه بالحرى وتعزونه لئلا يبتلع مثل هذا الحزن المفرط" (2 كو 2: 7).

<<

 


 

الأصحاح التاسع عشر

القداسة والمعاملات

إذ تحدث عن الإمتناع عن الزيجات المحرمة والعلاقات الجسدية الخاطئة، يحدثنا هنا عن ترجمة الحياة المقدسة عمليًا خلال علاقتنا بالله والوالدين والإخوة حتى في تصرفاتنا مع الحيوانات والنباتات.

1. علاقتنا بالله القدوس                        [1-2].

2. إكرام الوالدين                              [3].

3. حفظ السبت ورفض الوثنية                 [3-8].

4. شرائع خاصة بالحصاد                     [9-10].

5. شرائع خاصة بالإخوة                      [11-18].

6. شرائع خاصة بالحيوانات والزراعة         [19].

7. شريعة السقوط مع جارية                  [20-22].

8. شريعة بكور الأشجار                       [23-25].

9. أحكام عامة                                [26-27].

1. علاقتنا بالله القدوس:

"وكلم الرب موسى قائلاً: كلِّم كل جماعة بني إسرائيل وقل لهم: تكونون قديسين لأنيّ قدوس الرب إلهكم" [1-2].

الله هو سرّ قداستنا، إذ ندخل معه في شركة بثبوتنا في الإبن القدوس بواسطة روحه القدوس الساكن فينا نحمل سماته فينا فنحسب قديسين. وكأن القداسة ليست امتناعًا عن الشر فحسب ولا حتى مجرد ممارسة لأعمال فاضلة إنسانية، إنما هي قبول لله القدوس وتمتع به، فنحمل سماته هبة من عندياته. القداسة هي هبة الله القدوس لأولاده، إذ يقول: "لأجلهم أقدس أنا ذاتيّ ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 19).

أدرك القديس أغسطينوس هذه القداسة كهبة إلهية ننعم بها خلال تمتعنا بالقدوس ذاته خاصة خلال مياه المعمودية، لذا قال: [بالبر الذي تهبني إياه أصير بارًا، فليكن برّي هو برك لأنك تهبني إياه[237]]. كما يقول: [الذي نال نعمة القداسة ونعمة المعمودية وغفران الخطايا (1 كو 6: 11)... يقول لإلهه، إنيّ قديس لأنك تقدسني، ليس لأن القداسة هي من عندي، إنما لأني تقبلتها، ليس لأني أستحقها إنما أنت وهبتني إياها[238]]. وأيضًا: [إن كان كل المسيحيين المؤمنين الذي يتعمدون يلبسونه كقول الرسول: "لأن كلكم (كثيرين) الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3: 27)، إن كانوا قد صاروا أعضاء في جسده ومع هذا يقولون إنهم ليسوا قديسين  فإنهم يسيئون إلى الرأس الذي هم أعضاؤه وغير مقدسين. أنظروا أين أنتم ومن هو رأسكم فتنالون كرامة[239]]. بأكثر وضوح يقول: [تقديس المسيحي يتحقق بالمسيح نفسه، فهو قوة التقديس لله فيه... لذلك يتم التقديس في المعمودية وهناك ينتعش ويتلألأ[240]].

يقدم لنا العلامة أوريجانوس مفهومًا للتقديس من جانب آخر، إذ يرى أن التقديس يعني تكريس الإنسان بكليته لحساب مملكة الله، حتى الأمور الزمنية إنما تتقدس بتقديمها للرب، معطيًا لذلك أمثلة أن البكور التي تقدس للرب إنما تُسلم له، والملابس الكهنوتية الأواني المقدسة وأدوات الهيكل أو الخيمة تتقدس بمعنى أنها لا تستخدم إلاَّ في خدمة الرب... وهكذا الإنسان المقدس إنما يكون بكل طاقاته وإمكانياته وكل نسمات حياته لحساب مملكة النور. إنه يقول: [إن فهمنا بأي معنى يكون الحيوان (الذبيحة) والأشياء والملابس مقدسة يمكننا بمنطق جيد أن نفهم الإنسان كقديس. بالحقيقة يلزمنا أن نكرس أنفسنا للرب ولا ننشغل بأي عمل علماني حتى نرضي من جندنا (2 تي 2: 4). لنبتعد عن الذين يعيشوا جسديًا ويتمسكون بالزمنيات ولننفصل عنهم، إذ قيل: "إهتموا بما فوق لا بما على الأرض" (كو 3: 1-2)،  بهذا نستحق أن نحسب قديسين... يجب أن نتجنب "كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب تعليم (الرسولي) الذي أخذه منا" (2 تس 3: 6)، وكما قيل: "إعتزلوا إعتزلوا أخرجوا من هناك لا تمسوا نجسًا، أخرجوا من وسطها، تطهروا يا حاملي آنية الرب" (إش 52: 11، رؤ 18: 4). إبتعدوا عن الأرضيات، أتركوا شهوات العالم "لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم" (1 يو 2: 16). لتترك هذا كله ولتكرس نفسك للرب... هذا ولا يقصد بالإعتزال ترك المكان إنما ترك الأعمال، فلا نترك الموضع إنما نغير طريقة الحياة. فإن كلمة قدوس باليونانية hagios تعني الإرتفاع فوق الأرضيات. فمن يكرس نفسه للرب يظهر فوق الأرض والعالم، ويمكنه أن يقول وهو بعد سالكًا على الأرض: "لنا مدينة في السماء"[241]].

2. إكرام الوالدين:

جاءت الوصية "تهابون كل إنسان أمه وأباه" [3] مباشرة بعد قوله: "تكونون قديسين لأنيّ قدوس الرب إلهكم" [2]، وكأن أول علامات القداسة تظهر في حياتنا العملية خلال علاقتنا بأبينا وأمنا، فإن الأبوة والأمومة تمثلان أبوة الله وأمومة الكنيسة.

إحتلت وصية إكرام الوالدين مكانًا في الوصايا العشرة (خر 20: 12)، كما في مواضع كثيرة، وكما يقول الرسول بولس إنها وصية بوعد (أف 6: 2).

في الوصية الخامسة جاء الأب قبل الأم، وهنا يذكر الأم أولاً، ليعلن المساواة بين الأب والأم وعدم التحيز لطرف على حساب الآخر، بل تكون كرامتهما واحدة في عيني الإبن أو الإبنة.

3. حفظ السبت ورفض الوثنية:

إهتم الرب بحفظ السبت كوصية إلهية (خر 20: 8)، وكعهد بين الله وشعبه، علامة راحة الله في شعبه وراحة الشعب في إلهه وحده، لذلك فإن السبت يعتبر عيدًا أسبوعيًا له طقسه الخاص، نتحدث عنه في الأصحاح الثالث والعشرين إن شاء الرب وعشنا.

حذرهم الرب أيضًا من الإلتفات إلى الأوثان أي الإهتمام بها [4]، أو صنعها، وتقديم ذبائح لها... هذه الوصية تقدم لنا حتى لا نقيم لأنفسنا آلهة نتعبد لها، سواء كانت هذه الآلهة هي بطوننا أو كرامتنا أو غنانا أو شهوة جسدية! ليته لا يحتل القلب آخر غير الرب، له وحده نتطلع وإياه نشتاق ونتعبد.

أوصاهم أيضًا أن يأكلوا ذبيحة السلامة يوم ذبحها أو في اليوم الثاني، أما ما يتبقى في اليوم الثالث فيحرق بالنار[6]... وكما سبق فقلنا أن هذا التصرف يُشير إلى قبولنا الرب القائم من الأموات في اليوم الثالث. بقاء الذبيحة بعد ذلك يعرضها للفساد، وإذ هي تُشير للمسيح يسوع الذبيح القائم من الأموات فإن جسده لم يصبه فساد.

4. شرائع خاصة بالحصاد:

"وعندما تحصدون حصيد أرضكم لا تكمل زوايا حقلك في الحصاد، ولقاط حصيدك لا تلتقط" [9]. هذه الوصية تمس حياة المؤمن نفسه، فإذ يحمل في قلبه إتساعًا نحو إخوته المحتاجين والغرباء يقدم لهم من الحصاد دون إحراج لمشاعرهم، فيطلب من الحصادين أن يتركوا زوايا الحقل بلا حصاد ولا يلتقطوا ما يسقط من الحزم من سنابل أثناء نقلها، حتى لا يتحرج  المسكين أو الغريب، إذ يدخل الحقل ليجد في جوانبه ما يستطيع حصاده دون خجل أو يلتقط الساقط من الحصادين كما فعلت راعوث الموآبية.

كأن هذه الوصية تحثنا لا على العطاء للفقراء والمساكين بل بالأكثر على عدم مس كرامتهم أو جرح مشاعرهم، فنعطيهم حبًا من القلب قبل أن نعطيهم طعامًا أو كساءً لذلك يقول الحكيم: "المستهزئ بالفقير يعيّر خالقه" (أم 17: 5).

بنفس الروح يقول: "كرمك لا تعلله" [10]، أي لا تجمعه عدة مرات حتى تجرد الكروم من كل ثمارها فلا يجد الغريب أو الفقير نصيبًا. وقد جاءت الترجمة السبعينية "لا تعد إلى خصاصة الكرم"، أي لا تجني الفضلات الباقية. يقول أيضًا "ونثار كرمك لا تلتقط" بمعنى ما يسقط من الأشجار على الأرض طبيعيًا أو خلال الجني أتركه للمساكين والغرباء.

5. شرائع خاصة بالأخوة:

بعد أن حدثنا عن علاقتنا بالله نفسه وبالوالدين والمساكين والغرباء قدم لنا دستورًا يمس علاقتنا بالإخوة، أهم بنوده:

أ. "لا تسرقوا" [11]: جاءت الوصية صريحة "لا تسرق" (خر 20: 15)، فالمؤمن الحقيقي ليس فقط لا يسرق ما هو للآخرين إنما يشتاق أن يقدم ما لديه للآخرين، إذ يقول الرسول: "لا يسرق السارق فيما بعد بل بالحرى يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياج" (أف 4: 28). إنه يحمل روح سيده الذي يتعب ليهب شبعًا لكل محتاج، وراحة لكل نفس متعبة!

ب. "ولا تكذبوا" [11]: يقول القديس يوحنا كليماكوس: [الكذب يدمر المحبة، واليمين الكاذبة إنكار لله[242]]، [الطفل لا يعرف شيئًا عن الكذب وكذلك النفس المنزهة عن الشر[243]].

ج. "ولا تغدروا أحدكم بصاحبه" [11]: يقصد بالغدر الخيانة بكل صورها وعدم انفتاح القلب بالحب للآخرين، كما غدر قايين بأخيه هابيل (تك 4: 8)، وأخوة يوسف بأخيهم (تك 37)، ويهوذا بمعلمه السيد المسيح (مت 26: 47-49). يقول القديس يوحنا الدرجي: [إن حقدت فاحقد على الشياطين، وإن عاديت فعاد (شهوات) جسدك كل حين[244]]، [متوحد حقود يشبه أفعى في وكرها تحمل سمًا مميتًا في داخلها[245]].

د. "لا تحلفوا بإسمي للكذب، فتدنس إسم إلهك" [12]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن أورشليم مدينة الله التي حملت في داخلها الهيكل وتابوت العهد وتمتعت بالأنبياء ومواعيد الله هلكت خلال القسم الباطل[246]]. وقد جاءت الوصايا العشر تنهي عن القسم الباطل (خر 20: 7)، سمحت بالقسم في العهد القديم علامة إعتزاز الشعب بالإله، وحتى لا يقسم بالآلهة الوثنية، لكنها شددت ألا يكون باطلاً، أما وقد جاء السيد المسيح فنهى عن القسم تمامًا، قائلاً: "ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وما زاد على ذلك فهو شرير" (مت 5: 37).

هـ. "لا تغصب قريبك ولا تسلب، ولا تبت أجرة أجير عندك إلى الغد"  [13]. هكذا تحذرنا الشريعة من اغتصاب حقوق الأخوة وسلبهم ما لهم سواء كان أمرًا ماديًا أو معنويًا... وقد قدم نوعًا من الظلم الذي قد يحدث عفوًا، كأن يؤجل إنسان أجرة الأجير إلى اليوم التالي بينما يكون هذا العامل وعائلته في عوز للأجرة. كأن الظلم لا يقف عند سلب مال الإنسان وإنما حتى تأخير إعطائه حقه يُحسب ظلمًا وسلبًا وسرقة! في وضوح يقول: "لا تظلم أجيرًا مسكينًا وفقيرًا من أخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حامل نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطية" (تث 24: 14-15)، وقد ندد معلمنا يعقوب بالسالبين حقوق العمال والأجراء بقوله: "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المنجوسة منكم تصرخ وصياح الحصادين قد دخل إلى أذنيّ رب الجنود" (يع 5: 4).

و. "لا تشتم الأصم، وقدام الأعمى لا تجعل معثرة، بل إخش إلهك، أنا الرب" [14].

يقدم نوعًا آخر من الظلم يقوم على استغلال ضعف الآخرين عوض مساندتهم، فنشتم الأصم الذي لا يسمع ليدافع عن نفسه، ونعثر الأعمى عوض إقامته من العثرة، وقد اعتبر الرب هذه الإهانات موجهة له شخصيًا، إذ هو أب المساكين والمعتازين والمعوقين، إذ يقول "بل إخش إلهك".

لعله يقصد بالأصم الذي نشتمه، ذاك الذي نغتابه من خلف فلا يسمع إساءتنا له، والأعمى الذي نضع أمامه العثرة الضعيف روحيًا الذي ندينه ونحطمه عوض مساندته بروح الرجاء وإقامته من ضعفه.

يحذرنا القديس مقاريوس الكبير عن شتم الأصم مطالبًا إيانا بالهروب من كلمة النميمة، قائلاً: [إحفظوا ألسنتكم وذلك بأن لا تقولوا على إخوتكم شرًا، لأن الذي يقول على أخيه شرًا يغضب الله الساكن فيه. ما يفعله كل واحد برفيقه فبالله يفعله[247]]. ويقول القديس جيروم: [إذا سمعت أحدًا يثلب غيره إهرب منه كهروبك من حية سامة، حتى يخجل ويتعلم ألا يتكلم بهذا مرة أخرى[248]].

أما عن عدم وضع معثرة للأعمى فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق بنا أن نضع زيتًا مرطبًا على جراحات الضعفاء لا مواد ملتهبه تزيد آلامهم].

ز. لا ترتكبوا جورًا في القضاء، لا تأخذوا بوجه مسكين، ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك" [15]. يليق بنا أن نحكم بالعدل بغير ظلم، فالمسكين لا يشفع فيه فقره لنحابيه، والغني لا يسنده غناه وجاهه لنجامله.

ط. "لا تسع في الوشاية بين شعبك، لا تقف على دم قريبك، أنا الرب" [16].

يقصد بالوشاية الإفتراء على الآخرين أمام أصدقائهم أو عائلاتهم أو رؤسائهم وكما يقول إرميا النبي "علموا ألسنتهم التكلم بالكذب وتعبوا في الإفتراء" (إر 9: 5). أما الوقوف ضد دم القريب أو ضد حياته فيعني ألا يكون سببًا في هلاكه أو تحطيمه جسديًا أولاً: معنويًا خلال شهادة زور أو الإمتناع عن الدفاع عنه... إلخ. أما قوله "أنا الرب"، فكأنه يقول: إن كنت تشي بأخيك أو تحطم حياته، فأنا الرب أدافع عن كرامة المظلومين وحياة المحطمين!

ظ. "لا تبغض أخاك في قلبك، إنذارًا تنذر صاحبك، ولا تحمل لأجله خطية" [17].

إن أخطأ إليك أخوك فلا تبغضه في قلبك إنما عاتبه وانذره (مت 18: 15-17)، فقد تكون أسأت فهمه أو وشى به أحد ظلمًا، وقد يكون قد تصرف هو عن عدم فهم... إعط لنفسك فرصة ألا تحمل في قلبك كراهية أو بغضة، واعط لأخيك فرصة للدفاع عن نفسه وكشف نيته أو توبته ورجوعه عما فعله بك، وقد سبق لنا الحديث في هذا الموضوع في دراستنا لإنجيل متى (أصحاح 18).

أما قوله "ولا تحمل لأجله خطية" فيعني أنك إذ تبغض أخاك حتى وإن كان قد أخطأ إليك، فإنك بهذه البغضة تفسد قلبك وتحمل خطية في داخلك. لذلك يرى القديس أغسطينوس في قول الرسول: "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (1 يو 3: 15)، أن الغضوب يقتل نفسه الداخلية بحمله روح البغضة، إذ يقول: [إن وجدتم في منازلكم عقارب وحيات، ألا تجتهدوا في طردها حتى  تعيشوا في أمان منها في منازلكم؟! ومع ذلك فها أنتم غضبى، وهوذا الغضب يتأصل في قلوبكم، وينمي فيها حقدًا وخشبًا كثيرًا وعقارب وحيات، ومع هذا فلا تنقون قلوبكم التي هي مسكن الله!![249]].

لاحظ القديس يوحنا كاسيان أن الشريعة أرادت استئصال الشر من جذوره، بالقول: "لا تبغض أخاط من قلبك"، قبل أن يتحول الغضب الداخلي والبغضة التي في القلب إلى انتقام وحقد [18]. يقول: [لماذا نتحدث بعد عن الوصايا الإنجيلية والرسولية إن كان حتى الناموس القديم الذي يُظن إلى حد ما أنه ليس صارمًا يحذرنا من الغضب بالقول: "لا تبغض أخاك في قلبك"... ها أنت ترى الشر يُصد ليس في تنفيذه فقط وإنما وهو بعد في الفكر الداخلي إذ جاءت الوصية تمنع الكراهية من جذرها وهي في القلب[250]].

ع. "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك أنا الرب" [18].

الله لا يطيق الكراهية أو البغضة خاصة إن صارت نقمة أو حقدًا... يقول العلامة ترتليان: [لم يضع الخالق حدودًا للمغفرة بل يأمرك ألا تحمل كراهية ضد أخيك بلا حدود، ولا تهب من يسألك فقط بل ومن لا يسألك. إرادته لا أن تغفر أية معصية بل تنساها[251]].

أخيرًا فإن علاج هذا كله هو: "تحب قريبك كنفسك، أنا الرب". بمعنى أن المؤمن إذ يحب نفسه بحق ويشتهي خلاصها ومجدها الأبدي يفرح بخلاص أخيه ويتسع قلبه له، فيراه عضوًا معه في الجسد الذي الرب نفسه رأسه. ويرى القديس أغسطينوس[252] أن الإنسان لكي يحب نفسه يليق به أن يحب الله من كل قلبه وكل نفسه وكل فكره (تث 6: 5)، فتكون أفكاره كلها وحياته ممتصة في الله واهب الحياة، وتفيض قنواته الداخلية بالحب بلا نقصان، وهكذا إذ يحب قريبه كنفسه إنما يحب أن يكون قريبه محبًا لله أيضًا من كل قلبه وكل نفسه وكل فكره. بهذا حتى في محبة الإنسان لقريبه يتجه بمحبته لله ولقريبه إلى قناة حب الله التي لا تنضب.

أخيرًا يعلق القديس أغسطينوس على هذه الشرائع الخاصة بعدم الحقد... قائلاً: [لا يفهم هذا صوت وصية موجهة إلى إنسان بار بل بالحرى صوت سماح مقدم لإنسان ضعيف[253]].

6. شرائع خاصة بالحيوانات والزراعة:

يبدأ هذه الشرائع بقوله "فرائضي تحفظون" [19]، ليؤكد أن هذه الشرائع سواء الخاصة بعلاقة المؤمن بوالديه أو بإخوته أو بالمساكين أو حتى بالحيوانات والزراعة إنما هي "فرائض الله" يلزم أن نحفظها من أجل علاقتنا واتحادنا معه... نحب الوصية لأنها وصية إلهنا المحبوب الذي يقدمها ليضمنا إليه بالحب.

"لا تُنز بهائمك جنسين، وحقلك لا تزرع صنفين، ولا يكون عليك ثوب مصنف من صنفين" [19].

جاءت الوصية تمنع التهجين بين جنسين من الحيوانات لإنجاب جنس ثالث، أو زرع صنفين في حقل واحد، أو نسج نوعين من الخيوط (كالصوف والكتان) في نسيج واحد... فما الهدف من هذه الوصية؟

أولاً: يرى البعض أن الله منع التهجين حتى لا يظن الإنسان إنه يقول بعمل "خلقة" لإجناس جديدة فيدعى لنفسه الألوهية. والعجيب أن الله يسمح بالجنس الجديد غير قادر على الإنجاب، كظهور البغل ثمرة للتهجين بين الحمار والحصان.

هذا وقد استخدم اليهود "البغل" كحيوان للنقل وحمل الأثقال، يشترونه من الشعوب المجاورة لكنهم لا يقومون بعملية التهجين للحصول عليه، إلاَّ إذا حصلت هذه العملية بطريقة لا إرادية غير مقصودة.

ما هو هذا الحيوان الذي هو ثمرة التهجين بين جنسين مختلفين والعقيم غير القادر على الإنجاب إلاَّ الجسد الذي يفسده الإنسان بالشهوات والملذات المتضاربة، فيحمل الجسد إنقسامًا وتضاربًا بين أفكار الملذات والكبرياء، ولا يكون له ثمر روحي لائق يفرح قلب الله. أما جسد المؤمن الحقيقي فيحمل إنسجامًا داخليًا فيما بينه، وأيضًا إنسجامًا مع النفس بكونه خاضعًا لروح الله القدوس بجسده كما بنفسه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن الروح القدس هو روح الوحدة أما روح إبليس فهو روح الإنقسام والإنشقاقات، فمن يسلك بروح الرب إنما يحمل روح الوحدة، أما من يسلك بروح إبليس فيحمل إنقسامًا وانشقاقًا ليس فقط ضد إخوته لكن حتى في داخله بين جسده ونفسه].

ثانيًا: منع الله زراعة صنفين في حقل واحد، ربما يُقصد بذلك عدم خلطهما معًا... الأمر الذي يجعل الحصاد صعبًا أو مستحيلاً. ويرى البعض أن زراعة صنفين معًا يسبب تدهورًا لمحصولهما.

على أي الأحوال هذا الحقل الذي يُزرع بصنفين ليس بكنيسة الله التي تضم صنفًا واحدًا، هم أولاد الله القديسين، أو هو ليس بقلب المؤمن الحقيقي الذي يضم نورًا دون ظلمة.

الحقل الذي يضم صنفين هو القلب المتذبذب. الذي يخلط بين النور والظلمة، فلا يسلك بروح الإفراز والتمييز، بل يعرج بين الطريقين. أما قلب المؤمن فبسيط له هدف واحد، يسلك في النور ويرفض الظلمة، يقبل الحق ولا يطيق الباطل!

ثالثًا: يرى البعض أن وجود نوعين من الخيوط في النسيج كالكتان مع الصوف (تث 22: 11) يسبب التهابات جلدية وحساسية[254]. على أي الأحوال كنيسة المسيح هي توبة الذي من نسيج واحد، هو نسيج الروح الواحد والفكر الواحد غير المنقسم.

إذن في اختصار نقول أن الحيوان غير المهجّن يُشير إلى الجسد المقدس في الرب المثمر روحيًا والمنسجم مع النفس المقدسة، والحقل ذو الصنف الواحد يُشير إلى كنيسة الله التي تسلك في النور دون الظلمة، لها روح التمييز والإفراز، والثوب ذو النسيج الواحد هو وحدانية الروح والفكر!

7. شريعة السقوط مع جارية:

من يسقط في الخطية مع جارية لم تتحرر بعد ولم يفدها خطيبها يسقط الإثنان تحت التأديب غالبًا "الجلد"، ويقوم الزاني بتقديم ذبيحة إثم أما الجارية فإذ لا تملك شيئًا تُعفى من تقديم ذبائح. على أي الأحوال لابد من تقديم دم للتطهير حتى إن سقط الإثنان تحت التأديب.

إن كانت الأمة المخطوبة قد تحررت قبل السقوط ترجم مع من ارتكبت معه الخطية.

لعل سبب التساهل إلى حد ما بالنسبة للعبيد والجواري هو معاملة الله للشعب القديم كمبتدئين روحيًا، خاصة لإختلاطهم بالشعوب الوثنية المحيطة بهم. أما الآن إذ نضج المؤمنون فلا تمييز بين العبد والحر، بل كلاهما واحد في الرب (غل 3: 28).

8. شريعة بكور الأشجار:

قدمت لهم شريعة خاصة بثمار الأشجار التي يغرسونها في أرض الموعد، هذه نصها: "تحسبون ثمرها غرلتها، ثلاث سنين تكون لكم غلفاء لا يؤكل منها، وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسًا لتمجيد الرب، وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها، لتزيد لكم غلتها، أنا الرب إلهكم" [23-25].

من الناحية الزراعية يطالبهم حين يغرسون أشجار فاكهة ألا يأكلوا منها ثلاث سنوات، وذلك حتى متى ظهرت أي ثمار تقطع في بدايتها وتلقى، فلا تصاب الشجرة بعجز... ففي شجر الزيتون مثلاً لو فرح الغارس بالثمار في السنوات الأولى تمتص الثمار العصارة ويصيب الشجرة العجز، أما إن نُزعت الثمار في السنوات الأولى تنمو الشجرة، وفي السنة الرابعة يكون الثمر كثيرًا فيقدم كبكور لله، فتتقدس الشجرة وتبقى بقية عمرها لغارسها.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه الشريعة بقوله: [أيها الإخوة الأحباء، إننا لا نقدم البكور متى كانت فقيرة وضعيفة بل عندما تكون غنية ولائقة... لو أن الثمرة الأولى هي البكور لكان ما يجمع في السنة الأولى للرب. لكننا نجده يقول: "ثلاث سنين تكون لكم غلفاء، لا يؤكل منها" أتركها تسقط لأن الشجرة صغيرة، إنها ضعيفة وثمرها غير ناضج. لكنه يقول إنه في السنة الرابعة تكون مقدسًا للرب، وهنا نلاحظ حكمة المشرع الذي يمنع الأكل (في الثلاث سنوات الأولى) حتى لا يسبق أحد ويأخذ ثمرًا قبل الرب، ويمنع أيضًا تقديمها للرب حتى لا تقدم ثمرة غير كاملة... ها أنتم ترون كيف أنه لا تدعى الثمرة الأولى بالبكور بل الثمرة المتأهلة للتقديم[255]]. بهذه النظرة يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن آدم الأول هو ثمرة السنة الأولى الضعيفة بسبب الخطية فلم يُحسب بكرًا، لكن آدم الثاني، ربنا يسوع المسيح هو الثمرة اللائقة، البكر الحقيقي يشتمه الآب رائحة رضا.

يمكننا أن نقول إن الإنسان في السنة الأولى داخل الفردوس لم يعرف أن يقدم ثمرًا كبكور لله، وأيضًا بعد الطرد من الفردوس إذ خضع للناموس الطبيعي كما في السنة الثانية فشل أيضًا، وفي السنة الثالثة حين صار تحت الناموس الموسوي لم يجد الله من يصلح بكرًا بلا عيب، أما في السنة الرابعة عهد النعمة فقد وجد السيد المسيح البكر الحقيقي الذي قدمته البشرية من شجرتها للآب فتتقدس الشجرة كلها بسببه. هذا هو ثمر السنة الرابعة الذي به تقدسنا عبر العصور كلها!

9. أحكام عامة:

يختم هذا الأصحاح ببعض الأحكام العامة التي تمس قداسة شعب الله، جاءت غالبيتها تحذر من الأخطاء التي سقطت فيها الشعوب الوثنية المحيطة بهم، منها:

أولاً: "لا تأكلوا بالدم" [26]. يرى علماء اليهود أن هذه الشريعة تتضمن الآتي[256]:

أ. عدم أكل لحم الحيوان بدمه كما تنص الشريعة، وعدم أكل الدم نفسه.

ب. عدم أكل لحم الحيوان بعد ذبحه مباشرة إنما يجب الأنتظار حتى يُصفي دمه.

ج. الحديث هنا خاص بلحم الذبائح، لا تؤكل إلاَّ بعد تقديم الدم على المذبح للتكفير.

د. عدم أكل القضاة لحمًا في يوم حكموا فيه على إنسان بالموت.

هـ. يقصد بها تحاشي الشراهة في الأكل إذ حسبها معلمو اليهود أكل دم.

ثانيًا: "لا تتفاءلوا ولا تعيفوا" [26]. وهما دربان من فنون السحر والشعوذة يستخدمان لمعرفة المستقبل، ففي سفر التكوين (44: 5، 15) أظهر يوسف كيف يتفاءل المصريون بكأس الخمر الذي يشربونه، وذلك خلال الفقاعات التي تظهر على الخمر. أما العيافة فهي استخدام الطير في السحر ومعرفة الغيب.

ثالثًا: "لا تقصروا رؤوسكم مستديرًا، ولا تفسد عارضيك" [27]. أراد الله من شعبه ألا يتمثل بشيء مع الشعوب الوثنية، فمن عادات بعض الشعوب يقص الرجال شعرهم ويبقون جزءًا في شكل سطح مستدير وسط الرأس إرضاء لآلهتهم، لذلك دعاهم الوحي "مقصوصي الشعر مستديرًا" (إر 9: 26). أما العارضات فهما جانبًا اللحية يقصونها وتترك اللحية في الجزء الأسفل يغطى الذقن، هذا ما قصده بقوله "لا تفسد عارضيك".

تان العادتان من قص شعر الرأس مستديرًا وإفساد العارضين كانا إشارة إلى تكريس الإنسان لعبادة آلهة معينة وثنية، أما مكرسو الرب أو النذيرون فلا يعلو موسى رؤوسهم أو لحاهم. بقاء شعر الرأس يُشير إلى الكنيسة المجتمعة حول السيد المسيح رأسها، بدونه يفقد الشعر جماله وقيمته. كأن كل نفس تعتزل مسيحها تكون كشعر رأس سقطت عن مصدر حياتها لا تستحق إلاَّ إلقائها في سلة المهملات. أما بقاء شعر اللحية فيُشير إلى كرامة الكهنوت، فالمسيحي إذ يدخل مياه المعمودية يصير كاهنًا روحيًا بالمفهوم العام، يليق أن يحافظ على شعر لحيته الروحية أي سلوكه بما يليق كإبن لله وكاهنه.

رابعًا: "ولا تجرحوا أجسادكم لميت" [28]. كان الوثنيون في إفراطهم في الحزن على ميت يدهنون وجوههم بصبغة سوداء وزرقاء (هذه العادة كانت بصعيد مصر إلى وقت قريب" ويمزقون ثيابهم وأحيانًا يجرحون أجسادهم... كانت هذه التصرفات تكشف عن فقدان الرجاء وعدم الإلتصاق بالسماويات، لهذا يحذرنا الرسول بولس: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم، لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معه" (1 تس 4: 13-14).

أولاد الله إذ يرون الرب القائم من الأموات لا يجرحون أجسادهم بسبب حزنهم على الراقدين بل يقولون مع المرتل: "أنا ذاهب وأما هو فلا يرجع إليّ" (2 صم 12: 23)، مشتاقين أن ينطلقوا ليكونوا مع المسيح يسوع القائم من الأموات.

خامسًا: "وكتابة وشم لا تجعلوا فيكم" [28]. كانت الشعوب القديمة ترسم آلهتها الوثنية على أجسادهم كوشم علامة تعلقهم بهذه الآلهة والتمتع ببركتها. وها نحن الآن في الغرب البعض يرسم وشمًا على صدره أو ذراعيه لنساء عاريات أو حيوانات مرعبة وشياطين... ويا للعجب، عوض أن يقدم الإنسان جسده آلة برّ لحساب الله يسلمه حتى في تزينه للأثارة الجسدية والأرواح الدنسة!

سادسًا: "لا تدنس إبنتك بتعريضها للزنى لئلا تزني الأرض وتمتلئ الأرض رذيلة" [29]. قديمًا كان بعض الرجال يسلمون بناتهم للزنى لأجل مكسب مادي أو كعمل تعبدي للآلهة الوثنية كناذرات أنفسهن للدنس والرجاسة لحساب الهياكل الوثنية. من هي هذه الإبنة التي ندنسها إلاَّ النفس التي تنحرف عن غايتها فتجري وراء شهوات الجسد فتمتلئ أرضنا "جسدنا" رذيلة.

سابعًا: "سبوتي تحفظون، ومقدسي تهابون، أنا الرب" [30]. إذ يحذرهم من التصرفات الوثنية يذكرهم بحفظ السبت لا خلال ممارسة طقس السبت الذي نتحدث عنه في الأصحاح 23، ولا بالإمتناع عن العمل وإنما بحفظهم من دنس الأمم ورجاستهم وتقديس حياتهم الداخلية، لذلك يقول "ومقدسي تهابون"... أي تكرمون بيتي ومقدساتي.

ربما قصد هنا بحفظ السبت وتكريم بيته طهارة الجسد كما أمر يعقوب بنيه عندما كان يستعد لإقامة بيت الرب في بيت إيل (تك 25: 2-3)... على عكس كثير من الوثنيين كانوا يجدون في العبادة فرصة للإباحية والدنس.

ليتنا نقدس يوم الرب وبيت الرب الداخلي بسلوكنا بما يليق كأولاد لله القدوس.

ثامنًا: "لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع فتتنجسوا بهم، أنا الرب إلهكم" [31]. إذ سبق فمنعهم من التفاءل والعرافة [26] أي من أعمال السحر لمعرفة المستقبل، متكلين على الرب إلههم الذي يدبر كل مستقبل حياتهم، والآن يحذرهم من التشبه بالوثنيين الذين يلجأون إلى الأرواح الشريرة (الجان) والأرواح النجسة مثل روح العرافة الذي أخرجه الرسول بولس (أع 16: 16-18)... فيكون الرب نفسه هو معين لهم والمعتني بكل دقائق حياتهم.

تاسعًا: "من أمام الأشيب تقوم وتحترم وجه الشيخ، وتخشى إلهك، أنا الرب" [32].

يربط بين احترام الأشيب (الشخص المسن) والشيخ وخشية الرب، فكل وقار نقدمه للآخرين من أجل الوصية إنما هو خلال اتحادنا في الرب، نقدمه للرب نفسه.

كان عادة اليهود ألا يجلس إنسان صغير السن في حضرة شيخ ما لم يسمح له الأخير بذلك.

عاشرًا: "وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه" [33]. غالبًا ما يضم الغريب مع اليتيم والأرملة في الوصية من جهتهم (تث 10: 18)، إذ يشعر الغريب كمن هو متيتم ليس له معين... لهذا يليق بالمؤمن ألا يظلم غريبًا بل يترفق به ويسنده، متذكرًا أنه هو أيضًا غريب على الأرض يحتاج إلى مساندة الله وترفقه به.

حادي عشر: "لا ترتكبوا جورًا في القضاء، ولا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل" [35]. هكذا يختم الوصايا هنا بالإلتزام، بالعدالة وعدم الغش أو الظلم. ليكن لنا كيل حق، يأخذ كل إنسان حقه.

ولعل الكيل الحق يُشير إلى روح التمميز الداخلي، فنعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لنعطِ للجسد حقه في الحياة بلا لذات وترف، وللنفس حقها في حمل صورة خالقها ومثاله حتى تستريح في أحضانه ويستريح معها الجسد.

ويرى الأب ثيؤناس أن الموازين الصالحة غير الظالمة تعني ألا نزن أنفسنا بميزان التساهل وللآخرين بميزان القسوة والعنف، إذ يقول: [يجدر بنا ألا تكون في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضمائرنا، بمعنى أنه يجب علينا ألا نحطم من يجب أن نكرز لهم بكلمة الرب بشرائع حازمة مبالغ فيها أثقل مما نحتمله نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحرية ونخفف عنها... لأننا إن كنا نزن لإخوتنا بطريقة ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة وذلك كقول سليمان بأن الوزن المزدوج مكرهة عند الرب، والميزان غير صالح في عينيه (راجع أم 20: 10) [257]].

<<

 


 

الأصحاح العشرون

الأوثان والزنا

في الأصحاحين السابقين إذ قدم لنا الوحي شريعة التقديس معلنًا أن غايتها الإلتصاق بالله القدوس، ومكررًا للعبارة "أنا الرب إلهكم" في نهاية كل وصية تقريبًا، مطالبًا إيانا أن نتقدس له فتكون لنا سماته عاملة فينا تفرزنا عن الوثنين... الآن يقدم عقوبات صارمة ضد مرتكبي الشر خاصة السحر والزنا. أما علة هذه الصرامة فهو الكشف عن فاعلية الشر داخل النفس، هذا من جانب ومن جانب آخر تطهير الجماعة المقدسة من الخميرة الفاسدة حتى لا يفسد الكل.

إن كانت العقوبات تناسب رجال العهد القديم لكنها في نفس الوقت ترعبنا كرجال عهد جديد، إذ توضح لنا بشاعة الخطية والتزامنا الهروب منها.

1. مقدمة في العقوبات الكنسية

2. عقوبة السلوك الوثني             [1-8].

3. عقوبة إهانة الوالدين             [9].

4. عقوبة الزنا                       [10-21].

5. تأكيد الإلتزام بالوصية             [22-27].

1. مقدمة في العقوبات الكنسية:

كانت العقوبات في العهد القديم قاسية، ربما لأن الله كان يتعامل مع شعب بدائي في معرفته لله غليظ الرقبة، فمن محبته لهم استخدم الشدة لا للإنتقام وإنما لردع الكل بسقوط البعض تحت عصا التأديب القاسية. فما سمح الله به من تأديبات أو عقوبات كان علامة إهتمام الله بشعبه ورغبته في خلاصهم وتقديسهم. هذا بجانب ما كان لهذه التأديبات من كشف عن فاعلية الخطية في القلب والحياة الداخلية... فرجم الزاني إنما يكشف عما أصاب قلبه في الداخل من هلاك حقيقي وموت أبدي، فإن كنا نئن لرجم إنسان يليق بنا بالحرى أن نحترق من أجل هلاك نفسه. أما في العهد الجديد فإن الكنيسة لا تستخدم العقوبات الجنائية القاسية إذ تتعامل مع أولادها على مستوى النضوج، لكنه من حقها فرض العقوبة التأديبية لتجتذب الساقطين نحو التوبة، كما فعل بولس الرسول مع الشاب الذي إرتكب الشر مع إمرأة أبيه (1 كو 2: 6-7). إذ أفرزه عن الكنيسة حتى قدم توبة صادقة، فأسرع الرسول يكتب إلى الكنيسة أن تقبله حتى لا يهلك من فرط الحزن (2 كو 2ك 6-7).        من جانب آخر العقوبات الواردة في العهد القديم تمثل القانون الجنائي بعقوباته، أما في العهد الجديد فتركت المسيحية التشريعات المدنية والجنائية... إلخ، يضعها رجال القانون بما يناسب العصر والبلد، إذ جاءت المسيحية تهب الفكر والنضوج وتترك التنظيم والتشريع للجماعة.

2. عقوبة السلوك الوثني:

جاء الحكم على من يعطي من زرعه أي من نسله للإله مولك ذبيحة بشرية يُرجم [2]، سواء كان يهوديًا أو متهودًا (الغرباء النازلون في إسرائيل)، فإن تهاونت الجماعة في أمره ولم ترجمه يقف الرب نفسه ضد ذلك الإنسان [3] ويحسبه مقطوعًا من الشعب [3] كما يقف ضد عشيرته كلها.

هذا الحكم أيضًا ينطبق على من يلجأ إلى الجان يستشيره أو يطلب معونته [6]، ومن يجري وراء الأرواح الشريرة (التوابع)، فيُحسب زانيًا، إذ ترك الله عريس نفسه وطلب لنفسه عريسًا آخر [6].

وقد جاء الحكم بالرجم في الحالات الآتية:  تقديم الإنسان من نسله ذبائح بشرية  للإله مولك (20: 2)، الزنا مع الأم (20: 11)، أو مع زوجة الأب (20: 12)، أو الكنة (20: 12)، أو مع عذراء مخطوبة (22: 23-24)، أو من يضاجع ذكرًا (20: 15)، أو بهيمة (20: 16)، أو يلجأ إلى السحرة (20: 27)، ومن يسب أحد الوالدين (20: 9)، أو من يدعى النبوة كذبًا (تث 13: 6)، أو من يجدف (24: 10-16)، أو من يكسر السبت (تث 20: 32-36)، أو يحث الناس على عبادة الأوثان (تث 13: 6-11)، أو يمارسها (تث 17: 2-5)...إلخ[258].

وكان الرجم يتم بأحد طريقتين: الأول، كان المحكوم عليه يُطاف به في المدينة حتى إن كان لأحد اعتراض يتقدم، ومن ناحية أخرى ليكون عبرة للكل. وقبيل الرجم كان يلزم أن يعترف بخطاياه أولاً ليظهر أن الحكم عليه عادل ولكي تتزكى روحه ويجد رحمة لدى الله. تُربط يداه وهو على مكان مرتفع في أسفله حجر ضخم، يقوم الشاهد الأول بدفعه من المكان المرتفع ليسقط مرتطمًا بالحجر السفلي، ثم يقوم الشاهد الثاني بإلقاء حجر كبير على صدره، فإن لم يمت ترجمه الجماعة حتى الموت. أما الطريقة الثانية فتتلخص في الرجم بالحجارة مباشرة، وغالبًا ما يعطى للمحكوم عليه خمرًا ممزوجًا بمرارة تخفف آلامه.

3. عقوبة إهانة الوالدين:

"كل إنسان سب أباه وأمه فإنه يقتل... دمه عليه" [9]. من يسب الله أباه والجماعة المقدسة أمه خلال تقديم إبنه أو إبنته ذبيحة بشرية لمولك إله العمونيين يُرجم، وأيضًا من يسب أباه أو أمه حسب الجسد يُرجم.

يعلق العلامة أوريجانوس على هذه الشريعة بقوله: [من بين الخطايا التي عقوبتها الموت في الناموس الإلهي: "كل إنسان سب أباه أو أمه فإنه يُقتل". لقب "أب" يعني سرًا عظيمًا، وأيضًا لقب "أم" يحمل كرامة. حسب الروح الله هو أبوك وأورشليم السماوية هي أمك (غلا 4: 26، عب 12: 22). هذا ما نتعلمه من التصريحات النبوية والرسولية، إذ يكتب موسى في نشيده:  "أليس هو أباك ومقتنيك؟!" (تث 32: 6)، ويقول الرسول عن أورشليم السماوية: "هي أمنا جميعًا، فهي حرة" (غلا 4: 26). الأب الأول بالنسبة لك هو الله الذي ولد روحك، إذ يقول "ربيت بنين ونشأتهم" (إش 1: 2)، ويقول الرسول بولس: "إخضعوا لأبي الأرواح فتحيا" (عب 12: 9). أما الأب الثاني فهو أبوك الجسدي الذي أنجبك فجئت إلى هذا العالم... فلأن لقب "أب" مقدس وذو جلال لذلك من سب أباه أو أمه يُقتل... فإنك إن لم تكرم أباك الجسدي تكون إهانتك له موجهة إلى أبي الأرواح (عب 12: 9). إن شتمت أمك الجسدية فإن هذا السب يُنسب للأم أورشليم السماوية. من يهين العبد (أباه أو أمًا) يسيىء إلى إله المجد[259]].

مرة أخرى يقول: [إن كان الحكم هذا لمن يسب أسرته الجسدية، فكم بالأكثر من يهين الله بكلمات سب وينكرون إنه خالق العالم؟! أو من يسيئ إلى أورشليم السماوية التي هي أمنا كلنا (غلا 4: 26)؟![260]].

ربما يتساءل البعض إن كانت شريعة العهد القديم قد حكمت برجم من يسب أباه وأمه، فهل صمت العهد الجديد عن إصدار حكم كهذا يعني تساهله؟ يُجيب العلامة أوريجانوس هكذا: [يقول بولس الرسول: "فكم عقابًا أشر تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس إبن الله؟!" (عب 10: 29)... لا تظن أن الإنجيل سهلاً بطريقة مطلقًا من أجل فتحه باب المغفرة[261]]. كأن العهد القديم حكم على من يسب أحد والديه بالرجم، أما العهد الجديد فحسب ذلك إهانة لدم إبن الله نفسه.

يؤكد الآباء إلتزام المؤمن بالطاعة للوالدين لكن في الرب، فمن كلمات القديس كيرلس الأورشليمي: [عندما تكون مشاعرنا نحو آبائنا الأرضيين مضادة لعلاقتنا بالآب السماوي يلزم العمل بقول الرب "من أحب أبًا أو أمًا أكثر منيّ فلا يستحقني" (مت 10: 37). لكنهم ماداموا لا يعارضون تقوانا نُحسب ناكرين للجميل إن احتقرنا حسناتهم نحونا ونستوجب الحكم: "من لعن أباه أو أمه فليقتل قتلاً" (خر 21: 7، مت 15: 4)[262]].

4. عقوبة الزنا:

بعد أن أعلن عقوبة العبادة الوثنية، سبّ أحد الوالدين، تحدث عن عقوبة الزنا بوجه عام ثم حدد بعض الحالات الشائنة، ويلاحظ في حديثه عن هذا الأمر الآتي:

أولاً: جاء الحكم بقتل الزاني والزانية إن كانت الزانية متزوجة [10]، ويكون ذلك بالرجم. وينطبق ذات الحكم على المخطوبة لرجل وأخطأت بإرادتها (تث 22: 23-24)، أما إذا كانت غير مخطوبة، فيلتزم الزاني بدفع غرامة والزواج من الفتاة.

أما إذا أخذ رجل إمرأة وأمها، سواء وهما على قيد الحياة أم ماتت الواحدة فتزوج بالأخرى فجاء الحكم هكذا: "بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم" [14]. ويسقط تحت ذات الحكم إن سقطت إبنة كاهن في الزنا (تث 21: 9)، أو سقط إنسان في الخطية مع إبنته أو حفيدته، أو مع بنت زوجته أو حفيدتها أو من يرتكب الخطية مع أم حماته أم حميه....‎ يتم الحرق غالبًا بعد الرجم، فإن كان الرجم بالحجارة  يكشف عما فعلته الخطية بالإنسان، إذ جعلته  كحجر بلا إحساس، أو كأن الإنسان الزاني يرجم نفسه بنفسه بقلبه الحجري، أما حرقة بالنار فيُشير إلى بشاعة شره إذ ألهبت مشاعرة بنيران تهلك نفسه.

أما العقوبة الأخرى فهي متى ارتكب إنسان شرًا مع إمرأة عمه يقول: "يموتان عقيمين" [20]، ويسقط الإنسان تحت نفس الحكم إن صنع شرًا مع إمرأة أخيه [12]. هنا ربما يعني أن الله يضربهما بالعقم (هو 4: 10)، أو بموت نسلهما وحرمانهما منه، أو أن هؤلاء الأولاد يُحسبون نغولاً لا بنين، أي أولاد غير شرعيين ليس لهم حق البنين.

ثانيًا: تبرز الشريعة مدى كراهية الله للنجاسة بحكمه حتى على البهيمة التي بلا ذنب ارتكب معها الشر بالقتل [16]، حتى لا يُترك أثر للخطية... أو لإعلان إنها مفسدة حتى للخليقة غير العاقلة.

ثالثًا: حين يرتكب الإنسان شرًا مع سيدة يُهين رجلها، فإن ارتكبه إنسان ما مع إمرأة أبيه مثلاً يقول: "فقد كشف عورة أبيه" [11]. فإن كانت السيدة شريرة وقبلت برضاها الخطية فإنها تنجست وفي نفس الوقت أساءت لرجلها لأنها معه جسد واحد.

5. تأكيد الإلتزام بالوصية:

يختم حديثه هنا بتأكيد الإلتزام بالوصية الإلهية حتى لا تقذفنا الأرض نفسها كما سبق فقذفت الكنعانيين بسبب شرهم، ولكي يكون لنا سمة خاصة وشهادة حق لله القدوس العامل فينا، أما ما هو أهم من هذا كله فهو كما يقول الرب: "وتكونون ليّ قديسين لأنيّ قدوس" [26]. يريدنا له نحمل سماته لنشاركه أمجاده كأولاد مقدسين فيه... إنه يؤكد: "تكونون ليّ"!

<<

 


 

الأصحاح الحادي والعشرون

شرائع خاصة بقداسة الكهنة

إذ قدم شرائع السابقة التي تمس حياة الجماعة كلها – شعبهًا وكهنة – يقدم الآن شرائع خاصة بالكهنة ليمارسوا الحياة المقدسة التي تليق بهم ككهنة الرب القدوس [6]، الذين يقدمون له القرابين [6-8]، وكقادة روحيين [8]، إذ كلما ازدادت المسئولية إلتزم الإنسان بحياة أكثر تدقيقًا.

1. الكهنة وحالات الوفاة             [1-6].

2. الكهنة والزواج                    [7-8].

3. سقوط إلنة كاهن                  [9].

4. شرائع خاصة برئيس الكهنة      [10-15].

5. الكهنة والعيوب الخلقية           [16-24].

1. الكهنة وحالات الوفاة:

يليق بالكاهن وقد قبل الأبوة في المسيح يسوع أن يرتفع فوق العواطف البشرية الخاصة، فيرى في الكل أولاده وإخوته وأحباءه بلا تمييز، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الكاهن بما أنه وكيل الله، فيلزمه أن يهتم بسائر البشر، لكونه أبًا للعالم كله[263]]. خلال هذه الأبوة العامة طالبته حتى شريعة العهد القديم ألا يحزن لموت أحد أقربائه ويتنجس "لموت في قومه" [1]، وقد استثنى من ذلك الأب والأم والإبن والإبنة والأخ والأخت غير المتزوجة [2-3].

هذه الشريعة قدمها رب المجد بفكر إنجيلي حينما قال: "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22، لو 9: 60)، إذ يليق بالخادم ألا يرتبك حتى بهذه الواجبات العائلية من أجل خدمته للجماعة كلها. وكما يقول العلامة ترتليان: [إنه يكرس نفسه لله... أظن أنه يليق بالنذير ومن نال وظيفة الكهنوت أن يُلهم بالكرازة بملكوت الله[264]...].

حسب الشريعة الموسوية الكاهن لا يلمس ميتًا من أقربائه عدا أقرب الذين ذكرناهم، وحتى في حزنه على هؤلاء يليق به ألا يمارس العادات الوثنية الممنوعة حتى بالنسبة للشعب مثل حلق شعر الرأس فيصير أقرع، وحلق عوارض اللحية، وتجريح الجسد. إن كانت هذه الأمور لا تليق بالشعب فكم بالأكثر بالنسبة للكاهن الذي يقرب وقائد الرب [6] ويخدم الأقداس!

2. الكهنة والزواج:

حسب الشريعة الموسوية لا يجوز للكاهن أن يتزوج من زانية حتى وإن تابت ولا من مدنسة أو مطلقة... حتى يكون هو وزوجته بلا عيب في عيني الله والناس، بكونهما قدوة صالحة للشعب. أما رئيس الكهنة فلا يجوز له حتى الزواج بأرملة بل يتزوج عذراء، لأنه يُشير إلى السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم الذي اقتنى الكنيسة عذراء له عفيفة (2 كو 11: 2).

3. سقوط إبنة الكاهن:

"وإذا تدنست إبنة كاهن بالزنى فقد دنست أباها، بالنار تُحرق" [9].

إذ يقبل الكاهن نعمًا إلهية كثيرة يلزمه أن يكون هو وزوجته وأولاده بلا عيب، كل خطأ يرتكبه أحدهم يُعاقب بحكم أقسى مما يسقط تحته الشخص العادي. وكما يقول القديس كيرلس الإسكندري: [في حالة عائلة الكاهن تزداد العقوبة، لأن كل من أعطى كثيرًا يُطلب منه الكثير" (لو 12: 48)[265]].

4. شرائع خاصة برئيس الكهنة:

رئيس الكهنة أو الكاهن الأعظم كما يدعوه هنا [10]، إذ يرمز للسيد المسيح رئيس كهنتنا الأعظم خضع لشرائع خاصة به، منها:

أولاً: "الذي صب على رأسه دهن المسحة وملئت يده ليلبس الثياب لا يكشف رأسه ولا يشق ثيابه" [10]. لا يجوز له أن يكشف رأسه التي مسحت بدهن المسحة، فإن الرأس الممسوحة تُشير إلى السيد المسيح (راجع تفسير لا 2)، وكأنه إذ قبلنا المسيح يسوع فينا نخفيه في أعماقنا، قائلين: "أمسكته ولم أرخِه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بيّ" (نش 4: 12)، إنما هي الجنة التي حملت في داخلها مسيحها شجرة الحياة، والينبوع الذي يمتلىء بمياه الحياة والينبوع الذي لا ينضب لأن رب المجد في داخله!

ليكن عريسنا في داخلنا كما في جنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم... نفرح به ونتحد معه ونشاركه أمجاده الداخلية!

أما عدم شق الثياب، فلأن الثوب يُشير إلى الكنيسة التي يلتحف بها السيد المسيح. لتبق كنيسة واحدة بلا انشقاق، فإن عريسها واحد!

ثانيًا: "ولا يأتي إلى نفس ميتة ولا يتنجس لأبيه أو أمه" [11]. يقصد بذلك أنه لا يمس ميتًا حتى وإن كان أباه أو أمه... بكونه رمزًا للسيد المسيح فإنه كواهب حياة لا يشترك مع الموت، إن مس ميتًا لا يحتمل الموت لمسته بل يهرب!...

هكذا إذ حمل الرسول بولس في داخله السيد المسيح الذي لا شركة له مع الموت أو الهاوية، بجسارة قال: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية هي الناموس، ولكن شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 55-56).

ثالثًا: "ولا يخرج من المقدس لئلا يُدنس مقدس إلهه، لأن إكليل دهن مسحة إلهه عليه" [12]. يعني بهذا إنه متى كان يؤدي خدمته في بيت الله لا يجوز أن يخرج من خيمة الإجتماع ولا يتوقف عن العمل أيًا كان السبب حتى إن مات له أقرب المقربين، فإن تركه للخدمة يُحسب إمتهانًا لهذا العمل القدسي واحتقارًا للمجد الذي زينته به المسحة على رأسه.

يعلق القديس جيروم على هذه الشريعة بقوله: [بالتأكيد إذ نؤمن بالمسيح نحمله فينا، وبسبب زيت المسحة التي تقبلناها يلزمنا ألا نفارق الهيكل، أي لا نترك عملنا المسيحي، ولا نخرج خارجًا فنرتبك بأعمال الأمم غير المؤمنين إنما نبقى في الداخل على الدوام كخدام مطيعين لإرادة الرب[266]].

ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم[267] في هذه الشريعة صورة حية لقلب المؤمن الذي يصير مقدسًا لله ومسكنًا له (رو 6: 16)، فلا تمارس فيه أعمال بشرية بل ما هو إلهي. لذلك كل كلمة تخرج من فمه تكون خارجة من عند الله، فلا تخرج منه كلمة دنسة ولا يبتهج بالمزاح وكثرة الضحك. بمعنى آخر إذ نتبرر بربنا يسوع المسيح تصير مسكنًا لرئيس الكهنة الذي لا يفارقنا، لأننا مقدسه، وتكون تصرفاتنا إنما هي تصرفاته فينا وبنا.

بنفس المعنى يقول الأب نسطور: [هذا يعني إنه لا يخرج (السيد المسيح) من قلبه، إذ وعد أن يسكن فيه إلى الأبد، قائلاً: "إنيّ أسكن فيهم وأسير بينهم" (2 كو 6: 16)[268].

رابعًا: "هذا يأخذ إمرأة عذراء" [13]. يشترط أن تكون زوجته عذراء من قومه [14]. وقد استنتج بعض المفسرين أن رئيس الكهنة كان يلتزم أن يكون بعل إمرأة واحدة، يأخذها عذراء. هذه الإمرأة هي بكر، وكما يقول الرسول "كنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 13).

إنها من قومه وليست أجنبية، إذ صرنا في مياه المعمودية جسد المسيح، لسنا أجنبين عنه، بل أعضاء جسده، ووهب لنا روحه القدوس ساكنًا فينا!

5. الكهنة والعيوب الخلقية (الجسدية):

إشترطت الشريعة في الكاهن الذي يمارس الأعمال الكهنوتية كتقديم الذبيحة والبخور... ألا يكون به عيب، فلا يكون أعمى أو أعرج ولا أفطس ولا زوائدي ولا أحدب ولا أكشم ولا من في عينه بياض ولا أجرب ولا أكلف ولا مرضوض الخصي [18-19]. لذلك عندما يبلغ أبناء الكهنة السن القانوني لاستلام العمل الكهنوتي يفحصهم الشيوخ أعضاء مجمع السنهدريم ويفرز الذين بلا عيب للعمل الكهنوتي الكامل أما من به عيب فيقوم ببعض أعمال كهنوتية بسيطة مثل إيقاد النار... إلخ.

في العهد الجديد إشترط بولس الرسول في الأسقف أن يكون بلا عيب (1 تي 3: 2)، وأن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج (1 تي 3: 7). وقد رأى البابا غريعوريوس (الكبير) في الشريعة التي بين أيدينا فهمًا رمزيًا لشروط الكاهن، إذ يجب ألا يقبل من كان أعمى أو أعرج أو أفطس... روحيًا، وفيما يلي مقتطفات من كلماته التي وردت في حديثه عن "الرعاية":

 [الأعمى هو الذي لا يعرف ضياء التأمل السمائي، فالذي أدركته ظلمة العالم الحاضر لا يستطيع أن يدرك النور الآتي لأنه لا يشتاق إليه. لذلك فهو لا يعرف أن يخطو أو يعرف إلى أين يمضي، ومن ثم قالت حنه النبية: "لأجل أتقيائه يحرس والأشرار في الظلام يصمتون" (1 صم 2: 9).

الأعرج هو الذي يعرف حقًا الطريق لكنه لا يستطيع أن يسير فيه بثبات بسبب نفسه العليلة، ولأنه لا يستطيع أن يرتفع بعاداته القبيحة إلى مستوى الفضيلة، فإنه لا يملك القوة ليسلك تبعًا لإرادته. لذلك قال القديس بولس الرسول: "قوِّموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة واصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحرى يُشفي" (عب 12: 12-13).

الأفطس هو الذي يعجز عن التمييز، فنحن نميز بحاسة الشم الروائح الذكية من العفنة. إن هذه الحاسة تُشير حقًا إلى حاسة التمييز التي بها نختار الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل في مدح الكنيسة العروس: "أنفك كبرج لبنان" (نش 7: 4). فالكنيسة المقدسة تدرك تمامًا بالتمييز التجارب التي تُثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدمًا    - من فوق برجها - معارك الشر المزمعة أن تحدث.

الزوائدي... بعض الناس ينشغلون دائمًا بأسئلة فضولية أكثر من اللازم، وهم لا يعترفون أنهم أغبياء، ولكنهم يفرطون في الثقة بنفوسهم، لذلك أضاف الكتاب قائلاً: "ولا زوائدي". ومن الواضح أن الأنف الكبير المنحني يعبر عن إفراط في التمييز، وهذا الإفراط يشوه كمال هذه الحاسة وجمالها.

الرجل الذي فيه كسر رجل وكسر يد هو الذي لا يستطيع مطلقًا أن يسير في طريق الله وقد تجرد تمامًا من نصيب الأعمال الصالحة. في هذا يختلف عن الأعرج الذي يمكنه - ولو بصعوبة - الإشتراك في الأعمال الصالحة، أما المكسور فقد تجرد منها تمامًا.

الأحدب هو الذي يرزح تحت ثقل الهموم العالمية فلا يمكنه أن يرفع عينيه إلى ما هو فوق بل يُثبتها على موطئ الأقدام حيث أدنى الأشياء. وهو إن سمع أخبارًا سارة عن مسكن الآب السماوي فإنه - تحت ثقل عاداته الشريرة - لا يستطيع أن يرفع محيا قلبه ولا يستطيع حتى أن يرتفع بفكره الذي ربطته الهموم العالمية إلى الأرض. هذا الإنسان يقول عنه المرتل داود: "لويت إنحنيت إلى الغاية" (مز 38: 6). ويقول الإله المتجسد عن هؤلاء رافضًا آثامهم: "والذي سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها ولا ينضجون ثمرًا" (لو 8: 14).

أما الأكشم أو من على عينيه غشاوة فهو الذي بنظراته الطبيعية يضيئ بمعرفة الحق لكن عينيه اظلمتا بالأعمال الجسدية، فالعين التي عليها غشاوة تكون حدقتها سليمة لكن الجفون تضعف وتنتفخ بسبب الإفرازات وتذبل بسبب سيل الدموع فتضعف حدقة العين. إن البعض تضعف بصريتهم بسبب الحياة الجسدية، هؤلاء كان لهم قدرة تمييز الخير لكن بصيرتهم اظلمت بسبب اعتيادهم فعل الإثم. الذي على عينيه غشاوة هو الذي كان له بالفطرة فطنة الحواس لكنه شوهها بحياته الفاسدة. لمثل هؤلاء يقول الملاك: "كحل عينيك بكحل لكي تبصر" (رؤ 3: 18). إن كحلنا عيوننا بكحل لنبصر فإننا نقوى عيون أفهامنا بأدوية الأعمال الصالحة لتبصر بريق النور الحقيقي.

أما الذي في عينيه بياض فهو الذي حرم من معاينة النور الحقيقي بسبب عماه مدفوعًا بادعاء الحكمة والصلاح. إن حدقة العين تبصر إن كانت سوداء لكن إن كان بها بياض فهي لا تبصر شيئًا، فمن الواضح أنه حينما يدرك الإنسان أنه أحمق وأثيم فإنه يفهم بقوى عقله مدى وهج الضياء الداخلي، لكنه إذ يعزي إلى نفسه إشراق الحكمة والصلاح فإنه يحجز عنها ضياء المعرفة الفائق، أما بالنسبة لكبرياء مجده الذاتي فإنه يعبث إذ يحاول إدراك بريق النور الإلهي فقد قيل عن البعض: "بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رو 1: 22).

أما الإنسان الأجرب فهو الذي يسوده دائمًا بطر الجسد. ففي حالة الجرب تنتثر الحرارة الداخلية على الجلد، وهذه الحالة تمثل الدعارة تمامًا. وهكذا عندما يُترجم إغراء القلب بالأفعال فإننا نستطيع أن نقول أن الحرارة الداخلية تنتثر كما ينتثر الجرب على الجلد، أما الأذى الظاهر الذي يلحق بالجسد فإنه يطابق هذه الحقيقة. إنه كما أن الشهوة إذا لم تخضع في الفكر فإنها تسود بالفعل، لذلك كان بولس مهتمًا بتطهيرها كما لو كانت جربًا على الجلد فقال: "لم تصبكم تجربة إلاَّ بشرية" (1 كو 10: 13). وكأنه يُريد أن يوضح أنه كبشر لابد أن نقاسي من تجارب الفكر، ولكن إن تغلبت علينا في وسط حربنا معها واستقرت في قلوبنا فإن هذا يكون من الشيطان.

أما الأكلف فقد أتلف الطمع عقله، فإن لم يضبط هذا الطمع في الأمور الصغيرة فإنه سيسود على حياته كلها. إن الكلف يغزو الجسد لكنه لا يسبب آلامًا، وينتشرعلى المريض دون أن يُضايقه، لكنه يشوه جمال الأعضاء، وهكذا الطمع أيضًا إذ يملأ عقل ضحيته بالسرور إلاَّ أنه يُنجسه. وإذ يضع أمام الفكر أشياء ليقتنيها فإنه يثيره بالبغضة والعداوة. أما أنه لا يسبب آلامًا فهذا لأنه يعد النفس العليلة بأشياء كثيرة وفيرة ثمنًا للخطية. أما أن جمال الأعضاء يتشوه فهذا لأن الجشع يشوه جمال الفضيلة، أي أن الجسد كله يفسد حقًا إذا ملأت الرذائل نفس الإنسان، لذلك يقول القديس بولس بحق: "لأن محبة المال أصل لكل الشرور" (1 تى 6: 10).

أما مرضوض الخصي، مع أنه لا يفعل النجاسة إلاَّ أنه يرزح تحت نير التفكير الدائم فيها بإفراط، ومع أنه لم يتدنس أبدًا بالفعل إلاَّ أن قلبه افتتن بلهو الدعارة دون أي وخز للضمير. إن مرض إرتضاض الخصية يحدث نتيجة دخول سائل داخلي في الخصية فيسبب مضايقات وتورم معيب. فمرضوض الخصي إذن هو الذي يترك لفكره العنان في الأمور التي تحرك الشهوة، وبذلك يحمل في قلبه حملاً دنيئًا لا تستطيع نفسه أن تلقيه عنها وهو يفتقر في نفس الوقت إلى القوة ليرتفع بنفسه إلى التدرب العلني على الأعمال الصالحة إذ هو يرزح تحت ثقل أعماله الفاضحة الخفية.

إذن فليمتنع كل من به إحدى هذه العيوب التي سبق ذكرها عن تقديم خبز الرب، لأنه لا يستطيع إنسان أن يكفر عن ذنوب الآخرين مادامت نقائصه الشخصية تملك عليه[269]]. 

<<


 

الأصحاح الثاني والعشرون

شرائع خاصة بقداسة المقدسات

من أجل تقديس شعب الله قدم شرائع خاصة بالشعب حتى يتجنبوا كل ما يمكن أن يسيئ إلى حياتهم المقدسة في الرب، وألزم الكهنة أن يسلكوا بحياة مقدسة تليق بمن يخدم لأجل تقديس الشعب، وأخيرًا يتحدث عن الذبيحة المقدسة التي من خلالها يتقدس الشعب بكونها رمزًا للسيد المسيح الذبيح واهب القداسة.

1. الإستعداد لتناول الذبيحة المقدسة           [1-9].

2. فرز الذين لهم حق تناولها                  [10-16].

3. فرز الذبيحة ذاتها قبل تقديمها              [17-28].

4. أكل ذبيحة الشكر في ذات اليوم             [29-33].

1. الإستعداد لتناول الذبيحة المقدسة:

في هذه الشرائع يعلن الله قدسية الذبيحة، لذا يُحذر الكهنة من أكل نصيبهم منها بلا استعداد، إذ يقول: "كلم هرون وبنيه أن يتوقوا أقداس بني إسرائيل التي يقدسونها ليّ، ولا يدنسوا إسمي القدوس، أنا الرب" [2]. وكأنه يقول لرئيس الكهنة والكهنة أن ما يتمتعون به من أنصبة في الذبائح ليست عطية لإشباع بطونهم أو شهواتهم، إنما هو عمل قدسّي يلزم ممارسته بفكر روحي واستعداد خاص، يلزمهم ألا يقتحموا أقداس الله ويدنسوا إسمه القدوس بأكلهم من الذبيحة بغير استعداد. يقول "أنا الرب"، أنا أغير إسمي ومقدساتي التي تتدنس بالكهنة المستهترين.

إن كان الله في حبه للإنسان جعل من البشر كهنة ينالون نصيبًا من الذبيحة يُحسب كنصيب للرب، فيليق بهم كوكلاء الله أن يقابلوا الحب بقدسية ومهابة لا باستهتار واستخفاف. أما الإستعداد الذي التزم به كهنة العهد القديم للتمتع بنصيبهم في الذبيحة المقدسة فهو: ألا يكون الكاهن أبرصًا أو مصابًا بسيل (ص 15)، ولا مس ميتًا أو أشياء تتعلق بميت (ص 21)، ولا مس حيوانًا نجسًا، ولا اقترب من زوجته... فإن كان الكاهن قد تنجس بلمسه شيئًا أو إنسانًا دنسًا يبقى طول يومه نجسًا يحرم من ممارسة عمله الكهنوتي ومن التمتع بنصيبه ككاهن بالأكل من الذبيحة حتى المساء حيث يرحض جسده [6]، ثم يأكل من الأقداس بكونه طاهرًا.

إذا صارت الذبيحة في ملكية الله، وقدمت على مذبحه، فإن أكل الكهنة منها كان إشارة إلى الشركة بين الله والإنسان، وإتمامه المصالحة. هذه الشركة أو المصالحة تتحقق بين الله القدوس والإنسان الذي يتقدس به وفيه. لهذا ألزمت الكنيسة كهنتها وشعبها ألا يشتركوا في التناول من الذبيحة المقدسة باستهتار، وإنما يلزم الإستعداد لها روحيًا وجسديًا. يغتسل الإنسان بدموع التوبة ويعترف بخطاياه في انسحاق مقتربًا إلى مذبح الله في مهابة ليتقبل السرّ المقدس.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كثيرون من المؤمنين أمعنوا في الجهالة والتهاون العظيم فيتقدمون لمناولة الأسرار المقدسة في الأعياد، مملوئين بالخطايا وغير مهتمين لنفوسهم، ولا عالمين أن وقت المناولة المقدسة لا يحده عيد أو فرح، بل الضمير النقي والحياة التي لا عيب فيها[270]].

2. فرز الذين لهم حق تناولها:

يتمتع بأكل الذبيحة الكاهن ومولود بيته ومن اشتراه الكاهن بفضة، ولا يأكل معه في هذه المقدسات أجنبي أي عبراني ليس من نسل هرون (عد 1: 15)، أو من كان غريب الجنس أو عبدًا ثقبت أذنه يبقى حتى سنة اليوبيل (خر 21: 6)، أو من كان نزيلاً (ضيفًا) أو أجيرًا، كما لا تشاركه إبنته التي تزوجت بمن ليس من نسل هرون إلاَّ إذا كانت قد ترملت أو طُلقت ورجعت إلى بيت أبيها [13].

هذه الشريعة التي خضع لها رجال العهد القديم هي كلمة الله التي لا تبطل في روحها، إنما تبقى دستورًا للكنيسة، إذ يقدم السيد المسيح ذبيحته المقدسة ليتناولها الكاهن، سواء الكاهن الذي تمتع بسر الكهنوت لممارسة الأسرار المقدسة أو الذي نال الكهنوت العام في مياه المعمودية. يقدمها أيضًا لمولود البيت، أي لذاك الذي نال الميلاد الجديد في مياه المعمودية بالروح القدس، كما يقدمها لمن اشترى بفضة، أي اقتناه الله بكلمته المصفاة كالفضة سبع مرات (مز 12).

تُحذرنا الكنيسة من تقديم الذبيحة لأجنبي، أي لإنسان تغرب عن الله ورفض الشركة معه كإبن، أو لإنسان ثقب أذنيه ليعيش عبدًا لا يطلب الحرية الروحية. لا يتمتع بها النزيل ولا الأجير، فإن الله يطلب أن نعيش معه على مستوى الشركة الدائمة والحياة معه وفيه لا أن نلتقي به كنزلاء إلى حين ولا كأجراء نطلب أجرة، إنما كأبناء نطلب أبانا نفسه. أما الإبنة التي تتزوج بغريب فهي النفس التي قبلت الميلاد الجديد ثم عادت لتلتصق بعريس أجنبي أي بإله آخر لها قد يكون شهوة البطن أو لذة الجسد أو محبة المال أو طلب الكرامة الزمنية... مسكينة هي النفس التي تحرم نفسها بنفسها من التمتع بالمقدسات خلال اتحاد شرير، لتُطلق الخطية وليمت رجلها (الشر) فتعود إلى بيت أبيها من جديد، لتجده يعد لها الوليمة المقدسة ليفرح بها وهي تفرح به!

3. فرز الذبيحة ذاتها قبل تقديمها:

في دراستنا للذبائح (ص 1-7) رأينا التزام المؤمن بتقديم الذبيحة بلا عيب، صحيحة... وهنا يُحذرنا من تقديم الأعمى والمكسور والمجروح والبثير (الذي بجسمه بثور) والأجرب والأكلف (ما كان بجسمه كلف أي بقع مرضية مثل النمش الذي يُصيب الجلد) والزوائدي (كأن يكون به الأعضاء غير متناسبة معًا أو بها زيادات) والأقزم ومرضوض الخصية ومسحوقها ومقطوعها [22-23].

غنى عن البيان أن الله لا يطلب كثرة الذبائح بل نوعيتها، إذ هي تمثل السيد المسيح نفسه الذي بلا عيب، القادر وحده أن يردنا إلى أبيه لينزع كل عيب فينا واهبًا إيانا الحياة المقدسة فيه.

هذا وقد اشترط ألا يقدم حيوان كذبيحة ما لم يكن قد مضى عليه سبعة أيام تحت أمه ويرضع، من اليوم الثامن فصاعدًا يمكن تقديمه قربانًا للرب [27]. ولعل الحكمة من ذلك أن كثيرًا من الحيوانات تحزن بمرارة إن نُزع رضيعها في الأيام الأولى... وكأن الله يترفق حتى على الحيوان الأم فلا يحزنها خلال تقديم قربان له. هذا وكان اليهود يعتقدون أن لحم الحيوانات الرضيعة لا تصلح للأكل في أسبوع ولادتها الأول، فما لا يصلح للإنسان لا يقدم ذبيحة لله! أخيرًا فإن بقاء الرضيع سبعة أيام ليذبح في اليوم الثامن فصاعدًا يُشار إلى تقديسه، إذ يكون قد مرّ عليه سبت فتقدس!

أيضًا طالبهم ألا يقدموا حيوانًا وأمه في يوم واحد [28]... ولعل الحكمة من هذا أنه أراد لهم أن يكونوا مترفقين بالحيوانات، فقد جاء في سفر الأمثال "الصديق يُراعي نفس بهيمته" (أم 12: 10). ولعله أراد أن يحثهم على الإهتمام بالروابط الدموية حتى بالنسبة لتقديم الذبائح بين الحيوانات.

4. أكل ذبيحة الشكر في ذات اليوم :

سبق لنا دراسة هذا الأمر في الأصحاح السابع (لا 7: 15).

<<


 

الباب السابع

 

 

 

 

 

الأعياد والنذور

 ص23-27

 

* المحافل المقدسة                  [ص 23].

* الفرح الداخلي                     [ص 24].

* شرائع التحرير الداخلي           [ص 25].

* البركات واللعنات                  [ص 26].

* البكور والنذور                    [ص 27].

 

 


 

 الأصحاحات23-27

الأعياد والنذور

إن كان سفر اللاويين قد افتتح بدليل الذبائح والتقدمات ليعلن طريق المصالحة مع الله خلال الذبيحة المقدسة، وقد كرس هرون وبنيه لهذا العمل الذبيحي، ثم استرسل في عرض الشرائع الإلهية الخاصة بالتطهير لتحيا الجماعة مقدسة للرب القدوس، ويحيا كل عضو فيها ما أمكن مقدسًا للرب، فلئلا تمثل هذه الشرائع ثقلاً على نفوسهم ختم السفر بالحديث عن الأعياد المقدسة والنذور معلنًا أنه يدعو البشرية للحياة المفرحة.

كلمة "عيد" تحمل في العبري معنى "الفرح" أو البهجة، وكأن الأعياد في جوهرها عودة إلى الحياة الفردوسية الأولى، إلى جنة عدن... حيث عدن تعني "بهجة".

وكانت الأعياد تدعى عند اليهود "محافل مقدسة"، إذ كانت الجماعة تجتمع معًا للإحتفال به ببهجة قلب في محفل مفرح حول الله القدوس. وقد شملت هذه المحافل أعياد أسبوعية "السبت"، وأعيادًا شهرية "الهلال"، وأعياد سنوية، وكل سبع سنوات، ويوبيلية كل خمسين عامًا، وكأن الله يريدنا أن نقضي عمرنا عيدًا لا ينقطع!

سبق لنا دراسة هذه الأعياد أثناء دراستنا لسفر الخروج كالسبت (خر 20: 8-11)، والفصح والفطير (خر 12: 13)، والخمسين والمظال (خر 23: 16)، كما قدم لنا سفر العدد طقس الذبائح والقرابين التي تقدم في كل عيد (عد 28: 29). وإنني أرجو في الرب أن أتحاشى التكرار مشيرًا إلى المواضع التي يمكن الرجوع إليها في تفسير هذين السفرين.

نظام الأعياد والأصوام اليهودية:

أولاً: قيام نظام الأعياد على تقديس كل ما هو سابع في الزمن على كل المستويات[271]:

1. السبت هو السابع في الأيام (خر 20: 8-11).

2. عيد الأسابيع أو البنطقستي أو الخمسين بعد سبعة أسابيع من السنة الدينية (خر 23: 26).

3. الشهر السابع أقدس شهور السنة، بكره يعيِّد لا كبقية الرؤوس الشهور أو كعيد هلال جديد (عد 10: 10)، وإنما له احتفال خاص به ويدعى عيد الهتاف أو عيد الأبواق (لا 23: 23-24)، كما يضم هذا الشهر ثلاثة أعياد هامة: يوم الكفارة (لا 16)، عيد المظال (لا 23)، اليوم الثامن من عيد المظال.

4. تقديس كل سنة سابعة كسنة سبتية (خر 23: 10-11، لا 25: 1- 7).

5. تقديس السنة الخمسين أي اليوبيل وهي السنة التي بعد 7 مرات من السنوات السبتية (لا 25: 8-22).

ثانيًا: ظهرت أعياد أخرى تمس مناسبات يهودية هامة كعيد الفوريم (القرعة) الذي أقامته أستير الملكة مع مردخاي، وعيد تدشين الهيكل أو عيد التجديد الذي تم في أيام يهوذا المكابي.

ثالثًا: بالنسبة للأصوام فبجانب الصوم الفردي الذي يمكن لكل عضو في الجماعة المقدسة أن يمارسه في أي يوم عدا أيام الأعياد، وُجد الصوم العام الأسبوعي في يومي الإثنين والخميس ما بين الفصح إلى البنقسطي، وما بين عيد المظال وعيد التجديد. ففي يوم الخميس إرتفع موسى على جبل سيناء وفي يوم الإثنين نزل عندما استلم الشريعة في المرة الثانية.

مفاهيم يهودية للأعياد[272]:

كانت الأعياد عند اليهود تدور في فلكين أو ثلاثة: الأول يبدأ بذبيحة الفصح حتى يوم الخمسين، تكرس هذه الفترة للتفكير في دعوة إسرائيل والتأمل في حياته في البرية قبل تمتعه بأرض الموعد. والثاني هو الشهر السابع الذي يُشير إلى تملك إسرائيل أرض الموعد خلال نعمة الله الفائقة. فإن كانت الفترة الأولى تكشف عن محبة الله الذي يدعونا لملكوته بنعمته ويسندنا في جهادنا لنخرج من العبودية منطلقين روحيًا نحو أورشليم العليا، يبدأ معنا الطريق ويرافقنا في برية هذا العالم، فإن الفترة الثانية تمثل تمتعنا بعربون الروح ودخولنا إلى ملكوته المفرح بنعمته الغنية. ويمكننا من جانب آخر أن نقول تجاوزًا أن الفترة الأولى تمثل كنيسة العهد القديم التي بدأت بالخروج خلال الرمز والنبوات، والفترة الثانية تمثل كنيسة العهد الجديد التي تمتعت خلال المسيّا المصلوب القائم من الأموات.

بجانب هذين الفلكين يظهر يوم الكفارة العظيم الذي يحتفل به في الشهر السابع لكن يحمل طابعًا خاصًا به، وإن كان البعض يرى أنه يمثل الربط بين الفلكين السابقين. على أي الأحوال تظهر أهميته من دعوة الكتاب الإلهي له براحة السبوت أو "سبت السبوت" (لا 16: 31، 23: 32). إنه يكشف عن عمل الفداء بالصليب وانطلاقنا إلى الراحة الأبدية "سبت السبوت"!

ولليهود تعبيران عن أعيادهم، هما chag, moed. الأول يعني "إجتماع"، والثاني مشتق من الكلمة العبرية التي تعني "يرفض" أو "يفرح". الأول يعلن أن العيد هو اجتماع الكل معًا حول الله مفرح القلوب، والثاني يكشف عن غاية العيد كفرح في الرب. وقد استخدم التعبير الثاني على وجه الخصوص للأعياد الثلاثة: الفصح والخمسين والمظال. وفي هذه الأعياد يلزم ظهور كل الذكور ممثلين الشعب كله، أمام الرب في الهيكل، يستثنى منهم العبيد واصم والخرس والعرج والمرضى وغير القادرين على الصعود إلى جبل بيته بسبب الشيخوخة وأيضًا الدنسون. ولعل في هذا رمز جميل للعيد الحقيقي الأبدي حيث تظهر الكنيسة أمام الرب بكونها من الجانب الروحي ذكورًا أي مجاهدين غير مدللين وليس بينهم من هو عبد للخطية ولا من فقد أحد حواسه الروحية ولا من هو في عجز روحي أو دنس... بل الكل يكونون كاملين في عيني الرب.

وقد أعطى الحاخامات لهذه الأعياد الهامة ثلاثة أسماء عبرية تعني: الحضرة، الظهور في أورشليم، التقدمات العبدية للمتعبدين، هذه الأسماء تكشف عن فهم اليهود لهذه الأعياد بكونها حضرة أمام الرب، وانطلاقة الكل بروح واحد إلى أورشليم، وظهور الجميع ومعهم تقدمات للعيد بقلوب فرحة متهللة.

هذه المفاهيم اليهودية للعيد إختبرها رجال الله الحقيقيون، وإن كان قد شوهها الكثيرون خلال تمسكهم بالحروف دون الروح، وإنشغالهم بالشكليات دون الجوهر!

ونحن كمسيحيين إذ ورثنا هذا التراث الروحي الكتابي نخلع الحرف اليهودي الناموسي لنتقبل إنجيلنا عيدًا لا ينقطع، بشارة مفرحة تحمل تحقيقًا للمفلهيم الروحية للأعياد من حضرة جماعية أمام الرب خلال الصليب، وظهور في أورشليم العليا، وتقديم تقدمات روحية تفرح قلب الله. وقد مارست الكنيسة في العهد الجديد الأعياد على مستوى روحي فائق، لا خلال الذبائح الدموية والحرف القاتل وإنما خلال إتحادها بالسيد المسيح "العيد الحقيقي".


 

الأعياد والمحافل المقدسة عند اليهود

في أيام السيد المسيح[273]

1. شهر نيسان (أواخر مارس وبداية أبريل):

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

14. الإعداد للفصح وذبيحة الفصح.

15. اليوم الأول من عيد الفطير.

16. ترديد أول عمر ناضجة.

21. نهاية الفصح.

2. شهر آيار (زيو):

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

15. الفصح الصغير أو الثاني.

18. اليوم الثالث والثلاثون من تقديم أول سنبلة ناضجة في اليوم الثاني من الفصح، أي 15 من شهر نيسان.

3. شهر سيوان (حزيران):

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

6 . عيد البنطقستي (الخمسين) أو عيد الأسابيع (بعد سبعة أسابيع من بدء الفصح أو اليوم الخمسين منه)، فيه أيضًا تذكار لإستلام موسى للشريعة على جبل سيناء.

4. شهر تموز:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

17. صوم، تذكار لاستيلاء نبوخذ نصر على أورشليم في التاسع واحتلال تيطس لها في السابع عشر (إن جاء يوم 17 سبتًا يُصام اليوم التالي له).

5. شهر آب:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

9 . صوم، تذكار خراب أورشليم.

6. شهر أيلول:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

7. شهر تشري، أو تشرين الأول أو ليثانيم (الشهر الأول من السنة المدنية):

1، 2. عيد رأس السنة (عيد الهتاف أو عيد الأبواق).

3 . صوم بسبب قتل جدليا.

10. الصوم العظيم أو يوم الكفارة.

15. عيد المظال.

21. نهاية عيد المظال.

22. ثامن يوم من عيد المظال.       

8. شهر شيشفان أو تشرين الثاني أو بول:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

9. شهر كسلو أو كانون الأول:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

25. عيد تدشين الهيكل أو عيد الشموع أو عيد التجديد، يستمر ثمانية أيام تذكارًا لتجديد الهيكل بعد نصرة يهوذا المكابي (148 ق.م.).

10. شهر طيبيت أو كانون الثاني:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

10. صوم بسبب حصار أورشليم.

11. شهر شباط:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

12. شهر آذار:

1 . رأس الشهر (الهلال الجديد).

13. صوم استير (إن جاء يوم سبت يمارس الخميس السابق له).

14. عيد الفوريم (القرعة) الذي أقامته استير.

15. الفوريم.

ملاحظات:

أولاً: لما كانت السنة القمرية ليست إلاَّ 354 يومًا، 8 ساعات، 48 دقيقة، 38 ثانية، لذلك نقصت السنة القمرية عن الرومانية حوالي 11 يومًا، فأدخل اليهود شهرًا ثالث عشر كل ثلاث سنوات دعوه "فياذار" أو "آذار الثاني"، حتى تعادل السنة القمرية السنة الشمسية تقريبًا. هذا والشهر القمري اليهودي كان 29 يومًا و12 ساعة و44 دقيقة    و1/3 33 ثانية.

ثانيًا: يرى البعض أن أسماء الشهور العبرية الحالية أو بعضها ترجع إلى أصل كلداني أو فارسي، إذ أنها لم تظهر قبل العودة من بابل، وأن الشهور العبرية قبل السبي لم يكن لها أسماء بل تحسب بالأرقام.


 

فيما يلي الشهور المدنية وما يقابلها من شهور مقدسة وموضع ذكرها في الكتاب المقدس:

 

  الشهور المدنية       الشهور المقدسة                 إسم الشهر والشاهد

                    

 7                  1                 أبيب ومعناه نبتة (للسنابل الخضراء) (نح 2: 1، خر 13).

 8                 2                  زيو ومعناه فرهر أو رونق (1 مل 6: 1).

 9                 3                 سيوان (إس 8: 9).

 10               4                 تموز.

 11               5                 آب.

 12               6                 أيلول (نح 6: 15).

 1                 7                 إيثانيم ومعناه أنهار تفيض (1 مل 8: 2).

 2                 8                 بول ومعناه مطر (1 مل 6: 38).

 3                 9                 كسلو (نح 1: 1، زك 7: 1).

 4                 10               طيبيت (إس 2: 16).

 5                 11               شباط (زك 1: 7).

 6                 12               آذار (إس 3: 7).

<<


 
الأصحاح الثالث والعشرون

المحافل المقدسة

كانت الأعياد المقدسة تمثل جزءًا حيًا ورئيسيًا في العبادة اليهودية، خلالها يجتمع الشعب معًا في محافل مقدسة يذكرون أعمال الله المستمرة معهم. كما يعلن الله فرحه بهم إذ يود لهم راحتهم الحقة وفرحهم الأبدي غير المنقطع. وكانت هذه المحافل تمثل ترمومترًا يكشف عن العلاقة المتبادلة بين الله وشعبه، فإن انحراف الشعب رفض الله أعيادهم بل وكرهها (إش 1: 14)، ومتى رجعوا إليه بالتوبة حسبها الله أعياده وأفراحه يسكب فيها من فيض نعمته.

1. السبت                   [1-3].

2. الفصح وعيد الفطير     [4-8].

3. عيد الباكورة            [9-14].

4. عيد البنطقستي          [15-22].

5. عيد الهتاف              [23-25].

6. عيد الكفارة              [26-32].

7. عيد المظال              [33-44].

1. السبت:

كان حفظ السبت وصية هامة يلتزم بها الشعب، لذا جاء الحكم قاسيًا على أول من كسر الوصية بجمعه حطبًا، إذ مات رجمًا (عد 15: 32-36)... وقد تعرضنا لهذه الوصية كثيرًا إذ لم يخل سفر من أسفار العهد القديم من الحديث عنها تقريبًا بصورة أو آخرى، إنما ما نريد أن نؤكده هنا أن وصية حفظ السبت لم تكن وصية ثقيلة يسقط تحتها المؤمنون، ولا واجبًا ينحنون تحته في شكليات وحرفية وإنما كان السبت عيدًا وفرحًا، عطية إلهية لشعبه.

حقًا لقد قدم لنا الكتاب المقدس "حفظ السبت" من الجانب كثيرة، لكنه ركز عليه كعيد مفرح وراحة في الرب القدوس. فمن الجانب الظاهري كان السبت إمتناعًا عن العمل، حتى عن جمع المن النازل كهبة إلهية (خر 16: 21-30). من يعمل يتعرض للغضب الإلهي. وجاء السبت يحمل فكرًا إجتماعيًا روحيًا فقدم كراحة للغرباء والأجراء والعبيد حتى الحيوانات، فيه يذكر الشعب أنه كان قبلاً متغربًا في مصر تحت العبودية فلا يقسوا على خليقة الله (خر 23: 12، تث 5: 12-15). وحمل السبت فكرًا أخرويًا إنقضائيًا بكونه رمزًا للراحة المقبلة (إر 17: 21-27، عب 4)[274].

وأخيرًا فإن السبت هو فرصة لا للخمول والتوقف عن العمل بل للتمتع بالعبادة لله القدوس لينعم الكل بشركة الحياة الإلهية (لا 23: 3، عد 28: 9-10). وكأن السبت كما يحدثنا عنه سفر اللاويين هو التقاء مع الله خلال العبادة المقدسة والذبيحة لا لنكرم الله بعبادتنا لكن ما هو أعظم لكي ننعم بعمل الله فينا واهبًا إيانا الشركة معه لندخل به إلى قداسته[275].

إذن تقديس السبت في جوهرة هو تمتع بالراحة، إذ كلمة "سبت" في العبرية تعني "راحة"، سرها اتحادنا مع ربنا يسوع المسيح القدوس لننعم به بالحياة الجديدة المقدسة. لقد دعاه إشعياء النبي: "مسرة"، "مقدس يهوه"، "المكرم" (إش 38: 53)، وقدم لنا سفر المزامير تسبحة خاصة بالسبت هي تسبحة فرح وحمد لله (مز 92).

السبت هو عيد التمتع بالراحة في الرب السماوي. فيه نذكر راحة الله في اليوم السابع (تك 2: 3) كرمز ليوم الرب الأبدي. كما يقول القديس أغسطينوس الذي فيه [نستريح ونرى، نرى ونحب، نحب ونسبح، هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية[276]]. هو عيد الراحة لا من عبودية فرعون (تث 2: 15) وإنما من عبودية الشر، كقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجئ المخلص، إذ إسترحنا من الخطية[277]]. هو عيد مفرح ننعم به هنا كعربون للحياة السماوية كعيد تسبيح لا ينقطع، وكما يقول القديس جيروم معلقًا على مزمور يوم السبت (مز 92): [لا يمكن أن يوجد سبت مالم يسبقه ستة أيام. نحن نعمل الستة أيام لنستريح في السابع. لا نقدر أن نسبح الرب إلاَّ في يوم السبت (مز 92) مادمنا مشغولين بأعمال العالم، أي مادمنا في الستة أيام لا نستطيع أن نُغني للرب... ليس أحد في يوم السبت أي في راحة الرب يعمل عملاً دنيئًا، أي يرتبك بأعمال العالم، إنما يلزمه أن يعمل ما يخص السبت. أتريد أن تعرف أنه في السبت يعمل الكهنة في هيكل الرب بينما لا يسمح لأحد أن يقطع فيه حطبًا، ففي الحقيقة الرجل الذي اكتشف أنه يجمع حطبًا في البرية رُجم للموت (عد 15: 32-36). في السبت لا يشعل أحدًا نارًا ولا يمارس أي عمل... إذن لنرى أنه يليق بنا أن نسبح في السبت عندما نترك أعمال هذا العالم[278]].

كان اليهود يتطلعون إلى السبت كرمز لقداسة الله ولحفظ العهد معه، لكن عوض تمتعهم به كعيد مفرح للقلب حولوه في مهابته إلى مباحثات فكرية وجدلية نحو الأعمال الممنوعة يوم السبت حتى لنجد مدرسة شمعي اليهودية تطلب الراحة يوم السبت لا للإنسان والحيوان فحسب بل تمتد إلى الجماد، فلا يجوز للإنسان أن يبدأ عملاً يوم الجمعة لتستمر فاعليته يوم السبت حتى وإن توقف الإنسان عن العمل، مثال ذلك لا يطرح الكتان في الشمس يوم الجمعة ليجف يوم السبت. ولا يوضع صوف في مصبغة يوم الجمعة ليمتص الصوف مادة الصبغة يوم السبت. هذا الفكر وإن رفضته مدرسة هليل لكنه يكشف عن حرفية اليهود في فهمهم للسبت. وقد بلغ بهم الأمر أن يمتنعوا عن الدفاع عن بلدهم إذا ما هاجمهم عدو حتى يعبر السبت، الأمر الذي رفضه الكابيون، ووضعوا حق الدفاع عن النفس والوطن في يوم الرب[279]. لذلك عندما جاء المسيح كشف عن كرامة يوم السبت كعيد مفرح، فقدم فيه أعمال للشفاء ليعلن أن السبت تحرر من الضعف والخطية (لو 6: 9)، مؤكدًا أنه يوم عمل إلهي (يو 5: 19-20). لقد كشف عن نفسه أنه رب السبت (مت 12: 1-6) يقدم شريعة السبت بفهم جديد لم يكن الفكر اليهودي قادرًا على إدراكه. وقد إختار السيد أن يُقبر في يوم السبت ويقوم في فجر الأحد، لكي يقبر حرفية الفكر القديم مقيمًا لنا الأحد سبتًا جديدًا فيه تمتع الكثيرون بالرب القائم من الأموات (يو 20: 11-18، لو 24: 34)، وفيه تمتعت الكنيسة بحلول الروح القدس عليها كيوم ميلادها الحق، وفيه صارت تجتمع الكنيسة الأولى للعبادة الأسبوعية كيوم الرب الحقيقي (أع 20: 7).

أخيرًا فإن سبتنا الحقيقي هو ربنا يسوع المسيح، هو عيدنا وراحتنا، فيه نعيد بالإتحاد مع الآب القدوس وفيه نستريح بالنبوة لله وسكني روحه القدوس فينا وتمتعنا بالعضوية في جسد المسيح. إنه راحة للآب إذ يجدنا في المسيح يسوع أولاده متبررين بدم صليبه وراحة لنا فيه[280].

ولكي نتعرف على السبت كعيد مفرح باتحادنا في السيد المسيح القدوس نقدم طقس يوم السبت عند اليهود في نقاط مختصرة:

أولاً: كان اليهود يتطلعون إلى السبت بفرح، فيترقبونه كعروس مزينة تنتظر عريسها، فلم يكن الصوم والحزن ممنوعين تمامًا فيه فحسب وإنما كان اليهود يتمتعون فيه بالطعام والملبس وكل ما يليق بعيد مفرح. فيه كان يجوز إعداد طعام فصح، وفيه يمارس الكهنة أعمالهم في الهيكل، وفيه يشعلون نار الموقد في الهيكل... إلخ، كأنهم كانوا يلتقون لا بيوم راحة جسدية إنما بالسيد المسيح نفسه خلال الرمز. يتزينون له ويبتهجون دون صوم أو حزن لأن العريس معهم، ويمارسون الأعمال الإلهية خاصة في الهيكل، إذ بالسيد المسيح تنطلق حياتنا لممارسة الأعمال الإلهية الفائقة.

ثانيًا: يبدأ السبت من غروب يوم الجمعة ويستمر حتى غروب السبت، يختلف حساب الغروب ليس فقط حسب إختلاف فصول السنة وإنما أيضًا حسب مواقع البلاد وجغرافيتها، فالبلاد المنخفضة تبدأه قبل البلاد المرتفعة، وكان الوقت يُحسب عندما تنطلق الطيور نحو أعشاشها.

يبدأ السبت في غروب الجمعة حيث يدعى "عشية السبت" أو "الإستعداد" (مر 15: 42، يو 19: 31). ونحن أيضًا نتمتع بالسبت هنا في هذا العالم كما في عشية إذ ننعم بسبتنا المسيح كمن في مرآة خلال الإيمان، حتى متى جاء صباح السبت أي مجيئه الأخير ننعم به في سبت أبدي خلال العيان... إننا في عشية السبت المفرحة نترقب بشوق شديد الصباح الحقيقي للسبت الأبدي.

ثالثًا: يصل الكهنة الذين عليهم نوبة العمل في الأسبوع الجديد إلى أورشليم بعد ظهر الجمعة ليستعدوا بالأحتفال بالسبت في الهيكل مع الكهنة الذين تنتهي نوبتهم. ويعلن عن الإحتفال بثلاث نفخات من أبواق الكهنة ليتوقف الكل عن العمل ويُشعل مصباح السبت، ويرتدي الكل ملابس العيد.

في هذا العمل صورة رمزية لرجال العهد الجديد (الكهنة القادمون لأسبوع الجديد)، الذين التقوا مع رجال العهد القديم يتسلمون منهم الأسفار المقدسة والنبوات والعهود وكل ميراث روحي. أما ضرب الكهنة بالأبواق ثلاث نفخات فيُشير إلى أبواق الرموز والنبوات التي أعلنت عن حلول السبت الجديد أي مجئ ربنا ليتوقف الكل عن أعمال الجسد ويلتهب بمصباح الروح القدس ويرتدي السيد المسيح نفسه ثوب عيد مفرح!

رابعًا: مرة أخرى يضرب الكهنة بالأبواق بثلاث نفخات لإعلان بدء السبت فعلاً حيث يكون الكهنة الجدد قد بدأوا بغسل مذبح المحرقة من آثار الدم، ويسلم الكهنة الخارجون للداخلين مفاتيح الهيكل والأواني المقدسة وكل ما في عهدتهم.

إن كانت الأبواق السابقة تُشير إلى صوت الآباء والأنبياء والناموس التي أعدت للسبت، فإن هذه الأبواق التالية هي إعلان الكرازة بالإنجيل، فقد التزم رجال العهد القديم بتسليم كل ما في عهدتهم لرجال العهد الجديد، الذين غسلوا المذبح من الحرفية ودماء الحيوانات ليتقبلوا ذبيحة المسيح الفريدة.

خامسًا: يلقى رؤساء العشائر قرعة لمعرفة دور كل واحد منهم في أيام الأسبوع في الخدمة... وكأن العيد الروحي هو انطلاقة عمل روحي في الهيكل وليس تراخيًا وكسلاً!

سادسًا: أول عمل يقوم به الكهنة هو تجديد خبز الوجوه الذي أُعد يوم الجمعة، فإن كان يوم الجمعة عيدًا يعد بعد ظهر الخميس. هذا هو عمل كهنة العهد الجديد تقديم جسد ربنا يسوع المسيح خبز حياة سماوي، أعده الرب بنفسه يوم الجمعة حين علق على الصليب باذلاً إياه لأجلنا، كما قدمه بعد ظهر خميس العهد...

سابعًا: يحضر الكهنة القادمون والخارجون السبت معًا، فيقدم الخارجون ذبيحة الصباح والجدد ذبيحة المساء. ولعل في هذا العمل رمزًا لوحدة العمل بين رجال العهد القديم والعهد الجديد، فالكل يلتقون معًا في المسيح يسوع، السبت الواحد. الأولون يلتقون خلال الرمز، والجدد خلال الحقيقة!

ثامنًا: تمارس العبادة اليومية مع إضافة ذبائح محرقة إضافية والطعام والسكيب (عد 28: 9-10)، إذ هو يوم لقاء مع الله القدوس خلال الذبيحة وبشبع (الطعام)، وفرح روحي (السكيب).

تاسعًا: عند سكب السكيب العادي يرنم اللاويون تسبحة السبت (مز 92) على ثلاث مراحل، ويقترب الكهنة من بعضهم البعض، وينفخون بالأبواق، ثم يبدأ الشعب في العبادة. إنه يوم فرح للكنيسة كلها، الكل يشترك إما بالتسبيح أو النفخ بالأبواق أو العبادة. يشترك الكهنة مع الشعب في العبادة المفرحة وبهجة القلب.

عاشرًا: في نهاية ذبيحة السبت الإضافية وسكيبها يغني اللاويون مزمور موسى (تث 32) في ستة أقسام (1-6، 7-12، 13-18، 19-28، 29-39، 40 إلخ)، يتخللها نفخات من أبواق الكهنة مع إشتراك الشعب في العبادة.

هذا ويلاحظ أنه إن جاء السبت في العيد الشهري أي رأس الشهر، فتغنى تسبحة السبت مفضلة عن تسبحة رأس الشهر. وإن كان الوقت عيدًا فتقدم ذبيحة السبت قبل ذبيحة العيد.

الحادي عشر: أخيرًا يختتم الإحتفال بعيد السبت بترنم تسبحة موسى الواردة في خروج 15 ليعلنوا أن السبت هو عبور من عبودية فرعون (إبليس) وانتصار روحي على جنوده للإنطلاق خلال البرية إلى أرض الموعد أو أورشليم العليا.

2. الفصح وعيد الفطير:

هما عيدان متمايزان، يحتفل بعيد الفصح في اليوم الرابع عشر من نيسان كأول عيد سنوي تفتتح به السنة، أما عيد الفطير فيبدأ بالخامس عشر من نيسان لمدة سبعة أيام أي حتى الحادي والعشرين منه، ونظرًا لالتصاقهما صارا فيما بعد كعيد واحد في الكتاب المقدس، ووضعهما يوسيفوس المؤرخ اليهودي كعيد الثمانية أيام[281].

في دراستنا لسفري الخروج والعدد تحدثنا عن مفهوم الفصح والفطير واقتبسنا بعضًا من أقوال الآباء عنهما، كما تعرضنا لطقسيهما[282]، وأيضًا في دراستنا للأفخارستيا[283].

ما نوضحه هنا أن عيد الفطير كان يدعى "خبز الحزن" (تث 17: 3)، إذ كان يرمز للمرارة التي عاشها الشعب في عبوديته لفرعون، وقد تحول الحزن إلى فرح وبهجة، وصار من أكثر الأعياد المفرحة. وبعد أن كان الإمتناع عن أكل الخمير إشارة إلى سرعتهم في الخروج من مصر (خر 12: 33، 39، تث 16: 3)، صار علامة ترك خمير الحياة القديمة والتمتع بحياة جديدة (إش 52: 11-12) لا ترتبط بخمير الماضي.

3. عيد الباكورة:

ارتبط عيد الباكورة بعيدي الفصح والفطير من جانب وبعيد الخمسين من جانب آخر، إذ يحتفل به خلال أيام الفطير بينما يأتي عيد الخمسين بعده بسبعة أسابيع [5]، أي في اليوم الخمسين منه.

يعتبر هذا العيد أول الأعياد الزراعية، مارسه الشعب بعد دخولهم أرض الموعد، وقد اتسم بطقس بهيج للغاية، غايته تقديم الشكر لله واهب الخيرات من جانب ومن جانب آخر لكي بتقديم حزمة البكور يتقدس الحصاد كله. في هذا العيد إذ تقدم حزمة البكور لتقديس الحصاد إنما يعلن تقديس البشرية المؤمنة خلال البكر الوحيد يسوع المسيح، فيه نتبرر لدى الآب ونحسب بقديسين.

يمارس طقس هذا العيد بطريقة شعبية مفرحة، ففي اليوم السابق لعيد الفصح يخرج ثلاثة شيوخ من مجمع السندريم بعد غروب الشمس ليحصدوا في الحقول المجاورة لأورشليم من الشعير بين هتافات الجماهير وتهليلهم. يحمل كل شيخ منجلاً وسلة ويسأل عدة أسئلة مكررًا كل سؤال ثلاث مرات، والجماهير تجاوبه بالإيجاب بعد كل سؤال. أما الأسئلة فهي: أهذه هي السلة؟! أهذا هو المنجل؟! أهذا هو السبت؟! هل أحصد؟! أخيرًا يبدأ يحصد ويضع في السلة، ليحمله إلى الهيكل لأجل تقديمه.

يقول الكتاب: "فيردد الحزمة أمام الرب للرضا عنكم، في غد السبت يرددها الكاهن" [11]. يردد الكاهن حزمة الشعير أمام الرب ليرضي عن شعبه ويكلل السنة الزراعية بالبركة ويفيض عليهم بنعمه. والترديد كما سبق فرأينا هو رفع التقدمة على يدي الكاهن إلى أعلى، ملوحًا بها نحو الأربع اتجاهات كمن يقدمها لله الموجود في كل مكان، ثم يردها ثانية لتصير من نصيب الكهنة، كأنما يتسلمونها منه. يرى البعض أن الكاهن يردد الحزمة بسنابلها بعد غمسها في الزيت، ثم يوقد منها على المذبح مقدار قبضة يده مع اللبان، ويكون الباقي للكهنة. ويرى آخرون أن الترديد يتم بعد ضرب السنابل بعصا واستخراج حبوب منها تشوى بالنار، يلت الكاهن مقدار عمر منها بالزيت ثم يأخذ ملء قبضة يده ليوقده... أما الرأي الأرجح فهو إتمام الترديد بعد تحميص الحبوب وطحنها في هاون ونخل الدقيق خلال 13 منخلاً ليقدم الكاهن ملء قبضة يده من الدقيق الناعم بعد أن يلته بالزيت ويردده أمام الرب...

على أي الأحوال تمثل الحزمة شخص السيد المسيح الذي يقدم حياته تقدمة سرور للآب على نار الصليب، لكي يتبارك فيه كل الحصاد، وينعم المؤمنون برائحته الذكية والشركة معه في طبيعته.

يتم هذا العمل في "غد السبت"، ويرى الصدوقيون أن الترديد يتم يوم الأحد فعلاً، بعد السبت الذي في أيام الفطير، لكن الرأي الأرجح أن الترديد يتم يوم 16 من نيسان أيًا كان موقعه من أيام الأسبوع، بكون يوم 15 من نيسان يُحسب سبت عطلة للرب ومحفلاً مقدسًا (خر 12: 16) بكونه أول أيام الفطير. هذا هو الرأي الفريسيين، وما أكده يوسيفوس المؤرخ[284] وفيلون اليهودي الإسكندري[285].

أما تقدمات وقرابين هذا اليوم فهي:

أولاً: محرقة الصباح الدائمة ومحرقة المساء الدائمة مع تقدمتهما وسكيبهما (عد 28: 1-8).

ثانيًا: بجانب التقدمات اليومية يقدم تقدمات أيام الفطير السبعة (عد 28: 19-22).

ثالثًا: يمتاز هذا اليوم بترديد حزمة الشعير وتقديم قبضة يد الكاهن منها.

رابعًا: ذبيحة محرقة عبارة عن خروف صحيح حولي [12].

خامسًا: تقدمة طعامية هي عشران من دقيق ملتوت بزيت وسكيبه ربع الهين من الخمر، حيث يوقد الكاهن قبضته منه ملتوتًا بالزيت والباقي للكهنة.

يختم حديثه عن عيد الباكورة بقوله: "وخبزًا وفريكًا وسويقًا لا تأكلوا إلى هذا اليوم عينه إلى أن تأتوا بقربان إلهكم فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم" [14]. لم يكن ممكنًا أن يأكل أحد من المحصول الجديد في أي صورة من الصور، سواء في شكل خبز أو فريك أو سويق (ربما يقصد به الحبوب المحمصة المطحونة، أو السنابل الخضراء الطرية قبل أن تشوى)، حتى يتم ترديد حزمة الباكورة ليكون الله أولاً، ولكي لا تمتد يد للمحصول قبل تقديسه خلال تقديم الحزمة البكر... فبمجرد ترديد الحزمة تعرض الغلة الجديدة في الأسواق ويمكن أكلها.

أخيرًا فإن عيد الباكورة إرتبط بعيدي الفصح والفطير... فإن كان الفصح يُشير إلى موت السيد المسيح لكي نخلص من إنساننا العتيق أو من خميرة الفساد التي تسللت إلينا فإن عيد الباكورة الذي يلي الفصح ويتخلل الفطير يُشير إلى قيامة السيد المسيح وصعوده، بكونه "البكر من الأموات"، الذي اخترق طريق الموت ليهبنا فيه القيامة ويرفعنا به إلى حضن أبيه، فنحيا في السموات. إنه بكر كل خليقة (كو 1: 15)، خلاله تمتعنا بالبكورية، فصرنا كنيسة أبكار وتم فينا روحيًا قول الآب "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22)، وكما قال الرسول يعقوب: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يع 1: 28).

4. عيد الخمسين:

ارتبط عيد الخمسين بعيد الفصح وعيد الباكورة، إذ يحتفل به بعد سبعة أسابيع من عيد الباكورة، لذا دُعي "عيد الأسابيع" (خر 34: 22، تث 16: 10)، كما دعي "عيد الخمسين" وباليونانية "البنطقستي" (أع 2: 1؛ 20: 16)، فيه حلّ الروح القدس على الكنيسة المجتمعة في العليا. وهو أيضًا عيد زراعي كالباكورة، يُسمى "عيد الحصاد" (خر 23: 16)، إذ يأتي في ختام موسم الحصاد.

إن كان بعض اليهود يرون أن الفصح والفطير يمتزجان معًا كعيد واحد متكامل، فإنهم أيضًا يرون أن عيد الفطير يمتد حتى يوم الخمسين كفرح غير منقطع حتى يتم عيد الخمسين، فإن كان هذا العيد هو عيد حلول الروح القدس على الكنيسة، فإن غاية صليب ربنا يسوع المسيح أن يرسل روحه القدوس على كنيسته لكي يهبها المصالحة خلال الدم والشركة مع الثالوث القدوس ويمنحها سمات عريسها المصلوب، وكأن الصليب في واقعه يدخل بنا إلى الحياة الخمسينية ليعمل الروح القدس فينا بقوة صليب ربنا يسوع .

قديمًا كان اليهود يربطون بين الأعياد فيرون في الفصح تحررًا من عبودية فرعون، وفي الفطير تخلصًا من خمير مصر (محبة العالم) وفي الباكورة بدء الحياة الجديد خلال تقديس الحزمة الجديدة، وفي الخمسين تمتعًا بكامل خيرات أرض الموعد، وكما يقول المرتل: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز 126: 5). ونحن أيضًا نربط بين هذه الأعياد فنرى في الفصح ذبيحة السيد المسيح الفريدة وموته لتحريرنا من سلطان فرعون الحقيقي أي إبليس، وفي الفطير خلع الإنسان العتيق بخميرته الفاسدة، وفي الباكورة تمتع بالإنسان الجديد خلال الإتحاد مع الله في إبنه البكر، أما في الخمسين فيتحقق هذا بالروح القدس الذي يمتعنا بالمسيح البكر خلال حياة الشركة التي تنطلق من مياه المعمودية. بمعنة آخر خلال "عيد الخمسين" أي "عيد حلول الروح القدس على الكنيسة" تتحقق الأعياد السابقة فينا فيكمل فصح المسيح في حياتنا بروحه القدوس وننعم بقوة قيامته والصعود معه إلى سمواته.

غاية هذا العيد هو تقديم الشكر لله بمناسبة حصاد القمح، خلال طقس مفرح جماعي، فيه يعلن الكل فرحه بالله صانع الخيرات، متذكرين قول الحكيم: "إكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك فتمتلئ خزائنك شبعًا وتفيض معاصرك مسطارًا" (أم 3: 9).

كان اليهود يرون في هذا العيد تذكارًا لاستلام الشريعة في سيناء، إذ اعتقدوا أن موسى النبي استلمها في هذا اليوم. لذلك كانوا يستعدون له بالإعتراف بخطاياهم والإغتسال للتطهير، وكثيرًا ما كانوا يقضون ليلة العيد في التسبيح والعبادة.

أما بالنسبة لطقس العيد وتقدماته فأهم ما يتسم به هذا العيد هو صنع رغيفين، حيث يطحن القمح في دار الهيكل وينخل خلال 12 منخلاً ثم يعجن بالخمير، ويصنع رغيفان كل رغيف من عشر إيفة من الدقيق [17]، وذلك قبل العيد بيوم، فإن كان اليوم سبتًا يعملان في اليوم الذي قبله. هذان الرغيفان يرددان أمام الرب ويأكلهما الكهنة، ولا يوقدان على المذبح لأن بهما خمير. أحد الرغيفين يأخذه رئيس الكهنة، والثاني يقوم بتوزيعه على بقية الكهنة.

ويلاحظ في الرغيفين أن بهما خمير، فبالرغم مما أعطى لهما من قدسية خاصة، لكنهما إذ يمثلا شعب إسرائيل المحتاج إلى ذبيحة تُكفر عما إرتكبه (الخمير).

لعل الرغيفين يشيران إلى الخبز الأرضي والخبر السماوي، وكأنه في عيد الخمسين تطلب الكنيسة أن يعمل فيها الروح القدس لتقديس الحياة الزمنية (الخبز الزمني) والحياة التعبدية السماوية. ولعل أيضًا هذين الرغيفين يُشيران إلى كنيستي العهد القديم والعهد الجديد بكونهما يتباركان بعمل الروح القدس فيهما، أو لعلهما جماعة الأمم واليهود.

رقم 2 يُشير إلى المحبة[286]، كأن عمل الروح القدس في يوم الخمسين هو سكب روح الحب والشركة ليكون لنا القلب الملتهب الناري في محبته لله والناس.

بجانب هذا الطقس تقدم الذبائح والتقدمات الآتية:

أولاً: المحرقة الدائمة الصباحية والمحرقة الدائمة المسائية وتقدماتهما وسكيبهما.

ثانيًا: ذبيحة محرقة من ثور وكبشين وسبعة خراف حولية مع تقدماتها وسكيبها.

ثالثًا: ذبيحة خطية هي تيس من المعز.

رابعًا: ذبيحة سلامة من خروفين حوليين.

خامسًا: تقدمات العيد الإضافية (عد 28: 26-31)، عبارة عن محرقة من ثورين وكبش وسبعة خراف حولية مع تقدماتها وسكيبها، وذبيحة خطية من تيس من المعز أو تيسين.

سادسًا: تقدمات تطوعية يقدمها الشعب حسب ما تسمح به أيديهم، يأكل منها اللاويون والغرباء والفقراء (تث 16: 9-12).

في وسط هذا الفرح العام يحثهم ليس فقط على تقديم تقدمات يتمتع بها الغرباء والفقراء... وإنما يؤكد لهم ألا ينسوهم في طريقة الحصاد عينها، إذ يوصيهم: "وعندما تحصدون حصيد أرضكم لا تكمل زوايا حقلك في حصادك، ولقاط حصيدك لا تلتقط، للمسكين والغريب تتركه، أنا الرب إلهكم" [22].

والآن نستطع القول بأن عيد الخمسين قد كمل في "عيد الخمسين" المسيحي، أو "عيد حلول الروح القدس". فإن رقم خمسين هو ثمرة إضافة سبعة أسابيع على عيد الباكورة، فإن كان رقم 7 يُشير إلى الكمال، فإن الكمال يتحقق بحلول الروح القدس الذي يأخذ مما للمسيح البكر ويعطينا. هذا وقد رأى كثير من اليهود في عيد البنطقستي إعلانًا للعهد الإلهي إذ رأوا فيه تذكارًا للعهد أو الميثاق للذي قدمه الله لنوح وتجديدًا له[287]، وأيضًا ميثاق الله مع إبراهيم (تك 15)، إذ قيل: [في هذا اليوم أقمنا عهدًا مع إبراهيم كما أقمناه مع نوح في نفس الشهر. وقد جدد إبراهيم العيد وجعله وصية أبدية[288]]. هكذا كانوا يتطلعون إلى هذا العيد كعيد تجديد العهد مع الله، ودخول أعضاء جدد في العهد معه[289]. لذلك عندما حلّ يوم الخمسين واجتمع التلاميذ في علية صهيون كان اليهود من حولهم يعيدون بتجديد العهد مع الله متذكرين ما حدث مع آبائهم حين سلم الله عهده وشريعته لموسى النبي وما صاحب ذلك من رعود وبروق وأصوات بوق ودخان حتى ارتعب الكل (خر 20: 18)... في هذا اليوم حلّ الروح القدس على التلاميذ وسمع أيضًا صوت هبوب عاصف وارتعب الكل وحدث تجديد للعهد خلال الروح القادر أن يجدد القلوب والأذهان، ويكتب الشريعة والعهد في قلوب المؤمنين (إر 31: 31-34)... صار للكنيسة الروح الإلهي الناري الذي يغير الطبيعة الداخلية ويهب روح النبوة فنتقبل عهدًا جديدًا.

 5. عيد الهتاف:

هو عيد بداية السنة المدنية، وبداية الشهر السابع من السنة الدينية، لذا فهو عيد تقديس الشهور (الشهر السابع). أهم ما يمتاز به هذا العيد هو "الهتاف"، حيث يحتفل به اليهود بالهتاف في الأبواق، لهذا دعى "عيد الهتاف" أو "عيد الأبواق"، كما دعى "عيد ميلاد العالم".

أما غاية هذا العيد فهو:

أولاً: بدء السنة الجديدة، وكأن عيد رأس السنة.

ثانيًا: تقديس العالم كله بكون الشهر السابع (دينيًا) هو بكر الشهور، فيه تُقام أعظم الأعياد.

ثالثًا: يرى البعض في هذا العيد إعدادًا للشعب للإحتفال بعيد الكفارة في منتصف الشهر حين يبلغ القمر كماله، فتنعم الكنيسة بكمالها خلال كفارة الصليب.

رابعًا: تذكار للشريعة التي رافقتها أصوات الرعود والبروق.

هذا العيد كغيره من الأعياد اليهودية لم تحتقره كنيسة العهد الجديد بل قدسته، خلال فكر روحي جديد. فإن كانت الأبواق والهتافات قد حملت معنيين رئيسيين ومتكاملين هما تحطيم مملكة الشر وقيام مملكة الله، لذا نسمع عن هدم أسوار أريحا التي للشر (يش 6: 5-21) خلال الأبواق، وأيضًا نجد إعلان ملكوت الله، وتكريم تابوت العهد خلال الهتافات والأبواق (1 مل 17: 20، 4: 5-8، 2 مل 6: 15)، وقد جاءت المزامير تُشير إلى الهتافات الليتورجية التي تصاحب عرش الله (مز 46: 1-7، مز 80: 2-4). كأن عيد الهتاف لم يكن طقسًا لتحديد بدء السنة أي تحديد الزمن، وإنما كان في جوهره إعلانًا عن مملكة الله وتأكيد سلطانه على الزمن[290]. وفي العهد الجديد نسمع عن طقس هذه الأبواق أو الهتاف لا لإعلان بدء سنة زمنية وإنما لإعلان بدء الأبدية أو السنة التي بلا نهاية، فيحدثنا الرسول بولس عن الأبواق التي تدعو المختارين لهذه السنة التي بلا نهاية (1 تس 4: 16، 5: 2)، كما يربط السيد المسيح مجيئه الأخير بأصوات الأبواق (مت 24: 29-31). بهذا يظهر العيد اليهودي كعنصر أساسي في تشكيل الإستخاتولوجي (الحياة الأخروية) المسيحي[291]... إنه عيدنا الروحي الذي فيه بصوت البوق نحطم أسوار أريحا التي للشر لتعلن مملكة المسيح فينا، فتبدأ فينا سنة لا تنتهي، أو أبدية دائمة.

أما ذبائح وتقدمات هذا اليوم فهي:

أولاً: محرقة الصباح الدائمة ومحرقة المساء الدائمة وتقدمتهما وسكيبهما (عد 28: 1-8).

ثانيًا: قرابين رأس الشهر (الهلال) عبارة عن محرقة من ثورين وكبش وسبعة خراف حولية وتقدمتها والسكيب، وذبيحة الخطية من تيس من المعز (عد 28: 21- 25).

ثالثًا: محرقة ثور وكبش وسبع خراف حولية وتقدمتها وسكيبها (قرابين العيد).

رابعًا: ذبيحة خطية من تيس من المعز خاصة بالعيد.

أما طقس هذا اليوم فيبدأ بتقديم المحرقة الصباحية اليومية، بعدها تقدم قرابين الشهر الجديد، وبعد ذلك قرابين العيد حيث ينفخ الكهنة في أبواق القرن، ويعزف اللاويون على آلات موسيقية ويترنم الشعب بالمزامير من بينها (مز 81). يبارك الكاهن الشعب بالبركة المقدسة، قائلاً: "يباركك الرب ويحرسك، يضيئ الرب بوجهه عليك ويرحمك، يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 24-26). ويلاحظ في هذه البركة يذكر إسم يهوه ثلاث مرات، إذ يتمتع الشعب ببركة الثالوث المقدس، وكانوا يتمتعون ببركة الله وهم منطرحون وساجدون على الأرض.

بعد نوال البركة الإلهية كان الشعب - في أيام الهيكل - يتوجه إلى المجامع حيث تُقرأ عليهم فصول من الكتاب المقدس (تك 21: 1-34، عد 29: 1-6، 1 صم 1: 1، 10، تك 22: 1-24، إر 31: 2-20). ثم يترنمون بالمزامير ويعودون إلى منازلهم.

في المساء يعود الشعب إلى الهيكل ليشاهد تقديم محرقة المساء اليومية، ويطلب الصفح عن خطاياه التي إرتكبها في السنة السابقة وبركة الرب في السنة الجديدة، ثم يهنئ بعضهم البعض بالعام الجديد.

6. عيد الكفارة:

سبق لنا الحديث عنه في تفسيرنا للأصحاح السادس عشر.

7. عيد المظال:

هو آخر الأعياد والمواسم المقررة في الناموس، وبه يختتم العام الزراعي. وقد سمى "عيد المظال" لأنهم كانوا يسكنون خلاله في مظال مصنوعة من أغصان الشجر [42]، كما دعى "عيد الجمع" (خر 23: 16، 34: 22)، إذ فيه ينتهون من جني جميع المحاصيل كالكروم والزيتون.

غاية هذا العيد هو تقديم الشكر لله على انتهاء العام الزراعي، وفي نفس الوقت يحمل هذا العيد تذكارًا لتغربهم في البرية حيث كانوا يعيشون في خيام، وتمجيدًا لله الذي أدخلهم أرض الموعد.

أهم سمات هذا العيد هو اتسامه بالفرح الشديد، السكنى في المظال، طقسه الفريد.

أولاً: اتسامه بالفرح الشديد، فقد عُرف هذا العيد بكثرة الذبائح والعطايا من الأغنياء ليفرح الكل (تث 16: 14)، خاصة وأنه يأتي بعد الحصاد، فيُقدم الكل مما وهبه الله حتى لا يظهروا فارغين أمام الرب. يقول يوسيفوس أن من لم ير أفراح عيد المظال لا يعرف ما هو الفرح.

ثانيًا: السكنى في المظال لمدة سبعة أيام يليها اليوم الثامن الذي يُحسب عيدًا مستقلاً بذاته له طقسه الخاص به وذبائحه ولا يبقى الشعب في المظال فيه. فقد اعتاد اليهود أن يذهبوا إلى أورشليم قبل العيد بيوم، وكان بعضهم يذهب إليها قبل اليوم العاشر من الشهر ليشترك في عيد الكفارة ويقيم هناك حتى يحتفل بعيد المظال. يبدأون في إقامة المظلات بمجرد انتهائهم من عيد الكفارة. وقد حددت المشناة أبعاد المظال، ولا يعفى من السكني فيها سوى المرضى ومرافقيهم. إذ كان الجو ممطرًا بشدة يمكن عدم البقاء الدائم فيها.

خلال السكنى في المظال يرتبط تمتع الشعب بالخيرات وفرحهم بالمحصول (تث 16: 13-16) بتذكار عمل الله معهم الذي أخرجهم من أرض مصر وأسكنهم في المظال أو الخيام حتي يستقروا في أرض الموعد (لا 23: 41-43). فإن كان هذا العيد هو عيد زراعي مفرح فهو أيضًا عيد الغربة لأجل الاستقرار في المظال الأبدية.

تحقق هذا العيد في صورة أكمل وأعمق في العهد الجديد، حين تجلى السيد المسيح على جبل تابور أمام ثلاثة من تلاميذه، وإذ رأى بطرس الرسول أن الحصاد الحقيقي قد تم إذ ظهر السيد المسيح في بهائه وحوله رجاله موسى وإيليا والتلاميذ اشتهى أن يقيم عيد مظال لا ينقطع، سائلاً السيد أن يصنع ثلاث مظال واحدة للسيد وأخرى لموسى وثالثة لإيليا، ليبقى التلاميذ في هذا العيد أبديًا (مت 17: 5)... لكن السيد المسيح أرسل مظلة سماوية من عندياته هي "سحابة منيرة ظللتهم" لكي يسحب قلب التلاميذ إلى العيد الآخروي حين يأتي السيد على السحاب لا ليقيم لهم مظال أرضية بل ليدخل بهم إلى حضن أبيه... وقد دعى السيد الحياة الأبدية "المظال الأبدية".

ثالثًا: اتسم هذا العيد بطقسه الفريد، الذي تميز بظاهرتين متكاملتين هما سكب الماء والإنارة.

فمن جهة سكب الماء يذكر التلمود أنه ابتداء من اليوم الأول ولمدة سبعة أيام يخرج في الفجر موكبان عظيمان، أحدهما يتوجه لجمع أغصان الزيتون وسعف النخيل والأشجار الأخرى، والثاني يتوجه إلى بركة سلوام ومعه أحد الكهنة يحمل أبريقًا ذهبيًا ليغرف فيه من ماء البركة ويملأ الأبريق. وكان يرافق الموكبين جماعات المرنمين ليعود الموكبان بين الهتافات والترانيم ويصل الكل إلى الهيكل في وقت واحد، فتُقدم محرقة الصباح. ويقيم حاملو الأغصان مظلة جميلة على المذبح بينما يستقبل الكهنة زميلهم الذي يحمل الأبريق الذهبي بالنفخ ثلاثًا في الأبواق. يصعد الكاهن على درج المذبح ومعه كاهن آخر يحمل أبريقًا آخر من الذهب به الخمر، فيسكبان سكيب المحرقة من الماء والخمر في طاسين من الذهب مثقوبين ومثبتين على المذبح، فينساب السكيب إلى أسفل المذبح، وكان الناس يستقون الماء بفرح من بركة سلوام في أيام العيد تذكارًا لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي وشرب آبائهم منها، متذكرين كلمات إشعياء النبي: "أيها الجياع جميعًا هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا، هلموا واشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا"، "فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص" (إش 55: 1، 12: 3).

كان الصدوقيون يرون الإقتصار على سكب الخمر وحده دون الماء. ففي حوالي عام 95 ق.م. كان رئيس الكهنة اسكندر بانياس من الصدوقيين قد سكب الماء على الأرض بعيدًا عن المذبح فثار ضده الفريسيون وأرادوا قتله، فقامت معركة بين الصدوقيين والفريسيين، وانتهت بنصرة الفريسيين، بعد أن قتل أكثر من ستة آلاف شخص.

على أي الأحوال إذ كان الماء والخمر يسكبان على المذبح تُعزف موسيقى الهيكل وترنم مزامير الهليل (مز 113-118). وكانوا عندما يأتون إلى المقاطع التالية: "احمدوا الرب لأنه صالح"، "يا رب أنقذ"، "احمدوا الرب" (مز 118: 1، 25، 29)، يلوح المتعبدون بالأغصان حول المذبح.

هذا ويظهر مدى ارتباط هذا العيد بالماء أن اليوم الثاني من العيد كان يسمى "الاحتفال الأصغر" يقام فيه احتفالات مسائية مبهجة مع بقية الأيام تسمى "فرح مجاري المياه". وقد جاء في التلمود بكل وضوح : "لماذا دُعي اسمه "مجاري المياه"؟ من أجل تدفق الروح القدس حسب ما قيل: بالفرح تنفجر المياه من ينابيع الخلاص[292]].

هذا الطقس الخاص بسكب المياه على المذبح وشربها من بركة سلوام وقد التحم بطقس الأغصان وتلويحها مع التهليل والترنم، ارتبط بطقس آخر هو طقس "الإنارة"، ففي هذا العيد تُضاء في دار الهيكل أربع منارات عالية تبلغ ارتفاع الواحدة نحو 50 ذراعًا، في أعلى كل منها أربعة سرج كبيرة من الذهب، وكانت فتائلها من ملابس الكهنة القديمة وكانت أنوارها تُرى في كل المدينة. وكان الشعب أيضًا يضيئون مصابيح في الشوارع لتصير المدينة كلها أشبه بكتلة من النور البهيج، كما كانوا يزينون المنازل بالزهور. وقد ارتبط النور بالفرح، فكان الكهنة يرقصون ويترنمون وهم على الدرجة الخامسة عشر من درجات الهيكل.

أما علة ارتباط الماء بالنور في هذا العيد فبحسب التقليد اليهودي أن عمود السحاب (الماء) والنار (النور) ظهر لأول مرة لليهود في 15 تشري، أول أيام العيد، كما أنه في نفس اليوم نزل موسى من الجبل وأعلن عن إقامة خيمة الإجتماع، وفي نفس اليوم دشن هيكل سليمان ونزلت الشكينة (1 مل 8، 2 أي 7).

هذا العيد الذي اتسم بالماء مع النور قد تقدس، بالأكثر في العهد الجديد، يحتفل به المؤمنون خلال تمتعهم بالحياة المسيانية ودخولهم إلى الأبدية. فالعصر المسياني في حقيقته هو عصر فيض المياه الحية على أرضنا البرية لتحويلها إلى فردوس حق، وكما جاء في سفر أشعياء: "أفتح على الهضاب أنهارًا وفي وسط البقاع ينابيع، أجعل القفر أجمة ماء والأرض اليابسة مفاجر مياه، أجعل في البرية الأرز والسنط والآس وشجر الزيت، أضع في البادية السرو والسنديان والشربين معًا، لكي ينظروا ويعرفوا ويتنبهوا ويتأملوا معًا أن يد الرب فعلت وقدوس إسرائيل أبدعه" (إش 41: 18-20)، وقد رأى حزقيال النبي في الهيكل الجديد المياه الحية تخرج من عتبة البيت نحو المشرق عن جنوب المذبح... وإذ بأشجار كثيرة جدًا هنا وهناك ترتوي على هذه المياه (حز 47)، وحين تحدث زكريا النبي عن يوم صلب السيد المسيح قال: "ويكون في ذلك اليوم أن مياهًا حية تخرج من أورشليم" (زك 14: 8)... وإذ جاء السيد المسيح لم يعلن أنه هو موضوع هذا العيد، وإنما هو العيد[293]، تحول العيد إلى شخص ننعم به ونرتوي ونستنير، إذ يقول الإنجيلي: "وفي اليوم الأخير من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). بهذا فإن السيد المسيح قد أعلن نفسه أنه الطقس العيّدي الذي فيه لا يشربون كآبائهم من الصخرة التي تابعتهم ولا من بركة سلوام بل يفيض في داخلهم ينابيع مياهه الحية. هذا أيضًا ما أكده السيد المسيح للمرأة السامرية: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع مياء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 13-14). من يشرب من ماء الطقس اليهودي يعطش أيضًا، لكنه إذ جاء الأصل قدم لنا روحه القدوس الماء الذي يفجر فينا ينابيع مياه حية تنبع إلى حياة أبدية، أي قادرة لا على إروائنا فحسب وإنما على تجديد طبيعتنا لننطلق إلى الحياة الأبدية السماوية. هذا هو النهر الصافي من ماء الحياة اللامع كالبللور الذي رآه القديس يوحنا الحبيب خارجًا من عرش الله والحمل (رؤ 22: 1).

وما نقوله عن المياه نكرره أيضًا بخصوص النور، فقد أكد لنا السيد المسيح: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 12). وكما يفجر فينا ينبوع مياه حية، فإنه إذ هو العيد الحق يحولنا إلى شركة الحياة معه فنصير نحن أيضًا نور العالم (مت 5: 14).

بجانب هذين الطقسين المتكاملين "سكب الماء والإنارة"، فإننا إذ نرى الجماهير وقد تحولت إلى موكب تلوح حول المذبح بالأغصان، إنما نرى السيد المسيح "الكاهن والذبيحة في نفس الوقت"، وقد خرجت الجماهير في أحد الشعانين تلوح بالأغصان الزيتون وسعف النخل وتفرشه على الطريق (مت 21: 8)... هو عيدنا المفرح واهب النصرة! نلوح له هنا بأغصان الإيمان علامة قبولنا ملكه فينا فيهبنا سعفًا لنخل جديد في ملكوته الأبدي علامة غلبتنا به وملكنا معه (رؤ 7: 9).

أما عن طقس العيد فيبدأ هكذا في مساء اليوم الرابع عشر ينفخ الكهنة في الأبوق إعلانًا عن قدوم العيد، وينظفون مذبح المحرقة، وبعد منتصف الليل مباشرة يفتحون الأبواب حتى يتسنى للشعب أن يدخل للإشتراك في الإحتفالات العظيمة بالعيد.

بجانب الطقوس السابق ذكرها تقدم التقدمات والذبائح التالية (عد 29: 12-19):

أولاً: المحرقة الصباحية الدائمة وأيضًا المسائية مع تقدمتهما وسكيبهما.

ثانيًا: محرقة العيد يبدأ اليوم الأول بثلاثة عشر ثورًا ثم يتناقص كل يوم ثورًا فيبلغ كل الثيران سبعين ثورًا، كما يُقدم أيضًا كبشان وأربعة عشر خروفًا حوليًا كل يوم مع تقدمتهم.

ثالثًا: ذبيحة خطية للعيد من تيس من المعز.

رابعًا: ما يقدمه الشعب من ذبائح السلامة والنذور والنوافل والقرابين التطوعية إبتهاجًا بالعيد.

هذا ومع انسحاب الشعب من المذبح في نهاية كل خدمة يومية يترنمون قائلين: "ما أجملك أيها المذبح" أو "نشكرك يارب (يهوه) ونشكرك أيها المذبح"[294].

أما بالنسبة لليوم الثامن، كما قلنا يُحسب عيدًا مستقلاً، وقد دعى بالإعتكاف، حيث يتوقف الكل عن العمل ويتفرغ للعبادة... في هذا اليوم لا يسكنون المظال ولا يلوحون بالأغصان. أما تقدمات هذا اليوم وذبائحه فهي:

أولاً: المحرقة الصباحية الدائمة وأيضًا المسائية مع تقدماتهما وسكيبهما.

ثانيًا: ذبيحة محرقة من ثور وكبش وسبعة خراف مع تقدماتها وسكيبها.

ثالثًا: ذبيحة خطية من تيس من المعز.

رابعًا: ما يقربه الشعب من ذبائح تطوعية (عد 29: 35-29).

نختم حديثنا عن المظال بما جاء في سفر التثنية وهو أن الشريعة تُقرأ أمام كل إسرائيل في هذا العيد في كل سنة سبتية "السنة السابعة" (تث 31: 9-13).

<<


الأصحاح الرابع والعشرون

الفرح الداخلي

إذ تحدث عن الأعياد المقدسة والمحافل المفرحة أراد أن يعلن عن سرّ الفرح الحقيقي الداخلي خلال الإهتمام بالمنارة الذهبية للتمتع بالنور، والخبز الأسبوعي للتمتع بالشبع، أما سرّ فقدان الفرح فهو إهانة الله بالتجديف على إسمه والإساءة إلى الآخرين.

1. المنارة والزيت النقي              [1-4].

2. المائدة وخبز الوجوه              [5-9].

3. تجديف إبن شولمية               [10-16].

4. شرائع مختلفة                    [17-23].

1. المنارة والزيت النقي:

ليس عجيبًا أن يتحدث عن المنارة والزيت النقي بعد حديثه عن الأعياد والمواسم مباشرة، فإن كان الله يود أن ينعم على شعبه بفرح دائم لا ينقطع فسرّ هذا الفرح هو استنارته غير المنقطعة بزيت الروح القدس فيه، الذي يهيئ النفس كعذراء لاستقبال العريس (مت 25: 1-10).

"أوصِ بني إسرائيل أن يقدموا إليك زيت زيتون مرضوض نقيًا للضوء لإيقاد السرج دائمًا. خارج حجاب الشهادة في خيمة الإجتماع يرتبها هرون من المساء إلى الصباح أمام الرب دائمًا فريضة دهرية في أجيالكم. على المنارة الطاهرة يرتب السرج أمام الرب دائمًا" [2-4].

أوصى الرب الشعب بتقديم زيت زيتون مرضوض، أي مستخرج برضه أو دقه في الهاون وتصفيته، وأن يكون نقيًا. وكان على هرون وبنيه أن يرتبوا السرج السبعة التي للمنارة الذهبية في المساء حتى الصباح أمام الرب بالسهر عليها حتى لا تنطفئ. ويذكر المؤرخون أن جميع السرج كانت تضاء طول الليل، أما في النهار فيضاء ثلاثة منها فقط.

لقد سبق فرأينا في دراستنا لسفر الخروج أن المنارة لم تكن لمجرد الإضاءة لكنها حملت مفاهيم لاهوتية روحية تمس علاقتنا بالثالوث القدوس، النور الحقيقي. وأن الكنيسة الأولى إهتمت بالإضاءة حتى في النهار داخل الكنيسة كطقس روحي يمس حياة المؤمنين، وأن الكاهن يبارك الشعب بالصليب ملتحمًا بشموع منيرة علامة عمل الله في حياتهم الداخلية[295].

يعلق الأب ميثوديوس على طقس الإضاءة من المساء حتى الصباح في القدس قائلاً: [لقد أوصوا أن يكون لهم نور ضعيف من المساء حتى الصباح، لأن نورهم يبدو أنه يمثل الكلمة النبوية... كانت هناك ضرورة أن يوقد حتى يأتي النهار، إذ يقول "يرتبها إلى الصباح"، أي حتى مجئ المسيح. فإنه إذ يشرق شمس الطهارة والبر لا تكون هناك حاجة لنور آخر[296]].

ويقول العلامة أوريجانوس:

 [قبل مجئ ربنا يسوع المسيح، الشمس التي لم تشرق على بني إسرائيل، كانوا يستخدمون نور السرج، إذ كان عندهم كلمات الناموس والأقوال النبوية كسراج مغلق عليه في سور ضيق لا تشرق أنواره في الأرض كلها. فقد كان العلم الإلهي محصورًا في يهوذا وحده، كقول النبي: "الرب معروف في يهوذا" (مز 75: 1). لكن إذ أشرق شمس البر (ملا 4: 2، 3: 20)، ربنا ومخلصنا، إذ وُلد ذاك الذي كتب عنه أن "الشرق إسمه" (زك 6: 2 "الترجمة السبعينية")، إنتشر نور العلم الإلهي في العالم كله. باختصار كانت كلمات الناموس والأقوال النبوية سراجًا منيرًا يشتعل داخل القدس، لا يمكن أن ينطلق خارجًا ليشع بجماله وبهائه.

كلمات الناموس والأنبياء هي السرج، هذا ما علمنا إياه الرب بنفسه من يوحنا المعمدان (كممثل للعهد القديم بناموسه وأنبيائه): "كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة" (يو 5: 35)... كان هذا السراج يشتعل، إذ هو يوحنا الذي به تم الناموس والأنبياء. مادام الشعب له زيت يقدمه للإضاءة لا ينطفئ السراج، لكنهم عندما أخطأوا ولم يصر لهم زيت الرحمة ولا الأعمال الصالحة والنقاوة إنطفأ السراج بسبب الحاجة إلى زيت نقي للإضاءة.

لكن ماذا نقول بالنسبة لنا نحن؟... يليق بالمسيحي أن يهتم بالأكثر أن يكون له زيت، فبدونه كما يقول الرب تُسمى العذارى جاهلات، إذ لا يحملن زيتًا في آنيتهن، فلا يضئن سرجهن وبالتالي يحرمن من الحجال الزوجي. وعندما قرعن الباب إذ لم يكن لهن زيت أمر العريس بعدم فتح الباب (مت 25).

إنيّ أذكر ما سبق فقلته بخصوص المزمور 118: "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 118: 105)، موضحًا بقدر الإمكان الفارق بين السراج والنور. فقد خصص السراج للرجل بكونها عضو سفلي للجسم، أما النور فخصص للسبل التي تُدعى في موضع آخر "الطرق السماوية". فبحسب التفسير السري... يضيئ سراج الناموس للذين هم في العالم كرجل للخليقة كلها (رجال العهد القديم)، أما النور الأبدي فمخصص لسبل الدهر الآتي[297]].

يرى القديس أغسطينوس[298] أن الزيت يُشير إلى "المحبة" التي بدونها لن تدخل العذارى إلى العرس ولا يلتقين بالعريس في حجاله السماوي. ويقول العلامة أوريجانوس: [أما يظهر لك أن من يطفئ نور المحبة يطفئ السراج؟! من يحب أخاه (1 يو 4: 21) يبقى في نور المحبة ويستطيع أن يقول بكل ثقة: "أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله" (مز 52: 8)، "بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك"(مز 128: 3)[299]].

2. المائدة وخبز الوجوه:

سبق لنا الحديث عن المائدة وطقس خبز الوجوه في دراستنا لسفر الخروج (أصحاح 25)[300]. هنا يؤكد: "وتجعل على كل صف لبانًا نقيًا فيكون للخبز تذكارًا وقودًا للرب" [7]. فإن كان الخبز يوضع على صفين، كل صف يحوي ست خبزات فوق بعضها البعض ويوضع بين الخبز صفائح ذهبية منحنية تسمح بمرور الهواء حتى لا يفسد الخبز، فإنه يوضع إناء ذهبي من اللبان فوق كل صف يوقد ليذكر الرب تقدماتهم ويقبلها رائحة ذكية.

إن كان الخبز يُشير إلى الكنيسة المقدسة التي التحم برأسها المسيح، فإن اللبان يُشير إلى عملها الدائم ألا وهو الصلاة والتسبيح بلا انقطاع.

يرى العلامة أوريجانوس في المائدة المقدسة صورة للمائدة التي يقدمها لنا رب المجد، مائدة الأفخارستيا، إذ يقول: [لنرجع إلى الخبز النازل من السماء واهب الحياة (يو 6: 33) خبز الكفارة الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره (رو 3: 25). لننظر لهذا التذكار الذي تحدث عنه الرب: "إصنعوا هذا لذكري" (1 كو 11: 25)، ففي هذا التذكار يخدم الرب الناس. لنذكر بكل دقة أسرار الكنيسة، وندرك كيف حملت شرائع الناموس صورة مسبقة للحق المقبل (عب 10: 1)[301]].

هذا الخبز هو طعام المقدسين يأكلونه "في مكان مقدس" [9]. إنه طعام الذين صاروا جنسًا مختارًا وكهنوتًا ملوكيًا (1 بط 2: 9)، يأكلونه وهم مستعدون بالحياة المقدسة، وكما يقول العلامة أوريجانوس[302]: [إن "المكان المقدس" هنا ليس موضعًا مكانيًا لكنه يعني "النفس الطاهرة"].

3. تجديف إبن شولمية:

بعد أن كشف عن سرّ فرح النفس بزيت المنارة المضئ، وشبعها بخبز المائدة المقدس حدثنا عن سرّ مرارة النفس وفقدانها سلامها بل وحياتها، خلال قصة تنازع إبن شولمية مع رجل إسرائيلي، حيث سّب الأول الله. لم يتسرع موسى النبي في الحكم من عندياته بل أخذه وطلب مشورة الله، فجاءت الشريعة تعلن أن من يجدف على الله سواء كان يهوديًا أصيلاً أو متهودًا يقتل رجمًا خارج المحلة، ففعلوا هكذا بإبن شولمية.

قدم لنا العلامة أوريجانوس[303] مفهومًا رمزيًا لهذه القصة، إذ رأى في إبن شولمية الذي من أب مصري وأم يهودية إشارة للهراطقة الذين ينتسبون للكنيسة كأم لهم لكنهم خلال هرطقتهم يقبلون فرعون أبًا لهم. هؤلاء بانحرافهم يفقدون أبوة الله بينما ينسبون أنفسهم للكنيسة ليدخلوا في صراع مع أبنائها، ويجدفون على الله بفساد إيمانهم. إنهم حسب الحرف أو المظهر منتسبون للكنيسة لكنهم هم خارجها والله ليس بأبيهم، لذلك أُخرج إبن شولمية خارج المحلة.

من يجدف على الله أيضًا بتصرفاته يحرم نفسه من العضوية الكنسية الحقيقية: [من يخرج عن طريق البر وعن ناموس الرب... يخرج عن جماعة القديسين وصفوفهم[304]]. [من يخرج عن الحق يخرج عن مخافة الرب والإيمان والمحبة، بهذا يخرج عن محلة الكنيسة حتى ولو لم يصدر حكمًا من الأسقف بطرده... فقد يكون في داخلها (بالجسد) لكنه في الحقيقة هو خارجها[305]].

<<

 


 

الأصحاح الخامس والعشرون

شرائع الحرية الداخلية

أعلن الله غايته نحو الإنسان بالدخول به إلى الأعياد ومحافل مقدسة مستمرة ليتقبل الله نفسه كعيد له ينبوع فرحه وتحريره. ففي الأصحاح السابق حدثنا عن الفرح والشبع، والآن يحدثنا عن الحرية الداخلية خلال بعض الشرائع التي تمس الفقراء والعبيد والحقول والبيوت.

1. شريعة السنة السابعة                      [1-7].

2. شريعة سنة اليوبيل                         [8-22].

3. شرائع بيع الأراضي                        [23-28].

4. شرائع بيع البيوت                          [29-33].

5. شرائع قروض الإخوة                      [35-38].

6. شريعة العبد العبراني                       [39-43].

7. شريعة العبد الأجنبي                        [44-46].

8. شريعة العبراني المستعد لأجنبي            [47-55].

1. شريعة السنة السابعة:

إهتم الله بحفظنا للسبت لتقديس كل بقية أيام الأسبوع، وبنفس الفكر إهتم أن نحفظ سبت السنوات أي السنة السبتية أو السنة السابعة، في هذه السنة لا يجوز زرع الأرض أو حصدها حتى الأشجار المثمرة، إنما يجوز الزراعة في حدود تقديم الجزية أو الضريبة، وأيضًا ما هو للتقدمات كحزمة الترديد ورغيفي التقدمة وخبز الوجوه. كما يصرح بحرث الأرض وتهيئتها للزراعة، وبالصيد والتجارة وتربية النحل... إلخ.

أما غاية السنة السبتية فهي:

أولاً: من الجانب الزراعي، لم يكن لليهود أو آبائهم خبرة في هذا المضمار، ففي مصر عاشوا كرعاة غنم، ورأوا المصريين يزرعون الأرض سنويًا وأحيانًا أكثر من مرة في السنة بسبب خصوبة الأرض وطمي فيضان النيل، أما أرض فلسطين فتحتاج أن تترك كل فترة لتستعيد قوتها ولا تستهلك.

ثانيًا: من الجانب الإنساني والإجتماعي، فإن السنة السبتية هي سنة الشركة العامة، فيستطيع الفقير والغريب بغير خجل أن يدخل أي حقل ويجمع ما تبقى من السنوات السابقة ويقطف من أشجار الفاكهة ما يريد... وكأن الأرض في السنة السابعة تصير مشاعًا للكل، أن يقطف ما يريد دون أن يقوم بالتخزين أو تحويلاً إلى منتجات أخرى كالنبيذ... إلخ، حتى بالنسبة لصاحب الأرض. ولا تقف الشركة عند البشر وحدهم، بل تترك الحيوانات حتى البرية منها لتتمتع بنصيبها من منتجات الأرض بلا عائق.

هذا ومن ناحية أخرى كانت هذه السنة راحة للجميع، ليس فقط للرجل وعائلته، وإنما حتى العبيد والأجير والغريب بل والحيوانات أيضًا.

يرى البعض أن هذه السنة هي سنة إبراء فيها يتحرر العبيد من الرق... وإن كان البعض يرى أن التحرر يتم في السنة السابعة من شراء العبد، وليس بالضرورة في السنة السبتية العامة.

ثالثًا: من الجانب الروحي فهي سنة راحة من العمل اليومي للإنشغال بالعمل الروحي، ففي هذه السنة تقرأ فصول من الشريعة في عيد المظال (تث 31: 10-13) لكي تكون أشبه بذخيرة للسنة كلها... وكانت القراءة تتم بطقس جميل فيه يسلم رئيس المجمع التوراة لرئيس الكهنة، وهذا بالتالي يسلمها للملك الذي يقف ليقرأ الشريعة على الشعب في مهابة. بعد القراءة يعطي رئيس الكهنة البركة للشعب، سائلاً من أجل الشريعة والخدمة والإعتراف والتمتع بمغفرة الخطايا ومن أجل أورشليم والهيكل والشعب والكهنوت المقدس.

هذا وكانت السنة السبتية تعتبر درسًا عمليًا في الإيمان أن الله يبارك في إمكانياتهم ويشبعهم، وأن سرّ البركة لا في كثرة العمل وإنما في رضا الله...

2. شريعة سنة اليوبيل:

كما يقدس الإنسان اليوم السابع ليبارك الرب كل أيام الأسبوع، والشهر السابع ليبارك كل الشهور، والسنة السابعة ليبارك الست سنوات الأخرى، فإنه يقدس أيضًا السنة الخمسين التي تأتي كسبت لكل وحدة تتكون من سبع سنوات، هي سبت أسابيع السنين، لذلك يعتبر هذا العيد "اليوبيل" هو كمال النظام السبتي، وضعه الرب لشعبه.

كلمة "يوبيل" من أصل يوناني تعني "قرن"[306]، إذ كان يعلن عنها خلال النفخ في بوق في اليوم العاشر من الشهر السابع، إذ تبدأ بعيد الكفارة.

دعى هذا العيد بسنة العتق (حز 46: 17)، ففيه يتم عتق العبيد وترجع الأراضي المباعة والمرهونة إلى أصحابها، والدائنون يعفون عن المدينين... لذلك كان هذا العيد الذي يتكرر كل خمسين عامًا من أروع الأعياد وأبهجها على نفوس الشعب.

أما طقس هذا العيد فهو:

أولاً: "تقدسون السنة الخمسين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها، تكون لكم يوبيلاً، وترجعون كل إلى ملكه وتعودون كل إلى عشيرته" [10]. هذا هو أبرز ما في الطقس، ألا وهو عتق الأرض وتحريرها، فيسترد كل إنسان أرضه وتسترجع كل عشيرة ممتلكاتها من بيوت قروية أو حقول سواء كانت قد بيعت أو رهنت، وكان غاية ذلك الآتي:

أ. يشعر الكل بالغربة [23]، فإن كان قد اغتنى واستطاع بماله أن يرهن أو يشتري نصيب غيره، يتركه في السنة اليوبيلية بإرادته قبل أن يترك الكل كل شيء بغير إرادتهم. ولعل السنة اليوبيلية تحمل ظلاً للحياة الأبدية حيث لا يوجد فيها غنى وفقير بل يفرح الكل بنوال نصيبه دون طمع فيما هو للغير.

ب. تأكيد أن الأرض هي ملك للرب [23]، وهبها لنا لنستغلها لكن ليس على حساب إخوتنا الفقراء، فنرد لهم نصيبهم ليس منحة منا إذ هي ليست ملكنا بحق بل ملك الرب.

ج. أن يحتفظ كل سبط وكل عشيرة وكل أسرة بنصيبه في الأرض التي وهبت لهم على يدي موسى النبي ويشوع بن نون.

ثانيًا: وضع لهم مبدأ هامًا للتعامل: "فمتى بعت صاحبك مبيعًا أو اشتريت من يد صاحبك فلا يغبن أحدكم أخاه" [14]. يلزم ألا يستغل أحد اليوبيل فيبيع أرضه قبل الموعد بثمنها ليستردها في السنة الخمسين، إنما يُقدر ثمن البيع حسب المدة الباقية لحلول اليوبيل، فلا يغبن أحد الآخر. وفي نفس الوقت لا يليق بالمشتري أن يستغل احتياج البائع فيقدم ثمنًا بخسًا، إنما ليقيم الثمن حسب النفع الذي يعود عليه خلال الفترة الباقية حتى عيد اليوبيلي. ليكن التعامل لا على أساس بلوغ أكبر مكسب من الغير وإنما على أساس خشية الرب، إذ يقول "فلا يغبن أحدكم صاحبه بل إخش إلهك، إنيّ أنا الرب إلهكم" [17]. وكأن كل غبن لإخواتنا هو إهانة للرب نفسه الذي يدافع عن المظلومين والمغبونين.

ثالثًا: سنة اليوبيل كالسنة السبتية، سنة راحة، إذ قيل: "لا تزرعوا ولا تحصدوا زريعها ولا تقطفوا كرمها المحول (أي الباقي عليها من الحول أو السنة السابقة)" [11]. هذا التصرف يقوم على جانب إيماني، أن الله يعولهم ببركته، أكثر مما يتمتعون به هم بعملهم، إذ يقول: "فإنيّ آمر ببركتي لكم في السنة السادسة فتعمل غلة لثلاث سنين" [21]. أكد لهم أن حصاد السنة السادسة يكون ثلاثة أضعاف يكفيهم أيضًا في السنة السابعة والثامنة حتى يأتي حصادها في بدء التاسعة...

إن كان الله يطالبنا بالعمل لكننا في العمل إنما نتكئ على بركة الرب نفسه واهب الخيرات.

3. شرائع بيع الأراضي:

إذ وزع موسى ويشوع الأراضي لتمتلكها الأسباط، كان كل سبط وكل عشيرة وكل أسرة تلتزم ما استطاعت أن تحتفظ بأرضها كعلامة لتعلق القلب لا بأرض الموعد بل بالأرض الجديدة أي الحياة الأبدية، كنعان العليا، وقد ظهر هذا بقوة في قصة نابوت اليزرعيلي الذي عرض حياته للموت ولم يسلم بستان آبائه بالرغم من إغراءات الملك له.

إن اضطر أحد أن يبيع أرضه فإنه يستطيع هو أو وليه أن يفك الأرض [25]، كما فعل بوعز حين فك أرض أليمالك وتزوج بإمرأة إبنه "راعوث" ليهب للميت إبنًا ويتمتع بميراث جده.

يستطيع الإنسان أو وليه أن يفك الأرض في أي وقت بعد أن يدفع الثمن الذي يتناقص مع مرور السنوات لأجل استغلال المشتري للأرض... فإن لم يستطيع الإنسان أو الولي أن يفي يأتي اليوبيل لترجع الأرض لصاحبها مجانًا.

إن كنا قد فقدنا ميراثنا الأبدي بسبب الخطية، مقابل شهوة أرضية أو جسدية كما باع عيسو باكورته مقابل أكلة عدس، فإننا لم نستطع أن نفي نحن ولا ولينا الأول أي الناموس بل فقدنا كل شيء حتى جاءت سنة اليوبيل، السنة الخمسون، حيث أرسل الرب روحه القدوس في عيد العنصرة في يوم الخمسين، وصار لنا حق استرداد أرضنا الروحية بعد أن دفع السيد المسيح دمه ثمنًا للفكاك.

في دراستنا السابقة[307] رأينا رقم 50 يُشير إلى "الحرية" وهذه التي ننالها بالروح القدس الذي يرفع نفوسنا وقلوبنا وأفكارنا وكل حواسنا كما بجناحي حمامة لنرتفع نحو السمويات، متحررين من رباطات العالم وإغراءاته وفخاخه! لتكن أيامنا كلها يوبيلاً مستمرًا، فيه ننعم بالروح القدس الناري ملتهبًا بلا انقطاع، هذا الذي استراح فينا في سر الميرون، وهو يهبنا الحرية في المسيح يسوع، مثبتًا إيانا فيه، لا ليكون لنا أرض ميراث بل يكون لنا موضع في حضن الآب.

ما هي هذه الأرض أو هذا الحقل الذي بيع لكن تم فكاكه إلاَّ كنيسة الله التي باعها قادة اليهود لحساب كرامتهم وشبعهم الزمني، لكن في ملء الزمان جاء السيد المسيح الولي الحقيقي الذي فكها مقدمًا دمه ثمنًا للكنيسة (رؤ 5: 9).

4. شرائع بيع البيوت:

يقدم لنا الوحي الإلهي شرائع تخص بيع البيوت أو رهنها وكيفية فكها من الرهن، مقدمًا لنا خلال الحرف مفاهيم روحية عميقة تمس حرية نفوسنا الداخلية. وقد ميزت الشريعة بين أربع حالات:

أولاً: المنازل التي في المدن المسورة           [29-30].

ثانيًا: المنازل التي في القرى                   [31].

ثالثًا: منازل اللاويين في مدنهم                 [32-33].

رابعًا: حقول اللاويين                           [34].

أولاً: المنازل التي في المدن المسورة:

إذا باع إنسان ما بيته في مدينة (مسورة) يستطيع أن يفك البيت خلال سنة من بيعه، هو أو وليه أو وريثه إن كان قد مات. بهذا يعطي الفرصة للبائع الذي اجتاز ظرفًا قاسيًا أن يرجع ويستقر مع عائلته في منزله. فإن لم يفك البيت خلال سنة من البيع يستحوز عليه المشتري ولا يرده حتى في اليوبيل لأن البائع ووليه وورثته قد أضاعوا الفرصة على أنفسهم، فيلزم أن يُعطي للمشتري حقه في الإستقرار. أما سبب عدم رد البيوت التي في داخل المدن في اليوبيل، فلأن المنازل لم تُعط للشعب بالقرعة مثل الأراضي بل بنوها بأيديهم حسب إرادتهم.

ثانيًا: المنازل التي في القرى:

أما بالنسبة للمنازل المقامة في مدن غير مسورة أي في قرى، فيمكن أن تُفك خلال عام كالسابقة، فإن لم يستطع البائع أو وليه أو ورثته على الفكاك يبقى البيت حتى سنة اليوبيل ليرده إلى البائع أو عائلته إن كان قد مات. لعل الحكمة في هذا أن هذه البيوت هي في حقيقة أمرها ملحقات لأراضٍ زراعية أو أراضٍ للرعي لا يمكن فصلها عنها، فلكي يبقى كل سبط محتفظًا بأرضه مع ملحقاتها ترد الأراضي ومعها المباني الزراعية.

ثالثًا: منازل اللاويين في مدنهم:

يؤكد الوحي الإلهي: "وأما مدن اللاويين بيوت ومدن ملكهم فلها فكاك مؤبد للاويين" [33]. كأن اللاوي إذا اضطر لبيع قطعة أرضه السكينة أو بيته يستطيع في أي وقت مطلقًا أن يفكها، لا يفقد حقه في الفكاك حتى إن مضى عام على البيع. وإن قام أحد إخوته من اللاويين بالفكاك يبقى المنزل تحت يده حتى سنة اليوبيل فيرده إلى صاحبه الأصلي [33].

رابعًا: حقول اللاويين:

كانت مدن اللاويين تحيط بها مسارح بعرض ألف ذراع من حدود المدينة من كل جهة من الجهات الأربع. والمسارح تحيط بها حقول بعرض ألفي ذراع من كل جهة، تخصص المسارح لإقامة الحظائر الخاصة بحيوانات اللاويين وأغنامهم أما الحقول فيزرعونها لا لاستغلال الزراعة للبيع أو التجارة. وكان لا يجوز للاويين أن يبيعوا شيئًا من مسارحهم أو حقولهم فهي ملكهم أبديًا.

المفهوم الروحي لبيع البيوت وفكاكها:

يعلق القديس بولس الرسول على الشريعة الخاصة بالإهتمام حتى بالثور فلا يكم وهو يدرس ليأكل مما يدرسه (تث 25: 4) وبقوله: "ألعل الله تهمه الثيران؟! أم يقول مطلقًا من أجلنا أنه من أجلنا مكتوب: لأنه ينبغي للحراث أن يحرث على رجاء وللدراس على الرجاء أن يكون شريكًا في رجائه" (1 كو 9: 9-10). بنفس الروح نقول: ألعل الله تهمه البيوت والحقول؟! أم هي كتبت لأجلنا بكوننا بيت الله المقدس وحقله؟!

يقول العلامة أوريجانوس: [لنسرع ونطبق شرائع البيوت علينا، فإننا متى تبعنا شريعة المسيح لا يُسمح لنا بملكية أرض أو منازل في مدينة، فماذا إذن تعني هذه الشريعة الخاصة بالبيوت؟ إن كان لا يسمح لنا أن نملك أكثر من ثوب (مر 6: 9)، ولا أن نجمع مالاً كثيرًا، إذ مكتوب: "إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما" (1 تي 6: 8)... إذن فلنتأمل الشرائع الخاصة بالبيوت التي في مدن مسورة أو التي في قرى بلا أسوار.

في مواضع أخرى في الكتاب المقدس تستخدم كلمة الله تعبير "بيت" بمعنى سري فيقال عن يعقوب في مدحه: "كان يعقوب إنسانًا كاملاً (بسيطًا) يسكن الخيام" (تك 25: 27)، ومن ناحية أخرى مكتوب عن القابلتين: "وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتًا" (خر 1: 21)، وكأن صنع البيوت لهما كان بسبب مخافتهما لله... إذن ما هو هذا البيت؟ ما هذا البناء الذي يعرض له بولس الرسول في أكثر وضوح بقوله: "إننا نعلم أنه إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله بيت غير مصنوع بيد أبدي" (2 كو 1: 5). هذا هو البيت الذي لا يستطيع أحد أن يبنيه ما لم تكن له مخافة الرب. هذا هو البيت الذي لا يقدر أحد أن يقيمه أو يسكنه إن لم يحمل بساطة الروح ونقاوة القلب. لكن إذ يحدث عادة أن الذي يقيم بيتًا سماويًا بأعماله الصالحة وسلوكه الحسن واستقامة إيمانه يسقط في خطية يكون كمن نقل أعماله لآخر... "فإن نالت يده ووجد مقدار فكاكه" [26]، أي مقدار هذا؟! إنه بلا شك دموع التوبة الغزيرة، وممارسة العمل الصالح، ففي هذه السنة، التي يمكن أن تفهم على أنها السنة التي أعلن عنها المسيح "سنة مقبولة" (إش 49: 8، 2 كو 6: 2)، يسمح فيها بنوال المغفرة والتمتع بالخلاص للذين يعترفون بخطاياهم[308]].

ماذا يعني بالبيوت التي في مدن محاطة بأسوار؟ لعلها تعني أولئك الذين يقولون مع الرسول بولس: "سيرتنا نحن هي في السموات" (في 3: 2)، وكما نعلم أن أورشليم السماوية محاطة بسور (رؤ 21: 14)، فمن بلغ الحياة السماوية وتذوق عربون المجد الأبدي ليحذر لئلا يبيع بيته بالخطية خاصة التي تمس إيمانه فيفقده... وإن سقط فليسرع لئلا تعبر سنة حياته فيفقد بيته أبديًا ولا يمكن استرداده!

أما صاحب البيت الذي في قرية بلا أسوار فيرى العلامة أوريجانوس أنه يُشير إلى الذين يسلكون في بساطة قلب ويتعرضون لأخطاء عابرة مستمرة... وهم في حاجة إلى توبة مستمرة غير منقطعة حتى لا يفقدوا ميراثهم الأبدي.

بالنسبة لبيوت الكهنة واللاويين أو حقولهم فيقول العلامة أوريجانوس[309] عن الكاهن أنه يمثل النفس المكرسة للرب، واللاوي يمثل من كان في حضرة الرب بلا توقف وفي خدمة إرادته. الكاهن يمثل كمال الإيمان والفهم، واللاوي يمثل كمال الأعمال. مثل هذه النفوس المقدسة خلال الإيمان الحيّ العامل إن تعرضت لأي خطأ تتمتع بالغفران والفداء، بيوتهم الداخلية تفتدي على الدوام وحقولهم لا تمس. إن انتزعت عنهم بيوتهم يكون هذا مؤقتًا تفتدي في أي وقت لترجع إليهم. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [ملكية القديسين وبيوتهم لا تضيع أبدًا، ولا تنزع عنهم قط. إذ كيف يمكن أن ننزع عن الكهنة البيت الذي تأسس "على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه هو حجر الزاوية" (أف 2: 20)... لكن إن باع البيت لمشتٍر دنيء أي للشيطان... الله لا يسمح! فإنه يفتدي نفسه سريعًا، ويسترها مادام يوجد وقت للسترة وموضع للتوبة. لنطلب بإلحاح ألا نفشل في التمتع بالمسكن الأبدي، لنتأهل لقبولنا في المساكن الأبدية (لو 16: 9) بالمسيح يسوع الذي له كل مجد وكرامة إلى الأبد آمين[310]].

5. شرائع قروض الإخوة:

كما اهتم الله بحريتنا الداخلية معبرًا عنها خلال شرائع السنة السبتية [1-7] وشرائع اليوبيل [8-22]، خاصة تحرير الأرض والبيوت [23-33]، فإنه يودنا أن نحمل سماته فنشتهي حرية الآخرين. فإن كان إنسان عليه دين وقد قصرت يده عن سداد الدين وفوائده [35]، سواء كان هذا الأخ يهوديًا أو غريبًا أو متهودًا، يلزم الترفق به وعدم طلب الربا أو الفائدة منه.

هكذا تحرم الشريعة الموسوية الربا أي الفائدة، والمرابحة وهي نوع من الربا في شكل نوال محاصيل أو هدايا وليس في شكل مال نقدي... هذا التحريم يقوم على أساس أن الدين قدم لإنسان في احتياج. الأمر يختلف بلا شك إن كان القرض أعطى لإنسان غني يستخدمه في إضافة أرباحه أرباحًا، لذا يوضح الكتاب أن المدين قد "قصرت يده عنك" [35].

6. شريعة العبد العبراني:

سبق لنا الحديث بتوسع عن شريعة العبد العبراني وتحريره بعد ست سنوات، فإن رفض تثقيب أذنه بمثقب عند الباب، فيبقى عبدًا بإرادته حتى سنة اليوبيل، ورأينا هذا العبد يُشير إلى السيد المسيح الذي وهو سيد الكل قبل أن يصير عبدًا وقد أعلن قبوله لا بثقب أذنه بل بجراحاته حتى يحررنا فيه وننعم بالبنوة لله[311].

7. شريعة العبد الأجنبي:

إن كان الله قد ترفق بشعبه وطالب الإخوة ما استطاعوا أن يحرروا إخوتهم من العبودية، فلماذا سمح لهم باستعباد الشعوب الغريبة؟

أولاً: الله لم يأمر بالعبودية لكنه سمح لهم بها في حدود معينة تحت ظروف خاصة، وهي تأديب الساقطين في الشر، حتى يدركوا عبوديتهم المُرّة للخطية وذلهم الداخلي لعدو الخير. لذلك قيل: "ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته" (تك 9: 25).

ثانيًا: حمل هذا المفهوم للسلطان الروحي، فالمؤمن يحمل سلطانًا مستعبدًا جسده بكل طاقاته وإمكانياته، وكأنه يسمع هذا الوعد الإلهي: "من يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطانًا على الأمم" (رؤ 2: 26). فإن كان سقوط الأمم تحت العبودية يكشف عن عبوديتهم للخطية، فإن سيادة المؤمن في العهد القديم كانت تُشير إلى سلطانه الروحي لا على الآخرين بل على نفسه.

8. شريعة العبراني المستعبد لأجنبي:

إذا اغتنى غريب واشترى عبرانيًا قد افتقر، يليق بعمه أو إبن عمه أو أحد أقاربه أن يفكه من العبودية ويعتقه منها، وإن استطاع الشخص نفسه أن يفك فليفعل ذلك. والعجيب في هذه الوصية إنه يطالب من يفك أخاه العبراني ألا يغبن الأجنبي بل يدفع له ما يستحقه، مقدار الثمن حسب الخدمة الباقية كعبد حتى سنة اليوبيل.

إنه كان يحثهم على فك إخوتهم وإنقاذهم من المذلة لكن دون غبن للغرباء!

<<

 

الأصحاح السادس والعشرون

البركات واللعنات

غاية هذا السفر هو التمتع بالحياة المقدسة بالله القدوس، وقد جاء هذا الأصحاح أشبه بخاتمة للسفر يكشف عن البركات التي تحل بالإنسان الذي يقبل عمل الله في طاعة لوصاياه كما أعلن اللعنات التي تحل بمن يرفض الوصية ولا يقبل الحياة المقدسة، هذه اللعنات هي ثمرة طبيعية للخطية والعصيان.

1. عبادة الله القدوس                          [1-2].

2. بركات الطاعة لله القدوس                  [3-17].

3. اللعنات الحالة على العصاة                 [18-39].

4. قبول الخطاة التائبين                        [40-46].

1. عبادة الله القدوس:

إذ يطالبهم بالإرتباط به سألهم ألا يقيموا تمثالاً منحوتًا من الحجارة أو نصبًا من الخشب ولا يصوروا حجرًا ليسجدوا له للعبادة كما يفعل الوثنيون.

أما علامة ارتباطهم به فهي "سبوتي تحفظون ومقدسي تهابون أنا الرب" [2]... هذه الوصية بفرعيها أي حفظ السبت أي تقديسه للرب والسلوك بمهابة في مقدس الرب أو بيته هما علامة حبنا لله وإرتباطنا. حفظ السبت يعني تقديس الزمن لحساب الرب، ومهابة المقدس يعني تقديس المكان، وكأن المؤمن يقدس كل زمان حياته وكل موضع ليكون مكرسًا للرب بلا انقطاع. نحفظ السبت حتى يرفعنا الله بروحه القدوس إلى ما هو فوق الزمن، أي ينطلق بنا إلى أبديته، ونهاب مقدسه لكي ننعم بمقادسه السماوية، بهذا نحيا للرب أبديًا على مستوى سماوي.

2. بركات الطاعة لله القدوس:

إذ يدعونا للعبادة له دون سواه، معلنين قبولنا ملكوته بتقديس سبته أبديًا ومهابتنا لمقدسه السماوي، يكشف لنا بركات هذا اللقاء مع الله، خاصة خلال الطاعة لوصيته وحفظنا وصاياه، متجاوبين مع القدوس بالخضوع لدستوره المقدس:

أولاً: التمتع بالمطر في حينه "إذا سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أعطي مطركم في حينه" [3-4]. فالمطر في صورته الحرفية هو عطية الله للكل، إذ يمطر الله على الأبرار والظالمين (مت 5: 45)، وليس مكافأة خاصة بحافظي وصاياه وحدهم. أما في المفهوم الروحي فهو خاص بالعصر المسياني، ففي دراستنا لكثير من أسفار الأنبياء رأينا المطر هو إحدى سمات هذا العصر الأساسية، إذ هو عطية الروح القدس التي وهبت بفيض على الكنيسة في يوم الخمسين لكي يحيا المؤمنون ثابتين في المسيح بالروح القدس، الذي يمطر عليهم ليحول قلبهم القفر إلى فردوس مثمر وجنة سماوية تبهج قلب العريس.

ويرى العلامة أوريجانوس في المطر إشارة إلى التمتع بالكلمات الإلهية بإدراكها روحيًا، هذه التي تنعش نفوسنا، إذ يقول: [إبحث في الكتب المقدسة أي مطر يوهب للقديسين وحدهم؟!... جاء في سفر التثنية: "إنصتي أيتها السموات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي" (تث 32: 1-2). هل هذا القول هو من عندياتي؟! ألم يعلن موسى هذا المطر؟!... بجانب ما جاء في الأنبياء أن الله يفتح فمه فينزل كلماته كالمياه على وجه الأرض (خر 34: 26)، يقول الرسول بولس: "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله، ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق" (عب 6: 7-8). يقول الرسول عن هذه الأرض أنها تنال بركة الرب متى شربت المطر وأنتجت الثمر، وتحل عليها اللعنات من عند الرب متى حُرمت من المطر فأخرجت شوكًا وحسكًا. فإن استقبلت أرضنا - أي قلبنا - مطر تعليم الناموس الذي يسقط علينا دائمًا، وإذا حملت ثمار الأعمال تتمتع بالبركات. وبالعكس إن لم يكن لها أعمال روحية يكون لها الشوك والحسك أي هموم هذا العالم وشهواته فتكون قريبة من الهلاك وتستحق الحرق[312]].

إذن لنتقبل كلمة الرب كمطر سماوي يروي أرضنا الداخلية فتأتي بالثمر المتزايد وتتحول أعماقنا إلى جنة مفرحة، هذا المطر يسقط "في حينه"، لا بمعنى أنه يُقدم في وقت ولا يقدم في وقت آخر، وإنما يقدم هذا المطر للمؤمنين حسب إمكانيتهم واستعدادهم، البعض يتقبله خفيفًا والآخر كسيول سريعة، إذ تقدم كلمة الله تارة كلبن للأطفال (1 كو 3: 2)، وأخرى كدسم بيته من نهر نعمته (مز 36: 8). ولعل قوله "في حينه" يُشير إلى فيض عطية الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة كمطر غزير بعد صلب السيد وقيامته وصعوده.

ثانيًا: "وتعطي الأرض غلتها" [4]، ما هي هذه الأرض التي تعطي غلتها إلاَّ الجسد الترابي الذي يتقدس بمطر الروح القدس فيُنزع عنه قفره ويتحول إلى فردوس روحي مثمر؟! ما هذه الأرض التي أثمرت إلاَّ جسدنا الذي عاش زمانًا هذا مقداره بلا ثمر حتى أخذه كلمة الله بتجسده فقدم ثمرًا فائقًا يبهج قلب الآب؟! لذا يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: [باركت طبيعتي فيك[313]].

يرى البعض أن هذه الأرض التي أثمرت هي القديسة مريم التي هي أرض مثلنا قدمت أعظم ثمر، هو ربنا يسوع المسيح بتجسده في أحشائها.

ثالثًا: "وتعطي أشجار الحقل أثمارها" [4]. رأى حزقيال النبي في الهيكل الجديد إذ تفيض المياه من عتبة البيت من جهة المذبح فصارت أشبه بنهر عظيم إذا بأشجار من كل نوع على الجانبين (حز 47)، ويشبه المرتل المؤمن بشجرة مغروسة على مجاري المياه تعطي ثمرها في حينه.

يحدثنا العلامة أوريجانوس عن الأشجار الداخلية فيقول: [في داخلنا أشجار إما صالحة أو رديئة (مت 7: 18)، فالأبرار لا يمكنهم أن يحملوا ثمارًا رديئة، بل أشجارًا تأتي بثمار جيدة. أتريد أن أعرفك بأسماء الأشجار التي في داخل نفوسنا؟ إنه لا يوجد فيها شجر تفاح أو كرم عنب، إنما توجد شجرة تسمى البر وأخرى تسمى اليقظة، وأيضًا القوة والإعتدال. إن أردت أن تعرف ففي داخلنا أنواع كثيرة من الأشجار تمثل جنة الرب، يزرعها الرب بنفسه. بالحق توجد أشجار التقوى والحكمة والتعليم ومعرفة الخير والشر، وفوق هذا كله توجد شجرة الحياة (تك 2: 9)[314]].

رابعًا "ويلحق دراسكم بالقطاف، ويلحق القطاف بالزرع، فتأكلون خبزكم بالشبع" [5]. يقصد بالدارس درس الغلات فيمتد موسم الدرس من كثرة المحصول حتى يأتي وقت قطاف الثمار من الأشجار، ويقطفون ثمار الأشجار حتى يأتي وقت الحصاد، وكأن حياتهم تتحول إلى فيض لا ينتهي، يقضي المؤمن حياته كلها يجني كل يوم ثمرًا جديدًا ويتمتع بحصاد لا ينقطع، لذا قيل "يأكل الودعاء ويشبعون" (مز 22: 26). في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [لا يكون في حياتنا فراغ... "من يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غلا 6: 8)[315]]. كما يقول: [لا أفهم القول "تأكلون خبزكم بالشبع" على أنه بركة جسدية، كما لو أن الذي يحفظ ناموس الرب ينعم بالخبز العادي حتى يشبع، فإنه حتى الملحدين والمجرمين يأكلون منه لا بشبع فحسب بل وبشهوة!... إنما لننظر إلى القائل: "أنا هو الخبز النازل من السماء، من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (يو 6: 51). لنتأمل أن الناطق بهذا هو "الكلمة" (يو 1: 1)، الذي يشبع النفوس. هكذا نفهم الخبز الذي من عند الرب هو الخاص بالبركات... يقدم لنا سليمان إعلانات متشابهة في الأمثال، إذ يقول عن البار أن الصديق يأكل لشبع نفسه أما بطن الأشرار فتحتاج (أم 13: 5)... البار يأكل خبز الحياة على الدوام بغير توقف فتشبع نفسه بالطعام السماوي الذي هو كلمة الآب وحكمته[316]].

خامسًا: "وتسكنون في أرضكم آمنين" [5]. جاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيان حين سُئل أحد الآباء: كيف يتحقق وعد الله بأن من يترك بيوتًا وأراضي من أجل الرب يرد له في هذا العالم مائة ضعف بينما نجد الرهبان تركوا ولم يملكوا شيئًا؟ أجاب الأب بأن الراهب قد ترك بيته كي يجد الكل إخوته، وترك أرضًا ليجد الأرض كلها بين يديه. ونحن نرى إلى يومنا هذا كمثال الأب الراهب عبد المسيح الأثيوبي كيف ترك الكثير لكنه نال حتى في الأمور الزمنية أعظم مما ترك، ينام في الصحراء في أي موضع بلا أبواب مغلقة ولا تستطيع الوحوش المفترسة أن تقترب إليه وتؤذيه، بينما كثيرون لهم بيوت ويحاولون تأمين الأبواب غير أن قلبهم مضطرب وحياتهم مهددة وسلامهم مفقود.

وللعلامة أوريجانوس تعليق على هذا الوعد الإلهي، إذ يقول: [لا يكون الظالم في أمان قط إنما هو في اضطراب مستمر، إنه محمول بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال (أف 4: 14)، أما البار إذ يحفظ ناموس الرب يسكن في أرضه آمنًا، له الفكر الصليب القائل للرب: "قويني يارب بكلامك" (مز 118: 28). لتقوني أمنًا، ولتغرسني فأسكن في الأرض الصخرة المؤسسة في الإيمان (كو 1: 23، أف 3: 17)، إذ لا يكون بيته مؤسسًا على الرمل (مت 7: 24، 26)[317]].

يكمل الرب وعده، قائلاً "وأجعل سلامًا في الأرض فتنامون وليس من يزعجكم" [6]. هذا هو السلام الذي يحل في أرض قلبنا الداخلية، "سلام الله الذي يفوق كل عقل" (ف 4: 7). فبعد أن كانت أرضنا مسرحًا للإضطراب المستمر والقلق والمرارة إذ تقدست بربنا يسوع المسيح وتمتعت بعمل روحه القدوس صارت هيكلاً لله مملوءًا من سلام الله الفائق، لا يستطيع الأسد أي الشيطان بكل ملائكته أن يرهبها (رؤ 12: 7)، فيقول الإنسان مع المرتل "لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار ولا من وباء يسلك في الدجى" (مز 91: 65)، وأيضًا: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟‍! الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟!" (مز 27: 1)، وأيضًا: "إن نزل عليّ جيش فلا يخشى قلبي" (مز 27: 3).

خلال هذا السلام الفائق ننام حتى في وسط سجن الضيقات، لا نوم الخمول أو التراخي، إنما الإطمئنان كما فعل بطرس الرسول حين أيقظه الملاك في السجن ليخرج به ويعبر به حتى الباب الخارجي... بهذا نفهم الوعد الإلهي أن يعطي أحباءه نومًا!

سادسًا: "طرد الحيوانات الرديئة من الأراضي" [6]. إن كانت أبوابنا قد انفتحت لكل وحش رديء، وصارت حياتنا الداخلية مأوى لكل شر ودنس، إن كانت مدينتنا الداخلية بلا أسوار تتسلل إليها وحوش البرية بلا عائق، فقد جاء ربنا يسوع المسيح ليطرد هذه الوحوش الرديئة عن أرضنا التي هي أرضه، ليسكن هو فيها.

يقول العلامة أوريجانوس: [الحيوانات الرديئة الروحية هي التي يسميها الرسول "أجناد الشر الروحية في السمويات" (أف 6: 2). عن هذه الحيوانات يقول الكتاب: "الحية كانت أمكر من جميع الوحوش التي على الأرض" (تك 3: 1)... كما قيل: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9). إن أردت أن تعرف حيوانات أخرى رديئة يعلمك إشعياء النبي إذ دعاها في رؤى أنها الدابة في البرية، قائلاً: "في أرض شدة وضيق منها اللبوة والأسد الأفعى والثعبان السام الطيار يحملون على أكتاف الحمير ثروتهم وعلى أسنمة الجمال كنوزهم إلى شعب لا ينفع" (إش 30: 6). هل يتم هذا مع حيوانات البرية المادية؟! كيف يمكن للبوة والأسد والأفعى والثعبان السام أن يحملوا ثروتهم على ظهر حمار أو جمل؟! واضح إذن أن النبي المملوء بالروح القدس يعدد القوى العدوانية التي لأفظع الشياطين. يود أن يقول بأن الشياطين تضع ثروتها التي هي خداعاتها للنفوس، وذلك خلال الحماقة (الحمار) والدنس (الجمل)، ولكي لا نُسلم لهذه الوحوش يلزم للنفس التي تخاف الله أن تقول: "لا تسلم للوحش نفس يمامتك" (مز 74: 19)[318]].

سابعًا: الأمان من السيف، يعلق العلامة أوريجانوس على العبارة: "لا يعبر السيف في أرضكم" [6]، بقوله: [كثيرة هي السيوف التي تعبر في أرضنا إن لم نحفظ ناموس الرب ونتبع وصاياه! ليدخل كل واحد إلى نفسه وليتأمل داخله لئلا تكون أرضنا أي جسدنا مثارة بروح الزنا أو مضطربة بروح الغضب والهياج، أو بحركة البخل، أو بقوس الشهوة واللذات... هذا يعرفه الرسول بولس إذ يقول: "هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 10: 5)، فلا نخضع لهذا السيف ولتلك الحروب بل يحفظ الرب أرضنا في أمان[319]].

ثامنًا: "تطردون أعداءكم" [7]. يقول العلامة أوريجانوس: [أي أعداء هؤلاء إلاَّ الشيطان وملائكته، أي الأرواح الشريرة والشياطين الدنسة (لو 4: 33)؟‍! إذ نتبعهم فنطردهم، إن حفظنا الوصايا الإلهية يسحق الله الشيطان تحت أرجلنا (رو 6: 20)، فيسقط الأعداء تحت أقدامنا مائتين[320]].

"يطرد خمسة منكم مائة، ومائة منكم يطردون ربوة، ويسقط أعداءكم أمامكم بالسيف" [8]. من هم الخمسة الذين يطردون المائة، إلاَّ الحواس المقدسة التي تحمل قوة فتهزم جمهور الشر وجموع الخطية؟! ومن هم المائة الذين يطردون الربوة إلاَّ جموع أفكارنا المقدسة وجمهور طاقتنا المباركة بالرب إذ تطرد ربوات الأرواح الشريرة؟!

هكذا يمسك الإنسان بكلمة الله كسيف ذي حدين به يسقط الخطية كعدو ويفسد حيل الشياطين، فيدوس العدو تحت قدميه (1 كو 15: 5).

تاسعًا: النمو المستمر: "وألتفت إليكم وأثمركم وأكثركم" [9]. لا يقف الأمر عند تحطيمنا للعدو مهما بدا ضخمًا في عدده، عنيفًا في قوته، وإنما أيضًا نتزايد نحن قوة وعددًا، إذ قيل عن عمل الله حتى في العظام اليابسة التي لنا: "قاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا" (حز 37: 1)... "فتعلمون إنيّ أنا الرب تكلمت وأفعل يقول الرب" (حز 37: 14).

أما سرّ القوة الروحية فهي "ألتفت إليكم"... يكفي نظرة الله إلينا لتهب أثمارًا كثيرة. وكأن نظراته أشبه بأشعة الشمس التي إن أشرقت على الزراعة جاء المحصول متزايدًا، أما إن احتجبت الشمس عن حقلنا الداخلي فلا يستطيع أن يقدم حصادًا.

يلتفت إلينا لا ليديننا هنا وإنما ليفي ميثاقه معنا [9]، إذ يقول: "وأوفي ميثاقي معكم، فتأكلون العتيق المعتق وتخرجون العتيق من وجه الجديد" [9-10]. يقول العلامة أوريجانوس: [كيف نخرج العتيق ليجد الجديد له موضعًا؟.. نخرج حرف الناموس لكي نحفظه حسب الروح (جديدًا)... يمكننا أن نقول إنه قبل مجئ السماوي ويولد، كنا كلنا أرضيين ولنا صورة الترابي (1 كو 15: 47)، والآن جاء "الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله" (أف 4: 22)، فأخرجنا القديم بخلع الإنسان العتيق ولبس الجديد (أف 4: 22)، الذي بحسب الإنسان الداخلي يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16)[321]].

عاشرًا: يختم الله حديثه عن بركات الطاعة لوصيته بأعظم وعد، ألا وهو حلوله وسط شعبه، وفي داخل مؤمنيه، إذ يقول: "وأجعل مسكني في وسطكم، ولا ترذلكم نفسي، وأسير بينكم وأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون ليّ شعبًا" [11-12]. وفي وضوح يقول السيد ليلة آلامه: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23)... وقد دعيت أورشليم السماوية "مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ 21: 23). هذه هي العطية الأبدية، يسكن الله معنا ويقبلنا عنده كشعب سماوي له وهو يكون لنا إلهًا يتجلى فينا.

سكنى الله فينا ينزع عنا فراغنا الداخلي الذي لن يشبعه إلاَّ الله نفسه، إذ لا تشبع النفس التي على صورة خالقها إلاَّ بالأصل ذاته. يقول القديس ايريناوس: [إن الإنسان إما أن يكون فارغًا أو مملوءًا وفمن يقبل الله ساكنًا فيه يكون مملوءًا، أما من ليس له معرفة الآب السماوي وليس له الروح القدس ولا قبل فيه المسيح الحياة فيكون فارغًا[322]].

يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني قوله بالنبي "وأكون لكم إلهًا وأنتم تكونون ليّ شعبًا" سوى أنني أكون كفايتهم، أكون كل شيء يطلبه الناس بوقار: الحياة والصحة والقوت والرخاء والمجد والكرامة والسلام وكل صلاح؟! هذا ما يفسره أيضًا قول الرسول "يكون الله الكل في الكل" (1 كو 15: 28). إنه يكون نهاية اشتياقاتنا التي بلا نهاية![323]].

3. اللعنات الحالة على العصاة:

بعد أن قدم الجانب الإيجابي معلنًا عطايا الله للإنسان الحافظ لوصيته، بدأ في الجانب السلبي يعلن الثمر الطبيعي لرفض الوصية، إذ يُحسب هذا نكثًا للميثاق معه [15] ورفضًا لشخصه، أما هذا الثمر المرّ فهو:

أولاً: "أُسلط عليكم رعبًا وسلاً وحمى تفنى العينين وتتلف النفس" [16]. إن كان الله يُعاقب الإنسان بالرعب وبمرض السل والحمى وفقدان البصيرة إنما هذا يتم بتخلي الله عن رافضه فيسقط الإنسان في هذه المرارة ليعيش بلا سلام داخلي ولا صحة جسدية وبدون بصيرة! يفقد قلبه (سلامه) وجسده وبصيرته! ولعل الله يسمح بهذه الأمور الظاهرة حتى يتفطن إلى ما أصابه داخليًا بسبب عصيانه، فيأتي التأديب كترمومتر يعلن الفساد الداخلي، ليقول "روحي تلفت، أيامي انطفأت" (أي 17: 1).

ثانيًا: "وتزرعون باطلاً زرعكم فيأكله أعداؤكم" [16]. إنهم يعملون لكن ليس لحساب الرب إنما يزرعون زرعهم الذاتي، فلا يباركه الرب إنما يصير نهباً للأعداء.

ثالثًا: "وأجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعداءكم ويتسلط عليكم مبغضوكم وتهربون وليس من يطردكم" [17]. إذ يفقد الإنسان سلامه الداخلي ويخسر شركته مع الله يصير ضعيفًا أمام الأعداء الروحيين حتى وإن كان العدو في ذاته كلا شيء، وكما يقول الحكيم: "الشرير يهرب ولا طارد" (أم 28: 1). سرّ الضعف والهزيمة لا في قوة العدو وإنما في إنهيار الإنسان داخليًا.

رابعًا: إن لم نستجب أمام هذه الضعفات بالتوبة يؤدب الله بتأديب مضاعفة، إذ يقول: "فأحطم فخار عزمكم وأصير سماءكم كالحديد وأرضكم كالنحاس فتفرغ باطلاً قوتكم، وأرضكم لا تعطي غلتها وأشجار الأرض لا تعطي أثمارها" [19-20]. يبدأ الله بتأديب خلال الأمراض ونهب الأعداء فإن لم نتفطن يضاعف الضربات خلال المذلة لتحطيم كبريائنا، يقف الإنسان في مذلة إذ يجد الطبيعة ذاتها وكأنها تقسو عليه، فتصير السماء كالحديد لا تهطل مطرًا، والأرض كالنحاس لا تصلح للزراعة. إن رفع الإنسان عينيه إلى السماء لعلها تستجيب له يجدها حديدًا جامدًا، وإن تطلع إلى الأرض يجد كل من حوله قد صار نحاسًا لا يرق له.

إن كانت السماء تُشير إلى النفس البشرية والأرض إلى الجسد، فحينما       لا ينصت الإنسان للوصية الإلهية ولا يتجاوب مع كلمة الله، ينال مكافأته فورًا إذ تصير

نفسه كالحديد وجسده كالنحاس لا يخضعان له ولا يستجيبان لصوته الداخلي...

خامسًا: إفتراس الوحوش لهم "أطلق عليكم وحوش البرية فتعدمكم الأولاد وتقرض بهائمكم وتقلقكم فتوحش طرقكم" [22]. حين تذمر الشعب في البرية ترك الحيات المحرقة تلدغهم (عد 21: 5-6)، وحين استهزأ بعض الأولاد بأليشع النبي سمح بدبتين قتلتا منهم إثنين وأربعين شخصًا، وحينما أرسل ملك أشور أناسًا وثنيين يسكنون أرض كنعان بعد سبيه للشعب الإسرائيلي أرسل الله وحوشًا تفترسهم (مل 17: 24، 26).

ما هذه الوحوش التي تنطلق علينا إلاَّ الخطايا التي يحفظنا الله منها مادمنا في حضرته نستجيب لصوته، فإن أعطيناه القفا لا الوجه ترك الوحوش تعدمنا أولادنا أي ثمارنا الداخلية وتقرض بهائمنا أي تفسد جسدنا؟!

سادسًا: ضربة السيف والوبأ [25]. بمعنى التأديب خلال سيف العدو، والسماح بالوباء حتى تنحل قوة الأشرار فلا يقدرون على مقاومة العدو.

سابعًا: ضربة القحط [26]، "بكسري لكم عصا الخبز تخبز عشر نساء خبزكم في تنور ويرددون خبزكم بالوزن، فتأكلون ولا تشبعون" [26]. يكسر الله لهم عصا الخبز أي يقطع عنهم خبز الحياة، الكلمة الإلهية، فتعيش نفوسهم في جوع لا تجد عصا تتكئ عليها. أما علامة القحط فهو عوض أن يكون لكل سيدة تنور خاص بها تضع فيه الخبز لتسويته، تستخدم كل عشر نساء تنورًا واحدًا، إذ ليس لديهم خبز يحتاج إلى تنور، أو ليس لديهن الوقود اللازم لإشعال أكثر من تنور. العلامة الثانية للقحط هي الحرص في الخبز فيستخدمونه بالوزن لقلة كميته وانتزاع البركة عنهم. ويصل القحط مداه حين تمتد أيدي الوالدين لأكل لحوم أولادهم، كما حدث في أيام يهورام بن آخاب ملك إسرائيل إذ اتفقت إمرأتان أن تطبخ كل منهما ولدها في يوم لتأكلاه معًا (2 مل 6: 24-30)، وأيضًا في أيام حصار ملك بابل لأورشليم، إذ قيل: "أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن، صاروا طعامًا لهن في سحق بنت شعبي" (مرا 4: 10)، وتكرر الأمر حين حاصر تيطس الروماني أورشليم.

حين نعطي ظهورنا للوصية الإلهية يصيبنا قحط داخلي يفقدنا الطعام الضروري، فتمتد أيدينا إلى أولادنا أي الثمار الداخلية لنأكلها ونموت!

ثامنًا: "وأضرب مرتفعاتكم، وأقطع شمساتكم، وألقي جثثكم على جثث أصنامكم وترذلكم نفسي" [30]. حين رفض الشعب الوصية عبدوا الأصنام في الأماكن المرتفعة، وأقاموا الشمسات أي التماثيل الخاصة بعبادة الشمس، أو ربما قصد أقاموا مظالاً يقيمون فيها عند عبادتهم على المرتفعات حتى لا تضربهم الشمس... الله في غيرته يُحطم الآلهة الغريبة التي اتكأ عليها مخالفو الوصية، معلنًا نهاية رفض الوصية: الموت المحتم وفقدان الآلهة التي من صنع أيدينا! بإلقاء الجثث تفوح رائحة الموت والنتانة لذلك يقول "ترذلكم نفسي".

تاسعًا: إذ يرفض الإنسان وصية الله تتحول المدن المحصنة إلى خراب، والمقادس إلى أماكن موحشة ليس من يلجأ إليها، حتى الأرض التي يسكنونها ترفضهم فتلقي بهم إلى الأمم ليصيروا مشتتين ومضطهدين. في شرهم لم يكونوا ملتزمين بالسنة السبتية لتستريح الأرض، وها هي الأرض تلقي بهم خارجًا عنها (تسبت) منهم.

يطردون ليعيشوا في أرض غريبة بروح الجبن، يسقطون بلا طارد حقيقي، إنما طاردهم هو شرهم الداخلي.

4. قبول الخطاة التائبين:

بعد أن أعلن مرارة ما يصل إليه الإنسان بسبب عصيانه لله يعود فيؤكد أن العلاج الوحيد لتمتع الإنسان بالبركة عوض اللعنة هو الرجوع إليه بالتوبة، فيذكر الله وعده، معلنًا إنهم حتى في أشر لحظاتهم لم يرد الله إبادتهم بل تأديبهم.

<<

 


 

الأصحاح السابع والعشرون

النذور والبكور

إن كان سفر اللاويين هو سفر التقديس والمصالحة بين الله القدوس وشعبه خلال الذبيحة التي يقدمها الكاهن، وقد أعلن الله غايته من الإنسان أن يدخل به إلى فرح لا ينقطع خلال الأعياد المستمرة والمتنوعة، فإنه يختم السفر بإعلان شريعة النذور والبكور والعشور، وكأنه يعلن أن الحب بين الله والإنسان متبادل ومشترك، فيقابل الإنسان محبة الله الفائقة بنذر حياته وتكريسها له ونذر حيواناته وبيوته وحقوله بكامل حريته.

1. شريعة النذور           [1-25].

2. شريعة الأبكار           [26-27].

3. شريعة المحرمات       [28-29].

4. شريعة العشور                    [30-34].

1. شريعة النذور:

النذر لكي يكون صحيحًا يلزمه تحقيق شرطين: الأول حرية الناذر كأن يكون إنسانًا ناضجًا في غير وصاية أحد، فإن كان الناذر عبدًا يتحرر من النذر إن سمع سيده بالنذر واعترض حال سماعه، وأيضًا إن كان الناذر زوجة فلا تلتزم بالنذر إن اعترض رجلها عند سماعه بالنذور وهكذا الفتاة التي في بيت أبيها... أما الشرط الثاني فهو أن يكون موضوع النذر مقدسًا وليس نجسًا وإلاَّ دُفع عنه فدية، فلا يجوز تقديم حيوانات نجسة مثلاً في بيت الرب، ولا يجوز أيضًا تقديم النذر من ثمن خطية كأن تفي سيدة نذرها أجرة زناها.

إذن من هو هذا النذير الكامل الحرية الذي يقدم نذرًا مقدسًا يفرح قلب الآب إلاَّ كلمة الله المتجسد، الذي قدم حياته ذبيحة محرقة وطاعة للآب فاشتمها أبوه الصالح رائحة ذكية. ونحن أيضًا لكي نقدم نذرنا يلزمنا أن نختفي في النذير كأعضاء جسده فتفوح فينا رائحته السماوية قادرة أن تبهج قلب الآب.

أ. بدأت هنا الشريعة بنذر الأشخاص، كما نذرت حنه إبنها صموئيل للرب (1 صم 1: 11)، وكان يمكن للشخـص أو وليه أن يفي بمبلغ معين فدية عن النذير، وتقدر

الشريعة الفدية هكذا:

أولاً: يقوم موسى النبي نفسه بالتقويم للفدية [2]، وقد صار ذلك من حق الكاهن فيما بعد.

ثانيًا: تقدر الفدية على أساس "شاقل المقدس"، أي الشاقل المحفوظ في الهيكل، وتكون الفدية هكذا:

بالنسبة للذكر من سن20 إلى60 تقدر بخمسين شاقلاً،

بالنسة للأنثى في ذات السن تقدر بثلاثين شاقلاً،

بالنسبة للذكر (من سن 5-20) تقدر بعشرين شاقلاً،

بالنسبة للأنثى (من سن 5-20) تقدر بعشرة شواقل،

بالنسبة للذكر (من شهر- 5 سنوات) تقدر بخمسة شواقل،

بالنسبة للأنثى في ذات السن تقدر بثلاث شواقل.

ثالثًا: إن كان الشخص فقيرًا يقومه الكاهن حسب قدرة ما تنال يّد الناذر [8]... إذ يترفق الله بالإنسان!

 ب. بالنسبة لنذر الحيوانات [9-13]، فإن كان النذر حيوانًا طاهرًا يمكن تقديمه ذبيحة لا يجوز إستبداله بما هو أردأ منه أو حتى بما هو أفضل منه، فإن أبدله الناذر يلتزم بتقديم الإثنين الحيوان الأصلي وبديله. أما إن كان الحيوان نجسًا أو به عيب فيقدم أمام الكاهن ويقدر الثمن ليباع ويدخل ثمنه في صندوق بيت الرب. إن أراد الشخص أن يقتني الحيوان فيقدر الثمن ليدفعه مضافًا إليه الخمس.

في هذه الشريعة الخاصة بنذر الحيوانات يؤكد الله مبدأين: الأول بعدم استبدال الحيوان الطاهر لأنه يطلب الإنسان الطاهر له دون استبدال، يحبه لنفسه. والثاني عدم استلام الحيوان الدنس لأنه لا يقبل في مقدساته شيئًا دنسًا. بمعنى آخر إن كان الله يحبنا ويطلبنا بأسمائنا كأولاد له، لكنه لا يقبل دنسين معه في أحضانه.

ج. بالنسبة لنذر البيوت [14-15]، إذا اشتاق إنسان أن يكرس بيتًا للرب يقيم الكاهن ثمنه ليباع ويضم الثمن إلى خزينة بيت الرب، أما إذا أراد صاحبه أن يقتنيه فيدفع الثمن مضافًا إليه الخمس.

د. بالنسبة لنذر الحقول [16-25]، يميز بين الحقل الذي ملك لصاحبه يتمتع به خلال الميراث، والآخر يكون قد اقتناه خلال الشراء. بالنسبة للحقل الموروث إذ يرجع إلى صاحبه في سنة اليوبيل لذا إن أراد صاحبه أن يفك بقدر ثمنه حسب عدد السنوات الباقية إلى اليوبيل مضافًا إليه الخمس إن لم يهتم صاحب الحقل أو وليه بفك الحقل لا يرجع إليه الحقل حتى في سنة اليوبيل بل يصير للكاهن الذي يزرعه على الدوام. كانت هذه الشريعة حافزة لكل إنسان أن يسترد حقله ولا يستهين بميراثه. أما بالنسبة للحقل المشترى فإن أراد استرداده تحسب قيمته حتى اليوبيل دون أن يضيف الخمس لأنه في اليوبيل يرجع الحقل إلى صاحبه الأصلي، وإن لم يسترده ففي اليوبيل تئول ملكيته لصاحبه الأول أي للبائع.

يمكننا أن نلخص الشرائع الخاصة بالنذور متطلعين إليها كشرائع تمس حياتنا وعلاقتنا بالله، فنذر الأشخاص يُشير إلى تكريس القلب الداخلي الذي افتداه ربنا يسوع لا بشواقل ذهب أو فضة وإنما بدمه الثمين. ونذر الحيوانات يُشير إلي تقديس الجسد ليكون مقدسًا للرب وآلات برّ تعمل لحساب ملكوته. أما نذر البيوت فيُشير إلى تقديم حياتنا كلها كمسكن لله، ونذر الحقول المثمرة تُشير إلى تقديس طاقاتنا وأعمالنا اليومية.

2. شريعة الأبكار:

في الحديث السابق أوضح النذور الإختيارية، أما بالنسبة للأبكار فهي قدس للرب، نلتزم بتقديمها للرب دون أن ننذرها. فإن كان الحيوان طاهرًا يفرزه للرب دون أن يستبدله، أما إن كان دنسًا إما أن يباع ويدفع ثمنه للخزينة أو يفديه صاحبه بدفع ثمنه مضافًا إليه الخمس.

البكر الطاهر هو ربنا يسوع المسيح الذي قبله الآب ذبيحة حب، خارجه لا يمكن أن يكون لنا موضع في بيت الرب بل نحسب دنسين ومطرودين من المقدسات الإلهية.

3. شريعة المحرمات:

يبدو أن المحرم هو الشخص أو الشيء الذي لا يجوز إستخدامه أو التعامل معه. فالشخص المحرم هو الإنسان الخطير الذي أفسد حياته بالعبادات الوثنية والرجاسات لذا أمرت الشريعة بقتله، الأمر الذي يبدو لنا فيه قسوة، لكننا إن عدنا إلى ذلك العصر لنجد بعض الشعوب الوثنية المحيطة يلذ لها تقديم أولادها البكور ذبائح بشرية للآلهة، مع ممارسة الزنا والرجاسات كجزء لا يتجزأ من العبادة لأدركنا لماذا حرم الله هذه الشعوب حتى لا تفسد الخميرة التي كان يجب أن تكون مقدسة.

أما المحرم من الحيوانات والحقول فكانت تستخدم في خدمة بيت الرب، يستخدمها الكهنة دون سواهم، أما المحرم من الذهب والفضة فيدخل خزينة بيت الرب.

4. شريعة العشور:

كان الشعب يقدم عشر المحاصيل الزراعية سواء من الحبوب أو الفاكهة قدسًا للرب، فإن أراد الأحتفاظ بالعشر يدفع ثمنه مضافًا إليه الخمس. أما بالنسبة للحيوانات فكانت العشور تقدم هكذا: يخرجون الأمهات خارجًا ثم يعبرون بالصغار من باب ضيق لا يسع إلاَّ واحدًا منها، فيكون عند مرورها يرفع الشخص عصا ليعد تسعة ويكون العاشر للرب فيضع عليه علامة تميزه، وبهذا لا يكون لصاحبها دخل في الإختيار، وليس من حقه إبدال حيوان بآخر حتى إن أراد أن يقدم ما هو أفضل، فإن أبدل حيوانًا يكون الإثنان للرب.

يحدثنا الأب ثيوناس عن العشور فيقول: [عندما نقدم لله العشور نكون لا نزال منحدرين إلى أسفل نحو الأرضيات تحت عبء الناموس، عاجزين عن الإرتفاع إلى علو الإنجيل الذي من يعمل بموجبه يُكافأ ليس فقط ببركات الحياة الحاضرة بل بالخيرات العتيدة... إذ يقول الرب لتلاميذه: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت 5: 3)، "كل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا أو إمرأة أو أولادًا أو حقولاً من أجل إسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية (مت 19: 29)[324]].

<<

 


 

[1] راجع معنى مشناه في كتابنا: التقليد والأرثوذكسية (تقليد اليهود).

[2] Megilla 3:6; Siphra.

[3] Donald Fraser: Synoptical lecturers, vol 1, p 29.

[4] J. Raven: Introd. to O. T., p 144.

[5] J. Hastings: A Dist. of the Bible, v 3, p 103.

[6] Alfred Edersheim: The Temple, 1976, p 118, 119.

[7] On Levi. 17:11.

[8] In 2 Cor. hom. 5:5.

[9] A plea For Christians 13.

[10] Edersheim: The Temple, p 126, 127.

[11] Ibid 127.

[12] On Ps. 50.

[13] On Ps. 52.

[14] On Ps. 66.

[15] In hebr. hom. 11:5, 6.

[16] Orat. On Holy Baptism 40.

[17] In Lev. hom. 1:2.

[18] On Ps. 64.

[19] In Lev. hom. 1:3

[20] In Hebr. hom. 16;5.

[21] On Ps. 65.

[22] In Matt. hom. 82.

[23] In Hebr. hom. 17:6.

[24] In Lev. hom. 1:2.

[25] In Hebr. hom 33:4.

[26] In Lev. hom 1:2.

[27] PG 50 In Ascensione.

[28] Edersheim, p 113.

[29] Ibid 113,114

[30] Ibid 114.

[31] In Hebr. hom. 13:9.

[32] The Trinity 4:13.

[33] In Hebr. hom. 4:3.

[34] للمؤلف: الكنيسة بيت الله، 1979، ص83.

[35] Ep. to Adelphius8 : De Incarn. 25.

[36] In Lev. hom.. 1:3.

[37] In Lev. hom. 14:3; 16:17.

[38] In Lev. hom. 1:4.

[39] In Ioan. hom. 35:3.

[40] In Hebr. hom. 16:3.

[41] In Ioan. hom. 25:2.

[42] Duties of Clergy.

[43] In Hebr. hom. 1:5.

[44] In Lev. hom. 1:5.

[45] Instruc. 1:5.

[46] In Lev. hom. 2:2.

[47] راجع كتابنا: المسيح في سر الأفخارستيا

[48] On Ps. 45.

[49] In Rom. hom. 1.

[50] On Baptism 7.

[51] Cat. hom. 13:17.

[52] PG 61:418.

[53] Ep. 41:20.

[54] In Ioan. hom 13:4.

[55] Ibid.

[56] On Ps. 141.

[57] Ep. 31:1.

[58] الإنجيل بحسب متى، 1983.

[59] Ep. 125:1.

[60] In Lev. hom. 2:2.

[61] In Lev. hom. 2:2.

[62] On Ps. 126.

[63] الحب الرعوي: 1965، ص363.

[64] الأرشيدياكون نجيب جرجس: سفر اللاويين، 1980، ص43، 44.

[65] منشورات النور: مجموعة الشرع الكنسي، 1975، ص865.

[66] ANF, vol. 7, p 504 ( canon 63 ).

[67] مجموعة الشرع الكنسي، ص590.

[68] In Lev. hom. 2:2.

[69] راجع تفسير لا 1:2.

[70] الحب الرعوي: 1965، ص 164، 165.

[71] In Lev. hom. 2:3.

[72] Ser. on N.T. Lessons 84:5.

[73] In Ioan 46:4.

[74] De Vict. 13.

[75] In Lev. hom. 2:5.

[76] In Lev. hom. 3:2.

[77] Ibid.

[78] Ibid 3:3.

[79] Ibid 3:4.

[80] Ibid.

[81] Comc. Repent. 2:10.

[82] الحب الرعوي، 1965، ص267.

[83] المرجع السابق، ص273.

[84] In Lev. hom. 3:8.

[85] Ibid.

[86] In Lev. hom. 4:2.

[87] Ibid 4:4.

[88] In Ioan 41:2.

[89] Cont. Eunomium 4.

[90] In Lev. hom. 4:4.

[91] Ibid.

[92] Ibid.

[93] Ep. 54:21.

[94] In Lev. hom. 4:6.

[95] حزقيال، 1981، ص 54.

[96] In Lev. hom. 4:8.

[97] Hom in paschal PG 52:769.

[98] Hom In Not. Dom. pg 49:360.

[99] In Matt. hom. 25.

[100] De pnod. Judae hom2.

[101] للمؤلف: المسيح في سر الأفخارستيا، ص379، 441.

[102] الأرشيدياكون نجيب جرجس: سفر اللاويين، ص 73.

[103] In Ioan. hom 46:3.

[104] In Lev. hom.5:3.

[105] Ibid

[106] راجع كتابنا: آباء مدرسة الأسكندرية الأولون، أوريجين (الكتاب المقدس).

[107] In Lev. hom. 5:8.

[108] Ibid.

[109] Ibid 5:9.

[110] In 2 Cor. hom. 3:7.

[111] القمص صليب سوريال: مذكرات الطقوس، ج3، ص171.

[112] قوانين الرسل، 52:1.

[113] قوانين أبوليدس 2.

[114] In 2 Thess. PG 62:498.

[115] In Lev. hom. 6:2.

[116] In Ioan. hom. 13:3.

[117] In 1 Cor. Hom 27:4.

[118] In Matt. hom. 82:5.

[119] In Lev. hom. 6:2

[120] للمؤلف: سفر الخروج، 1981، ص188- 195.

[121] In Lev. hom. 6:4, 5.

[122] On Ps 86.

[123] City of God 22:30.

[124] الأرشيدياكون راجع تفسير لا9.نجيب جرجس، ص104.

[125] راجع مقدمات في علم الباترولوجي، 1974.

[126] On Ps 58.

[127] Ad Hear. 4:26:2.

[128] In Lev. hom. 9:9.

[129] On Ps. 58.

[130] القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980.

[131] Ep. 39:4.

[132] Ep. 52:11.

[133] Ad. Hovin. 2:15.

[134] Ep. 52:11.

[135] In Lev. hom 7:1.

[136] Ibid 7:1, 2.

[137] Ibid 7:2.

[138] Ep. of Barnabas 10:11, 12, St. Clem. Alex.: Instr. 3:11, St. Iremaeus: Adv. Hear. 5:8:4, St. Jerome: On Ps. hom 23.

[139] Ep. of Branabas 10:12.

[140] In Lev. hom 7:6.

[141] On ps. hom 23.

[142] Strom 5:8.

[143] Instrs. 3:11

[144] Adv. Hear. 5:8:4.

[145] In Lev. hom 7:6.

[146] New Westminster Dict. of the Bible, P. 806-7  قاموس الكتاب المقدس، ص1016

[147] New Oxford Illust. Dict., P. 1693.

[148] Strom. 5:8.

[149] Ep. of Barnabas 10:2, 3.

[150] New Westminster Dict. 913, 4, Herod. 2:47.

[151] Strom. 5:8.

[152] In Lev. hom 7:7.

[153] Ep. of Barnabas 10:4.

[154] New Westminster Dict. 689, A. Mitchell: Dict. of Bible Animals, Plants and Minerals, P. 39.

[155] New Westminster Dict. p. 543.

[156] الأرشيدياكون نجيب جرجس: سفر اللاويين، ص147. New Westminster Dict. p. 690 .

[157] Ibid p. 330.

[158] Ibid p. 909.

[159] Ibid p. 385.

[160] الأرشيدياكون نجيب جرجس، ص149.

[161] In Lev. hom. 7:4.

[162] In Lev. hom. 8:1.

[163]  Ibid 8:3.

[164] Ibid 8:4.

[165] راجع سفر الخروج، 1981.

[166] In Lev. hom. 8:5.

[167] Ibid. 8:10.

[168] Ibid. 8:8.

[169] Ibid. 8:9.

[170] Ibid.

[171] Ibid 8:10.

[172] Ibid.

[173] راجع الإنجيل بحسب متى، 1983.

[174] In Lev. hom. 8:10.

[175] Ibid.

[176] راجع كتاب: الحب الرعوي، 1965، ص652- 662.

[177] A Edersheim: The Temple, p. 356.

[178] Ibid, Mishinic tractate, negaim 13:12.

[179] In Lev. hom. 8:10.

[180] Ant -Nicene Frs. vol. 1, p. 301.

[181] Ep. 40 to Cornelius.

[182] Unity of church 6.

[183] In Lev. hom. 8:10.

[184] A N Frs. v. 1, p. 301.

[185] In Lev. hom 8:10.

[186] In Matt. hom 54:7.

[187] In Lev. hom 8:10.

[188] In Exod. 13:4.

[189] راجع تفسير: سفر يشوع للمؤلف.

[190] In Hebr. hom 16:5.

[191] On Ps. 51.

[192] In Lev. hom 8:10.

[193] On Ps. hom 17.

[194] In Lev. hom 8:11.

[195] In Exod. hom 13:5.

[196] In Lev. hom 8:11.

[197]  PG 46:429C.

[198] الفيلوكاليا، ص 90.

[199] ميمر عن المعمودية المقدسة.

[200] In lev. hom. 8:11.

[201] Ibid.

[202] Alfred Edersheim: The Tempel, p. 360.

[203] In Lev. hom. 8:11.

[204]  Edersheim, p. 360.

[205] In Lev. hom. 8:11.

[206] الحب الرعوي، ص193.

[207] Anatole Moulard: Sainte Jean chrysostome, so vio, son oeurre, 1949, p. 138.

[208] In Thess, hom. 5.

[209] Edersheim, p. 304, 305.

[210] Ibid, p. 307.

[211] Ibid 309.

[212] In Lev. hom 9:5.

[213] Sermons on N. T. Lessons 86:7.

[214] In Lev. hom 9:3.

[215] Ibed 9:2.

[216] Edersheim, p. 310. 1.

[217] In Lev. hom. 9:3

[218] Ibid.

[219] Ibid.

[220] Ibid.

[221] In Lev. hom 9:9.

[222] Ibid 9:10.

[223] Ep. to petilian.

[224] In Lev. hom 9:11.

[225] Ibid 9:6.

[226] Ep. of Bernabas 7.

[227] An Answer to the jews 14, Adv. Marcion 3:7.

[228] Edersheim, p. 120.

[229] On Ps. 43.

[230] In Ioan. hom 64:4.

[231] القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، ص244.

[232] Strom. 2:10.

[233] In Rom. hom 17.

[234] In I Cor. hom 34:6.

[235] Ep. 140 to Diodours.

[236] . ك6، ف28:5.

[237] On Ps. 71.

[238] Ibid 86

[239] Ibid.

[240] Ibid 133.

[241]  In I,ev. hom 11:1.

[242] Ladder 12:2.

[243] Ibid12:13.

[244] Ibid 9:9.

[245] Ibid 9:13.

[246] Conc. Stat. 19:8.

[247] الحب الأخوي، 1964، ص457.

[248] المرجع السابق458.

[249] المرجع السابق315.

[250] Instit. 8: 15.

[251] Adv. Marc. 4:35.

[252] On Christian Fait 1:22.

[253] Our Lod`s Ser. 1:21.

[254] الأرشيدياكون نجيب جرجس، ص 298.

[255] In Ascensoine PG 50

[256] الأرشيدياكون نجيب جرجس، ص301.

[257] Cassian: Cofn. 21:22.

[258] الأرشيدياكون نجيب جرجس، ص312.

[259] In Lev. hom 11:3.

[260] Ibid.

[261] ibid 11:2.

[262] Cat. Lect. 7:15.

[263] الحب الرعوي، 1965، ص312.

[264] Adv. Marc. 4:23.

[265] Strom 2:23.

[266]  Ep. 39:4.

[267] In 2 Cor. hom. 2:8.

[268] Cassian: Conf. 14:10.

[269] الرعاية (ترجمة جورج فهمي حنا)، كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج.

[270] المطران إيفانيوس: الآمالي الذهبية من مقالات لأبينا الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم، بيروت1972،

ص65.

[271] سفر العدد، 1981، ص195.

[272] Edersheim, ch 10.

[273] ibid 205, 7.

[274] للمؤلف: الرسالة إلى العبرانيين، الأصحاح الرابع.

[275]  T. Maertens: A Feast In Honour of yahweh, 1966, p. 166.

[276] City of God 22:30.

[277] المسيح في سر الأفخارستيا، 1973، ص125.

[278] On Ps. hom21.

[279] Jos. Antiq. 12:6:2, 14:4:2.

[280] المسيح في سر الأفخارستيا، الباب الأول- سّر السبت.

[281] Antiq. 2:15:1.

[282] الخروج، 62- 78، سفر العدد193.

[283] المسيح في سفر الأفخارستيا، الباب الأول- سّر الفصح.

[284] A. Edersheim, p. 257.

[285] Ibid, p. 265.

[286] الإنجيل بحسب متى، 1983.

[287] T. Maertens. A Feast in Honour of Yahweh, p. 144. Book of Jubiless 6:16- 17.

[288] Book of Jubiless 14:20.

[289] T. Maertens, p. 145.

[290] Ibid, ch 3.

[291] Ibid p. 61.

[292] Edersheim, p. 280.

[293] T. Meartens, p. 87.

[294] Edersheim, p. 285, 6.

[295] الخروج، 1981، ص174- 176.

[296] Banquet of Ten Virgins 4.

[297] In Lev. hom 13:2.

[298] Ser. on N. T. Lessons 43:1- 5.

[299] In Lev. hom13:2.

[300] الخروج، ص173- 174.

[301] In Lev. hom 13:3.

[302] Ibid 13:5.

[303] Ibid 14:1- 3.

[304] Ibid 14:3.

[305] Ibid 14:3.

[306] Mckenzie: Dict. of the Bible, p. 460.

[307] راجع سفر الخروج ص182.

[308] In lev. hom 15:2.

[309] Ibid 15:3.

[310] Ibid.

[311] سفر الخروج، تفسير الأصحاح21.

[312] In Lev. hom 16:2.

[313] القداس الأغريغوري.

[314] In Lev. hom 16:4.

[315] Ibid 16:4.

[316] Ibid 16:5.

[317] Ibid.

[318] Ibid 16:6.

[319] Ibid.

[320] Ibid.

[321] Ibid 16:7.

[322] A N Frs., vol. 1, ps 72

[323] City of God 22:30.

[324] Cassian: Conf. 21:5.

 

الصفحة الرئيسية