ميخا
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
ليس مثل...!
في وسط ظروف الأمة الحالكة الظلام والفساد الذي دبّ على كل المستويات من قادة سياسيين ودينيين ومدنيين وعامة الشعب، يكشف النبي عن حب الله الفائق للإنسان، مشتاقًا إلى تقديسه.
إن كان اسم النبي يكشف عن رسالته، إذ يعني "ليس مثل يهوه"، فإن السفر في مجمله يتحدث عن:
v ليس مثل الخطية في بشاعتها وتدميرها، لكن نعمة الله أعظم!
v ليس مثل الأمة المُستعبدة للخطية! لكن مدينة الله السماوية تنتظرنا!
v ليس مثل القائد الشرير محطم نفسه كما الجماعة، لكن الله قائدنا!
v ليس مثل كنيسة العهد الجديد المرتفعة في السماويات!
v ليس مثل الله، الغافر الخطية، الكثير الرحمة، المحب للبشرية!
أشكر المهندس إبراهيم خلف سيداروس لمراجعته للغة العربية للكتاب.
|
اَلأصحاح الرَّابِعُ (أيَّة كنيسة هي مثلكِ؟) |
|
- القسم الأول الأصحاحات [1-3] |
|
اَلأَصْحَاحُ الْخَامِسُ (من مثلك راعٍ إلهي!) |
اَلأَصْحَاحُ الأَوَّلُ (محاكمة علنية) |
|
- القسم الثالث الأصحاحات [6-7] |
اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي (إقطاعيُّون طمَّاعون) |
|
اَلأصحاح السَّادِسُ (جلستان في المحكمة!) |
اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ (القيادة الشريرة) |
|
َالأصحاح السَّابِعُ (متابعة الدعوى القضائية الإلهية) |
- القسم الثاني الأصحاحات [4-5] |
|
|
كلمة "ميخا" هي اختصار لكلمة "ميخاياهو" Micaiah كما وردت في (إر 26: 28)، وتعني "من مثل يهوه؟"
ميخا النبي كارز ريفي، عاش في مورشة جت Gath Moresheth، التي تبعد حوالي 20 ميلاً جنوب أورشليم، على حدود فلسطين. وفقًا للقديس جيروم كانت مورشة جت لا تزال في أيامه ضيعة صغيرة بالقرب من إيليوثروبوليس. هذه الأخيرة هي بيت جبرين، كانت تقع في أحد الأودية الذي يمتد من السهل الساحلي صعودًا إلى مرتفعات اليهودية حول أورشليم.
كان ميخا النبي معاصرًا لإشعياء في أورشليم (راجع مي 1: 4-5 وإش 2: 2-5)، ولعاموس وهوشع في المملكة الشمالية.
تنبأ في منطقة أورشليم لهذا جاءت أغلب نبواته منصبة على صهيون وأورشليم. استمرت نبوته حوالي 50 عامًا.
أثير التساؤل إن كان ميخا ينتمي إلى طبقة شيوخ مورشة، حيث وجدت جماعة "شيوخ الأرض" الذين كانوا يرددون كلماته في أيام إرميا (26: 17-18). بهذا يكون أحد القضاة الذين يجلسون عند باب المدينة ينظرون قضايا الشعب (تث 17: 5؛ 21: 19؛ را 4: 1). من هنا شعر بالالتزام أن يُدافع عن حقوق شعب مدينته الصغيرة ضد أغنياء أورشليم الظالمين. ويرى آخرون أن ميخا كان أحد أفراد عامة الشعب بالمدينة، يرجع هذا الشعب إلى الأيام الأولى لعصر داود الملك، هؤلاء يكنُّون بالولاء للأسرة الملكية؛ وهم يتشكَّكون فيمن تسللوا إلى العرش واستلموا السلطة لأجل نفعهم الخاص (2 مل 11: 18-20؛ 14: 21؛ 211: 24). يلاحظ أن ميخا النبي لم يعارض الأسرة الملكية بل أراد عودتها إلى الحياة النقية وتحقيق هدفها، لكن هذا لن يتم في أورشليم، إنما يتحقق بواسطة مولود بيت لحم (مي 4: 14-5: 4)[1].
ملوك أشور المعاصرين لتلك الفترة هم تِغلث فلاسر Tighathpileser الثالث (745-727 ق.م)، شلمناسر Shalmanezer (722-705)، وسنحاريب Sennocherib (705-608). قاد سنحاريب جيشه إلى الأجزاء الجنوبية والغربية ليهوذا، مخضعًا المدن والقرى حتى بلغ أورشليم التي خضعت لحصارٍ طويل، لكنه لم يستطع الاستيلاء عليها. أما النبوة عن الأسر وخراب أورشليم هنا فتُشير إلى عصر لاحق في أيام نبوخذنصر.
أخضعت أشور كل منطقة الشرق الأوسط عدا مصر وأورشليم. على أي الأحوال لم تشغل جيوشها كل هذه الأراضي، إنما أخضعت الأمم وطالبتهم بدفع جزية. فإذا ما اعتلى عرش أشور خلف للملك كانت الممالك الخاضعة للجزية تود الثورة على أشور. لذا كان الحاكم الجديد يلتزم أن يقود جيوشه ليدخل في معارك جديدة لإخضاع الأمم الثائرة عليه. وكانت أشد المعارك هي التي تقوم عند حدود مصر التي كانت تُشجع الدول للثورة على أشور لتحمي نفسها.
خلقت هذه الظروف جوًا من الاضطرابات الشديدة وعدم الاستقرار، خاصة في المدن الصغيرة والقرى، إذ كثيرًا ما تعرضت لعبور جيش أشور عليها واستعباد سكانها. أما الأغنياء والكهنة ورجال القصر الملكي فكانوا في آمان داخل أسوار العاصمة، هؤلاء أساءوا التصرف، إذ مارسوا الظلم والقسوة على سكان المدن والقرى، فكان هؤلاء يعانون تارة من الجيوش العابرة التي تنهب وتسلب وتستعبد، وتارة من الأغنياء والقادة.
بلغت يهوذا قمة قوتها في أثناء حكم عزيا (عزاريا) حوالي عام 783- 742 ق.م. وإذ أصيب بالبرص خلفه ابنه يوثام كوصي على العرش ثم كملكٍ. كان عصره يتسم بالازدهار من جهة التعمير والإنشاء والنصرات العسكرية. تولى ابنه آحاز العرش في وقت تلألأ فيه نجم أشور في أفق العالم. هزم تلغث فلاسر سوريا عام 732، وبعد عشر سنوات استولى على السامرة. هذا الأمر أفقد يهوذا شعورها بالأمان، خاصة وأن آحاز كان ضعيفًا وأجيرًا لأشور. جاء ابنه حزقيا مصلحًا، قطع علاقته بأشور، ووضع في قلبه أن يطهر يهوذا من العبادة الوثنية ورجاساتها، وأن يقوم بتطهير الهيكل وإصلاحه. جاء في ارميا (26: 18) الخ. أن هذا الإصلاح كان من أثر كرازة ميخا.
عاش في وقت صعب للغاية، فقد فتح الله عن عينيه ليرى معاصي يعقوب وخطايا إسرائيل (مي 3: 8). أدرك بروح النبوة ما سيحل بإسرائيل كما بيهوذا. فالظلم كان حالاً في داخل الأسوار، والأعداء قادمون من الخارج.
شعر ميخا النبي بالشرور التي لحقت بالدولتين - إسرائيل ويهوذا - وكيف أساء الأغنياء معاملاتهم مع الفقراء، فدوَّت صرخات الفقراء في السماء. هذا وقد لحق الفساد بكل الطبقات: رجال القصر الملكي، والكهنة، والشعب. أخطأت القيادات مع الشعب في حق الله، وإن كان الشعب قد مارس العبادة، لكن في شكلية بلا توبة صادقة، فصارت كلا شيء (مي 6: 7-8).
في أيامه أُخذ إسرائيل إلى السبي، وتُركت فرصة ليهوذا لمدة حوالي قرن ونصف، لكن خطايا الأمة دمَّرتها. "البرّ يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية" (أم 14: 34).
احتل هذا السفر مكانة خاصة لدى آباء الكنيسة لأن الأناجيل الأربعة جميعها اقتبست منه. ويُعتبر تفسير القديس چيروم من أهم التفاسير لهذا السفر.
v اتفق آباء الكنيسة في الشرق والغرب على أن هذا السفر غني برموزه، فيتطلعون مثلاً إلى جبل صهيون كرمزٍ للكنيسة أو لأورشليم الجديدة (رؤ ٢٠-٢١) التي حققت رجاء إسرائيل.
v يرى آباء الكنيسة في السفر رمزًا للعماد الذي يهب المؤمن التمتع بالعضوية في العهد الجديد، محتلاً مكان الختان.
v تضمن السفر نبوات خاصة بخراب السامرة وأورشليم، لكنه يعود فيتنبأ عن مجد أورشليم المقبل (تأديب ثم مجد مسياني).
v اهتمام الله بالبقية القليلة الأمينة، بل وبكل أحد حتى وإن فسدت الأمة ككل! كثيرًا ما يكرر النبي تعبير "البقية" (2: 12؛ 4: 7؛ 5: 3، 7-8؛ 7: 18). ففي كل الأجيال، وفي أحلك الظروف يحفظ الله البقية القليلة الأمينة بكونها له، يعتز بها.
v النبي الوحيد الذي حدد بدقة موضع ميلاد المسيَّا المنتظر، الذي يحكم أبديًا (مي 5: 2)؛ وقد أدرك اليهود أن هذه النبوة خاصة بالمسيَّا قبل ميلاده (مت 2: 1-6).
v يكشف هذا السفر عن بغض الله للخطية وحبه الشديد للخطاة، كقدوس لا يقبل الشر، وكأبٍ يحب البشرية كأولادٍ له. فهو لا يهادن الخطية مطلقًا، كما لا يجتمع النور مع الظلمة. مع عدله اللانهائي كلي الحب بذل الكلمة الإلهي المتجسد ذاته لأجل خلاص الإنسان وتجديده المستمر وتمجيده على مستوى سماوي.
v في صراحة كاملة يكشف عن الخطايا التي سقط فيها إسرائيل وأيضًا يهوذا، وعدَّدها لهم، وأعلن عن نتائجها المدمرة. وفي حب شديد يفتح أبواب التوبة ليتمتع التائبون بالمراحم الإلهية خلال التواضع مع الله (6: 8).
v إن كان الأنبياء الكذبة، من أجل نفعهم الخاص، لا يبالون بما تمارسه الطبقات العليا من قهرٍ واستغلال للطبقات الدنيا الفقيرة، فليس من يقف أمام هذا التيار الخطير، لا يُمكن لله أن يصمت!
v يكشف هذا السفر عن حنو الله، فنرى ميخا النبي ينوح ويولول كمن فقد ابنًا أو ابنة وحيدة عزيزة عليه، وإذ يرى بروح النبوةٍ شعبه يُسبى يشاركهم مرارتهم، فيسير معهم حافيًا وعريانًا. هذه مشاعر رجال الله في العهدين القديم والجديد، فلا نعجب أن نقرا في رسائل القديس بولس: "أذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3).
1. التوبة هي الطريق للخلاص مما يحل من كوارث بسبب الخطية. بدون توبة حتمًا سيحل الدمار بهم.
2. شجع المؤمنين للتطلع إلى الله العامل وسط البشرية، وأنه حتمًا يخلص من الظلم الذي يسود المجتمع.
3. وبَّخ الأغنياء الظالمين، وشجع الفقراء على التطلع إلى الله القادر أن يخلص من الظلم. يدعوه البعض "نبي الفقراء"، لا يشغل ذهنه بالسياسة، وربما لم يكن له دراية بها، إنما ما يشغله هو رفع الظلم عن الفقراء، مدافعًا عنهم. كان ميخا النبي رجل الإيمان العملي: "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب إلا أن نصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعًا مع إلهك" (6: 8). فإنه لا يستطيع أحد أن يطلب الحق الإلهي، ولا أن يحب الرحمة باخوته ما لم يتضع أمام الله فينال نعمة إلهية فائقة. فمع أن ميخا النبي كما يدعوه كثير من الدارسين إنه رجل العدالة الاجتماعية والبرّ العملي، لكنه يؤكد أن هذا لن يتحقق بدون العمل الإلهي. إنه رجل الإيمان العملي!
4. سحب قلوب سامعيه من الظلم السائد والدمار المنتظر إلى حلول مملكة المسيَّا المجيدة.
5. أشار ميخا النبي إلى السبي البابلي وذكر بابل بالاسم (مي 4: 10)، وذلك قبل حدوثه بقرن ونصف. كما دعى الشعب الراجع من السبي إلى إعادة بناء أسوار أورشليم (مي 7: 11).
1. يتسم سفر ميخا بالتحرك السريع من أسلوب إلى آخر فيستخدم أسلوب السؤال والإجابة (1: 5؛ 2: 7)، والرثاء (1: 8-16)، ويُشير إلى العبادة الطقسية الواردة في أسفار موسى الخمسة موضحًا غاية الله منها (6: 6-8)، واعتراف شخصي بالإيمان "لكنني أنا..." (4: 1-4)، ومحاكمات إلهية (1: 2)، وكشف عن الخطايا كحيثيات للحكم الإلهي بالخراب، ودفاع عن الفقراء، وترقب لمجيء المسيَّا المخلص.
2. كان لقرية مورشة أثرها على أسلوب ميخا النبي، فلم يقدم تصورات البرية كما في عاموس، ولا الجانب الريفي القوي لهوشع النبي، ولا الإشارة إلى القصر الملكي الذي في العاصمة كما في إشعياء. أشار ميخا النبي إلى الحقول التي يملكها القرويُّون (2: 2)، وإلى الحزم التي في البيدر (4: 12). كما تأثر بأغنياء أورشليم الذين يأتون إلى مورشة ليمارسوا الضغوط على فقرائها (6: 11)، ويغتصبون ما يشتهونه (2: 1-2؛ 6: 9-11)، فيضعون أياديهم على الحقول بسبب عجز الفلاحين عن سداد الديون (2: 2، 4). كانوا يجردون المدينين من ثيابهم (الرداء) مع أن الشريعة تلزم الدائنين أن يردوا الرداء عند الغروب (2: 8).
3. لم يستخدم ميخا النبي أية حجج لتأكيد نبواته، إذ لم يلجأ إلى رؤى إلهية للتأكيد، ولا إلى شهادة رئيس الكهنة عن دعوته الإلهية كما فعل عاموس النبي (عا 7: 10-17).
4. مع بساطته ككارز ريفي يحمل أعماقًا روحية فريدة، ففي مقارنته بين تقديم ذبائح وتقدمات كثيرة للعبادة من قِبل الأغنياء، إلا أنه إذ يتطلع إلى ظلمهم للفقراء يُحسب الأغنياء مصابين بمرضٍ عديم الشفاء (مي 3؛ 6: 6-13).
5. سفر ميخا حافل بالمفارقات. تارة يتحدث عن أورشليم التي تسقط تحت السبي فتتحطم، وأخرى يرفعنا إلى أورشليم الجديدة التي تجذب الأمم إلى الرب، وتخرج منها كلمة الله إلى جميع البشر. وبالنسبة للأمم تارة يتحدث عنهم وقد سقطوا تحت الغضب الإلهي، وأخرى وهم قادمون إلى الإيمان ليتمتعوا بالبركات الإلهية.
يحدد ميخا النبي خطيتين رئيسيتين وهما مزج عبادة الله الحيّ بالعبادة الوثنية مع ما تحمله من رجاسات، وممارسة الظلم وقهر الفقراء واستغلالهم.
1. عبادة الأوثان (1: 7؛ 6: 16).
2. تدبير الشر (2: 1).
3. الخداع، الشهوة، العنف (2: 2).
4. الطمع (2: 2).
5. الظلم (2: 2)
6. العنف (2: 2؛ 3: 10؛ 6: 12؛ 7: 2).
7. طرد الأرامل من بيوتهن (2: 9).
8. تشجيع الأنبياء الكذبة (2: 6، 11).
9. فساد الحكام: بغض الخير وحب الشر (3: 1-3).
10. فساد الأنبياء: الاستخفاف بالعدالة، وتحريف الحق (3: 5-7).
11. فساد الكهنة (3: 11).
12. الرشوة (3: 9، 11؛ 7: 3).
13. عدم الأمانة (6: 10-11).
1. اقتبس منه شيوخ يهوذا (إر 26: 18 عن ميخا 3: 12).
2. المجوس القادمون إلى أورشليم (مت 2: 5-6؛ مي 5: 2).
3. رب المجد يسوع عند إرساله الاثني عشر (مت 10: 35-36؛ مي 7: 6).
v عاصمة مملكة المسيًّا المخلص أورشليم (4: 1-2).
v مملكة جامعة مسكونيَّة (4: 2).
v شريعتها السلام المسياني (4: 3).
v إمكانياتها: رخاء (4: 4).
v سمتها: البرّ (4: 5؛ 4: 2).
بدأ نبوته بعد أن بدأ إشعياء بـ 17 أو 18 عامًا.
v بينما كان ما يشغل إشعياء النبي هو العاصمة أورشليم (إش 1؛ 2: 1-5؛ 4: 2-6؛ 8: 5-10)، كان ميخا النبي متعاطفًا بجاذبية خاصة نحو بيت لحم، فكان "نبي الشعب".
v كان إشعياء النبي رجلاً أرستقراطيًا مرتبطًا بقوة بالعاصمة وهيكلها، ملمًا بالعمل السياسي الخاص بأمَّته، شاعرًا قديرًا، أما ميخا النبي فكان قرويًا، أقل رقة من إشعياء، يميل أسلوبه إلى الخشونة، وذلك بحكم كونه فلاحًا. ينتقل من موضع إلى آخر، ومن شخص إلى آخر دون مقدمات. حقًا يكتب أحيانًا بلهجة عنيفة وفي جسارة، لكنه يحمل قلبًا مملوء مرارة وحزنًا، فيكتب أحيانًا بلغة الحب والحنو.
v كان ميخا النبي فقيرًا عانى مع إخوته الفقراء من ظلم الأغنياء. وكانت تكمن وراء كلماته تجربة شخصية مرة.
v الخطية في ذهن إشعياء النبي هي تدنيس هيكل الرب (إش 4: 4)، أما بالنسبة لميخا النبي فهي سلب الفقير المدين رداءه، وطرد نساء شعب الله من بيوتهن المبهجة (مي 2: 8-9). كان إشعياء كارزًا بالإيمان الذي يتطلب حفظ ما يليق بقداسة يهوه السرية. أما ميخا فكان نبيًا للعدالة الإلهية لحفظ حقوق المساكين.
ليس فقط أن ميخا النبي عاش في منطقة مجاورة لبيت عاموس "تقوع"، إنما شابهه في أشياء كثيرة.. لقد تأثر بروح عاموس حتى دُعي "مبعوث عاموس إلى الحياة redivivus Amos. كل من النبيين الريفيين هاجم الفساد الاجتماعي الاقتصادي (الظلم الاجتماعي) في أيامه. حيث كان الأغنياء يسيئون استغلال الفلاحين الفقراء. لم تقف رسالتهما عند مقاومة الظلم، وإنما هاجما أيضًا الوضع الديني المؤلم في أيامهما. لقد دبت الرشوة بين الكهنة والأنبياء الكذبة والقضاة. هذا وقد توقفت العبادة عند الشكل الخارجي وتقديم ذبائح حيوانية وتقدمات بدون حياة مقدسة، واهتمام بالوصية الإلهية.
تطلع أغلب الدارسين إلى السفر بكونه من وضع ميخا النبي (بوحي الروح القدس)، غير أن الدارس Ewald ومن أخذ برأيه حسبوا الأصحاحين 6-7 من وضع نبي آخر غير معروف جاء في أيام حكم منسَّى، حاسبين أن طابع الأصحاحين مختلف عن طابع الأصحاحات الخمسة الأولى.
ظنَّ ويلهوسن Wellhausen وستاد Stade أن ما ورد في (مي 7: 7-20) كُتب بعد السبي، وذلك للتشابه بين هذا النص وما وردد في (إش 40-66).
أنكر البعض أن الأصحاحين 4-5 من وضع ميخا النبي، إذ يستصعبون قبول القلم الذي سجل في الأصحاحات الثلاثة الأولى تحذيرات وتوبيخات عنيفة هو بعينه يُسجل رؤية جبل بيت الرب المجيد في آخر الأيام (ص 4) والوعود الإلهية الفائقة (ص 5). بهذا القول نقيم من ميخا مصلحًا اجتماعيًا أكثر منه رجل الله الذي يفتح أبواب الرجاء للنفوس الساقطة بعد أن يكشف بوضوح عن خطورة فسادهم.
دافع رافن John Howard Raven (وآخرون) عن وحدة هذا السفر، ذاكرًا الاعتبارات التالية[7]:
1. يربط تعبير "اسمع" (1: 2؛ 3: 1؛ 6: 1) السفر معًا بكونه من وضع كاتبٍ واحدٍ. ويرى البعض أن السفر ينقسم إلى ثلاثة أقسام يبدأ كل قسم بهذه الكلمة. اعتمد النقاد في حججهم بصورة رئيسية على مقتطفات مقتبسة من السفر وليس على السفر ككل، معتمدين على ما قدمه النبي بصورة مختصرة عن نبواته التي دامت قرابة 50 عامًا.
2. يرى رافن أن التشابه بين (مي 6-7) و (إش 40-66) يؤكد أن الأصحاحين من وضع ميخا معاصر إشعياء، حيث أن الأصحاحات 40-66 سجلها إشعياء.
3. لعل الاختلاف في الأسلوب يرجع إلى طول مدة خدمة ميخا النبي التي قاربت من الخمسين عامًا، حتمًا حدث عبر هذا الزمن تغيرات تاريخية وفكرية وروحية، فجاءت كتابته تحوي اختلافات في الأسلوب.
4. ما ورد في أصحاحات 4-7 يكشف عن تشابه لكتابات في أيام ميخا أو قريبة منها:
قارن
مي 3: 1-3 |
|
مع إش |
|
2: 2-4. |
|
4: 3 |
|
مع يوئيل |
|
3: 10. |
|
4: 7 |
|
مع إش |
|
24: 24. |
|
4: 9 |
|
مع إش |
|
13: 8؛ 21: 3. |
|
4: 13 |
|
مع إش |
|
41: 15-16؛ 23: 18. |
|
5: 5 |
|
مع إش |
|
9: 6. |
|
5: 13 |
|
مع إش |
|
2: 8 |
|
6: 2 |
|
مع هوشع |
|
4: 1؛ 12: 2. |
|
6: 4 |
|
مع عاموس |
|
2: 10. |
|
6: 7 |
|
مع إش |
|
1: 11. |
|
6: 8 |
|
مع إش |
|
1: 17 |
|
|
|
هوشع |
|
6: 6 |
|
6: 11 |
|
مع هوشع |
|
12: 7 |
|
6: 14 |
|
مع هوشع |
|
4: 10 |
|
7: 1 |
|
مع إش |
|
24: 13 |
|
|
|
هوشع |
|
9: 10 |
|
7: 2 |
|
مع إش |
|
57: 1 |
|
7: 3 |
|
مع إش |
|
1: 23 |
|
|
|
هوشع |
|
4: 18. |
|
7: 10 |
|
مع يوئيل |
|
2: 17 |
|
7: 11 |
|
مع عاموس |
|
9: 11. |
أقسام السفر:
القسم الأول: نبوات تأديبية (مي ١-٣)، حيث يركز على صدور حكم الله الوشيك حدوثه مع لومٍ شديدٍ موجه ضد قادة اليهود.
v إذ سقطت إسرائيل (عاصمتها السامرة) إذ حلّ بها الخراب في السنة السادسة لحزقيا كما حلّ بها الخراب بواسطة أشور بكونها أخطر عدو لإسرائيل في ذلك الحين. كما سقطت يهوذا (عاصمتها أورشليم) في الشر لم يرد الرب تأديبهما إلا بعد أن يُشهد الشعوب عليهما. مع التأديب يكشف الله عن سبب الداء ليشفي. إنه ليس بالإله الآمر الناهي، لكنه يحب أن يحاجج الإنسان ويتفاهم معه!
v حين يؤدب يكون كمن يخرج من مكانه (1: 3).
v للتأديب سمح بنصرة شلمناصر على السامرة (1: 5-7؛ 2 مل 17: 4، 6)، وسنحاريب على يهوذا (1: 9-16؛ 2 مل 18: 3)، وأوقف روح النبوة (3: 6) وسمح بدمار أورشليم.
القسم الثاني: نبوات مسيانية مجيدة (مي ٤-٥) حيث تعمل النعمة الإلهية، ويكشف عن الجانب الإيجابي الخاص بإصلاح صهيون.
إن كان إسرائيل ويهوذا قد فسدا، فالحاجة إلى المسّيا المخلص لإصلاحهما. وقد كشف عن الأمراض التي حلت بهما.
1. المسيَّا هو الجبل المقدس (4: 1)، عليه تقوم المدينة المقدسة (5: 14)، أي الكنيسة، بكونه أساس إيماننا.
2. يفتح الباب للأمم (4: 1، 2).
3. يهب السلام الداخلي (4: 3-5 ؛ 5: 10-11).
4. يهتم بالظالعة (العرجاء) والمطرودة والضعيف.
5. يملك على صهيون (القلب) أبديًا (4: 8).
6. يدعو الكنيسة أن تخرج كما مع المسيح إلى البرية لكي تغلب إبليس، وتنطلق إلى بابل، لا كمسببة بل كغالبية ومنتصرة (4: 10).
7. يصير المؤمن بمولود بيت لحم أفراتة (5: 1-2) "كالأسد بين وحش الوعر" (مي 5: 8)، يحمل روح النصرة، لكن ليس بأسلحة بشرية: "إني أقطع خيلك من وسطك وأبيد مركباتك" (5: 10).
القسم الثالث: دعوى قضائية إلهية (مي ٦-٧)، تتحول القضية إلى ضد إسرائيل بسبب كسرهم للعهد الإلهي، في دعواه يُسر بأن يحاججهم.
· يؤكد لهم أنه لا يُسر بحرفيات العبادة ولا التقدمات في ذاتها، إنما يطلب القلب: "هل يُسر الرب بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت؟! ماذا يطلب منك الرب إلاّ أن تصنع الحق، وتحب الرحمة وتسلك متواضعًا مع إلهك؟!" (6: 7، 8).
· يوضح أيضًا أن شرنا هو علة التأديب (6: 9-11).
· مقابل محبته لنا يطالبنا الله بالعبادة الخفية (7: 5، 6)، والرجاء في القيام من السقوط (7: 7-10) والتسبيح له (7: 18-20).
بدأ السفر بتأديب الأمة المنقسمة إلى مملكتين سادهما الفساد، وانتهى بشعبٍ واحدٍ مجيدٍ، هو كنيسة المسيح مخلص العالم كله!
ينتهي السفر بصلاة لأجل إصلاحهم وإعلان مراحم الله.
"من هو مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه؟!
لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسر بالرأفة.
يعود يرحمنا، يدوس آثامنا،
(مي 7: 18-19)
من وحي ميخا النبي
نعمة عجيبة! وقائد عجيب! ومدينة عجيبة!
v ترتعب نفسي في داخلي،
حين يكتشف ميخا نبيك عن بشاعة الخطية ومرارتها.
أشعر بالعار والخزي،
تنزع الخطية عني ثوب البٌر، فأصير عاريًا!
وتفقدني عذوبة الحياة، فتتمرر نفسي!
وتحرمني من الحرية الداخلية، فأسلك كأسيرٍ!
تسلبني قوتي، فأخور تمامًا!
تسلبني كل شيءٍ، فأفقد طعم الحياة.
v لكن نعمتك غنية، وقديرة، وبهية.
تحطم ظلمة خطاياي، فأصير بها مشرقًا.
تهبني روح القوة والنصرة، فامتلئ فرحًا!
تقدم ليّ الحرية، فأنطلق لأستقر في أحضانك.
تسترني ببرٌَك، فأتراءىٌ، أمام الآب السماوي.
تكسوني بالمجد السماوي، فأُسبح مع السمائيين.
v تحطم الخطية روح القيادة فيٌ!
تحطم عقلي وقلبي وإرادتي وكل طاقاتي!
لكنك نزلت إلى بيت لحم، لتصير أنت قائدي!
عجيب يا أيها القائد السماوي.
وأنت القائد تهبني روح القيادة الفعٌالة!
أعيش بك قويًا، لا أعرف روح الفشل!
بك أسلك كقائدٍ حيٍ فأعبر المعارك منتصرًا.
v هوذا ميخا نبيك ينتحب السامرة وأورشليم.
في مرارة يسير عاريًا وحافيًا، يصرخ بلا انقطاع.
أراه في حبه يشارك شعبه الذي في طريقه للسبي!
يئن مع أنات الكل!
لكنك كشفت له عن مدينة جديدة على رأس الجبال!
دخلت به إلى أورشليم العليا!
حملته إلى العالم الجديد!
v حقًا يا لها من نعمة إلهية عجيبة،
وقيادة مسيانية غالبة وقوية،
ومدينة جديدة سماوية!
القسم الأول
نبوات تأديبية
مي 1-3
محاكمة علنية
ليس مثل الخطية في بشاعتها!
يبدأ هذا السفر بتصويرٍ مرٍّ عن الخطية، كيف لا يطيقها الله، لأنها لا تليق بشعبه إذ يريده أيقونة حية له، بكونه الله القدوس. كما يكشف عن فاعلية الخطية في حياة شعبه، إذا بطبيعتها مدمرة تمامًا. لكن قدر ما يكشف عن هذه الصورة القاتمة يبرز دور الله الغافر الخطايا، المبدد للظلمة والمشرق بنوره الإلهي على شعبه ليقيم منهم كنيسة سماوية مجيدة متهللة.
يفتتح ميخا النبي سفره بعرضٍ للدينونة القادمة لتأديب الشعب، مثله مثل بعض الأنبياء كعوبديا. وقد جعل من الأرض كلها مسرحًا للمحاكمة، وطلب من الشعب أن يستمع إلى الاتهامات الموجهة ضدهم.
يبدأ السفر بدخول الله مع شعبه سواء إسرائيل أو يهوذا في القضاء أمام شعوب الأرض كلها. وقد استدعى الأمم للحضور في دار القضاء. فمن جانب ليكشف عن موقفه كخالقٍ لكل البشرية ومخلصٍ للجميع، فهو الذي يُريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). بهذا يفتح الباب أمام الأمم ليدركوا أنه إله الجميع، ينتظر قبولهم الإيمان، لينعموا بغنى نعمته الفائقة. ومن الجانب الآخر يكشف الله عن بشاعة الخطية التي تصدر عن الذين دُعي اسم الله عليهم، فإنها عثرة للأمم، وبسببها يُجدف على اسمه.
لا نعجب إن قدم رسالته الإلهية للشعب أولاً (مي 1-2)، وبعد ذلك للرؤساء والقضاة (مي 3-5)، وأخيرًا للبقية المقدسة أو الشعب الذي يقبل الإيمان الحيّ العملي (مي 6-7). يبدأ بالشعب لأنه إن أقام رؤساء وقضاة فمن أجل الشعب، لا الشعب لأجل القيادات. ولعله يود أن يؤكد للشعب أنه وإن أخطأت القيادات السياسية والمدنيَّة والدينيَّة، فهذا لن يبرر انحراف الشعب وسقوطه. حتمًا تُدان القيادات بطريقة مضاعفة، لأنهم معثرون للشعب، لكن يليق بالشعب ألا يبرر خطأه.
بدأ بالشعب الساقط وانتهى بالشعب المقدس بالمسيح المخلص، ليؤكد أنه جاء لأجل الخطاة لكي يقدسهم شعبًا مختارًا له.
1. خروج الرب للمحاكمة [1-4].
2. الاتهامات [5-7].
3. رثاء مرّ على أورشليم [8-9].
4. مرارة الخطية [10-11].
قَوْلُ الرَّبِّ الَّذِي صَارَ إِلَى مِيخَا الْمُورَشْتِيِّ
فِي أَيَّامِ يُوثَامَ وَآحَازَ وَحَزَقِيَّا مُلُوكِ يَهُوذَا
الَّذِي رَآهُ عَلَى السَّامِرَةِ وَأُورُشَلِيمَ. [1]
"قول الرب" أو "كلمة يهوه": يؤكد النبي أن ما ينطق به وما يكتبه ليس من عنده، إنما هو رسالة يهوه تحمل سلطانًا إلهيًًا. لقد وجه يهوه هذه الرسالة إلى نبيه ميخا ليعلنها للشعب كما للقادة.
جاء اسم النبي كغيره من الأنبياء مثل هوشع ويوئيل وعوبيديا يكشف عن رسالته. فكلمة "ميخا" كما رأينا معناها "ليس مثل يهوه" وإن كان القديس أمبروسيوس يرى أن معناها "واحد مع الله". وكأن النبي يتحدَّى الأنبياء الكذبة والأشرار المعاندين والمقاومين أنه ليس مثل يهوه، إنه لا يُقاوم!
يرى القديس جيروم كلمة "مورشة" في العبرية تعني "ممتلكاتي"، لهذا يرى في ميخا من يملك المسيح أو الوارث معه. فإن كان سفر ميخا قد بدأ بالمحاكمة العلنية من قبل الله نفسه، ففي دعواه وإن أدٌب لا ينتقم، بل يود أن يؤهلنا للميراث الأبدي والمجد السماوي.
v "ميخا: معناها "واحد مع الله" أو كما نجد في موضعٍ آخر "واحد هو ابن المورشتي"، أي "ابن الوارث". من هو الوارث إلاَّ ابن الله، القائل: "كل شيء قد دُفع إلىّ من أبي" (مت ١١: ٢٧). ذاك الذي هو الوارث يود لنا أن نكون شركاء في الميراث.
حسنًا تسأل: من هو ميخا؟ إنه ليس من الشعب، لكنه مختار ليقبل نعمة الله، يتكلم خلاله الروح القدس. بدأ نبوته في أيام يوثام وآحاز وحزقيا، ملوك يهوذا. لكن هذا الترتيب لتقدم الرؤيا له معناه، إذ يبدأ بعصر ملوكٍ أشرار وينتهي بملكٍ صالحٍ[8].
القديس أمبروسيوس
أما قوله "الذي رآه"، فلا يعني رؤية جسدية، إنما رؤيا روحية بالعقل، فقد فتح روح الرب عينيّ ميخا لإدراك الرسالة التي يلتزم أن يشهد بها ويعلنها للشعب.
لقد تنبأ ميخا في عصر آحاز الذي يعتبر أحد أشر ملوك يهوذا، كما تنبأ في عصر حزقيا رجل الإصلاح التقي. في عصر آحاز لم يخشَ أن يتحدث عن تأديبات الله ليهوذا، ولكنه فتح باب التعزيات للنفوس المقدسة الراجعة إلى الرب. وفي عهد التقي حزقيا تحدث عن ضرورة الإصلاح الروحي الداخلي. فمع تغير ظروف الأزمنة تبقى كلمة الله ثابتة لا تداهن الأشرار، كما لا تغلق باب الرجاء أمامهم، ولا تُسر بالإصلاحات الخارجية دون الدخول إلى الأعماق.
اِسْمَعُوا أَيُّهَا الشُّعُوبُ جَمِيعُكُمْ.
أَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا.
وَلْيَكُنِ السَّيِّدُ الرَّبُّ شَاهِداً عَلَيْكُمُ،
السَّيِّدُ مِنْ هَيْكَلِ قُدْسِهِ. [2]
إذ صم كثير من شعب الله آذانهم عن الاستماع لصوت الرب قدم الدعوة للأرض كي تفتح آذانها وتسمع له. وكما قال السيد المسيح: "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات" (مت 8: 11).
الله المحب لخليقته السماوية والأرضية كثيرًا ما يستدعيهم للإصغاء إلى كلمته (إش 1: 2؛ تث 32: 1)، يطالبهم أن ينصتوا إليه بآذان صاغية، حتى حينما يحاكم شعبه، فإنه يود أن يكشف أسرار معاملاته مع خليقته للجميع. ليس لدى الله محاباة، إن أخطأ شعبه يطالب الأمم لحضور محاكمتهم لعلها تكون درسًا عمليًا لقبولهم الإيمان.
إنه سيد الخليقة كلها وربها، يتكلم من هيكل قدسه، أي من السماء المكرسة له بكونه القدوس. من هناك يتكلم مشتاقًا أن تتقدس كل الخليقة، وتصير أيقونة حيَّة للقدوس. متى أدَّب أو ترفَّق فغاية القدوس قداسة خليقته.
v "لأن هذه هي إرادة الله قداستكم" (1 تس 4: 3)... لاحظ كيف أنه لا يتطلع إلى أي موضع بحماسٍ كهذا. فإنه يكتب عنه في موضع آخر: "اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عب ١٢: ١٤). لماذا نتعجب إن كان يكتب لتلاميذه عن هذا الأمر في كل موضع، ففي رسالته إلى تيموثاوس يقول: "احفظ نفسك طاهرًا" (1 تي ٥: 22)، وفي رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس يقول: "في صبر كثير، في أصوام، في طهارة" (٢ كو ٦ : ٥-٦)[9].
إذ فسد الشعب العاقل وتصرف في غير تعقلٍ ضد خالقه، أراد الخالق أن يوبخهم خلال الطبيعة غير العاقلة فكثيرًا ما استدعىٌ الأرض الجامدة والسماء بكواكبها - على لسان الأنبياء - لتشهد محاكمته لشعبه، فلا عجب إن تحركت الأرض وتزلزلت حين امتدت يد المخلوق لصلب الكلمة الإلهي المتجسد، وامتنعت الشمس عن إرسال أشعتها لتبكت الصالبين الجاحدين وتشهد عليهم بالظلمة[10].
الخليقة التي أوجدها الله لخدمة الإنسان صارت شاهدة ضده ومبَّكتة له على عصيانه وفساده.
فَإِنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ،
وَيَنْزِلُ، وَيَمْشِي عَلَى شَوَامِخِ الأَرْضِ. [3]
اعتاد الله أن يخرج إلى شعبه فيخرج بهم إليه، ينزل إليهم بحبه لكي يرفعهم إلى أحضانه. الآن إذ أصروا على الفساد في عنادٍ خرج لكي يحاكمهم ويؤدبهم.
يصٌور النبي الله نازلاً من السماء، ماشيًا على الجبال، لكي يحطم السامرة لإصرارها على عبادة الأوثان وممارستها للرجاسات، وقد تسلل فسادها إلى يهوذا، فقد صارت دينونة يهوذا أيضًا على الأبواب.
نزول الرب ومشيه على شوامخ الأرض يُشير إلى أمرين: الأول أن كلمة الله، الخالق والمخلص يخرج كما من مكانه، إذ يقول عن تجسده وتأنُّسه: "لأني خرجت من قِبل الله وأتيت" (يو 8: 42)، والثاني أن الرب يجلس على عرش رحمته، وإذ يؤدِّب بحزمٍ يبدو كمن يخرج من مكانه ليحطم كبرياء الإنسان وتشامخه. وكما جاء في إشعياء النبي: "لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب" (إش 26: 26). إنه أب سماوي يشتاق ألا يُعاقب، ان أدّب إنما يكون كمن خرج من مكانه، أي من الرحمة المملوءة ترفقاً وحناناً. إثمنا وعصياننا يجعلانه كمن يخرج من مكانه ليعاقب... حتى في خروجه يطلب أن يضمنا إليه ليرجع بنا إلى عرش رحمته.
يرى البعض أنه يُشير هنا إلى خروج الرب كما إلى السحاب ليدين الأشرار المتشامخين، ويمجَُد مؤمنيه المتواضعين.
v لنتأمل الآن عبارة يسوع: "لأني خرجت من قِبَلْ الله وأتيت" (يو ٨: ٤٢). يبدو أنه نافع ليّ أن أضع بجانب هذه الكلمات، الكلمات التالية من ميخا: "اسمع يا شعبي كلماتي، ولتصغِ الأرض وملؤها، وليكن الرب شاهدًا في وسطكم، الرب من بيت المقدس. فإنه هوذا الرب يخرج من مكانه ويطأ شوامخ الأرض، فتهتز الجبال تحته، وتذوب الوديان كالشمع أمام النار، وكالماء المنصب في منحدرٍ" (مي ١: ٢-٤). الآن تأملوا ما إذا كانت العبارة: "إني خرجت من قِبَل الله" تعادل هذه العبارة، حيث أن الابن في الآب، بكونه في شكل الآب قبل إخلائه لنفسه (في ٢: ٦-٧)، كان الله في مكانه، فإنه يبدو كما في تناقض أنه يخرج من قِبَل الآب وفي نفس الوقت لا يزال في الله[11].
v يُقال إن الله ينزل عندما يتنازل ليعطي اهتمامًا بالضعف البشري. هذا يلزم تمييزه خاصة بالنسبة لربنا ومخلصنا، هذا الذي إذ "لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه وأخذ شكل العبد" (في ٢: ٦-٧)، بهذا نزل. فإنه "ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو ٣: ١٣) فإن الرب نزل، ليس فقط لكي يهتم بنا بل وأيضًا ليحمل ما هو لنا، إذ "أخذ شكل العبد"، ومع كونه هو نفسه غير منظور بالطبيعة، إذ هو مساوٍ للآب، إلاَّ أنه أخذ شكلاً منظورًا، إذ "وُجد في الهيئة كإنسانٍ" (في ٢: ٧)[12].
العلامة أوريجينوس
فَتَذُوبُ الْجِبَالُ تَحْتَهُ،
وَتَنْشَقُّ الْوِدْيَانُ كَالشَّمْعِ قُدَّامَ النَّارِ.
كَالْمَاءِ الْمُنْصَبِّ فِي مُنْحَدَرٍ. [4]
إذ يخرج الرب ليحاكم شعبه لا تستطيع أن تقف أمامه الجبال والمرتفعات المستخدمة لعبادة الأوثان، والتي تمثل حصونًا منيعة لحمايتهم من أي غزو خارجي، فإنه يدوس الرب عليها فتذوب وتصير ترابًا. ولا تقدر الوديان أن تسندهم، إذ تذوب أمامه كالشمع قدام النار، لا يستطيع العظماء الذين يحسبون أنفسهم جبالاً شامخة ولا أصحاب الطبقات الدنيا الذين كالوديان، الدفاع أمام الله عن شعبه الشرير.
جاء في سيرة القديس باخوميوس القبطية (البحيري): [في مناسبة أخرى إذ كان (تلميذه تادرس) جالسًا مع نفسه في موضع يقرأ سفر الأنبياء الإثني عشر، جاء إلى النبي ميخا. ظهر له ملاك الرب وسأله عن هذه الآية من ميخا: "كالماء المنصب من منحدر". قال له: "ماذا تظن في معنى هذه؟ وإذ كان متحيرًا في أمرها، محاولاً أن يفهم، أجابه الملاك: "تادرس، لماذا لم تدرك معناها؟ أليس من الواضح أنه ماء النهر المنحدر من الفردوس؟" وإذ قال الملاك هذا لم يعد يراه[13]].
v مثل الشمع لا يحتمل الاقتراب من النار، والماء المنحدر هكذا يكون كل الأشرار عندما يأتي الرب، إذ ينحلون ويختفون[14].
القديس چيروم
كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ إِثْمِ يَعْقُوبَ،
وَمِنْ أَجْلِ خَطِيَّةِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ.
مَا هُوَ ذَنْبُ يَعْقُوبَ؟ أَلَيْسَ هُوَ السَّامِرَةَ!
وَمَا هِيَ مُرْتَفَعَاتُ يَهُوذَا؟ أَلَيْسَتْ هِيَ أُورُشَلِيمَ! [5]
بدأ بالسامرة عاصمة إسرائيل بكونها مركز عبادة البعل ومنها تسربت العبادة الوثنية إلى يهوذا. ثم تحدث عن مرتفعات يهوذا حيث تسللت إليها العبادة الوثنية، وقد عوقبت السامرة أولاً على يد أشور، وبعد ذلك أورشليم عاصمة يهوذا على يد بابل.
يُشير بالمرتفعات هنا إلى عبادة الأوثان التي كانت تُقام هناك وقد حرَّمها الناموس (تث 13).
للأسف بؤرة الخطية في المملكتين هما العاصمتان: السامرة وأورشليم.
فَأَجْعَلُ السَّامِرَةَ خَرِبَةً فِي الْبَرِّيَّةِ مَغَارِسَ لِلْكُرُومِ
وَأُلْقِي حِجَارَتَهَا إِلَى الْوَادِي
وَأَكْشِفُ أُسُسَهَا. [6]
يقدم هنا قضاءً مرعبًا كثمرة طبيعية لإثم السامرة. لقد تحوَّلت السامرة إلى خرابٍ بسبب الحروب المستمرة (إش 21: 1-3). يسمح الله للسامرة أن تتحطم وتُلقى حجارتها في الوادي، فتنكشف أساساتها تمامًا. ولا تزال السامرة إلى يومنا هذا أكوام من الحجارة، ليس فقط على التل، وإنما حتى في الحقول من أسفل، وقد قام علماء الآثار بالكشف عن أساسات قصور عمري وآخاب.
السامرة التي كانت تعتز بغناها وكثرة سكانها، تصير أكوام من نفايات الكروم والحقول ومن الحجارة. اجتمعت معًا لكي يُلقى بها خارجًا. ولعله بدأ بمغارس الكروم وبعد ذلك أكوام الحجارة، لأن السامرة كانت في الأصل حقول كروم قبل تعميرها كعاصمة، وكأنها تعود إلى ما كانت عليه، بل وإلى ما هو أسوأ، حيث تنهار المباني، وتتحول إلى أكوام حجارة، تفقد طبيعتها كعاصمة ملوكية لتصير خرابًا.
وَجَمِيعُ تَمَاثِيلِهَا الْمَنْحُوتَةِ تُحَطَّمُ،
وَكُلُّ أَعْقَارِهَا تُحْرَقُ بِالنَّارِ،
وَجَمِيعُ أَصْنَامِهَا أَجْعَلُهَا خَرَاباً،
لأَنَّهَا مِنْ عُقْرِ الزَّانِيَةِ جَمَعَتْهَا،
وَإِلَى عُقْرِ الزَّانِيَةِ تَعُودُ! [7]
تطلع النبي إلى ما بلغته السامرة من حضارة إنما هو خلال عبادة الأوثان، كما من أجرة الزانيات، فيليق بتماثيلها المنحوتة أن تتحطم، لأنها صُنعت خلال أجرة الزواني.
كثير من الزانيات كن يقدمن من أجرة الزنا إلى الهياكل الوثنية للإنفاق عليها ولأجل زينتها، فإذ تنهار هذه الهياكل برجاساتها تكون كمن ردت ما استلمته إلى الزانيات.
يتهدد الخطر أورشليم، فالجيش الأشوري يكتسح السهل الساحلي باتجاه مصر، مقتحمًا الموضع الذي كان يقطنه ميخا، حتى يعبر من مدينة إلى أخرى، ويصل إلى أسوار أورشليم. لقد وصف إشعياء النبي ذات الموقف وهو ساكن داخل المدينة (إش 10: 28-34)، بينما وصفه ميخا وهو خارج المدينة على بعد حوالي 20 ميلاً.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنُوحُ وَأُوَلْوِلُ.
أَمْشِي حَافِياً وَعُرْيَاناً.
أَصْنَعُ نَحِيباً كَبَنَاتِ آوَي. [8]
إذ ينتحب النبي إسرائيل لا يكف عن البكاء والصراخ حتى يصير صوته كصوت بنات آوي، وكصوت صغار النعام الأنثى.
كان الأسرى ينقادون حفاة وعرايا، هكذا تمررت نفس النبي، فصار كأسير للحزن، فقد ثيابه وحذاءه، ليسير في الطريق حافيًا وعريانًا.
سبق فمشى إشعياء النبي حافيًا وعريانًا لمدة ثلاث سنين كأمر الرب آية وأعجوبة على مصر وكوش نبوة عن سبيهما على يد أشور (إش 20: 2- 4).
v مشىُ إشعياء عريانًا بدون خجل كرمزٍ للسبي القادم. إرميا أُرسل من أورشليم إلى الفرات، وترك منطقته تفسد في محلة الكلدانيين بين الآشوريين المعاديين لشعبه (إر 13: 6-7)... إنه يحث البشر على التوبة[15].
القديس جيروم
v سبي إخوتنا يجب أن يُحسب كأنه سبينا نحن. أحزان الذين في خطر هي أحزاننا. يلزمكم أن تتأكدوا بأنه يوجد جسم واحد لوحدتنا. ليست محبتنا وحدها بل وأيضًا تديننا يدفعنا ويشجعنا أن ننقذ أعضاء أسرتنا[16].
القديس كبريانوس
من يتطلع إلى ميخا النبي الباكي النائح وهو سائر عاريًا من ثوبه الخارجي، حافي القدمين يستخف به كفلاحٍ عارٍ وحافٍ. لكن السماء تتطلع إليه فترى في دموعه وصرخاته وعريه وحفيه صورة الحب الرائع الذي يرى شعبه بعد 150 سنة تقريبًا مسبيًا، فيُحسب نفسه مسبيًا معهم، ويشاركهم مرارة نفوسهم. وكما يقول القديس بولس: "اذكروا المقيدين، كأنكم مقيدون معهم، والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3). وقوله: "من يضعف، وأنا لا أضعف؟ من يعثر، وأنا لا ألتهب؟" (2 كو 11 :29).
لأَنَّ جِرَاحَاتِهَا عَدِيمَةُ الشِّفَاءِ،
وَنَوْحاً كَرِعَالِ النَّعَامِ.
لأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ إِلَى يَهُوذَا،
وَصَلَتْ إِلَى بَابِ شَعْبِي إِلَى أُورُشَلِيمَ. [9]
فساد السامرة وعبادتها للأوثان انتشر في إسرائيل، وتسلل إلى يهوذا، حتى بلغ أبواب أورشليم، فشاركتها شرَّها.
صارت الجراحات عديمة الشفاء، على المستوى الروحي والاجتماعي والسياسي؛ هذا ما أصاب أورشليم.
كان "باب المدينة" في الشرق يُشير إلى رجال الدولة العاملين مع الملك وإلى مشيريه، كانوا يجتمعون عند باب المدينة. وقد استمر هذا حتى في أيام الأتراك، فكان السلطان التركي بحاشيته يدعى "الباب العالي"Sublime Porte .
يُشير ميخا النبي إلى عشرة مدن، الخمس مدن الأولى شمال أورشليم، والأخيرة جنوب غرب أورشليم أو جنوبها. وكأن الدمار سيحل لا بأورشليم وحدها، وإنما بالمدن المحيطة بها أيضًا. هذه المدن جميعها وثنية. فسيحل الدمار بالكل، ماداموا مصرِّين على شرهم.
يرى بعض الدارسين أن بعضها تحمل أسماء رمزية، تكشف عن دور الخطية وبشاعتها في حياة الجماعة كما في حياة الإنسان المصمم على شره.
1. مُعثرة: يطلب النبي من سكان أورشليم حين يحل بهم السبي بعد قرن ونصف الاَّ يخبروا مدن فلسطين الوثنية مثل جت وعكاء بما حلٌ بهم [10]، وألاَّ يبكوا أمام سكانها، فقد صاروا عثرة لهم. هذا وكلمة "عكاء" مشتقة من الكلمة العبرية التي تعني بكاءً.
2. عودة إلى التراب: عوض السماء المُعدة للمؤمن يتمرغ الإنسان المصمم على شره في التراب، فيسمع الصوت الإلهي: "أنت تراب، وإلى تراب تعود"، هكذا يصير عفارًا [10].
v ليس من شيءٍ يٌَثقل النفس ويضغط عليها وينزل بها إلى أسفل مثل الشعور بالخطية، وليس من شيءٍ يهبها أجنحة ويصعد بها إلى الأعالي مثل بلوغ البٌَر والفضيلة[17].
القديس يوحنا ذهبي الفم
3. سلب ثوب البٌر: إن كانت كلمة "شافير" تعني جمالاً، فالخطية تسلب الإنسان ثوب البُر فتصير شافير عريانًة وخجلة [11] عوض جمال النفس الداخلية.
4. شدٌَة مفاجئة: كلمة "صانان" تعني "مدينة القطيع". فإذ يُفاجأ الشعب كقطيع غنم بالكارثة التي تحل به كثمرة لخطاياه، فمن هول المفاجأة لا يخرج من المدينة، بل يسير الكل حول بعضه البعض، فيتخبط الجميع. ولعله يحدث هذا بسبب حلول الكارثة على مستوى الجماعة كلها.
5. كارثة عامة: كلمة "هأيصل" معناها "مكان قريب". فالكل يقف في مكانه، ليس من يخرج إلى جاره القريب يطلب نجدته، إذ تحل الكارثة على الجميع.
6. مرارة النفس: كلمة "ماروث" معناها "مرّ". فقد يظن الشرير أنه ينعم بالخيرات والملذات بممارسته الشر والخطية، لكن سرعان ما يفقد خيراته وتتحول حياته إلى مرارة لا تُطاق.
7. هدم الحصون وفقدان الأمان: فقد كانت لاخيش من أكثر مدن يهوذا حصانة، تظن أن العدو لن يقدر أن يقتحمها. لكن ميخا النبي يرى بعين النبوة سنحاريب يحاصرها، ويرى اقتحامها (إش 36: 1-2). يحاول رجالها الهروب بمركباتهم وخيلهم، ولكن إلى أين؟ لقد سيقوا إلى السبي.
v كما أن الذين يخرجون من السجون الأرضية يُحضرون مربوطين بقيودهم إلى موضع المحاكمة، هكذا كل النفوس المقيدة بسلاسل خطاياهم المتنوعة يُقادون إلى كرسي الحكم الرهيب[18].
v عندما ترون الغني مرتبكًا بشئونه غير المحصية، لا تحسبوه غنيًا بل في هذا هو بائس. فإنه بهذه القيود تحت سلطان سجٌان قاسٍ: هو محبة الغني الشريرة. بهذا لا يُسمح له بالانطلاق من السجن، بل يرتبط بآلاف القيود والحراس والأبواب والمزلاج (أقفال)، وحينما يُلقى في السجن الداخلي تقتفي أثره ليشعر بلذة في هذه القيود، حتى لا يجد أي رجاء في الخلاص من الشرور التي تضغط عليه[19].
القديس يوحنا ذهبي الفم
8. ليس من خلاص بالحكمة البشرية المجردة: حتى مدينة النبي نفسه مورشة جت تعطي هدايا لتملق الفلسطينيين لمساعدتها، ولكن بلا نفع.
9. أكاذيب وخداع: كلمة "أكزيب" معناها "أكذوبة" أو "خداع"، فقد انخدع الشعب بواسطة الأنبياء الكَذبة، فظنوا أنهم في سلام وأمان، لكن سنكشف خداعهم بعد فوات الأوان. تصير ميراثًا للعدو، تقترن أكزيب بمريشة لكن تكتشف عجزها عن المساعدة، إذ مريشة نفسها تصير ميراثًا للعدو.
10. ضياع المجد: حيث يهرب العظماء والنبلاء إلى عدلام، المشهورة بكهوفها. يحاولون الاختفاء في الكهوف، فيصير مجد يهوذا محبوسًا فيها.
11. مناحة لا تنقطع: كان من العادات القديمة قص الشعر، خاصة بالنسبة للبنات والسيدات، وذلك عند موت شخص عزيز لديهم، وعندما يحملون إلى السبي. فالقرعة هنا تُشير إلى عدم التعزية كمن فقد أعز من لديه أو سيق كمسبيٍ.
لاَ تُخْبِرُوا فِي جَتَّ لاَ تَبْكُوا فِي عَكَّاءَ.
تَمَرَّغِي فِي التُّرَابِ فِي بَيْتِ عَفْرَةَ. [10]
التمرغ في التراب يشير إلى شدة الحزن.
عفرة اسم عبري معناه "تراب". تقع بيت عفرة في منحدر جبال يهوذا لا يُعرف موقعها بالتحديد، يرى ج. سيمونز أنها وادي العفر بين الدويمة وتل الدوار. ويرى البعض أنها هي الطيبة بين الخليل وجبرين.
اُعْبُرِي يَا سَاكِنَةَ شَافِيرَ عُرْيَانَةً وَخَجِلَةً.
السَّاكِنَةُ فِي صَانَانَ لاَ تَخْرُجُ.
نَوْحُ بَيْتِ هَأَيْصِلَ يَأْخُذُ عِنْدَكُمْ مَقَامَهُ. [11]
شافير: Shaphir, Saphir اسم عبري معناه "جميل"، وهي مدينة في يهوذا، يرى البعض أنها الآن تل السوافير التي تقع على بعد ثلاثة أميال ونصف جنوب شرقي أشدود، ويُرجح آخرون أنها "خربة الكوم" Kherbet el-Kom غربي حبرون، وهي تقع في وادي "السفار" الذي يتردد فيه صدى الاسم القديم.
يشبه هذه المدن بامرأة تفقد كل إمكانية للتستر، فتسير بين الرجال عارية وخجلة. إنها تُقاد كمسبية في عارٍ شديدٍ، ولا يستطيع رجل ما أن يتحرك ليخلصها من العدو العنيف.
v ليتنا نتخلص من قذارة الخطية، فيظهر الجمال الأول الذي للفضيلة. يقول داود النبي في المزمور: "يا رب بجمالك أعطيت جمالي قوة" (مز 29: 8). لنتطّهر حتى تظهر صورة الله فينا، وهذا هو ما يريده الله منّا، أن نكون بلا دنس ولا نقص ولا عيب[20].
القديس دوروثيؤس
صانان Zaanan : يرى البعض أنه النبي يلعب باللفظ ليعطي معنى رمزيًا.
الساكنة في صانان لا تخرج من بيتها بل تكمن في رعبٍ تنتظر مصيرها المرْ، حيث يهجم عليها الغازي ويسبيها.
مدينة بيت هأيصل Beth-ezel: اسم عبري معناه "المكان القريب" أو "بيت الانفصال". قيل أنها "أصل"، أو دير ألأصل Deir el-Asal، جنوب غربي حبرون وتبعد حوالي ميلين شرقي تل بيت مريم. غالبًا ما كانت محصَّنة، ستقاوم الغازي، لكن شعبها يبكون على ما حلّ بإخوتهم في المدن الأخرى، فيعيون من كثرة النوح.
لأَنَّ السَّاكِنَةَ فِي مَارُوثَ اغْتَمَّتْ لأَجْلِ خَيْرَاتِهَا،
لأَنَّ شَرّاً قَدْ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ إِلَى بَابِ أُورُشَلِيمَ. [12]
ماروث Maroth: تقع في يهوذا الغربي، وربما كانت نفس "معارة". يرى البعض ان هذا الاسم هو لعب بلفظ "معارة" (يش 159: 59) لتعطي معنى المرارة، وأنها تُدعى حاليًا بيت عمر Beit-Ummar.
v أمور النعمة يصاحبها فرح وسلام ومحبة وحق... أما أشكال الخطية فيصاحبها اضطراب وليس محبة ولا فرح نحو الله[21].
القديس مقاريوس الكبير
v ماذا إن كان الإنسان غنيًا، وإن كان من الأشراف، فإنه عندما تسبيه خطية ما يصير أكثر فسادًا من كل فساد. فإن كان الإنسان ملكًا قد أسره البرابرة يصير أكثر الناس بؤسًا، هكذا بالنسبة للخطية، إذ هي بربرية، والنفس التي تصير أسيرة لا تعرف كيف تتخلص من الأسر، فتقوم الخطية بدور الطاغية لتحطم كل من يلتصق بها[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
شُدِّي الْمَرْكَبَةَ بِالْجَوَادِ يَا سَاكِنَةَ لاَخِيشَ.
هِيَ أَوَّلُ خَطِيَّةٍ لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ،
لأَنَّهُ فِيكِ وُجِدَتْ ذُنُوبُ إِسْرَائِيلَ. [13]
لاخيش Lachish: مدينة محصنة تقع في سهول يهوذا (يش 15: 33، 39). كانت تُعرف بتل الحصىٌ التي تبعد حوالي 16 ميلاً شمال شرقي من غزة وأحد عشر ميلاً شمالاً شرقي من غزة و11 جنوب غربي من بيت جبرين.
طُلب من ساكنة لاخيش Lachish أن تهرب من الغزو القادم عليها، لأنها أول من دفعت صهيون على ارتكاب الخطية.
لِذَلِكَ تُعْطِينَ إِطْلاَقاً لِمُورَشَةِ جَتَّ.
تَصِيرُ بُيُوتُ أَكْزِيبَ كَاذِبَةً لِمُلُوكِ إِسْرَائِيلَ. [14]
"بيت أكزيب" Achzib وتعني "بيت الخداع"، فإنها خدعت ملوك إسرائيل. دُعيت أيضًا كزيب (تك 38: 5)، وكزيبا (1 أي 4: 22). لعل المدينة أخذت هذا الاسم من نبعٍ فيها كان يجرى شتاء ويجف صيفًا. يظن البعض أنها "عين كذيبة" في وادي إيلة شمال عدلام. وآخرون أنها "تل البيضاء" Tell el- Beida جنوب غربي عدلام.
عوض أن تكون هذه المدينة عاملة ضد الغازين سيكون لا حول لها ولا قوة، وربما تتحول إلى خائنة مخادعة لحساب الغازي.
آتِي إِلَيْكِ أَيْضاً بِالْوَارِثِ يَا سَاكِنَةَ مَرِيشَةَ.
يَأْتِي إِلَى عَدُلاَّمَ مَجْدُ إِسْرَائِيلَ. [15]
عدلام Adullam: اسم عبري معناه ملجأ، وكانت تُذكر بين بلدتي يرموت وسوكوه؛ وهي كنعانية الأصل. سكنها الكنعانيون منذ أيام يعقوب (تك 38: 1-2). ضربها يشوع، ثم حصنها يربعام (2 أى 11: 7). استوطنها اليهود بعد العودة من السبي (نح 11: 30). وموقعها تل شيخ مذكور. كانت عدلام تحيط بها تضاريس وعرة وتشتهر بكهوفها التي كان يختفي فيها الرجال من وجه الحرب. فيها كانت المغارة التي اختبأ فيها داود وجعلها مركز قيادته (1 صم 33: 1؛ 2 صم 23: 13؛ 1 أي 11: 15)، ويُقال أنها مغارة وادي قريطون وتسمى أيضًا مغائر عيد الماء، على بعد نحو ثلاثة عشر ميلاً جنوب غربي بيت لحم، بين لاخيش وأورشليم.
تفقد مريشة عزها، ويقف المجد عند عدلام. يحذرهم ميخا النبي من هجوم الأعداء، فيضطر نبلاء يهوذا وعظمائها إلى الهروب إلى هذه الكهوف للاختباء، وكأن مجد إسرائيل قد دُفن في هذه الكهوف.
كُونِي قَرْعَاءَ، وَجُزِّي مِنْ أَجْلِ بَنِي تَنَعُّمِكِ.
وَسِّعِي قَرْعَتَكِ كَالنَّسْرِ، لأَنَّهُمْ قَدِ انْتَفُوا عَنْكِ. [16]
يصور النبي الأسى المروع الذي يحل بالآباء والأمهات وهم يرون أبناءهم وبناتهم يؤخذون إلى السبي. وقد حدث هذا مرارًا سواء بالنسبة لإسرائيل أو يهوذا، وبلغ أبشع صورة في الغزو النهائي لإسرائيل بواسطة أشور عام 722م، وقد عاصره ميخا النبي، والغزو النهائي ليهوذا عام 586 ق.م.
إسرائيل كأم تبكي مدنها كبنات قد متن وفقدن الحياة، فتُعلن حزنها عليهن وعلى أبنائها الذين وُلدوا في عزٍ وها هم ينقادون إلى السبي.
هنا يتحدث ميخا عما سيحل كمن يرى حدوثه أثناء نبوته عنهم.
v هذا حدث كما نعرف حيث سبق فأُخبرنا عن يهوذا بالنبي: "وسعي قرعتك كالنسر" (مي ١: ١٦) فإن القرعاء تحل بالإنسان في رأسه فقط، أما بالنسبة للنسر فتحل بكل جسمه. فإنه إذ يشيخ جدًا يسقط قوادم (ريش) جناحيه من كل جسمه. إنه (يهوذا) يفقد ريشه حين يفقد شعبه. يسقط قوادم جناحيه التي بها اعتاد أن يطير نحو الفريسة، إذ يهلك كل الرجال الأقوياء الذين بهم ينقَّض (يهوذا) على الآخرين[23].
البابا غريغوريوس (الكبير)
من وحي ميخا 1
مٌَرر الخطية في فمي!
v أعترف لك يا إلهي:
إني أشرب الخطية كالماء،
وأظن في اللهو حياة وسعادة!
لتكشف ليّ عن مرارة الخطية.
روحك الناري يفضح أعماقي،
فألتصق بك يا غافر الخطية!
v تود أن تحاكمني لا لتنتقم مني،
بل لتؤدبني برحمتك، وتؤهلني لميراثك الأبدي!
أبوتك حتى في حزمها مملوءة حنوًا!
رعايتك فائقة، تحملني على منكبيك!
v لتخرج إلىٌ فتحطم كل جبل متشامخ في أعماقي،
وينحل كل يأس في قلبي،
وتتبدد خطيتي كمياه في منحدر!
لتحطم شروري،
وتنزع كل فسادٍ في داخلي!
v كما تخرج إلىٌ بالحب هب ليّ ان أخرج إلى إخوتي!
لأنوح على نفس تائهة،
وأولول على كل إنسان ضائع،
كيف لا يلتهب قلبي من أجل كل متعثر؟
كيف لا أضعف مع كل ضعيف؟
كيف لا أحسب نفسي أسيرًا مع كل مسبيٍ للخطية؟
v أعود فتئن نفسي على خطاياي وخطايا إخوتي!
أعترف لك أننا أعثرنا كثيرين،
لتعمل نعمتك فينا فنمجدك بعملك الإلهي فينا!
v خطيتنا حولتنا إلى التراب،
نعمتك ترفعنا إلى السماء!
v خطيتنا أفقدتنا ثوب بٌَرك،
روحك الناري يرد لنا بٌَرك فينا!
v خطيتنا سلبتنا سلامنا الداخلي،
حضورك فينا يهبنا سلامك الفائق!
v خطيتنا مررت نفوسنا،
شركتنا معك هي العذوبة بعينها!
v خطيتنا حطمت أسوارنا الروحية،
حلولك هو سور نفوسنا الناري!
v خطيتنا خدعتنا بالأكاذيب والوعود الباطلة.
نزولك إلينا رفعنا إلى أمجادك الأبدية!
v خطيتنا قادتنا إلى السبي،
نعمتك تهبنا حرية مجد أولاد الله!
إقطاعيُّون طمَّاعون
يندد ميخا النبي بالإقطاعيين الطامعين الذين يقضون الليل يفكرون كيف يغتصبون حقول الفلاحين بكل وسيلة، ومتى حلّ الصباح ينفذون خططهم ليستولوا على الحقول، ويحوِّلوا أصحابها إلى أُجراء أو متسوِّلين أو عبيدًا.
v إن ثالث معركة لنا هي التي نشنها ضد الطمع، الذي نستطيع أن نصفه على أنه "محبة المال"، وهي معركة غريبة عنا، وخارجة عن نطاق طبيعتنا. وهي بالنسبة لأي راهب لا تتولد إلا عن عقل فاسد متبلد، ومحاولة مزيفة لنبذ العالم، ومحبة لله فاترة من أساسها، وذلك لأن باقي مغريات الخطية المغروسة في الفطرة البشرية تبدو كما لو كانت بدايتها كائنة منذ ولادتنا، وجذورها عميقة في جسدنا، وتكاد أن تكون معاصرة لمولدنا. إنها تدرك مسبقًا مدى قدراتنا على التمييز بين الخير والشر، وعلى الرغم من أنها تهاجم المرء مبكرًا جدًا، فهو يصرعها بعد جهاد طويل.
لا يصيبنا هذا المرض إلاَّ في مرحلة متأخرة، ويفد على النفس البشرية من الخارج، ولذلك يسهل على المرء أن يأخذ منه حذره ويقاومه. أما إن أُهمل وسُمح له بالولوج داخل القلب، يصير أشد خطرًا ويتعذر انتزاعه جدًا، إذ يصبح "أصلاً لكل الشرور" (1 تي 6: 10)، ومن ثم يعمل على الإكثار من مغريات الخطيئة[24].
القديس يوحنا كاسيان
1. تخطيط شرِّير [1-3].
2. عقاب الطامعين [4-5].
3. رفضهم كلمة النبوة [6].
4. النبي لا يصمت [7-9].
5. التحرك بالتوبة العملية [10-11].
6. فتح باب للرجاء [12-13].
وَيْلٌ لِلْمُفْتَكِرِينَ بِالْبُطْلِ،
وَالصَّانِعِينَ الشَّرَّ عَلَى مَضَاجِعِهِمْ.
فِي نُورِ الصَّبَاحِ يَفْعَلُونَهُ،
لأَنَّهُ فِي قُدْرَةِ يَدِهِمْ. [1]
ينطق بالويل على الذين يسهرون بالليل يخططون لاغتصاب ما هو للغير في أنانية، وإذ يحل الصباح ينفِّذون ما قد خططوه، لأنهم أصحاب سلطة. كل ما يشغل أفكارهم وقلوبهم هو اشتهاء ما هو للغير، مبررين لأنفسهم ذلك بطريق أو آخر. كأن يحسب الإنسان أنه أكثر قدرة على تدبير الحقل وإدارته أو أن صاحب الحقل عاجز عن تسديد الدين الذي تراكمت فوائده عليه فتضخم. فبمهارة فائقة يتآمرون كيف يتممون شهوة قلوبهم. إن كان الظلم والاغتصاب والطمع خطايا خطيرة، فإنها تكون أكثر خطورة حين يتفرغ الإنسان لتدبير ذلك مستخدمًا مكره وخداعه وإمكانياته وسلطانه! يظن أنه ليس من حق أحدٍ أن يحاسبه.
مما يحزن القلب أن الأشرار الظالمين يكرسون الليل للتخطيط في الشر ويبكرون مع نور الصباح ليحققوا ما قد دبروه. بينما لا ننشغل نحن بالليل في الصلاة والتأمل في كلمة الله، ونبكر للعمل لحساب ملكوت الله. لذا ينصحنا الحكيم: "كل ما تجده بيدك لتفعله فأفعله بقوتك، لأنه ليس من عملٍ ولا اختراعٍ ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (جا 9: 10).
ما يفكر فيه الإنسان حين يستلقي للراحة الجسدية يكشف عما في قلبه وفكره ونيَّاته. فالإنسان الروحي حين يستلقي ترتفع نفسه للتأمل في الإلهيات المبهجة، والشرير تنغمس نفسه في الشرور التي تأسره وتستعبده. هذا وكما أن الليل يكشف لنا عما نحن عليه في النهار، فإن ما نفكر فيه بالليل يؤدي إلى عمله في النهار، إن آجلاً أو عاجلاً. قداسة حياتنا في النهار تقدم لنا أفكارًا مقدسة وأحلامًا لائقة بأبناء الله ليلا؟ً، وقداسة أحلام يقظتنا تدفعنا بالأكثر نحو النمو الروحي في الرب.
فَإِنَّهُمْ يَشْتَهُونَ الْحُقُولَ وَيَغْتَصِبُونَهَا،
وَالْبُيُوتَ وَيَأْخُذُونَهَا،
وَيَظْلِمُونَ الرَّجُلَ وَبَيْتَهُ وَالإِنْسَانَ وَمِيرَاثَهُ. [2]
كان آخاب الملك مثلاً رديًا لاستغلال سلطته حسب مشورة زوجته الشريرة إيزابل (1 مل 21: 1-15)، حيث استولى على حقل نابوت اليزرعيلي بعد أن دبَّر قتله. فاستشرى هذا النوع من الفساد في يهوذا، وأصيب النبلاء أصحاب السلطة بهذا المرض الخطير.
v أيها الغني، لماذا تترفَّع بغناك وتفخر بأمجاد أجدادك؟ أتتفاخر بموطنك وتُسر لجمال جسدك وتفرح لشرف زائل؟ انتبه لنفسك. تذكَّر بأنَّك إنسان مائت وأنك تراب وإلى التراب تعود (تك 3: 19)... اِنحنِ واُنظر إلى القبور، فهل تميِّز بين عظام الفقراء وعظام الأغنياء؟ بين عظام العبيد وعظام الأسياد؟ اِفطن لذاتك إذن وتخلَّ عن التكبُّر والبخل وقسوة القلب[25].
v لقد أصبحت أيها الإنسان الثري خادمًا لله الكُلِّي الرحمة ووكيلاً له أمام إخوتك في العبوديَّة. فاحذر من أن تفكِّر بأن الخيرات هي لبطنك. فما في يديك احسبه كغريبٍ عنك. هذه الخيرات تفتنك لفترة ثم لا تلبث أن تتبخَّر وتزول، ولكن سوف تؤدِّي عنها حسابًا دقيقًا[26].
يستولون على حقول الآخرين ليس بالمكر والخداع فحسب، وإنما بالعنف والاستبداد، مغتصبين حقوق الغير، ضد القانون. يظلمون رب البيت دون مبالاة بأسرته أو ميراثه عن أجداده.
لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هَأَنَذَا أَفْتَكِرُ عَلَى هَذِهِ الْعَشِيرَةِ بِشَرٍّ،
لاَ تُزِيلُونَ مِنْهُ أَعْنَاقَكُمْ،
وَلاَ تَسْلُكُونَ بِالتَّشَامُخِ،
لأَنَّهُ زَمَانٌ رَدِيءٌ. [3]
يقصد بالعشيرة هنا كل المملكة، ويقصد بالشر هنا التأديب بالسبي حيث يرونه شرًا قد حلٌ عليهم.
يجازي يهوه هؤلاء الظالمين حسب أفعالهم، فيسمح لهم بقيود السبي التي لا تهرب منه أعناقهم. فعوض تشامخهم تُطوق أعناقهم بالقيود، ويُسحبون إلى أرض السبي. إذ وضع الأغنياء والقيادات نيرًًا ثقيلاً على طبقة الفلاحين، يسمح بنير السبي الثقيل يحل عليهم، فلا يقدرون أن ينزعوه عن أعناقهم، بهذا يكسر كبرياءهم وتشامخهم.
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُنْطَقُ عَلَيْكُمْ بِهَجْوٍ وَيُرْثَى بِمَرْثَاةٍ وَيُقَالُ:
خَرِبْنَا خَرَاباً.
بَدَلَ نَصِيبِ شَعْبِي. كَيْفَ يَنْزِعُهُ عَنِّي؟
يَقْسِمُ لِلْمُرْتَدِّ حُقُولَنَا. [4]
إذ يَسلبون ممتلكات الغير يفقدون حتى ممتلكاتهم، فيتسلم العدو الحقول، ويستولي على أراضيهم ومحاصيلهم، فيفقدون الرخاء، كما يفقدون أراضي ميراثهم. إنها تُنزع عنهم نزعًا في غير توقعٍ، فيذهلون بسبب عنصر المفاجأة والعنف.
إذ يأتي يوم التأديب القاسي تتحول أفراحهم إلى مراثٍ، وضحكهم إلى صراخٍ، ويصيرون مثلاً لدى أصدقائهم وجيرانهم.
v هكذا تتزعزع هذه النفس الشقية (بالطمع)، ويلتف حولها تنين الطمع، فلا تستطيع فكاكًا، بينما تحاول جاهدة لمضاعفة كومة المال التي أحرزتها بطرق غير مشروعة واهتمام ممقوت، تصحبه كوارث لا تخفف من حدة طمع هذه النفس بل تزيده اشتعالاً، ويعميها عن كل شيء سوى الجري وراء الكسب والحصول على المال... والتجرد من الإيمان، كلما وجد بصيصًا من الأمل في إحراز المال.
ولهذا فهو لن يتورع عن أن يرتكب جريمة الكذب، أو شهادة الزور، أو السرقة، أو كسر الوعد، أو الاسترسال مع نوبات الهياج الجارحة. أيضًا إذا فقد الأمل في الحصول على الكسب، فإنه لن يتورع عن أن يتجاوز حدود اللياقة والتواضع، وفي كل هذا يصبح الذهب ومحبة الربح القبيح إلهًا له، شأنه في ذلك شأن الذين يعبدون بطونهم. ولهذا فإن الرسول المطوّب، إذ نظر إلى سم هذه الآفة المميت لم يقل فقط أنه أصل لكل الشرور، ولكن سمَّاه أيضًا "عبادة الأوثان"، قائلاً: "والطمع الذي هو عبادة الأوثان" (كو 3: 5).
فأنت ترى إذن قدر السقوط الذي يقود إليه هذا الجنون خطوة فخطوة، حتى أن الرسول يطلق الصيحة مدوية بأنه عبادة للأوثان المزيفة، ذلك لأنه بتخطيه صورة الله ومثاله (وهما اللذان يجب أن يحتفظ بهما كل من يعبد الله بالروح والحق في أعماق نفسه دون تزييف) قد آثر أن يحب ويتعلق بالصور المنقوشة على الذهب بدلاً من الله.
بمثل هذه الخطوات الكبيرة، منحدرًا إلى أسفل، ينساق من سيء إلى أسوأ، وأخيرًا لا يهتم بأن يحتفظ لنفسه، لا بفضائل التواضع والمحبة والطاعة بل ولا بظلها، إلى جانب أنه يصبح غير راضٍ عن أي شيء، ويتذمر ويشكو من كل عمل. عندئذ وقد ضرب بكل خشوع عرض الحائط فإنه، كحصان جامح، يندفع متهورًا مطلَق العنان[27].
v أتريد أن تعلم مدى خطورة هذه الغواية وأضرارها على صاحبها، ما لم تُقتلع بحذرٍ، والدمار الذي تلحقه به، وما يتشعب منها من فروع شتى للخطايا؟ انظر إلى يهوذا، المعدود من بين التلاميذ، وتأمل كيف بسبب عدم إقدامه على سحق رأس هذا التنين القاتل، قُضي عليه بِسمُه، وكيف أنه لما وقع في شباك هذه الشهوة ألقت به في الخطية وفي سقطة عاجلة، حتى أنها أغوته على بيع فادي الأنام، ومنشئ خلاص الإنسان بثلاثين من الفضة، وأنه لم يكن من المستطاع دفعه إلى هذه الخطية المنكرة، خطية خيانة سيده، ما لم يكن قد لطخته خطية الطمع. كذلك ما كان لينساق إلى الإجرام في حق سيده بهذه الصورة البشعة، ما لم يكن قد عوّد نفسه على السرقة من الكيس المودع لديه[28].
القديس يوحنا كاسيان
لِذَلِكَ لاَ يَكُونُ لَكَ مَنْ يُلْقِي حَبْلاً فِي نَصِيبٍ بَيْنَ جَمَاعَةِ الرَّبِّ. [5]
لا يوجد من يوزع الميراث أو يتخاصم عليه، لأن الكل يفقدون الميراث، فلا حاجة لخصومات ومحاكم وإلقاء قرعة لتوزيع الأراضي والحقول، وإذ يؤول الكل إلى يد العدو المغتصب. يمتد طمعهم إلى كل شيء: اغتصاب الحقول والبيوت والميراث، فيصير الفلاحون معدمين لا مأوى لهم، محرومين من بركة ميراث آبائهم وأجدادهم.
يعلن الله للطامعين أنهم إذ يسلبون الفقراء ظلمًا يُنزع عنهم ما قد اغتصبوه، بل ويفقدون مالهم فلا يكون لهم نصيب في الأرض التي وهبها الله لشعبه.
يَتَنَبَّأُونَ قَائِلِينَ:
"لاَ تَتَنَبَّأُوا".
لاَ يَتَنَبَّأُونَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ.
لاَ يَزُولُ الْعَارُ. [6]
بعد أن تحدث عن خطية الطمع وما لحقها من خطايا مثل تدبير الشر والظلم والاغتصاب والتشامخ، يتحدث عن خطية خطيرة وهي مقاومة كلمة الرب، فيطالبون بسد أفواه الأنبياء. لا يقفون عند التمرد على القوانين المدنية، بل ويتمردون على سلطان الله. لا يحتمل الأشرار كلمة الرب، ولا يقبلون التوبيخ، لهذا طلبوا من النبي الالتزام بالصمت والكف عن التنبؤ، حاسبين في كلمة الرب عارًا وخزيًا. يرون في كلمة الرب إزعاجًا لنفوسهم وفزعًا. لقد أرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل يطلب منه ان يمنع عاموس من أن يتنبأ (عا 7: 10 الخ). وجاء في إشعياء "الذين يقولون للرائين لا تروا" (إش 30: 10). ويبقى هذا التصرف حتى عصر ضد المسيح حيث يتعذب الساكنون على الأرض من الكرازة بالكلمة (رؤ 11: 10).
كثيرًا ما نرفض الصراحة في توجيه حياتنا، ونطلب الكلمات الناعمة والتعزيات البشرية الخادعة، مع أننا في حاجة إلى الحزم النابع عن الحب.
أَيُّهَا الْمُسَمَّى بَيْتَ يَعْقُوبَ،
هَلْ قَصُرَتْ رُوحُ الرَّبِّ؟
أَهَذِهِ أَفْعَالُهُ؟
أَلَيْسَتْ أَقْوَالِي صَالِحَةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَةِ؟ [7]
يقول: "أيها المُسمى بيت يعقوب"، فإنهم يحملون الاسم لكنهم لا يمارسون ما يليق باسمهم. وكما يقول الرسول: "هوذا أنت تُسمى يهوديًا وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميز الأمور المتخالفة، متعلمًا من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة، ومهديًا للأغبياء، ومعلم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس. فأنت إذًا الذي تُعلم غيرك، ألست تُعلم نفسك؟ الذي تكرز ألاَّ يُسرق، أتسرق؟ الذي تقول أن لا يزني أتزني؟..." (رو 2: 17-22).
لم يصمت النبي كما طلبوا منه، بل صار يوبِّخم مؤكدًا لهم أن سرّ عارهم ليس كلماته بل سلوكهم الغير متفق مع طرق الرب، حياتهم لا تستقيم مع عمل روح الله. فإن استقامت ينالون بركة الرب.
يوبخهم ميخا النبي قائلاً: "هل قصرت روح الرب؟" بمعنى هل تظنون أنكم قادرون أن تسكتوا صوت الرب وتقاوموا روحه؟ إن استخدمتم كل سلطان لتكتموا الأنبياء، ألاَّ يجد روح الله طرقًا أخرى ليبكتكم على شركم؟ هل سلطانكم الزمني وإمكانياتكم المادية تقدر أن تبطل مشورة الله؟
وبقوله "أهذه أفعاله؟" يوبخهم، لأنهم يفتخرون بأنهم بنو إسرائيل، بيت يعقوب، ومنهم جاء الأنبياء. فهل كان أبوكم يعقوب يُمارس ما أنتم تفعلونه؟ هل تسلكون في ذات طريق أبيكم؟ أنتم تفتخرون بأنكم بيت يعقوب، لكنكم لا تعملون أعماله.
هكذا أيضًا وبخ السيد المسيح اليهود حين كانوا يفتخرون أنهم أبناء إبراهيم الحر، بينما كانوا يريدون قتل السيد المسيح. لذلك قال لهم: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، أنتم تعملون أعمال أبيكم... أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 39-44).
كأن النبي يقول لشعبه: لكم الاسم "بيت يعقوب" لكن أعمالكم تشهد بأنكم "بيت إبليس المقاوم لروح الرب".
إن أرادوا أن ينتسبوا ليعقوب السالك بروح الرب، فليسلكوا باستقامة تليق بهم.
يرى القديس هيبوليتس الروماني أن بيت يعقوب أثار غضب الله وارتبط بآلام المسيح حسب الجسد.
v "وهو متسربل بثوبٍ مغموس بدمٍ ويُدعى اسمه كلمة الله" (رؤ ١٩: ١٣). انظروا إذن يا إخوتي كيف أن الثوب المرشوش بالدم يُشير إلى الجسد، الذي خلاله كلمة الله الذي لا يسقط تحت الألم احتمل الألم، كما يشهد النبي. فإنه هكذا يتكلم الطوباوي ميخا: "هل يلزم أن يُقال هذا يا بيت يعقوب؟ هل روح الرب نافذ الصبر؟ هل هذه هي أعماله؟ أليست كلماتي تعمل حسنًا في هذا الذي يسير باستقامة؟ لكنك قمت ضد شعبي كعدوٍ إنك تعري الثوب عن رجل السلام". هذا يُشير إلى آلام المسيح بالجسد[29].
القديس هيبوليتس
v اعتاد الكتاب المقدس أن يدعو الكاهن ملاكاً وإلهًا فيقول: "لا تسب الآلهة ولا تلعن رئيس شعبك". (خر 22: 28 LXX)[30].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب "وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)، فإنه يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له "كل الأشياءِ تعمل معًا للخير" (رو 8: 28). فكما يقول النبي (ميخا) أن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7)[31].
وَلَكِنْ بِالأَمْسِ قَامَ شَعْبِي كَعَدُوٍّ.
تَنْزِعُونَ الرِّدَاءَ عَنِ الثَّوْبِ مِنَ الْمُجْتَازِينَ بِالطُّمَأْنِينَةِ،
وَمِنَ الرَّاجِعِينَ مِنَ الْقِتَالِ. [8]
بينما يعتزون بدعوة أنفسهم "بيت يعقوب" [7] إذا بهم يقومون بدور العدو المحطم لهذا البيت. لم يقفوا ضد روح الرب فحسب، بل وضد الأمة أو الشعب فإنهم إذ يسلبون الفلاحين إنما يحطمون "بيت يعقوب"، ويُحسبون أعداء مقاومين له. إنهم عدو داخلي أخطر من كل عدوٍ خارجي.
يقول المرتل: "لأنهم لا يتكلمون بالسلام، وعلى الهادئين في الأرض يتفكرون بكلام مكرٍ" (مز 35: 20).
يظهر مدى بشاعة سلوكهم أنهم لا يسلبون الأرض فحسب، وإنما جردوا حتى الرداء عمن يجتازون في طمأنينة، ومن دافعوا عنهم في القتال.
تَطْرُدُونَ نِسَاءَ شَعْبِي مِنْ بَيْتِ تَنَعُّمِهِنَّ.
تَأْخُذُونَ عَنْ أَطْفَالِهِنَّ زِينَتِي إِلَى الأَبَدِ. [9]
لقد أكلوا بيوت الأرامل (مت 23: 14)، واستولوا عليها، وعاملوا النساء في وحشية لا تتفق مع العمل الإنساني، خاصة وأنهن نساء ذات الأمة، نساء شعب الله اللواتي يطلبن حماية الله لهن.
امتدت يدهم ليغتصبوا من النساء أطفالهن ليكونوا عبيدًا لهم، ربما قاموا ببيعهم عبيدًا للممالك الوثنية فحرموهم من التمتع بالإيمان بالله، ونزعوا عنهم مجدهم.
ولعل النبي يُشير هنا إلى السبي الذي سمح به الله بسبب فساد القادة وشرهم والذي تفشى بين الشعب. ففي السبي لا يقف الأمر عند اغتصاب النساء من بيوتهن، وإنما حتى الأطفال يفقدون حقهم في الجنسية العبرانية والاشتراك في العبادة بالهيكل حيث يُحملون إلى بلدٍ غريبٍ.
قُومُوا وَاذْهَبُوا لأَنَّهُ لَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الرَّاحَةَ.
مِنْ أَجْلِ نَجَاسَةٍ تُهْلِكُ وَالْهَلاَكُ شَدِيدٌ. [10]
في مرارة يدعوهم أن يقوموا ويذهبوا إلى السبي، فقد حلّ بهم ثمرة نجاستهم والهلاك الشديد! لقد صدر عليهم الحكم التأديبي الإلهي، فإنهم إذ سلبوا حقوق الشعب بسلطانهم الزمني تُنزع عنهم ممتلكاتهم بالقوة، ولا تعود أرض الموعد مكان راحة لهم.
يحل بهم ما حلّ بآبائهم الذين تذمروا على الله في البرية مرارًا وتكرارًا. وكما جاء في المزمور: "أربعين سنة مقت ذلك الجيل، وقلت هم شعب ضال قلبهم، وهم لم يعرفوا سبلي، فأقسمت في غضبي لا يدخلون راحتي" (مز 95: 10-11).
لا يقف الأمر عند طردهم من أرض الموعد، وإنما "من أجل نجاسة تهلك، والهلاك شديد" سرّ هلاكهم ليس قوة العدو العسكرية الذي يسبيهم، إنما نجاساتهم المدمرة لهم. لذلك يوصينا الكتاب: "هاربين من الفساد اليَّ في العالم بالشهوة" (2 بط 1: 4)، "الديانة النقية الطاهرة عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 1: 27).
يدعوهم النبي للقيام من حالة الخطية، حتى يتمتعوا بالراحة الحقيقية ولا يحل بهم الهلاك.
v ليت ذاك العاجز عن الطيران كالنسر يطير كعصفور. ذاك غير القادر أن يطير إلى السماء، فليطر إلى تلك الجبال. ليته يطير أمام الوديان هذه التي سرعان ما تتدمر بالمياه. ليعبر على الجبال. عبر ابن عم إبراهيم على جبال صوغر Segor وخلص (تك ١٩: ١٢-٢٩). أما امرأة لوط فلم تستطع أن تتسلقها، إذ تطلعت خلف بطريقة نسائية وفقدت خلاصها (تك ١٩: ٢٦). يقول الرب بالنبي ميخا: "اقتربوا إلى الجبال الأبدية، اصعدوا من هنا، فإنها ليست فيها راحة لكم بسبب الدنس. إنكم بالفساد تفسدون، تعانون من الطرد". يقول: "ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال" (مت ٢٤: ١٦). هناك جبل صهيون، وهكذا مدينة السلام أورشليم، مبنية لا بحجارة أرضية، بل بحجارة حية، بواسطة ربوة من الملائكة وبكنيسة الأبكار وبأرواح الذين كملوا، وبإله الأبرار الذي تكلم بدمه أفضل من هابيل (عب ١٢: ٢٤). فإن واحدًا صرخ لأجل النقمة (تك ١٤: ١٠) والآخر لأجل الغفران. واحد يوبخ خطية أخيه، والآخر يغفر خطية العالم. واحد يعلن عن جريمة والآخر يستر على جريمة كما هو مكتوب: "طوبى لمن سترت خطاياهم" (مز ٣٢: ١ LXX)[32].
القديس أمبروسيوس
v "في الرب التجأت؛ كيف تقولون ليّ: اهرب إلى الجبال كعصفورٍ؟ (مز ١١: ١ LXX). عدو عنيف! جرب الرب المخلص في البرية، والآن يطلب المؤمنين، يطلب كل واحدٍ منهم أن يفارق أرض اليهودية ويسكن في برية قاحلة من الفضائل، حتى يمكنه أن يسحقهم هناك بسهولة جدًا. حتى المشورة ذاتها (التي يقدمها) ماكرة. إنها ليست نصيحة لكي يأخذ (المؤمن) جناحي حمامة، الطائر الرقيق البسيط المستأنس – طائر يقولون عنه إنه بلا ضغينة مطلقًا – هذا الذي قدم في الهيكل من أجل الرب (لو ٢: ٢٤)، وإنما (ينصحهم أن يأخذوا) جناحي عصفور، طائر يثرثر (يزقزق) طواف، يصير غريبًا عن زوجته بعد بروز الصغار من البيض[33].
القديس چيروم
لَوْ كَانَ أَحَدٌ وَهُوَ سَالِكٌ بِالرِّيحِ وَالْكَذِبِ يَكْذِبُ قَائِلاً:
أَتَنَبَّأُ لَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ لَكَانَ هُوَ نَبِيَّ هَذَا الشَّعْبِ! [11]
هاجم النبي قبولهم للأنبياء الكذبة الذين من أجل نفعهم المادي أو الاجتماعي يتغاضون عن الحق ويداهنون الظالمين ويتستَّرون على الخطأ. لهذا يقول الرسول: "إن كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح" (غل 1: 10).
لو أن شخصُا ما جاء يحدثهم عن الخمر والسكر، يجد الظالمون في حديثه ما يؤهله أن يكون لهم نبيًا، يحدثهم بما يشتهونه. إنهم لا يريدون نبيًا صادقًا ينطق بكلمة الله، لأنها بالنسبة لهم عار وخزي.
إنهم يريدون أنبياء أشرارًا يوافقونهم على شرورهم، قيل عنهم: "إذ رأيت سارقًا وافقته، ومع الزناة نصيبك، أطلقت فمك بالشر، ولسانك يخترع غشًا" (مز 50: 18-19).
لعله يُشير هنا إلى الأنبياء الكذبة الذين عوض أن يسكروا بحب الله وينشغلوا بالوصية الإلهية ينشغلون بالحفلات الماجنة التي يقيمها الأغنياء، ويسقطون في السكر مما يفقدهم اتزانهم وينحرف بهم عن رسالتهم.
v ما أن بدأوا في أن يغطسوا في هاوية الإفراط وانحرفوا عن الحواس الطبيعية حتى سلموا نفوسهم للسبي لدى طاغية السُكر الفاسد.
إنهم يشبهون سفينة بدون قلاعٍ يحفظ توازنها، لهذا قيل: "ويل للذين يقومون باكرًا ليجروا نحو المُسكر" (راجع إش 5: 11). إنهم لا يُشبعون احتياجًا، ولا ينتظرون أن تهدأ الشهوة، إنما هذا هو عملهم أن يسكروا على الدوام. لذا قيل: "يجرون نحو المسكر"[34].
القديس يوحنا ذهبي الفم
كعادة الأنبياء بعد التهديد بالتأديب وقبل حلوله يفتحون باب الرجاء ليدركوا رحمة الله الفائقة. فهو إذ يؤدب إنما ليضمهم إليه، ويهبهم أكثر مما يسألون وفوق ما يطلبون.
إِنِّي أَجْمَعُ جَمِيعَكَ يَا يَعْقُوبُ.
أَضُمُّ بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ.
أَضَعُهُمْ مَعاً كَغَنَمِ الْحَظِيرَةِ،
كَقَطِيعٍ فِي وَسَطِ مَرْعَاهُ يَضِجُّ مِنَ النَّاسِ. [12]
يرى بعض الدارسين في هاتين العبارتين [12-13] نبوة عن الرجوع من السبي في المستقبل القريب، وعن التمتع بالحرية من سبي الخطية بمجيء المسيَّا مخلص العالم.
نبوة رائعة لحدثين عظيمين: الأول عودة إسرائيل من السبي البابلي، والثاني ضم حشد المؤمنين معًا عند مجيء السيد المسيح الذي يسير في مقدمتهم كبكر الراقدين، ورأس الكنيسة السماوي.
يرى آخرون أن هاتين العبارتين هما نبوة الأنبياء الكذبة المخادعين بأن السبي ينتهي سريعًا، والعودة تتحقق فورًا؛ هذه النبوة لم تتحقق.
إن كانوا بسبب شرهم تشتتوا، فإنه بعد تأديبهم يجمعهم معًا، لا كمملكتين منقسمتين، بل كشعبٍ واحدٍ ومملكةٍ واحدة، ويدعو الكل "يعقوب". إنه سيضم البقية المقدسة التي التصقت بالرب أثناء السبي ورجعت إليه، فيصيرون غنم رعيته الناطقة.
"يضج من الناس"، أو يحدثون جلبة بسبب كثرة عددهم، حيث يجمع السيد المسيح، الراعي الصالح شعبه من كل الأمم: "جميع أبناء الله المتفرقين إلى واحدٍ" (يو 11: 52). إذ يقول: "وليّ خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعٍ واحدٍ" (يو 10: 16).
قَدْ صَعِدَ الْفَاتِكُ أَمَامَهُ.
يَقْتَحِمُونَ وَيَعْبُرُونَ مِنَ الْبَابِ وَيَخْرُجُونَ مِنْهُ
وَيَجْتَازُ مَلِكُهُمْ أَمَامَهُمْ،
وَالرَّبُّ فِي رَأْسِهِمْ. [13]
من هو هذا الفاتك الذي يقتحم الباب ويعبر منه فيخرج ويُخرج شعبه معه إلاَّ السيد المسيح الذي فتك بالمَوت؛ أماته بموته. عبر بشعبه من باب الجحيم ودخل بهم إلى فردوسه واهبًا إياهم روح النصرة على آخر عدو وهو الموت؟
لقد صار بكر الراقدين أقامنا معه! خرج من القبر وحمل بابه، كما أخذ شمشون مصراعي باب المدينة والقائمتين وقلعهما مع العارضة ووضعها على كتفيه وخرج (قض 16: 3).
يرى البعض أن الفاتك هنا القديس يوحنا المعمدان الذي جاء بروح إيليا يُهييء الطريق أمام ملك الملوك، مخلص العالم، فقد فتح الباب بالمناداة بالتوبة والدعوة للقاء مع حمل الله الذي يحمل خطية العالم.
وسط الظلمات يتقدم المخلص، نور العالم ليشرق بنوره فيُبدد الظلمة. يدعو هنا بالفاتك، أي مُزيل العقبات وفاتح الطريق نحو الأبدية. إنه يفتح الباب على مصراعيه ليجد كل مؤمنٍ فيه رجاءً للدخول والخروج تحت قيادته.
v من يدخل يلزمه ألاَّ يبقى في ذات الحالة التي فيها دخل، بل يلزمه أن يذهب إلى المرعى فيكون الدخول هو بداية "يدخل ويجد مرعى" (يو ١٠: ٩) كمال النعم. من يدخل يكون محصورًا بحدود العالم، أما من يستمر في السير كمن هو يتعدى الأمور المخلوقة حاسبًا ما يُرى كلا شيء، فإنه يجد مرعى فوق السماوات، ويقتات بكلمة الله، قائلاً: "الرب راعي (يقوتني)، فلا يعوزني شيئًا" (مز ٢٣: ١ LXX). لكن هذا الدخول لا يمكن أن يتحقق إلاَّ بالمسيح، كما تبع ذلك: "والرب رأسهم"[35].
القديس چيروم
ليعمل روحك فيّ!
فأعمل بروح الحب والحنو!
v روحك الناري، روح الحب والحنو،
ليعمل فيّ فأحمل أيقونة حبك العملي!
على مضجعي أنشغل باللقاء معك.
أراك تتجلى في المحتاجين والمتألمين.
أراك أبًا لليتامى وقاضيًا للأرامل.
أراك تخرج لتلتقي بالمطرودين.
لألتقي بك فيهم فأتمتع بالشركة معك!
v انزع عني القلب الحجري، وهب ليَ قلبًا جديدًا مملوء حنوًا!
لا يشغلني مال ولا جاه،
فأنت كنزي ومجدي!
v لتنزع عن أعماقي كل تصلب للرقبة،
ولتهدم بحبك تشامخي!
حطم كل فساد فيّ،
ولتنزع كل حقلٍ غريب من داخلي!
تكلم يا رب ، فإن عبدك سامع!
كل كلمة مهما كانت جارحة فهي لبنياني.
لتضرب بسيفك فتبتر كل شرٍ في داخلي!
تكلم، فإن أقوالك صالحة!
هب ليّ أن أسلك باستقامة.
أقطن فيك يا أيها الطريق الملوكي!
v أعترف لك بخطاياي!
أخطأت أنا وكل بيت آبائي!
لأرجع إليك فترجع إلينا.
تجمعنا من أقاصي الأرض،
لنصير سماءً جديدة،
تسكنها أنت أيها البر الحقيقي.
v لا تسمح لأذني أن تستطيب الناعمات،
فتلهو بوعود العدو الكاذبة،
وتسكر نفسي بخمر العالم المُفسد.
هب ليّ أذنان تسمعان ما يقوله الروح للكنائس!
v تعال أيها الرب يسوع، ولتضم كل المؤمنين كأعضاء في جسدك.
فنقتحم أبواب الجحيم وننطلق إلى فردوسك!
ننزع باب الموت ونخرج معك إلى القيامة أنت هو بكر الراقدين،
أنت هو رأس الكنيسة المقدسة!
القيادة الشريرة
الآن بعد أن كشف عن خطايا الشعب وجه حديثه للقيادات: الملك والرؤساء والأشراف والقضاة، هؤلاء الذين أُقيموا لخدمة الشعب وإجراء القضاء العادل لكل إنسان لكنهم عوضًا عن ذلك استغلوا مراكزهم ونهبوا أموال الشعب، وتنعموا في ترفٍ زائدٍ بينما كان الشعب يئن من الجوع والظلم.
يحتوى هذا الأصحاح على ثلاثة أحاديث هامة موجهة للقادة الأشرار: الحديث الأول أنهم قادة متوحشون [1-4]، والثاني أنهم قادة مخادعون [5-8]، والثالث أنهم قادة مرتشون كما تحدث عن ثمر القيادة الشريرة [9-12].
هنا يوبخ ميخا النبي القيادات على انخداعها بكلمات الأنبياء الكذبة المخادعة، حيث نادوا بأن السبي ينحل سريعًا جدًا، والعودة منه على الأبواب. يطالبهم ميخا النبي أن يميزوا الحق ويعرفوه، ولا ينخدعوا بالأكاذيب.
1. دعوة القادة للتعرف على الحق [1].
2. الظالمون الأشرار [2-4].
3. الأنبياء الكذبة [5-7].
4. ميخا وقوة الروح [8].
5. توبيخ القادة في صراحة [9-12].
وَقُلْتُ: اسْمَعُوا يَا رُؤَسَاءَ يَعْقُوبَ وَقُضَاةَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ.
أَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الْحَقَّ؟ [1]
كان يليق بشيوخ إسرائيل أن يعيشوا وسط الشعب، يشاركونهم الحياة اليومية، لكنهم تحولوا إلى طبقة أرستقراطية حاكمة تعيش في العاصمة "أورشليم".
والقضاة الذين كان يليق بهم أن يعلِّموا الشعب الشريعة ويشهدوا للحق الإلهي، وضعوا الشريعة جانبًا، وصاروا أكثر شرًا من الشعب، لا عمل لهم سوى سوء استغلالهم لمراكزهم وسلطانهم.
v حقًا يكرر الأنبياء اتهام الشعب، قائلين: "اسمعوا يا حكام سدوم، رؤساؤكم غير أمناء" (إش ١: ١٠، ٢٣). مرة أخرى يقول ميخا: "أما تعرفون العدل؟" في الواقع في كل موضع يحلونهم (يثبطونهم) بعنف. ماذا، إذن؟ هل ينسب أحد الخطأ في الله؟ حاشا أن يكون لنا هذا الفكر. فإن الخطأ بالحقيقة فيهم. فإنه أي تبرير فاضل يقدمه أحد أنكم لا تعرفون ناموس سوى أنكم ترفضون طاعته؟[36]
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه يوجه حديثه إلى القادة، الذين اؤتمنوا على القضاء وداسوا العدل؛ لذلك وضع هذا في شكل سؤال: ألستم أنتم المسئولين عن القضاء، لكي تعاقبوا المذنبين وتطلقوا الأبرياء بدون لومٍ؟ إذن كيف أن الذين اؤتمنوا بتدبير الشرائع انحرفوا عن ممارسة الخير وساندوا الشر بحماسٍ؟ لقد مارستم مثل هذا الجشع بخصوص المحتاجين، فتجردونهم من كل ممتلكاتهم (يقترح هذا بالقول: سلبتم الشعب من جلودهم والجسم من عظامهم)[37].
ثيؤدورت أسقف قورش
لا نعجب إن وقف نبي بسيط في قرية ليحاكم الرؤساء والقضاة ويستجوبهم، فإنه إذ يتمتع بالحق الإلهي يحمل مهابة خاصة، بينما هؤلاء العظماء إذ لم يعرفوا الحق في حياتهم وسلوكهم صاروا في ضعف، عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم.
حيث يوجد الحق لا يجد الخوف له مكانًا، بل يحمل الإنسان مخافة الرب وفي تواضع لا يخشى الناس ولا الأحداث.
من هو هذا الذين يستجوبهم: "أليس لكم أن تعرفوا الحق؟" حقًا يعرفونه ويحفظون الناموس والشرائع ربما عن ظهر قلب، لكنهم غرباء عنه في حياتهم وسلوكهم، فصاروا بلا معرفة.
الْمُبْغِضِينَ الْخَيْرَ وَالْمُحِبِّينَ الشَّرَّ،
النَّازِعِينَ جُلُودَهُمْ عَنْهُمْ وَلَحْمَهُمْ عَنْ عِظَامِهِمْ. [2]
إذ يتسلل حب المال والطمع إلى القلب يفقد الإنسان بصيرته الداخلية وتمييزه، فيبغض الخير للآخرين ويشتهي لهم الشر.
أول سمة للظالمين هو بغض الخير وحب الشر، يعاملون الفقراء كآكلي اللحوم cannibals يقيمون ولائمهم بذبح الفقراء وطبخهم.
في سفر حزقيال يوبخ الله الرعاة الأشرار، قائلاً: "ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم. ألاَّ يرعى الرعاة الغنم... بشدةٍ وبعنفٍ تسلطتم عليهم. فتشتت بلا راعٍ، وصار مأكلاً لجميع وحوش الحقل وتشتت... هكذا قال السيد الرب: هأنذا على الرعاة، وأطلب غنمي من يدهم، وأكفهم عن رعي الغنم، ولا يرعى الرعاة أنفسهم بعد، فأخلص غنمي من أفواههم، فلا تكون لهم مأكلاً" (حز 34: 2، 4، 10).
وَالَّذِينَ يَأْكُلُونَ لَحْمَ شَعْبِي،
وَيَكْشُطُونَ جِلْدَهُمْ عَنْهُمْ،
وَيُهَشِّمُونَ عِظَامَهُمْ،
وَيُشَقِّقُونَ كَمَا فِي الْقِدْرِ وَكَاللَّحْمِ فِي وَسَطِ الْمِقْلَى. [3]
كان يليق بالقادة الروحيين أن يبذلوا أنفسهم لحساب الشعب، لا أن يشبعوا شهواتهم ويفترسوا الشعب كوحوش ضارية، كأكلة لحوم البشر.
يقدم صورة بشعة لما بلغه هؤلاء القادة من وحشية ضد الشعب، فإنهم يأكلون لحومهم كوحوشٍ مفترسة، ويكشطون جلودهم حتى لا يتركوا أثرًا للحومهم، ويهشمون عظامهم ليأكلوا النخاع، ويشققون كما في القدر، كأنهم يقطعون لحومهم ويضعونها في قدرٍ! صورة مؤلمة للغاية عن شراهتم وقسوتهم بلا حدودٍ!
حِينَئِذٍ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فَلاَ يُجِيبُهُمْ،
بَلْ يَسْتُرُ وَجْهَهُ عَنْهُمْ،
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا أَسَاءُوا أَعْمَالَهُمْ. [4]
لن يسمع الله لصرخات من يأكل لحم أخيه، مهما تزايدت، ومهما علت، إنما يستر الرب وجهه عنهم ليترك العدالة تأخذ مجراها في الوقت المعين. "لأن الحكم هو بلا رحمة" (يع 2: 13). فكما لم يسمعوا لصرخات إخوتهم حين كانوا في وسعٍ ورخاءٍ، يصرخون هم أيضًا في شدتهم ولا يجدوا استجابة. وكما ستروا وجوههم عن إخوتهم المساكين، يستر الله وجهه عنهم. وكما قال أدوني بازق: "سبعون ملكًا مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي، كما فعلت كذلك جازاني الله" (قض 1: 7). ويقول المرتل "مع الرحيم تكون رحيمًا؛ مع الرجل الكامل تكون كاملاً؛ مع الطاهر تكون طاهرًا؛ ومع الأعوج تكون ملتويًا، لأنك أنت تخلص الشعب البائس والأعين المرتفعة تضعها" (مز 18: 25-27). ويقول سليمان الحكيم: "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجاب" (أم 21: 12).
v في اللحظة التي فيها انسحب من الشر، في ذات اللحظة أتأهل أن تنصت إلى صلواتي[38].
v إنك تكيِّف المكافأة حسب اتجاهات الشعب يا رب. فتمد القديسين بما تستحقَّه القداسة، والأبرياء والمتحررين من الخطية بما يليق بهم، والمختارين والكاملين بما هو كامل؛ أما الذين ينحرفون عن الطريق المستقيم ويسيرون في الاتجاه المضاد فإنك تضمن لهم أن يجدوا نهاية طريقهم اللائق بهم[39].
هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ شَعْبِي،
الَّذِينَ يَنْهَشُونَ بِأَسْنَانِهِمْ،
وَيُنَادُونَ: سَلاَمٌ!
وَالَّذِي لاَ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ شَيْئاً يَفْتَحُونَ عَلَيْهِ حَرْباً. [5]
بينما ينهش الأنبياء الكذبة لحوم إخوتهم بأسنانهم كوحوش مفترسة، إذا بهم يقدمون كلمات معسولة كاذبة، مبشرين بالسلام الكاذب. هؤلاء الأنبياء يسندهم الأغنياء وأصحاب السلطة، لكن لن يدوم الأمر، فالحرب قادمة حتمًا!
يترجم البعض "ينهشون بأسنانهم" "يعضون بأسنانهم؛ ففيما هم يتكلمون بالناعمات، منادين بالسلام يخفون كذبهم بالعض على شفاههم بأسنانهم حتى يحبسوا ما في داخلهم، فلا تفلت كلمة تكشف عن خداعهم وكذبهم.
إنهم نهمون يطلبون أن يأكلوا لحم الغير بلا توقف. فمهم مفتوح للافتراس، فإن منعهم أحد يفتحون عليه حربًا، متوعدين إياه بأحكام الله القاسية. هذا هو عمل الطمع بالربح القبيح (1 تي 3: 3، تي 1: 7)
v يقول (إرميا النبي) "وكل محبيك الذين تنبأت لهم بالكذب" (إر 20: 6). فمن يتحدث بطريقة شريرة عن أقوال الله، ويلقي بالكلمات النبوية في الحفرة يتنبأ، لكنه يتنبأ بالأكاذيب[40].
v إنه لم يمنعهم عن مجرد الإصغاء إلى نبي، بل يصغون إلى كلمات الأنبياء عندما تقدم باطلاً (إر 23: 16). فإن من يسمع نبي مثل موسى لا يسمعه هو بل يسمع الرب الذي يتكلم خلاله. فإن الأنبياء الكذبة يعملون باطلاً. فإنهم إذ يتكلمون برؤى هي من قلوبهم لا يغيرون قلب المستمع، فيعملون باطلاً[41].
لِذَلِكَ تَكُونُ لَكُمْ لَيْلَةٌ بِلاَ رُؤْيَا.
ظَلاَمٌ لَكُمْ بِدُونِ عِرَافَةٍ.
وَتَغِيبُ الشَّمْسُ عَنِ الأَنْبِيَاءِ
وَيُظْلِمُ عَلَيْهِمِ النَّهَارُ. [6]
إذ جرى الأنبياء الكذبة وراء محبة المال التصقوا بالأغنياء، وسلكوا بروح الرياء، وبرروا الظلم، فصارت أذهانهم مظلمة وتحولت حياتهم إلى ليلٍ بلا نهار، لأنهم رفضوا شمس البرّ. يفقدون كل استنارة داخلية، فتظلَّم عقولهم وتزعجهم أفكارهم.
يعلن الرب عن عجز الأنبياء الكذبة، إذ لا يتمتعون برؤيا في الليل، وعرافة في الظلام، ويصيرون في حالة إحباط شديد، ويحل بهم الخزي والعار.
v "الشمس تغرب" (إر ١٥: ٩) على هؤلاء الأنبياء الذين يضلون شعبي، ساكنين في الظلمة. "سيكون لكم ليلاً، بدون رؤيا، وستكون لكم ظلمة بلا فجر". فعندما يفارق (الروح النجس) الإنسان يجتاز في أماكن (مت ١٢: ٤٣). هذا يحدث تمامًا بالطبيعة. فإن (الرب) يرد هذا الحكم بالنسبة للشعب. "هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل" (مت ١٢: ٤٥). فإنه في أيام الأنبياء خرج منهم (الروح النجس) الذي هو الخطية ذاتها[42].
القديس مار افرام السرياني
فَيَخْزَى الرَّاؤُونَ، وَيَخْجَلُ الْعَرَّافُونَ،
وَيُغَطُّونَ كُلُّهُمْ شَوَارِبَهُمْ،
لأَنَّهُ لَيْسَ جَوَابٌ مِنَ اللَّه. [7]
إذ ما سأل أحد الأنبياء الكذبة مشورة قدموا مما في داخلهم من ظلمة، لأن ليس لديهم "إجابة من الله".
غطاء الشوارب أيضًا يُشير إلى عجزهم عن أن يتنبأوا، فيصمت لسانهم ويغطون شفاههم، ويتلمس الشعب طريقه وسط الظلمة الروحية.
يُقصد بتغطية شفاههم العليا تغطية الشارب، إذ جاءت الكلمة العبرية sapham. كان للشارب واللحية تقدير خاص لدى العبرانيين كعلامة عن الشجاعة والرجولة والقوة. فتغطية الشفة العليا علامة الحزن والأسى. هكذا فإن النص هنا يعني أن الأنبياء في حزن، لأن الله يرفض أن يعلن ذاته لهم، لهذا يغطون شفاههم. ولهذا السبب يُطالب الأبرص أن يغطي شفته العليا (لا 13: 45). وردت ذات العادة في حزقيال (24: 17، 22)[43].
لَكِنَّنِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ وَحَقّاً وَبَأْساً،
لآخَبِّرَ يَعْقُوبَ بِذَنْبِهِ،
وَإِسْرَائِيلَ بِخَطِيَّتِهِ. [8]
بينما ينفضح الأنبياء الكذبة يومًا ما ويخزون، إذا بالنبي يتزكى على الدوام خلال عمل روح الرب القدير وتمسكه بالحق الإلهي.
يُرجع ميخا سرٌ قوته إلى عمل الروح القدس فيه. فقد أهله روح الرب للعمل النبوي الرعوي، فامتلأ قوة وحقًا وشجاعة، يتكلم كمن له سلطان. وكما يقول إشعياء النبي: "والسيد الرب يعينني لذلك لا أخجل، لذلك جعلت وجهي كالصوان، وعرفت أني لا أخزى" (إش 50: 7). فهو لا يخشى مقاومة الناس، حتى وإن كانوا أصحاب سلطان!
أدرك النبي عجزه بذاته عن القيام بهذا العمل، لكن روح الرب هو سرّ قوته، لأنه: "من هو كفء لهذه الأمور؟" (2 كو 2: 16)، وكما يقول الرسول: "كفايتنا من الله" (2 كو 3: 5)
على نقيض الأنبياء الكذبة الذين حل بهم الإحباط الشديد امتلأ ميخا بقوة الروح الإلهي، يحمل قوة داخلية، وحقًا وبأسًا. لا يشعر بضعفٍ، ولا تعوزه معرفة الحق، ولا يفقد عمله البطولي في الرب. كأنه يقول لهم: ليس من وجه للمقارنة بين الأنبياء الكذبة وبيني، إذ "ما للتبن مع الحنطة" (إر 23: 28).
إذ تمتع ميخا النبي بهذه المؤهلات تكلم بجرأة وأخبر يعقوب بذنبه، وإسرائيل بخطيته. لقد التزم رجال الله أحيانًا أن يكشفوا عن صدق إرساليتهم والإمكانيات الإلهية التي تمتعوا بها، ليس للافتخار وإنما لأجل الخدمة وبنيان ملكوت الله في هذا العالم.
في تفسير الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (11: 21 الخ) يوضح القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس لم يفعل ذلك بغية الافتخار بنفسه، إنما ليُبكم أفواه الذين يريدون تحطيم خدمته بإنكارهم رسوليته. وقد قدم الذهبي الفم أمثلة كثيرة لرجال الله الذين دافعوا عن أنفسهم من أجل بنيان الكنيسة ونجاح العمل الإلهي. فصموئيل النبي يقول: "هأنا فأشهدوا عليٌ قدام الرب وقدام مسيحه، ثور من أخذت، وحمار من أخذت، ومن ظلمت، ومن سحقت، ومن يد من أخذت فدية لأغضي عيني عنه، فأرد لكم" (1 صم 12: 3). وعاموس النبي يقول لأمصيا: "لست أنا نبيًا، ولا أنا ابن نبي، بل أنا راعٍ وجاني جميز فأخذني الرب من وراء الضان، وقال ليّ الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل" (عا 7: 14 الخ)، وهكذا أيضًا ميخا النبي هنا[44].
اِسْمَعُوا هَذَا يَا رُؤَسَاءَ بَيْتِ يَعْقُوبَ وَقُضَاةَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ،
الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ،
وَيُعَوِّجُونَ كُلَّ مُسْتَقِيمٍ. [9]
إذ ينعم ميخا النبي بروح الرب القدير لن تعوزه الإمكانية للحديث الجريء ضد الرؤساء والقضاة الذين يبغضون الحق ويعوِّجون المستقيم. لعله يقصد بتعويج كل مستقيم إساءة تفسير كلمة الرب، فيحولونها لصالحهم الخاص. هذا أيضًا ما يفعله الهراطقة حين يسيئون استخدام بعض العبارات الكتابية لخدمة هرطقاتهم.
في رسالته (١٩: ٨) كتب القديس كيرلس الكبير عن الذين يفسدون الحق بإساءة إستخدام بعض العبارات من الكتاب المقدس. كما بعث مع الرسالة نسخة من خطاب القديس أثناسيوس الرسولي لابيكتيتوس Epicetetus التي شوهها الهراطقة.
الَّذِينَ يَبْنُونَ صِهْيَوْنَ بِالدِّمَاءِ
وَأُورُشَلِيمَ بِالظُّلْمِ. [10]
سعى قادة الأمة أن يبنوا مدينة مزدهرة، فانشغلوا بالإنشاءات الفخمة والمظاهر الخارجية على حساب طبقة الشعب الفقيرة. يهتمون بمظهر المدينة وجمالها كمن يسعون نحو المصلحة العامة، بينما يكسرون الناموس ويظلمون المساكين.
v "الذين يبنون صهيون بالدماء" (مي 3: 10). لم يتعلموا ضبط النفس، مع أنهم تسلموا هذه الوصية أولاً: "لا تقتل"، وأمروا ان يكفوا عن أمورٍ أخرى لا حصر لها بسبب هذا، وبطرقِ كثيرة متنوعة كانوا يُحثون على حفظ هذه الوصية. ومع هذا لم يتوقفوا عن هذه العادة الشريرة، وإنما ماذا قالوا عندما رأوه؟ هلم نقتله. وما هو الدافع؟ وما هو السبب؟ أي اتهام كان كبيرًا أو صغيرًا يوجهونه ضده؟ هل لأنه يكرمكم، ولأنه وهو الله صار إنسانًا لأجلكم، وصنع عجائب لا حصر لها؟ أو لأنه غفر خطاياكم؟ أو لأنه دعاكم للملكوت؟ لتروا شرهم العظيم مع غباوتهم، وعلة قتله هو جنونهم المطبق[45].
القديس يوحنا الذهبي الفم
رُؤَسَاؤُهَا يَقْضُونَ بِالرَّشْوَةِ،
وَكَهَنَتُهَا يُعَلِّمُونَ بِالأُجْرَةِ،
وَأَنْبِيَاؤُهَا يَعْرِفُونَ بِالْفِضَّةِ،
وَهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى الرَّبِّ قَائِلِينَ:
أَلَيْسَ الرَّبُّ فِي وَسَطِنَا؟
لاَ يَأْتِي عَلَيْنَا شَرٌّ! [11]
يُدين النبي القادة الدينيين الذين يعملون كأجراء، فتغويهم الرشوة، وينحرفون بسب محبة المال. كما يُحذر الأغنياء وأصحاب السلطة من استخدام إمكانياتهم للتأثير على خدام الله، هذه تُحسب رشوة! تحوَّل الأنبياء الكذبة إلى مرتزقة يتنبأون حسبما يُقدم لهم من فضة، فلا يشغلهم إعلان إرادة الله إنما كيف يكسبون المال. لقد تمثلوا ببلعام الذي "أحب أجرة الإثم" (2 بط 2: 15).
v لقد سُمح لك أيها الكاهن أن تعيش من المذبح لا أن تحيا في ترفٍ. لا يُكم فم الثور الذي يدرس الحنطة. فالرسول لم يسيء إلى الحرية، بل إذ كان له طعام ولباس كان مكتفيًا، يعمل ليلاً ونهارًا، حتى لا يكون مدينًا لأحدٍ (١ تس ٢: ٦؛ ٢ تس ٣: ٨). وفي رسالة أشهد الله أنه عاش بوقارٍ (١ تس ٢: ١٠)، في غير طمعٍ في إنجيل المسيح. أكَّد هذا أيضًا، لا بخصوص نفسه وحده، بل وبخصوص تلاميذه، أنه لم يرسل أحدًا يسأل أو يأخذ شيئًا من الكنائس. ولكن إن كان في بعض الرسائل عبَّر عن مسرته ودعا العطايا التي أرسلها البعض أنها نعمة الله (٢ كو ١٢: ١٧-١٨) فإنه لم يجمعها لنفسه وإنما لقديسي أورشليم الفقراء، وهم اليهود الذين آمنوا أولاً بالمسيح وقد طردهم آباؤهم وأقرباؤهم وفقدوا ممتلكاتهم وكل مصالحهم، حيث خرَّبها كهنة الهيكل والشعب. ليقبل هؤلاء أن يأخذوا. ولكن تحت ستار الفقراء اغتنى قلة، فتأكل في أوانٍ ذهبية وزجاجية وصينية (خزفية ثمينة). ليتنا بغنانا نغير عادتنا أو لا نسمح للفقراء أن يكون علة لبلوغ غنى الأشراف[46]...
القديس چيروم
اتفق القادة المدنيون والدينيون جميعًا من رؤساء وكهنة وأنبياء على أمرٍ واحدٍ وهو محبة المال. وخلال ممارستهم للعبادة في شكليتها بدون روح ظنوا أن الله في وسطهم يحميهم من كل شرٍ. يظنون أن تصرفاتهم الشريرة هذه لا تسبب ضررًا، لأنهم شعب الله اسمًا. إنه الإيمان غير العامل بالمحبة، فهو إيمان ميت، يقوم على الشكليات بلا روح وحياة.
"أليس الرب في وسطنا؟" ألسنا في مدينة أورشليم، مدينة الله؟ أليس هيكله وتابوت عهده وكتابه المقدس وكهنته وذبائحه اليومية بين أيدينا؟ هكذا أساءوا استخدام الامتيازات الإلهية المقدمة لهم لأجل تقديسهم، فتركوا القداسة وتمسكوا بالشكليات.
تحولت عطايا الله لهم عن غايتها، فتوهموا أن الله في وسطهم مادامت لهم هذه العطايا، حتى وإن أصروا على محبة العالم والظلم والعنف.
لِذَلِكَ بِسَبَبِكُمْ تُفْلَحُ صِهْيَوْنُ كَحَقْلٍ،
وَتَصِيرُ أُورُشَلِيمُ خِرَباً،
وَجَبَلُ الْبَيْتِ شَوَامِخَ وَعْرٍ. [12]
كان لهذه النبوة أثرها الفعال بعد أكثر من قرن حيث اقتبسها إرميا النبي (26: 18)، وقد كان لها انطباعها العميق على إرميا. اقتباسها أدى إلى إنقاذ حياة إرميا عندما تعرض لخطر الموت قتلاً في أيام يهوياقيم.
لقد ادعوا أنهم يبنون صهيون ويهتمون بإنشاءاتها ]10[، وهم لا يدرون أنهم فيما هم يهتمون بالشوارع والمباني الفخمة يعملون على خراب الأماكن المقدسة.
إن كان القادة قد ظنوا أن الله في وسطهم فلن يحل بهم هلاك، فبسبب إصرارهم على اغتصاب الحقول يسمح الله بدمار صهيون، فتتبدد مبانيها، وتتحول إلى حقول وخرائب وقفرٍ! ما يحل بصهيون يكشف عما يحل بأعماق هؤلاء الأشرار، وما سيحل أيضًا كثمرة إصرارهم على الشر، متسترين بوجود صهيون وهيكل الرب كعلامة على سكنى الله في وسطهم.
v هنا أيضًا ميخا الإلهي كان غير قادرٍ أن يطيق من صهيون من يجري فيه الدم، والذي يُفسر بأن أورشليم ملطخة بالظلم. بينما كان رؤساء بيت يعقوب يشمئزون من العدالة، كان الكهنة يعلمون من أجل الأجرة. كان الأنبياء يتنبأون من أجل المال! ماذا يقول ميخا عن نتيجة هذا؟ "تحرث صهيون كحقلٍ، وتصير أورشليم كمستودع ثمر (مدمر) وجبل البيت مثل بستان غابة". لقد انتحب أيضًا على انعدام الاستقامة، فيندر وجود ساق (نبات) أو أثر عنب، حيث أن الرئيس يسأل والقاضي يتملق (مي ٧: ١-٤). فقد جاءت لغته غالبًا ما تشبه قول داود القوي: "خلصني يا رب فإن البار قد فني" (مز ١٢: ١). فستنتهي خيراتهم، إذ "أفنيت مثل العث مشتهاة" (مز ١٢: ١)[47].
القديس غريغوريوس النزنيزي
يرى البعض أن هذه النبوة قد تحققت حرفيًا على يد تيطس حين حرث الرومان الأرض التي كانت المدينة قائمة عليها حتى يتحقق الخراب التام.
لأعرف الحق فأصير قائدًا!
v ترتعب نفسي عند سماعي عن القادة الأشرار.
ظنوا أنهم يعرفون الحق ويدافعون عنه.
وهم أبعد من أن يعرفوه!
أنت هو الحق الإلهي،
اكشف عن عيني فأعرفك،
أسلك أفيك، فأحيا إلى الأبد!
v هب ليّ أن أحب الخير، وأبغض الشر.
لأحب الخير مهما كانت تكلفته،
ولأبغض الشر مهما كانت إغراءاته!
v لأحب الخير لكل بشر،
فأحبك أنت يا محب البشر!
انزع عني كل طمع وجشع وأنانية،
انزع عني الوحشية العنيفة.
هب ليّ الحب الباذل المجاني.
أحب ولا أطلب أن أُحَب.
لأني أحبك أنت حتى في المقاومين ليّ.
v لأترفق بالغير فتترفق أنت بيّ.
لأستجيب لطلبات الغير،
فتسمع صوتي وتجيب صلواتي.
v انزع عني كل رياء،
فانطلق بالحق دون مداهنة!
أرضيك فلا أطلب رضاء الناس.
ألتصق بك، فتشرق بنورك عليَّ
أتعرف على مشيئتك،
واستنير ببهاء برَّك.
تصير حياتي كلها نهارًا بلا ليل،
ونورًا بلا ظلمة،
وحبًا بلا بغضة!
v هب ليّ قوة روحك القدوس،
فامتلئ بالقوة والحق والبأس.
أنطق بالحق مهما كانت تكلفته،
ولا أداهن غنيًا أو صاحب سلطان!
أنطق بكلماتك دون اعوجاج!
v أعبدك بالروح والحق،
فلا تبتلعني شكليات بلا روح!
أدرك حلولك وسكناك فيَّ!
فتقيم صهيون الروحية،
وتقدس أعماقي هيكلاً لك.
القسم الثاني
نبوات مسيانية مجيدة
مي 4-5
بعد أن قدم نبوات تأديبية بسبب إثم إسرائيل وخطية يهوذا فتح باب الرجاء بالعودة من السبي كمملكة واحدة، تُعيد بناء الهيكل، لكن ما هو أعظم ظهور ابن داود الذي حدد النبي موضع ولادته "بيت لحم بأفراتة"، لهذا نجد الحديث خاص بإسرائيل الجديد أو المملكة الروحية.
بعد العودة من السبي ظهر المكابيون وكان لهم دورهم الحيّ لإقامة أمة تتعبد لله، لكن تحت قيادة حاكم هاروني "كهنوتي". كان الشعور بالقومية قويًا للغاية، وكان الكل يترقب بطريقة حرفية قيام ملك من نسل داود؛ لكن ميخا تنبأ مسبقًا عن هذه المملكة أنها جامعة، أبدية، روحية. تحققت نبوته بمولود بيت لحم. لكن عانت القيادات اليهودية على مستوى رؤساء الكهنة والكهنة والفريسيين والصدوقيين وغيرهم من حالة إحباط مُرّة، لأن يسوع لم يقم ملكًا ماديًا خاصًا باليهود للسيطرة على العالم.
أيَّة كنيسة هي مثلكِ؟
بعد ما أشار النبي بعبارات مؤثرة عن الدمار الذي يحل بالأمة بسبب فساد كل الطبقات، وما ستبلغه من ضيق يُعاني منه الجميع، يُقدم لنا الوعد الإلهي العجيب بأنه "في ذلك اليوم" يصير الكل مملكة واحدة حرة، يملك الرب عليها. بهذا ينقل فكرنا من حالة السبي البابلي إلى العودة إلى أورشليم، وإعادة بناء أسوارها وهيكلها، بل ينقلنا على مستوى البشرية من حالة السبي لإبليس إلى حرية مجد أولاد الله، حيث تُقام كنيسة العهد الجديد في رأس الجبال.
إن كان ميخا النبي قد أبرز خلال اسمه وخلال نبوَّاته أنَّه ليس مثل هذا الإله غافر الإثم (مي 7: 18)، فإنه يدعونا لنكون أعضاء في كنيسة العهد الجديد، أيقونة عريسها الفريدة، لتحمل شركة سمات عريسها خلال نعمته الفائقة. وقد جاء هذا الأصحاح يُقدِّم لنا هذه العروس، الكنسية الفريدة العجيبة. ويمكننا أن نُعطي لها الألقاب التالية:
1. جبل الجبال [1].
2. شعب الشعوب ومدرسة إلهيَّة [2].
3. محكمة فريدة [3].
4. جنَّة فريدة [4-5].
5. بيت المطرودين [6].
6. عرش ملوكي [7-8].
7. جماعة المفدَّيين [9-12].
8. جيش لا يُقهر [13].
1. جبل الجبال:
يتطلَّع ميخا النبي إلى ملء الزمان حيث يتجسَّد الله الكلمة ليُقيم من البشريَّة ليس جبلاً شامخًا كجبل حوريب حيث تسلَّم موسى النبي الشريعة، وإنَّما جبل الجبال الذي تبلغ قمَّته السماء عينها. فقد جاء السماوي ليُقيم من الساقطين كنيسة مجيدة شاهقة العلوّ، تحمل جنسيّة عريسها السماوي.
كتب طفل أمريكي معتزّ بجنسيَّته خطابًا وجَّهه لله، قال فيه: أنا أمريكي، فماذا عنك؟". إنَّه السماوي الذي يدعو كل مؤمنٍ أن يتحد معه ليحمل جنسيَّته، فيترنَّم الكل مع الرسول بولس: "أجلسنا معه في السماويَّات.
وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ
أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتاً فِي رَأْسِ الْجِبَالِ
وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ
وَتَجْرِي إِلَيْهِ شُعُوبٌ. [1]
ما ورد في العبارات [1-3] يكاد يكون مطابقًا لما ورد في سفر إشعياء (2: 2-4). ولما كان الاثنان معاصرين لبعضهما، غير أن إشعياء أكبر سنًا من ميخا، لذا يرى البعض أن الأخير اقتبس ذلك من الأول. وإن كان بعض الدارسين يرون أن الاثنين اقتبسا من مصدر ثالث بإرشاد روح الله القدوس.
تعبير "في آخر الأيام" عادة ما يستخدمه الأنبياء للإرشاد إلى العصر المسياني (هو 3: 5).
v (إشعياء النبي 2: 2) يتنبأ عن ظهور مجيد وواسع عن تقوى كل المحيطين: إبادة الأصنام، مع تمتع بيت الرب بِسمة المسكونية اللائقة به. فإنه يقصد بالجبال والتلال ليس فقط إزالة الأخطاء التي ملكت على الجميع بعد ظهور مخلصنا إذ انفضح كذب الأوثان، بل وأعلن عن جمال الحق، وهكذا نرى النبوة تتحقق. أضف إلى هذا القول: "في آخر الأيام" يعني بها القول: "الأيام التي تلي ظهور الرب"[48].
ثيؤدورث أسقف قورش
يرى كثير من آباء الكنيسة أن هذا الجبل المجيد يُشير إلى كنيسة العهد الجديد، منهم القديس كيرلس الكبير[49] والقديس يوحنا الذهبي الفم ويوسابيوس القيصري[50].
v قال بولس نفس الشيء: "جاء ملء الزمان (غل 4: 4)، وفي موضع آخر: "لتدبير ملء الأزمنة" (إش 2: 2). إنه يُشير إلى الكنيسة ورسوخ تعاليمها كالجبل... الأمر العجيب عن الكنيسة ليس أنها منتصرة وإنما الطريقة التي بها صارت هكذا. هي مُطاردة ومُضطهدة، ومُمزقة بألف طريق، ومع ذلك ليس فقط لا تنقص، بل صارت عظيمة، وباحتمالها الآلام تحطم أولئك الذين يحاولون أن يصبوا عليها الضربات. هذا هو عمل اللؤلؤة التي تُضرب بالحديد، إنها تستنزف قوة ضاربيها... فإذ يصورها النبي بالجبل، إنما يعني بهذا قوة الكنيسة وثباتها وسموها وصمودها...
"وتجرى إليه كل الأمم". لاحظوا هنا كيف أن النبي ليس فقط أعلن عن الدعوة الموجهة إلى الأمم، بل وأيضًا إلى اشتياقهم للتجاوب مع الدعوة. لم يقل "سيُدفعون" وإنما "يأتون"[51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أليست كل البشرية، القطيع الواحد، لله؟ أليس الله نفسه هو رب كل الشعوب وراعيها؟[52]
العلامة ترتليان
ترتفع الكنيسة إلى رأس الجبال، أي تبلغ إلى أعالي السماء، حيث تحمل الطبيعة السماوية بإتحادها بالرأس السماوي. وتسمو فوق التلال، حيث تعبر فوق كل معايير أرضية وأفكار بشرية، تسمو فوق كل الفلسفات البشرية والثقافات والفنون، فهي ليست من صنع بشرٍ، بل من عمل يدي القدير نفسه.
"تجري إليه شعوب": هذا لا ينطبق على الهيكل اليهودي، الذي كان مغلقًا في وجه الأمم، أما الكنيسة فمنذ بدئ انطلاقها دعا السيد تلاميذه أن يذهبوا ويعلموا الأمم (مت 28: 19).
يرى بعض الآباء أن جبل بيت الرب هو السيد المسيح الذي يكون ثابتًا في رأس الجبال، أي فوق كل الأنبياء. هذا الجبل هو الصخرة التي تتأسس عليها كنيسة العهد الجديد.
v قدم ميخا النبي المسيح تحت رمز جبل عظيم، متحدثًا هكذا: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب... " (مي 4: 2-3)[53].
القديس أغسطينوس
2. شعب الشعوب ومدرسة إلهيَّة:
كان اليهود يحسبون أنَّه لا خلاص لإنسان ما لم يتهوَّد، وإن كل الشعوب الأخرى لا علاقة لها بالله، إذ هم دون سواهم شعب الله المختار. لم يدركوا أن الله الذي اختارهم ليكونوا خميرة مقدَّسة اختار الأمم جميعًا ليصعدوا بالمسيح الصاعد إلى السماوات إلى جبل الرب، إلى السماء عينها.
إن كان الله يُقيم من كل قلب مؤمنٍ هيكلاً مقدَّسًا له، إنَّما لكي تخرج من أورشليم شريعة العهد الجديد، كلمة الرب الجذَّابة لكل لسان وأمَّة، حتى يتمتَّع الكل بالكلمة واهب الحياة والقيامة. لقد صارت الكنيسة شعب الشعوب، تضم من كل الأمم شعبًا مقدَّسًا سماويًّا.
إنَّها مدرسة إلهيَّة عميدها المعلِّم الإلهي الفريد، يحمل تلاميذه فيه، ويسكن في أعماقهم، فينالوا شركة الطبيعة الإلهيَّة.
وَتَسِيرُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ وَيَقُولُونَ:
هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ
وَإِلَى بَيْتِ إِلَهِ يَعْقُوبَ
فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ.
لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ
وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ. [2]
ستأتي الأمم إلى كنيسة العهد الجديد، جبل الرب وبيت إله يعقوب، ليتمتع الكل بالنبوات والرموز الواردة في الشريعة عن السيد المسيح وعمله الخلاصي.
في رسالة البابا أثناسيوس لابيكتيتوس أسقف أورشليم يقتبس هذه العبارة ليتحدث عن مجيء كلمة الرب المتجسد من أورشليم، موضحًا أن الكلمة لم يتحول إلى جسدٍ وعظامٍ وشعرٍ وكل الجسم، ولا يتغير عن طبيعته الإلهية بتجسده[54].
v من هنا (أورشليم) أختبر كل موضع في العالم الفرح، من هنا السعادة والبهجة، من هنا مصادر الفكر السليم؛ هنا صلب المسيح، ومن هنا انطلق الرسل... هذه البهجة خالدة[55].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v استخدم ميخا النبي رمز الجبل العالي للحديث عن تجمع الأمم في المسيح (أورد مي ٤: ١-٣)... بعد ذلك سبق فأخبرنا ذات النبي حتى عن الموضع الذي ولد فيه المسيح (مي ٥: ٢)[56].
القديس أغسطينوس
v أعلن ميخا أن الناموس الجديد يُعطى بالطريقة التالية: "ستخرج الشريعة من صهيون، وكلمة الرب من أورشليم. وهو سيحكم بين شعب كثير، وسوف يقهر أممًا ويوبخهم"[57]. فإن الناموس الأول الذي أُعطي بموسى لم يُعط على جبل صهيون بل على جبل حوريب. وقد أظهرت سبلة أن هذه ستنتهي بابن الله. "ولكن عندما تتحقق هذه كلها التي تكلم عنها في ذلك الوقت كل الناموس (في حرفيته) يُباد"[58].
لوكتانتيوس
v عندما تحدث الروح النبوي متنبئًا عن الأمور المقبلة، قال: "ستخرج الشريعة من صهيون، وكلمة الرب من أورشليم، وسيحكم في وسط الأمم وينتهر شعب كثير. ويطرقوا سيوفهم إلى محاريث، وسهامهم إلى مناجل، ولا ترفع أمة سيفًا على أمة، ولا يتعلمون الحرب بعد". يمكننا أن نظهر لكم أن ذلك قد حدث فعلاً حقيقة. فإن جماعة من إثني عشر رجلاً خرجوا من أورشليم، وكانوا عامين غير متدربين على الكلام. ولكن بقوة الله شهدوا بالمسيح ليعلموا الكل كلمة الله. والآن نحن الذين كنا يقتل الواحد الآخر ليس فقط لا نُقيم حربًا الواحد ضد الآخر، بل لكي لا نكذب ولا نخدع قضاتنا ببهجة نموت من أجل الاعتراف بالمسيح، فإنه صار ممكنًا لنا أن نتبع القول: "اللسان يُقسم بينما يبقى الذهن لا يقسم"[59]. لكن من الغباوة إن كان الجنود الذين تجندوا بواسطتكم وتسجلت أسماؤهم أن يبقوا في ولاءٍ إليكم عوض الولاء لحياتهم ولوالديهم وبلادهم وكل عائلاتهم[60]. فإنه ليس لديكم شيء غير فاسد تقدمونه لراغبي عدم الفساد. بالحري إننا نحمل كل شيء لكي نتقبل ما نشتهيه من ذاك القادر أن يهبه[61].
القديس يوستين
v ها أنتم ترون أنهم يكونون خوارس ويحتفلون بالأعياد، كل يشجع الآخر، والكل صاروا معلمين، ليس أمة واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث أمم... بل يجتمع الكل معًا. يقول: جاءت شعوب كثيرة من بلاد مختلفة، هذا لم يحدث مطلقًا مع اليهود، إن جاء قلةً فهم دخلاء قليلون جاءوا بصعوبة بالغة ولم يأخذوا قط اسم الأمم، بل جاءوا كدخلاء[62].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v داود العظيم يقول لكم: "هلم نفرح في الرب" (مز 95: 1)، أو يقول نبي آخر: "هلم نصعد إلى جبل الرب" (مي 4: 2)، أو يقول المخلص نفسه: "تعالوا إلىٌ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم" (مت 11: 28)، أو: قوموا لنهب مشرقين بالبهاء، متلألئين أكثر من الثلج، وأكثر بياضًا من اللبن (راجع مراثي 4: 7)، مشرقين أكثر من الياقوت، ليتنا لا نقاوم ولا نتأخر![63]
القديس غريغوريوس النزينزي
v بعد خبرة المتاعب التي سيجدون أنفسهم فيها، حيث يسبيهم أولاً الأشوريون ومؤخرًا البابليون، سيحدث تحول عظيم بخصوص هذا الموضع، الجبل الذي يُظن أن الله يسكنه إذ يصير مشهورًا، ويظهر أنه يفوق كل الجبال، يسمو فوق كل الجبال والتلال بسبب المجد الذي يغطيه خلال الحنو الإلهي. ستسرع أعداد ضخمة من كل المواضع، حتى من الشعوب الغريبة، لتجتمع لتبلغ جبل الله، حيث يُظن أن الله يسكنه، ويتعلمون كيف يلزمهم تدبير حياتهم كما يليق[64].
ثيؤدور أسقف الموبسستي
v تبلغ الكرازة الإنجيلية الإلهية إلى أقاصي الأرض، حسب نبوة الرب الواردة في الأناجيل المقدسة: "يكرز بالأخبار المفرحة إلى كل الأمم شهادة لهم" (راجع مت ٢٤: ١٤). وقد حث الرسل القديسين بالكلمات: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (مت ٢٨: ١٩-٢٠). هذه الشريعة الإنجيلية والكرازة الرسولية بدأت بأورشليم كما بينبوع وبلغت إلى العالم كله، تقدم ريًّا للذين يقتربون من الإيمان[65].
v "لأن من صهيون تخرج الشريعة، من أورشليم كلمة الرب". يتحدث النبي هنا عن شريعة جديدة وكلمة جديدة، لأن الشريعة القديمة أُعطيت في سيناء أما شريعة العهد الجديد فقُدمت في صهيون. الأولى قُدمت لليهود وحدهم، وأما الجديدة فقُدمت لكل الشعوب والأمم، لكل الجنس البشري. أعطى الله الشريعة القديمة ليس في صهيون، وإنما على جبل سيناء. واضح جدًا أنه يُشير إلى العهد الجديد. هناك أعطي للرسل أولاً، وشكرًا لهم إذ نقلوه إلى كل الأمم[66].
ثيؤدورت أسقف قورش
3. محكمة فريدة:
بعد أن تحدث عن الكنيسة بكونها جبل الجبال الراسخ، وإنها مدرسة فريدة تحت قيادة المعلم الإلهي رب المجد يسوع، يحدثنا عنها كمحكمة عجيبة وفريدة يتربَّع فيها القاضي مخلِّص العالم، لا ليُهلك وينتقم، بل ليُجدِّد بروحه القدُّوس الطبيعة البشريَّة، فيهب سلامًا سماويًّا وانسجامًا فائقًا. عوض المعركة بين النفس والجسد، وبين العقل والعواطف البشريَّة، يسود سلامه الفائق على كيان الإنسان كلُّه فيصير قيثارة الروح التي تصدر تسبحة حب سماوي تعلن عن تحقيق المصالحة مع الله كما مع الناس والسمائيِّين.
فَيَقْضِي بَيْنَ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ.
يُنْصِفُ لأمَمٍ قَوِيَّةٍ بَعِيدَةٍ
فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكاً وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ.
لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفاً
وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ. [3]
v منذ مجيء الرب، أعاد العهد الجديد السلام، وانطلقت الشريعة التي تهب الحياة إلى كل الأرض كقول الأنبياء[67].
القديس ايريناؤس
v من هو هذا الذي يفعل هكذا، أو من الذي يوٌحد البشر في سلامٍ هؤلاء كانوا يكرهون بعضهم البعض، إلاَّ الابن الحبيب للآب، مخلص الكل العام، يسوع المسيح، الذي بحبه تعهد كل الأمور لخلاصنا؟ فإنه منذ القديم سبق التنبوء عن السلام الذي يدخله، حيث يقول الكتاب "يطبعون سيوفهم سككًا"[68].
البابا أثناسيوس الرسولي
ما هي هذه السيوف إلاَّ العواطف والأحاسيس والطاقات التي كنا نستخدمها لقتل نفوسنا ونفوس الملتصقين بنا، فإنه خلال السلام الروحي الذي يهبه لنا المخلص تتحول كل هذه الطاقات إلى سكِكِ لمحاريث نفوسنا التي تفلح قلوبنا، فتنزع الحجارة والأشواك وتحول بريتنا الداخلية إلى جنة روحية مملوءة من ثمر الروح.
لا يعود يتعلم الإنسان الحرب ضد أخيه، إنما يتمتع بالسلام في غير خوف (زك 3: 10).
4. جنَّة فريدة:
غرس الرب جنَّة عدن ليعيش آدم وبنوه تحت شجرة الحياة، ليأكلوا ويشبعوا، ويجلسوا ويستريحوا في الرب. لكن سرعان ما طرد الإنسان نفسه بنفسه من الجنَّة ليعيش في وادي الدموع، يئن من ثقل الخطيَّة التي اختارها بكامل إرادته الحرَّة، فصار لها عبدَا ذليلاً. الآن وقد جاء مسيحنا أقام كنيسته جنَّة إلهيَّة مفرحة، ليحيا فيها أبناؤه (أبناء آدم الثاني). يجلس المؤمن تحت الكرمة، ويستريح تحت التينة. ما هي الكرمة سوى السيِّد المسيح المصلوب القائم من الأموات، مصدر الفرح الحقيقي، خمر العهد الجديد؟ وما هي التينة إلاًّ الروح القدس واهب الحب الذي يربط المؤمنين معًا كبذور التينة فتقدِّم طعمًا عذبًا، وتتغلف بغلاف الوحدة الذي يضم البذور في داخلها؟
إنَّها جنَّة فريدة نأكل ونشرب من جسد الرب ودمه، ونرتوي بروحه القدُّوس، الماء الحيّ!
بَلْ يَجْلِسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ،
وَلاَ يَكُونُ مَنْ يُرْعِبُ،
لأَنَّ فَمَ رَبِّ الْجُنُودِ تَكَلَّمَ. [4]
الجلوس تحت الظل هو تعبير رمزي يُستخدم للإشارة إلى السلام الخاص بالأمة والسعادة المحلية (راجع 1 مل 4: 25؛ زك 3: 10). تأسس هذا على العادة التي كانت سائدة أن يبحث الشخص عن ظل مبهج تحت أشجار التين والكروم. ففي الشرق تُستخدم الكرمة بالأكثر للزينة وللظل أكثر من اللبلاب في الغرب. تُقضب الفروع لعمل تعريشة (تكعيبة) في ساحة المنزل. أشجار التين بضخامة فروعها وأوراقها العريضة توجد ظلاً طبيعيًا محببًا للنفس[69].
v يُلمح نشيد الأناشيد إلى (الكرمة وتينة الحقل) بهذه الطريقة: "أحلفكن يا بنات أورشليم بالقوات وفضائل الحقل ألاَّ تيقظن ولا تنبهن حبي حتى يشاء" (نش ٢: ٧ LXX).
هذا هو حقل (البرّ) المملوء سلامًا بعينه، هذا الذي يتحدث عنه الرب أيضًا في المزمور: "كل ما يتحرك في الحقل هو ليّ" (مز ٥٠: ١١ LXX). في هذا الحقل توجد الكرمة التي تُعصر وتصدر دمًا، ويغسل العالم ويطهره. وفي هذا الحقل توجد الشجرة، وتحتها يجلس القديسون للراحة، ويتجددون بنعمة صالحة روحية. في هذا الحقل شجرة الزيتون المثمرة تُسحق، فتقدم دهن سلام الرب. في هذا الحقل تنتعش أشجار الرمان (نش ٨: ٢) التي تظلل ثمارٍ كثيرة في حضن الإيمان الواحد وتبعث فيها دفء الحب[70].
القديس أمبروسيوس
v تُشير الكرمة في أماكن ليست بقليلة إلى الرب نفسه (يو ١٥: ١)، وشجرة التين إلى الروح القدس، إذ الرب "يبهج قلوب البشر" (مز ١٠٤: ٥)، والروح القدس يشفيها. لقد أُمر حزقيا أن يصنع لزقة من كتلة من التين – أي من ثمر الروح – لكي يُشفى. وكما يقول الرسول عن هذا الشفاء أنه يبدأ بالحب. "وأما ثمر الروح فهو المحبة، الفرح، السلام، الصبر، اللطف، الصلاح، الإيمان، الوداعة، والتعفف" (غل ٥: ٢٢-٢٣). بسبب عظمة مسرتهم يدعو النبي هذه الثمار الروحية تينًا. يقول أيضًا ميخا عنها: "يجلسون كل واحدٍ تحت كرمته وتحت تينته، ولا يكون من يرعب" (مي ٤: ٤). بالتأكيد من يلجأ إلى الروح ويستريح تحته، وتحت ظل الكلمة لا يرعبه ولا يخيفه من يسبب متاعب لقلوب البشرية[71].
ميثوديوس
v نقرأ في التكوين أن الله غرس جنة في الشرق وهناك وضع الإنسان الذي شكَّله (تك ٢: ٨). من له القدرة أن يخلق فردوسًا إلاَّ الله القدير الذي "قال فكان كل شيء" (مز ٣٣: ٩)، والذي لم يكن قط في حاجة إلى ما قد أراد أن يأتي به إلى الوجود؟ لقد غرس هذا الفردوس الذي يقول عنه أنه حكمته: "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع" (مت ١٥: ١٣). إنه زرع صالح، فقد قيل عن الملائكة والقديسين أنهم يسترخون تحت شجرة التين والكرمة. في هذا الأمر رمز للملائكة في وقت السلام العتيد[72].
القديس أمبروسيوس
لأَنَّ جَمِيعَ الشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمِ إِلَهِهِ،
وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِنَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ.
الذين يسلكون في اسم الرب يكون لهم سلام أبدي. [5]
v الذين هم شغوفون نحو الصعود على جبل الرب، ويرغبون في تعلم طرقه، يعدون بالاستعداد للطاعة، فينالون في داخلهم أمجاد الحياة في المسيح، ويتعهدون بكل قوتهم أن يكونوا غيورين في كل القداسة. يقول: "في كل بلدٍ ومدينة ليسلك كل واحد الطريق الذي يختاره ويعبد كما يبدو صالحًا له، أما اهتمامنا نحن فهو المسيح، ونجعل ناموسه طريقًا مستقيمًا، نسلك فيه معه، ليس فقط في هذه الحياة الحاضرة أو الماضية بل وما هو أعظم فيما يتعداها". إنه قول أمين: "الذين يتألمون معه سيسيرون معه إلى الأبد، ومعه يتمجدون، ومعه يملكون" (راجع ٢ تي ٢: ١١-١٢؛ رو ٨: ١٧). لكن الذين لا يفضلون شيئًا على حبُّه يجعلون من المسيح اهتماماتهم، هؤلاء يكفُّون عن تشتيت العالم الباطل ويطلبون بالحري البرّ وما هو مُسرّ له، وأن يتفوَّقوا في الفضيلة. مثل هؤلاء كان بولس، إذ كتب: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ" (غل 2: 19-20). وأيضًا: "لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلاَّ يسوع المسيح وإيَّاه مصلوبًا" (1 كو 2: 2)[73].
القدِّيس كيرلُّس الكبير
5. بيت المطرودين:
أتُّهم حكمة الله المتجسِّد بأنَّه مختل العقل، وطُرد من المحلَّة ليُصلب خارج أورشليم. هناك بسط يديه ليحتضن كل منسحقٍ وجريحٍ ومكسورٍ وطريدٍ! إنَّه رب المرذولين. خاصَّته لم تقبله لكي يقبل في داخله من ليس لهم أين يسندون رؤوسهم. هو أب الأيتام، وقاضي الأرامل، وسند المضطهدين، وملجأ من ليس لهم من يسأل عنهم.
فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ أَجْمَعُ الظَّالِعَةَ،
وَأَضُمُّ الْمَطْرُودَةَ،
وَالَّتِي أَضْرَرْتُ بِهَا. [6]
هنا يتنبأ عن العودة من السبي، حيث صارت الأمة مطرودة. فبعد التأديب يرُد الرب المطرودين ويضمد جراحاتهم.
يصير المطرودون بقية مختارة، شعب الله القوي (إش 37: 32؛ 46: 3؛ إر 23: 3؛ عا 5: 15).
6. عرش ملوكي:
تعجَّب حزقيال النبي حين رأى العظام الجافة قد صارت جيشًا عظيمًا جدًا جدًا (حز 37: 10). إنَّها رؤية كل يوم حيث يُقيم السيِّد المسيح من الضعفاء الجهَّال المُزدرى بهم برجًا عظيمًا يأوي القطيع ويحميه من الذئاب الخاطفة، وأكمة عظيمة لا تقدر الحيَّة أن تزحف عليها لتضرب بأنيابها في عقب أولاد الله، وعرشًا ملوكيًّا يتربَّع عليه ملك الملوك ليملك على بنت أورشليم السماويَّة، كنيسته المقدَّسة.
v الآن من الواضح أنَّه لا يقدر أحد في كل العالم أن يخيفنا أو يخضعنا نحن الذين نؤمن بيسوع. بالرغم من أنَّه تُقطع رؤوسنا ونُصلب ونُطرح للوحوش المفترسة ونُقيَّد، ونُحرق، ونحتمل كل نوع آخر من العذاب، فإنه من الشاهد أنَّنا لا ننكر قانون إيماننا.
كلَّما اُضطهدنا ازداد عدد الذين يقبلون الإيمان ويصيرون عبدة الله باسم يسوع. وذلك كما يقطع أحد أغصان الكرمة المثمرة، فإنها تنمو مرَّة أخرى، وتنبت فروعًا أخرى مثمرة، هكذا يحدث مع المسيحيِّين، فإن الكرمة مغروسة بالله والمسيح هو مخلِّص شعبه. لكن بقيَّة النبوَّة ستتحقق في المجيء الثاني. يقول النبي ميخا: "في ذلك اليوم يقول الرب: أجمع الظالعة (المرضضة) وأضم المطرودة والتي رفضتها". هذا يُشير إلى أنَّه ليس لكم الكلمة الأخيرة عندما أنتم وكل الشعب الآخر الذي له السلطان أرادوا طرد كل مسيحي ليس فقط من ممتلكاته، بل وحتى من العالم كله، إذ لا تسمحون لإنسان مسيحي أن يعيش[74].
وَأَجْعَلُ الظَّالِعَةَ بَقِيَّةً،
وَالْمُقْصَاةَ أُمَّةً قَوِيَّةً،
وَيَمْلِكُ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ فِي جَبَلِ صِهْيَوْنَ مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. [7]
وَأَنْتَ يَا بُرْجَ الْقَطِيعِ أَكَمَةَ بِنْتِ صِهْيَوْنَ
إِلَيْكِ يَأْتِي، وَيَجِيءُ الْحُكْمُ الأَوَّلُ، مُلْكُ بِنْتِ أُورُشَلِيمَ. [8]
إذ يعود لأورشليم بهاء أعظم وقوة، تصير أشبه ببرجٍ عالٍ، منه يرعى الراعي الصالح قطيعه.
v "وأنت يا برج، راعي ابنة صهيون القائم، سيأتي زمانك". تُشير هذه الكلمات إلى صدقيا الملك الكافر، هذا الذي يدعوه النبي برجًا، لأن شعب يهوذا استقرَّ تحت ظلِّه، ويدعوه راعيًا بسبب تدبيره للمملكة، ويدعوه قاتمًا بسبب خطأ الوثنيَّة التي التصق بها. مرَّة أخرى في المعنى الرمزي لكلماته يدعو الشيطان راعيًا قاتمًا، فإنَّه بطريقة رمزيَّة كان دائمًا يُهاجم ابنة صهيون تحت سماء قاتمة. وإذ يصطادها يسحبها بعيدًا عن النور – حقًا فإن من يسلك بخبثٍ يكره النور. لكن مؤخَّرًا رئيس أورشليم الرمزيَّة السامي الشرعي حطَّم هذا الطاغية بمجيئه حيث سحب الراعي القاتم بعيدًا[75].
7. جماعة المفديِّين:
إن كانت الكنيسة تتعرَّض لاضطهادات مستمرَّة، فتبدو كمن هي مسبيَّة، إلاَّ أن عريسها هو الفادي، يخلِّصها من عدوِّها، كما أخرج الشعب القديم من مصر، وحرَّره من عبوديَّة فرعون. وكما ردّ شعبه من السبي البابلي بيد قوّية وعجيبة!
إذ كان اليهود يفسرون وعد الله للملك داود أن يملك نسله إلى الأبد حسبوا أن يهوذا لن تعدم ملكًا من نسل داود. لذلك جاء حديث ميخا النبي عن السبي البابلي قبل حدوثه بقرنٍ ونصفٍ مفزعًا للغاية، خاصة وأن الأنبياء الكذبة كانوا ينادون بكلمات ناعمة، مؤكدين حماية الله لمدينة أورشليم وهيكلها الفريد وبقاء مملكة داود الذي من سبط يهوذا.
اَلآنَ لِمَاذَا تَصْرُخِينَ صُرَاخاً؟
أَلَيْسَ فِيكِ مَلِكٌ
أَمْ هَلَكَ مُشِيرُكِ حَتَّى أَخَذَكِ وَجَعٌ كَالْوَالِدَةِ؟ [9]
تَلَوَّيِ، ادْفَعِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ كَالْوَالِدَةِ،
لأَنَّكِ الآنَ تَخْرُجِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ،
وَتَسْكُنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ،
وَتَأْتِينَ إِلَى بَابِلَ. هُنَاكَ تُنْقَذِينَ.
هُنَاكَ يَفْدِيكِ الرَّبُّ مِنْ يَدِ أَعْدَائِكِ. [10]
يتحقق الخلاص خلال التأديب حيث يسمح الله أن تصير أورشليم بلا ملك، أشبه بامرأة في طلق تتألم لتنجب طفلاً جديدًا. كان لزامًا أن يُسبى يهوذا إلى بابل ثم يعود فيتمتع بالحرية والعودة إلى أرض الموعد.
v تلوِّي وتنهَّدي يا ابنة صهيون، مثل امرأة في ولادة، "لأنَّك الآن تخرجين من المدينة وتسكنين في بلدٍ مفتوحٍ (برِّيَّة)؛ وتأتين إلى بابل. هناك تُنقذين". المعنى هو أنَّكِ ستذهبين إلى السبي، يا (شعب) صهيون، تُنفين في بابل، ولكن بعد سنوات تعودين من هناك، ليس مع جندي يُسرع بك، وإنَّما مع ذاك القائد الذي بصعوده على السماء يحمل مسبييِّه سبيًا. ستتبعينه مع الإخوة متشابكي الأيدي، ومع رؤساء جيشنا الذين يسبون كل الأذهان لحساب المسيح[76].
القدِّيس مار أفرآم السرياني
وَالآنَ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْكِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ الَّذِينَ يَقُولُونَ:
لِتَتَدَنَّسْ وَلْتَتَفَرَّسْ عُيُونُنَا فِي صِهْيَوْنَ. [11]
إذ تتطلع الأمم الوثنية إلى أورشليم المسبية وهي تحت التأديب يسخرون منها، ويشتموها مترقبين تمام دمارها. لكن هؤلاء لا يدركون خطة الله وتدابيره. ستجتمع الأمم معًا ضد الله وشعبه في معركة فاصلة (يوئيل 3؛ حز 38-39؛ زك 12؛ رؤ 20: 8 الخ).
v الآن كثير من الأمم تجتمع ضدَّك. بمعنى أنَّه في ذات الوقت يهجم عليكِ خليط من أمم مختلفة كثيرة تحت قيادة جوج. مرَّة سيكون هناك تدنيس في صهيون، وتتفرَّس العين عليه، بمعنى أن الموضع المقدَّس الذي لصهيون سيُدنَّس ويُحتقر للغاية بواسطة أولئك الذين لا يعرفون أنَّهم سوف يُدرسون بواسطة انتقام عدالة الله مثل القش الذي يُجمع على البيدر[77].
القدِّيس مار أفرآم السرياني
وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ أَفْكَارَ الرَّبِّ،
وَلاَ يَفْهَمُونَ قَصْدَهُ،
إِنَّهُ قَدْ جَمَعَهُمْ كَحُزَمٍ إِلَى الْبَيْدَرِ. [12]
يُطالبنا النبي ألاَّ نبحث عن الأحداث المستقبلية رغبة في اشباع فضولنا، وإنما للتعرف على مقاصد الرب وخططه من جهتنا.
8. جيش لا يُقهر:
تطلَّع داود النبي إلى عريس الكنيسة الأبرع جمالاً من بني البشر، فرآه قائدًا يحمل سيفه على فخذه، يخرج غالبًا ولكي يغلب. هكذا عروس القائد قرنها من حديد، وأظلافها من نحاس، تسحق جموع الشيَّاطين تحت قدميها، وتقدِّم نفوسًا كثيرة للرب كغنى حقيقي فائق.
قُومِي وَدُوسِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْن،
لأَنِّي أَجْعَلُ قَرْنَكِ حَدِيداً،
وَأَظْلاَفَكِ أَجْعَلُهَا نُحَاساً،
فَتَسْحَقِينَ شُعُوباً كَثِيرِينَ،
وَأُحَرِّمُ غَنِيمَتَهُمْ لِلرَّبِّ،
وَثَرْوَتَهُمْ لِسَيِّدِ كُلِّ الأَرْضِ. [13]
الآن يقدم لنا نصرة نهائية، حيث تسحق عدو الخير، وتتحول كل الأحداث لمجد الرب.
v "سأجعل قرنك الذي كسره البابليُّون حديدًا، فتسحقين شعب كثير، وتخصَّصين غلَّتهم للرب". هذا سيحدث بعدما تمتلكين أرضهم وغناهم، وتدفعين العشور للرب عن الأرض كلَّها. كما قلت أظهر الله علامة مثل هذا الازدهار العظيم لليهود الراجعين من السبي. لقد حفظ هذا الأمر عينه للكنيسة[78].
من وحيّ ميخا 4
جعلت شعبك عجبًا!
v من مثلك يا الله، غافر الخطايا، وواهب الملكوت؟
أقمت من كنيستك عجبًا!
وأعلنت قدرتك فيَّ، كعضوٍ في كنيستك الفريدة!
v أقمت منِّي أنا الضعيف المنسحق،
جبلاً شامخًا، رأسه في السماء!
حسبتني جبلك الدسم، موضع سرور السمائيِّين!
أنت ملك الملوك ورب الأرباب،
حسبتني جبل الجبال الفائق الارتفاع!
حسبتني عضوًا في كنيستك المقدَّسة!
v أقمتها مدرسة فريدة كمعلِّم سماوي.
تضم تلاميذ من كل أمَّة وشعب ولسانّ.
صرتّ عضوًا فيها أتعلَّم منك لغة السماء!
أتكلَّم بلغة الحب السماوي بشركتي معك يا أيُّها الحب.ّ
تسبِّحك نفسي، فليس من مخاوف تلحق بي.
في كنيستك – أيقونة السماء – لا أعاني من عجز في العلاقات.
فالكل يتعلَّم بلغة الحب.
والكل لا يعاني من جهل للغة أو عجز عن النطقّ.
عجيب أنت أيُّها المعلِّم السماوي!
جمَّلتني فيك، وأحملك في داخليّ.
أنت في قلبي كما في فمي، أنطق بك على الدوام!
v لست اشتهي بعد جنَّة عدن مثل أبي آدم.
فقد أقمت ليّ جنَّة إلهيَّة.
اقتطف عنب الفرح منك، يا أيُّها الكرمة الإلهي!
اقتطف تينًا عذبًا مشبعًا من روحك القدُّوس!
حوَّلت أعماقي إلى جنَّتك.
أراك مع أبيك وروحك القدُّوس سرّ بهجتي!
v لست أئنّ من الظلم السائد في العالم!
أراك مطرودًا خارج المحلَّة،
فأجد مجدًا في طردي معك، لأحمل صليبك!
تبسط يديك على الصليب،
فتضمّ من ليس لهم موضع في قلوب الآخرين،
تجتذب الفقراء يا من صرت فقيرًا لتغنينا بفقركّ.
تجتذب المتألِّمين يا من صلبتَ لتعطي لآلام الحب عذوبة فائقة!
تضم الضالِّين يا من صرت طريقًا، يحملنا إلى الحضن الإلهي!
تقبل المرذولين لتهبهم شركة الأمجاد السماويَّة!
v كم عافت نفسي جسدي من أجل شهواته!
كم أنَّت أعماقي من أفكاري التافهة!
كم صرخ قلبي من عواطفي المتسيِّبة!
لك المجد يا مقدِّس كل كياني!
حملت جسدًا لاعتزّ بتقديسك لجسدي!
وهبتني روحك القدُّوس يضبط أفكاري.
قدَّست عواطفي وكرَّستها عرشًا لحبَّك!
أقمت في أعماقي ملكوتك السماوي!
حوَّلت قلبي إلى عرشك الباهر!
v لماذا تئنِّين يا نفسي في داخلي؟ ترجِّي الرب الفادي!
ليس لفرعون سلطان أن يذلُّني،
ولا لبابل قدرة أن تغلق أبواب السبي عليَّ!
فاديّ محرٍّر نفسي، واهب الغلبة لأعماقي!
v هانذا أرى الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق!
ليس له موضع فيَّ، فقد أقامني الفادي سماء!
لست أشغل ذهني بك،
ليس لك موضع إلاَّ تحت قدمي!
أعطاني مخلِّصي سلطانًا عليك، يا أيُّها الضعيف!
v لن تنوح نفسي بعد،
فقد أقامني عريسي السماوي كنيسة مجيدة!
أقامني أنا العظام الجافة جيشًا عظيمًا جدًا جدًا!
صرتُ بمخلِّصي أورشليم، الجيش بألوية!
لك المجد يا عريس الكنيسة ومخلٍّصها وقائدها!
من مثلك راعٍ إلهي!
في الأصحاح الرابع يعلن عن قيام مملكة روحية مجيدة، الكنيسة الجامعة من كل الشعوب، الجنة الروحية الفريدة، جيش الله الروحي الذي لن تهزمه قوات الظلمة. ولكن كيف تقوم هذه الكنيسة؟ بالمخلص الذي يتسلط على إسرائيل الروحي الجديد، مولود بيت لحم، الراعي الإلهي الذي يتمجد إلى أقاصي الأرض.
بدأ ميخا النبي سفره بالنبوات عن سبي السامرة وأورشليم، ومدى ما يحل بالمملكتين من خراب بسبب الإصرار على الشر، ثم عاد فأبرز مملكة جديدة هي كنيسة العهد الجديد. وتحدث عن شر القادة وفسادهم، فصاروا علة مرارة للمملكتين، والآن عوض القادة الأشرار يتنبأ عن القائد الفريد، المسيا الملك والراعي الصالح.
1. ملك منهار [1].
2. ميلاد الملك الأزلي [2-3].
3. راعي قدير [4].
4. رعاية فعّالة [5-6].
5. امتداد مسكوني للرعاية [7].
6. رعاية منتصرة [8-15].
اَلآنَ تَتَجَيَّشِينَ يَا بِنْتَ الْجُيُوشِ!
قَدْ أَقَامَ عَلَيْنَا مِتْرَسَةً.
يَضْرِبُونَ قَاضِيَ إِسْرَائِيلَ بِقَضِيبٍ عَلَى خَدِّهِ. [1]
تُوجه الدعوة إلى أعداء صهيون الذين كانت لهم جيوش تود الانتصار على إسرائيل ويهوذا، فتحاصر مدنها كله بسماحٍ إلهي لتأديب شعبه.
يتحول ميخا النبي إلى ما سيحل بإسرائيل حيث يسبيها أشور، أما يهوذا فتصمد أمام حصار أشور المتكرر، حتى يتم سبيها على مراحل ينتهي بواسطة بابل في أيام الملك صدقيا ويتحقق خرابها التام على يد تيطس عام 70م.
انشغل الملك والنبلاء والقادة الدينيون بالغنى والسلطة، وظنوا أنهم في أمان داخل أسوار أورشليم الحصينة، ولم يدركوا أنها ستُحاصر وتُدمر، ويعجز قاضيها أو ملكها (صدقيا) عن حمايتها. كان صدقيا - آخر ملك من نسل داود - يجلس على كرسي أورشليم حين استولى نبوخذ نصر عليها (2 مل 25: 1).
v هكذا يقول أن السامرة ستُحاط وتُحاصر بشعوب معادية. ليس فقط يَضربون خدَّها برؤوسهم، الأمر الذي يمكن احتماله، وإنَّما سيسحقونها بالعصيَ، الأمر الذي يحمل قسوة خاصة. هذا يعني محنة السبي المهينة البائسة، فإنَّه دون جدالٍ أن ضربْ الخد فيه إهانة خاصة. لاحظوا أنَّهم يضربونها أيضًا بالعصيّ، فيسبِّبون متاعب عنيفة مع إهانة. لقد أُهينت السامرة حيث حكمها سبط أفرام. كانت في عارٍ وتحت الآلام. على أي الأحوال ستتوقَّف الأيدي الضاربة، فلا نذوق بؤسًا إن كنَّا نبذل ما في وسعنا أن ننزع غضب الرب عن الكل بسبب العصيان، وارتكاب الخطايا بتلهُّفٍ، الأمر الذي يبغضه الرب. إن كنَّا نكرِّمه بالحياة الفاضلة عوض هذا، فإنَّنا نتمتع بالرخاء ونحيا حياة مفرحة جديرة بالإطراء[79].
القدِّيس كيرلس الكبير
يرى البعض أن ميخا النبي يوجه حديثه هنا إلى جيش تيطس الروماني الذي حاصر أورشليم، لأنها ضربت قاضيها رب المجد يسوع على خده، وأهانته، قائلة: "تنبأ من ضربك؟"
أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ،
وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا،
فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِيّ الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ،
وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ. [2]
إذ يعجز الملك عن حماية أورشليم فلا يقدر أن يخلصها، يقوم ملك عجيب في قرية صغيرة يُظن أنها غير مُعتبرة بين ألوف قرى يهوذا، ملك أزلي يدخل التاريخ البشري، قادر أن يخلص إلى التمام، الأول يموت ويزول في عارٍ وخزي، والثاني يملك إلى الأبد في السماويات، ملكوته لا يزول.
تعبير "مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" ينفرد به السيد المسيح وحده، بكونه المولود أزليًا كابن الله الوحيد الجنس. لهذا يقول: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58). ويقول المرتل: "منذ الأزل إلى الأبد أنت الله" (مز 90: 2).
ربما يتساءل البعض: كيف يقول: "يكون متسلطًا على إسرائيل" بينما حكمت عليه إسرائيل بالصلب، ولم يقم نفسه ملكًا على إسرائيل؟ لقد قال: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو 18: 36)، فقد ملك على إسرائيل الجديد، الكنيسة المقدسة، بكونه "رأسًا فوق كل شيء للكنيسة" (أف 1: 22). لقد أبرز سلطانه على الطبيعة، وعلى الموت والأمراض، فهل كان يعجز عن أن يملك على إسرائيل؟ لقد أرادوا أن يقيموه ملكًا، فاجتاز من وسطهم ولم ينظروه!
إن كان كلاً من إسرائيل ويهوذا يسقطان في السبي، إلا أن الإصلاح الحقيقي يتم على يد مولود بيت لحم أفراثه، ربنا يسوع المسيح. إنه يولد في هذا الموضع المتواضع، في قرية لسلفه داود العظيم.
حاول البعض أن ينسب هذه النبوة لزربابل، لكن القديس يوحنا الذهبي الفم يوضح أنها لا تنطبق عليه. فمن جهة لم يقل النبي "يسكن في بيت لحم" بل "منك يخرج"، ومن جهة أخرى فإن زربابل مخارجه ليس "منذ القديم منذ أيام الأزل"، إنما تنطبق على يسوع المسيح كلمة الأزلي[80].
في حوار العلامة ترتليان مع اليهود يستند على هذه النبوة التي تحققت حرفيًا في شخص يسوع المسيح، وانه الآن لم يعد أحد من سبط يهوذا من بيت لحم لكي تتحقق النبوة في آخر[81].
v السلام لبيت لحم، بيت الخبز، الذي فيه وُلد الخبز النازل من السماء (يو 6: 51).
السلام لأفراتة، أرض الإثمار والخصوبة، التي ثمرتها هي الرب نفسه.
تنبأ عنكِ ميخا في القديم: "وأنتِ يا بيت لحم لستِ الصغرى بين ألوف يهوذا..." (مت 2: 6). ففيكِ وُلد الرئيس، المولود قبل لوسيفر. هذا الذي مولده من الآب قبل الزمن، ومهد جنس داود استمر فيكِ حتى أنجبت البتول ابنها، والبقية من الشعب الذي آمن بالمسيح عادوا إلى أبناء إسرائيل يكرزون لهم بحرية بكلمات كهذه: "كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46)[82].
القديس جيروم
v لقد أظهر الحق كما هو مكتوب عن يسوع المسيح "وهو الغني افتقر"، لهذا اختار أمًا فقيرة وُلد منها، ووطناً فقيراً[83].
العلامة أوريجينوس
v ليس اللاهوت هو الذي آتى من بيت لحم بل الناسوت، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل بالحري انطلق من هناك بلاهوته كما جاء في الكلمات "مخارجه منذ القديم منذ الأزل"[84].
القديس يوحنا ذهبي الفم
v بتعيين موقع بيت لحم، كان (اليهود) مثل الذين بنوا فلك نوح، يمدُّون الآخرين بوسائل الهروب، أمَّا هم أنفسهم فهلكوا في الفيضان. ومثل المعالم التي تُظهر الطريق، لكنَّها عاجزة عن السير فيه. لقد سُئلوا: أين يولد المسيح؟ أجابوا: "في بيت لحم اليهوديَّة، لأنَّه هكذا مكتوب بالنبي" (مت 2: 5). لقد كرَّروا من الذاكرة ما قد كُتب عن هذا بميخا: "وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منكِ يخرج مدبِّر يرعى شعبي إسرائيل" (مت 2: 6)[85].
v ذاك الذي قبل الأزمنة، هذا الذي كان مع اللَّه من البدء، الذي هو اللَّه الكلمة، أصله منذ البدء، تقبَّل ميلادًا حسب الجسد فيكِ (يا بيت لحم) فجعلكِ مشهورة وبرَّاقة، مع أنَّك لستِ بذات أهميَّة بين ألوف يهوذا[86].
v يذكرنا الرسول الطوباوي ببركة يهوذا، مشيرًا كيف بلغت كمالها: "فإنه واضح أن ربنا قد طلع من سبط يهوذا" (عب 7: 14). هكذا أيضًا النبي والإنجيلي متى. فالأول تكلم متنبأً والأخير ربط النبوة بقصته. أي شيءٍ غريب هو هذا، إذ يقول إن الأعداء الظاهرين ضد الحق أخبروا بوضوح هيرودس أن المسيح يُولد في بيت لحم، إذ هو مكتوب: "وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منكِ يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل" (مت 2: 5-6). لنضف ما حذفه اليهود بسبب حقدهم فجعلوا الشهادة غير كاملة (إذ لم يذكروا هيرودس تكملة النبوة). لأن النبي بعد قوله: "يخرج ليّ الذي يكون متسلطًا على إسرائيل"، أضاف "ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مي 5: 2) [87].
v بقوله: "فمنك يخرج مدبرًا يوضح تدبير التجسد، وبإضافته: "ومخارجه منذ القديم من الأزل" يعلن عن لاهوته، وأنه مولود من الآب قبل الدهور[88].
ثيؤدورت أسقف قورش
لِذَلِكَ يُسَلِّمُهُمْ إِلَى حِينَمَا تَكُونُ قَدْ وَلَدَتْ وَالِدَةٌ،
ثُمَّ تَرْجِعُ بَقِيَّةُ إِخْوَتِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. [3]
سلمهم الرب للضيق حتى يترقبون مجيئه مولودًا من العذراء حسبما تنبأ عنه إشعياء النبي المعاصر لميخا النبي، وقد حدد الأخير بلدة ميلاده.
بمجيء الملك المخلص ترجع البقية الباقية المؤمنة لإقامة كنيسة العهد الجديد، إسرائيل الجديد. هذه البقية المقدسة التي تقبل المسيّا المخلص، إنما تسلك بروح الآباء رجال الله القديسين. وهكذا "يرد قلب الأبناء على آبائهم" (مل 4: 6).
يرى البعض أن "البقية" هنا لا تُشير فقط إلى المؤمنين من اليهود بل وأيضًا من الأمم، حيث ينضم الكل إلى رعوية "بني إسرائيل الجديد" وكما يقول الرسول بولس: "فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين، لأن به لنا كلينا قدومًا في روحٍ واحدٍ إلى الآب، فلستم إذًا بعد غرباء ونزلاء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أف 2: 17-19).
وكما يُجمع اليهود مع الأمم في إيمانٍ واحدٍ، فيصيرون إخوة بعضهم لبعض، "فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة" (عب 2: 11).
v إنه يميز بين "البعيدين والقريبين" (أف 2: 17). هذا يُشير إلى الأمم واليهود. فإن اليهود بكل وضوح هم قريبون والأمم بعيدون. إلاَّ أن المخلص نفسه أحضر الإنجيل للأمم. يُشير بولس هنا أولاً أن المسيح بمجيئه كرز بحق بالسلام للبعيدين، أي للأمم، كما يظهر من شواهد كثيرة. فإن الذين جاءوا إلى الإيمان من أصل أممي كان لهم استحقاق أعظم أن يدعوا أبناء عن الذين من أصل يهودي. ولكن لا يمكن إنكار نوال الآخرين ذلك، لهذا أضاف "والقريبين"[89].
وَيَقِفُ وَيَرْعَى بِقُدْرَةِ الرَّبِّ،
بِعَظَمَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيَثْبُتُونَ.
لأَنَّهُ الآنَ يَتَعَظَّمُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. [4]
إنه يقوم بالرعاية بنفسه باسم الله الآب، حيث لهما الإدارة الواحدة، فيتمجد اسم الرب يسوع ويبلغ إلى أقاصي الأرض.
يرى النبي في هذا الملك راعيًا صالحًا يرعى شعبه بقدرة الرب، وقد قيل عن السيد المسيح: "كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت 7: 9).
v كان سلطان تعليمه عظيم جدًا حتى أمسك بكثيرين منهم ودفع بهم إلى دهشة عظيمة. بسبب بهجتهم بما قاله سألهم يسوع إلاَّ ينصرفوا حتى نهاية حديثه. فإنه ليس فقط بعدما نزل من الجبل لم يتركه السامعون، بل تبعته كل الجماعة بسبب عظمة الحب الذي أظهره في حديثه. أغلبهم دهشوا بسبب سلطانه. فإنه إذ تحدث عن تلك الأمور لم يشر إلى آخر كما فعل موسى النبي، وإنما في كل موضع أظهر أنه هو صاحب السلطان ليعطي القرار. وعندما وضع الشرائع أضاف يسوع: "أما أنا فأقول لكم" (مت 5: 22، 28، 32، 34، 39، 44). وعندما كان يذكرهم عن يوم الدينونة الأخير أظهر أنه هو الذي سيحقق العدالة سواء بالعقوبات أو الكرامات. هذا ما سبب هياجًا في وسطهم[90].
قبل صعوده تقدم يسوع وكلَّم تلاميذه، قائلاً: "دُفع إليَّ كل سلطانٍ في السماء وعلى الأرض" (مت 28: 18).
إن كان ملوك مملكتي إسرائيل ويهوذا وأمراءها وجيوشها لم يستطيعوا حمايتها، فإن الراعي الإلهي يضمن سلام مملكته، ويحفظ شعبه، لا من أشور أو بابل، بل من إبليس وكل قوات الظلمة.
إنه الراعي العجيب الذي يُقيم رعاة، ويهبهم ذاته ليعمل فيهم وبهم حتى يتحقق السلام الكامل خلال ذبيحته المقدسة.
وَيَكُونُ هَذَا سَلاَماً.
إِذَا دَخَلَ أَشُّورُ فِي أَرْضِنَا،
وَإِذَا دَاسَ فِي قُصُورِنَا نُقِيمُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ رُعَاةٍ وَثَمَانِيَةً مِنْ أُمَرَاءِ النَّاسِ [5]
الآيتان 5 و6 عبارة عن قطعة شعرية ذات عشرة أبيات تصور الغزو الآشوري الذي به يُقام عدد من الأمراء الوطنيين في مواجهته، سبعة رعاة وثمانية أمراء، فيرتد الغازي إلى بلاده خائبًا. هؤلاء الأمراء يتحدون معًا ليظهر رئيس واحد يخلص من أشور.
يدعى السيد المسيح "السلام" (أف 2: 14)، حيث يحقق السلام بين الإنسان والآب، كما يهب سلامًا للنفس مع الجسد، وسلامًا بين البشر، كما بين الأمم. يرى القديس هيبوليتس أن أشور هما يشير إلى ضد المسيح[91].
كانت أشور أخطر عدو في ذلك الحين، وهي هنا تُشير إلى إبليس، عدو الخير، المقاوم لكنيسة المسيح، لكن عدو الخير حتمًا سينهزم، وتكون النصرة لكنيسة المسيح.
من هم السبعة رعاة والثمانية أمراء الذين يقيمهم الملك الجديد من الناس؟ يُشير رقم 7 إلى الكمال في هذا العالم، ويُشير رقم 8 إلى الدخول في ما وراء الزمن والعبور إلى الأبدية. وكان خدام المسيح يليق بهم ان يكونوا رعاة كاملين في الرب، وملوكًا سماويين لا يسحبهم مجد العالم وغناه. أما ناموسهم فهو "السلام الإلهي"، إذ يكون الرب نفسه سلامهم. لقد قال السيد المسيح: "سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أنا أعطيكم. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (يو 14: 27).
لا يكف عدو الخير عن أن يقتحم بكل وسيلة أرضنا الداخلية، لكي يغتصبها له، فتصير مملكة الظلمة عوض مملكة النور. إنه يود أن يدوس في قصورنا، فينجس قلوبنا التي هي هيكل الله وروح الله ساكن فيها. فالحرب قائمة بين الله وإبليس، وأرض المعركة هي أعماقنا الداخلية، فإن قبلنا رعايته حتمًا نتمتع بغلبته.
لقد صور لنا إشعياء النبي عمل هذا الملك الراعي ورعايته خلال خدامه فقال: "هوذا بالعدل يملك ملك، ورؤساء بالحق يترأسون، ويكون إنسان كمخبأ من الريح" (إش 32: 1-2). وكأن هذا الملك السماوي الذي صار إنسانًا قد فتح لنا جنبه كي نختبئ فيه عندما تهيج رياح وعواصف إبليس علينا! هو حصننا الحصين، وملجأ لنا وسط التجارب.
يرى ثيؤدورت أسقف قورش في تفسيره إشعياء (32: 1) أن هذا النص لا ينطبق على حزقيا أو يوشيا أو زربابل. [يلزم للشخص أن يفهم الملك أنه المسيح سيدنا، والأمراء الرسل القديسين ومن خلفوهم، إذ سيموا لتوجيه الكنائس. أعلن الطوباوي داود عنهم: "عوضًا عن آبائك يكون بنوك تقيمهم أمراء في كل الأرض" (مز 45: 16)].
v يبدو ليّ أنه يُشير إلى الرسل، الذين صاروا معلمين فيها (في الكنيسة). وبوصف سلطانهم وقوتهم ومجدهم يقول: "تقيمهم أمراء في كل الأرض" (مز 45: 16)... لتتذكروا أن الرسل جالوا في العالم كله، وصاروا أمراء أكثر سيادة من كل الحكام الآخرين، وأكثر سلطانًا من الأباطرة. فالأباطرة لهم سلطانهم وهم أحياء ولكن إذ يموتوا لا يكون لهم بعد، أما الرسل فلهم سلطان وهم أحياء، تزايد بالأكثر عند موتهم. وبينما قوانين الأباطرة لها قوتها داخل حدود بلادهم، فإن أوامر صيادي السمك تمتد إلى كل موضع في العالم. لا يقدر الإمبراطور الروماني أن يصدر قوانين للفارسيين، ولا الفارسيون للرومان، بينما هؤلاء الفلسطينيين شرعوا قوانين للفرس والرومان وأهل تراثيا والسكيثيين والهنود والمغاربة وكل العالم. قوانينهم بقيت بقوتها ليس فقط حينما كانوا أحياء، بل وبعد موتهم، والذين خضعوا لهم فضلوا أن يفقدوا حياتهم عن أن يرتدوا عن هذه القوانين[92].
فَيَرْعُونَ أَرْضَ أَشُّورَ بِالسَّيْفِ،
وَأَرْضَ نِمْرُودَ فِي أَبْوَابِهَا،
فَيَنْفُذُ مِنْ أَشُّورَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا وَإِذَا دَاسَ تُخُومَنَا. [6]
"أرض نمرود" اسم آخر لأشور، هنا يرمز إلى كل الأمم الشريرة.
يرى الأب فيكتورينوس أسقف بيتو Petau أن نمرود يُشير إلى ضد المسيح، وأن السيد المسيح يرسل سبعة رعاة وهم السبعة رؤساء الملائكة العظماء ليضربوا مملكة ضد المسيح[93].
إن كان العدو قد دخل أرضنا وداس تخومنا، فخلال رعاية السيد المسيح المباشرة، ورعايته خلال رسله تتحول المعركة لصالحنا، فتنهار مملكة إبليس كما بسيف، ونفلت نحن من يده مرددين قول المخلص: "ثقوا أنا قد غلبت العالم".
وَتَكُونُ بَقِيَّةُ يَعْقُوبَ فِي وَسَطِ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ،
كَالنَّدَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ،
كَالْوَابِلِ عَلَى الْعُشْبِ الَّذِي لاَ يَنْتَظِرُ إِنْسَاناً،
وَلاَ يَصْبِرُ لِبَنِي الْبَشَرِ. [7]
إذ تحدث عن الراعي الصالح الذي اختار تلاميذه ورسله للعمل بهم، وكيف تحولت المعركة إلى نصرة لنا وانهيار لمملكة إبليس، يقدم لنا النبي صورة رائعة للكنيسة وعملها على مستوى مسكوني.
إنها "بقية يعقوب"، القلة القليلة التي قبلت الإيمان بالسيد المسيح، وتمتعت بحلول روحه القدوس عليها يوم الخمسين لتكون الخميرة التي تخمر العجين كله. إنها تنطلق "وسط شعوب كثيرين" تعمل بروح الرب لخلاص الكثيرين من كل الأمم والألسنة والشعوب. تتبعثر وسط العالم لتكون ملحًا له، ونورًا. بهذا تقوم مملكة المسيح الروحية.
إنهم "كالندى من عند الرب"، لا يعملون بفكر بشريٍ متعصبٍ، بل بفكرٍ سماوي نازلٍ كالندى من عند الرب. لقد وُلدوا من فوق، فيقدمون السماويات لعل الجميع يشاركونهم عذوبة الحياة الجديدة السماوية.
إنهم "كالوابل (الأمطار) على العشب، لا ينتظر إنسانًا، ولا يصبر لبني البشر"، أي لا يعتمدون على سند بشري بل على نعمة الله المجانية. يروون الآخرين بمياه الروح، كمطرٍ سماويٍ من عند الرب، لا فضل لإنسان فيه.
إذ يحدثنا عن القطيع الجديد تحت رعاية الراعي الإلهي يعلن عن النصرة الروحية المملوءة عذوبة، فتصير الكنيسة في العالم كالندىٌ من عند الرب وكالوابل الصيفي جمالاً ورقة وإنعاشًا وإشراقًا.
بقية يعقوب هو إسرائيل الروحي، أو جماعة المؤمنين الحقيقيين، يكونون كالندى الإلهي، سرّ بركة ونمو لكثيرين. هذه البركات لا تأتي من عند البشر بل هي "من عند الرب".
وَتَكُونُ بَقِيَّةُ يَعْقُوبَ بَيْنَ الأُمَمِ فِي وَسَطِ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ،
كَالأَسَدِ بَيْنَ وُحُوشِ الْوَعْرِ،
كَشِبْلِ الأَسَدِ بَيْنَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ الَّذِي إِذَا عَبَرَ،
يَدُوسُ وَيَفْتَرِسُ وَلَيْسَ مَنْ يُنْقِذُ. [8]
في العبارة السابقة صٌَور الكنيسة في رقتها نحو الشعوب لأنها تقدم الشركة الحية مع الله، غير أنها قوية في الروح تحطم حصون الظلمة وتبددها.
شبَّه النبي المؤمنين تارة بالندى الذي يلطف وينعش النبات في جو من الهدوء، كما يشبههم بالأمطار التي تروي الحقول، والآن بالأسود بين وحوش البرية التي يخشاها الكل.
يتسم المؤمن بالحب الخالص الصادر من الأعماق كعطية الروح القدس له، وبالحزم ضد الشر والفساد والخطأ. لهذا يدعو الرسول بولس تلميذه تيموثاوس أن يجاهد كجندي صالح ليسوع المسيح، ويُشير السيد المسيح إلى قوة المؤمنين في الحق، قائلاً: "لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها" (لو 21: 15). ويتحدث الرسول بولس عن مقاومة المؤمنين لإبليس وجنوده: "أسلحة محاربتنا... قادرة بالله على هدم حصون" (2 كو 10: 4-5).
لِتَرْتَفِعْ يَدُكَ عَلَى مُبْغِضِيكَ،
وَيَنْقَرِضْ كُلُّ أَعْدَائِكَ! [9]
تتحقق النصرة لإسرائيل الجديد، فيكون كالأسد، كمحارب قدير يحطم أعداءه الروحيين. هذه المعركة تكمل عندما يضع الله كل الأعداء تحت قدميّ المسيح رأس الكنيسة (1 كو 15: 25-28).
يرى المرتل جموع الشياطين المنهارة أمام كنيسة الله، فيترنم قائلاً: "شعوب تحتك يسقطون" (مز 45: 5).
وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ:
أَنِّي أَقْطَعُ خَيْلَكَ مِنْ وَسَطِكَ،
وَأُبِيدُ مَرْكَبَاتِكَ. [10]
إذ يسكن الرب في القلب ويملك لا نحتاج إلى قوة عسكرية، بل إلى قدرة الله العظيمة. نردد بكل قوة: "إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا لأنك أنت معي" (مز 23: 4).
سٌر قوة الكنيسة هو الرب القدير لا الذراع البشري والقدرة البشرية، لذا يقطع الرب الخيل من وسطها ويبيد مركباتها، لكي تتمتع بروح الرب الذي يرفعها من مجد إلى مجد، وتسلك في العالم كمن تصعد في مركبة نارية.
تتمتع الكنيسة – إسرائيل الجديدة – ببركات إلهية كثيرة:
1. نزعْ أدوات الحرب المادية من خيول ومركبات [10]، حتى لا تعتمد الكنيسة على أمور مادية بل على نعمة الله الفائقة. "أقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم" (زك 9: 10).
2. يقطع عنها مدن الأرض ليهبها مدنًا سماوية، ويهدم حصونها الزمنية ليكون هو سور نار لها [11].
3. نزع العبادة الباطلة بكل متعلقاتها من سحر وعيافة [12].
4. إزالة كل معبود في القلب، ليقيم الرب عرشه فيه ويحتله بالكامل [13].
5. يسقط عدو الخير وجنوده تحت الغضب الإلهي [15].
وَأَقْطَعُ مُدُنَ أَرْضِكَ،
وَأَهْدِمُ كُلَّ حُصُونِكَ. [11]
ينزع الرب عن كنيسته أرضها، إذ يجعلها سماء ثانية يسكن فيها. ويهدم كل حصونها الزمنية ليكون هو سور نارٍ حولها. وكأن مدنهم تتحول من مدن عسكرية إلى مدن للسكن، ويقوم الرب بحراستها إذ هو "صخرتهم وحصنهم ومنقذهم" (مز 18: 2).
وَأَقْطَعُ السِّحْرَ مِنْ يَدِكَ،
وَلاَ يَكُونُ لَكَ عَائِفُونَ.
وَأَقْطَعُ تَمَاثِيلَكَ الْمَنْحُوتَةَ وَأَنْصَابَكَ مِنْ وَسَطِكَ. [12]
ينزع الرب عنها كل سحرٍ وعيافة (التكهن أو ادعاء التنبوء بأمور مستقبلية بقوة الشيطان)، ويفتح عينها بروحه القدوس فتتعرف على الأسرار الإلهية عوض العمال الشيطانية!
فَلاَ تَسْجُدُ لِعَمَلِ يَدَيْكَ فِي مَا بَعْدُ. [13]
وَأَقْلَعُ سَوَارِيَكَ مِنْ وَسَطِكَ وَأُبِيدُ مُدُنَكَ. [14]
يُزيل الرب السواري، أي الأعمدة الخشبية المنصوبة رمزًا لعشتاروت إلهة الكنعانيين.
وَبِغَضَبٍ وَغَيْظٍ أَنْتَقِمُ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا. [15]
يختم حديثه بالتحذير لمن يرفض الإيمان بالمخلص راعي النفوس، فإنه يسقط تحت الغضب ولا يتمتع بالبركات السماوية.
من وحي ميخا 5
من ليّ يرعاني سواك!
v تُرى من يرعى نفسي سواك!
ليس من يحبني، ويبذل ذاته عني غيرك!
رعاية البشر بدونك دمار لنفسي!
رعايتك فريدة وعجيبة!
v أتيت إليَّ في بيت لحم، فجعلته بيت الخبز السماوي!
من يأكل منك لن يجوع،
ومن يشرب من حبك لن يعطش إلى الأبد!
أتيت إلينا يا قديم الأيام، أيها الأزلي،
لكي تحملني معك إلى أبديتك!
v وُلدت من عذراء يا خالق المسكونة!
وأقمت مني أنا العبد أخًا صغيرًا،
ووهبتني البنوة لأبيك القدير!
v اخترت لك تلاميذ ورسلاً،
أقمتهم أمراء ورعاة يحملون روح رعايتك!
أراك متجليًا فيهم،
وأتمتع بعملك العجيب من خلالهم!
وهبتهم سلطانًا على قوات الظلمة.
بك سحقوا إبليس تحت أقدامهم!
v وهبتهم روحك القدوس ليرعوا شعبك.
فاجتذب نفوسًا من كل الأمم والألسنة والشعوب.
صاروا ندى للعالم، يقدمون كل لطفٍ أبويٍ!
صاروا كالمطر يحول البراري إلى جنة سماوية.
v قبلوا أن يكونوا حملانًا بين ذئاب،
تفترسهم الذئاب فتصير حملانًا وديعة!
وهبتهم روح القوة لمواجهة الضلال،
فصاروا أسودًا لا ترتعب!
v برعايتك وهبت شعبك سلامك الفائق!
قطعت خيلهم من وسطهم وأبدت مركباتهم،
إذ صرت لهم سور نارٍ سماوي يحفظهم!
قطعت كل سحر وعيافة،
إذ كشفت لهم أسرار سماواتك!
يا لك من راعٍ إلهيٍ عجيبٍ!
القسم الثالث
دعوى قضائية إلهية
مي 6-7
في الأصحاحات الثلاثة الأولى يطلب الله الأرض كلها لتشهد محاكمة الله لشعبه الذي أفسده الإثم والخطية، وفي الأصحاحين الرابع والخامس فتح الله أبواب الرجاء على مستوى فائق بقدوم المسيَّا المخلص لتجديد الحياة وقيام كنيسة العهد الجديد. الآن في هذا القسم نجد دعوى قضائية، فالله في حبه للبشرية يقدم مراحمه وبركاته الفائقة، لكن من يصر على الجحود يفقد كل شيء! هذا ما يقدمه الرب بميخا النبي في شكل دعوى قضائية، ويأخذ موقف المحامي العام أو المفوض الشرعي من جانب الله. تقف الجبال والتلال الحاضرة للمحاكمة في صمت، بينما يسأل الله الشعب خلال المفوض العام أن يجيبوا على أسئلته.
جلستان في المحكمة!
من يتزكى أمامك؟
الله الذي وهب الإنسان حرية الإرادة ليكون أيقونة له، يتعامل معه كما الند للند. إنه يُقيم محاكمة، ويطلب من شعبه أن يدخل معه في محاجة على مشهد من الجبال الثابتة الصامتة عبر التاريخ البشري. إنه يعرض القضية، ويطلب من شعبه أن ينطق في صراحة بماذا أضجره الرب.
يذكرهم الله بأعماله معهم عبر التاريخ، حتى يعودوا فيتمتعوا بمحبته الإلهية ويحملوا برَّه.
في دعواه يعلن أنه لا يطلب من المؤمن شيئًا، فهو ليس في حاجة إلى عبادته ولا إلى تقدماته، بل يطلبه هو، ليكون أيقونة حية له، ووكالة السماء. إنه لا يحقَر من الذبائح والتقدمات، لكنها ليست غاية في ذاتها، لذا يليق بالمؤمن في تواضعه إذ يلتصق بإلهه أن يقدم مع تقدماته قلبه كمسكنٍ لله.
أخيرًا إذ بطلب القلب يرفض سكنى الشر فيه، لئلا تصير جراحاته عديمة الشفاء.
يُقدم الله شكواه ضد شعبه العنيد في جلستين، سائلاً إياهم أن يجيبوا عليه.
1. الجلسة الأولى [1-8].
2. الجلسة الثانية [9-16].
اِسْمَعُوا مَا قَالَهُ الرَّبُّ:
قُمْ خَاصِمْ لَدَى الْجِبَالِ،
وَلْتَسْمَعِ التِّلاَلُ صَوْتَكَ. [1]
يطلب الله من ميخا النبي أن يقوم ويعلن الخصومة ضد الشعب العنيد، سائلاً الجبال والتلال أن تنصت وتتابع المحاكمة.
يصور الأصحاحان 6 و 7 ساحة قضاء، حيث يحكم الله لكي يدفع شعبه إلى التوبة قبل أن يحل يوم القضاء العظيم.
يؤكد ميخا النبي أن ما ينطق به ليس من عنده، وإنما استقاه من الله، فهو لا يقدم كلمة بشرية، بل كلمة الله القدوس. لهذا يليق به أن يستمعوا، وينصتوا.
يدعو الله الجبال والتلال لتقف شاهدة على شعبه الذي بنى مذابح وثنية على المرتفعات، وقدم ذبائح لآلهة غريبة باطلة (1 مل 14: 23، إر 17: 2، 3، حز 20: 27-28). ولعله يقصد رفع الخصومة على سكان تلك الجبال والتلال التي انغمست في العبادة الوثنية.
اِسْمَعِي خُصُومَةَ الرَّبِّ أَيَّتُهَا الْجِبَالُ،
وَيَا أُسُسَ الأَرْضِ الدَّائِمَةَ.
فَإِنَّ لِلرَّبِّ خُصُومَةً مَعَ شَعْبِهِ،
وَهُوَ يُحَاكِمُ إِسْرَائِيلَ. [2]
إنه ينادي بصوت عالٍ ولا يصمت (إش 58: 1)، حتى تسمعه أسس الأرض، فالأمر خطير للغاية. إن كانت قلوب الشعب صارت كالصخور الجامدة، فإن الله يدعو صخور الأرض أن تنصت وتبكت شعبه، لأن إسرائيل له آذان ولا يسمع.
"للرب خصومة مع شعبه": الخطية هي إعطاء القفا لله، فتصير علة خصومة مع الله. لهذا يقول الرسول بولس: "ونحن أعداء قد صولحنا مع الله". (رو 5: 10)
إن كانت الخطية بوجه عام تسبب خصومة مع القدوس الذي لا يطيق الخطية، فإنها تكون بالأكثر إن صدرت عن شعبه وأولاده الذين يريد أن يكونوا له قديسين (لا 20: 26) كما هو قدوس.
"يُحاكم إسرائيل"، يترجمها البعض "يُحاج إسرائيل"، فهو يُريد أن يدخل مع شعبه في حوارٍ لكي يؤكد لهم عطيته "حرية الإرادة"، ولكي يتطلعوا إلى وصيته المقدسة لا كأمرٍ صادرٍ يستصعبونه، بل كعمل محبة يصدر من أبٍ سماويٍ نحو أولاده المحبوبين لديه.
v في حالات كثيرة في الأسفار المقدسة ترى هذه الصورة، التي هي مدهشة جداً وتليق بمحبة الله الحانية. إنه يعلن صلاحه الذي لا يُوصف بإظهار نفسه أنه يود أن يدخل مع البشرية في محاكمة بطريقة مدهشة[94].
v هكذا إنَّه يُحاكمهم، لكن اسمعوا ما تلى ذلك فيما يخص المؤمنين "يعود يرحمنا" (مي 7: 19)... يقول الكتاب: "طوبى للحزانى فإنَّهم يتعزَّون" (مت 5: 5). وفي موضع آخر الكلمات: "الذي يؤمن بيّ لا يُدان، بل ينتقل من الموت إلى الحياة، ومن لا يؤمن يُدان"[95].
يَا شَعْبِي مَاذَا صَنَعْتُ بِكَ؟
وَبِمَاذَا أَضْجَرْتُكَ؟
اشْهَدْ عَلَيَّ! [3]
لم يصدر الله حكمه ضد شعبه مع أنه الديان القدير، لكنه يطلب أن يحاججهم. إنه يسألهم إن كان قد أساء إليهم في شيء. بماذا يبررون عدم أمانتهم له بالرغم من أمانته الفائقة نحوهم.
لم يكن ممكنًا للشعب أن يجيب على هذا السؤال، لأن الله الكلي الحب والرحمة لم ولن يخطئ في حق الشعب، ولا في حق إنسانٍ ما، فهو صانع الخيرات الرحوم، وإن سمح بضيقٍ أو تأديب فلتزكيتنا أو توبتنا ورجوعنا إليه. إنه ليس بالسيد القاسي، بل هو أب محب.
v أتريدون منِّي أن أحدِّثكم بنفس كلمات الله لإسرائيل الغليظ الرقبة والقاسي؟ "يا شعبي، ماذا صنعت بك؟ وبماذا أضررت بك؟ وبماذا أضجرتك؟" هذه اللغة بالحق أكثر مناسبة أن أوجهها منِّي إليكم يا من أسأتم إليَّ. إنَّه لأمر محزن أن نتصيَّد الفرص ضدّ بعضنا البعض، ونحطِّم شركة الروح التي لنا باختلافات الرأي، فصار الواحد. أكثر وحشيَّة وعنفًا، الواحد ضدّ الآخر من البرابرة الذي يحاربوننا الآن، وقد ارتبطوا معًا ضدَّنا بالثالوث الذي قسمناه... صرنا في حرب، الواحد ضدّ الآخر، بل وضدّ الذين من أهل البيت الواحد. أو إن أردتمّ نحن أعضاء الجسم الواحد نهلك ونُهلك الواحد الآخر[96].
v "يا شعبي ماذا صنعت بك؟ وبماذا أضجرتك؟" (مي 6: 3) مظهرًا جحودهم، وبينما يتمتعون بكل الأمور إذا بهم يقابلونه بما يضاد ذلك[97].
إِنِّي أَصْعَدْتُكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ،
وَفَكَكْتُكَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ،
وَأَرْسَلْتُ أَمَامَكَ مُوسَى وَهَارُونَ وَمَرْيَمَ. [4]
إذ صمت الشعب لعجزهم عن الإجابة، استعرض الله معاملات حبه نحوهم منذ كانوا مستعبدين في مصر، وكيف أرسل لهم قادة مسنودين بنعمته: موسى العظيم في الأنبياء، وهرون أول رئيس للكهنة، ومريم قائدة النساء لخلق جوٍ من الفرح بالتسبيح.
يَا شَعْبِي اذْكُرْ بِمَاذَا تَآمَرَ بَالاَقُ مَلِكُ مُوآبَ،
وَبِمَاذَا أَجَابَهُ بَلْعَامُ بْنُ بَعُورَ – مِنْ شِطِّيمَ إِلَى الْجِلْجَالِ –
لِتَعْرِفَ إِجَادَةَ الرَّبِّ. [5]
استمرت رعاية الله لشعبه في البرية، وكيف حفظهم من مؤامرات بالاق ملك موآب حتى يعبروا ويدخلوا أرض الموعد. إنه أمين على الدوام.
أورد موسى النبي قصة بالاق وبلعام في سفر العدد (ص 22- 24)
شطيم: هي الموضع الذي ضرب فيه بنو إسرائيل خيامهم على الضفة الشرقية من نهر الأردن قبل عبورهم النهر للدخول إلى أرض الموعد (يش 2: 1). هناك تلقى الشعب الكثير من الوصايا والوعود الإلهية. أما الجلجال فكان أول موضع خيم فيه الشعب بعد عبورهم الأردن (يش 5: 3-3). هناك حدد الشعب عهده مع الله (يش 5: 3-9).
يرى القدِّيس أمبروسيوس[98] أن الله يُقدِّم لنا نفسه مثالاً نتعلَّم منه، حتى وهو يوبِّخ شعبه يذكِّرهم باهتمامه بهم حين كانوا في ضيقة تحت العبوديَّة في بلد غريب مثقَّلين بأحمالٍ ثقيلةٍ.
بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ،
وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ الْعَلِيِّ؟
هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ [6]
ظن اليهود أنهم قادرون على استرضاء الله بكثرة الذبائح دون ممارستهم للحياة الروحية في سلوكهم اليومي. وكأن ما يشغل الله هو التقدمات والذبائح التي تُقدم إليه في هيكله، ولم يدركوا أن الله يطلب الإنسان نفسه: "يا ابني اعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي". الله يريد أن يهيئنا للتمتع بشركة الأمجاد الأبدية. يريدنا الله أن نقدم ذبائح عقلية حية مرضية (رو 12: 1-2). ذبائح حب قلبية، فنرد له الحب بالحب!
هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكِبَاشِ بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟
هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟ [7]
جاءت إجابة إسرائيل الأولى على شكل ثلاثة أسئلة: هل يسر الله أولاً بتقديم ذبائح العجول العادية؟ وثانيًا يضاعف من الذبائح والتقدمات فيذبح ألوف الكباش ويقدم ربوات أنهار زيت؟ وثالثًا هل يقدم ذبائح غير عادية، ولو أدت إلى تقديم بكورهم (من الأبناء) ذبائح الأمر الذي تحرِّمه الشريعة (تث 12: 29-31؛ 2 مل 3: 27؛ قض 11: 30-40)؟ فقد تسللت ذبيحة الابن البكر إلى إسرائيل مع غيرها من الممارسات الوثنية الخاطئة.
واضح أن الخاطي – مهما جذبته الخطية - فإنه يشعر بفراغٍ شديدٍ في أعماق نفسه، يُريد أن يملأ هذا الفراغ باسترضاء الله، ولو قدم كل ما يملكه، وأثمن ما لديه: أبناءه! لكن الحاجة إلى تقديس القلب والفكر والسلوك العملي في الرب!
v لا يُصالح الله ولا تُغفر الخطايا بربوات الماعز وآلاف الكباش أو بثمار عدم القداسة، إنَّما نعمة الرب تُرى الحياة الصالحة[99].
v هل كل أحدٍ يتحوُّل عن الخطيَّة إلى الإيمان، يتحوَّل من الممارسات الخاطئة (كما لو كانت أمُّه) إلى الحياة؟ إنِّي استشهد بأحد الاثنى عشر نبيًّا، القائل: "هل أقدِّم تقدمة بكري عن معصيتي؟ هل أقدٍّم ثمر رحمي عن خطيَّة نفسي؟" (مي 6: 7). هل يمكن لأمٍ أن تشتري طريقها لله بتقديم بكرها؟ هذه يجب ألاَّ تفهم إنَّها هجوم على الكلمات: "أكثروا وانموا" (تك 1: 28)[100].
v عندما كانوا يُوبخون لأنهم دائمًا تنقصهم أية فضيلة أخرى، فإنهم يعتذرون مبدئيًا أنهم يقدمون ذبائح، قائلين إنهم يقدمونها على الدوام. من هنا نفهم لماذا كل الأنبياء على وجه الدقة... يرفضون هذا الدفاع. فمن الواضح ان الذبائح لم تُقم لأجل ذاتها، إنما كأداة لتوحي بسلوكهم. فإذا تجاهلوا التزاماتهم الضرورية غير منشغلين إلاَّ بالذبائح قال الله انه لا يعود يقبلها (عا 5: 22، 6: 20)[101].
قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ،
وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ،
إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ،
وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ. [8]
ظن إسرائيل أنه يرضي الله بالذبائح الحيوانية وكثرة التقدمات حتى ولو إلى تقديم ذبائح بشرية، فقام النبي يصحح مفاهيمهم بأن ينقلهم من الانشغال بالذبائح الحيوانية مع ممارستهم للظلم إلى ممارسة الحب العملي والسلوك بتواضعٍ مع الرب.
إذ كان الله يهيئ ذهن شعبه لقبول الأمم في الإيمان جاءت الإجابة عامة لأي إنسان في العالم: "قد أخبرك أيها الإنسان" ولم يقل "يا إسرائيل". فالرسالة موجهة للجميع.
v الآن، انه من واجبنا أن نحيا الحياة الفاضلة، والله يسألنا هذا ولا نتواكل عليه أو على آخر، ولما كما يظن البعض أن نتكل على المصير القدري، إنما هو من عملنا كما يبرهن بذلك قول النبي ميخا: "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب ألاَّ أن تصنع الحق وتحب الرحمة" (مي 6: 8)[102].
v من هو غبي هكذا فيظن ان الله في حاجة إلى ما يُقدمِ له لاستعماله الخاص؟ في مواضع كثيرة يسٌِفه هذه الفكرة. لكي لا تقلقوا يكفي ان أقتبس هذا القول المختصر من المزمور: "قلت للرب: أنت ألهي، لا تحتاج إلى صلاحي" (مز 26: 2). يليق بنا أن نؤمن بأن الله ليس في حاجة ليس فقط إلى قطيع أو أى أمر أرضي مادي، بل ولا إلى بٌر الإنسان، وأن أية عبادة مستقيمة تقدم لله ليست لنفعه بل لنفع الإنسان. فإنه لا يقول إنسان إن ينبوعًا ينتفع بشربه منه، ولا النور برؤيته له. في الواقع أن الكنيسة القديمة قدمت ذبائح حيوانية هذه التي يقرأ عنها شعب الله الحاضر الآن دون أن يتمثل بهم، فإن هذه الذبائح لا تعني شيئًا سوى أنها تُشير إلى ما نفعله من أجل الالتصاق بالله وحث قريبنا على ذلك. فالذبيحة هي سٌر منظور أو علامة مقدسة لذبيحة غير منظورة[103].
v إنَّك تسأل: ماذا ينبغي ليّ أن أقدِّم؟ قدِّم نفسك. فإنَّه ماذا يطلب الرب منك إلاَّ أنت؟ فإنَّه لم يخلق شيئًا من بين الخلائق الأرضيَّة ما هو أفضل منك. إنَّه يطلب منك نفسك من نفسك[104].
v "الله صالح ولطيف للغاية". إنَّه رحوم ورءوف وغني في الرحمة (مز 145: 8). إنَّه لا يشاء موت الشرير مثل أن يتوب (حز 18: 23). إنَّه مخلِّص كل الشعب، خاصة المؤمنين (1 تي 4: 10). لهذا يليق بأبناء الله أيضًا أن يكونوا رحومين (مت 5: 7) وصانعي سلام (مت 5: 9)، يسامح الواحد الآخر كما غفر لنا المسيح (كو 3: 13)، لا ندين لئلاَّ نُدان (مت 7: 1)، فإن الإنسان يثبت أو يسقط لله فمن أنت يا من تدين عبد آخر؟ (رو 14: 14)[105].
v لقد أُخبرت يا إنسان ما هو صالح، ماذا يطلبه الرب منك إلاَّ أن تفعل العدل، وتحب الرحمة، وتستعد للسير مع ربَّك؟ لهذا يقول لكم الإنجيل: "قوموا ننطلق من هنا" (يو 14: 31)، بينما يقول لكم الناموس: "لتسيروا وراء الرب إلهكم". لقد تعلَّمتم طريقة الهروب من هنا – لماذا تتأخَّرون؟[106]
v إن كان الله نارًا، ونارًا آكله (تث 4: 24) فكل من يكون قشًا، كل من هو خشب يجري من النار لئلا يحترق2.
v يقول: انسوا محرقاتكم وذبائحكم التي لا تُعدّ، وتقدمات بكوركم. إن كنتم مهتمِّين أن تسترضوا اللاهوت، فلتمارسوا ما أمركم به الله في البداية خلال موسى. ما هو هذا؟ أن يكون لكم حكم عادل وقرارات سليمة في كل الحالات، حيث تختارون ما هو أفضل لا ما هو أشرّ، حتى تستمرُّوا في الشهادة لكل إمكانية للحب والشعور بإخوة قريبكم، وأن تكونوا مستعدِّين لممارسة ما يُسرّ الله في كل طريقٍ. أنَّه يقصد: "حب الله بكل قلبك وكل فكرك وكل نفسك، وتحب قريبك كنفسك" (تث 6: 5؛ لا 19: 18)، ذلك كما قيل قديمًا بموسى. يقول: افعلوا هذا كأمر أفضل من الذبائح في عينيّ الله[107].
v ما المنفعة إن امتنعت عن الطيور والأسماك وأنت تعض إخوتك وتفترسهم؟ فإن المتكلم الشرير يأكل جسد أخيه ويعض جسم قريبه. لهذا فإن بولس ينطق بقولٍ رهيبٍ: "فإذا كنتم تنشهون وتأكلون بعضكم بعضًا، فانظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضًا" (غل 5: 15). إنك لا تثَّبت أسنانك في اللحم، لكنك تثَّبت الافتراء على النفس، وتسبب جرحًا هو ريب شرير؛ إنك تؤذي نفسك بآلاف الطرق، وتؤذي معك الآخرين. فإنك بقذفك على القريب تجعل من يستمع إلى قذفك يصير في حالة رديئة. فإن كان شريرًا تجعله لا يبالي بشره، إذ يجد له من يشاركه في الشر. وإن كان بارًا ترفعه إلى التشامخ والعجرفة حيث تظهر له خطايا الآخرين فيحسب في نفسه أنه شيء!4
في الجلسة الأولى كانت الخصومة لدى الجبال والتلال؛ أما في الجلسة الثانية فاستدعى مدينة أورشليم ومعها الحكمة لتشاهد وتهاب اسمه القدوس.
صَوْتُ الرَّبِّ يُنَادِي لِلْمَدِينَةِ،
وَالْحِكْمَةُ تَرَى اسْمَكَ:
اِسْمَعُوا لِلْقَضِيبِ وَمَنْ رَسَمَهُ. [9]
يُترجم البعض "الحكمة"، "وذوو الحكمة"، فإذ ينادي الرب المدينة يستطيع ذوو الحكمة أن يروا اسمه، أي يميزوه ويتعرفوا عليَّ، فتعمل كلمته فيهم.
لعله يقصد هنا "قضيب التأديب الإلهي"، فقبل أن ينزل على المؤمن يتكلم، فإن سمع له المؤمن بروح الانسحاق والتواضع لا يسقط عليه. لنسمع كلمات من عينه أي خطط للتأديب، وبهذا نتمتع بالمراحم الإلهية.
أَفِي بَيْتِ الشِّرِّيرِ بَعْدُ كُنُوزُ شَرّ،
وَإِيفَةٌ نَاقِصَةٌ مَلْعُونَةٌ؟ [10]
ما هي كلمات القضيب الإلهي للتأديب؟ إنها كشف عن الظلم الذي يمارسونه ضد إخوتهم. يستعرض هنا قضية قديمة تلحق بالبشرية عبر الأجيال ألاَّ وهو ممارسة الظلم من قبل الأغنياء على الفقراء، فيظنون أنهم يزدادون غنى، لكنهم يخزنون كنوز شرٍ وعدم أمانة. إنها قضية الفساد المالي والاجتماعي والأخلاقي، بالرغم من تحذيرات الرب لنا.
إن ظن الظالم أنه جمع كنوزًا وفيرة، فهو إنما جمع كنوز شرٍ تلحق بنفسه، وإن ظن أنه بغشه في الموازين نال خيرات كثيرة، فهو قد نال لعنة! يقول الحكيم: "كنوز الشر لا تنفع، أما البرّ فينجي من الموت" (أم 10: 2).
هَلْ أَتَزَكَّى مَعَ مَوَازِينِ الشَّرِّ
وَمَعَ كِيسِ مَعَايِيرِ الْغِشِّ؟ [11]
يقصد الغش بالمعنى الحرفي الضيق حيث يغشون البسطاء في الموازين؛ كما يقصد الغش بمعناها الواسع حيث يخدعون البسطاء بكلمات مغشوشة وطرق خادعة ليستولوا على حقولهم.
فَإِنَّ أَغْنِيَاءَهَا مَلآنُونَ ظُلْماً،
وَسُكَّانَهَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ،
وَلِسَانَهُمْ فِي فَمِهِمْ غَاشٌّ. [12]
ليس عجيبًا أن نرى أغنياءً ظالمين، فكلما نال الإنسان الكثير يزداد شرهه للاكتناز، ما لم تشبع نفسه في الداخل. فكثرة الممتلكات لا تروي الظمأ الداخلي.
يتحدث عن الأغنياء الجشعين الذين امتلأت قلوبهم بالظلم، كما امتلأت مخازنهم بما حصلوا عليه ظلمًا. يدفعهم الظلم إلى الكذب والالتجاء إلى الخداع ليحققوا ما يشتهونه. أما لسانهم فينطق بالغش، يخدعون أنفسهم "لأنهم يقولون: الرب لا يرانا؛ الرب قد ترك الأرض" (مز 8: 12).
v ليسرع الفم هاربًا من الأحاديث المشينة2.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يقول المرتل: "أبغضت كل فاعلي الإثم، تهلك المتكلمين بالكذب، رجل الدماء والغاش يكرهه الرب" (مز 5: 5-7).
v كل متكبر مخادع، وكل مخادع كاذب. يكدح البشر حين يتكلمون بالبطل، أما من ينطق بالحق فيتكلم بسهولة تامة... من يود أن ينطق بالحق لا يتعب، لأن الحق نفسه ينطق بلا تعب3.
القديس أغسطينوس
فَأَنَا قَدْ جَعَلْتُ جُرُوحَكَ عَدِيمَةَ الشِّفَاءِ،
مُخْرِباً مِنْ أَجْلِ خَطَايَاكَ. [13]
يصدر الحكم على المصرين على الظلم والغش والكذب بالتصاق المرض عديم الشفاء بهم. فإن ظنوا أن ما ينالونه يشبع اشتياقاتهم، إذا بهم يعانون من مرض داخلي مُستعصى شفاؤه، هو الشعور الدائم بالفراغ وعدم السلام.
v "أبغضت كل فاعلي الإثم، تهلك المتكلمين بالكذب" (مز 5: 5-6). فاعل الإثم يبغضه الله؛ والكاذب يهلك. هلم ننظر أي الحالين أشر، إن الله يبغضه أم أن يهلك. من يبغضه الله حقًا غير سعيد، إذ يعيش في عداوة مع الله، إلاَّ أنه لا يزال حيًا (تُرجى توبته)، أما الكاذب فيهلك ولا يعود يوجد. للأسف من يكذب هو أشر من فاعل الإثم... "الفم الكاذب يقتل النفس" (الحكمة 1: 11)3.
القديس جيروم
أَنْتَ تَأْكُلُ وَلاَ تَشْبَعُ، وَجُوعُكَ فِي جَوْفِكَ.
وَتُعَزِّلُ وَلاَ تُنَجِّي،
وَالَّذِي تُنَجِّيهِ أَدْفَعُهُ إِلَى السَّيْفِ. [14]
إنهم يأكلون لكنهم لا يشبعون، لأنهم مزجوا طعامهم بالشر، فحرموا أنفسهم من البركات الإلهية. لا يفارقهم الشعور بالجوع مهما أكلوا ونالوا. "يوسعون أنفسهم كالهاوية، ولا يشبعون" (حب 2: 5). "لماذا تزنون فضة بغير خبزٍ؟ وتعبكم بغير شبعٍ؟" (إش 55: 2). "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخلٍ؛ هذا أيضًا باطل" (جا 5: 10).
"وتعزل (تمسك) ولا تنجي" ]14[. قدر ما يمسك الظالم بما هو للغير، ويحسب أنه قد اقتناه سرعان ما يجده قد فلت من بين يديه وهرب ولم يقدر أن ينجيه. فما يمسك به الظالم بشدة لكي لا يفلت من يديه يخسره سريعًا. وما يظنه عزيزًا جدًا لديه إذا به يضيع منه، وإن استخدم الظالم كل وسيلة لحفظ مال الظلم إذا بالسيف الإلهي يمزقه، فيكون كلا شيء.
v الإنسان الجشع ليس غنيًا. إنه في عوزٍ إلى أمورٍ كثيرة، وبينما هو في حاجة إلى الكثير لا يقدر أن يكون غنيًا. إنه حافظ للثروة وليس سيدًا عليها. إنه عبد وليس أميرًا. فإنه مستعد أن يعطي جزءًا من جسمه ولا يعطي من ذهبه المدفون... بالتأكيد هذا ليس ملكه، لأنه يعجز عن أن يقرر أن يعطي الآخرين، ولا أن يوزع الضروريات، بل يكنز له عقوبات لا نهائية، فكيف تكون ملكًا له. إنه يقتني هذه الأشياء التي ليس له الحرية في استخدامها ولا في التمتع بها[108].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أَنْتَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ.
أَنْتَ تَدُوسُ زَيْتُوناً وَلاَ تَدَّهِنُ بِزَيْتٍ
وَسُلاَفَةً وَلاَ تَشْرَبُ خَمْراً. [15]
يظن الظالم أنه يزرع لكي يحصد، لكن سرعان ما يذبل زرعه، ويتبدد عمله، فلا يحصد شيئًا. قد يجمع زيتونًا ويدوسه في المعصرة لكي تمتلئ مخازنه بالزيت، لكنه لا يدهن بزيتٍ، إما لأن زيتونه لا ينتج زيتًا، أو يفقد ما ينتجه من زيت. وهكذا بالنسبة للسلافة (عصير العنب)، فإنه حتى وإن عصر عنبًا فلا يشرب خمرًا. بمعنى آخر قد يسمح الله للظالم أن يفقد كل ما جمعه، وإن ترك له الغنى يملأ مخازنه يصيبه بما لا ينتفع من هذا الغنى، فتكون مخازنه مملوءة زيتًا وخمرًا لكنه يعجز عن أن يدهن جسمه بزيتٍ أو يشرب كأس خمرٍ!
وَتُحْفَظُ فَرَائِضُ عُمْرِي
وَجَمِيعُ أَعْمَالِ بَيْتِ أَخْآبَ
وَتَسْلُكُونَ بِمَشُورَاتِهِمْ لِكَيْ أُسَلِّمَكَ لِلْخَرَابِ
وَسُكَّانَهَا لِلصَّفِيرِ،
فَتَحْمِلُونَ عَارَ شَعْبِي. [16]
عُمري وآخاب مثلين خطيرين (1 مل 16: 22) للجشع والظلم؛ واستخدما سلطانهما لسلب الفقراء، ولم ينالا شيئًا!
إذ ملك عُمرى على اسرائيل قاد الشعب إلى عبادة الأوثان (1 مل 21:16- 26). وجاء ابنه آخاب اشر ملوك إسرائيل (1 مل 16: 2- 33).
"أسلمك للخراب، وسكانها للصفير" ]16[. يخرب الشر الأمة ويدمرها، فتصير عارًا، تستهزئ بها الأمم الشامتة فتصفر في سخرية. ومما يزيد الأمر سوءًا أن هذا يحدث مع شعب الله، فعوض تمتعهم بالأمجاد الإلهية أمام السمائيين، يصيرون عارًا أمام الأمم الوثنية، بل وينحدرون إلى العار الأبدي في يوم الرب العظيم (دا 12: 2).
من وحي ميخا 6
من يتبرر أمامك؟
v إن حاكمت يا رب من يتبرر أمامك؟
هوذا السماء والأرض تشهدان لعملك معي!
أعمالك فائقة، وحبك عجيب!
اخبرني كيف أتزكى أمامك؟
v أخرجتني من عبودية إبليس،
وحملتني إلى حرية مجد أولاد الله!
كما أخرجت شعبك من عبودية إبليس،
ودخلت به إلى أرض الموعد!
حطمت مقاومة إبليس لخلاصي،
كما أفسدت مؤامرة بلعام المحب لأجرة الظلم.
v أخبرني، بماذا أرضيك يا إلهي؟
لست محتاجًا إلى تقدماتي ولا إلى عطاياي،
فالسماء والأرض من عمل يديك!
لست محتاجًا إلى صلواتي وعبادتي،
فأنت كلي المجد في ذاتك!
v حقًا إنك تطلبني أنا، لا ما لدي،
تطلب قلبي فتقيمه سماءً،
وتطلب فكري لتملأه من أسرارك،
وتطلب حبي لإخوتي لتفيض عليَّ بالحب!
تطلبني أسلك معك بتواضعٍ،
فترفعني إلى سماواتك!
v اعترف لك بكل فسادٍ دبّ فيّ!
انزع عني موازين الغش والكلمات المخادعة،
انزع عني كل ظلم وأنانية.
فالعالم يعجز عن أن يشبع نفسي.
والخطية تخلع عليّ العار والخزي!
v أنت وحدك كل شيء ليَّ.
أقتنيك، فاقتني الحق،
اشبع بك، فلن أجوع،
أحملك في داخلي فامتلئ من بهاء مجدك.
أنت الكل ليَّ،
ومعك لا أطلب شيئًا!
لك المجد يا واهب البركات!
إذ يكتشف النبي عن شوق الله نحو الدخول في محاجة مع شعب ليدفعهم نحو التمتع بحبه عوض انغماسهم في الفساد، يعلن النبي عن مرارة نفسه بسبب الفساد المتفشي بين شعبه. لكنه يعود فيرى خطة الله للخلاص فيفرح ويمجد الله. فإن كان قد رفع دعوى قضائية ضد شعبه، وأشهد الأرض كلها عليه، فإنه ليس ليعلن عن عدله قدر ما ليكشف عن مجد حبه لكل نفسٍ ترجع إليه. فهو ليس في حاجة لمن يشهد لعدله وبرَّه وحتى محبته، وإنما يود أن يهيئ سكب حبه في قلوب كل البشرية.
يبدأ هذا الأصحاح بالويل والمرارة وينتهي بالفرح والتسبيح.
1. اعتراف بالخطأ [1-10].
2. وعد إلهي بالبركات [11-13].
3. التماس أخير لصالحهم [14-17].
4. مجدلة: نصرة النعمة الإلهية [18-20].
في هذه الدعوى تنفضح البشرية كلها، فلا تقدر أن تبرر جحودها وعدم أمانتها أمام الله الأمين في حبه لها، فتعلن الحقيقة المرّة. إنها قد صارت ككرْمٍ بلا ثمرٍ، وتينةٍ بلا باكورةٍ. سرت البغضة في دماء البشر، فحملوا الكراهية، الشخص ضد أخيه، وتسلل سفك الدماء بينهم بلا مبرر، وصارت العداوة بين أفراد الأسرة ذاتها.
وَيْلٌ لِيّ لأَنِّي صِرْتُ كَجَنَى الصَّيْفِ،
كَخُصَاصَةِ الْقِطَافِ.
لاَ عُنْقُودَ لِلأَكْلِ،
وَلاَ بَاكُورَةَ تِينَةٍ اشْتَهَتْهَا نَفْسِي. [1]
صورة مؤلمة عن مدى الجفاف الذي حلَّ بالمملكة بسبب الشر. هذا يتناسب مع عصر آحاز أشر ملوك يهوذا أو بداية عصر حزقيا قبل حركة الإصلاح. ويرى البعض أنه يتنبأ عما ستؤول إليه المملكة في أيام منسى.
تبدو يهوذا وأورشليم كبستان بعد القطاف، منظر الأوراق جميل للغاية، لكنه لا يجد الإنسان عنقودًا واحدًا ولا تينة يأكلها.
بقوله: "ويل ليّ" يحسب أن ما حلّ بالمملكة كلها إنما كما لو حلّ به وحده، إذ ينسب كل مرارة يعيش فيها الشعب إنما يذوقها هو. هذه هي مشاعر رجال الله الصادقة، فنسمع أنات إرميا النبي: "أحشائي! أحشائي! توجعني جدران قلبي. يئن فيَّ قلبي!" (إر 4: 16). "من مُفرج عني الحزن؟ قلبي يئن فيّ... من أجل سحق نبت شعبي انسحقت. حزنت، أخذتني دهشة" (إر 8: 18، 21).
v من المتكلِّم حين يقول النبي: "ويل ليّ يا نفسي، فقد صرت كمن يجمع قشًّا في الحصاد؟" فهل يجمع النبي قشًّا حرفيًّا، أو حتى يُريد أن يجمع؟ هل لدى النبي حقل؟ على أي الأحوال، الوحيد الذي بحق يجمع ممَّا يزرعه كمحصولٍ، ليس النبي بل الرب المخلِّص يسوع المسيح. وحيث توجد أخطاء كثيرة بين الأمم الوثنيَّة بل وأيضًا بين الذين يُظن أنَّهم من الكنيسة، لهذا يحزن النبي وينوح على خطايانا حين يقول: "ويل ليّ، إذ صرت كمن يجمع قشًّا" (مي 7: 1). ليت كل واحدٍ يفحص بدقَّة نفسه. هل هو سنبلة قمح؟ هل يكتشف ابن الله فيه شيئًا ليلتقطه أو يحصده؟ هل نجد بعضًا منَّا تحملهم الرياح؟ حتى وإن كنا لا نزال قلَّة قليلة في أنفسنا، حبَّتين أو ثلاثة حبوب، فإن خطايانا كثيرة ضدَّنا. إذ يتطلع إلى الكنائس أو ما تُدعى بالكنائس مملوءة بالخطاة يقول: "ويل ليّ فقد جئت كمن يجمع عشبًا في وقت الحصاد، وكمن يجمع خصاصة (لقاط) العنب وقت صنع الخمر. يأتي (الرب) يطلب ثمرًا من الكرمة، فإن كل واحدٍ منَّا قد زُرع ككرمة في أرض خصبة (إش 5: 1)، أو ككرمةٍ نُقلت من مصر (مز 80: 8)، لكنها زرعت لكي تحمل ثمرًا (إر 2: 21). إنه يأتي ليلتقط، فيجد خصاصة عنب، وعناقيد قليلة؛ إنها ليست مزدهرة ولا مثمرة. من هو من بيننا يحمل عناقيد الفضيلة؟[109]
العلامة أوريجينوس
v يُغرْبل الأشرار مثل قشٍ خفيفٍ، أما الأبرار فيخلصون مثل حنطة ثقيلة. لهذا فلتنتبه إلى الرب وهو يقول لبطرس: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغرْبلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو 22: 31-32). الذين يُغربَلون كالقش يفنون، أما الذي لا يفنى، هذا الذي يشبه البذرة التي تسقط وتنبت، فإنها تزيد وتأتي بثمر كثير (لو 8: 8). هكذا يقول النبي: "ويلي، فقد صرت كمن يجمع الجُذامة (بواقي الحصاد) في الحصاد". هكذا يشبَّه الشر بالجُذامة، الذي يُحرق سريعًا، مع التراب. لهذا قال أيوب: "يكونون كالقش، يحملهم الريح" (أي 21: 18). وفي الحال أضاف سطرًا مختصرًا قائلاً: "مثل التراب تحمله الريح بعيدًا". حقًا، لكي يعرف أن الشريِّر يتفتَّت سريعًا ويتبدَّد كالتراب، تجد هذا واردًا في المزمور الأول: "كالتراب الذي يحمله الريح عن وجه الأرض"[110].
القدِّيس أمبروسيوس
قَدْ بَادَ التَّقِيُّ مِنَ الأَرْضِ،
وَلَيْسَ مُسْتَقِيمٌ بَيْنَ النَّاسِ.
جَمِيعُهُمْ يَكْمُنُونَ لِلدِّمَاءِ
يَصْطَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِشَبَكَةٍ. [2]
لقد باد الصالح من الأرض ولم يعد يُوجد من هو مستقيم بين الناس، فالحكام يغتصبون الممتلكات، والقضاة يرتشون، والخيانة دبٌت بين الأصدقاء، والكراهية وسط أعضاء الأسرة الواحدة. وهكذا صار الفساد عامًا بين الشعب. لكن يبقى الله أمينًا يقود شعبه من الظلمات إلى نوره العجيب.
تحولت المملكة البشرية إلى غابة كلٍ يود أن يفترس الآخر، ناموسها الظلم وسفك الدماء، يجد كل شخصٍ سعادته في اصطياد أخيه كما بشبكةٍ. وكما يقول المرتل: "خلص يا رب لأنه قد انقرض التقي، لأنه قد انقطع الأمناء من بني البشر. يتكلمون بالكذب، كل واحدٍ مع صاحبه بشفاهٍ ملقة بقلبٍ فقلبٍ يتكلمون" (مز 12: 1-2).
v لنحزن إلى حين فنفرح أبديًا. لنخشَ الرب، لنسبق فنعترف له بخطايانا. لنصحح ارتدادنا، ونصلح من أخطائنا، لئلا يُقال عنا: "ويل ليّ يا نفسي، لأن الإنسان التقي قد باد من الأرض، وليس من بين البشر من يصلح من أمرهم" (مي 7: 2 Lxx)[111].
القديس أمبروسيوس
v أقصد إن كان السَفرْ في ذاته مشقة، فإنه بالأكثر عندما يكون المسافر وحده، ليس من يشاركه رحلته؛ هذا هو الحال هنا. بمعنى آخر الشركة والتشجيع الأخوي ليس بالأمر الهين. لهذا يقول أيضًا بولس: "ولنلاحظ بعضنا بعضًا للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة" (عب 10: 24). لهذا السبب استحق القدامى أن يتجملوا (روحيًا)، ليس لأنهم مارسوا الفضيلة، وإنما لأنهم مارسوها بالرغم من غيابها مع ندرة من يفعلها في أي موضع. هذا، على أي الأحوال، ما يقصده الكتاب المقدس بقوله: "كان نوح رجلاً بارًا كاملاً في أجياله" (تك 6: 9).
على هذا الأساس نعجب من إبراهيم، ومن لوط، ومن موسى، إذ أشرقوا ككواكبٍ وسط ظلمةٍ دامسةٍ، كورودٍ وسط الأشواك، وكقطيع وسط ذئابٍ لا حصر لها، سالكين الطريق المضاد لكل واحدٍ آخر وبدون تردد. ها أنتم ترون كم يكون الأمر صعبًا في الصحبة عندما يأخذ واحد اتجاهًا مخالفًا لكثيرين، وعندما يسافر في اتجاه مضاد للجمهور، فإنه سيعاني من متاعب كثيرة. كما تجد السفينة صعوبة في الإبحار حينما تصدها الأمواج نحو الاتجاه المضاد، والأمر أكثر صعوبة في حالة الفضيلة[112].
v "ويل ليّ... قد باد التقي من الأرض" (مي 7: 1-2) هذا هو دورنا أن نحزن، أو بالحري نحتاج أن نقول هذا كل يوم. فإذ لا تنفع صلواتنا بشيءٍ ولا نصيحتنا ولا تحذيرنا بقي لنا أن نبكي. هكذا فعل المسيح، بعدما حث الذين في أورشليم ولم ينتفعوا شيئًا، بكى على محنتهم. هكذا أيضًا فعل الأنبياء، وهكذا لنفعل نحن أيضًا. من الآن فصاعدًا إنه وقت للحزن والدموع والنحيب. يليق بنا أيضًا أن نقول: "ادعوا النادبات فيأتين وأرسلوا إلى الحكيمات فيصرخن" (إر 9: 17). ربما بهذا نستطيع أن نزيل مرض الذين يحيطون أنفسهم بأراضٍ يقتنوها بالسلب[113].
v ليس شيء مزعجًا ومثيرًا للاضطراب أكثر من الاجتماع بشعبٍ كهذا، فإن الدخان والسخام لا يؤذي العينين مثلما تحطم الشركة مع الأشرار النفوس[114].
القديس يوحنا ذهبي الفم
اَلْيَدَانِ إِلَى الشَّرِّ مُجْتَهِدَتَانِ.
الرَّئِيسُ وَالْقَاضِي طَالِبٌ بِالْهَدِيَّةِ،
وَالْكَبِيرُ مُتَكَلِّمٌ بِهَوَى نَفْسِهِ، فَيُعَكِّشُونَهَا. [3]
ما بلغته المملكة أبشع من الغابة، لأنه توجد خطة مدروسة، تعمل القيادات معًا لكن بدون روح الحب، غايتها النهب والسلب والقتل. يدا كل واحدٍ منهم مجتهدتان في اصطياد النفوس وإهلاكها. فما تشتهيه قلوبهم، وما تنغمس فيه أفكارهم، تنفذه أياديهم بكل اجتهاد.
القادة الذين اؤتمنوا على الدفاع عن الحق، استخدموا سلطانهم لاقتناء المال، فيطلبون الرشوة على شكل هدايا؛ فيُلبسون الرذيلة ثوب الصداقة والفضيلة.
يُقصد بالكبير صاحب الثروة والسلطان، فإنه لا يخجل من أن يتكلم بصراحة عما في نفسه من هوى محبة المال، فيفسدون نفوسهم كما يفسدون نفوس من حولهم.
أَحْسَنُهُمْ مِثْلُ الْعَوْسَجِ
وَأَعْدَلُهُمْ مِنْ سِيَاجِ الشَّوْكِ!
يَوْمَ مُرَاقِبِيكَ عِقَابُكَ قَدْ جَاءَ.
الآنَ يَكُونُ ارْتِبَاكُهُمْ. [4]
لا يوجد شخص واحد يُعتمد عليه، فإن أفضلهم حاد كالعوسج، وأحكمهم كسياج الشوك. من يقترب منهم لا ينال منهم شيئًا سوى الجراحات والمتاعب. لقد صاروا أرضًا قفرًا، صدر ضدهم الحكم الإلهي: "شوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل" (تك 3: 18)، عوض أن يكونوا سماءً مقدسة تُنتج ثمر الروح من محبة وفرح وسلام وصلاح ووداعة وتعفف (غل 5: 22-23).
لاَ تَأْتَمِنُوا صَاحِبًا.
لاَ تَثِقُوا بِصَدِيقٍ.
احْفَظْ أَبْوَابَ فَمِكَ عَنِ الْمُضْطَجِعَةِ فِي حِضْنِكَ. [5]
مما أحزن قلب ميخا النبي أنه بالرغم من العمل معًا إلاَّ انه لا يأتمن الإنسان صديقه ولا زوجته! تدب الأنانية حتى بين أفراد الأسرة فيعمل كل فرد لحسابه ويخشى غيره. هكذا تفقد الأسرة الدفء الاجتماعي والروحي وينحل المجتمع خلال روح الأنانية والجشع.
إذ يسود الخداع حياة الإنسان لا يعود يأتمن حتى من هي في حضنه. يرى الأب يوسف أن شمشون إذ تزوج بامرأة شريرة مخادعة وكاذبة لم يستطع أن ينفذ هذه الوصية التي للنبي ميخا، فأباح بسرٌَه بعد أن كتمه زمانًا طويلاً، فكان ذلك سبب مرارة شديدة في حياته[115].
v قبل كل شيء يجب أن نلاحظ بكل اعتناء الوصية الإنجيلية التي تأمرنا أن ندخل مخدعنا ونغلق بابنا ونصلّي لأبينا. وهذا يتحقق كالآتي:
v نصلّي داخل مخدعنا عندما ننزع من قلوبنا الداخلية الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سرّي مغلق بيننا وبين الرب.
v نصلّي بأبواب مغلقة، عندما نصلّي بشفاه مغلقة في هدوء وصمت كامل لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات.
v نصلّي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتقدة بحيث لا نكشفها إلاَّ لله وحده، فلا تستطيع القوات المضادة (الشياطين) أن تكتشفها. لذلك يجب أن نصلّي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا وعدم إزعاجهم بهمسنا أو كلماتنا العالية، ونتجنب اضطراب أفكار المصلّين معنا، وإنما لكي نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذين يراقبوننا، وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصية: "احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك" (مي 7: 5)[116].
الأب إسحق
لأَنَّ الاِبْنَ مُسْتَهِينٌ بِالأَبِ،
وَالْبِنْتَ قَائِمَةٌ عَلَى أُمِّهَا،
وَالْكَنَّةَ عَلَى حَمَاتِهَا،
وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. [6]
حقًا إنه زمن رديء فيه يهين الابن أباه، وتقوم البنت على أمها، والكنة على حماتها. هكذا يُنزع من الكل حتى المحبة الطبيعية.
هذا وقد أشار السيد المسيح إلى موقف غير المؤمنين من المؤمنين حتى وإن كانوا إخوتهم أو أبناءهم، فيقول: "وسيسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ولده، ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلونهم، وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي" (مت 10: 21-22؛ لو 21: 16-17).
v ماذا يفعل السيف؟ سيف الكلمة يقطع خلال الدفاع. إنه يمارس عزل الشرير عن الصالح (عب 4: 12). بالحقيقة يخلق انقسامًا بين المؤمن وغير المؤمن ( مت 10: 35). بل قد يثير الابن والابنة والعروس ضد الأب والأم والحماة، الصغار النشيطين ضد الكبار الوهميِّين[117].
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
v "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). فإنه بالحق يوجد بين اليهود شيء مثل هذا. بمعنى يوجد أنبياء وأنبياء كذبة، فانقسم الشعب على ذاته، وحدث شقاق في العائلات، البعض آمن بواحدٍ والآخرون بالآخر. لذلك ينصحهم النبي: "لا تأتمنوا صاحبًا، لا تثقوا بصديقٍ، تحفظ من المضجعة في حضنك" و"أعداء الإنسان أهل بيته" (مي 7: 5-6) [118].
القديس يوحنا ذهبي الفم
وَلَكِنَّنِي أُرَاقِبُ الرَّبَّ،
أَصْبِرُ لإِلَهِ خَلاَصِي.
يَسْمَعُنِي إِلَهِي. [7]
الفساد العام لا يبرر انزلاقنا في الشر؛ فإن كان لا يوجد إنسان واحد مستقيم بين الناس، يلزمنا مع ميخا النبي أن نتطلع إلى الرب ونترقب خلاصه.
إذ يعترف الإنسان بشره وفساده ينفتح باب الرجاء في عمل الله الفائق. فإن الله كمحب للبشر، في غضبه، إنما يغضب على الخطية ولا يطيقها، أما عن جهة الخاطي فهو موضع حبه. لهذا بالتوبة الصادقة تميل أذنا الرب لتسمع أناته ويستجيب لصرخاته.
إذ تطلع النبي إلى المجتمع المحيط به بدا الأمر خطيرًا للغاية، إذ صار كمريضٍ لا يُرجى شفاؤه، أما وقد رفع عيني قلبه لله، فرأى أبواب الرجاء المشرقة أمامه وترنمت أعماقه بالتسبيح والتمجيد لله واهب النصرة، والمشرق بنوره على الظلمات فيبددها.
يعترف النبي بأن الله لم يتغير، هو الذي خلص في القديم، يخلص الآن، وسيخلص، فإنه يُسر بالرأفة ولا يحفظ إلى الأبد غضبه.
v "طوبى لمن إله يعقوب معينه، ورجاؤه على الرب إلهه" (مز 146: 5). هل ترون غنى التشجيع والنصيحة؟ الآن إذ يُشير إلى التطويب، يقصد نوال كل البركات، ويظهر آفاق الرجاء. لهذا بعدما أشار إلى تطويب من يترجى الله، أظهر قوة المُعين، مبينًا أن الكائن البشري غير الله، واحد يهلك والآخر يبقى. ليس فقط يبقى هو بل وتبقى أعماله. لهذا أضاف الصانع السماوات والأرض البحر وكل ما فيها" (مز 146: 6)... ويضيف "الحافظ الأمانة إلى الأبد". هذا هو دوره؛ وهذه هي عادته؛ هذه هي سمة الله الخاصة به؛ أنه لا يتجاهل المخطئين، ولا يهمل الذين في محنة، إنما يرفع يده لصالح ضحايا المتآمرين، ويفعل هذا على الدوام[119].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هكذا إذ تظلم الصورة جدًا أمام عيني رجال الله، يرفعون نظرهم إلى الله مترجين عمله، فهو إله المستحيلات، ليس من رجاء للخلاص إلاَّ في الله وحده مخلص العالم. لم يترجَ ميخا النبي إنسانًا ما ليصلح حال شعب الله، أو حال البشرية، إنما يتطلع إلى مخلص العالم وحده. هذا أيضًا ما عبر عنه المرتل في المزمور 146.
v يقول النبي لكل شخصٍ بصفة عامة: لا تتكلوا على الرؤساء ولا على الأباطرة، ولا الحكام ولا قضاة هذا العالم (راجع مز 146: 3)... من هم الرؤساء؟ أبناء البشر. من هم أبناء البشر؟ هم الذين لا خلاص عندهم (مز 146: 3). "تخرج روحه فيعود إلى ترابه" (مز 146: 4). عندما يعود إلى ترابه، ماذا يحدث؟ "في ذلك اليوم تهلك أفكاره". كل اعتماد على الرؤساء باطل، كل خططهم تهلك... كثيرون يتكلون على رئيس. إنه موجود اليوم، غدًا لا يعود يوجد[120].
القديس جيروم
بقوله "أصبر لإله خلاصي" يعلن النبي أنه لا يلقي باللوم على الظروف المحيطة به، ولا على الله الذي سمح بالضيق، وإنما يتقبل تأديب الرب بصبرٍ لأجل خلاصه وخلاص إخوته. وكما يقول إرميا النبي في مراثيه: "لماذا يشتكي الإنسان الحيّ الرجل من قصاص خطاياه؟ لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب. لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى الله في السماوات. نحن أذنبنا وعصينا" (مرا 3: 39-42). لنشكو أنفسنا ولا نشكو الأيام التي نعيشها. لنحتمل التأديب كدافع للتوبة، فنتمتع بالشركة مع "إله خلاصنا"، عندئذٍ "يسمعني إلهي".
لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي.
إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ.
إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ، فَالرَّبُّ نُورٌ لِيّ. [8]
إذ يعترف الإنسان بظلمته ويدرك أن الرب نور له لا يعود يخشى عدوًا ما، ما دام الرب معه. فإنه وإن سقط وكاد أن يتحطم يجد يديّ الله تنتشله وتقيمه. وكما يقول المرتل: "إذا سقط لا ينطرح، لأن الرب مسند يده" (مز 37: 24). وإن جلس في الظلمة يشرق عليه الرب فينيره. كما يقول: "يرى ذلك مبغضيَّ فيخزوا، لأنك أنت يا رب أعنتني وعزيتني" (مز 86: 17). فمع كل عملٍ إلهيٍ في حياة التائب يُصاب عدو الخير وجنوده بخيبة أملٍ وخزيٍ وعارٍ.
v السقوط في الضعف ليس فيه خطورة، إن كان الإنسان متحررًا من الرغبة في (السقوط). لتكن لك الإرادة أن تقوم. إنه مستعد، ذاك الذي يقيمك[121].
v ليتنا لا نفرح بخطية أحدٍ بل بالحري نحزن، إذ مكتوب: "لا تشمتي بي يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي..." (مي 7: 8-10). وهذا ليس عن عدم استحقاق، فإن من يفرح بسقوط آخر إنما يفرح بنصرة الشيطان. حري بنا أن نحزن عندما نسمع عن أحدٍ يهلك هذا الذي مات المسيح من أجله. هذا الذي لا يحتقر حتى القش في وقت الحصاد... فقد قيل: "ويل ليّ، لأني صرت كمن يجمع القش في الحصاد، وفضلات العنب في الكرمة" (راجع مي 7: 1)، لكي ما يأكل بكور ثمر نعمته فيٌَ[122].
القديس أمبروسيوس
أَحْتَمِلُ غَضَبَ الرَّبِّ،
لأَنِّي أَخْطَأْتُ إِلَيْهِ،
حَتَّى يُقِيمَ دَعْوَايَ وَيُجْرِيَ حَقِّي.
سَيُخْرِجُنِي إِلَى النُّورِ.
سَأَنْظُرُ بِرَّهُ. [9]
حلول الضيق بسبب انتشار الفساد دفع النبي إلى مراجعة نفسه ليعترف بخطئه في حق الرب، لذا يقبل كل تأديب، فيدافع الرب عن استقامته. يعترف الشخص بسقطاته، ويستره الرب ببرِّه، ويحفظه بنعمته الإلهية. لا يرى النبي في الضيق رفض الرب له، بل رغبته الإلهية في دفعه إلى التوبة وتمتعه بالشركة معه.
يشعر بحاجته إلى يد الله العاملة لبنيانه. هذه هي علامة قبول النور الإلهي: التسليم الكامل بين يدي الله صانع الخيرات، وواهب البرّ.
v نحن أحيانًا نحتمل مرضًا عقوبة (تأديبًا) عن خطيَّة بقصد تغييرنا. يقول الكتاب المقدَّس: "من يحبه الرب يؤدبه" (أم 3: 12). مرة أخرى يعلمنا الكتاب المقدَّس "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا. ولكن إذ قد حُكم علينا نؤدَّب من الرب لكي لا نُدان من العالم" (1 كو 11: 30-32). لذلك عندما نحن الذين ننتمي إلى هذه الطبقة نتعرف على معاصينا. يصير من اللائق أن نحتمل في صمتٍ وبدون استخدام أدوية – كل الأحزان التي تحل بنا – متذكرين كلمات النبي: "احتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه" (مي 7: 9). علاوة على هذا يلزمنا أن نظهر دليلاً على تغييرنا بإظهار ثمارٍ تليق بالتوبة، متذكرين كلمات الرب: "ها أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضًا لئلاَّ يكون لك أشر" (يو 5: 14). أحيانًا أيضًا يحل المرض بنا كطلب الشرير، ويقبل سيدنا صانع الخيرات أن يتنازل فندخل في معركة مع الشرير، حاسبًا إيَّاه كخصمٍ قدير فيبطل تشامخه بواسطة الصبر البطولي لخدًّامه[123].
القدِّيس باسيليوس الكبير
وَتَرَى عَدُوَّتِي فَيُغَطِّيهَا الْخِزْيُ الْقَائِلَةُ لِيّ:
أَيْنَ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكِ؟
عَيْنَايَ سَتَنْظُرَانِ إِلَيْهَا.
الآنَ تَصِيرُ لِلدَّوْسِ كَطِينِ الأَزِقَّةِ. [10]
صورة رائعة لحياة النصرة! فإذ يتمتع المؤمن بنور الرب لا يخشى ظلمة إبليس ولا لذة الخطية ولا ضعف الجسد، ولا خداع العالم الشرير. يبدأ عدو الخير بتعيير الساقط، فيصرخ في سخرية: "أين هو الرب إلهك؟"، وكأن الله يعجز عن أن يحفظ أولاده من السقوط. لكن إذ يرى يد الله تُقيمه يصيبه الخزي.
يتطلع الإنسان في سقطته إلى نفسه وتعييرات العدو له، فيرى نفسه كطين الأزقة تحت الأقدام للدوس، لكن إذ تنتشله النعمة الإلهية يدرك إمكانيات الله العاملة فيه.
يَوْمَ بِنَاءِ حِيطَانِكِ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَبْعُدُ الْمِيعَادُ. [11]
يتمتع المؤمن بفيض من البركات، فإذ لا يعود يخشى العدو بكل مملكة الظلمة التي له، إذ يمتلئ رجاء أن الله نفسه يكون سورًا إلهيًا يحميه حتى النهاية. يسبح مع المرتل قائلاً: "الرب حصن حياتي". "الله ملجأ وقوة، عونًا في الضيقات وُجد شديدًا" (مز 46: 1).
v "الله ملجأ وقوة" (مز 46: 1). توجد ملاجئ ليس فيها قوة، عندما يهرب إليها أحد يزداد ضعفًا لا قوة. كمثالٍ: عندما تهرب إلى شخصٍ أعظم منك في العالم، لكي تجعل لك صديقًا قويًا، هذا يبدو ليّ أنه ملجأ. ومع هذا ما أكثر عدم ثبات هذا العالم، فقد يتحطم صاحب السلطان يومًا فيومًا، فعندما تأتي إلى مثل هذا الملجأ تخاف بالأكثر... ملجأنا ليس هكذا؛ ملجأنا هو قوة. عندما نهرب إليه نكون ثابتين[124].
القديس أغسطينوس
هُوَ يَوْمٌ يَأْتُونَ إِلَيْكِ مِنْ أَشُّورَ وَمُدُنِ مِصْرَ
وَمِنْ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ.
وَمِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ.
وَمِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْجَبَلِ. [12]
يقدم لهم النبي الوعد الإلهي بالرجوع من السبي حيث يأتون من بابل إلى أرض الموعد، ويتركون مصر التي هرب بعضهم إليها أثناء السبي ليحتموا فيها. إنهم يرجعون لا في مذلةٍ ولا في خوفٍ، بل ينطلقون "من البحر إلى البحر، ومن الجبل إلى الجبل"؛ أي بغير تراجع، يسيرون من قوة إلى قوة.
وَلَكِنْ تَصِيرُ الأَرْضُ خَرِبَةً بِسَبَبِ سُكَّانِهَا،
مِنْ أَجْلِ ثَمَرِ أَفْعَالِهِمْ. [13]
مرة أخرى يحذرهم من الرجوع إلى الخطية والفساد بعد عودتهم من السبي، فالله الذي يهبهم قوة وكرامة بالعودة من السبي إلى أرض الموعد يسمح بخراب الأرض متى رجعوا إلى فسادهم القديم.
يدعو الله أن يتطلع إلى قطيعه وميراثه فإنه ساكن كما في أماكن وعرة على جبل الكرمل؛ أو كغنمٍ تائهٍ في غابة، يحتاج إلى راعٍ سماويٍ قادرٍ بعصا محبته الحانية أن يرده إليه.
يسأله أن يرعاهم ويحميهم بعصاه وليس بعصا الأعداء، فإنهم شعبه، ليس من يهتم بهم مثله! يردهم من وسط الغابات والجبال الوعرة إلى سهول باشان وجلعاد؛ إنه راعي الخراف العظيم (عب 13: 20) الذي يبذل نفسه عنهم.
اِرْعَ بِعَصَاكَ شَعْبَكَ غَنَمَ مِيرَاثِكَ،
سَاكِنَةً وَحْدَهَا فِي وَعْرٍ فِي وَسَطِ الْكَرْمَلِ.
لِتَرْعَ فِي بَاشَانَ وَجِلْعَادَ كَأَيَّامِ الْقِدَمِ. [14]
إذ يدرك النبي أن الالتجاء إلى الله هو الصلاة، يرفع قلبه إلى الله، الراعي الصالح، ليقود شعبه بمراحمه كما في القديم، في الأيام المجيدة.
يدعو النبي الشعب "غنم ميراث الله"، إذ هم غنم رعايته (مز 79: 13؛ 100: 3)، وقطيعه الصغير (لو 12: 32)، وهم نصيبه (إر 12: 10)، وميراثه (مز 94: 5)، حبل نصيبه (تث 32: 9). وكأنه يطلب من الله أن يتطلع إلى شعبه، بكونه الراعي المهتم برعيته، والمالك الذي يحفظ ملكيته.
v "نحن شعبه وغنم مرعاه" (مز 100: 3)... هذا القطيع هو قطيع واحد! انظروا أي راعٍ محب لنا! إنه ترك التسعة وتسعين ونزل يطلب الواحد. لقد رده على منكبيه (لو 15: 4-5)، وفداه بدمه. هذا الراعي مات بدون خوفٍ من أجل القطيع، هذا الذي بقيامته رد قطيعه إليه[125].
القديس أغسطينوس
كَأَيَّامِ خُرُوجِكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ أُرِيهِ عَجَائِبَ. [15]
يستجيب الله لطلبة النبي وشفاعته عن شعبه، فيقدم الله عجائب كما فعل عند الخروج من مصر، حيث حلّ الرعب بالأمم الوثنية.
v اسمعوا ما هو أكثر عجبًا، أن أسرار الأسفار القديمة الخفيَّة والمحتجبة الآن إلى حدٍ ما تعلن بواسطة الأنبياء القدامى. فإن ميخا النبي تكلم هكذا: "كأيام خروجك من أرض مصر أريه عجائب" (مي 7: 15)... خطايانا تُبتلع وتنطفئ في المعموديَّة، ذلك كما غرق المصريون في البحر. "لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسر بالرأفة الثابتة... أنت تطرح كل خطايانا في البحر" (راجع مي 7: 19)[126].
القدِّيس أغسطينوس
يَنْظُرُ الأُمَمُ وَيَخْجَلُونَ مِنْ كُلِّ بَطْشِهِمْ.
يَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَصُمُّ آذَانُهُمْ. [16]
ماذا يفعل الراعي العجيب؟ يصنع بشعبه عجبًا. فتتطلع الأمم المحيطة بشعبه والتي شمتت بهم وكانت تقف في وجههم يوم بليتهم، فيصطادون الهاربين ويبيعونهم عبيدًا أو يسلمونهم للسبي. الآن تقف هذه الأمم في ذهول أمام رعاية الله لشعبه، فيضعون أيديهم على أفواههم ويصمون آذانهم، إذ لا يستطيعون النطق بكلمة واحدة ضد شعب الله، ولا يحتملون أن يسمعوا أخبارهم المفرحة.
هذا هو عمل الله الفائق مع كنيسته، حين ترجع إليه بالتوبة، ومع كل نفس تائبة، حيث يردها الله من العار والخزي إلى أمجاد داخلية فائقة.
يَلْحَسُونَ التُّرَابَ كَالْحَيَّةِ كَزَوَاحِفِ الأَرْضِ.
يَخْرُجُونَ بِالرِّعْدَةِ مِنْ حُصُونِهِمْ،
يَأْتُونَ بِالرُّعْبِ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِنَا وَيَخَافُونَ مِنْكَ. [17]
إن كانت الأمم المقاومة للحق الإلهي تشٌَبه بزواحف الأرض التي تلحس التراب، فإن الله في حبه يسمح لعدو الخير أن يجربنا، لكن في التجربة يلمس عدو الخير - الحية القديمة - ما فينا من ترابٍ، لكي ما نتزكى أمام الله. وكما يقول القديس أمبروسيوس[127] في حديثه عن التوبة أن بولس الرسول طلب من أهل كورنثوس أن يُسلم الزاني للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص نفسه (1 كو 5: 5) حيث يلحس الشيطان ما فيه من ترابٍ، أما نفسه فلا يمسها!
كل ما يستطيع عدو الخير وجنوده أن يفعلوا هو أن يلحسوا التراب الذي يلحق بأرجلنا. وكما يقول المرتل: "وأعداؤه يلحسون التراب" (مز 72: 9). ويقول الرب نفسه للكنيسة: "يسجدون لكِ ويلحسون تراب رجليكِ، فتعلمين أنيّ أنا الرب الذي لا يخزى، فتنظروه" (إش 49: 23).
يقول العلامة أوريجينوس أنه قد صدر الحكم على الإنسان بعد سقوطه: "أنت تراب وإلى ترابٍ تعود" (تك 3: 19)، أما وقد تمتع بالشركة مع آدم الثاني فيسمع الصوت الإلهي: "أنت سماء وإلى سماءٍ تعود". فعمل الراعي الصالح أن يحولنا من اللعنة الأولى في آدم الأول إلى البركة في آدم الثاني، فنصير سماءً مقدسة. بهذا لا تجد الحية فينا ما تأكله، إذ لا تجد التراب مأكلها.
يختم النبي السفر بالمجد له، مسبحًا الله الذي من هو مثله:
أ. إنه إله الحب الغافر [18].
ب. إله القوة المخلَّصة [19].
ج. إله الأمانة الدائمة [20].
مَنْ هُوَ إِلَهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ،
وَصَافِحٌ عَنِ الذَّنْبِ لِبَقِيَّةِ مِيرَاثِهِ!
لاَ يَحْفَظُ إِلَى الأَبَدِ غَضَبَهُ،
فَإِنَّهُ يُسَرُّ بِالرَّأْفَةِ. [18]
هذه هي مسرة الله، أن يغفر، واهبًا رحمته، معلنًا عن حبه.
يستخدم ميخا اسمه الذي يعني "من مثل الله؟" ليسبح الله كغافرٍ للخطايا. يرى الحكيم سليمان أن المؤمن العاقل أو الحكيم يقتدي بالله غافر المعاصي لإخوته المخطئين إليه: "تعقل الإنسان يبطئ غضبه وفخره الصفح عن معصية" (أم 19: 11).
في حديث البابا أثناسيوس عن مساواة الابن والآب ووحدتهما يقدم هذه العبارة عن دور الآب في مغفرة الخطايا ثم يكمل: [ولكن الابن قال لمن أراد: "مغفورة لك خطاياك". كمثال عندما تذمر اليهود أعلن عن مغفرة الخطايا بالعمل، قائلاً للمفلوج: "قم، احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مت 9: 6)[128]].
v "من يقدر أن يغفر خطايا إلاَّ الله وحده" (مر 2: 7). فإنهم إذ وضعوا بأنفسهم هذا التعريف، وضعوا القاعدة، وأعلنوا الناموس، أراد أن يربكهم بذات كلماتهم. يقول: "لقد اعترفتم بأن غفران الخطايا خاص بالله وحده، إذن فمساواتي له (للآب) ليست موضع تساؤل". فإنه ليس هؤلاء الرجال وحدهم أعلنوا هذا، وإنما قال النبي هكذا: "من هو إله مثلك؟" وعندئذ أشار إلى السمة الخاصة به، مضيفًا: "غافر الإثم، وصافح عن الذنب" (مي 7: 18). إذن إن ظهر أحد هكذا يفعل ذات الأمر فهو الله، هو الله الواحد. لنلاحظ كيف حاورهم المسيح بوداعةٍ ورقةٍ وكل حنوٍ[129].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كان الكلمة مخلوقًا، فكيف يمكنه أن يبطل حكم الله ويغفر الخطية، بينما كُتب في الأنبياء أن هذا من عمل الله؟ فإنه "من هو إله مثلك غافر الإثم ومتغاضً عن المعصية؟" بينما يقول الله: "إنك تراب وإلى التراب تعود" (تك 3: 19)، ويصير كل البشرية مائتين، كيف في إمكانية المخلوقين أن يبطلوا الخطية؟ لكن الرب نفسه هو الذي يبطلها، إذ يقول بنفسه: "إن لم يحرركم الابن" (انظر يو 8: 36)، فالابن الذي يحرر يظهر بالحق أنه ليس مخلوقًا ولا من بين المخلوقات، بل هو الكلمة الذاتي، وصورة جوهر الآب، الذي أصدر في البداية الحكم (بموت آدم) وهو وحده يمحو الخطايا. وإذ قيل بالكلمة: "أنت تراب وإلى التراب تعود" هكذا صار لائقًا أنه بالكلمة ذاته وبه تتحقق الحرية ويصير إبطال الدينونة[130].
البابا أثناسيوس الرسولي
v لكي تعرف مدى عظمة معجزة مغفرة الخطايا، أقدم لك نبيًا كشاهدٍ ليّ. هذا النبي يظهر أن مغفرة الخطايا ليست من عمل أحدٍ غير الله وحده عندما يقول: "من هو إله مثلك غافر الإِثْمَ وصافح الخطايا؟" (مي ٧: ١٨). فإن جلب النفوس إلى الملكوت أعظم من تحطيم الموت. لقد قاد النفوس إلى الملكوت، وقد فعل هذا بقوته[131].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ليتنا لا نصغي إلى الشيطان عندما نُقتنص في متاعب العالم، سواء خلال ألمٍ جسديٍ أو فقدان أبناء، أو متاعب أخرى. ليتنا لا نستمع إلى الخصم إذ يقول: "الآن، أين هو الرب إلهك؟" (مي 2: 17)، عندما نعاني من ألمٍ عنيفٍ يلزمنا أن نحذر من تجاربه، فإنه يحاول أن يضل النفس القلقة. إذ تتطلع النفس إلى أعمال الله العجيبة ترى نفسها أنها في السماء فعلاً، بينما يزحف الشيطان حولها مثل حيَّة على الأرض. هكذا يقول النبي: "من هو الله مثلك، غافر الآثام وماحي المعاصي لبقيَّة ميراثك"[132].
القدِّيس أمبروسيوس
يَعُودُ يَرْحَمُنَا يَدُوسُ آثَامَنَا،
وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ. [19]
يطرح الله خطايانا في أعماق بحر محبته الغافرة، فلا يعود يذكرها. يقول إرميا النبي: "مراحمه جديدة في كل صباح" (مرا 3: 23)، فمع كل صباح نتطلع إليه كأبٍ غافرٍ لخطايا أبنائه، وساكب الحب في قلوبهم، يردهم دومًا إليه. إنه يطرح خطايانا كما في البحر الأحمر مع فرعون وجنوده، فلا يعود يذكرها. وكما قيل عن الإنسان التائب: "كل معاصيه التي فعلها لا تُذكر عليه؛ في برِّه الذي عمل يحيا" (حز 18: 22). ويقول الرب: "قد محوت كغيمٍ ذنوبك، وكسحابةٍ خطاياك. ارجع إليَّ لأني فديتك" (إش 44: 22).
v يليق بنا أن نعطي ثوبًا لمن ليس لديه ثوب نهائيًا. من هو الشخص الذي بلا ثوب؟ إنه ذاك الذي ينقصه الله تمامًا. لذلك وجب علينا أن نجرِّد أنفسنا ونعطي من هو عارٍ. واحد له الله، وآخر ليس له الله نهائيًا، لنعطي ذاك الذي ليس له الله. يقول النبي في الكتاب المقدَّس: "يلزمنا أن نطرح خطايانا في البحر". يكمل يوحنا: "من له طعام فيفعل هكذا" (لو 3: 11). من معه طعام فليعطي من ليس معه نهائيًا. يليق به أن يعطيه بسخاء، ليس فقط الملبس، بل أيضًا ما يمكن أن يأكله[133].
العلامة أوريجينوس
v إنها نعمة المعمودية التي تُشير إليها نبوة ميخا: "يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطايانا (خطاياهم)" (مي 7: 19)[134].
القديس جيروم
تَصْنَعُ الأَمَانَةَ لِيَعْقُوبَ،
وَالرَّأْفَةَ لإِبْرَاهِيمَ،
اللَّتَيْنِ حَلَفْتَ لآبَائِنَا مُنْذُ أَيَّامِ الْقِدَمِ. [20]
إنه أمين، سبق فوعد إبراهيم بالرأفة وأكد وعده ليعقوب، ويبقى يتمم وعوده لآبائنا القديسين مادمنا نسلك بروح الإيمان العامل بالمحبة.
أقسم الرب ونحن نؤمن أنه حتمًا يتمم وعوده لنا (عب 6: 18-20).
يا لغنى نعمتك العجيبة!
v أحببتني أنا كرمتك المحبوبة!
قدمت ليّ كل إمكانية لتقيم فردوسك في داخلي!
لكن في غباوة جحدت كل عطاياك.
صرت برية قفرة بلا ثمرٍ!
تحولت إلى أرض تنبت شوكًا وحسكًا!
v يدايّ تحولتا لعمل الشر.
وفكري انشغل بما لا يليق بك.
وقلبي ضاق عن الحب.
لقد فسد الرئيس والقاضي والكبير فيّ.
صرت عوسجًا وشوكًا لا نفع ليّ!
v فقدت سلامي الداخلي،
فلم أعد أأتمن صاحبًا،
ولا أثق في صديقٍ أو قريبٍ!
تحولت أعماقي إلى أرض معركة.
صراع بين شهوات الجسد وشهوات الروح!
ونزاع بين العقل والعاطفة.
كل ما في داخلي صار في ارتباك شديد!
v صوتك دعاني وأقامني من المذلة.
رفعتني من العبودية إلى حرية مجد أولاد الله.
الآن أصرخ في وجه الحية القديمة قائلاً:
لا تشمتي بيّ يا عدوتي،
إذا سقطت أقوم،
إذا جلست في الظلمة فالرب نور ليّ!
v تحولت تأديبادتك ليّ إلى عزٍ ومجدٍ!
أخرجتني من هاوية الخطية إلى فردوس برَّك!
أطلقتني لأعبر من قوة إلى قوةٍ،
وأرتفع بجناحي روحك القدوس من مجدٍ إلى مجدٍ!
ما أعجب رعايتك يا أيها الراعي الصالح!
v في كل ضيقاتي لم تستطع الحية أن تلدغني،
بل لحستْ كل تراب تعلق بقدمي،
صيرتني سماءً جديدة يسكنها برَّك!
وهبتني نصرة فوق نصرة بنعمتك العجيبة!
v لك المجد يا غافر الإثم والصافح عن الذنب!
لك المجد يا كلي الرحمة والرأفة!
[1] Cf. The Collegeville Bible Commentary, Minnesota, 1989, p. 510-511.
[2] Cf. Wycliffe Bible Commentary, Chicago, 1966, p. 851-852.
The Jerome Biblical Commentary, London, 1970, p.283.
[3] The Collegeville Bible Commentary, Minnesota, 1989, p. 509-510.
[4] Cf. Henerietta Mears: What the Bible is All About, chapter 23.
[5] The Collegeville Bible Commentary, Minnesota, 1989, p. 511.
[6] The Jerome Biblical Commentary, London, 1970, p.283.
[7] J.H. Raven: Old Testament Introduction, 1910, p. 229 ff.
[8] Letter, 45.
[9] In Thess., hom 5.
[10] Cf. Theodoret of Cyrus Commentary on Isaiah 1:2.
[11] In John, homily 20: 152-156.
[12] In Genesis, homily 4: 5.
[13] Life of Pachomius (Coptic-Bohairic) 1: 155.
[14] Commentary on Micah 1: 1: 4.
[15] Letter to Marcella, 40:1.
[16] Letter 62 : 1.
[17] Homilies on Matthew, homily 38:2.
[18] Homilies on Matthew, homily 14:6.
[19] Homilies on Matthew, homily 14:6.
[20] تأملات في مديح للقديس غريغوريوس النزينزي.
[21] عظة 7: 3.
[22] In 1 Corinth., hom. 9:8.
[23] Homilies on Ezekiel, homily 18 (2: 6).
[24] Cassian: Institutes, 7:1-2.
[25] الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 96.
[26] الأب الياس كويتر المخلصي: القديس باسيليوس الكبير، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، 1989، ص 115.
[27] Cassian: Institutes, 7:7-8.
[28] Cassian: Institutes, 7:23.
[29] Against Noetus, 15.
[30] On Ps. 138. . LXX معناها سبعون، وتشير إلى الترجمة السبعينية
[31] St. Cassian: Conferences, 24:24 .
[32] Flight from the World 5: 31.
[33] Hamilieson Ps. 60.
[34] Commentary on Isaiah 28:7.
[35] Commentary on Micah 1: 2: 13.
[36] Homilies on John, 52.
[37] Commentary on Micah 3: 1-4 PG 81: 1756.
[38] Homily 2 on Ps.5.
[39] Comm. On Ps.18.
[40] Homilies on Jer., hom. 19: 14: 9.
[41] Fragments from the catena, 15 (F. of the Church, vol. 97)
[42] Commentary on Tatian’s Diatessaron, 11: 8.
[43] James M. Freeman: Manners and Customs of the Bible, 1972, article 612.
[44] cf. St. John Chrysostom: Homilies on Second Corinthians, Homily 24:3.
[45] St. John Chrysostom: the Gospel of St. Matthew, Homily 68:1.
[46] Commentary on Micah 1: 3: 11.
[47] In defense of His Flight to Pontus, 2: 58.
[48] Theodoret of Cyrus, Commentary on Isaiah 2:2.
[49] PG 70:68D.
[50] PG 16:3.
[51] Commentary on Isaiah 2:2
[52] Tertullian: On Modesty
[53] St. Augustine: City of God 18:30.
[54] St. Athanasius: letter 59 to Epictetus, 2.
[55] On Ps 48
[56] City of God, 18: 30.
[57] Sibylline Oracle, 8: 299-300.
[58] Epitome of the Divine Institutes, 4: 17.
[59] Euripides Hippolytus. اقتبسها من ايريبيدس هيبولتيس ٦١٢
[60] Apology 1: 39.
[61] يوجه القديس يوستين حديثه لقضاة روما وشعبها.
[62] Commentary on Isaiah 2:2.
[63] Oration on the Holy Baptism, 25.
[64] Commentary on Micah 4: 1-3.
[65] Commentary on Micah 4: 13.
[66] Commentary on Isaiah 2:3.
[67] St. Irenaeus: Against Heresies, 4:34:4.
[68] The Incarnation of the Word, NPNF, Vol. 4, p. 64.
[69] James M. Freeman: Manners and Customs of the Bible, 1972, article 613.
[70] Jacob and the Happy Life, 2: 13.
[71] Banquet on the Ten Virgins 10: 5.
[72] On Paradise 1: 2.
[73] Commentary on Micah 2:4:5.
[74] Dialogue with Trypho, 110.
[75] Commentary on Micah.
[76] Commentary on Micah.
[77] Commentary on Micah.
[78] Commentary on Micah.
[79] Commentary on Micah 5:1 PG 71:709-712.
[80] St. John Chrysostom: the Gospel of St. Matthew, Homily 7:2.
[81] Tertullian: An Answer to the Jews, 13.
[82] St. Jerome: Letter 108:10.
[83] Homilies on Leviticus Homily 8: 4:3.
[84] On Ps 45.
[85] Sermon 373:4.
[86] Commentary on Micah.
[87] Dialogues 1.
[88] Letters, 151.
[89] Marius victorinus: Epistle ti the Ephesiaus 10: 2: 17.
ماريوس فيكتورينوس (حوالي 280-355م): عالم نحو قام بترجمة أعمال الأفلاطونيين، وإذ قبل الإيمان مؤخرًا (حوالي 355م) استخدم ذلك ضد الأريوسيين.
[90] Homilies on Matthew, homily 25: 1.
[91] St. Hippolytus of Rome: Treatise on Christ and Antichrist, 57.
[92] On Ps 45.
[93] Victorinus of Petau: Commentary on Apocalypse, from seventh chapter, 8..
[94] On Ps 50.
[95] Cassiodorus: Exposition of the Psalms 134:14.
[96] Against the Arians and on Himself, Oration 33:2.
[97] St. John Chrysostom: the Gospel of St. Matthew, Homily 68:2.
[98] Cf. Letter 41:24.
[99] Flight from the world, 6:33.
[100] Stromata 3:16:101.
[101] On Isaiah 1:11 Commentary.
[102] Origen: De Principiis, 3:1:6..
[103] St. Augustine: City of God 10:5.
[104] Sermon 48:2.
[105] On Purity, 2.
[106] Flight from the world, 6:33.
2 Homily 2 on Ps. 5.
[107] Theodore of Mopsuestia: Commentary on Micah 6:6:8.
4 Concerning Statues, 3: 12.
2 Concerning Statues, 3: 12.
3 On Ps 140.
3 Homily 2 on Ps. 5.
[108] Concerning Statues, 2: 14.
[109] Homilies on Jeremiah, 15:3:2.
[110] The Prayer of Job and David, 2:5:18.
[111] St. Ambrose: Concerning Repentance, 2:7 (52).
[112] On Ps. 12.
[113] St. John Chrysostom: The Gospel of St. John, Homily 64:4.
[114] On Psalm 120.
[115] St. Cassian: Conferences 17:20.
[116] St. Cassian: Conferences 9:35.
[117] On the Holy Lights, Oration 39:15.
[118] St. John Chrysostom: The Gospel of St. Matthew, Homily 35:2.
[119] On Ps. 146.
[120] Homily 55 on Ps. 145.
[121] Exposition on the Psalms 37:15.
[122] St. Ambrose: Concerning Repentance, 2:8 (78).
[123] The long Rules, 55.
[124] On Ps. 46.
[125] On Ps 100.
[126] Explanation of the Psalms 114:5.
[127] St. Ambrose: Concerning Repentance, 1:13 (60).
[128] De Synods, part 3, 49.
[129] St. John Chrysostom: The Paralytic Let Down Through the Roof, 6.
[130] Four Discourses Against the Arians, 2:67.
[131] On the Incomprehensible Nature of God, homily 10: 23.
[132] Letter 45.
[133] Homilies on the Gospel of Luke, 23:5.
[134] St. Jerome: Letter 69:6.