تفسير سفر نشيد الأنشاد آية آية
ص 1، آية 1
1-"نشيد الأنشاد الذي لسليمان"
قد ميز الروح القدس هذا السفر الجليل _ سفر المحبة المتبادلة بين العريس المبارك وعروسه المحبوبة_ بهذا الاسم الجميل "نشيد الأنشاد" فمع أنه توجد في الكتاب المقدس أنشاد وأغاني أخرى_ روحية ومقدسة، مثل أنشاد موسى (خر15،تث32) وداود مرنم إسرائيل الحلو (2صم22)، وحبقوق (حب3) ودبورة (قض5) وكثيرون غيرهم، كما ان سليمان نفسه كانت نشائده ألفا وخمسا (1مل4: 32) إلا ان هذا السفر النفيس هو الأنشودة الفريدة التي فاقت كل تلك الأنشاد، ونسبة هذا النشيد إلى بقية الأنشاد الأخرى كنسبة قدس الأقداس إلى القدس، ولقد دعاه اليهود الأتقياء في العهد القديم بحق "قدس الأقداس" وكما ان قدس الأقداس كان أصغر مكان في بيت الرب إلا أنه كان مكانا فريدا وممتازا، هكذا هذا السفر المقدس الذي مع أنه سفر صغير إلا أنه يدور حول أقدس وأهم موضوع _ أعني محبة العريس المبارك لعروسه والملك الجليل لشعبه، وكما أنه لم يكن ممكنا لأي كان ان يدخل قدس الأقداس، كذلك لا يستطيع ان يدنو من هذا السفر المقدس وينال من البركات المخزونة فيه إلا كل من اتحد بالرب يسوع المسيح رئيس الكهنة العظيم، وبذا صار له حق الدخول إلى الأقداس السماوية حيث دخل هو كسابق لأجلنا "فإذا لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع.... و(لنا) كاهن عظيم في بيت الله لنتقدم بقلب صادق...."(عب10: 19-22). ان كل من كان يحاول (في العهد القديم) الدخول إلى قدس الأقداس حيث تابوت العهد كان يموت أمام الرب، وكما مات عزة لأنه مد يده إلى التابوت وأمسكه "فحمي غضب الرب على عزة وضربه هناك لأجل غفلة فمات هناك لدى تابوت الله"(2صم6: 7) هكذا كل نفس غير متجددة تحاول ان تدخل إلى أعماق هذا السفر المقدس بذهنها المظلم لا تنال أية بركة منه بل بالحري تعثر وتضل، وكم من الناس البعيدين عن الله الذين لم تشرق في قلوبهم إنارة إنجيل مجد المسيح، عندما قرأوا في هذا السفر بعقولهم الدنسة وقلوبهم المظلمة قد حولوا نعمة الله الغنية التي فيه إلى الدعارة. نعم ان فيه أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين لهلاك أنفسهم، أما المؤمنون الحقيقيون فلهم الروح الذي من الله ليعرفوا الأشياء الموهوبة لهم من الله، ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة (1كو2: 12، 14).
ان مثل هذا السفر كمثل النهر الصافي الذي أودع الله أعماقه أحجارا كريمة ولآلئ ثمينة. يدنو منه الحكيم فيشرب ويرتوي، ثم يدخل إلى أعماق ويستخرج منها اللآلئ والجواهر فيصبح غنيا، ويدنو منه الجاهل فيغرق ويموت "لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حيوة لحيوة"(2كو2: 16).
ليعطينا إلهنا نعمة لكي ندرس هذا السفر بروح الصلاة وبخشوع كلي، ولنخلع أحذيتنا من أرجلنا لان المكان الذي نحن واقفون فيه أرض مقدسة.
وما أعجب ترتيب العناية، فقد وضع هذا السفر بعد سفر الجامعة، حيث "الكل باطل وقبض الريح" ونحن لا نستطيع ان نرتوي من ينبوع الماء الحي الذي في سفر النشيد ما لم يتقرر في نفوسنا ان كل آبار العالم مشققة لا تضبط ماء، وان من يشرب من مائه يعطش أيضا. فالأول (أي سفر الجامعة) يعلن ماهية العالم "باطل وقبض الريح" والثاني يعلن جمل وكمالات ربنا المبارك وعريسنا الحبيب "يسوع المسيح" الذي هو عطية الله لا يعبر عنها.
* * *
وقد اهتم الروح القدس أيضا بذكر اسم كاتب هذا السفر "الذي لسليمان"، ولا ريب في ان سليمان يرمز إلى شخص المسيح "ملك السلام" الذي لا بد ان يملك ملكا مجيدا وحقيقيا، وليس في وسعنا ان ندون هنا النبوات الكثيرة التي تشير بكل وضوح إلى ملك المسيح العتيد، ويكفي ان نشير إلى القليل منها، فقد تنبأ أشعياء (قبل المسيح بنحو700سنة) "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر.."(أش9: 6و7) وفي بشارة الملاك لمريم العذراء المطوبة هذا الإعلان الواضح والصريح. "وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب ولا يكون لملكه نهاية"(لو1: 31-33). وما كان يليق بغير سليمان ان يكتب هذا السفر، لان الله قد أعطاه قلبا حكيما ومميزا حتى أنه لم يكن مثله قبله ولا يقوم بعده نظيره"(1مل3: 12) ومن ذا يوازي سليمان الحقيقي الذي "صار لنا حكمة من الله"(1كو1: 30) "هوذا أعظم من سليمان ههنا"(مت12: 42).
إذا كان المسيح هو
ملك الملوك
ورب الأرباب
فلا عجب ان يكون نشيده
نشيد الأنشاد
أندرو ملر
ص 1، آية 2
2-"ليقبلني بقبلات فمه لان حبك أطيب من الخمر"
من هذا الذي تطلب منه العروس ان يقبلها، أليس هو الرب يهوه _ الله؟ نعم أنه هو بلا شك، كما أنه أيضا الإنسان _ يسوع _ المسيا، ولكن ما أجمل كلمات العروس التي يزينها الخشوع، فهي لا تقول "ليقبلني الله" أو "ليقبلني الرب يهوه _ أو المسيا" بل تقول بكل ورع "ليقبلني (هو)" ليتنا مع يقيننا بمحبة المسيح نتمثل بالعروس فنتحدث عنه أو معه بكل وقار واحترام، ونوجد في حضرته "بخشوع وتقوى" متمثلين أيضا برفقة فأنها إذ رأت عريسها اسحق "نـزلت عن الجمل... وأخذت البرقع وتغطت"(تك24: 64و65).
* * *
ثم ان العروس لا تذكر اسم عريسها فلا تقول سوى "ليقبلني......" ذلك لأنها لا تعرف عريسا أو حبيبا آخر سواه. أنه هو وليس سواه غرضها الوحيد الذي ملك على عواطفها وعلى كيانها، وكأنه لا يوجد في كل العالم شخص غيره، لذا تقول "ليقبلني" أنها كمريم المجدلية حين قالت له لما ظنته البستاني "ان كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه"(يو20: 15) فهي لا تذكر اسما لذلك الشخص الذي نتحدث عنه. حقا ما أحوجنا ان يكون لنا قلب مليء بالمحبة لهذا العريس ومكرسا له كقلب المجدلية! أو كقلب يوحنا الحبيب الذي يفتتح رسالته الأولى بهذه العبارة التي تدل على ان قلبه كان ممتلئا بالرب، فلم يقل سوى "الذي كان من البدء".
* * *
ولنلاحظ أيضا جمال هذا الأسلوب من الناحية النبوية، فقد جاء الرب له المجد _ إلى خاصته وأما خاصته فلم تقبله، بل بالحري رفضته، وبدلا من ان ترحب أورشليم بملكها وعريسها فقد رفضته وصلبته، " يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت ان أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها وأنتم لم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا. والحق أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب"(مت23: 37-39، لو13: 34و35). صحيح ان هبات الرب بلا ندامة، وهو تبارك اسمه يريد ان يبارك أورشليم ولا بد ان يباركها، ولكن بما أنها رفضته فعليها ان ترجع أولا بقلبها إليه، ويجب عليها ان تبدأ هي بطلبه. عليها ان تبدأ هي بالكلام "لا ترونني حتى تقولوا". لقد ترك ذلك البيت خرابا ودعاه "بيتكم" فهو ليس فيما بعد "بيت أبيه"(يو2: 16) ولكنه يقول عنه _ أي عن الهيكل "بيتكم يترك لكم خرابا....وأنكم لا ترونني حتى تقولوا "مبارك الآتي باسم الرب" وهوذا أورشليم _ عروس النشيد هي التي سيبدأ بالكلام _ أو بالحري بطلب العريس قائلة "ليقبلني....." وهذا ما سيتم فعلا عندما تستيقظ البقية من سباتها بسبب الآلام القاسية والمرة التي ستجتاز فيها "ضيق يعقوب" فأنها عندئذ سترجع بكل قلبها إلى ذاك الذي رفضته واحتقرته بل وبدلا من ان نتوجه ملكا عليها صلبته مفضلة عليه لصا أثيما. عندئذ ستستجاب على الوجه الأكمل صلاة الرب وهو على الصليب من أجل تلك الأمة التي ارتكبت أشنع خطية حدثت فوق الأرض "يا أبتاه أغفر لهم".
* * *
"ليقبلني بقبلات فمه"
لقد تمنت العروس ان تتمتع بقبلات عريسها، وقد يحسب البعض ان ذلك تصلف منها وجسارة غير لائقة، وذلك ناشئ عن عدم أذراكهم لمحبة العريس "الفائقة المعرفة": ان "المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج لان الخوف له عذاب وأما من خاف فلم يتكمل في المحبة"(1يو4: 18) فالنفس التي نمت في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح، وبالتالي تقدمت في أدراك محبة العريس العجيبة لا تخشى ان تتكئ على صدره، وفي حضنه (كالتلميذ الذي كان يسوع يحبه) وان ترتمي بثقة كاملة بين ذراعيه لتتمتع بقبلات فمه.
لا شك ان العروس مع علمها بطهارة عريسها ونقاوته غير المحدودة، وأنه قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة، كانت تعرف أيضا أصلها ومن هي. كانت تعرف أنها بحسب الطبيعة نجسة، وان حنجرتها قبر مفتوح.. وفمها مملوء لعنة ومرارة "اصلبه اصلبه" ومع ذلك فقد أيقنت ان حبيبها لن يعطل محبته أي معطل، وأنه لا بد ان يقبلها بفمه الطاهر. قد يظن ان هذه مغالاة منا في وصف محبة العريس لنا نحن الخطاة، ولكن أليس ما عمله الآب مع ابنه الأصغر _ الابن الضال صورة جلية تؤيد هذه الحقيقة المباركة؟ فالأب الطاهر النقي بمجرد ان رأى ابنه من بعيد، وهو في حالته القذرة وثيابه الرثة التي كان يرتديها وهو يرعى الخنازير، ركض (أي الآب) ووقع على عنقه وقبله (لو15). أيها الرب سيدنا ما أعجب محبتك لنا نحن البشر المساكين!
* * *
ان القبلة هي أيضا علامة المصالحة، وهوذا العروس تطلب إليه ان يقبلها، فهي أدركت أنه تبارك اسمه هو "الوسيط المصالح". نعم ان العداوة أتت من جانب الإنسان، فقد كنا "قبلا أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة"(كو1: 21) أما المصلحة فقد أتمها الله بتقديمه ابن محبته للموت نيابة عنا ". . . .قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه"(كو1: 21و22). ان صليب ربنا يسوع المسيح، والحجاب الذي شق من فوق إلى أسفل، والحربة التي طعن بها سيدنا في جنبه الطاهر _ هذه كلها تعلن بكل وضوح هاتين الحقيقتين _ العداوة من جانب الإنسان، والمحبة والمصلحة من جانب الله بواسطة موت ربنا يسوع المسيح (انظر 2كو5: 18-21،أف2: 13-19).
لقد كانت لغة العداوة من ناحية الإنسان "اصلبه اصلبه" ولكن كان جواب المسيح على تلك العداوة "يا أبتاه أغفر لهم". وقد وضحت عداوة القلب البشري وبغضه في الحربة التي طعن بها جنب المسيح، فجاوبت محبته _ له المجد على تلك البغضة "بالدم والماء" اللذين خرجا من جنبه. حقا ما اردأ وأبشع القلب البشري، وما أعجب محبتك يا سيدنا! هبنا ان ننمو في معرفتك وفي معرفة محبتك " الفائقة المعرفة".
* * *
وهناك أمر آخر جدير بالملاحظة، وهو ان العروس لا تطلب قبلة واحدة ولا قبلات كثيرة من فمه بل "قبلات فمه" أي كل قبلات فمه، والمؤمن الحقيقي الذي ذاق حلاوة النعمة "ان كنتم قد ذقتم ان الرب صالح"(1بط2: 3) يريد ان يتمتع في كل حين بكل محبة العريس ويمتلكه لذاته ويخصصه لنفسه "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي"(غل2: 20). يريده هو وليس سواه "من لي في السماء. معك لا أريد شيئا في الأرض"(مز73 : 25). هكذا كانت حالة المجدلية عند قبر السيد، فقد قالت له عندما ظنت أنه البستاني "يا سيد ان كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه"(يو20: 15) فقد اعتبرت أنه له المجد ملكها وحدها دون سواها، وان من حقها ان تأخذه. أليس هذا هو التكريس بمعناه الصحيح، وان هذا ما يعوز المؤمنين الحقيقيين في أيام الهزال الروحي التي نعيش فيها؟
من الغريب والمؤلم أننا كثيرا ما نتصرف تصرفا عكسيا في أهم الأمور، فنقع بالقليل من الشركة مع الرب والتمتع به. نرضى ولو بقبلة واحدة من فمه ونظن أننا بها وصلنا إلى أسمى ما يمكن أي يصل إليه المؤمن، وفي الوقت نفسه نطمع في الكثير من الأمور الزائلة التي نخدع بها مع أننا لو نظرناها في نور المقادس _ نور محبة ونعمة المسيح لوجدنا أنها "نفاية" أو بالحري "باطل وقبض الريح".
نعم لقد امتلك العريس كل كيان العروس، لذا كان غرضها الوحيد ان يقبلها "بقبلات فمه" هو وليس سواه. أنها لا تريد قبلات غيره، فلا تبغي رضى العالم عنها _ذلك العالم الذي صلب ربها وصار عدوا له وبالتالي عدوا لها "غاشة هي قبلات العدو"(أم27: 6) أنه لأمر محزن جدا إلى المسيحية قد عانقت العالم وتصالحة معه فأصبحت عالمية. أما العروس الأمينة لعريسها فقد أيقنت "ان محبة العالم عداوة لله. وان أراد ان يكون محبا للعالم فقد صار عدوا لله"(يع4: 4) "ان أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لان كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضي وشهوته"(1يو2: 15-17).
أيها الرب سيدنا الجليل وعريسنا الطاهر، هبنا بنعمتك ان نطلب ما فوق حيث أنت جالس عن يمين الله، وان نهتم بما فوق لا بما على الأرض. أنر عيون أذهاننا لنراك مكللا بالمجد والكرامة ونتفرس في ثغرك أنت الذي "انسكبت النعمة على شفتيك" فنرتمي بين ذراعيك _ ذراعي النعمة والمحبة لنشبع ونرتوي بقبلات فمك.
لان حبك أطيب من الخمر
وهنا نلاحظ شيئا يدعو إلى التأمل، وهو ان العروس كانت تتكلم عن العريس بصيغة الغائب "ليقبلني (هو) بقبلات فمه" كما لو كان غير حاضر أمامها1 ولكنها تراه على الفور أمامها وتكلمه بصيغة المخاطب "لان حبك (أنت) أطيب من الخمر" "وفي هذا معنى جميل ومغزى سام، فأنها بمجرد ان أظهرت أشواقها إلى عريسها الغائب عنها، أظهر هو ذاته لها في الحال. أنه تبارك اسمه لا يمكن ان يبقى مدينا لمحبة المؤمن ولأشواقه إليه وحنينه لرؤيته "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي . . ان أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منـزلا"(يو14: 21و23).
ان العروس لا تتغنى هنا عن محبتها لعريسها ولكنها تشيد بمحبته هو لها لان حبك (أنت)، ونحن كلمنا نمونا وتعمقنا في أدراك محبة المسيح الفائقة المعرفة ننسى أنفسنا ونحسب ان محبتنا له لا تقاس بمحبته الكاملة لنا _ أنها محبة ثابتة غير متغيرة وهذا ما نراه في هذا السفر كما في أجزاء الكتاب المقدس، أما محبتنا له غير مستقرة، فتارة قوية ومضطرمة في عواطفنا وتارة ضعيفة وفاترة، تارة سمو وارتفاع وتارة في هبوط وانخفاض، نعم هي كذلك في كثير من الأحايين، كان الرب يهمس في داخلنا "عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى فأذكر من أين سقطت وتب"(رؤ2: 4و5) ان الرب يقدر محبتنا له كل التقدير ويسألنا عنها. هل يستطيع كل منا إذا ما سأله الرب "أتحبني"؟ ان يجيب بكل صدق وإخلاص "نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك"(يو21) ومع ذلك فأنه حتى إذا كانت محبتنا للرب قوية ومضطرمة وفي سمو وارتفاع فأنها ليست شيئا يقارن بمحبة الرب لنا، فقد أحب خاصته الذين في العالم "إلى المنتهى".
يا رب قد أحببتني بحبك العجيب
حبي إزاء حبك لا شيء يا حبيب
نعم يا ربنا وسيدنا ما أعجبك وما أعجب حبك لنا وما اسمه. أنه:
أطيب من الخمر
ما أقوى تأثير الخمر على مشاعر وحساسيات الإنسان المثقل بالهموم والأحزان "أعطوا مسكرا لهالك وخمرا لمري النفس. يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد"(أم31: 6و7)1 ونحن إذ نعبر كل يوم في "وادي البكاء"، لاشيء يرفعنا فوق آلام الحياة وظروفها المتنوعة ويسمو بنا فوق كل همومنا ألا التغذي والتلذذ بمحبة العريس المبارك، فهي، ولا شيء سواها تؤثر على كل مشاعر النفس وحاسيات القلب فينسى المسكين الذليل المتضايق من آلام وأمراض وفقر في الحياة، كل ظروفه هذه، فبينما تذرف عينه دموعا يفيض قلبه فرحا وسلاما "عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا"(مز84: 6) "كحزانى ونحن دائما فرحون"(2كو6: 10) "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي"(مز94: 19) ولا يستطع سوى الروح القدس ان يعلن لنا بكيفية جذابة ومؤثرة محبة العريس المبارك لنا "ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم"(يو16: 14) فهو يفعل في نفوسنا بقوته الإلهية التي تفوق بما لا يقاس تأثير الخمر فنمتلئ فرحا ونغني ونرنم بمحبة عريسنا المبارك "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب"(أف5: 18و19) ليتنا نحني ركبنا مع رسول الأمم العظيم لدى أبي ربنا يسوع المسيح لكي يعطينا بحسب غنى مجده ان نتأيد بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا. ولنعرف محبة المسيح الفائقة المعرفة(أف3: 14-19).
* * *
وإذا نظرنا إلى الخمر (التي هي عصير الكرمة النابتة من الأرض) كإشارة إلى كل أفراح الأرض ومباهجها فان محبة المسيح تفوق كل الأفراح والمسرات الأرضية. ليتنا نمتحن نفوسنا لنرى هل نحن نرتشف في كل حين من منهل محبة المسيح العذاب أم قد سكرت قلوبنا بمحبة العالم "فاحترسوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار(جمع خمر) وسكر وهموم الحيوة"(لو21: 34).
وكما كان النذير للرب (في العهد القديم) "عن الخمر والمسكر يفترز ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبا رطبا ولا يابسا"(عدد6: 4و5) هكذا المؤمن _ المسيحي الحقيقي الذي باتحاده بالنذير الكامل ربنا يسوع المسيح أصبح هو أيضا نذيرا للرب، لا يليق به ألا ان يكون أمينا كل أيام حياته فلا يشترك في مسرات العالم وملاهيه الكاذبة بكل تكون كل ذاته ومسرته في الشركة المقدسة مع العريس المبارك الذي عاش هنا فوق الأرض كالنذير الفريد "وأقول لكم أني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي"(مت26: 29) وهل كان ممكنا أنه _تبارك اسمه يجد فرحه في مسرات الأرض التي تلطخت بالأثم؟ وهل يستطيع النذير المسيحي الذي اتحد بالمسيح النذير الكامل ان يجد سرورا حقيقيا في مسرات العالم الملوث بالخطية والذي رفض سيده وصلبه؟ وأنه وان ولم يكن لنا نصيب في مسرات الأرض الزائلة فلنا فيه نبع سرور وفرح لا ينطق به ومجيد كما أنه سيأتي الوقت السعيد الذي فيه سنشارك العريس في أفراح المجد التي لا تزول، وستكون لنا أيضا شركة معه في الأفراح التي سيغمر بها شعبه الأرضي في الملك الألفي السعيد عندما يظهر كملكي صادق الحقيقي الذي سيبهج وينعش أجناد الرب الظافر "أولاد إبراهيم" بخبز وخمر الملكوت (تك14) عندئذ تكمل أيام الانتذار. والملك في أورشليم سيعيد علاقته بشعبه الأرضي مرة أخرى وستشرك أمم وشعوب الأرض معهم في أفراحهم، وستعرف ابنة صهيون عندئذ معنى تلك الكلمات التي قيلت قديما في عرس قانا الجليل "أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن"(يو2: 10).
1 –ان البقية التقية لا يمكن ان ترى العريس _المسيا إلا إذا طلبته هي ". . لا ترونني حتى تقولوا (أنتم) مبارك الآتي باسم الرب" ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لنا لان المسيح هو الذي أتى إلينا وفتش علينا "جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك"
(3خ)
1 – ليس الغرض من إيراد هذين العددين هو ان نجيز لأي واحد من المؤمنين ان يتعاطى الخمر، وأنما قصدنا هو المقارنة فقط بين فعل الخمر المادية وتأثيرها فبمن يتعاطاها وبين فعل وتأثير محبة المسيح في نفس المؤمن في أي ظرف من الظروف الحياة، وإذا نظرنا إلى المؤمن كملك "فليس للملوك ان يشربوا خمرا ولا للعظماء المسكر"(أم31: 4و5).
ص 1، آية 3
-"لرائحة أدهان الطيبة اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى"
يا لها من حقائق سامية وثمينة قد اكتشفتها العروس، فهي لم تدرك فقط بان محبته أطيب من الخمر بل أدركت أيضا بان كل صفة من صفاته هي كالدهن الطيب "كل ثيابك مر وعود وسليخة"(مزمور45: 8)، وقد وجد شعب الرب، في كل الأجيال في صفات ربنا المبارك وأمجاد ما أنعش نفوسهم، وستدوم رائحة أدهانه الطيبة في ملء قوتها وعبيقها إلى أبد الآبدين، وبقدر ما تزداد شركتنا مع الرب يزداد تمتعنا برائحة أدهانه الطيبة أو بالحري ننمو في أدراك صفات وسجايا "الإنسان الكامل" وأمجاده الأدبية، وبالتالي نتغير إلى تلك الصورة عينها، فيرى العالم أننا "رائحة المسيح الذكية"(2كو2: 15)، فهيا بنا يا قديسي الرب لنطيل المكوث داخل مقادس الشركة السرية مع الرب وبذا يتسنى لنا ان نحمل رائحة المسيح العصرية إلى الناس المساكين العائشين في جو العالم الذي أفسدته الخطية وأنتنت رائحته. لنخبر الآخرين "بفضائل الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب".
"اسمك دهن مهراق"
ان اسم ربنا المجيد المبارك والحلو "يسوع" وكل الأسماء والألقاب الأخرى هي التي يلذ للمؤمن الحقيقي التغني بها والتحدث عنها، وكل حديث لا يدور حول هذا الاسم العجيب لا يشبع النفس بل يملأها كمدا ويبوسة "ان كان وعظ (أو تعزية (1) ) ما في المسيح"(في2: 1). نعم يا ربنا المعبود ان "إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس. بنفسي اشتهيتك. . . . "(أش26: 8و9)، والتأمل ولو في قليل من كثير من البركات الغنية التي نلناها بواسطة هذا الاسم الجليل يملأ قلوبنا فرحا وألسنتنا ترنما لهذا الاسم الفريد أو بالحري لشخصه المبارك لان اسمه هو ذاته الكريمة له المجد.
فبهذا الاسم وحده قد نلنا خلاصا كاملا وأبديا "ليس بأحد غيره الخلاص لان ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي ان نخلص"(أع4: 12).
وبهذا الاسم وعلى أساس عمله المبارك أرسل الآب المعزي الروح القدس الذي يعلمنا كل شيء والذي يأخذ مما للمسيح ويخبرنا "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم على شيء. . ."(يو14: 26).
وبهذا الاسم وحده نقترب إلى عرش النعمة ونطلب من الله أبينا كل أعوازنا واحتياجاتنا روحية كانت أو زمنية "ومهما سألتم باسمي فذلك افعله ليتمجد الآب بالابن. ان سألتم شيئا باسمي فأني أفعله. . . لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي" "الحق الحق أقول لكم ان كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم"(يو14: 13و14، 15: 16، 16: 23).
نعم وبهذا الاسم وحده وتحت لوائه تجتمع كنيسة الله في كل مكان "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم"(مت18: 20) ليت جميع المسيحيين يدركون هذا الحق الثمين إدراكا صحيحا فيجتمعون بهذا الاسم وحده فيتحققون صدق قول الرب "أكون في وسطهم" وأية بركة يمكن ان تعادل بركة حضور المسيح في وسط المجتمعين باسمه مهما قل عددهم، ولو أثنين أو ثلاثة فأنهم يتمتعون بقوة الروح القدس بكل تعزية وفرح وبنيان روحي.
هذا ولنراع هذه الحقيقة العملية الهامة وهي ان كل أقوالنا وأفعالنا التي نعملها يجب ان تكون لمجد ذلك الاسم الكريم "وكل ما عملتم بقول أو فعل فأعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والأب به"(كو3: 17) لان اسمه.
"دهن مهراق"
لقد كان اسمه قبل زمان النعمة الحضر _ كالدهن المحفوظ داخل القارورة المختومة، ولم يعرفه إلا القليلون معرفة جزئية من وراء ظلال الطقوس والفرائض، فمع أنه تبارك اسمه أظهر ذاته قديما ليعقوب أبي الأسباط وقال له "لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل" فأته إذ سأله يعقوب "وقال أخبرني باسمك. فقال لماذا تسأل عن اسمي؟. . ."(تك3: 28و29).
كذلك عندما تنازل أيضا وأظهر ذاته لمنوح أبي شمشون، سأله منوح "ما اسمك حتى إذا جاء كلامك نكرمك. قال له ملاك الرب لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب (أو سر (1) ) (قض13: 17و18) نعم لقد كان هذا الاسم عجيبا أو سرا خفيا أو بالحري كان بالنسبة للعهد القديم لغزا لم يستطع أحد وقتئذ ان يحله "ما اسمه وما اسم ابنه ان عرفت؟"(أم30: 4).
أما الآن فشكرا له لأنه قد تنازل بملء نعمته الغنية وأعلن لنا اسمه العزيز المبارك وشخصه الحبيب وبموته فوق الصليب وسفك دمه الكريم أصبح اسمه دهنا مهراقا، وقد أتى الروح القدس من السماء ليقود الخطاة المساكين إلى معرفته والتلذذ برائحة "الاسم الحسن" العطرية. أنه (أي الروح القدس) يمجده إذ يأخذ مما له ويخبر خاصته أو بالحري عروسه بأمجاد ذاك الذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا"(كو2: 9).
* * *
وبقدر ما تزداد شركتنا مع الرب والتصاقنا به بقدر ما يزداد تمتعنا برائحته الذكية المنعشة، ولا نستطيع ان نحمل رائحة أدهانه أو بالحري محبة المسيح ونعمته الفائقة إلى الآخرين ألا إذا كنا نحن متمتعين أولا برائحة أدهانه المقدسة، وكان المسيح ظاهرا في حياتنا. فلنشبع ونمتلئ نحن أولا برائحة أدهانه الطيبة حتى نستطيع ان نقدم "الدهن المهراق" إلى الآخرين.
اسمه دهن مهرق وأطيب من كل طيب
أنه يسوع الحبيب واسمه حلو "وعجيب"
ومع ان الرب له المجد إذ ضرب بسيف العدل الإلهي على الصليب صار كالدهن المهراق، إلا أنه لا يستطيع في الزمان الحاضر ان يدرك قيمته الغالية ويتمتع برائحته العطرية الكريمة ألا المؤمن الحقيقي فقط. أنه يستطيع بعمل الروح القدس ان يدرك شيئا عن كمالاته وأمجاده المتنوعة وجمال صفاته التي انفرد بها. نعم ان عين الإيمان فقط هي التي تستطيع ان تراه "مكللا بالمجد والكرامة" ولكن لا بد ان يجيء الوقت _ وقد أصبح قريبا جدا _ الذي فيه تعم رائحة الدهن المهراق كل مكان، فلا تعرف الخلائق بأسرها إذ ذاك اسما سواه "لذلك رفعه الله وأعطاه اسما فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع المسيح كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان ان يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب"(في2: 9-11) ان السموات والأرض ستتحد في تعظيم ذلك الاسم الكريم، فأورشليم الأرضية ومدن يهوذا، وكل الأمم المحيطة بها وأورشليم السماوية وربوات محفل الملائكة وكنيسة الأبكار المكتوبين في السموات _ الكل سيتحدون معا برأي واحد في التعبد لذلك الاسم المجيد، لان الآب حسب مسرته التي قصدها في نفسه شاء لمجد ابنه الوحيد أنه في "ملء الأزمنة (أي في الألف سنة) يجمع كل شيء في المسيح (أي تحت رئاسته) ما في السموات وما على الأرض"(أف1: 11). عندئذ تعم رائحة هذا الاسم العطرية كل مكان وتشتمها كل القبائل والألسنة مسبحين تلك التسبيحة الحلوة "أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض"(مز8).
وعندما تنتهي الألف سنة ببركاتها، وبعد ان تهرب السموات والأرض ولا يكون لهما موضع بعد، وبعد ان تنتهي دينونة العرش العظيم الأبيض لن يفقد ذلك الاسم شيئا من رائحته وقوته وأمجاده، بل بالحري ستبتهج وتتلذذ جماهير السموات الجديدة والأرض الجديد بكمالات ذلك الاسم المعبود وبرائحة الدهن المهراق إلى آباد الدهور كلها "اذكر اسمك في كل دور فدور. من ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد"(مز45: 17).
"لذلك أحبتك العذارى"
ان كلمة "لذلك" تبين بكل وضوح ان الحب لم يكن طبيعيا في العذارى بل مكتسبا أو بالحري شيئا حادثا، وإذا فحصنا أعماق الطبيعة البشرية الساقطة فلا نجد فيها محبة لذلك العريس بل بالحري كل بغضة وعداوة، وان ما فعله اليهود به عند الصليب "اصلبه اصلبه" ان هو ألا صورة القلب البشري بغير استثناء، أما ان العذارى قد أحبت العريس فما ذلك إلا لان حبه الذي هو أطيب من الخمر ورائحة الدهن المهراق قد أنعشت حاسياتهن وأوجدت فيهن حياة جديدة، وسطع في قلبهن نور محبته الباهر لذلك أحببته "في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا. . .نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا"(1يو4: 10و19).
ثم لنلاحظ شيئا جديرا بالملاحظة، وهو ان اللواتي أحببن العريس هن "العذارى" فقط، فغير العذارى الملتصقات بغيره لا يمكنهن ان يحببن هذا العريس لأنهن مرتبطات بآخرين، والمرأة المتزوجة تهتم كيف ترضي رجلها، فليس في طوقها ان تحب غير زوجها لان قلبها لا يمكن ان يتسع لأثنين "لا يقدر أحد ان يخدم سيدين" وهذه هي حالة كل نفس قد ارتبطت بغير الرب فأنها لن تجد في قلبها مكانا لذلك العريس المبارك "تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر (1) " سواء أكان المال والثروة أم الصيت والشهوة أو أية لذة أخرى من ملاذ هذا العالم الباطل. ليتنا نفحص ذواتنا ونمتحن أنفسنا في حضرة إلهنا الكريم ونسلم له نفوسنا ليستأصل منها كل الآمال العاطلة التي تحرمنا لذة التمتع بعريسنا المبارك ولا سيما في هذه الأيام الأخيرة والأزمنة الصعبة التي راجت فيها صورة التقوى. ليتنا كعذارى حكيمات نسهر ضد كل ميل أرضي وشهوة عالمية وننتظر مجيء العريس السماوي ليأخذنا إلى مجده الأسنى. ولنذكر في كل حين قول الرسول المغبوط لقديسي كورنثوس "فأني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح"(2كو11: 2)(2).
* * *
ثم لنتأمل قليلا في "العذارى" من الناحية النبوية. أنهن بلا شك إشارة إلى الأتقياء في إسرائيل الذين سوف لا تتلوث حياتهم بالشرور والرجاسات التي ستعم المسكونة في زمن الارتداد أي بعد اختطاف الكنيسة، فالبركة الأرضية لا تكون وقتئذ قاصرة على العروس الأرضية المعبر عنها بأورشليم، ولكنها ستشمل أيضا الأتقياء من كل الأسباط عندما يرجعون بقلوبهم إلى الرب وهم المعبر عنهم هنا "بالعذارى". هؤلاء هم الذين نقرأ عنهم كثيرا في سفر الرؤيا. ففي الإصحاح الرابع عشر من ذلك السفر الختامي (الذي يرينا كثيرا من المشاهد التي ستتم بعد اختطاف الكنيسة _أي بعد ان تؤخذ العروس السماوية إلى السماء) يرى مئة وأربعة وأربعون ألفا واقفين على جبل صهيون، في جمال باهر، فأنهم أطهار، موصوفون بنفس الصورة التي تصفهم بها العروس _أي "العذارى". أولئك هم الذين لم يتنجسوا بأصنام وشرور ذلك اليوم _ أعني زمن الارتداد القادم، والعروس تظهر سرورها بان البركة ليست قاصرة عليها بل أنها ستشمل آخرين أيضا، فأورشليم _أي الأتقياء من اليهود لا يكونون وحدهم في علاقة مع الرب في ذلك الوقت. صحيح أنه سيكون لهم المركز الأول والرب سيعنى بهم ويباركهم، ولو ان بعضهم سيموتون وبعضا سيقتلون بسبب أمانتهم للحق، إلا أنه واضح أيضا أنه سيكون لهم شركاء وهم الذين تدعوهم "العذارى"، ولغتها هذه تختلف عن لغة المسيحيين الحقيقيين في الوقت الحاضر، فعروس النشيد تتحدث عن آخرين غيرها أعني "العذارى" أما الآن فأننا لا نستطيع ان نتحدث بهذا الأسلوب،لان العروس السماوية تضم جميع المؤمنين _ أي كل المسيحيين الحقيقيين، فالفرق إذن بين التدبيرين ظاهر، فعندما يجيء ذلك الحين سوف لا ترى العروس الأرضية فقط بل آخرون غيرها وهم المعبر عنهم "بالعذارى" أما الآن فان العروس السماوية تشمل كل الذين للمسيح الذين يتكون منهم "جسد واحد".
(1) comfort أو consolation
(1) Secret A.V.
(1) أي إله أو معبود آخر
(2) ألسنا نرى في عبارة الرسول هذه الانسجام الكلي الكائن بين سفر النشيد وبين كتابات العهد الجديد؟
ص 1، آية 4
4-"اجذبني وراءك فنجري. أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك".
ما أشد حاجة المؤمن الحقيقي في هذه الأيام التي سادت فيها روح لاودوكية _ روح الفتور والهزال الروحي حتى بين المؤمنين الحقيقيين، فقصرت خطواتهم في المسير والركض وراء الرب. أقول ما أشد حاجة المسيحي الحقيقي إلى سكب قلبه أمام الرب والتوسل إليه بهذه الطلبة "اجذبني".
وكما أننا كخطاة لم نقدر ان نأتي إلى المسيح بقوتنا الذاتية ولكن الآب هو الذي جذبنا إلى المسيح "لا يقدر أحد ان يقبل إلي ان لم يجتذبه الآب"(يو6: 44) هكذا لا نستطيع كمؤمنين ان نركض وراءه ان لم يجتذبنا هو. لقد عرفت العروس هذه الحقيقة. عرفت أنها في ذاتها ضعيفة "بدوني لا تقدرون ان تفعلوا شيئا"(يو15) وأنه ليست فيها القوة للجري ما لم يجذبها هو وراءه، وفوق ذلك فأنه توجد قوات مضادة _ داخلية وخارجية بلا هوادة على جذبها بعيدا عنه، لذا كانت طلبتها في خلال الأجيال المتعاقبة "اجذبني. اجذبني" حتى جاء الوقت الذي فيه استجاب الرب هذه الطلبة، ولقد تكلف له المجد كلفة كبيرة في سبيل استجابة هذه الطلبة وهي بذل حياته الغالية فوق الصليب "وأنا ان ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع قال هذا مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا ان يموت"(يو12: 32و 33).
ومع ان هذا السفر كتب في عهد الناموس إلا أننا لا نجد فيه ذكرا ولا تلميحا له أو للوصايا، ولا للأوامر والنواهي، ولا الدينونة واللعنات المروعة المرتبطة بكسر تلك الوصايا، فهذه كلها وان كانت مخيفة منه ومرعبة ولكنها لا تستطيع ان تجتذب نفس الإنسان إلى الله بل بالحري تخيفه منه وتبعده عنه (عب12: 18-21) ولكن "ربط المحبة" وحبال الصليب هي التي تستطيع وحدها ان تجذب أشر الخطاة إلى المسيح "وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. . . محب للعشارين والخطاة" (لو15: 1، 7: 34). نعم وان "ربط المحبة" هي التي تستطيع ان تجذب قلب المؤمن ليجري وراء هذا العريس المبارك.
* * *
تقول العروس اجذبني "وراءك" _وراءك أنت فقط وليس سواك، حتى وان كان وراء غيرك توجد مسرات جسدية وملذات ومباهج، وقد أجد وراءك آلاما وتعييرات، ولكن خير لي ان أنكر نفسي واحمل صليبي وآتي وراءك من ان أسير على بساط الراحة وفي وسط نعيم الملذات الوهمية الخادعة وراء غيرك. أني متيقنة ان سلام القلب الهادئ، والهناء الصحيح والسعادة الحقيقية لن أجدها إلا وراءك، فاجذبني إذن أيها العريس المبارك وراءك "فنجري".
فلا تريد العروس ان تتبع عريسها بخطوات متباطئة ومتثاقلة بل تريد ان "تجري" وراءه. فان كان أهل العالم لا يسيرون وراء شهواتهم على مهل بل "يركضون إلى فيض الخلاعة"(1بط4: 4) وأنهم "أسرعوا وراء آخر"(مز16: 4) وان كان جيحزي في سبيل الحصول على وزنه فضة وحلتي ثياب يقول "حي هو الرب أني أجري وراءه (أي وراء نعمان) وأخذ منه شيئا"(2مل5: 20) أفليس من العار على العروس التي رأت في عريسها جمالا باهرا ووجدت عنده غنى وكرامة وحظا يفوق كل ما في هيئة هذا العالم الزائل، ان كانت لا تجري وراءه؟ ليت كل مسيحي حقيقي لا يقف عند حد المعرفة التي وصل إليها عن شخص ربنا المبارك بل ليكن لهجه في كل حين "لاعرفه" وكل ما زادت معرفتنا له كلما زادت رغبتنا في معرفته أكثر "أنمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح" وكلما ازددنا قربا إليه كلما زاد شوقنا لازدياد القرب منه.
كلما أصبو إليه لذني فيه الوفاق
كلما أدنو لديه زادني فيه اشتياق
نعم، وبقدر ما يزداد تذوقنا لمحبة العريس بقدر ما نستطيع ان نقول بحق بأنها تفوق الإدراك. أنها "محبة المسيح الفائقة المعرفة" وان في محضره وفي القرب منه فرحا سماويا عجيبا، ومع ذلك فأننا مع تمتعنا بهذا الفرح الذي لا ينطق به ولا يمكن التعبير عنه فان النفس تتوق إلى قرب أكثر وإلى زيادة الالتصاق به، فتقول العروس "اجذبني. اجذبني فنجري وراءك".
اجذبني يا رب للصليب اجذبني أيا حنون
اجذبني إليك أيها الحبيب إلى جنبك المطعون
ليتنا نـزداد شوقا وحنينا إلى شركة أعمق مع ربنا وسيدنا وعريسنا الجليل "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء. . . في السهد ألهج بك. . . التصقت نفسي بك يمينك تعضدني"(مز63).
* * *
ثم ان هنا شيئا آخر جديرا بالملاحظة وهو قول العروس "اجذبني" (بصيغة الفرد) "فنجري"(بصيغة الجمع) فان ركضنا وراء الرب لا ينشئ بركة لنفوسنا فقط بل يؤثر في نفوس الآخرين ويوقظ مشاعرهم ويقودهم إلى معرفة المخلص الوحيد وبالتالي ليجروا معنا وراءه. فيالها من مسئولية خطيرة إذ ان كل كلمة ننطق بها وكل عمل نعمله لا بد ان يترك أثره في نفوس الآخرين. نعم ان مسئولية كنيسة الله التي هي عمود الحق وقاعدته خطيرة جدا، فإذا ما كانت الكنيسة ناهضة وأمينة لرأسها المبارك فأنها تستطيع ان تربح نفوسنا كثيرة وتجتذبها إلى المسيح، وحينما تجد مؤمنين قريبين من الله ورجال صلاة يرون أفرادا وجماعات على ركبهم أمام الرب فأنه تكون لحياتهم قوة مؤثرة وجذابة للبعيدين إلى المسيح. لما حدثت الزلزلة العظيمة في سجن فيلبي بسبب صلاة وتسبيح بولس وسيلا (أع16) وانفكت قيودهما انفكت معها قيود بقية المسجونين، هكذا إذا تحرر المؤمنون من الربط العالمية ومن الفتور الذي استولى على الكثيرين منهم فلا بد ان هذا يؤول إلى تحرير كثيرين من أهل العالم الذين ربطهم الشيطان بقيود الموت الأبدي "رد لي بهجة خلاصك وبروح منتدبة أعضدني فأعلم الآثمة طرقك والخطاة إليك يرجعون"(مز51: 12و 13 أنظر أيضا يو4: 28-30و 39).
يا أيها الابن الحبيب اجذبني فنجري وراك
فأنت لي نعم النصيب وليست أشتهي سواك
ومن الناحية الأخرى فان عدم أمانتنا للرب لا يقصر ضرره علينا بل يسبب ضررا للآخرين. لما قال بطرس للتلاميذ الذين كانوا معه عند بحر طبرية "أنا اذهب لأتصيد. قالوا له نذهب نحن أيضا معك"(يو21: 3) وبذا لم يسبب تعبا لنفسه فقط بل وللباقين أيضا. ليتنا "نضع لأرجلنا مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفى"(عب12: 13) ليتنا لا نجعل عثرة في شيء، ولنذكر دائما قول السيد "ويل لمن تأتي به العثرات".
* * *
جميل ان العروس إذ تتغنى قائلة "اجذبني" تنضم إليها العذارى وينشدن معها قائلات "فنجري وراءك" ( 1 ) والعروس تسر بانضمام العذارى إليها واتحادهن معها لا شك ان العروس الأرضية المعبر عنها بأورشليم أو يهوذا والتي موضوع هذا السفر نبويا سيكون لها مركزها الخاص ولكنها ستسر لان آخرين من بقية الأسباط لم يتدنسوا بالشرور والأوثان التي ستعم المسكونة في فترة الارتداد وان هؤلاء سيكون لهم نصيب مبارك في العلاقة بهذا العريس، ومعرفة هذه الحقيقة _ أي عدم الخلط بين إسرائيل والكنيسة يساعد المؤمن على فهم غرض الروح القدس في هذا السفر وفي كل الأسفار النبوية الأخرى، ولا بد لنا من التنبير على هذه الحقيقة الهامة وهي ان سفر النشيد يشير بكيفية مباشرة إلى البقية التقية عندما ترجع إلى المسيا عريسها قبل رجوعه إليها _ ذلك الرجوع الذي تكون قد تهيأت له كما يتبين من لغة هذا السفر، ومن الخطأ ان نظن بان رفع البرقع عن البقية وتجديدها سيكون عند ظهور الرب فأنه عند رجوع الرب بالمجد سيكون ذلك اليوم لا يوم تجديدها بل يوم قبولها وتمتعها عمليا بالعلاقة بعريسها. ان ذلك اليوم السعيد يبدأ عندما "يفيح النهار وتنهزم الظلال" لكن لغة العريس والعروس في سفر النشيد هي قبل ان يفيح النهار وقبل ان تنهزم الظلال، والعروس تتوقع بالإيمان ذلك الوقت المبارك.
"ادخلني الملك إلى حجاله"
لقد طلبت العروس إلى العريس بان يجذبها فتجري وراءه، ولا ريب في ان الجري أو بالحري السير وراء الرب بخطوات واسعة ليس أمرا هينا. ان فيه إذلالا للطبيعة وآلاما للجسد "ان أراد أحد ان يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني. فان من أراد ان يخلص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها"(لو9: 23و 24) وهوذا العروس قد تبعت عريسها المحبوب. لقد حاضرت بالصبر في الجهاد الموضوع أمامها فماذا كان جزاؤها؟ أو بالحري بم كافأها الرب أثناء ركضها وجريها وراءه؟ "ادخلني الملك إلى حجاله" وهذه هي النتيجة العملية المباركة التي تفوز بها كل نفس تجري وراء الرب، فأنها تدخل إلى حجاله (أي مقاصيره أو غرفه السرية الخاصة) "قصور العاج"(مز45: 8) وهنا يجدر بنا ان نتأمل طويلا بكل هيبة ووقار وفي صمت عميق ورهيب في جمال تلك الحجال، فهناك تنبهر أبصارنا بضياء طلعة العريس المحبوب. هناك وهناك فقط تتمتع النفس بالشركة الهادئة والمناجاة الحبية المقدسة. هناك السعادة الحقيقية التي تنشدها وتسعى إليها كل نفس في الوجود "لان يوما واحدا في ديارك خير من ألف"(مز84: 10) "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ان أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس (فيه) في هيكله"(مز27: 4).
* * *
ثم ان العروس تعترف بأنه هو الذي أدخلها إلى حجاله، فنحن من ذواتنا ليست فينا القدرة على الدخول إلى حجاله، لكنه تكرما منه هو الذي يدعونا ويقودنا بالروح القدس إلى محضره المقدس لنتمتع بهذه الشركة المباركة. لما رجع الرسل إلى الرب يسوع وأخبروه بكل شيء كل ما فعلوا وكل ما علموا (أي بعد الخدمة والجهاد والركض) قال لهم "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء (أو بالحري إلى حجالي) واستريحوا قليلا"(مر6: 30و 31). أننا كحمامة نوح التي لما لم تجد مقرا لرجلها رجعت إليه إلى الفلك (تك8: 9) ألم يدرك داود هذه الحقيقة وهي أنه من ذاته لا يستطيع الدخول إلى حجال الملك ولذا قال "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ان أسكن في بيت الرب. . . "؟
ليت لنا معشر المؤمنين الحنين القلبي للوجود في دائرة الشركة المقدسة مع الرب فنقول مع المرنم "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي" (مز84: 1و 2).
* * *
وتصريح العروس أيضا بان الذي أدخلها إلى حجاله هو "الملك" فهو ليس العريس فقط بل أنه "الملك". صحيح أنه سيكون كذلك بالنسبة لتلك العروس الأرضية، الأمر الذي عرفه المجوس الذين أتوا من المشرق بهداية النجم الذي ظهر لهم، فسألوا عنه قائلين "أين هو المولود ملك اليهود" كما ان بيلاطس كتب عنوانا ووضعه على الصليب "يسوع الناصري ملك اليهود" أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين في زفاف النعمة الحاضر فهو رأس الجسد _ الكنيسة وعريسها المبارك، ولكن ألا يستحق هذا العريس ان يأخذ مكانه في قلوبنا كالملك؟ ألا يستحق هو _ تبارك اسمه ان نتوجه ملكا على عروش قلوبنا؟ وبالتالي ألا يجب ان نخلي هذه القلوب من كل شيء سواه؟ "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا" (أف3: 17) أو ليس تنازلا منه ان يقول لكل منا "يا ابني أعطني قلبك"؟
إذن لنعط للملك مكانه اللائق به في قلوبنا وفي حياتنا وهو في نعمته الغنية يدخلنا إلى حجاله وعندئذ نترنم قائلين.
"نبتهج ونفرح بك"
فمع ان العروس تمتعت في حجاله ببركات كثيرة ونعم وهبات لا حصر لها ولكن موضوع بهجتها وفرحها هناك ليس تلك البركات ولا المناظر المجيدة التي في تلك الحجال، وأنما شخص عريسها وملكها التي استحوذ عليها وامتلك كيانها بجملته، فلم تلهها عنه البركات الكثيرة التي أغدقها عليها هناك.
بحبك السامي لقد وهبنا كل البركات
لكن شخصك لنا أثمن من كل الهبات
تأمل في مريم المجدلية وهي عند قبر السيد، لقد رأت هناك ملاكين بثياب بيض وكان منظرهما جميلا يبهر العين الطبيعية ولكن ماذا كان تأثير منظرهما المتلألئ عليها؟ ان منظرهما لم يشغل قلبها أو فكرها فقد كان غرضها الأوحد هو سيدها، ولم يكن ليشغلها عنه أي شيء آخر لا في الأرض ولا في السماء "من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض"(مز73: 25) وكذلك كان الحال مع داود قديما، فمع ان الرب اختصه ببركات جزيلة، إذ جعله ملكا على شعبه إسرائيل وغمره بهبات وعطايا وفيرة، إلا ان هذه كلها لم تكن موضوع فرحه، فلا صولجان الملك في يده ولا التاج الذي زين جبينه ولا العرش الذي أجلسه الرب عليه كانت مصدر سروره. لم تكن العطايا سبب ابتهاجه بل واهب العطايا _ الرب نفسه، لقد فرح قلبه بالرب وابتهجت روحه به فرقص بكل قوته أمام الرب حتى لقد اعتبره الإنسان الجسدي "كأحد السفهاء" ولكنه لم يبال بذلك بل صرح قائلا "لعبت أمام الرب وأني أتصاغر دون ذلك وأكون وضيعا في عيني نفسي"(2صم6: 14-22)
فهل وصلنا نحن إلى هذا المستوى من الهيام بذات العريس والفرح به؟ أننا بكل أسف، قلما تبدو رغبتنا في الدخول إلى حجاله حبا فيه وشوقا إليه بل لشعورنا بالحاجة إلى نوال شيء منه، فلا نطرق بابه لنخلو ونتمتع به بل لنستعطي منه، وما أحط هذا المستوى. ليت الرب يملأ نفوسنا حبا له وشغفا به في كل حين.
* * *
هذا وان العذارى لم يشتركن مع العروس في تحمل مشاق السعي والجري وراء الرب فقط بل شاركنا في الابتهاج والفرح به، فان كانت العروس تقول "ادخلني الملك إلى حجاله"(بصفة المفرد) فان العذارى يرين معها هناك ويشتركن معها في التعبد والتغني له قائلات معها (بصيغة الجمع) "نبتهج ونفرح بك" ليتنا إذن نهتم بالنفوس المحرومة من الرب فنسعى بكل قوانا لاجتذابها إليه لتشترك معنا في الابتهاج والفرح بالرب، وهذا مما يضاعف أفراحنا إذ نرى آخرين قد تذوقوا حلاوة النعمة وصلاح الرب. فلندع الآخرين لكي يذوقوا وينظروا ما أطيب الرب "عظموا الرب معي ولنعل اسمه معا".
"نذكر ( 1 ) حبك أكثر من الخمر"
ليس ما ينعش نفوسنا وينهض حياتنا الروحية ويزيدنا تعلقا بالرب وتكريسا له أكثر من ذكر محبته "لان محبة المسيح تحصرنا. . " لكي نعيش نحن الأحياء فيما بعد لا لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام (2كو5: 14و 15) ومهما أحاطت بنا الهموم والآلام فالتأمل في محبته وامتلاء قلوبنا وعقولنا بها يرفعنا فوق كل الظروف المحيطة بنا، إذ ان "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. . فأنه لا موت ولا حيوة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا"(رو8: 37-39).
ويا له من امتياز ثمين لكنيسة الله إذ تذكر في مدة غربتها في هذا العالم محبة عريسها المبارك "أكثر من الخمر" ففي أول أسبوع تلتف حول مائدته الكريمة ، فتأكل من الخبز الواحد وتشرب من الكأس (الخمر) وهناك تذكر حبه فتبتهج بفرح لا ينطق به ومجيد وتسكب عواطفها أمامه سجودا وتعبدا وتسبيحا "أخذ يسوع خبزا وبارك وكسر وأعطاهم وقال خذوا هذا هو جسدي ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم. . . وقال لهم هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين . . ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون"(مر14: 22-26) فذكرى حبه العجيب ملأت أفواههم تسبيحا وترنما.
"بالحق يحبونك"
ان كلمة "بالحق" بمعنى "الاستقامة" أي "بالاستقامة يحبونك" أو "المستقيمون يحبونك" ( 1 )وواضح ان المحبة الصادقة للرب برهانها ودليلها العيشة بالأمانة والقداسة والطاعة القلبية الكاملة له، "ان كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي. . ان أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منـزلا. . . الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي" (يو14: 15و 21و 23 و 24) وفي تنبير الرب على حفظ وصلياه الدليل القاطع على ان من لا يحفظ كلامه فقلبه خال من المحبة للرب، كما ان أقواله هذه تبين اهتمامه له المجد بمحبتنا له وتقديره لها.
ان القلب المنحرف وغير السالك في الحق وبحسب الاستقامة لا يمكن ان يحب العريس والملك المحبة الصحيحة التي تشبع قلبه، وهو تبارك اسمه يعرف الذين يحبونه من كل قلوبهم، وأحشاؤه تتألم من الذين لا يحبونه بالحق، وبصوت العتاب يخاطب كلا منهم "عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى فأذكر من أين سقطت وتب وأعمل الأعمال الأولى"(رؤ2: 4و5).
ونكرر القول بان الرب يهتم جدا بمحبتنا له ويقدرها كل التقدير، فقد سأل بطرس ثلاثا "أتحبني" وقد كان بطرس صادقا في جوابه "نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك"(يو21) فهل يستطيع كل منا ان يجيب الرب بمثل جواب بطرس؟ ليعطنا الرب ان نحبه أكثر "لأنه هو أحبنا أولا".
* * *
وقبل ان ننتقل من تأملات في هذا العدد نقتطف جزءا مما كتبه أحد رجال الله الأفاضل ( 1 ) تعليقا على قول العروس "أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر بالحق يحبونك".
"لماذا دعي المسيح هنا "الملك"؟ أنه لقب نبوي عن علاقته بشعبه الأرضي بعد رجوعهم للرب مستقبلا. لا شك ان له الحق في هذا اللقب في كل حين، غير أنه لم يذكر عنه الكتاب المقدس بأنه ملك الكنيسة. نعم هو الملك المستحق لكل خضوع واجلال، إلا أنه بالنسبة لمؤمني العهد الجديد هو رأس الجسد الكنيسة، كما أنه "ملك اليهود" ولنلاحظ أنه تبارك اسمه أتى أولا في وداعة النعمة مقدما ذاته لابنة صهيون، ولكنها _ بكل أسف _ رفضته. لقد احتقرته وصلبته ولكن الله أقامه وأعطاه مجدا. فكان من وراء ذلك كل الخير لنا، إذ بقيامته صارت له حقوق شرعية وألقاب جديدة، لا كملك اليهود فقط بل كرأس جسده الذي هو الكنيسة وكمركز المجد العتيد (قارن زك9 ويو12 وأع2 وأف1 وفي2). لهذا هتف له اليهود قائلين "أوصنا. مبارك ملك إسرائيل الآتي باسم الرب" إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى صرخوا قائلين "خذه. خذه. اصلبه" ففي النهاية ملأوا مكيال آثامهم بقطع المسيا، إذ بصلبه وبازدرائهم بشهادة الروح القدس انقطعت علاقتهم مع الله وحرموا، إلى حين، من الملكوت الموعود به.
إلا ان "كلمة الرب تثبت إلى الأبد" فخطية الإنسان وعد إيمانه لا يبطلان أمانة الله، فبالفداء الذي تم بموت المسيح وضع الأساس لرد إسرائيل مستقبلا، وذلك بالنعمة طبقا لمقاصد الله غير المتغيرة، وذلك لكي يملك الأبناء الميراث المبارك الذي وعد به الآباء ويتمتعون به "وأقول ان يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو15: 8) وليس هناك أوضح ولا أصرح من كلمة الله من جهة ملك الرب يسوع في المستقبل وعلاقته بكرسي داود وكل بيت إسرائيل، ومن المحقق ان أورشليم ومدن يهوذا ستكون مركز الملك الألفي، كما ان أورشليم السماوية "مدينة الله الحي" ستكون المركز السماوي وحلقة الاتصال لدوائر المجد السماوي (عب12: 22-24).
صحيح ان شعب إسرائيل بسبب خطاياهم وشرورهم الكثيرة ولا سيما رفضهم ملكهم وصلبهم إياه قد أدركهم الغضب إلى النهاية، فأحدقت الأعداء بأورشليم المحبوبة وأخرجوا الهيكل والمدينة معا، والذين نجوا من السيف تشتتوا في أربع رياح السماء بسبب غضب الله المتقد.
ومن ذلك الوقت صارت حالة إسرائيل "مهجورة وموحشة" غير أنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، وهنا نرى الحاجة الماسة إلى فهم الفرق بين معاملات الله السياسية لشعبه ومعاملته لهم بالنعمة، فاليهود كانوا ولا يزالون بسبب خطاياهم وعدم توبتهم واقعين تحت التأديب طبقا لسياسة الله العادلة، ولكن نعمة ومحبة قلبه لهم باقيتان لا تغيير فيهما. تأمل في نصوص عهد "وأذل نسل داود من أجل هذا ولكن لا كل الأيام"(1مل11: 39) وهذا المبدأ عظيم الأهمية، ليس من جهة إسرائيل فقط ولكن مع كل مؤمن بمفرده، وقد أشار الرسول إلى هذا المبدأ الخطير عندما تنازل موضوع رفض إسرائيل وردهم "من أجل عدم الإيمان قطعت. . . وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة"(رو11: 20و 28و 29).
ولقد وصف النبي هوشع _ بصورة مؤثرة _ حالة إسرائيل الحاضرة ورجوعهم مستقبلا "لان بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام"(هو3: 4و 5) وماذا يتضمن سفر النشيد يا ترى؟ ألا يعلن ويؤكد _ مرة بل مرارا عديدة _ للبقية عواطف الملك غير المتغيرة من نحوهم؟ فستقرأ وستختبر البقية الخائفة الله في الأيام الأخيرة عبارات محبته التي لا تكل ولا تتغير _ محبة (الرب إلههم وداود ملكهم) ففي الماضي _ وهم تحت الناموس _ قد فشلوا وسقطوا أما في المستقبل فيثبتون تحت النعمة. في الماضي كانوا تحت عهد شرطي، أما في المستقبل فسيكونون في دائرة النعمة اللاشرطية، وستكون قيمة ذبيحة المسيا الذي رفضوه مرة، ومحبة الله مقياس بركتهم، ولكن من ذا الذي يستطيع ان يقيس ما لا قياس له؟ هكذا ستكون محبة الملك لعروسه الأرضية _ "يهوذا".
ان سفر راعوث يشرح، بأبسط أسلوب ولكنه أسلوب جذاب ومؤثر للغاية ماضي وحاضر ومستقبل إسرائيل، فنعمي التي كانت متزوجة لم يبق لها ثمر أو نسل، لذا قالت "لا تدعوني نعمي ( 1 ) " بل "أدعوني مرة لان القدير قد أمرني جدا" وزوجها أليمالك (الذي معناه إلهي هو الملك) وأبناها ماتوا في أرض موآب، وبذا صارت أرملة وموحشة وبلا ثمر، وقد حرمت من كل عائل أو مصدر تلجأ إليه "ادعوني مرة. . . أني ذهبت ممتلئة وارجعني الرب فارغة" فهي رمز جلي للأمة اليهودية التاركة إلهها كملكها وزوجها فصارت الآن أرملة موحشة، ولكن بقية ضعيفة تمثلها راعوث الوديعة والمتواضعة التي لصقت بنعمي ستحتمي تحت جناحي الرب إله إسرائيل "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" فالحقل الذي كانت راعوث تأتي إليه لتلتقط منه صار بعد ملكا لها. لقد عجز الولي الأقرب إليها ان يفك الميراث طالما كان مرتبطا بذلك زواجه بها، وقد تم ذلك أمام الشهود العشرة الذين يمثلون الوصايا العشر المعطاة قبل مجيء المسيح الأول، أما الإتيان "بثمر لله" فهو بكل يقين نتيجة اتحادنا "بمن أقيم من الأموات"(رو7: 1-4).
وبوعز (الذي معناه فيه القوة) قد اهتم بكل قلبه بأمر البقية الضعيفة الباقية من بيت اليمالك، وهو (أي بوعز) رمز للمسيح المقام الذي "تعين (أي أظهر أنه) ابن الله بقوة. . . بالقيامة من الأموات"(رو1: 4) والذي يضفي على هذه الصورة جمالا هو أنه لم يكن لراعوث أي حق مباشر على بوعز لأنه لم يكن الولي الأقرب لها، فكان مسلكه معها من مجرد النعمة، وإسرائيل وكذلك الأمم يجب ان يحصلوا على الميراث على أساس النعمة الخالصة "فولدت (راعوث) ابنا . . وأخذت نعمي الولد ووضعته في حضنها وصارت له مربية وسمته الجارات اسما قائلات قد ولد ابن لنعمي" يا له من منظر جذاب ونعمة محببة للقلب! فهوذا الأرملة تتغنى كأيام صباها والموحشة صارت أما لبنين، والحضن الحزون احتضن مرة أخرى وارثا حيا، وأصبح المشهد مليئا بالفرح، وهنا نرى _ في أسلوب شيق صورة رمزية لرد إسرائيل الكامل إلى أرضهم مستقبلا في حالة الكرامة والمجد والعظمة، فبعد قليل جدا سيأتي بوعز الحقيقي لأجل البقية الخائفة الله ويثبتهم كأمة في أرضهم على أساس جديد، هذا هو الحق المفرح الذي يملأ صفحات الكتاب المقدس.
وإليك القليل من الشواهد الكتابية التي تفوق الحصر ". . . . فترى الأمم برك وكل الملوك مجدك وتسمين باسم جديد يعينه فم الرب. وتكونين إكليل جمال بيد الرب وتاجا ملكيا بكف إلهك. لا يقال بعد لك مهجورة ولا يقال بعد لأرضك موحشة بل تدعين حفصيبة (أي مسرتي فيك) وأرضك تدعى بعولة (أي متزوجة) لان الرب يسر بك وأرضك تصير ذات بعل"(أش62) وأيضا ". . . هأنذا اتملقها واذهب بها إلى البرية ألاطفها وأعطيها كروما من هناك ووادي عخور بابا للرجاء وهي تغني هناك كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر . . . واخطبك لنفسي إلى الأبد واخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. اخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (هو2: 14-20) حقا ما أعجب النعمة التي لا مثيل لها _ نعمة الله التي في المسيح يسوع من نحو أول الخطاة وأشرهم ، فالمحبة هي النبع، والنعمة هي التي تتدفق إلى الخاطئ الضال حتى ترده إلى الله. والمحبة هي هي _ في ملئها وكمالها دائما _ فالرب يحب إسرائيل، وهو أيضا يحب الكنيسة، كما أنه يحب كل مؤمن بمفرده، وكل نفس اجتذبت إليه يحبها محبة كاملة _ عنده وحده المحبة الفائقة المعرفة "أدخلني الملك إلى حجاله" أه.
( 1 ) We will run after thee
( 1 ) نذكر أو نعيد أو نحتفل Remember or Celebrate (N.T.)
( 1 ) They love thee uprighty (N. T.) أو The upright love thee (A.V.)
( 1 ) أندرو ملر
( 1 ) نعمي أي لذتي
ص 1، آية 5
5-"أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان"
لقد بدأت العروس نشيدها بالتغني بالعريس ومحبته، وبجلاله اسمه وبهاء حجاله، وهناك في جو الشركة المقدسة معه وفي بهاء طلعته المباركة قد أدركت حقيقة ذاتها، وما هي بحسب الطبيعة، وهذا اختبار لا يمكن ان يدركه المؤمن إدراكا صحيحا إلا في نور المقادس _ أمام الله وفي حضرة المسيح، فهناك داخل "حجال الملك" عرفت العروس أنها "سوداء"، وهذا نفس ما أدركه أشعياء النبي فأنه إذ رأى السيد الرب جالسا على الكرسي العالي والمرتفع والسرافيم يعلنون قداسته، قال "ويل لي أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين. لان عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (أش6) فلم يعرف النبي ذاته المعرفة الحقيقية ويدرك أنه إنسان نجس الشفتين إلا عندما رأت عيناه الملك في جلال قداسته، وهذا أيضا ما اختبره الرسول بطرس فإنه رأى مجد الرب يسوع عندما امتلأت السفينتان بالسمك حتى أخذتا في الغرق "خر عند ركبتي يسوع قائلا أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ"(لو5: 5-9) ليت شركتنا تزداد مع الرب ويزداد قربنا إليه وتفرسنا في كمالاته فيزداد إدراكنا لحقيقة ذواتنا كما يزداد أيضا إدراكنا لسمو مقامنا الذي أوصلتنا إليه نعمته الغنية.
"سوداء وجميلة" _ سوداء "كخيام قيدار" وجميلة "كشقق سليمان" هذان الوصفان يبينان حالة المؤمن ومقامه، فهو بحسب حالته وارث لطبيعة آدم الساقطة، وبحسب مقامه هو في المسيح إنسان جديد "شريك الطبيعة الإلهية"، فبينما نرى ان أعظم قديس في الأرض يقول "أني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح"(رو7: 18). فان أضعف مؤمن حقيقي هو في المسيح قديس وبلا لوم قدام الله في المحبة. فهو من الوجه الواحد أسود كخيام قيدار _ وقيدار معناه ذو الجلد الأسود، وهو أحد أبناء إسماعيل ابن الجارية الذي يعتبر صورة للخطية الساكنة فينا وبنو قيدار حيثما حلوا فأنهم يسكنون في خيام سوداء _ هذه صورة مصغرة للطبيعة البشرية الساقطة الساكنة في المؤمن على السواء _ سوداء كخيام قيدار، (أنظر مز120: 5وتك25: 13،غل4: 23).
أما من الوجه الآخر فالمؤمن جميل "كشقق سليمان" وما كان أجمل بيت سليمان في ذلك الحين _ ذلك البيت الذي لما رأت ملكة سبا جماله لم تبق فيها روح بعد (2أخ9: 3و4).
أما إذا اعتبرنا ان المقصود بشقق سليمان هو حجاب الهيكل الجميل الذي بناه سليمان والذي هو بلا شك رمز لناسوت ربنا الكامل _ هيكل الله الحقيقي (يو2: 19و 21) فان في هذا الحق الثمين تعزية قوية لنا، فالمؤمن له أمام الله نفس الجمال والكمال اللذين لربنا المبارك _ يسوع المسيح.
ولنا في العهد الجديد أدلة كثيرة جدا ترى المؤمن في صورتيه، وتؤكد بدون أدنى التباس ان كل مؤمن يحمل بين جنبيه طبيعتين _ الطبيعة القديمة الموروثة من آدم والطبيعة الجديدة المولودة من الله، فبينا نرى الرسول بولس يخاطب الكورنثيين باعتبارهم "مقدسين في المسيح يسوع" وقديسين، وأنهم من جهة المواهب الروحية ليسوا ناقصين في موهبة ما (1كو1) نجده يوبخهم في نفس الإصحاح لان بينهم انشقاقات وخصومات وفي ص3 من نفس الرسالة لم يستطع ان يكلمهم كروحيين بل كجسديين كأطفال في المسيح إذ فيهم حسد وخصام وانشقاق.
وفي نفس الوقت الذي يخاطب فيه الرسول المؤمنين في كولوسي باعتبارهم قد ماتوا وقاموا وحياتهم مستترة مع المسيح في الله، يطلب إليهم ان يميتوا أعضاءهم التي على الأرض الزنى النجاسة الخ (كو3) هذه كلها وغيرها كثير، من الأدلة التي تبين وتؤكد ان المؤمنين قد ماتوا مع المسيح وقاموا معه وأنهم جالسون معا في السماويات في المسيح يسوع، وهذه كلها بالنعمة، ولكنهم في نفس الوقت بشر ضعفاء في ذواتهم وفي حاجة مستمرة إلى التزود بقوة روحية لإماتة أعمال الجسد "بالروح تميتون أعمال الجسد" (رو8: 13) فجسد الخطية لا وجود له أمام الله لأنه قد قضى عليه بصليب المسيح، ولكنه لا يزال ساكنا في كل مؤمن وعليه ان يسهر ضد كل حركاته ويحكم عليها، لا بل عليه ان يحسب نفسه ميتا "كذلك أنتم أيضا احسبوا أنفسكم أموات عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا"(رو6: 11).
ربما يعترضنا البعض بان هذا التعليم قد يقود المؤمن إلى التهاون في السلوك والتراخي في العيشة الصالحة، ولكن الواقع هو بعكس ذلك، إذ أنني متى أدركت حقيقة ذاتي وأني بحسب الطبيعة إنسان مسكين وفي طبيعة تميل إلى الشر فإني اجتهد معتمدا على معونة الرب وخدمته الكهنوتية وعلى مؤازرة روحه الساكن في أكون دائما في حالة الصحو الروحي، وسائرا مع الله في قداسة الحياة العملية، وساهرا ضد كل شر أو ميل رديء منبعه القلب "لان من القلب تخرج أفكار شريرة"(مت15: 19) أما إذا توهمت بان الشر قد انتزع تماما من داخلي فلا أكون في حاجة إلى السهر ضد أي ميل شرير، وعندما تتردد في داخلي الأفكار الشريرة فلا أهتم بالحكم عليها ولا اعتبرها شرا يجب الحكم عليه وادانته، وعوضا عن ان أدرب نفسي للنمو في حياة القداسة فأني أحط من شان قداسة الله الكاملة وأجعل حالتي العملية مقياسا لقداسته تعالى عوضا عن ان أجعل قداسة الله مقياسا كاملا أسعى للوصول إليه، وهل هناك أشر من تخفيض مقياس قداسة الله إلى هذا الحد؟
وإذا افترضنا ان المؤمن يصل حقيقة إلى مستوى القداسة الكاملة ولا يبقى للشر أثر في داخله فما حاجته بعد إلى ممارسة وسائط النعمة؟ بل ما حاجته إلى شفاعة المسيح؟ "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وان أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار"(1يو2: 1).
وإذا تسنى للمؤمن ان يصل إلى حالة الكمال، وان لا يبقى للخطية أثر في داخله فأنه في هذه الحالة لا يكون عرضة للموت الجسدي، لأنه ما علة دخول الموت إلى العالم. أليست الخطية؟ "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع"(رو5: 12) فان كان بالخطية الموت، إذن حيث لا وجود للخطية فليس هناك موت.
كنا نود ان نتوسع أكثر في الكلام عن هذه الحقيقة ولكننا نريد ان نتقدم في تأملاتنا في هذا السفر، ورجاؤنا في الرب ان يتنازل لكل نفس مخلصة حتى تتثبت من هذا الحق كما هو معلن في كلمة الله فتعترف جهرا بأنها "سوداء وجميلة" نعم هي سوداء ولكنها، شكرا للرب _ هي في الوقت ذاته جميلة، ولا نكون مغالين إذا قلنا أنها جميلة كجمال عريسها المبارك، والحقيقة التي تملأ نفس المؤمن شبعا وسرورا هي أنه أمام الله (وليس في ذاته) جميل كالمسيح _ والله _ تبارك اسمه _ لا يمكن ان يرى المؤمن أقل جملا من المسيح لأنه فيه، وله في قلب الآب محبة كاملة لا تقل عن محبته تعالى للمسيح "أحببتهم كما أحببتني"(يو17: 23) يا لها من نعمة غنية صيرت السوداء البشعة أبيض من الثلج _ صيرتها جميلة وحلوة ومحبوبة بهذا المقدار، وإذا كان المؤمن قد صار حلوا وجميلا إلى هذا الحد، أفلا يليق به ان يظهر هذا الجمال في حياته العملية _ في أقواله وفي أعماله؟ فكلامه يكون عذبا وفي كل حين مملحا بملح وبحسب الحاجة لكي يعطي نعمة للسامعين، وان يتصرف حسنا في كل شيء فيظهر صفات وكمالات سيده الذي صار جميلا مثله.
ولا بد ان يأتي عاجلا الوقت الذي فيه نكون في كمال الجمال. لا روحا ونفسا فقط بل وجسدا أيضا "إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو"(1يو3: 3) "كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضا صورة السماوي" نعم سيأتي العريس المبارك من السماء وسيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده. . . هللويا.
* * *
ولنلاحظ ان العروس في هذا العدد توجه كلماتها هذه إلى "بنات أورشليم" وهذا يتبين منه ان "بنات أورشليم" لسن هن العروس ولو أنه توجد علاقة بينهما فإذا كانت العروس تشير إلى المدينة المحبوبة أورشليم _ "مدينة الملك العظيم" فبنات أورشليم يشرن غالبا إلى مدن يهوذا أو ربما للراجعين للرب من إسرائيل، ومع أنه سيكون لها (أي لمدن يهوذا وإسرائيل) نصيب مبارك في ملك الرب ولكنها لن تصل إلى نصيب ومقام العروس وإعزاز الملك لها، إذ هو واضح في كلمة الله ان أورشليم سيكون لها المركز الأول "لان الرب اختار صهيون اشتهاها مسكنا له هذه هي راحة إلى الأبد ههنا أسكن لأني اشتهيتها"(مز132: 13و 14) "والآن قد اخترت وقدست هذا البيت ليكون اسمي فيه إلى الأبد وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام"(2أخ7: 16).
ص 1، آية 6
6-"لا تنظرن إلي لكوني سوداء لان الشمس قد لوحتني. بنو أمي غضبوا علي. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره".
أننا معرضون لان ننظر بعضنا إلى بعض من الناحية السوداء، ولا شيء يؤثر على وحدة المؤمنين ويضعف محبتهم لبعضهم البعض أكثر من ذلك. "لا تنظرن إلي لكوني سوداء" فان هذا ما يولد في نفوس المؤمنين روح الازدراء بأخوتهم. فلننظر في كل حين _ إلى بعضنا البعض من الوجه المنير، وإذا كان الرب نفسه لا ينظر إلى العروس في صورتها السوداء التي تلاشت أمام محبته الكاملة فيناجيها قائلا "ها أنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة وعيناك حمامتان"(ع15) فعلينا ان نتمثل به فنرى بعضنا بعضا بهذه النظرة عينها "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (في2: 3) وحتى إذا رأينا أخا ساقطا فلا نكون قساة في معاملتنا له وفي حكمنا عليه، حاسبين أنه جسدي "أسود" وأننا نحن روحيون وأجمل منه، لأننا إذا كنا روحيين حقيقة فعلينا ان نصلح مثل هذا بروح الوداعة ناظرين إلى أنفسنا لئلا نجرب نحن أيضا، ولا شك ان أعظم الروحيين هم عرضة للسقوط كغيرهم، لان الشمس التي لوحت تلك العروس لها ذات التأثير على غيرها، وأي شخص في هذه الحياة لا يتعرض لتأثيرات الشمس المحرقة "لا شي يختفي من حرها"(مز19: 6).
* * *
ويمكننا ان نرى في فعل حرارة الشمس التي لوحت العروس إشارة إلى تأثير معاملات الله معنا وتدريباته لنا بالآلام، فأنه علاوة على معاملاته الحبية الحلوة معنا هناك طرق وتدريبات إلهية مذللة لنفوسنا، وهذه جوهرية ولازمة لنا كتلك أيضا، وأنه لمن الواضح والجلي في كلمة الله ان الذين هم موضوع محبته تعالى والذين يشاء ان يغمرهم بفيض بركاته فهؤلاء يحيزهم في تدريبات وآلام متنوعة.
ان كل طرق الله وتدريباته وان كانت مذلة لنفوسنا وتجعلنا ندرك حقارتنا في ذواتنا، وأننا لسنا شيئا من ذواتنا، إلا تجمل حياتنا بسجايا وفضائل روحية جليلة القدر. نعم ان التأديب، وان كان أليما ولكنه "أخيرا يعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام" أنه "لأجل المنفعة لكي نشترك من قداسته"(عب12: 10و 11).
ان ما جعل الرسول بولس وضيعا في عيني نفسه كما في عيون آخرين أيضا كان الواقع ربحا روحيا له، فقد استطاع مقاوموه عنه بان "حضور الجسد ضعيف والكلام حقير"(2كو10: 10) ولكنه إذ كان ضعيفا فقد حلت عليه قوة المسيح، وقد امتدح الغلاطيين لأنهم لم يزدروا بتجربته التي في جسده، ولا كرهوها، ولكنهم قبلوه كملاك من الله. "كالمسيح يسوع" فان كان السوداء ظاهرا فيه، فان الجمال كان باهرا أيضا إذ اجتذب قلوبهم لأنهم رأوا فيه جمال مسيح الله "المسيح يسوع" فإذا كانت طرق الله وتدريباته أليمة ومذلة إلا أنها تنقي حياتنا من كل ما هو من الجسد ومن كل ما لا يليق بالعروس بل بالحري تكسب النفس جمالا روحيا مقدسا. ان كل جمال يزين حياة العروس أنما هو من الوجه الواحد نتيجة لمعاملات المسيح الحبية الحلوة ومن الوجه الآخر لمعاملات الله التأديبية المؤلمة، وان ما يذللنا ويحقرنا في أعين ذواتنا يمهد السبيل للتمتع بغنى نعمة المسيح.
لقد اختبر أيوب قديما كيف ان شمس التجارب قد لوحته فقال "حرش جلدي علي وعظامي احترت من الحرارة في"(أي30: 30) وقد كان هذا لازما له لتنقيته من الاعتماد على بره الذاتي وإزالة ما كان في نفسه من زهو. كان لازما ان تحرقه الشمس بحرارتها اللافحة حتى يذبل "لان الشمس أشرقت بالحر فيبست العشب فسقط زهره وفني جمال منظره. هكذا يذبل الغني أيضا في كل طرقه" وماذا تكون نتيجة هذه التدريبات؟ "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة. لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه"(يع1: 11و 12)
* * *
وسيكون لسان حال البقية التقية في وقت محنتها القادمة "لا تنظرن إلي لكوني سوداء لان الشمس قد لوحتني" وهذا ما نراه بأكثر وضوح وتفصيل في سفر المزامير، فقد كانت ابنة صهيون ومرفوعة الرأس بين كل الأمم "وخرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملا ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب"(حز16: 14) ولكنها لعدم أمانتها نـزلت إلى مستوى العبد الملفوح، والنبي ارميا في مرثاته على سقوط أورشليم يصف بأسلوب مؤثر لا ما كانت عليه فقط بل أيضا ما صارت إليه بسبب الضيق والحزن. "كان نذرها ( 1) أنقى من الثلج وأكثر بياضا من اللبن وأجسامهم أشد حمرة من المرجان. جرزهم ( 2) كالياقوت الأزرق. صارت صورتهم أشد ظلاما من السوداء. لم يعرفوا في الشوارع. لصق جلدهم بعظمهم. صار يابسا كالخشب"(مراثي4: 7و 8) الأمر الذي جعل النبي يتساءل في مرارة نفسه "كيف أكدر الذهب تغير الإبريز الجديد؟" (ع1).
ولكن تبارك اسم إلهنا فأنه لا يترك شعبه _ أي البقية الخائفة الله التي ستجتاز في أعماق الضيق "ضيق يعقوب" حيث يحرقهم لهيب تلك الضيقة العظيمة ويشويهم بعنف، فأنه سيشترك معهم بعواطفه "في كل ضيقهم تضايق" وعندئذ سيقول الرب ملكهم "عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بان جهادها قد كمل ان أثمها قد عفى عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها"(أش40: 1و 2) فالبقية التي لوحتها الشمس وصيرتها سوداء سترى عندئذ أنها جميلة _ "كشقق سليمان".
"بنوا أمي غضبوا علي"
ان كان العريس نفسه قد تألم من تعييرات اليهود أخوته "بني أمه" وقد اشتد غضبهم عليه حتى قتلوه "بأيدي آثمة" فلا غرابة ان كان المؤمنون يسيرون في نفس خطوات عريسهم المبارك "ان كان العالم يبغضكم فأعلموا أنه قد ابغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم. أذكروا الكلام الذي قلته لكم ليس عبد أعظم من سيده. ان كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم"(يو15: 8-20) وطوبى لنا ان تألمنا لأجل البر وعيرنا باسم المسيح لان روح المجد والله يحل علينا (1بط3: 14و 4: 14). ذلك خير لنا من ان نجاري أهل العالم لنكتسب رضاءهم لان "جميع الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون"(2تي3: 12) وان كنا سنشترك مع المسيح في مجده فلا بد لنا أولا ان نشاركه في آلامه "ان كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضا معه"(رو8: 17). فالصليب أولا ثم الإكليل، ولا إكليل بدون الصليب.
* * *
وأنه لمن المؤلم حقا ان الذين غضبوا على العروس هو أقرب الناس إليها "بنوا أمها" وان كان أمرا غريبا إلا أنه حقيقة واقعية، فأنه متى وجدت الرغبة الصادقة في الشركة مع الرب والالتصاق به وتكريس الحياة له، والتمتع بمحبته فان المقاومة لا تأتي من الذين من الخارج فقط بل كثيرا ما تكون من الذين هم في داخل أيضا أو بالحري من مؤمنين، كم هو مؤلم حقا ان من يرغب في حياة لانفصال عن كل ما ليس من المسيح وفي العيشة بالقداسة والسلوك بالتدقيق وان تكون حياته بجملتها في رضى الرب، كثيرا ما يقابل حتى من بعض المؤمنين بالازدراء والتحقير ويحسب متطرفا وضيق الفكر. ليحفظنا إلهنا من الوصول إلى هذا المستوى الجسدي، وليعطنا بنعمته ان نرضي سيدنا في كل شيء مهما كلفنا ذلك من احتمال الإهانة والتعيير.
* * *
ولا بد ان تختبر البقية التقية هذه الحقيقة أثناء اجتيازها في تلك الضيقة المرة، فأنهم لا يقعون تحت ضغط اضطهاد ضد المسيح المقاوم الأكبر فقط، بل ان أخوتهم حسب الجسد سينقلبون ضدهم "اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه. قال أخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي ليتمجد الرب. فيظهر لفرحكم وأما هم فيخزون"(أش66: 5). هذا هو المقصود بقول العروس "بنوا أمي غضبوا علي" ولكن ما أجمل وعد الرب الكريم سواء لتلك البقية أو لكل مسيحي مضطهد ومقاوم لأجل الرب ولأجل الحق "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لان أجركم عظيم في السموات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم"(مت5: 11و 12).
"جعلوني ناطورة ( 1) الكروم وأما كرمي فلم أنطره"
يبذل عدو المسيح كل الجهد لكي يسلب من المؤمن أوقاته وقواه ومواهبه التي ائتمنه الرب عليها، فعوضا عن ان يستخدم المؤمن تلك الأوقات والمواهب لمجد الرب ولبركة نفسه فأنه ينفقها بكل سخاء في الأمور العالمية ظانا ان العالم سيعطيه أجرا على مجهوداته الباطلة، وما أكبر الخسارة التي تعود على نفس المؤمن الذي يتعب ويكد في الحصول على ثمرة مجهوداته الجسدية فإذا به يجد ان "الكل باطل وقبض الريح". من منِ المؤمنين الذين أنفقوا قواهم في الأمور العالمية لم يكن تعبهم باطلا؟ يا للأسف. قد أضاع الكثيرون حياتهم في خدمة العالم وخرجوا منه عراة بلا ثمر. ربما ظنوا في بادئ الأمر أنهم في تعبهم وكدهم في العالم يستطيعون ان يخدموا الرب، ولكن من ذا الذي يستطيع ان يحرس كرمين في ان واحد؟ "أما كرمي فلم أنطره". لقد حرست العروس كروم العالم فعجزت عن حراسة كرمها "لا يقدر أحد ان يخدم سيدين". ويا له من اعتراف مؤلم ومحزن "أما كرمي" العمل الذي لأجله أوجدني الرب هنا. الموهبة التي ائتمنني عليها لأخدمه بها "ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة"(1بط4: 10) الأوقات التي أضعتها سدى وسيحاسبني الرب عليها. الأموال التي أوجدها بين يدي وجعلني وكيلا عليها (ليس أكثر). الأولاد الذين أعطانيهم الله لأربيهم في تأديب الرب وإنذاره. النفوس الضالة التي أوجدني الرب لاشهد لها بغنى نعمته تعالى. هل نحن أمناء في هذه وغيرها مما أودعنا إلهنا؟ ليعطينا بنعمته ان نكون صاحين وأمناء في شهادتنا وخدمتنا له، فلا نضيع أوقاتنا سدى بل نكون "مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين ان تعبنا ليس باطلا في الرب"(1كو15: 58).
* * *
ثم ان لهذه العبارة معنى عمليا آخر هو من الأهمية بمكان "جعلوني ناطورة الكروم وأما كرمي فلم أنطره". أنه من السهل علينا ان نقيم أنفسنا حراسا على الحالة الآخرين فنراقب كل حركاتهم بل ربما ننتقد الكثير من أعمالهم بينما نهمل السهر على حالة نفوسنا، مع أنه كان الأولى بنا ان نلاحظ حالة نفوسنا أولا "لأحظ نفسك (أولا) والتعليم (ثانيا) وداوم على ذلك. لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك (أولا) والذين يسمعونك أيضا"(1تي4: 16) أما إذا لم نسهر على حالة نفوسنا وانشغلنا بمراقبة حالة الآخرين وتصرفاتهم فأنه يتم فينا قول الرب "يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك. وحينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى من عين أخيك"(مت7: 4).
كم من المرات نهتم بخدمة أخوتنا سواء في الاجتماعات أو في الانفراد _ وهذا حسن في ذاته، ولكننا نهمل حالتنا الروحية فلا تسبق خدماتنا الجهارية أو الفردية خدمة الشركة السرية العميقة لنفوسنا، ولذا فأننا نجد ان معظم خدماتنا للآخرين مجدبة وبلا ثمر، أما إذا أردنا ان تكون خدمتنا مثمرة وسبب بركة وفرح لشعب الرب وخلاص نفوس كثيرة فعلينا ان نكون نحن في قوة الحياة الروحية أولا. لا نستطيع ان نتوقع بحق خلاص نفوس كثيرة ما لم نكن نحن أولا في الحالة الروحية التي نعها يستطيع الرب ان يستخدمنا في هداية النفوس البعيدة إليه، ولكي نكون كذلك يجب ان نسلم ذواتنا تسليما كليا للرب يسوع المسيح، ولا يمكن أيضا ان تكون اجتماعاتنا جذابة لأولئك البعيدين ومحبة إليهم فتمتلئ بهم أمكنة اجتماعاتنا ما لم نكن نحن أولا كجماعة لها شركة قوية مع الرب. ان الكنيسة الحية روحيا هي التي يستطيع الخطاة ان يجدوا في جوها المنعش ما يجتذبهم إلى المخلص الوحيد ومن الناحية الأخرى إذا كان المؤمنون ذوو المواهب الروحية، والمعتبرون أنهم أعمدة أو يحسبون متقدمين بين أخوتهم (أع15: 22) في حالة روحية سامية ويقدمون أنفسهم قدوة للآخرين فأنهم بلا ريب يكونون سبب بركة وانتعاش روحي بين أخوتهم الآخرين، وفوق ذلك إذا كانت الكنيسة صاحية ومتعقلة للصلوات فإنها بلا شك تتمتع ببركات روحية وفيرة، فالرب يسوع يكون موضوع تعبد أفرادها والكتاب المقدس يصير أحب كتاب إليهم، والصلوات في المخادع وفي الاجتماعات لا تكون واجبا ثقيلا بل ملذة لهم، وترمم المذابح العائلية في بيوت المؤمنين، وحتى الطعام العادي يتناوله المؤمنون ببساطة القلب والابتهاج، وبالجملة يتمتع القديسون أفرادا وجماعة بأيام السماء على الأرض.
* * *
ثم ان هذا التعبير "جعلوني ناطورة الكروم وأما كرمي فلم أنطره" ينطبق تماما على حالة أورشليم ويهوذا، فاليهود كانوا يشغلون مركز "قائد للعميان. . . ومهذب للأغبياء"(رو2: 19و 20) لذا كان لزاما عليهم ان يكونوا شهودا أمناء لله بين كل أمة وقبيلة ولسان، ولكنهم مع الأسف لم يكونوا أمناء في مسئوليتهم أمام الله بأزاء كل العالم، كان واجبا عليهم ان يكونوا بركة لكل أمة تحت الشمس طبقا لوعد الرب لإبراهيم بان فيه تتبارك كل أمم الأرض، ولكنهم لم يحرسوا ذلك الكرم بل أكثر من ذلك لم يحتفظوا ببركاتهم التي اختصهم الرب بها.
إلا أنه سيجيء الوقت الذي فيه ترجع بقية منهم إلى الرب وعندئذ يتمتعون ببركاتهم التي وعدوا بها "لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة"(رو11: 29) وعندئذ لا تقول العروس "وأما كرمي فلم أنطره" بل بالحري تقول "كرمي الذي لي هو أمامي"(ص8: 12).
ص 1، آية 7
7-"اخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنة عند قطعان أصحابك؟"
هنا نرى العروس تتوجه بكل عواطفها وبإيمان وطيد إلى عريسها وحبيبها، فبعد ان تتحدث إلى بنات أورشليم عن ذاتها وحالتها فأنها تلجأ إليه معترفة بحالتها وطالبة منه هدايتها، فهي لم تكتف بمجرد الاعتراف بسوء حالتها وبعدم أمانتها في حراسة كرمها بل رغبت رغبة قلبية صادقة في الخلاص فعلا من هذه الحالة. ما أكثر اعتراف المؤمنين في هذه الأيام بما وصلت إليه نفوسهم من الضعف الروحي بسبب الاشتباك والارتباك بأمور الحياة الكثيرة، ولكن كثيرين منهم وقفوا عند حد الاعتراف فقط _ الاعتراف المستمر والمتواصل وكأنهم يعتبرون ان الاعتراف هو كل ما ينتظر منهم ولكن من يقر بخطاياه ويتركها هو الذي يرحم (ام28: 13). يجب ان يعقب الاعتراف الرجوع القلبي الصحيح "تغيروا عن شكلكم"(رو12: 2). هذا ما عملته العروس إذ التجأت إلى عريسها، ويا له من تغيير مبارك في نفس العروس، فقد ملأ العريس قلبها وعقلها. أما الذات فقد غابت من المشهد، ويا لها من رحمة، فلا مجال للحديث الآن عن سوادها أو جمالها، وهل من أثر للتفكير في الذات سوى الغم والهم؟ كم من القلق وكم من الحزن يصدر عن نظرات العين إلى الداخل عوضا عن ان تتحول النفس إلى المسيح لذا تخاطب عريسها قائلة له أخبرني.
"يا من تحبه نفسي"
حقا ما أعذب الأسلوب الذي به تخاطب العروس عريسها "يا من تحبه نفسي" وهذا أقل ما ينتظر منا نحن المؤمنين _ ان نحب الرب الذي "أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا"(أف5: 2). "أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها"(أف5: 25) "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. . . "(رؤ1: 5) "بهذا قد عرفنا المحبة ان ذاك وضع نفسه لأجلنا"(1يو3: 16) فلا فضل لنا ان كنا نحبه "لأنه هو أحبنا أولا" ولا ريب في ان كل مؤمن حقيقي يحب المسيح الذي أحيه "الذي وان لم تروه تحبونه"(1بط1: 8) أما "ان كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما" (أي محروما أو مسلما للهلاك 1كو16: 22) ولكن "النعمة مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد. أمين"(أف6: 24).
أيها الرب سيدنا نضرع إليك ان تضرم المحبة في قلوبنا وعواطفنا بروحك الساكن فينا فنحبك أكثر.
"أين ترعى؟ ( 1 )"
لم تكتف العروس بمعرفة الرب كالعريس وكالملك فقط بل عرفته أيضا كالراعي وطوبى لنفس قد أدركت كل ما لها في الرب من النسب والعلاقات المباركة، فكما أنه تبارك اسمه هو العريس والملك فهو أيضا الراعي _ "الراعي الصالح" الذي بذل نفسه عن الخراف (يو10)، "وراعي الخراف العظيم" المقام من بين الأموات (عب13)، كما أنه "رئيس الرعاة" الذي لا بد ان يكافئ من يرعون قطيعه بأمانة (1بط5).
"الرب راعي" فهو ليس عريسي الذي يحبني فقط بل وراعي الذي يرعاني ويعتني بي "فلا يعوزني شيء" والعروس تبدي رغبتها الملحة في ان تتبع الرب إلى مراعيه حتى ولو كانت تلك المراعي لا تروق لنظر العيان، وتفضل ان توجد معه في تلك المراعي وتلتذ بسماع صوت راعيها الحنون على ان توجد في المراعي الأخرى وتسمع أصوات الرعاة الآخرين "أما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء"(يو10: 5).
"أين تربض عند الظهيرة؟"
ان في قول العروس "أين ترعى أين تربض (أو تجعل قطيعك يستريح ( 1 ) ) عند الظهيرة" دليلا على أنها كانت تشتاق لا ان تتمتع بالرب كعريسها فقط فتخلو به في شركة سرية مقدسة، بل كانت تشتهي ان تتمتع به كالراعي الذي "يرعى قطيعه". كانت تحب الشركة مع الرب ومع خرافه المحبوبة "القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم"(مز16) وليس أعز لقلب المؤمن الحقيقي من اجتماع المؤمنين معا باسم الرب وفي حضرته المباركة "لأنه هناك أمر الرب بالبركة حياة إلى الأبد"(مز133).
نعم لقد تشعت المسيحية _ بكل أسف _ إلى شيع ومذاهب متعددة، وكثيرون من محبي الحق يقفون حائرين أمام هذه الانقسامات العديدة والتشويشات المتنوعة ولا يعرفون ماذا يعملون بازائها، ولكن كلمة الله صريحة وفيها الكفاية لإرشاد كل مسيحي مخلص إلى السبيل المنير "هكذا قال الرب. قفوا على الطريق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم"(أر6: 16) ومتى لجأ أمثال هؤلاء الحيارى إلى الرب قائلين بإخلاص "أين ترعى أين تربض؟" فجوابه على ذلك صريح وواضح كل الوضوح "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم"(مت18: 20) فأقل عدد من المؤمنين "اثنان أو ثلاثة" يجتمعون معا باسم الرب وتحت رئاسته، ولا يعرفون رأسا أو رئيسا سواه فهناك يكون هو _ له المجد _ في وسطهم، وفي حضوره المبارك كل الكفاية.
وأنه لمن المؤسف ان كثيرين من المؤمنين في هذه الأيام الرديئة والأزمنة الصعبة يهملون الاجتماع مع شعب الرب بسبب ضعف حالتهم الروحية، ويوهمون أنفسهم وغيرهم بان العبرة هي بالتمتع بالرب في الشركة الفردية، وبان هذا يعوض لهم عن هجرانهم اجتماعات المؤمنين. حقا ما أردأ فكرا كهذا! هل اكتفت العروس بالتمتع بعريسها في شركة سرية معه واسغنت عن التمتع به حيث "يرعى قطيعه" ويربض خرافه؟ أني أعتقد ان أمثال هؤلاء مخدوعون ولا أظنهم متمتعين بالرب لا سرا ولا جهرا "غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة بل واعظين بعضنا بعضا وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب"(عب10: 25)
* * *
"أين تربض عند الظهيرة؟" إلى أي مكان تقود خرافك لتستريح في وقت الظهيرة _ وقت الحر الشديد والقيظ اللافح؟ وسؤال العروس هذا يدل دلالة واضحة على أنها لم تكن متمتعة تماما بالراحة والسعادة الحقيقتين اللتين يقود الراعي الصالح خرافه العزيزة إليهما عند الظهيرة وقت اشتداد حرارة الشمس اللاذعة وإلا لكانت تغنت مع المرنم "في مراع خضر يربضني إلى مياه الراحة يوردني"(مز23) ما أحوجنا في ظهيرة هذا العالم وحرارته المحرقة ان نجد راحتنا في الشركة مع الرب الذي أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد، وأيضا في شركتنا نحن المؤمنين معا.
"لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟"
فالعروس لم تجد راحتها ولا حريتها عند قطعان غيره حتى أنها اضطرت ان تضع قناعا (أي برقعا) على وجهها، مع أنها لو كانت معه متمتعة به حيث يرعى قطيعه لرفعت ذلك القناع ولتمتعت بالحرية الكاملة. تلك كانت صورة لحالة شعب الرب الأرضي في العهد القديم _ عهد الأعمال وإلى الآن فأنه "حين يقرأ موسى (أي ناموس موسى) البرقع موضوع على قلبهم. ولكن عندما ترجع (البقية مستقبلا) إلى الرب ويرفع البرقع"(2كو3: 15و 16) ولكننا نشكر الله لأنه من امتيازنا نحن المؤمنين في عهد النعمة الحاضرة _ أعني العهد الجديد ان نتمتع بالرب "بوجه مكشوف" ولا يليق بنا ان نسمح لأي شيء آخر بان يحجب نوره وضياء محياه عنا "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح"(2كو3: 18) نعم ان امتيازنا ان نرى (بواسطة مرآة الكلمة) مجد الله في وجه يسوع المسيح بقوة الروح القدس الذي يعكس كمالات سيدنا علينا مظهرا إياها في حياتنا العملية.
* * *
غير أننا _ بكل أسف نرى الكثيرين من المؤمنين _ أولاد الله الأعزاء غير متمتعين كما يجب بالحرية التي لهم في المسيح وذلك بسبب ما وضع على عيونهم من البراقع الكثيرة كالفرائض اليهودية والتقاليد البشرية التي لا تتفق مع كلمة الله، ووصايا الناس وتعاليمهم وآرائهم العاطلة، بل كم من الذين استناروا في معرفة الإنجيل قد حرموا أنفسهم من لذة الحرية الحقيقية _ حرية السجود والعبادة "بالروح والحق" بسبب برقع الأنظمة البشرية التي عظمت الإنسان وسلبت من الرب _ رأس الجسد _ سيادته ورئاسته وسط المجتمعين باسمه ومن الروح القدس حقوقه في وسط جماعة الله، ومن الغريب ان هذه الأنظمة لها صورة دينية جذابة وهذا ما أدركته العروس واعترفت به في قولها "قطعان أصحابك" أي كأنه توجد شبه صلة بين الرب وهذه التعاليم والأنظمة المخترعة.
يا ليت الرب يتنازل برحمته إلى كل النفوس العزيزة لتتمتع بالحرية الكاملة وتشبع بالرب وحده.
* * *
بقيت ملاحظة مختصرة على كلمة "قطعان" فأنه مهما تعددت القطعان ولكن للرب _ الراعي قطيع واحد "رعية واحدة وراع واحد"(يو10: 16) وواجب على كل مؤمن حقيقي ان يبتعد عن كل انقسام وينفصل عن كل ما يسمى "طائفة" وان يطهر نفسه من كل أواني الهوان "ويتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي"(2تي2: 22) وبذا "يكون إناء للكرامة مقدسا نافعا للسيد مستعدا لكل عمل صالح"(2تي2: 21).
ومن المحقق ان كلمات هذا العدد هي لغة البقية التقية في يومها القادم، فأنها إذ تنفتح عيناها لتعرف المسيا ملكها سيملأ روح الله نفسها بالمحبة له "يا من تحبه نفسي" وسيكون ذلك صدى محبته وملاطفته لها (هو2: 14). وستهتم تلك البقية أو بالحري العروس الأرضية بأمر الشركة والوجود معه حيث يرعاها ويشبعها ويريحها. لقد ضلت الأمة اليهودية عنه وسط الأمم زمانا طويلا، وتبعت أصنامهم وآلتهم، ولكن عندما ترجع البقية إلى الرب فسيكون قلبها بجملته له _ للمسيا الذي تحبه نفسها وعندئذ لا تكون كمقنعة عند قطعان الرعاة الآخرين بل سيرفع البرقع وسترى المسيا "الملك في بهائه".
ص 1، آية 8
8-"ان لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء فأخرجي على آثار الغنم وارعي جداءك عند مساكن الرعاة".
هذا هو أول كلام للعريس في هذا السفر، فهو ان كان كلام العروس جميلا، فأجمل منه بما لا يقاس كلام العريس، فلتصمت العروس ولتصمت العذراى وبنات أورشليم ولتصمت الخلائق بأسرها وليتكلم الرب يسوع العريس والراعي الملكي "أنصتي أيتها السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي"(تث32: 1) "من له أذنان للسمع فليسمع" _ "خرافي تسمع صوتي" ما أرق وأعذب صوتك يا راعينا الصالح وعريسنا المبارك. هبنا ان نجلس عند قدميك في كل حين لنسمع كلمات النعمة الخارجة من فمك.
ومع ان العروس اعترفت بجهلها المكان الذي فيه يرعى خرافه ولكنها في الوقت نفسه عبرت عن محبتها له بقول "يا من تحبه نفسي" فهل يبقى الرب صامتا أمام هذه المحبة؟ حاشا، فهو الذي قال "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي"(يو14: 21) لذا يناديها بهذا الوصف الحلو "أيتها الجميلة بين النساء" فهي ليست مجرد جميلة ولكنها "الجميلة" فمع أنه توجد نساء أخريات فيهن شيء من الجمال ولكن العروس في نظر عريسها هي الفريدة في الجمال. قد نجد في البعض من غير المؤمنين شيئا من جمال الصفات الأدبية ولكنها لا قيمة لها في نظر الرب لان مصدرها الطبيعة البشرية الساقطة "المولود من الجسد جسد هو" (يو3: 6) أما العروس فهي الجميلة بين النساء. رغما عن سوادها كخيام قيدار فإنها من فرط نعمته جميلة كشقق سليمان "بنات كثيرات عملن فضلا أما أنت ففقت عليهن جميعا"(أم31: 29).
ان الكنيسة غالية وثمينة في عيني المسيح، فهو قد أحبها وأسلم نفسه لأجلها لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب. أنها اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن التي لأجلها مضى وباع كل ما كان له واشتراها (مت13: 46).
* * *
ما أعجب محبة العريس _ "محبة المسيح الفائقة المعرفة" فأنه يعتبرها (أي العروس) الجميلة الوحيدة بين النساء في الوقت الذي أظهرت فيه جهلها للمرعي الذي فيه يربض خرافه، الأمر الذي اضطره ان يوبخها توبيخا لطيفا بقوله "ان لم تعرفي" وهل هناك أرق من هذا التوبيخ، فهو لم يزجرها بقارس الكلام، ولكنه بكل لطف يقول لها "ان لم تعرفي" أو بالحري "كان يمكنك ان تعرفي لان الطريق واضح أمام عينيك" لقد قال مرة لفيلبس "أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟" (يو14: 19) أيها الرب سيدنا ما ألطفك قائدا ومرشدا! وما أرق عاطفتك بل ما أرق توبيخات محبتك! إنك تستحق تعبد قلوبنا في كل حين.
* * *
أنه وان كان الرب من الوجه الواحد بحبنا حبا فائقا ولا يرى جمالا يملأ نفسه سرورا إلا فينا ولكنه من الوجه الآخر لا يتغاضى عما يبدو منا من الجهالة لان قداسته لا يمكن ان تتساهل مع أقل شر أو شبه شر يظهر في حياتنا، فيستمل معنا وسائط حبية لطيفة ليرد نفوسنا إلى الحالة التي تليق بعلاقتنا به، وهذه خدمة من أهم خدمات وأعمال الراعي الصالح "يرد نفسي يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه"(مز23) ولكننا إذا لم نستفيد من هذه الوسائل الرقيقة يضطر إلى استخدام وسائل مؤلمة لطبيعتنا، وحتى هذه الوسائل هي من أقوى الأدلة على محبته القوية لنا "الذي يحبه الرب يؤدبه".
"فأخرجي على آثار الغنم"
إنك يا عروس قد تمتعت ببركات كثيرة مذ دخلت إلى حجالي، ولكن ليس هذا هو الكل، فعليك أيضا ان "تخرجي" . . . . "ان دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى"(يو10: 9) فلا يكفي ان ندخل فقط إلى مراعيه حيث الشبع وحيث الأمن والسلام ولكن علينا ان نخرج للجهاد "فلنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا"(عب12: 1). قد يكون الخروج مؤلما ولكن يكفينا شرفا ان الرب قد خرج أولا، فقد سار كالشاهد الأمين في طريق الآلام تاركا لنا مثالا لكي نتبع خطواته "فلنخرج إذا إليه خارج المحلة حاملين عاره"(عب13: 13).
ما أقسى هذه الحقيقة على نفوس الكثيرين من أولاد الله الأعزاء الذين دخلوا دائرة النعمة التي هم فيها مقيمون، ولكن يعز عليهم ان يخرجوا بقلوبهم منفصلين عن مبادئ العالم الشريرة أو الأنظمة الدينية البشرية "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجسا فأقبلكم"(2كو6: 17) ومتى خرجنا بكل قلوبنا فلن نضل الطريق لان الرب سائر أمامنا فيها.
* * *
ومتى كانت لنا العيون المفتوحة نستطيع ان نرى آثار أقدامه المباركة وآثار أقدام خرافه المحبوبة "فأخرجي على آثار الغنم". ان قطيع الرب الحقيقي يسير وراء الراعي وحده "ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها والخراف تتبعه"(يو10: 4) والنفس التي تريد ان تسير في الطريق آمنة، عليها ان تسلك الطريق الصالح الذي سار فيه الرب قبلا والذي داسته أقدام رجال الله الأمناء قبلنا والذي يسير فيه الآن قطيع الرب المحبوب. لا شك ان من واجبنا ان نسير وراء الرب وحده ولكن من ذا الذي يسير وراء الرب ولا يرى آثار أقدام خرافه الأمينة؟ فبولس رسول الأمم العظيم إذ يكتب للمؤمنين في كورنثوس يقول لهم "كونوا متمثلين بي كما أنا أيضا بالمسيح"(1كو11: 1) وإذ يكتب أيضا للتسالونيكيين يقول لهم "وأنتم صرتم متمثلين بنا وبالرب . . . حتى صرتم قدوة لجميع الذين يؤمنون في مكدونية وفي أخائية"(1تس1: 6و 7) "كونوا متمثلين بي معا أيا الأخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة"(في3: 17) "إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع"(عب12: 1و 2) "اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله. انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم"(عب13: 7).
وتبارك اسم الرب عريسنا وراعينا لأنه ترك لنا "آثار الغنم" التي لا تمحى _أعني ما كتبه أواني الوحي (أي أسفار الكتاب المقدس) بصفة عامة وما كتبه رسل وأنبياء العهد الجديد بصفة خاصة، فان كان رسل لربنا المكرمون قد انتهت حياتهم وليسوا موجودين على الأرض ولكن آثارهم _ أي كتاباتهم باقية، فمن ذا الذي يتصفح سفر الأعمال ورسائل العهد الجديد ولا يجد فيها النور الساطع والإرشاد الكامل سواء من جهة العيشة والسلوك بحسب مشيئة الله أو من جهة السجود والعبادة وكيفية الاجتماع في حضرة الراعي المبارك الذي قال: تبارك اسمه " حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم " (متى 18: 20) وعلى هذا الأساس كان المؤمنون يجتمعون _ أعني باسم الرب يسوع وتحت رئاسته وقيادة روحه القدوس سواء للوعظ والتعليم والبنيان (أع 2: 24،1كو14: 23-40، 1بط 4: 10-11 ) أو لكسر الخبز (أع2: 42، 20: 7، 1كو10: 15-22، 11: 23-34) أو للسجود والعبادة (يو4: 20-24، 1كو14: 15و 16) أو للصلوات (1تي2: 1و 2و 8) أو التأديب والتدبير (مت18: 17-20، 1كو5: 4-13) هذه بلا شك آثار الغنم التي إليها يوجه العريس عروسه قائلا "فأخرجي على آثار الغنم".
"وارعي جداءك عند مساكن الرعاة"
ان المقصود بالجداء هو الغنيمات الصغيرة الضعيفة، ومن واجبنا ان نهتم بسلامة نفوس أخوتنا الضعفاء وبتعزية حياتهم الروحية، فلا نحتقرهم إذ ان المسيح مات لأجلهم. علينا ان كنا أقوياء ان نحتمل أضعاف، حتى إذا عثروا أو سقطوا فلا نتقسى عليهم بل نهتم بإصلاحهم بكل وداعة "أيها الأخوة ان انسبق إنسان فأخذ في زلة ما فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظرا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضا. احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح"(غل6: 1و 2).
هذا وقد يكون المقصود بالجداء أيضا المؤمنين الأحداث، وهؤلاء يعنى الراعي بهم عناية خاصة فأنه "كراع يرعى قطيعه. بذراعه بجمع الحملان (أي الغنيمات الصغيرة) وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات"(أش40: 11) ومن واجب المؤمنين البالغين ان يهتموا برعاية المؤمنين الأحداث وافتقاد سلامتهم والصلاة لأجلهم ومعهم وإرشادهم إلى ما يؤول إلى حفظهم طاهرين. علينا ان نوجدهم في الجو المسيحي المنعش فيستفيدون من معرفة المؤمنين الأفاضل ومن ملاحظة سيرتهم النقية، ومن خدمات المتقدمين الذين زودهم الله بمواهب روحية "عند مساكن الرعاة" أي في الجو الصالح الذي يعيش فيه أولئك الأتقياء الذين ائتمنهم الرب على خدمات روحية نافعة لبنيانهم ونموهم في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح.
* * *
أما إذا اعتبرنا ان المقصود بقول العريس "جداءك" هو غير المؤمنين فأنه يكون من واجبنا ان نهتم بأولئك البعيدين عن الله ولا سيما الذين لنا صلة بهم سواء كانوا من عائلاتنا وأقاربنا أو أصدقائنا وزملائنا في دوائر أشغالنا. هؤلاء هم الجداء الذين علينا ان نبذل كل جهد في الاهتمام بهداية نفوسهم إلى المخلص الوحيد.
* * *
وإذا جاز لنا ان نعتبر ان الجداء إشارة لغير المؤمنين كما سلفت الإشارة، وتبعا لذلك تكون الخراف إشارة للمؤمنين الحقيقيين (أنظر مت25: 32و33) فإننا نقول لغير المؤمنين ان في المسيحية قوة لن توجد في سواها. ان كل ديانات العالم تستطيع بمقتضى ناموس الذهن أو ناموس الله ان تميز الفرق بين الشر والصلاح ولكنها تعجز عن ان تصير الشرير صالحا، أما المسيحية الصحيحة فإنها تمتاز عن غيرها بما فيها من القوة الإلهية التي تستطيع ان تغير الخاطئ الأثيم وتجعله خليقة جديدة. ألم يصر شاول الطرسوسي (أول الخطاة) بولس الرسول العظيم؟ هذه هي معجزة المسيحية الخالدة "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول ان المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا"(1تي1: 15). ان إنجيل المسيح ليس مجرد قوانين ومبادئ ونظريات يقبلها العقل البشري ولكنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن (رو1: 16).
* * *
"مساكن الرعاة". صحيح ان الرب وحده هو الراعي الصالح "راعي الخراف العظيم" ولكنه أيضا "رئيس الرعاة" الذي إذ صعد إلى العلاء سبي سبيا . . وأعطى البعض ان يكونوا "رعاة ومعلمين" (أف4: 8-11) وهؤلاء الرعاة متى كانوا أمناء فإنهم يرعون القطيع لا باعتباره قطيعهم بل قطيع الرب "ارع خرافي . . . ارع غنمي"(يو21: 15-17) وواجب الرعاة الأمناء ان يسهروا على سلامة نفوس المؤمنين "ومتى ظهر رئيس الرعاة ينالون إكليل المجد الذي لا يبلى"(1بط5: 4).
ص 1، آية 9
9-"لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس ( 1) في مركبات فرعون"
لقد عرف سليمان الملك ان جياد الخيل لا توجد إلا في مصر حتى أنه هو وجميع ملوك الحثيين وملوك أرام كانوا يشترونها من هناك (1مل10: 28و 29، 2أخ9: 25و 28) وإذا كانت أجود الخيل في مصر فان فرعون كان بلا شك ينتفي أحسنها وأكثرها جمالا ورشاقة لمركباته، هذا فضلا عما كان يزينها به لتبدو كاملة الجمال، ومما لا ريب فيه ان تلك الخيل قد تهذبت وتدربت على السير معا في انسجام تام وتوافق كامل، وفي هذا مغزى جميل، فان من واجبنا كمؤمنين ان ندرب أنفسنا على خدمة الرب سيدنا والعيشة معا لمجده في وفاق ووئام "مفتكرين فكرا واحدا ولكم محبة واحدة بنفس واحدة مفتكرين شيئا واحدا" في (2: 2) "مجتهدين ان تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" (أف4: 3).
كما أنها (أي أفراس مركبات فرعون) كانت سهلة الأنقياء فتخضع لقائدها وسيدها وتحمله إلى حيث يشاء، وفي هذا أيضا درس عملي هام، فمن واجب المؤمن الحقيقي ان يكون في الخضوع التام لسيده الذي اشتراه من "مصر العالم" فيتمم مشيئته ويسير في الطريق الذي يرسمه له، أما إذا لم يكن المؤمن في الخضوع التام للسيد الذي يعلمه ويرشده الطريق التي يسلكها فأنه يكون كفرس بلا فهم ويحتاج إلى اللجام والزمام (مز32) ليتنا نسلك سبيل الطاعة الكاملة حتى لا ينطبق علينا هذا علينا هذا الوصف المخجل.
* * *
ثم ان في هذا التعبير "فرس (أو أفراس) في مركبات فرعون" إشارة إلى الحرب والجهاد، والرب له المجد يريدنا ان يكون المؤمنون في حالة النشاط والقوة الروحية، فكما أنه من امتيازنا ان نكون برفقة الرب حيثما يرعى خرافه ويربضها فان من واجبنا أيضا ان نكون في ملء القوة الروحية الانتصار على أعدائنا الروحيين لذا يشبه المؤمن بالفرس الذي يمتاز بسرعته في الركض وبشجاعته في الحروب "هل أنت تعطي الفرس قوته وتكسو عنقه عرفا. اتوثبه كجرادة؟ نفخ منخره مرعب. يبحث في الوادي وينفز ببأس. يخرج للقاء الأسلحة. يضحك على الخوف ولا يرتاع ولا يرجع عن السيف. عليه تصل السهام وسنان الرمح والمزراق. في وثبه ورجزه يلتهم الأرض ولا يؤمن أنه صوت البوق. عند نفخ البوق بقول هه ومن بعيد يستروح (أي يشتم) القتال، صياح القواد والهتاف"(أي39: 19-25) هذه هي الصفات التي يصف بها الله الفرس والتي يجب ان يتصف بها المؤمن الحقيقي فيتقوى في الرب وفي شدة قوته (أف6: 10) وكما ان "الأفراس في مركبات فرعون" كانت بلا شك مزينة بكيفية تظهر غنى وعظمة فرعون، كذا علينا ان نلبس سلاح الله الكامل لكي نظهر عظمة وقدرة الرب سيدنا في انتصارنا على أعدائنا. أنه تبارك اسمه لا يريدنا ان نكون ضعفاء ومنهزمين ولكنه يريد أننا بنعمته نكون في كل حين أقوياء ومنتصرين.
لقد كان بولس جنديا عظيما في جيش الرب، وقد خبرنا عن نوع الأسلحة التي استعملها في جهاده "لسنا حسب الجسد نحارب. إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون. هادمين ظنونا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح"(2كو10: 3-5).
والعروس ترى في هذا السفر مرارا في لباس حربي، فهي "مرهبة كجيش بألوية"(ص6: 4و10) وهذه هي الحالة التي يجب ان يكون عليها المؤمنون في كل حين، فلا يكفي ان يعرف المؤمنون أنهم عروس المسيح ولكن عليهم أيضا ان يعرفوا أنهم أجناده وان أمامهم جهادا، وان من واجبهم أيضا أي يكون في جهادهم الروحي صفا واحدا وراء قائدهم "رئيس جند الرب" الذي يقودهم في مركب نصرته في كل حين "الخارجون للقتال المصطفون للحرب بجميع أدوات الحرب. . وللاصطفاف من دون خلاف"(1أي12: 33).
* * *
وفي يوم قادم سيرى الرب يسوع آتيا على فرس أبيض لكي "بالعدل يحكم ويحارب وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة . . . والأجناد الذين في السماء يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض ونقيا"(رؤ19: 11-14) وواضح ان هذا المنظر يرسم أمامنا نصرة الرب وقديسيه الكاملة مستقبلا، أما الآن فان من واجب القديسين ان يتبعوه في حالة النقاوة والقداسة العملية متقوين في الرب وفي شدة قوته.
بقى علينا ان نتأمل قليلا في كلمة "يا حبيبتي" الواردة في هذا العدد، فقد وجد العريس لذته في مخاطبة عروسه مرارا كثيرة في هذا السفر بهذه الكلمة "حبيبتي" ولا شك أنها هي أيضا قد وجدت لذة فائقة في سماعها منه، فاستعملت معه نفس هذه الكلمة "يا حبيبي" في مخاطبتها له. فان عشرتنا مع المسيح تكسبنا كثيرا من صفاته ومن حديثه الحلو، وكلما أطلنا الوجود معه والجلوس عند قدميه لنسمع كلامه وللتفرس في جماله، لا بد ان نتغير إلى تلك الصورة عينها. ان رؤساء الكهنة بعد ان تعجبوا من مجاهرة بطرس ويوحنا ومن حكمتها مع أنهما عديما العلم وعاميان عرفوا أنهما "كانا مع يسوع".
"يا حبيبتي" نعم لقد أحبها _ تبارك اسمه المعبود _ قبل ان يكون فيها ما يحوز إعجابه. أنها محبة إلهية "الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا"(رو5: 8).
( 1) أو أفراس A Company of horses
ص 1، آية 10
10-"ما أجمل خديك بسموط وعنقك بقلائد".
من الواضح الجلي ان هذا الجمال _ أعني جمال خديها وعنقها ليس طبيعيا بل مكتسبا وأنه _تبارك اسمه _ هو الذي خلعه عليها، فلولا السموط (أي صفوف الجواهر) والقلائد الذهبية التي زينها العريس بها لما رأى فيها جمالا، وهذه هي حقيقة الحال معنا، فنحن في ذواتنا ليس فينا ذرة من الجمال بل "بالأثم صورنا". وهل كان في أعناقنا _ بحسب الطبيعة شيء من الجمال ونحن ينطبق علينا القول: "شعب صلب الرقبة"؟ ولكن شكرا لإلهنا لأنه ألبسنا ثياب الخلاص وكسانا رداء البر فصرنا مثل عروس تتزين بحليها (أش61: 10) شكرا له من صميم أفئدتنا لأجل "زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1بط3: 4).
ان العريس هو الذي زين العروس وجملها بفضائله فلم يبق فيها أمام عينيه ما يحزن قلبه "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة"(ص4: 7) "الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا"(2كو5: 17) نعم فقد صارت لها حياة ربها المقام والحي إلى أبد الآبدين. يا لها من كرامة ومجد وبركة! ففي عظمة وسمو حبه "بذل نفسه لأجلنا" وكمن صلب وقام من الأموات صرنا شركاء في الميراث معه. "ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا"(يو14: 27) لقد أعطانا ذاته كما أعطانا مجده أيضا "وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني"(يو17: 22) والعريس في إعجابه بعروسه مع أنها لا تزال في البرية فأنه يراها كاملة في كماله هو، كما ان رفقة كانت قد اغتنت وازدانت بجواهر اسحق قبل ان تصل إليه خباء سارة أمه.
"عنقك بقلائد" كما وضع فرعون طوق (أي قلادة) ذهب في عنق يوسف (تك41) وكما أمر بيلشاصر بوضع قلادة من ذهب في عنق دانيال (دا5: 29) إشارة إلى الخضوع للسلطان الملكي كما أنه إشارة إلى الوصول إلى أسمى كرامة ومقام، هكذا الحال معنا فان الرب له الإجلال قد رفعنا إلى أسمى مراتب المجد والكرامة ولكننا في الوقت نفسه تحت التزام الخضوع الكلي لسلطان الله والمسيح.
* * *
أما عن عروس يهوه _ أعني البقية التقية مستقبلا فقد قال النبي قديما "فمررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب. فبسطت ذيلي عليك وسترت عورتك وحلفت لك ودخلت معك في عهد يقول السيد الرب فصرت لي. . .وألبستك مطرزة ونعلتك بالتخس وأزرتك بالكتان وكسوتك بزا وحليتك بالحلي فوضعت أسورة في يديك وطوقا في عنقك ووضعت خزامة في أنفك وأقراطا في أذنيك وتاج جمال على رأسك فتحليت بالذهب والفضة ولباسك الكتان والبز والمطرز. وجملت جدا جدا فصلحت لمملكة. وخرج لك اسم في الأرض لجمالك لأنه كان كاملا ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب" (حز16: 8-14).
ص 1، آية 11
11-"نضع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة"
إذ رأى العريس ان السموط والقلائد الذهبية قد زينت العروس وجعلتها جميلة في عينيه قصد في نعمته الغنية ان يزينها أكثر فكشف لها عما يخالج قلبه بقوله لها "نضع لك سلاسل من ذهب مع جمان ( 1 ) من فضة، فهو الذي ابتدأ فيها عملا صالحا ولا بد ان يكمله إلى يوم مجيئه.
ان الرب له المجد يريد ان يكون المؤمن متحليا ومزينا بكل الفضائل المسيحية وناميا باستمرار في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح، لان هذه المعرفة "هي خير من الذهب المختار وكل الجواهر لا تساويها" ولابد ان تأتي سريعا ذلك العريس المبارك _ الذي كلل مرة بإكليل الشوك فيضع بيده المباركة على رأسها إكليلا مرصعا ليس بجمان من فضة ولكن تاجا مرصعا بلآلئ المجد الذي لا يبلى.
* * *
ومما هو جدير بالملاحظة قوله "نصنع" بصيغة الجمع، فان فيه إشارة إلى عمل الثالوث الأقدس كقوله عند الخليقة "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا"(تك1: 26) وفي قوله تعالى "نصنع" دليل على اهتمام الله المثلث الأقانيم بأمر الإنسان الساقط، وأعداد الفداء الكامل له _ هذا الفداء الذي هو أساس ما يتمتع به المفديون في الحاضر وفي الأبدية من بركات وأمجاد تفوق حد الإدراك، ولو تأملنا نجد ان الأقانيم الثلاثة مشتركون في إتمام ذلك الفداء العجيب، فالله الآب "قد بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به"(يو3: 16) والله الابن "بذل نفسه لأجلنا لكي يفيدنا من كل أثم"(تي2: 14) وكذلك الروح القدس شان في الفداء كما هو مكتوب عن المسيح. "الذي بروح أزلي قدم نفسه لله"(عب9: 14) فيالها من نعمة عجيبة ان الله العظيم _ الآب والابن والروح القدس _ قد أهتم بفداء الإنسان المسكين الذي لا يستحق شيئا من الإحسان. وأننا نرى في السلال من ذهب والجمان من فضة صورة رمزية للنعمة والبر الإلهيين كما إلى عمل الفداء، ذلك لان الذهب يرمز إلى كل ما هو إلهي، كما ان الفضة ترمز إلى الفداء(1بط1: 8).
* * *
يرى البعض ان المقصود "بسلاسل من ذهب مع جمان من فضة" هو تاج من الذهب مرصع باللآلئ الفضية، وأنه يؤيد ذلك ما جاء في سفر حزقيال: "وضعت. . . تاج جمال على رأسك فتحليت بالذهب والفضة"(حز16) ومعنى هذا ان سبط يهوذا الملكي سيلبي يوما تاجا زاهيا في أرض الرب _ في المدينة المقدسة أورشليم.
وهل ننسى ان هامة الملك العظيم _ ملك ساليم الحقيقي كللت مرة في هذا المكان عينه (أورشليم) بإكليل من شوك، فليت نفوسنا تتأمل وتتفرس في نعمة ومحبة ربنا يسوع، وكيف سيكون شعورنا وإحساسنا عندما تلك اليد التي ثقبت مرة تضع على رؤوسنا إكليل مجد لا يزول؟ هل سيشغل أذهاننا وأبصارنا بهاء تلك الأكاليل أو ضياء ذلك المجد؟ كلا. ان ما سيملك على مشاعرنا ويستحوذ على تفكيرنا وأبصارنا أنما محيا العريس المبارك، وجماله الباهر سيكون موضوع تفرسنا وتعبدنا إلى ما لا نهاية. "نكون مثله لأننا سنراه كما هو"(1يو3: 2).
( 1 ) الجمان أي اللؤلؤ، أو هنوات (حبات) من فضة كاللؤلؤ
ص 1، آية 12
12-"ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته"
ان المقصود بهذه العبارة هو "ما دام الملك جالسا أو متكئا على مائدته فالناردين الذي لي تنتشر رائحته الذكية" ( 1 )
هنا نرى مشهدا جديدا، أنه ليس مشهد الراعي وقطيعه (ع 7و 8) ولا هو مشهد الحرب والجهاد (ع 9) ولكن كان الروح القدس يأتي بنا إلى "قصور العاج" أو إلى الأقداس حيث نرى "الملك جالسا على مائدته" وهذا يقودنا بلا شك إلى الوصف الرائع لمائدة الملك سليمان "وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كر سميذ وستين كر دقيق وعشرة ثيران وعشرون ثورا من المراعي ومئة خروف ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن" وهذه الأطعمة الفاخرة كانت "للملك سليمان ولكل من تقدم إلى مائدة الملك سليمان" (1مل4: 22و 23و 27) وكان "طعام مائدته" من بين الأشياء التي أدهشت ملكة سبا حتى لم يبق فيها روح بعد (1مل10: 5). "وهوذا أعظم من سليمان ههنا". ان ربنا يسوع المسيح هو الملك الحقيقي "ملك الملوك ورب الأرباب" وفي أي وقت نقترب إليه ونلتف حوله كخاصته المحبوبة لقلبه نجده متكئا على مائدته مهيئا طعاما دسما لان "أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد"(مز16) ومع أننا نسير في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء، وفي قفز موحش "العالم الموضوع في الشرير" فأنه فيه "يرتب قدامنا مائدة تجاه مضايقينا" ولسان حاله في كل حين "هلموا تغدوا" (يو21: 12) فنأكل ونشبع ونرتوي "كما من شحم ودسم تشبع نفسي وبشفتي الابتهاج يسبحك فمي"(مز63: 5) نعم أننا إذ تتغذى نفوسنا به، في حضرته تفيض قلوبنا بأغاني الحمد والتسبيح وتنسكب عواطفنا سجودا وتعبدا له فتنتعش حاسياته برائحة الناردين الخالص والكثير الثمن "أغني للرب في حياتي. أرنم لإلهي ما دمت موجودا. فيلذ له نشيدي"(مز104: 33و 34).
وهل توجد مائدة أشهى وألذ من مائدة الملك العظيم؟ ان كل طعام آخر مهما كان شهيا في نظر الناس فهو بالمقابلة مع مائدة الملك رب المجد، كالخرنوب طعام الخنازير، أما مائدة الملك فلا مثيل لها ولا سيما لأنه بنفسه جالس عليها وبيمينه يقدم من أطايبها لخاصته المحبوبة. له المجد.
ان إنسان العالم لا يستطيع ان يتذوق أو يدرك قيمة هذه البركات التي أعدها الملك على. مائدته لأنها بركات روحية لها قيمتها الغالية لدى محبي الرب يسوع المسيح، ولكن "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة"(أي لان أمور الله في نظره هي جهالة أو بالحري تافهة لا قيمة لها) ولا يقدر ان يعرفه لأنه أنما يحكم فيه روحيا (أي لا يقدر ان يعرف ما لروح الله لأنه أنما يدرك روحيا)(1كو2: 14و 15) فالإنسان الطبيعي يحتاج أولا إلى الولادة الجديدة _ الولادة الثانية من فوق حتى يتسنى له تذوق هذه البركات الروحية.
ان الشيء الوحيد الذي أستحوذ على تفكير العروس وشغل ذهنها وقلبها هو رؤيتها "الملك على مائدته" فشخصه هو الذي كان مائلا أمامها، والمائدة وما أعد عليها كانت لها قيمتها عندها لأنها مائدته هو، فليست البركات ولا شبع أشواق النفس والقلب، ولا الشركة الحبية مع الجالسين على المائدة هي التي كانت موضوع مشغوليتها وأنما الملك نفسه وليس سواه. ان البركات الروحية والشركة الحبية حلوة وجميلة ولكن متى أخذ هو _ تبارك اسمه _ مكانه في قلوبنا عندئذ ينسكب الطيب عند قدميه تعبدا له.
"أفاح نارديني رائحته"
ان كلمات العروس هذه تذكرنا لأول وهلة بما حدث في بيت عنيا بعد إقامة لعازر من الأموات (يو12: 1-8) فقد عمل للرب يسوع عشاء هناك وكان لعازر أحد المتكئين وأما مرثا فكانت كعادتها تخدم، بينما كسرت مريم قارورة الطيب الخالص والكثير الثمن ودهنت به جسد الرب يسوع ( 1 ) .
ويعتبر لعازر صورة للمؤمنين الحقيقيين الذين صارت لهم شركة مع المسيح بعد ان أقيموا روحيا، كما ان مرثا تعتبر صورة للمؤمنين الذين لهم نشاطهم في خدمة الرب، أما مريم فأنها تعطينا صورة جميلة للقديسين الممتلئة قلوبهم عواطفهم محبة للرب والمكرسة له ولعبادته.
هذا ما عملته مريم أخت مرثا ولعازر فأنها تميزت بالجلوس عند قدمي الرب لتسمع كلامه، وإذ تعلمت منه وشبعت بأقوال النعمة الخارجة من فمه هان عليها ان تسكب ذلك الناردين النقي على قدمي المخلص المبارك حتى امتلأ البيت من رائحة الطيب. لقد ظن البعض وفي مقدمتهم يهوذا الأسخريوطي ان هذا كان إتلافا، ولا ريب في ان ذلك الطيب كان من ناردين خالص كثير الثمن، ولو أنه سكب على غير قدمي الرب لكان ذلك في الحقيقة إتلافا، ولكن إذ سكبته على قدمي المخلص العزيز فقد سجل لها بفمه الكريم بأنها "عملت ما عندها" (مر14: 8) "قد عملت بي عملا حسنا. . . الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها"(مت26: 10و 13).
لقد قصدت مريم من كسر قارورة الطيب وسكبه على جسد الرب ان تكرمه هو _ له المجد "فأنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي أنما فعلت ذلك لأجل تكفيني" (مت26: 12) كما أنها بلا شك أرادت ان تنعشه برائحته الذكية ولكن البيت كله امتلأ من رائحة الطيب، ومن هذا نتعلم ان كل سجود أو تعبد نقدمه له لا بد ان ينشئ سرورا وانتعاشا ليس لحاسيات الرب وحده بل ولكل النفوس المحيطة بنا، ولا سيما في اجتماعاتنا معا، فأننا إذ نجتمع باسمه وفي حضرته فأنه يتكئنا على مائدته الملوكية ويشبع نفوسنا ببركاته الوفيرة ويلذذ قلوبنا برؤية طلعته البهية وإذ ذاك تتصاعد من قلوبنا وأفواهنا ذبائح الحمد والتسبيح وينتشر عبيق الناردين ورائحته العطرية فينعش قلبه المحب وتنعش قلوبنا نحن وكل المتكئين معنا في حضرته السعيدة.
"ما دام الملك في مجلسه (على مائدته) أفاح ناردين رائحته"
ألا ترسم كلمات العروس هذه أمامنا صورة جميلة لاجتماع القديسين في تدبير النعمة الحاضر حول مائدة الرب؟ ان الرب تبارك اسمه يأمرنا بل بالحري يدعونا لذكرى موته فوق الصليب قائلا "أصنعوا هذا لذكرى" ونحن إذ نجتمع في يوم الرب أي "في أول الأسبوع" (أع20: 7) لنشترك في "مائدة الرب"(1كو10: 21) فنكسر الخبز الذي "هو شركة جسد المسيح"(1كو10: 16) ونشرب "كأس الرب" (1كو10: 21) أعني "كأس البركة" التي "هي شركة دم المسيح"(1كو10: 16) ونتغذى ونشبع من وليمته المباركة "عشاء الرب" (1كو11: 20) فلا بد ان تفيض قلوبنا سجودا وتسبيحا وترنما لمن أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. نعم لا بد ان تفيح رائحة الناردين الذكية. وأننا نرجو القارئ العزيز ان يلاحظ الفرق الكبير بين اقترابنا إلى الرب كمحتاجين فنطلب منه أعوازنا واحتياجاتنا، وبين وجودنا أمامه واتكائنا على مائدته كساجدين لنقدم له ذبائح الحمد وأغاني التسبيح وسجود القلب الممتلئ من محبته. صحيح أننا في حاجة مستمرة لاقتراب إليه لنطلب منه أعوازنا واحتياجاتنا "اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملا" (يو16: 24) ولكن ما أقل اقترابنا إليه بقلوب قد ملأتها وغمرتها محبته فتفيض له بالسجود والمديح وهذا هو المقصود بقول العروس "أفاح نارديني رائحته".
* * *
ويا لها من كلمة حلوة "نارديني" فمع ان العروس في ذاتها لا تملك شيئا، وما الناردين الذي معه إلا من هباته لها ومن "ثمر الروح" الساكن فيها إلا أنها تعتبر ان هيبته أصبحت ملك لها، ولكنها مع ذلك تعود فتقدمها له "لان منك الجميع ومن يدك أعطيناك"(1أخ 29: 14).
ان كنا في مطلع إصحاحنا قد وجدنا العريس "بأدهانه الطيبة" فها نحن في النهاية نرى العروس "بناردينها" لكن الكل من النعمة، فالملك في مجلسه، والمائدة مائدته والناردين والأدهان كلها له "ترتب قدمي مائدة تجاه مضايقي. مسحت بالدهن رأسي. كأسي ريا"(مز23).
ولن يصل القلب إلى نقطة السجود إلا إذا فاض أولا، فأنه حينئذ يكون قد فرغ من ذاته ولم يعد له ما يطلبه. ذلك لان السجود الحقيقي هو فيض القلب، وهذا الفيض الذي مرجعه امتلأ القلب بالمسيح، هو السجود المسيح ومن هنا ندرك الفرق بين اجتماع الصلاة واجتماع السجود ولا سيما حول "مائدة الرب" وقد نأتي إلا الاجتماع الأول بأوعية فارغة وتصرخ إلى الرب راجين ان يجيب توسلاتنا استنادا على وعده الكريم "اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. أقرع يفتح لكم" أما إلى الاجتماع الأخير فيجب ان نذهب ونحن حاكمون على أنفسنا تماما ومهيئون لان نعيد بأطايب الملك وبغنائم نصرته، وبثمار الفداء المبارك. هذا ما وصلت إليه العروس هنا، فقد وصلت إلى أسمى نقط السعادة والغبطة فهي في سلام وهناء تتمتع بحضرة الملك وهو متكئ على مائدته، فقد استبدلت بنشاط الخدمة أو المشغوليات المتنوعة جلست جالسة السجود الهادئ، أما الشمس المحرقة، وأما الاضطهاد والفقر والحزن فقد غرقت وذابت جميعها في محيط الفرح الذي غمرها به حضوره المجيد، والآن كسر قارورة الطيب وامتلأ البيت من رائحته العطرية، بعد ان دهنت رأس السيد وقدميه وتلذذ قلبه بثمار محبتها.
ما دام في مجلسه فنارديني قد أفاح
رائحة ذكية لسيدي نبع الصلاح
While the King sitteth at his table, my spikenard sendeth forth the smell thereof. ( 1 ) والناردين هو السنبل الرومي وهو كثير الثمن لذكاء رائحته ولقلة وجوده.
( 1 ) لقد سكبت مريم الطيب على جسد الرب يسوع، إلا أنه يذكر في إنجيل متى (ص 26) أنها سكبته على رأسه، وذلك لان الرب في هذا الإنجيل يرى كالمسيا الملك وكان مريم اعترافا منها به كالملك الممسوح من الله سكبت الطيب على رأسه، وأما في إنجيل يوحنا (ص 8) فيذكر بأنها سكبته على قدميه وذلك لان الرب في هذا الإنجيل يرى كالابن الأزلي أو بالحري الله الكلمة الذي صار جسدا لذا سكبت الطيب على قدميه ومسحتهما بشعر رأسها سجودا وتعبدا له.
وهذا ما عملته أيضا المرأة الخاطئة عندما كان متكئا في بيت الفريسي (لو7).
ص 1، آية 13
13-"صرة المر حبيبي لي بين ثديي يبيت"
قال أحد خدام الرب الأفاضل "ان كانت الفرس في مركبات فرعون تشير إلى الرغبة في الخدمة الاختيارية، والناردين يشير إلى السجود والتعبد أفلا تكون صرة المر إشارة إلى الشهادة المستمرة للرب يسوه؟" ان النفس التي اتكأت على مائدته وتلذذت بأطايبه با بالحري ابتهجت بطلعته البهية ففاضت ينابيعها بالسجود والتعبد له لا بد ان تحمل في كل حين رائحة المر الذكية في كل مكان وفي كل وسط توجد فيه "شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين وظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان. لأننا رائحة المسيح الذكية لله"(2كو2: 14و 15) ويجب ان نتثبت تماما من هذه الحقيقة وهي أننا لا نستطيع ان نكون شهودا أمناء له ما لم نكن أولا في حالة الشركة معه والتلذذ والشبع بع والتعبد له، فالشهادة الصحيحة له يجب ان يسبقها الشركة معه والسجود له ". . . كهنوتا مقدسا لتقديم ذبائح روحية. . . (ثم) كهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب"(1بط2: 5و 9) فالتخبير بفضائله (أي الشهادة له) يجب ان يسبقه الوجود في الأقداس الشركة معه وتقديم ذبائح روحية له، وهذا أمر بديهي، إذ كيف يتسنى لي ان أؤدي شهادة صادقة وصحيحة لشخص ليست لي شركة معه وعلاقة به، فإذا ما أغفلنا الشركة الشخصية فان كل خدماتنا تصبح واهية غير مثمرة.
هبنا يا سيدنا ان نكون أمامك وفي محضرك كل حين. هبنا ان نكون دائما في شركة صادقة وصحيحة معك حتى تكون لنا شهادة صادقة ومثمرة لمجدك.
* * *
ان في وصف العريس بأنه "صرة المر" إشارة إلى أنه "رجل أوجاع ومختبر الحزن" (أش53: 3) نعم لقد كان سيدنا وربنا يسوع رجل الآلام في حياته وفي مماته، وللمر علاقة به من بدأ حياته وإلى ختامها، فبعد ولادته أتى المجوس مقدمين له الهدايا ومن بينها المر. وعند موته، وهو فوق الصليب، لما قال "أنا عطشان" أعطوه خلا ممزوجا بمرارة، وما أعمق هذا التعبير "صرة المر" فكان كل أنواع الآلام والأحزان قد اختبرها، تبارك اسمه في حياته وفي موته أيضا "مجربا في كل شيء مثلنا بلا خطية"(عب4: 15) والعروس قد أدركت هذه الحقيقة فزادها ذلك تعلقا به لذا تقول عنه "صرة المر حبيبي لي" أي ان هذا الحبيب هو حبيبها وهي قد امتلكته. قد يحسب الغير ذلك مغالاة منها، ولكنها لا تبالي بل بجرأة مقدسة وتقول "حبيبي لي" وما دام لي وأنا قد امتلكته فأني سأحتفظ به كصرة المر ولا أجد مكانا يليق له لأضعه فيه سوى قلبي وأحشائي لذا.
"بين ثديي يبيت"
هذا هو المكان الوحيد اللائق له والذي يلذ لي ان أضعه فيه. ان كلمة يبيت بمعنى "يستريح كل الليل ( * ) وهل يستطيع الرب يسوع رجل الآلام ان يجد راحته في ليل هذا العالم المظلم إلا في قلوب المؤمنين؟ وهل هناك سعادة تعادل سعادة النفس التي يجد المسيح راحته في أحشائها "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم"(أف3: 17) ولا يوجد أثمن من هذا الاختبار _ أعني التمتع بحلول المسيح _ صرة المر أو بالحري يسوع المرفوض من العالم _ في قلوبنا. والقلب "منه مخارج الحياة" فمتى ملأ المسيح قلوبنا فلا بد ان يهيمن على كياننا بجملته فتصبح إرادته إرادتنا ونظرته نظرتنا. هو يرى ويتكلم ويسمع فينا، أو بالحري "نحيا لا نحن بل المسيح يحيا فينا" فهلا نفتح قلوبنا ونسلمها له ليبيت فيها؟ أنه تبارك اسمه لن يرضى بأقل من ذلك "يا ابني أعطني قلبك" فمهما حاولنا ان نعطيه أثمن ما لدينا فهو لا يرضى بغير القلب بديلا، فالقلب وليس سواه هو مكان راحته وهناك يبيت.
ولا يستطيع العريس المبارك ان يأخذ مكانه في القلب إذا كان شيء سواه مكان فيه. وعبثا نحاول الجمع بين العريس المبارك وأي معبود آخر. لا يمكن للعريس ان يبيت بين ثديي العروس إلا إذا كانت تعزل شهواتها العالمية "من بين ثدييها"(هو2: 2) ان عريسنا طاهر ونقي وقدوس ولا يمكن ان يجد راحته إلا في قلوب طاهرة ونقية "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله".
لنمتحن أنفسنا أيها الأحباء، ولنسأل بكل إخلاص "هل للمسيح مكانه في أحشائنا؟" أليس من المحزن والمؤلم لقلب الرب سيدنا وعريسنا ان يخاطب الكثيرين من المؤمنين في هذه الأيام الأخيرة _ أيام لاودوكية _ قائلا "هأنذا واقف على الباب وأقرع"؟ وأي شيء وجدناه أثمن وأغلى منه حتى أدخلنا إلى قلوبنا بدل من الرب الحبيب الذي يقرع كغريب قائلا "هأنذا واقف على الباب وأقرع ان سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي"(رؤ3: 20) هيا أيا عروس الرب استيقظي وأصغي إلى صوت عريسك الحبيب. تطهري من كل شيء سواه، وافتحي قلبك له لكي يبيت بين ثدييك فيهنأ بك وأنت تهنأين به هناء لن تجديه في أي شيء سواه.
مسيحي قلبي يملك نفسي له بجملتي
منشأ حب ورجا سروري ترسي بهجتي
* * *
ولنلاحظ أيضا ان في قول العريس "يبيت" (أي يستريح كل الليل" إشارة إلى العلاقة الروحية التي ستكون للبقية التقية مع الرب يهوه عريسها وقت اجتيازها في تدريبات ذلك الليل (ضيق يعقوب) وذلك قبل ظهوره لها "كشمس البر"، أما نحن فأننا نتوقعه "ككوكب الصبح المنير" ولكنه إذ يظهر بعد ذلك لعروسه الأرضية كشمس البر فان نوره سيملأ المسكونة بأسرها فرحا وتسبيحا.
ان الرب يسوع، سيرى وسيعرف من الخليقة بأسرها أنه هو "ملك المجد" وذلك عندما يملك عليها ملكه الألفي السعيد، وسيعرف الجميع أيضا ان لقبه الملكي كتب مرة على الصليب، ولا يوجد شيء سيكون له تأثيره على عواطف وقلوب البقية التقية من الشعب الأرضي عند اجتيازهم في الآلام المريرة والمروعة أكثر من إدراكهم بان مسياهم _ مسيح الله المعبر عنه هنا "بصرة المر" قد اشترك معهم في آلامهم بل بالحري تقدمهم فيها "في كل ضيقهم تضايق"(أش63: 9)، وأنه من فرط محبته حمل أحزانهم وتحمل أوجاعهم، وأنه جرح لأجل معاصيهم. نعم أنه عجيب ومؤثر للغاية ان عمانوئيل. يهوه المخلص، والرب البار يتألم ويحتمل اللعنة لكي يضمن لشعبه البركة والغبطة. ولقد أفاض الروح في إعلان هذه الحقيقة "إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح. . . "(1بط1: 11) وإذ تقبل البقية المتألمة شهادة الروح القدس هذه عندئذ يمتلئ قلبها بالمحبة للمسيا الذي رفضته وقتا طويلا، ويصير هو _ له المجد _ حبيبها الذي بين ثدييها يبيت. ان نور ذلك النهار البهيج لا يكون قد أشرق وقتئذ عليهم. إذ يكون الليل لم ينته بعد بالنسبة لهم كما بالنسبة لنا نحن الآن، ولكن في خلال ذلك الليل سيكون العريس موضوع محبة وإعزاز قلوبهم ككنـز ثمين وكصرة المر التي تفوق رائحتها الذكية كل الأطياب.
* * *
وما يقال عن علاقة البقية من شعب الرب الأرضي بالرب عريسها ألا يقال بالأحرى عنا نحن؟ ألسنا نعرفه "كصرة المر" برائحتها العطرية _ رائحة محبته التي تألمت لأجلنا؟ ألسنا نعرفه ونحبه لأنه هو "رجل الأوجاع"؟ ألم يصر فقيرا لأجلنا وقد أعلن محبته "الفائقة المعرفة" ببذل جسده وسفك دمه الثمين لأجلنا؟ ألم يحزن ويتألم أيضا لكي يستطيع ان يرثي لنا في أحزاننا وآلامنا؟ وكم هو حلو ان نتذكر بأنه اجتاز في هذه كلها حتى يأتي بنا إلى أقرب وأمتن علاقة معه. أنه _ تبارك اسمه لم يتألم فقط لأجل إتمام الكفارة، مع أنه عملها كاملة، والعروس عرفت ذلك تماما وقد حصلت بهذه المعرفة على سلام كامل، ولكنه تألم أيضا ليكون لها أقرب وأوثق علاقة معه وليتسنى لها ان تعرف محبته وتتمتع بها في مكان القرب منه والعلاقة معه.
هذا هو امتياز جميع المؤمنين _ القديسين المحبوبين ان يذكروا في كل حين (ولا سيما عندما يأكلون عشاء الرب) بأنه احتمل الموت حتى يتسنى لنا ان ندرك محبته التي أوصلتنا إلى أوثق صلة به. نعم أنه حمل خطايانا. تبارك اسمه العزيز من أجل ذلك. ولكن إذا انحصر تفكيرنا في هذه الناحية فقط فأننا لا نكون محصورين فيما كان أمامه وفي قلبه حينما مات لأجلنا _ لقد سار في ذلك الطريق ليمتلكنا لنفسه ولنتمتع نحن بهذا القرب العجيب.
وأنه لشبع قلب الرب ان يكون لآلامه الحبية مكانها في أحشائنا "بين ثديي" كل مدة الليل _ ليل غيابه ورفضه هنا، ولا شك في ان محبته التي تألمت لأجلنا سيكون لها مكانها اللائق بها في قلوب وأحشاء قديسيه ومفدييه طوال الأبدية التي لا تنتهي
* * *
ان صرة المر لن تفقد رائحتها العطرية المنعشة، فأنه بعد ان ينتهي الليل سيكون الرب له المجد موضوع المحبة والإعزاز في ملكه السعيد وكذا في يوم الله الأبدي.
وأنه لجميل وحسن جدا ان نتأمل مليا في محبة الرب وما تحمله من آلام ليس من ناحية حاجتنا كخطاة معوزين فقط، بل من ناحيته هو كمن كانت كل غايته ان يأتي بنا للوجود في أقرب علاقة به. وبذا يتسنى لمحبته ان تجري إلى قلوبنا حيث لا ذكر للخطية أو الخطايا. وقد كان الفصح رمزا إلى كيف ان الله بواسطة موت المسيح استطاع ان يفصل شعبه عن العالم ليكونوا خاصته ولمسرته، هذه هي طبيعة محبته غير المتغيرة "لما كان إسرائيل غلاما أحببته ومن مصر دعوت ابني"(هو11: 1) والفداء الذي هو الوسيلة لإتمام مسرته تعالى قد تم بواسطة آلام الحمل وموته، وذلك لكي تستطيع محبته ان تجد راحتها في مباركة من هم غرضها.
ونحن في أكلنا من عشاء الرب نذكر ذاك الذي وصل إلى أعمق الآلام حتى يتمم ما كان في قلب الله وفي قلبه هو، ولكي ننمو نحن أيضا في معرفة محبته الفائقة المعرفة، تلك المحبة التي أتت بنا إلى هذا القرب العجيب إليه، ولا ريب في ان غرض الروح القدس هو ان يقودنا إلى هذه الحالة السامية عندما يقدم لنا المسيح كصرة المر بين ثديي أولئك الذين يحبونه، وان كان الروح القدس يستعرض هذه الحقائق الثمينة أمامنا فعلينا ان ننعم النظر فيها ونصلي كثيرا حتى يزداد إدراكنا لها إدراكا صحيحا واختباريا، وان تقديرنا لمحبة المسيح وآلامه أنما يهيؤنا للآلام هنا، فلا ننتظر كرامة أو حياة لينة في هذا المشهد الذي نحن مدعوون فيه لنكون شركاء مسيح متألم.
( * ) He shall lie all night.
ص 1، آية 14
14-"طاقة فاغية حبيبي لي في كروم عين جدي"
رأينا في العدد السابق ان العروس قد شبهت عريسها "بصرة المر" وها هي تشبهه الآن "بطاقة الفاغية" أي بحزمة من زهر الحناء، ولا نغالي ان قلنا ان كل شيء جميل في الوجود أنما يشير إلى سجية خاصة من سجايا ربنا المبارك، فإذا رجعنا إلى عهد الظلال والرموز نجد ان كل منظر جميل في خيمة الاجتماع بما احتوت من شقق واستار _ المائدة وما عليها من خبز شهي، المنارة بسرجها المنيرة، المذبح وما عليه من ذبائح، قدس الأقداس وتابوت العهد وما احتواه، رئيس الكهنة وما عليه من ملابس مطرزة، هذه وغيرها أشياء ليس لنا ان نتكلم عنها الآن بالتفصيل أنما تشير إلى جمال وكمال صفات ربنا يسوع المسيح وإلى أمجاد المتنوعة "في هيكله الكل قائل مجد"(مز29: 9) وإذا تأملنا إلى الطبيعة وما فيها من مخلوقات جميلة نجد فيها صورا مصغرة تعلن لنا كمال أمجاد وصفات ربنا المبارك، والوحي نفسه يستعمل ما في الطبيعة من أوصاف للتعبير عما في الرب من كمالات، فالرب "شمس ومجن" وهو "كوكب الصبح المنير". هو "نور العالم" وهو "الكرمة الحقيقية، شجرة الحياة"، "والتفاح" وهوذا العروس تشبهه بصرة المر، وبزهر الحناء وسنرى فيما يلي في هذا السفر كيف أنها تشبه كل صفة من صفاته الجميلة باستعارات من الكائنات الجميلة، حتى الألوان الطبيعية المتميزة بالجمال فهو أبيض وأحمر ورأسه كالذهب الإبريز وساقاه عمودا رخام وغير ذلك كثير، ولا غرابة في ذلك إذ أنه مصدر كل ما في الطبيعة والكائنات بأسرها من جمال. أنه المبدع لكل المخلوقات الحسنة والجميلة "الكل به وله قد خلق"(كو1: 16).
وكما ان حبيبها لها كصرة المر وبيت ثدييها يبيت (أي أنه يحل بالإيمان في قلبها، ولا يستطيع العالم ان يراه لأنه لا يعرفه إذ هو مختبئ في أحشائها، ولكنها فقط تحمل رائحته الذكية _ رائحة صر المر _ في كل حين وفي كل مكان)، فهو أيضا حبيبها الذي لها "كطاقة الفاغية" (أي كزهور الحناء) وما أجمل هذا الزهر فان رائحته الذكية تنتشر في الأرجاء الفسيحة فيعطر الهواء برائحته المنعشة، وكم هو جميل ان ترى العروس حاملة على يديها "طاقة الفاغية" فهو ليس مستقرا في قلبها كغرضها وموضوع تعلقها وتعبدها فحسب، ولكنه أيضا محمول على يديها على مرأى من جميع الناس، فهو أيضا موضوع شهادتها، لذا تعلى اسمه وتعلن للجميع _ لا بكلامها فقط بل وبإظهار صفاته في حياتها أنه حبيبها وتدعو الجميع لان يختبروه مثلها "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب"(مز34: 8). ان الشهادة العلنية لربنا يسوع المسيح "كطاقة الفاغية" أنما نتيجة شركتنا السرية معه (كصرة المر) الذي يحتل مكانه بالإيمان في قلوبنا.
* * *
ان كانت "صرة المر" تشير إلى آلام المسيح وموته كمن "أسلم من أجل خطايانا" _ أعني "المسيح على صليب الجلجثة" فان "طاقة الفاغية"تشير إلى المسيح في القيامة أي "كمن أقيم لأجل تبريرنا".
نعم ان صرة المر، وطاقة الفاغية المزهرة يعيدان إلى أذهاننا آلام الصليب ومجد القيامة ويقوداننا لان نفكر في ذاك الذي بذل نفسه لأجلنا والآن نراه مكللا بالمجد والكرامة، ويستطيع الإيمان أي يقول في نصرة مقدسة "أسلم من أجل خطايانا" وأين هي الآن؟ لقد تلاشت إلى الأبد. نعم، لقد وضع المسيه حدا للخطية، وهل تتعداه؟ كلا. لن تستطيع ذلك، لان الذي مات من أجل خطايانا "قد أقيم من الأموات بمجد الآب" وفي هذا تسوية أبدية لمسألة الخطية. "أقيم لأجل تبريرنا". يسوع المقام هو شهادة الله على تبرير المؤمن، وعلى هذا الأساس الراسخ يستقر الإيمان فالكل سلام، إذا العمل قد اكمل لان المسيح قام.
وما أبرك النتائج وما أحلى الثمار المقدسة للإيمان! "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح الذي به أيضا قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله. . . وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضا بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة"(رومية5) "فان كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله"(كو3: 1).
* * *
يعتقد البعض ان الفاغية هي غصن الحناء يزرع مقلوبا فيخرج زهرا أطيب من الحناء وفي هذا نرى صورة جميلة لعمل ربنا المبارك الذي أخلى نفسه آخذا صورة عبد، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لقد نـزل إلى أقسام الأرض السفلى _ "إلى تراب الموت"(مز22: 15). هو حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت فأتت بثمر كثير، نعم لقد مات ربنا المبارك وقام أيضا فأتى بثمر كثير ونحن ثمر عمله، وكلمة "فاغية" باللغة العبرية هي "كوفر Copher" بمعنى كفارة، وتبارك اسم إلهنا لان ربنا يسوع المسيح الذي مات وقام من بين الأموات بمجد الآب "هو كفارة لخطايانا"(1يو2: 2).
* * *
"في كروم عين جدي" فالعروس لا تكتفي بالشهادة لعريسها المقام من بين الأموات، ولكنها أيضا تشير إلى المكان الذي تستطيع النفس ان تتمتع فيه بعشرته السعيدة _ "في كروم عين جدي" وقد قيل ان عين جدي كانت يوما ما شهيرة بثمارها الوفيرة وأطيابها النفيسة، فكان يتوفر فيها كل ما هو جميل للعين وحلو في المذاق وذكي الرائحة للأنف، ولا عجب ان كانت النفس تشبع بألذ الثمار وتنتعش بأنفس الأطياب في حضرة ذلك الحبيب.
ليتنا نوجد ونعيش في جو الشركة المقدسة معه فنتمتع بملء الشبع والهناء لان أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد "يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم"(مز36: 8).
"قد اشتهرت كروم "عين جدي" بحادث تاريخي قديم، فان داود ورجاله قد اختبأوا فيها عندما كان شاول يطارده (1صم24: 1-4) ففي ذلك الوادي الحافل بالثمار والأزهار توفر المخبأ والغذاء والترفيه عن نفس الملك مسيح الله وعن أصحابه الذين وقعت قرعتهم معه، وما أحلى الشركة مع المسيح سواء في أوقات الراحة والسرور أو في أوقات التعب والألم، في النهار كما في الليل، أعني ليس في أوقات الراحة فقط نتمتع بالشركة مع الحبيب بل وفي أوقات العمل والجهاد في النهار "في الكروم".
عندما ننشغل في حراسة كروم الغير فهناك الخطر من إغفال حالة نفوسنا (ع6) ولكن عندما نكون عاملين مع الرب الحبيب ولأجله فان الشركة معه والانحصار في محبته والتفرس فيه تؤول إلى النجاح الروحي والنمو في النعمة.
ص 1، آية 15
15-"ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة عيناك حمامتان"
أليس عجبا ان يتغنى العريس بجمال عروسه التي شهدت عن نفسها بأنها سوداء؟ "ها أنت جميلة. ها أنت جميلة" فمن أين أتاها هذا الجمال؟ هل ورثته عن أبويها؟ "هأنذا بالأثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي"(مز51: 5) أهو جمال طبيعي فيها؟ "كل الرأس مريض وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية. . . "(أش1: 5و 6) "فأني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح"(رو7: 18) إذا كيف استطاع العريس ان يراها جميلة؟ الجواب واضح وبسيط فهو قد مات لأجلها وحمل خطاياها في جسده على الخشبة، ودمه قد طهرها "أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل مقدسة وبلا عيب"(أف5: 25-27) "الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه"(رؤ1: 5و 6) ولا ريب ان الله يبرر الفاجر الأثيم بالإيمان بربنا يسوع المسيح وبعمله المبارك فينال قبولا كاملا فيه، وإذ يلبس المسيح فالله يراه فيه كما يرى المسيح نفسه "اختارنا فيه لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة"(أف1: 4) والمسيح له المجد، لأنه أحبنا وقد صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا لا يمكن ان يرى فينا شيئا من صورتنا القديمة "الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا"(2كو5: 17) وسنرى عند التقدم في تأملاتنا في هذا السفر كيف ان الصفات التي يصف بها العريس عروسه هي نفس الصفات التي تصفه هي بها.
ثم لنلاحظ قوله "ها أنت جميلة" فهو لا يقول أنك ستكونين جميلة في المجد ولكن ها أنت جميلة من الآن. صحيح أننا كنا أمواتا بالذنوب والخطايا التي سلكنا فيها قبلا ولكن الله الغني في الرحمة أحيانا مع المسيح وأقامنا معه وأجلسنا معا في السماويات في المسيح يسوع (أف2: 5و 6) "لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله"(كو3: 3) هذه هي الحالة التي صرنا فيها الآن أمام الله وبنعمته، ولولا أنه لم تبق فينا ذرة من الصورة البغيضة الأولى بل صرنا في كمال الجمال _ جمال المسيح نفسه (حز16: 14) لما كان ممكنا ان يرانا الله في نفس الكمال والقبول الذي للمسيح الجالس عن يمينه. ما أمجد وما أسمى هذا الحق الثمين، وما أحوجنا ان نتحققه وان نتمتع به من الآن!
"ها أنت جميلة يا حبيبتي . . . . ها أنت جميلة" فهي خاصته التي أحبها إلى المنتهى وبذل حياته الكريمة لأجلها، وهو جالس عن يمين العظمة لأجلها وسيأتي بنفسه ثانية ليأخذها إليه ويدخلها إلى بيت أبيه حتى حيث يكون هو تكون هي أيضا معه، أفلا يستحق هذا الحبيب ان ننحصر في محبته وان نتعبد له ونعيش لمجده. لقد أحببتنا بالحق أيها العريس المبارك فهبنا ان نحبك أكثر وان نـزداد تعلقا بك، وان نكرس كل كياننا لخدمتك إلى ان تأتينا من المجد.
يا رب قد أحببتني بحبك العجيب
حبي إزاء حبك لا شيء يا حبيب
* * *
واضح ان العروس أصبحت جميلة في عيني عريسها على أساس عمله المبارك إذا أسلم من أجل خطاياها وأقيم لأجل تبريرها، فقد صار هو برها، غير أننا نرى من الوجهة العملية صورة أخرى لجمالها، فهي لأنها كانت قريبة منه متمتعة بالشركة معه، ومتكئة على مائدته، وقد أفاح ناردينها رائحته العطرية، فأنعشت به حبيبها ولأنها تمتعت بحبيبها وبمحبته بين ثدييها وحلوله بالإيمان في قلبها، ولأنها ترنمت بمحبته وصفاته الكاملة وحملته في يديها كطاقة الفاغية مخبرة بفضائله وبغنى نعمته فقد أكسبها كل ذلك جمالا خاصة إذ انعكس نوره وبهاؤه عليها فملأ قلبه فرحا بها "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما في الرب الروح"(2كو3: 18) فهلا نطيل المكوث في حضرته والتفرس في جماله حتى ينطبع هذا الجمال في حياتنا؟
* * *
بقيت لي ملاحة مختصرة من جهة محبة العريس لعروسه الأرضية _ البقية التقية التي ستكون وقتئذ مجتازة في أشد الآلام "ضيق يعقوب"، فأنه وان كان قد أحب الكنيسة التي هي جسده، فقد أحب شعبه الأرضي أيضا، وبالرغم من الحالة التعيسة التي هم عليها الآن كأعداء من جهة الإنجيل فهم أحباء من أجل الآباء لان هبات الله ودعوته بلا ندامة، وان كانت القساوة قد حصلت لهم فأنما جزئيا إلى ان يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع الباقون منهم، كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب (أقر رو11: 25-36) فلا بد ان يأتي الوقت _ وهو قريب جدا – إذ تتم كل النبوات المتعلقة برجوع البقية التقية والتصاقهم بالرب إلههم وتمتعهم به وبمحبته لهم وبالبركات الخاصة بهم.
* * *
"عيناك حمامتان" سنرى فيما بعد ان هذا الوصف نفسه قد وصف به العروس عريسها، فنفس الجمال الذي له يراه هو في عروسه. "عيناك حمامتان" أو لك عينا الحمام. أما كنا أولا في حالة العمى الروحي؟ "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين"(2كو4: 4) ولكنه قد أعطانا بصيرة لنعرف الحق "كنت أعمى والآن أبصر" والبصيرة التي أعطاها لنا لها صفات الحمام الجميلة أي الطهارة والبساطة والإخلاص، ليتنا إذن في كل حين نستخدم عيوننا وأبصارنا في النظر إلى جماله والتفرس فيه، وكلما أطلنا الشخوص إليه كلما ازدادت عيوننا استنارة "بنورك نرى نورا". ولا شيء يؤثر على عيوننا ويضعف بصيرتنا الروحية سوى النظر إلى أباطيل الحياة الكاذبة "ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى لان التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية"(2كو4: 18) أما إذا انحصرنا في النظر إلى رئيس إيماننا وتأملنا في كمال سجاياه فأننا نكتسب منها وتصبح صفاته السامية صفاتنا التي تظهر في حياتنا العملية "أما الذي ليس عنده هذه فهو أعمى قصير البصر"(2بط1: 9) هبنا يا إلهنا ان نكتحل عيوننا باستمرار برؤيتك فنبتهج بفرح لا ينطق به ومجيد.
يا رب حول نظري عن كل منظر هنا
فكل منظر سواك فيه المرار والعنا
* * *
ان ما نعرفه في كلمة الله عما يرمز إليه الحمام له أهميته البالغة، فمن الإصحاح الثامن من سفر التكوين، حتى في أزمنة العهد الجديد تشغل الحمامة مكانا هاما في الكلمة، فنراها أولا في صلتها بفلك الله وورقة الزيتون، والأول رمز للخلاص والأخرى لسلام الله، فلما كانت مياه الدينونة لا تزال على الأرض لم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت إلى الفلك لان العالم الذي تحت الدينونة ليس مكان راحتها، كما أنها رجعت إليه في المرة الثانية وفي فمها ورقة زيتون خضراء، ثم إذ نتقدم في التاريخ نرى الحمامة كانت بمقتضى حكم الناموس تقدم ذبيحة لله، فهي من هذه الناحية رمز للرب يسوع المسيح، كما أنها رمز للروح القدس (يو1: 32) ويقال أيضا ان الحمامة إذا غابت عن أليفها تجلس في وحدتها وتهدر نائحة "أهدر كحمامة" (أش38: 14) ثم "كحمام هدرا نهدر"(أش59: 11) من هذا كله نرى ان الحمامة ترمز إلى البساطة والطهارة والتسامح والأمانة فحينما تكون عين المسيحي بسيطة كعذراء مثبتة أبدا على المسيح، حينئذ يمكن ان يقال "لك عينا حمام" _ "فكونوا بسطاء كالحمام" (مت10: 16).
ص 1، آية 16
16-"ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر"
لقد كان العريس هو البادئ في مخاطبة عروسه بهذا القول "ها أنت جميلة يا حبيبتي" فإذا ما وجدت فينا محبة وأشواق لشخصه المبارك فما هي إلا صدى محبته وأشواقه هو إلينا "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا" وكان العروس لم تجد لغة تعبر بها عن جمال عريسها أفضل من لغته التي تحدث هو بها إليها، وهذه نتيجة حتمية للشركة العميقة معه فأنها تكسبنا لهجته المقدسة ولغته السماوية "فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع"(أع4: 13) وهل يوجد بين لغات البشر والملائكة ما يوازي لغة رب المجد الذي أطلنا المكوث في حضرته والشركة معه تصير لغته لغتنا؟
ومن العجيب ان العروس بعد ان قال لها العريس "أنت جميلة" لم تنشغل بنفسها ولم تتأمل في ذاتها لترى ما فيها من جمال لان جماله هو كان مالكا لكل حواسها ومشاعرها. لقد سمعت بأذنيها إعجاب العريس بها، ولكنها لا تعلق على هذا الإعجاب بكلمة واحدة، فلا هي تتباهى بهذا الإعجاب ولا تقول بأنها ليست أهلا لذلك الحب، ذلك لأنها نسيت ذاتها ولم تفكر في نفسها، وهذا هو التواضع الصحيح، فقد نتحدث عن رداءتنا، وأننا لسنا جديرين بمحبة الله ونعمته ومع ذلك يكون القلب مملوءا كبرياء، وأما التواضع الصادق فلا يتحدث عن الذات سواء في صلاحها أو في رداءتها، لكنه درس عسير على النفس ان تتعلمه، أما ربنا يسوع المسيح فهو المثال الكامل، فقد وضع نفسه وأخذ المكان الأخير، ولئن كان آدم الأول قد رفع نفسه ومن ثم أتضع، فان آدم الأخير وضع نفسه فرفعه الله، ليتنا نتبعه ونتعلم منه فنجد راحة لنفوسنا "لان كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع"(لو18: 14).
ان جمال العروس لم يكن طبيعيا ولكنه مكتسب من جماله هو "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو" فهو ليس جميلا فقط ولكنه حلو أيضا، وهذا ما لا تدركه إلا النفس التي ذاقت ان الرب طيب وصالح.
ما أحلى فادي الكريم نعم وما أطيبه
وكل قلب مستقيم من خيره يشبعه
إذا تأملنا في حياة ربنا المبارك وفي أمجاده الأدبية وتتبعنا كل خدمة من خدماته أو عمل من أعماله وكل كلمة من كلامه نجده كاملا في كل شيء. هذا ما يستطيع ان تتحققه النفس التي تعمقت في معرفته وتفرست في كمالاته وتلذذت بالشركة المقدسة معه والتأمل المستمر في صفاته المباركة وسجاياه الطاهرة. وما أكبر الفرق بين معرفته المعرفة الشخصية وبين المعرفة عنه، فالنفس التي تعرفت به تخاطبه مع العروس "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو" _ "أنت أبرع جمالا من بني البشر" أما النفس التي لم تعرفه المعرفة الصحيحة فلا ترى فيه شيئا من الجمال. لقد كانت خيمة الاجتماع رمزا لإنسان الكامل ربنا يسوع المسيح _ الكلمة الذي صار جسدا وحل بيننا. فكل من دخل الخيمة ورأى ما احتوته من نفائس وكنوز ثمينة مبتدئا بمذبح النحاس الذي هو صورة لصليب ربنا يسوع المسيح والمرحضة النحاسية ثم المنارة الذهبية والمائدة ومذبح البخور الذهبي، ثم ما كان داخل قدس الأقداس أعني تابوت العهد وما احتواه _ هذه كلها أشياء تعلن أمجادا متنوعة وكمالات عديدة وجمالا باهرا لربنا المبارك. نعم ان كل من اكتحلت عيناه برؤية هذه النفائس فأنه يهتف مع المرنم قائلا: "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود" (مز84) "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ان أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس (فيه) في هيكله"(مز27) أما من مر على الخيمة من الخارج فلا يرى سوى جلود الكباش المحمرة وشعر المعزى التي لا شيء فيها من الجمال بحسب الظاهر، فكل من اكتشف ما في قلب الرب من حب وصلاح وصفات هي كمال الجمال لا بد ان تفيض قلبه بكلام صالح "أنت أبرع جمالا من بني البشر"(مز45: 2) أما النفس التي لم تعرف الرب المعرفة الصحيحة فأنها بالعكس لا ترى فيه جمالا قط. أنها تراه "كعرق من أرض يابسة. . لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فتشتهيه"(أش53) هذا لسان حال النفس التي لم تختبر جمال الرب ولم تذق حلاوته. هذا كان أيضا لسان حال اليهود حال وجود ملكهم في وسطهم فأنهم احتقروه وأستهزأوا به، فقد دعوه "ناصريا" أي محتقرا. "أليس هذا هو ابن النجار؟" _ "أنه ببعلزبول يخرج الشياطين". أما الذين عرفوه وتبعوه واختبروا محبته لهم وعنايته بهم وشبعوا بتعاليمه فقد قالوا له "يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي"(يو6: 68و 69).
* * *
ان كان العريس المبارك قد أتى إلى خاصته _ خراف بيت إسرائيل الضالة ولكن خاصته لم تقبله (يو1: 11) بل بالحري احتقروه واستهزأوا به ورفضوه. "وبأيدي آثمة صلبوه"، وكان لسان حالهم في عدم إيمانهم "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فتشتهيه محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به"(أش53) ولكن تبارك اسم إلهنا فان دعوته وهباته هي بلا ندامة، فأنه سيجيء الوقت الذي فيه ترجع بقية منهم إلى الرب، وإذ يرجعون إليه بقلوبهم فعندئذ يرفع البرقع الموضوع على قلبهم، ومن ثم يعترفون بخطيتهم (كأمة) وسيكون لسان حالهم. "ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا، وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه أثم جميعنا"(أش53: 4-6) فذاك الذي رفضوه في أيام أتضارعه سيرونه في جلال مجده وملكه، ويرحبون به ويتوجونه ملكا عليهم، ويترنمون له قائلين: "أنت أبرع جمالا من بني البشر _ ها أنت جميل يا حبيبي وحلو".
* * *
"وسريرنا أخضر" ألا نرى في السرير رمزا جميلا للشركة الهادئة مع ربنا المبارك وراحة النفس الناشئة عن الوجود في القرب منه بمعزل عن ضجيج العالم "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلا"(مر6: 31) هذه هي الراحة الصحيحة التي نستطيع ان نظفر بها في عالم البؤس والشقاء، وما أحلى وأشهى الثمار التي تتمتع بها النفس الرابضة في حضرة الراعي المبارك، وهذا ما تشير إليه العروس بقولها سريرنا "أخضر" أنه "في مراع خضر يربضني وإلى مياه الراحة يوردني"(مز23) "وأما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله"(مز52: 8).
حقا ما أجملك وما أحلاك أيها العريس المحبوب والراعي الصالح. هبنا ان نوجد في شركة دائمة معك فنشبع بك ومراعيها الدسمة ونرتوي من مياهك العذبة.
* * *
ثم لنلاحظ قول العروس "سريرنا" فهي لا تقول "سريري" لأنها لا تستطيع ان تتمتع بهدوء وهناء ولا براحة وسلام بدونه، كما أنها لا تقول "سريرك" ليقينها بان سروره ولذته في تمتع النفس به وتمتعه هو بالنفس "لذاتي مع بني آدم"(أم8: 31) ولكنها تقول "سريرنا" لان قربنا من الرب وشركتنا معه تنشيء سرورا متبادلا وشبعا مشتركا بيننا وبينه "أتعشى معه وهو معي"(رؤ3: 20) "يلذ له نشيدي وأنا أفرح بالرب"(مز104: 34) يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم"(يو15: 11).
ص 1، آية 17
17-"جوائز بيتنا أرز وروافدنا سرو" ( * )
لقد كان الهيكل الذي بناه سليمان قديما مركزا لاجتماع يهوه بشعبه المختار "يرون قدام الله في صهيون"(مز84: 7) وكانت كل أخشاب الهيكل من الأرز والسرو (1مل5: 8) وكذا البيت الذي بناه سليمان لنفسه فأنه عمل أعمدته وجوائزه وسقفه من الأرز (1مل7) والأرز الذي كان يؤتى به من جبال لبنان الشامخة هو أقوى وأمتن الأخشاب حتى قيل عن سليمان أنه "تكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط"(1مل4: 33) وهذا دليل قاطع على ان الأرز خشب عظيم وهائل جدا كما أنه بديع ومتين، وفي هذا نرى ان علاقة الرب بشعبه المحبوب الذي اشتراه لنفسه علاقة متينة وثابتة لا يمكن ان يؤثر فيها عوامل الحياة المتقلبة "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"(مت16: 18) تبارك اسم إلهنا الذي أعطانا أيضا ميراثا لا يفنى ولا يضمحل ونحن محفوظون بقوته تعالى لهذا الميراث عينه.
أما السرور فهو رمز البهجة والجمال، فآلات الطرب والغناء كانت تعمل من خشب السرو "داود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو بالعيدان والرباب وبالدفوف وبالجنوك وبالصنوج"(2صم6: 5) هذا فضلا عن أنه خشب مشهور برائحته الذكية، فنحن في حالة الشركة مع الرب داخل المقادس نستنشق رائحة السرو ونستمتع بنغمات آلاته المبهجة "أمامك شبع سرور"(مز16: 11).
ان الأرز رمز الجلال والعظمة والسرو رمز البهجة والبهاء "الجلال والبهاء أمامه العزة والبهجة في مكانه"(1أغ16: 27).
* * *
ثم ان الأرز والسرو يعطياننا صورة جميلة لما ستكون عليه البقية التقية عند رجوعها إلى الرب إلهها "أجعل. . . الأرض اليابسة مفاجر مياه. أجعل في البرية الأرز. . . أضع في البادية السرور. . . "(أش41: 18و 19) "أنا أشفي ارتدادهم. أحبهم فضلا لان غضبي قد ارتد عنه. أكون لإسرائيل كالندى. . . وله رائحة كلبنان. يقول أفرايم ما لي وللأصنام. أنا كسروة خضراء"(هو14: 4-8) فعروس الرب الأرضية (البقية التقية) عندما ترجع إلى عريسها يهوه الذي هجرته زمانا طويلا ستغنى مرددة القول "جوائز بيتنا أرز وروافدنا سرو".
ذلك ما لا بد ان يتحقق عمليا في الزمن الألفي السعيد تحت سيادة وسلطان الرب يسوع "ملك الملوك ورب الأرباب" عندئذ يتمتع ذلك الشعب الأرضي بملء البركة والابتهاج "لأنكم بفرح تخرجون وبسلام تحضرون. الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنما وكل شجر الحقل تصفق بالأيادي. عوضا عن الشوك ينبت سرو. . . ويكون للرب اسما علامة أبدية لا تنقطع"(أش55: 12و 13) "مجد لبنان إليك يأتي السرو والسنديان والشربين معا لزينة مكان مقدسي وأمجد موضع رجلي"(أش60: 13).
وفي قول العروس "بيتنا" إشارة إلى ان العروس الأرضية تتطلع إلى حالة الاستقرار التي ستحظى بها في سيادة الملك المجيد، فهي لا تتحدث عن خيمة معرضة للاقتلاع بل إلى المسكن الذي تتمتع فيه بشركة مستديمة مع عريسها الممجد.
* * *
وفي قول العروس "سريرنا" و "بيتنا" و "روافدنا" صورة جميلة للوحدة المباركة التي صارت لنا مع رأسنا المجيد ربنا يسوع المسيح، فالله الغني في الرحمة أحيانا مع المسيح وأقامنا معه وأجلسنا معا في السماويات في المسيح يسوع (أف2).
ان العروس التي تقول "بيتنا" لم يكن لها قبلا. لقد كنا تائهين ولكنه في صلاحه وجوده أتى بنا من مفارق الطرق وأدخلنا في دائرة النعمة التي نحن فيها مقيمون وقد مضى إلى السماء ليعد لنا مكانا في بيت الآب وسيأتي ثانية ليأخذنا إليه حتى حيث يكون هو نكون نحن أيضا معه في المجد.
وكم وكم يحلو لنا بيت أبينا ذي الجلال
حيث الحبيب وسطنا والحب تاج وجمال
( * ) الجوائز بمعنى الدعائم (أي الكتل) الخشبية التي توضع على الحائطين لكي تحمل ألواح السقف الخشبية المشار إليها هنا بالروافد.