تفسير سفر نشيد الأنشاد آية آية
ص 2، آية1
1-"أنا نرجس شارون سوسنة الأودية"
رأينا في ختام الإصحاح السابق كيف ان العروس ناجت عريسها المحبوب وشادت بذكر محاسنه وجماله الباهر وحلاوته الفائقة، وعبرت عما في نفسها من السرور لقربه منها وتمتعها به في سرير الشركة المقدسة والمثمرة داخل دائرة النعمة الغنية التي صارت فيها مقيمة، أما الآن فأننا نراها تصف نفسها وصفا متواضعا يعظم نعمته التي أنعم بها عليها فتقول "أنا نرجس شارون سوسنة الأودية" لقد اعترفت قبلا بأنها سوداء (1: 5) ولكنها الآن تفتخر بعمل نعمته فيها _ افتخاراً تزينه الوداعة والتواضع فتقول "أنا نرجس" _ أعني بيضاء اللون ( * ) فهي في ذاتها "سوداء كخيم قيدار" ولكنها صارت فيه "أبيض من الثلج" بيضاء "كالنرجس" هذا يوافقه قول الرسول بولس "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا . . . ولكن لا أنا نعمة الله التي معي"(1كو15: 1).
ربما يلومها البعض ظنا منهم أنها تفتخر بنفسها وأنه كان الأليق بها ان تتواضع فلا تتكلم عن نفسها إلا بكل تحقير، ولكن أمثال هؤلاء لا يعرفون شيئا عن سمو النعمة الغنية، وما يحسبونه تواضعا هو في حقيقة الأمر عين الكبرياء "لا يخسركم أحد الجعالة راغبا في التواضع (أعني التواضع الكاذب).. . . منتفخا باطلا من قبل ذهنه الجسدي"(كو2: 18) أما الاعتراف بنعمة الله وبعمله الفائق العجيب في النفس فهو الأتضاع الصحيح "كما هو مكتوب من أفتخر فليفتخر بالرب"(1كو1: 31) فان قالت العروس "أنا نرجس شارون" فهي أنما تعترف بجميله وفضله عليها، إذ أنه هو الذي غرسها في فردوس النعمة وهو الذي أنماها حتى صارت نرجسا، لان الذي ينمي هو الله (1كو3: 7) وغير معقول ان زهرة النرجس أو غيرها من الزهور قد خلقت أو أوجدت نفسها ولكن الكل من الله. صحيح ما أردأ الكبرياء في ذاتها ولكن ما أشنعها وما أبشعها إذا لبست رداء الأتضاع الكاذب، أما النفس التي عرفت حقيقة ذاتها ثم أدركت ملء غنى نعمته التي ظهرت بظهور ربنا ومخلصنا يسوع المسيح فمع أنها لا تفتخر بشيء في ذاتها ولكنها لا تتردد لحظة في التخبير بفضائل الذي دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب.
* * *
"سوسنة الأودية" (السوسنة بمعنى الزنبقة) ويا له من تعبير رائع وبديع فهي تفتخر بعمله ونعمته افتخارا يجمله الأتضاع الصحيح، إذ تعترف بأنها مجرد زنبقة في الأودية، ونحن نعلم ان الزنبقة في ذاتها مجرد زهرة بسيطة تنمو وسط الحقول ولا قيمة لها. أنها بلا قيمة في نظر الناس إذ يدوسونها بأقدامهم بدون مبالاة إذ هي من "عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح (من الناس) غدا في التنور"(مت6: 30) ولكن كم هي غالية في عيني ذاك الذي أبدعها والذي ينميها "تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو"(مت6: 28). أنها لم تتعب لكي تنمي نفسها أو تكسو ذاتها ثوبا جميلا "لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم أنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها"(مت6: 28و29) فهي جميلة جدا في عينيه وقد أكسبها هو جمالا لم ينله سليمان في كل مجده.
تأمل أيضا في تعمق العروس في اتضاعها الناشئ عن معرفة أصلها إذ تقول بأنها سوسنة "الأودية" فهي ليست من أصل مرتفع وشامخ ولكنها نبتت في وسط الأودية أي الأماكن المنخفضة. ما أجمل وما أهدأ الأودية! صحيح ان الذهب البشري لا يميل إلا إلى العظمة والارتفاع، ولكن النفس التي تشربت بمبادئ المسيح وتلقنت الحكمة النازلة من فوق من ذلك المعلم الوديع والمتواضع القلب لا بد ان تجد الراحة الصحيحة في وادي الأتضاع "أما المتواضعون فيعطيهم نعمة"(يع4: 16) "غير مهتمين بالأمور العالية بل منقادين إلى المتضعين"(رو12: 16)، والحق أننا إذا ألقينا نظرة صادقة على أصلنا كأولاد المقرصين من الطين لما وجدنا فينا شيئا يدعو إلى العجب والعظمة "مفتكرين شيئا واحدا لا شيئا بتحزب أو عجب بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. . . فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضا. . . "(في2: 2-8) ليتنا نضع عيوننا في كل حين ذلك المثال الكامل ربنا يسوع المسيح وندرب أنفسنا على التمثل به واقتفاء آثار خطواته. ليتنا نأخذ المركز الأخير فنستريح تماما حيث لا ينازعنا فيه منازع. أني كنت أود ان أتوسع أكثر كثيرا في هذه الحقيقة العملية التي نحتاج إلى إدراكها والوصول إليها عمليا ولكنني أترك الفرصة للقارئ العزيز لكي يدرس هذا الموضوع بنفسه في كلمة الله التي فيها كل الكفاية، ومتى استحضر كل منا ذاته أمام الله بروح الصلاة في نور الكلمة فلا بد ان يعلمه الرب هذا الدرس الثمين ولا بد ان يريه أيضا نتائج الكبرياء الوخيمة "يقاوم الله المستكبرين"(يع4: 6) "الكبرياء والتعظم أبغضت"(أم8: 13).
* * *
بقيت لي ملاحظة من جهة رجاء شعب الرب الأرضي إذ وان كان هذا السفر النفيس مليئا بالدروس العملية النافعة لنا نحن المسيحيين، إلا أنه من الناحية النبوية يدور حول علاقة الرب يهوه بعروسه الأرضية أعني البقية التقية مستقبلا، فهو ان كان ذلك الشعب في الوقت الحاضر كأرض مقفرة بلا ثمر لله أو كمراعي شارون التي أقفرت وليس للنرجس أثر فيها "ناحت ذبلت الأرض خجل لبنان وتلف. صار شارون كالبادية. . . . "(أش33: 9) ولكن شكرا لإلهنا الذي لا بد ان يتمم مواعيده للآباء وكل النبوات الخاصة ببركة البقية التقية لا بد ان تتحقق في وقتها _ وهو قريب "تفرح البرية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس. ويزهر أزهارا ويبتهج ابتهاجا ويرنم. ويدفع إليه مجد لبنان. بهاء كرمل وشارون. هم يرون مجد الرب إلهنا"(أش35: 1و2) "بل أخرج من يعقوب نسلا ومن يهوذا وارثا لجبالي فيرثها مختاري وتسكن عبيدي هناك. فيكون شارون مرعى غنم ووادي عخور مربض بقر لشعبي الذين طلبوني"(أش65: 9و10) "أكون لإسرائيل (الذين سيؤمنون بالمسيح) كالندى يزهر كالسوسن"(هو14: 5) تبارك اسم إلهنا الواعد الأمين والساهر على كلمته ليجريها، ولا يمكن ان تسقط كلمة واحدة من كل الكلام الذي تكلم به الرب من جهة مختار يه الأتقياء من شعب إسرائيل في الملك الألفي مستقبلا.
( * ) النرجس هو أبيض له رائحة ذكية وينبت بين الصخور وشقوق الجبال الشامخة.
ص 2، آية 2
2-كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات
هنا نجد العريس يؤيد العروس في اعترافها بأنها "سوسنة" ولكن يوجه التفاتها إلى الوسط الذي هي موجودة فيه، وما يحيط بها من المخاطر، وهذا واضح من قوله "كالسوسنة بين الشوك" يا للعجب فأنها سوسنة واحدة لا بل هي زهرة ضعيفة في وسط الشوك الكثير أو بالحري قطيع صفير في وسط وحوش مفترسة "خراف وسط ذئاب" ولكن شكرا لإلهنا لأنها بقوته محفوظة بالرغم من كثرة أعدائها "في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا. أنا قد غلبت العالم"(يو16: 33) والرب بحكمته الفائقة قد غرسها في وسط الأشواك المؤذية لان هذا نافع لها، فهي عرضة لان تزهر وتتباهى بجمالها وتتمايل عجبا إلى اليمين وإلى اليسار فتؤذيها سنان الأشواك المحيطة بها، فتلتزم إذ ذاك ان تنـزوي في مكانها آخذة مركز الأختفاء والأتضاع. حقا ان وجود السوسنة (أي العروس) في وسط الأشواك الآلام والضيقات خير لها ولا يليق بها ان تشكو من وجودها هناك با عليها ان تفتخر في الضيقات "عالمين ان الضيق ينشئ صبرا والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى لان محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا"(رو5: 3-5).
أنه وان بدا كان الشوك مؤذ لها وأنه لا ينفع فيه ولا فائدة منه ولكن وجودها في وسطه نافع لها إذ يكون سياجا يحفظها من وصول أيدي الأعداء إليها، وهكذا الضيقات والآلام فأنها وان بدت كان لا نفع فيها إلا أنها في حقيقة الأمر نافعة جدا، إذ يستخدمها إلهنا لحفظنا ووقايتنا من الخطايا والشرور والفخاخ التي ينصبها عدو الخير في طريقنا "فان من تألم في الجسد كف عن الخطية"(1بط4: 1) ألم يكن هذا اختبار رسول الأمم العظيم الذي اختطف إلى السماء الثالثة وسمع كلمات لا ينطبق بها ولا يسوغ لإنسان ان يتكلم بها إذ قال "لئلا ارتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع" وإذ تألم كثيرا من وخزات تلك الشوكة تضرع إلى الرب ثلاث مرات لأجل الخلاص منها، ولكن الرب الحكيم والكاهن العظيم قال له "تكفيك نعمتي لان قوتي في الضعف تكمل" وإذ أدرك الخير الذي وهبه الرب له بواسطة الشوكة قال "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي"(2كو12: 1-10) حقا ان إلهنا يستطيع ان يخرج من الآكل (أي الآلام) أكلا ومن الجافي (أي الضيقات) حلاوة، فوجود السوسنة بين الشوك مع ما فيه من آلام لهو بركة لها أفضل من اقتلاعها من وسطه "لست أسأل ان تأخذهم من العالم بل ان تحفظهم من الشرير"(يو17: 15).
* * *
"كذلك حبيبتي بين البنات" فمع أنه توجد بنات كثيرات لا يحصى عديدهن ولكن ليس للعريس بينهن إلا حبيبة واحدة _ هي عروسه التي أحبها وأسلم نفسه لأجلها وان مثلها بينهن كمثل السوسنة الواحدة بين الشوك الكثير. هي بحسب الطبيعة لم تكن أفضل منهن "كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين"(أف2: 3). "لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله"(رو3: 22و23) ولكن تبارك اسم إلهنا لأنه "حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا"(تي3: 4-6).
* * *
ان كان العريس المبارك يرانا نحن المؤمنين _ عروسه كالسوسنة بين الشوك أفلا يجب ان يظهر _ في حياتنا العملية _ ان هناك فرقا كبيرا بيننا وبين أهل هذا العالم، فلا نشا كل هذا الدهر بل نكون "بلا لوم وبسطاء أولادا لله وبلا عيب في وسط جيل معوج وملتو نضيء بينهم كأنوار في العالم"(في2: 15).
* * *
أما بقية البنات "العذارى الجاهلات" المعبر عنهن بالشوك، أو بالحري جميع الخطاة غير المؤمنين إيمانا صادقا بالرب يسوع المسيح _ مهما سمت أخلاقهم وآدابهم أو مهما كان مركزهم عاليا في وسط الهيئة الاجتماعية، ومهما حازوا من الرتب السامية وألقاب الشرف العالمية، أو نالوا كل أوسمة الفخار والنياشين التي تزين صدورهم، أو كانوا ممن يشار إليهم بالبنان لما امتازوا به من الدرجات العلمية العالية أو لأنهم حازوا انتصارات باهرة في الحروب، أو برزوا في ميادين السياسة أو غير ذلك مما يطمح إليه ذوو الآمال الكبيرة فأنهم أمام الله وفي نظر العريس المبارك كالشوك الذي لا بد له من الحريق يوما من الأيام، ولا بد ان يجيء ذلك اليوم الذي فيه يستيقظ هؤلاء جميعا وكل الخطاة بدون استثناء _ "ملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبد وكل حر" فيجدون أنفسهم في وسط ظلمة البحيرة المتقدة بالنار والكبريت وسيبقون هناك في الأبدية التي لا نهاية لها.
ولكن أليس غريبا وعجيبا جدا ان إلهنا يستطيع ان يغير الشوك الأثيم ويصيره طاهرا وجميلا كالسوسن "ان كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا"(2كو5: 17) هذه هي معجزة المسيحية الدائمة وميزتها التي انفردت بها دون كل الأديان البشرية.
إذا حدث ان وقعت هذه السطور بين يدي أي شخص بعيد عن المخلص الكريم ربنا يسوع المسيح فأني أناشده باسم الفادي العزيز والمخلص الوحيد الذي أحبه ومات لأجله على الصليب بان يبادر الآن بالرجوع إلى الله بالتوبة القلبية وإلى الرب يسوع بالإيمان القلبي الصادق واثقا في قيمة عمله الكفاري الذي أكمله فوق صليب الجلجثة والذي فيه الكفاية لخلاصه كاملا وقبوله قبولا أبديا أمام الله.
ص 2، آية 3
3-"كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظله اشتهيت ان أجلس وثمرته حلوة لحلقي".
ما أعذب صوت وما أجمل موقفها عند ما تؤدي الشهادة عن جمال عريسها المحبوب وحلاوة أثماره وعن رائحته الذكية! وما كانت لتستطيع ان تؤدي هذه الشهادة الحية عنه لو لم يكن في حالة الشركة العميقة معه، فهناك على "السرير الأخضر" قد رأت جماله وذاقت حلاوته فسكبت نفسها بالتعبد القلبي له وناجته قائلة "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو" والشركة معه والتعبد القلبي له لا بد ان يعقبهما الشهادة الحية والقوية عنه، لا بل الشهادة في أجمل وأسمى صورها. وعبثا نحاول ان نكون شهودا صادقين له ما لم نكن في شركة مستمرة معه وتعبد قلبي لشخصه الكريم. لينا ندرك هذه الحقيقة إدراكا صحيحا وندرب أنفسنا للسير فيها عمليا حتى تكون شهادتنا مؤثرة وجذابة (أنظر يو1: 39و41و42).
لقد شبهت العروس نفسها بسوسنة الأودية (المتواضعة) أما عريسها فهو كشجرة التفاح التي تجد فيها السائح كل أعوزه _ ذلك السائح الذي سئم ومل من سفره الطويل الشاق بعد رؤية أشجار الوعر التي تشبه إلى حد كبير شجر السنط، وماذا في شجرة السنط سوى القرض المر والشوك المؤذي؟ وهذه صورة جميع البشر بغير استثناء، ولا شك في ان السائح قد اختبر بنفسه تلك الأشجار الشائكة فلم يجد ظلا مريحا تحتها ولا ثمرا فيها يشتهى. لقد جرب تلك الأشجار مرارا وحاول ان يستريح تحت ظلها فلم يجد راحة بل بالعكس زادته تعبا فوق تعب، أما وقد وجد شجرة التفاح فكأنه وجد "شجرة الحياة" "من يجدني يجد الحياة"(أم8: 35) نعم لقد وجد راحة أبدية التعوبة "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"(مت11: 28). لقد تغير المنظر تماما فعوضا عن النظر إلى أشجار الوعر المقبضة إذا بالمؤمن السائح يتمتع برؤية شجرة التفاح المبهجة ويستنشق رائحتها الذكية ويتغذى بأثمارها الشهية ويستظل بظلها الظليل ويرتوي من جداول المياه العذبة التي تجري تحتها.
طوباك أيها السائح الذي أعياك السفر ظفرت بالسعادة التي كنت تنشدها والراحة التي كنت تتوق إليها. طوباك لأنك بعد ان كدت "تهلك جوعا" في هذا القفر المضي قد وجدت في ربنا المبارك يسوع المسيح بركات روحية تشتهي الملائكة ان تطلع عليها _ وطعاما سماويا _ طعام الله نفسه. لقد كنت قبلا تشتهي ان تملأ بطنك من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطك أحد، أما الآن فأمامك وليمة السماء _ وليمة الآب، فكل هنيئا وأشبع ولتتلذذ بالدسم نفسك.
ومن المحقق ان العروس التي ذاقت قبلا مرارة أثمار الوعر وآلمتها أشواكها المؤذية ثم تغذت بعد ذلك من شجرة التفاح الشهية فانتعشت روحها لن يخطر ببالها بعد كل ذلك ان تعود مرة أخرى لتتذوق مرارة شجر الوعر. أنها لو فعلت ذلك لحسبناها في منتهى الغباوة، ولكنني بكل أسف أقول كم من المرات نسلك كجهلاء وليس كحكماء، إذ نبتعد عن شجرة التفاح كأننا سئمنا أثمارها كما سئم بنو إسرائيل المن في البرية وبجهالة نشتهي الرجوع إلى أشجار الوعر التي ذقنا مرارتها؟ هبنا يا إلهنا الحكمة لنوجد قريبين منك وفي الشركة معك لان "أمامك شبع سرور وفي يمينك نعم إلى الأبد"(مز16: 11).
* * *
"كذلك حبيبي بين البنين" ما أجمل قولها "حبيبي" فلا يوجد لها سوى حبيب واحد. ليس المعنى أنها تبغض الآخرين. كلا بل بالعكس هي تحب جميع الناس حتى الأعداء لأجل اسمه، ولكن قلبها متعلق به دون سواه وهو غرضها الأوحد، وفي الحقيقة لا يستطيع القلب ان يتعلق بأكثر من حبيب واحد "لا يقدر أحد ان يخدم سيدين"(مت6: 24) وكل رجال الله الأتقياء الذين نجحوا في الحياة الروحية واستطاعوا ان يتمتعوا بمحبة الرب ويتلذذوا به على الوجه الصحيح (في العهدين القديم والجديد) هم الذين أفرغوا قلوبهم من المتعلق بأي شيء سواه "أنت سيدي خيري لا شيء غيرك"(مز16: 2) "من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض"(مز73: 25) "ولكن الحاجة إلى واحد فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينـزع منها"(لو10: 42) "افعل شيئا واحدا. . أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع"(في3: 13و14) هذا هو سر النجاح الصحيح، والرب نفسه لا يرضى بأقل من ذلك "يا ابني أعطني قلبك"(أم23: 26).
لقد عرفت العروس تماما أنه يوجد بين البشر رجال أفاضل وأتقياء _ أناس أمناء في حياتهم _ عرفت أنهم أبناء لله، وهذا واضح من قولها "بين البنين" ومع ذلك فهو (أي حبيبها) يمتاز عنهم جميعا، لأنه الإنسان الوحيد الذي أشبع قلب الله ومجده وأكمل مشيئته تماما "أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته"(يو17: 4) وكما ان التفاح يمتاز في طبيعته عن شجر الوعر، هكذا شخص المسيح يمتاز عن جميع البشر إذ هو الإنسان القدوس الكامل الذي لم يفعل خطية ولم يكن في فمه غش، لا بل هو الإنسان الفريد "الذي لم يعرف خطية"(2كو5: 21) أما جميع المؤمنين "البنين" بدون استثناء فهم بحسب الطبيعة العتيقة الساكنة فيهم كأشجار الوعر، ولكن شكرا لإلهنا لان هذه الطبيعة القديمة "الإنسان العتيق" قد قضى عليه في صليب المسيح، ولم يبق لهذه الطبيعة وجود أمام الله، ومن واجبنا ان نميت أعمالها بقوة الروح القدس الساكن فينا، وان نحسب أنفسنا أمواتا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا.
حقا ان هذا العريس المبارك يمتاز عن كل البنين _ أبناء الله بالإيمان بالمسيح، كما أنه يمتاز أيضا عن كل البنين من الملائكة المعبر عنهم في سفر أيوب بأنهم "بنو الله" أو "بنو العلي"(أش1: 6و13، 38: 7) مع أنه تبارك اسمع وضع قليلا عن الملائكة من أجل ألم الموت (عب2: 9) "ولكنه (كإنسان أيضا) بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسما أفضل فيهم"(عب1: 4-14، 2: 5).
* * *
"تحت ظله اشتهيت ان أجلس" ما أكبر الفرق بين شهوة المؤمنين الأتقياء وشهوات غير المؤمنين. يقول الحكيم "شهوة الأبرار خير فقط. . أما نفس الشرير فتشتهي بشر"(أم11: 32، 21: 10). طوبى للنفس التي تشتهي ان تتمتع بالرب وبالوجود في قرب منه وتحت ظله، "إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس. بنفسي اشتهيتك"(أش26: 8و9) والرب لا بد ان يظهر ذاته لنفوس التي تشتهي الوجود تحت ظله "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي"(يو14: 21) "أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إلي يجدونني"(أم8: 17). أما غير الأتقياء فأنهم يشتهون ولا يمتلكون لأنه يطلبون رديا لكي ينفق في لذاتهم (يع4: 2و3).
لذا يحذرنا الروح القدس من اشتهاء الأشياء العالمية ولذاتها "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. ان أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لان كل ما في العالم شهوة الجسد شهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته"(1يو2: 15-17). وكذا يحذرنا من شهوات الغنى المهلكة بقوله "أما الذين يريدون ان يكونون أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك. لان محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة. أما أنت يا إنسان الله فأهرب من هذا. . "(1تي6: 9-11) ليت قلوبنا تشتهي في كل حين ان توجد تحت ظله حيث الشبع الحقيقي نعم ان الشبع والرضى هما تحت ظله وحده، أما كل المشتهيات الأخرى فان ما فيها من لذات أنما وهمية كاذبة، فسليمان الذي قال "مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما. لم أمنع قلبي من كل فرح" إذ وصل إلى معرفة حقيقة تلك الشهوات والمسرات أدرك عن اختبار ان "الكل باطل وقبض الريح * ولا منفعة تحت الشمس"(جا2: 10و11). قد يحسب أهل العالم ان "تنعم يوم لذة. أدناس وعيوب يتنعمون في غرورهم"(2بط2: 13) ولكن لابد ان يعقب تنعم يوم الحياة القصير الحسرة الأبدية في أعماق الهوة _ في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، أما السعادة اليقينية والسرور الدائم في الحياة الحاضرة وفي الأبدية التي لا نهاية لها أنما في الوجود في حضرة هذا العريس البهي وتحت ظله.
* * *
على ان في وجودنا تحت ظله لا نجد اللذة والشبع فحسب ولكننا نجد الأمن والسلامة أيضا. نجد الحفظ المستمر "الساكن في ستر العالي في ظل القدير يبيت"(مز91: 1) "لأنك كنت حصنا للمسكين حصنا للبائس في ضيقه ملجأ في السيل ظلا من الحر"(أش25: 4) فلنعقد النية ونجدد العزم بعمل الروح القدس على ان نـزداد قربا منه والاشتهاء للوجود تحت ظله والشخوص إلى جماله والتغذي بصفاته المباركة، وإذ نوقن أننا في حمى ظله المقدس نتمتع بملء سلامه الذي يهبه لنا، نستطيع ان نغني أنشودة الظفر إلى ان نكون معه في مجده وهناك في ظل حضرته نبقى إلى أبد الدهور كلها "وهكذا نكون كل حين مع الرب".
* * *
بقيت لي ملاحظة مختصرة على قول العروس "اشتهيت" فان هذه الكلمات هزة فرح وطرب "Rapture" فكان العروس قصدت ان تقول، تحت ظله تأخذني هزة فرح وطرب، ويا له من تعبير بديع ورائع يدل على ان السرور والفرح يأخذان بمجامع قلبها ويمتلكنا كل حواسها حتى لكأنها تفقد شعورها بذاتها وبكل شيء سواه. أيها الرب سيدي أني أتوق إلى ان أسمو وأسمو إلى ان أصل إلى هذه الحالة المجيدة، حتى ولو حسب الآخرون ذلك تطرف أو عدم تعقل مني "ان صرنا مختلين فلله" ولكن ليس المعنى ان وصولنا إلى هذا الحد من الهيام والشغف به يفقدنا التعقل والرزانة في حياتنا أو في "عبادتنا العقلية" أو خدماتنا الجهارية أو تصرفاتنا بين الناس، لان الرسول بعد ان قال "ان صرنا مختلين فلله" قال أيضا "وان كنا عاقلين فلكم"(2كو5: 13) ليتنا بقوة الروح القدس الساكن فينا والذي يأخذ مما لعريسنا المجيد المبارك ويخبرنا نمتلأ شغفا وهياما بهذا العريس المحبوب الذي يستحق ان يسود ليس على قلوبنا فقط بل على كياننا بجملته "قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي"(مز84: 2).
* * *
وما أجمل قول العروس "أجلس" فأنه إذ أخذتها هزة الفرح والسرور بهذا العريس المبارك لم ترد ان تبرح من حضرته وقالت "أجلس" أليس هذا عين ما قاله بطرس عندما عاين لمحة من بهاء مجده وعظمته فوق الجبل المقدس "يا رب جيد ان نكون ها هنا"؟ (مت17: 4). أنه رأى منظرا بهيا فأخذته هزة الفرح وغمرة السرور والابتهاج فاشتهى ان يبقى هناك. هل تعلمنا درس المكوث والاستقرار في حضرته درس الجلوس عند قدميه لنتعلم منه؟"(لو10: 39) وأيضا الجلوس عند قدميه وسكب قلوبنا بصلوات والتضرعات "مصلين بكل صلوة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة"(أف6: 18) لقد تعلم داود هذا الدرس فأنه إذ سمع من فم ناثان النبي المواعيد الكريمة التي أنعم بها عليه وعلى بيته "دخل الملك داود وجلس أمام الرب"(1أي17: 16). فلنروض وندرب أنفسنا على الجلوس في حضرة الرب سيدنا وتحت ظله.
* * *
أما إذ ألقينا نظرة إلى رجاء الشعب الأرضي الذي مثله الآن كمثل السائح التائه بين شجر الوعر يعاني آلام وقصاص رفض المسيا الحقيقي فنرى أنه لا بد ان يأتي الوقت _ وهو قريب _ حينما تفتح عيناه في وقت اجتيازه ذلك الضيق المروع "ضيق يعقوب" فيتطلع إلى شجرة التفاح التي حسبها في عدم إيمانه بأنها "كفرخ وكعرق من أرض يابسة لا صورة له ولا جمال". (أش53: 2) فيرجع بكل سرعة وبكل قلبه إليه وهناك بعد عناء السفر الطويل والتشتت في كل ممالك الأرض يشتهي ان يجلس تحت ظله وحينما إذا يتم فيهم قول النبي المرنم "الرب حافظك. الرب ظل لك عن يدك اليمنى. لا تضربك الشمس في النهار ولا القمر في الليل. الرب يحافظك من كل شر يحفظ نفسك . الرب يحفظ خروجك ودخولك من الآن وإلى الدهر"(مز121: 5-8) لا بل ان ذلك الشعب التائه عن الرب الإله الآن، بعد ان يحتمي في ظل القدير سيكون هو ظلا للشعوب "أنا أشفي ارتداءهم. أحبهم فضلا لان غضبي قد أرتد عنه. . ويعود الساكنون في ظله يحيون حنطة ويزهرون كجفنة"(هو14: 4و7).
* * *
"وثمرته حلوة لحلقي" بديهي ان العروس لم تشهد عن حلاوة ثمرته إلا بعد ان ذاقتها وتلذذت بها، وهل نستطيع ان نؤدي شهادة صحيحة عما لم نختبره بأنفسنا؟ وكيف نستطيع ان ندعو الآخرين قائلين "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب"(مز34: 8) ان لم نكن قد ذقنا نحن "ان الرب صالح؟"(1بط2: 3). أننا بكل أسف عائشون في عصر كثرة فيه الاعترافات الفارغة وراجت فيه الصورة التقوى المجردة من القهوة، وما نحتاج إليه نحن شعب الرب المقتنى هو ان نكون قريبين منه متلذذين بحلاوة أثماره أو بالحري متغذيين بالتأمل المستمر بصفات وأعمال وأقوال الإنسان الكامل كما تعلنها لنا الأناجيل المقدسة. نحتاج ان ندرس كلمة الله بروح الصلاة متتبعين أثار خطوات ربنا المبارك ومتأملين بكل كلمة من كلامه وكل تصرف من تصرفاته. هذا هو المعنى التلذذ بأثماره الحلوة أو الشبع بشخصه المبارك أو التفرس في جماله الباهر، إذا ليس المقصود بالنظر إلى جمال الرب ان نتخيل جماله جسمانيا الأمر الذي لا فائدة لنا منه مطلقا "ان كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد"(2كو5: 16) إذ ماذا يفيدنا ان نتخيل كيف كانت صورته الجسدية الأمر الذي يفعله الوثنيون الذين يتغنون بجمال معبوداتهم. ان المرنم في مناجاته للرب "أنت أبرع جمال من بني البشر"(مز45: 2) لم يقصد مطلقا جمال منظره الجسدي. كلا وأنما كان قصده بل بالحري قصد الروح القدس هو الإشادة بجمال صفاته وكمال تصرفاته، طاهرة حياته وسمو محبته "محبة المسيح فائقة المعرفة" وغنى نعمته وقداسة أعماله. عصمة أقواله وتعاليمه التي شهد فيها الأعداء بأنه "لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان"(يو7: 46) وأنه "كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة"(مت7: 28) "وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه"(لو4: 22) فلندرس إذا هذه الحيوة الفريدة بروح الصلاة حتى نعكس نور صفاته المباركة علينا وفي حياتنا، ولنتعمق في التأمل في مثاله الكامل الذي تركه لنا وقد أعلنته لنا كلمته الحية، من ثم نتتبع أثار خطواته "من ثم أيها الأخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع"(عب3: 1).
هبنا يا ربنا الحبيب ان نطيل المكوث تحت ظلك والتغذي بثمرتك الحلوة. هبنا ان ننمو في معرفتك أكثر. أطبع صفتك المباركة فينا وامنحنا ان نتفرس في جمالك الباهر حتى نتغير إلى صورتك البهية بقوة الروح القدس الساكن فينا إلى ان نراك كما أنت فنكون مثلك. آمين.
وفيه راحة لنا في ظله يحلو الجلوس
أثماره لذتنا حضوره يروي النفوس
* "وقبض الريح" أو قبض الروح أي كآبة الروح.
ص 2، آية 4
4-"أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة"
يا لها من نعمة غنية ومحبة إلهية فائقة فأنه عندما طلبة العروس إلى عريسها بان يجذبها فتجري ورائه أدخلها إلى حجاله حيث البهجة والفرح (ص1: 4) وعندما اشتهت ان تجلس تحت ظله أدخلها إلى "بيت الخمر" نعم لقد أدخلها قبلا إلى حجاله ثم أقتادها (كالراعي) إلى المراعي الدسمة حيث يرعى ويربض خرافه (1: 7و8) ثم تمتعت به (كالملك) متكئا على مائدته حيث أفاح ناردينها رائحته (ص1: 12) وهوذا هي ترى في "بيت الخمر" فكأنه لم يكتفي ان يشبعها ويلذذها من ثمرة شجرة التفاح فأدخلها إلى "بيت الخمر" لترتوي وتبتهج بثمر الكرمة (أي الخمر الروحي) فالمؤمن الحقيقي الذي يقدر البركات والعطايا الروحية حق قدرها "يعطي ويزداد".
وغنى عن البيان ان "بيت الخمر" إشارة إلى الفرح أو بالحري إلى مشاركة الرب نفسه في فرحه، والرسول يوحنا يوضح لنا ذلك إذ يرينا ابن الله المبارك معلنا مجده عندما حول الماء إلى خمر (يو2) وفي هذا الإنجيل عينه يحدثنا عن "الفرح الكامل" _ أعني الفرح الذي أشار إليه الرب في صلاته لأجل تلاميذه "ليكون لهم فرحي كاملا فيهم"(يو17: 13) "كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم"(يو15: 11).
* * *
ولنلاحظ قول العروس "أدخلني" فهي تعترف بأنه هو الذي أدخلها إلى بيت الخمر أو بالحري أوجد فيه الرغبة الصادقة للوجود في الشركة المقدسة معه. لقد أمسك بيدها وقادها إلى "بيت الخمر" حيث نرى الله في ملء محبته التي لا حد لها.
عندما حل الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين صار البيت الذي كانوا مجتمعين فيه كأنه "بيت خمر" إذا امتلأوا جميعا من الروح القدس وكانوا يتكلمون "بعظائم الله" حتى ان الذين رأوهم ظنوا أنهم "سكارى" فقالوا عنهم "أنهم قد امتلأوا سلافة (أي خمرا جديدة)" (أع2: 13و15) وهذا هو الحال بالنسبة لخاصة المسيح في كل زمان، سواء كأفراد أو كجماعة، تجتمع باسم الرب وبقيادة روحه، إذ متى كان الجسد مخضعا والروح القدس غير محزون في حياتنا العملية ولا مطفأ في اجتماعاتنا فأنه بلا ريب يملأنا بالفرح في الرب إذ يأخذ مما له ويخبرنا. أنه يرسم أمامنا أمجاده وكمالاته فنحصر في محبته الفائقة المعرفة فنعيش نحن الأحياء فيما بعد لا لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام. ان أهم ما نحتاج إليه في أيام الضعف والرخاوة والفتور التي وقعت قرعتنا فيه هو ان نتأيد بقوة الروح القدس في الإنسان الباطني فنعيش أيام غربتنا في هذا العالم وكأننا في "بيت الخمر" لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بلا امتلئوا بالروح"(أف5: 18)
* * *
"وعلمه فوقي محبة" ان كانت محبة المسيح ستكون موضوع فرح كل المفديين وسجودهم وتعبدهم طوال الأبدية فليس أقل من ان تكون هذه المحبة موضع فرحهم وتعبدهم وهم هنا في هذا العالم، وهذه هي خدمة الروح القدس في الوقت الحاضر أنه يأتي بنا إلى "بيت الخمر" حيث يرسم أمامنا محبة الله التي أعلنه في صليب ابنه المبارك، هذه المحبة التي بذلت الابن الوحيد "الله بين محبته لنا ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا"(رو5: 8) هذا ما تتمتع به النفس في بيت الخمر، أعني محبة الآب ومحبة الرب يسوع لنا الأمر الذي يؤكده لنا الرب نفسه بقوله "الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني"(يو16: 27) وهذا واضح أيضا من قوله له المجد "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي. . . ان أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منـزلا"(يو14: 21و23) أليس هذا "بيت الخمر" حيث علمه فوقنا محبة؟
نعم ان محبة المسيح فائقة المعرفة والتي أظهرت في ملئها وكمالاها فوق الصليب هي العلم الذي يرفرف فوق هاماتنا، فلذلك العمل المبارك الذي أتمه ربنا يسوع المسيح إذ أبطل الخطية بذبيحة نفسه هو علم المحبة الذي يخفق فوقنا ليس في الدهر الحاضر فقط بل طوال الأبدية. أننا هناك في المجد سيكون لنا إدراك الكامل لقيمة تلك الذبيحة التي قربتنا إلى الله "فان المسيح تألم مرة واحدة من أجل الخطايا. البار من أجل الآثمة لكي يقربنا إلى الله (1بط3: 18) وإذ يقودنا الروح القدس للتفرس والتفكر في هذه المحبة الإلهية العجيبة نتغنى ونترنم بفرح قائلين "علمه فوقي محبة".
أما عن إسرائيل، فأنهم بسبب معاصيهم وآثامهم ولا سيم خطية رفضهم لملكهم الذي بأيدي آثمة صلبوه لا زالوا يعانون آلاما متنوعة، لا بد ان يقاسوا آلاما أشد هو لا عندما يجتازون في الضيقة العظيمة العتيدة ان تجرب الساكنين على الأرض وسيكون لهم النصيب الأوفر فيها "ضيق يعقوب" فكأنهم في "بيت النوح" ولكن سيأتي سريعا الوقت الذي ترجع بقية منهم إلى الرب إلههم حيث يعترفون بخطاياهم ولا سيما خطية رفض مسياهم "فينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره. في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم. . . وتنوح الأرض (أعني أرض إسرائيل) عشائر عشائر على حدتها. . . "(زك12: 10-14) ولكن الرب في صلاحه ورأفته سيتعطف عليهم ويحول بكاءهم إلى فرح فيأخذهم من بيت النوح إلى "بيت الخمر" حولت نوحي إلى رقص لي. حللت مسحي ومنطقتي فرحا لكي تترنم لك روحي ولا تسكت"(مز30: 11) "لأعزي كل النائحين. لأجعل لنائحي صهيون لاعطيهم جمال عوضا عن الرماد ودهن فرح عوضا عن النوح ورداء تسبيح عوضا عن الروح اليائسة"(أش61: 2و3) "لان الرب فدى يعقوب وفكه من يد الذي هو أقوى منه. . . . حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معا وأحول نوحهم إلى طرب وأعزيهم وأفرحهم من حزنهم"(أر31: 11-13).
وذلك العلم. أعني علم محبته فقد كان قبلا يرفرف فوق كرسي داود، ولكنه قد أنطوي بسبب معصية بيت إسرائيل ويهوذا وسيستمر مطويا إلى ان تنتهي أزمنة الأمم، وعندئذ سيملك الرب يسوع وسيخفق علم محبته فوق صهيون مرة أخرى. أنه لأجيال عديدة ظلت مدينة الملك العظيم والهيكل الجميل خربة الأمر الذي أنبأ الرب به قبل حدوثه "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت ان أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فرخها تحت جناحيه ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا. لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب"(مت23: 37-39).
وان كان الرب قد أبطأ في رجوعه ليرد إليهم الملك فذلك من فيض نعمته لنا نحن الأمم فان محبته كانت منذ يوم الخمسين إلى الآن تعمل لاجتذاب المعينين للحياة الأبدية، فأنه من وسط اليهود والأمم يدعو اليوم شعبا لاسمه، بواسطة الكرازة بالإنجيل بقوة الروح القدس، وذلك لكي يجعل الاثنين واحدا _ مكونا منهما الكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل، ولا بد ان يتمم وعده إذ يأتي لاختطاف جميع المفديين "وهكذا نكون كل حين مع الرب" وهذا سيتم قبل ان يرجع الرب ويعترف بالبقية كشعبه، وان كنا ذلك الشعب مطروحا الآن جانبا وواقعا تحت التأديب بسبب خطاياهم فأنهم لن يظلوا مرفوضين إلى الأبد "لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة"(رو11: 29).
لا بد ان يأتي وقت الرضى الإلهي لشعبه القديم، "لكي يحدث في صهيون باسم الرب وبتسبيحه في أورشليم"(مز102: 21) "لأنه ها أيام تأتي يقول الرب وأرد سبي شعبي إسرائيل ويهوذا (مستقبلا) يقول الرب. وأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت آباءهم أياها فيمتلكونها" ( * ) (أر30: 3) "وأقطع لهم عهدا أبديا أني لا أرجع عنهم لأحسن إليهم وأجعل مخافتي في قلوبهم فلا يحيدون عني"(أر32: 40) حينئذ سترتفع وتخفق راية محبة الله "أعطيت خائفيك راية ترفع لأجل الحق"(مز60: 4). ان ذلك اليوم آتيا قريبا حين يكون الرب سورا من نار حول أورشليم حينئذ سوف لا ينطوي مرة أخرى علم محبته. يومئذ ترى كل شعوب الأرض محبة الرب الأبدية، إذ يصعدون إلى أورشليم ليسجدوا للملك رب الجنود ويعيدوا عيد المظال (زك14) وعندئذ يكون لسان حال البقية التقية "أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة".
( * ) هذا كله سيتم مستقبلا في ملك المسيح الألفي بعد اجتيازهم "في ضيق عظيم لم يكن قبله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون"(مت24: 21) وذلك كله بعد اختطاف المؤمنين = المسيحيين الحقيقيين
ص 2، آية 5
5-"أسندوني بأقراص الزبيب أنعشوني بالتفاح فأنني مريضة حبا".
لقد تمتعت العروس بالشركة المقدسة مع عريسها المبارك "في بيت الخمر" فامتلأ قلبها فرحا به، وامتلك ذلك الفرح كل كيانها وكان كل جسدها الضعيف لم يقو على احتمال تعزياته الإلهية "أفتح لكم كوة السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع"(ملاخي3: 10) فأدركت حاجتها إلى مساند نعمته الغنية. نعم فأنه عندما تحصرنا محبة المسيح القوية فتأسر نفوسنا وعواطفنا ويملأ الفرح كل كياننا نشعر بحاجتنا إلى الرب نفسه لكي يسندنا وينعشنا حتى نقوى على احتمال فيض الأفراح والتعزيات السماوية. لقد أحتاج دانيال الرجل المحبوب إلى قوة علوية لاحتمال الإعلانات الإلهية (دا10: 18و19) وهكذا الحال مع العروس فأنها إذا غمرها استعلان محبة العريس حتى صار جسدها ضعيفا تحت فيض مباهج محبة العريس المجيد التي غمرت بها في بيت الخمر فقد طلبت مساند تتوكأ عليها لذا تقول "اسندوني بأقراص الزبيب. أنعشوني بالتفاح".
ان في "أقراص الزبيب" صورة رمزية لعمل الروح القدس وقوته التي تسند نفس المؤمن وتعضده، وهذا واضح من كلمات الرب له المجد، فأنه قبيل ارتفاعه إلى السماء وعد تلاميذه بإرسال الروح القدس إليهم قائلا "لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم"(أع1: 8) ولا ريب في ان الروح القدس "روح القوة والمحبة والنصح" (2تي1: 7) قد أتى من السماء وهو ساكن في كل المؤمنين الحقيقيين غير ان كل مؤمن في حاجة مستديمة إلى التسنيد والتعضيد بقوة الروح، وقد عرف الرسول بولس ذلك جيدا لذا كان يصلي لأجل القديسين في أفسس لكي يتأيدوا بالقوة بالروح القدس في الإنسان الباطن (أف3: 14-16) فهل نحني ركبنا نحن أيضا طالبين باستمرار من إلهنا وأبينا ان يؤيدنا بقوة روحه التي تسندنا وتعضدنا في عيشتنا لمجد الرب سيدنا وفي شركتنا المقدسة معه؟
كما ان في قول العروس "أنعشوني بالتفاح" إشارة إلى شعور المؤمن بحاجته إلى التغذية بالرب والشبع به إذ ليس شيء سواه يمكن ان يبهج النفس وينعشها. لقد عرفت العروس ان حبيبها "كالتفاح بين شجر الوعر" واشتهت ان تجلس تحت ظله، ولكنها لم تكتفي بهذه المعرفة ولا بمجرد الجلوس تحت ظله ولكنها لم تكتفي بهذه المعرفة ولا بمجرد الجلوس تحت ظله، بل رغبت في التغذية به. ان قوة الحياة المسيحية في التلذذ بالرب والشبع به "تقووا في الرب وفي شدة قوته"(أف6: 10) "فتقو أنت يا ابني بالنعمة التي بالمسيح يسوع"(2تي2: 1). ان الرسول العظيم بولس الذي اختطف إلى السماء الثالثة وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان ان يتكلم بها احتاج إلى "قوة المسيح" فسمع منه القول الكريم "تكفيك نعمتي لان قوتي في الضعف تكمل"(2كو12) وإذ وثق بولس في الرب وفي قوته جاهر في يقين كامل "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني"(في 4: 13) ان اسم الرب برج حصين فلنركض إذا إليه ونتمنع.
* * *
"فأني مريضة حبا" أي ان محبته غلبتني وأسرتني. هل وصلنا نحن المؤمنين إلى هذا المستوى الروحي العالي؟ ان كان الرب له المجد أحبنا حتى الموت فهل هو كثير ان نحبه ونتسامى ونتفانى في الحب لشخصه الكريم؟ ما أسعدنا حقا ان كنا نسمو في محبتنا للرب وتعلقنا به إلى هذا الحد حتى نختبر بالحق قول العروس "فأني مريضة حبا" ما أقدس هذا النوع من المرض! ليتنا نختبره فتحفظ نفوسنا من الأمراض الغبية والمضرة التي تغرق الناس في العطب والهلاك "لان محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة. وأما أنت يا إنسان الله فأهرب من هذا"(1تي6: 9-11).
ص 2، آية 6
6-"شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني"
ما أعجبك يا ربنا يسوع وما أعجب محبتك لنا وعطفك وحنانك علينا "طيب هو الرب للذين يترجونه لنفس التي تطلبه"(مرا 3: 25). لقد شعرت العروس بحاجتها إليه وإلى مساندة نعمته، وإذ قالت بنفس متلهفة "اسندوني بأقراص الزبيب أنعشوني بالتفاح فأنني مريضة حبا" وجدته قريب منها _ قريبا جدا بل بالحري وجدت نفسها في حضن محبته مغمورة بعطفه فهتفت على الفور "شماله تحت رأسي" لترفعني من ضعفي وتحملني كوسادة أستريح عليها وتطمئن لها نفسي. أنها وسادة المواعيد الإلهية العظيمة الثمينة، التي ذخرتها محبته لنا في كلمته الغنية "ويمينه تعانقني" لتريني ما لي في قلبه من محبة أبدية غير متغيرة ولتعضيدي وإزالة ما بي من وهن.
عندما كان يوحنا الحبيب أسيرا منفيا في جزيرة بطمس "من أجل كلمة الله ومن أجل شهادة يسوع المسيح" ورأى الرب في جلاله الرهيب سقط عند رجليه كميت فوضع يده اليمنى عليه _ تلك هي اليد التي رآها يوحنا نفسه مثقوبة ومسمرة فوق الصليب، والتي رآها بعد ذلك المرفوعة بالبركة وقت صعوده إلى السماء، وإذ وضع يمينه عليه ملأ قلبه سلاما وبدد كل مخاوفه بان أراه أنه وان كان _ له المجد قد مات ولكنه الآن حي إلى الأبد الأبدي (رؤ1).
ولقد أختبر يوحنا هذا "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" بكيفية عملية معنى قول العروس "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" أي أنني وجدت راحتي واستقراري في حضن محبته، فقد كان في وقت العشاء الأخير متكئا في حضن يسوع وعلى صدره (يو13: 23و25) وتبارك اسم سيدنا وربنا يسوع لأنه "هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد" فان في حضن محبته الفسيح مكانا لكل واحد من خاصته، وهو يسير بنا إذ نتكئ على صدره لان هذا دليل الثقة الكاملة فيه وفي محبته الدائمة. أنه من امتياز كل مسيحي بالحق ان يختبر عمليا معنى قول العروس "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني"، فقد اختبر داود ما في من يمين الرب من بركة ومعونة ففاض قلبه مترنما "التصقت نفسي بك يمينك تعضدني"(مز63: 8) "وتجعل لي ترس خلاصك ويمينك تعضدني ولطفك يعظمني"(مز18: 35) نعم ان يد الرب قوية ويمينه المرتفعة التي تحطم العدو هي التي تحنو على النفس الملتصقة به فتحتضنها "بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها" ويمتعها بغنى البركات الإلهية "في يمينك نعم إلى الأبد"(أش40: 11، مز16: 11).
تبارك اسمك أيها الرب يسوع _ يهوه المخلص، والعريس السماوي، رأس الجسد الكنيسة، فأننا لن نجد لمحبتك حدودا أو مقاييس. أنها محبة لا نهائية "محبة المسيح الفائقة المعرفة" ولن تجد النفس هنا أو في الأبدية شيئا تتمتع و تبتهج به أكثر من هذه المحبة. ما أجمل منظرا! منظر العروس وهي تسند رأسه بين ذراعي عريسها المبارك وفي حضنه حيث الإعزاز والاستقرار الأبدي. ولا يوجد أسمى وأرفع من هذا المكان، كما أنه لا يليق ان نكون في مكان أقل أو أدنى منه. حقا ما أحوجنا إلى النمو والبلوغ إلى هذا الاختبار السامي _ اختبار اليقين بأننا بين ذراعي الرب وفي أحضان محبته في كل حين.
وان محبة الرب التي تحضن قديسيه في زمان النعمة الحاضرة لا بد ان تحضن في زمان آت، وهو قريب بقية من شعبه الأرضي، فلقد أتى له المج مرة كراعي ليجمع خراف إسرائيل الضالة. ولكنهم رفضوا "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله"(يو1: 11) إذ كان مرة في الهيكل في أورشليم "مدينة الملك العظيم" وذلك قبيل رفضها له ناجاها قائلا "كم مرة أردت ان أجمع أولادك كم تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيه ولم تريدوا"(مت23: 37) فكأنه قصد ان يضمها إليه ويحتضنها بين ذراعيه ولكن رفضته مستهينة بلطفه وإمهاله وطوال أناته فحق عليها القضاء الذي نطق به "هوذا بيتكم يترك لكم خرابا" ومنذ ذلك الحين صارت (كأمة) مرفوضة من الرب ولا علاقة لها به، وأصبحت (كامرأة مهجورة ومحزونة الروح. . . وكزوجة الصبا إذا رذلت"(أش54: 6) ولكن سيأتي الوقت عاجلا عندما يشرق بنوره فترجع بقيت منهم إليه عندئذ يتمتعون بعطفه وحنانه عليهم، وان كانت تلك البقية ستجوز في ضيق مروع ولكن عين إيمانها تراه قريبا منه فتتغنى في وسط محنتها قائلة "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" أنهم سيلجأون إلى قوة يمينه فيسرع إلى خلاصهم "لكي ينجو أحباؤك. خلص بيمينك واستجب لي"(مز60: 5) "تصيب يدك جميع أعدائك يمنيك تصيب كل مبغضيك"(مز21: 8) "ميز مراحمك يا مخلص المتكلين عليك بيمينك من المقاومين. احفظني مثل حدقة العين. بظل جناحيك استرني" (مز17: 7و8) فيجيب الرب يهوه قائلا "لا تخف لأني معك. . قد أيدتك وعضدتك بيمين بري"(أش41: 10) عندئذ تتغنى تلك البقية في وسط آلامها "ان سلكت في وسط الضيق تحيني. وتخلصني يمينك. الرب يحامي عني"(مز138: 7و8) نعم ان يمين الرب التي تحطم العدو (خر15: 6و12) هي التي ستعانق تلك البقية وتعضدها فتترنم كما نترنم نحن الآن "في يمينك نعم إلى الأبد"(مز16: 14) "فأجاب (الرب) الشعب. جميع قديسيه في يدك"(تث33: 3).
ص 2، آية 7
7-"أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول إلا تيقظن الحبيب ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء" ( * )
تتكرر هذه العبارات في هذا السفر ثلاثة مرات (2: 7، 3: 5، 8: 3) وغنى عن البيان ان المقصود نبويا "بنات أورشليم" هو البقية التقية من الأسباط العشرة التي ستتبع في نهاية البقية التقية من يهوذا في طلب الرب ملكها.
بالرغم من ان تلك البقية المختارة ستمر تحت عصى التأديب القاسية في خلال الأسبوع الأخير من أسابيع دانيال السبعين، فان إيمانها بالرب يهوه ملكها "المسيا" سيسمو إلى حد أنه وان كان سيبدو كان الرب حبيبها نائم "كما نام في أيام جسده في السفينة التي هبت عليها الريح ولطمتها الأمواج حتى صارت تمتلئ" ولكنها موقنة أنه أنما يسكت في محبته لأورشليم "في ذلك اليوم يقال لأورشليم لا تخافي يا صهيون لا ترتخ يداك. الرب إلهك في وسطك جبار يخلص. يبتهج بك فرحا يسكت (أو يستريح) في محبته. يبتهج بك بترنم"(صف3: 16و17).
ويبارك اسمه الكريم فأنه كما استيقظ من نومه في السفينة قال للبحر "أسكت. أبكم. فسكنت الريح وصار هدوء عظيما"(مر4: 36-41) لا بد ان يضع حدا لآلام تلك البقية ويظهر علانية لخلاصهم ويتمتعهم بالغبطة الدائمة في ملكه الألفي السعيد.
* * *
ما أسعد العروس بهذه العلاقة المقدسة التي صارت لها مع عريسها المجيد، فهوذا الروح القدس قد رسم أمامنا عروس الملك في ملء الغبطة التي لا تستطيع ان تهبها سوى محبته غير المتغيرة، فعلم محبته يخفق فوق هامتها، والأذرع الأبدية من تحت، وها هي تجد راحتها في حضنه، وسعادتها في شخصه إذ هو "عطية الله التي لا يعبر عنها" لذا تتغنى بظله، وثمرته، وبيت وليمته "بيت الخمر"، وعلمه، وشماله ويمينه، فالكل إذا في المسيح، المسيح الكل، ولا شيء سوى المسيح، لذا تبدي العروس رغبتها في ان لا تزعجه شيء ما، أو بالحري في ان "يسكت (أو يستريح) في محبته" ومتى وجدت النفس في هذا الجو الرائق والهادئ جو الاستمتاع الكامل بمحبة الرب يسوع فلا تكون هناك حاجة ملحة لان يتحدث العريس كثيرا. عندما يخاطب الروح القدس الآباء (1يو2) لا يحدثهم بأقوال مطولة بل بكلمات قليلة جدا، بينما الأحداث والأولاد (الأطفال روحيا) يحتاجون إلى كلمات وعظ وتحريض كثيرة، أما الآباء (أي البالغون روحيا) فكل ما يقال لهم "قد عرفتم الذي من البدء". ومتى تثبتنا من حقيقة اتحادنا بالرب يسوع، وأيضا بأننا قد أجلسنا في السماويات في المسيح يسوع ندرك بكيفية عملية بأننا انفصلنا عن جو هذا العالم الصاخب وصرنا في دائرة روحية علوية هادئة حيث هناك "يسكت الحبيب في محبته" ونحن نحرص على عدم إزعاجه بأي شيء يقطع عليه هدوءه وراحته ويكون لسان حالنا "لا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء".
* * *
على أننا إذا اعتبرنا ان المتكلم بكلمات هذا العدد هو العريس وان رغبته هي في ان تبقى العروس مستمتعة بالغبطة الروحية والشركة الهادئة بين ذراعي محبته بحيث لا يزعجها أو يقطع عليها هناءها شيء ما، فان ذلك يقودنا ولا ريب إلى السجود والتعبد القلبي له، فأنه عندما تكون النفس مشغولة به ومحصورة في محبته، فهو تبارك اسمه يحرص دائما على بقائها في هذه الحالة فلا يزعجها أي شيء يقطع عليها تمتعها به. ان ربنا يسوع هو رئيس الكهنة العظيم الظاهر أمام وجه الله لأجلنا والذي يمد النفس بالمعونة ويقودنا إلى حيث الجو الهادئ "إلى موضع خلاء" ويصد عنها كل ما يعكر عليها صفوها وسلامها.
ما أعظم التوافق بين هذا السفر الصغير وبين إنجيل ربنا يسوع المسيح، فان كنا نرى العريس هنا حريصا على بقاء عروسه في حالة الهدوء والاستقرار فلا يسمح لوقع أقدام الآخرين ان توقظها أو تنبهها أو بالحري تزعج راحة حبيبته الباطنية الهادئة، فأننا نرى ذلك عينه بصورة عملية في أيام ربنا يسوع في هذا العالم، ففي البيت العزيز لقلبه _ بيت عنيا، عندما كانت مريم جالسة عند قدميه تستمع لكلمات النعمة الخارجة من فمه فلم يسمح لمرثا أختها ان تقطع عليها الغبطة أو تعكر عليها صفوها وهي تتمتع بالنصيب الصالح الذي اختارته لنفسها(لو10: 41و42) وكذلك عندما سكبت مريم هذه، الطيب الكثير الثمن على رأس الرب وعلى قدميه ومسحتهما بشعر رأسها أو بالحري سكبت نفسها وعواطفها محبة وتعبدا له، لم يسمح ليهوذا ولا لغيره بان يقطعوا عليها تلك الغبطة التي كانت مستمتعة بها فقال "اتركوها. . لماذا تزعجون المرأة فأنها قد عملت بي عملا حسنا"(مت26: 6-13، يو12: 1-7).
* * *
ثم ان في الإشارة إلى "الظباء وأيائل الحقول" معاني روحية سامية، فالعروس تحلف بنات أورشليم بالظباء والأيائل أي بكل ما هو عزيز وغال عندهن مثل "الظبية المحبوبة والوعلة الزهية"(أم5: 19) فكأنها تقول لهن "ان عريسي وحبيبي أعز وأغلى لدي من كل ما هو عزيز وغال لديكن، والواقع أنه لو عرف البعيدون عن الله قدر المسيح وغناه الذي لا يستقصى لنظروا إلى الأشياء الباطلة التي يحبونها نظرة صحيحة، وأدركوا ان كل شيء عداه هو "نفاية" ومن ثم أتوا بقلوبهم إليه مؤمنين به وواثقين في كفاية عمله فوق الصليب فيجدون فيه راحة الضمير المتعب وسلام القلب والسعادة الحقيقية "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لاشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا"(يو4: 10).
وإذا اعتبرنا ان المتكلم هنا هو العريس كما سلفت الإشارة، فكأنه له المجد يريد ان يلفت العروس إلى هذه الحقيقة العملية، فالظباء والأيائل هي أكثر جميع الحيوانات حساسية وأكثرها خوفا وانـزعاجا من أقل حركة تشعر بها، وهي تتميز بقدرة على السمع قوية بحيث ان همسة صوت خفيفة من بعيد تزعجها وتقطع عليها سكينتها فتبادر إلى الهرب وتركض مسرعة إلى حيث الأمن والسلامة. هكذا جدير بنا وجميل ان يكون لنا الإحساس الروحي الدقيق فنتنبه إلى أية همسة تقتحم علينا سيرنا وشركتنا مع الرب، أو تحولنا عن سبل القداسة العملية والتكريس الكامل لسيدنا وربنا يسوع المسيح "اصحوا واسهروا"(1بط5: 8).
* * *
( * ) جاءت هذه الآية في بعض الترجمات هكذا "أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول إلا تيقظن ولا تنبهن الحبيبة حتى تشاء" استنادا على ان كلمة الحبيب جاءت في لغة السفر الأصلية (أي العبرية) بصيغة المؤنث.
ص 2، آية 8
8-"صوت حبيبي. هوذا آت طافرا على الجبال قافزا على التلال"
ان ما يميز خراف المسيح عمن ليسوا من خرافه هو أنها "تعرف صوته"(يو10: 4) "خرافي تسمع صوتي وأنا اعرفها فتتبعني"(يو10: 27) "وأما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء"(يو10: 5) ومع ان العريس لم يكن قد أتى بعد ليأخذ عروسه إليه، ولكن العروس في شركتها المقدسة معه إذ تسمع صوته يمتلئ قلبها "فرحا من أجل صوت العريس" فتهتف على الفور "صوت حبيبي". حقا ما أغبط النفس التي تجلس عند قدمي العريس المبارك "لتسمع كلامه".
عندما أظهر الرب المقام ذاته لمريم المجدلية التي كانت واقفة عند القبر تبكي وقال لها "يا مريم" عرفته وعرفت صوته وقالت له "ربوني"، وكذلك عندما أظهر ذاته لبعض تلاميذه عند بحر طبرية، وتحث إليهم، قال يوحنا _ "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" والذي كانت له شركة خاصة معه "هو الرب"(يو20و21) ما أحوجنا حقا إلى شركة أعمق معه حتى تكون لنا "الحواس مدربة" على الإصغاء إلى صوت الحبيب، فأنه بقدر ما تزداد شركة خاصته معه ومحبتها له بحيث تستطيع ان تقول بحق "حبيبي" بقدر ما تجد سرورها وغبطتها في سماع صوته الحلو.
* * *
"هوذا آت" ومع ان العريس لم يأت بعد كما سلفت الإشارة إلا ان قلب العروس قد امتلأ شوقا إليه، وحنينا إلى لقائه، ويقينا بان مجيئه أصبح قريبا جدا. هذا الحنين وهذا اليقين هما بعمل الروح القدس الساكن فينا "الروح القدس يقولان تعال" وهو له المجد يجيب على حنين القلوب المشتاقة إليه "أنا أصل وذرية داود. كوكب الصبح المنير. . . أنا آتي سريعا"(رؤ22: 16-20) "لأنه بعد قليل جدا سيأتي الآتي ولا يبطيء"(عب10: 37) ولا يمكن ان يتباطأ الرب عن وعده، وان كان قد مضى ما يقرب من ألفي سنة من وقت ان وعد الرب "أنا آتي سريعا" ولكن لا يفوتنا ان يوما واحدا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد" فكان مدة غيابه في السماء هي عنده كيومين فقط، ومتى نظرنا إلى المدة بين ارتفاعه إلى السماء ورجوعه ثانية في نور الأبدية تبدو أمامنا تلك المدة فترة قصيرة حقا.
على أنه لم يمر على الكنيسة في كل أجيالها الماضية وقت فيه سمع صوت الحبيب الآتي لأخذ قديسيه إليه مثل الوقت الذي نعيش فيه، ومع ان الرب لم يعط كنيسته أية علامة تتم قبيل مجيئه لأخذها إليه، وذلك لكي خاصته في كل الأزمان في حالة الصحو والسهر والانتظار المستمر لمجيئه من السماء، غير أنه له المجد أعطى علامات عديدة تسبق ظهوره مع قديسيه لإقامة ملكه المجيد وذلك لتعزية وتشجيع البقية في آلامها، وغني عن البيان ان مجيئه ككوكب الصبح المنير لاختطاف الكنيسة يسبق ظهوره كشمس البر لإقامة الملكوت بمدة سبع سنسن على الأقل (الأسبوع الأخير من أسابيع دانيال. دا9: 27). فإذا أمعنا النظر في أقوال الرب النبوية الصريحة (مت24: 3-44) الخاصة بمجيئه وانقضاء الدهر، والحوادث التي ستتم على الأرض قبل مجيئه وظهوره لإقامة ملكوته، ولا سيما الخاصة برجوع شعبه الأرضي المعبر عنه "بشجرة التين" _ الأمور التي نرى بعيوننا ونسمع بآذاننا بوادر إتمامها، يتبين لنا بوضوح ان "اليوم يقرب"(عب10: 25) وإذا كان ذلك "اليوم" أعني يوم ظهوره أصبح قريبا فكم بالأحرى يكون وقت مجيئه لاختطاف الكنيسة أكثر قربا.
وإذا أمعنا النظر أيضا في أقوال الرسول بولس النبوية عن حالة المسيحيين بالاسم في الأيام الأخيرة والأزمنة الصعبة "لهم صورة التقوى" فقط (2تي3: 1-5) وفي خطاب الرب إلى ملاك كنيسة اللاودكيين _ هذا الخطاب الذي يصور حالة المسيحية في آخر أدوارها يتبين لنا بكل جلاء أننا في اللحظات الأخيرة، والمؤمن الذي له أذن للسمع يستطيع ان يسمع صوت الحبيب من خلال الحوادث الجارية في العالم ويتحقق ان مجيئه قريب جدا "صوت حبيبي. هوذا آت".
* * *
وهناك فرق كبير بين شخص يعتقد بالتعليم الخاص بمجيء الرب، وبين مسيحي يعيش في أقداس الشركة معه والعلاقة الوثيقة به _ علاقة المحبة لعريس المبارك والشوق والحنين إلى رجوعه ورؤيته محياه المنير "كما هو"، ويحي في انتظار مستمر، ففي المساء يتوقع مجيء الرب قبل ان يشرق نور نهار جديد، وإذ آتى الصباح يتوقع مجيئه قبل ان تغرب شمس النهار. نعم ان هناك فرقا كبيرا وبونا شاسعا بين التأثير الذي ينشئه مجرد الاعتقاد لمجيء الرب في القلب، وبين ان يكون الرب الحبيب والعريس المبارك هو غرض القلب والوحيد فيكون لهج المؤمن مستمر ولغة قلبه قبل فمه "أمين. تعال أيها الرب يسوع".
* * *
وهذه بلا ريب ستكون لغة البقية التقية _ عروس المسيا الأرضية عندما ترجع إلى الرب، فان قلبها يمتلئ بالمحبة له والتعلق به فتغني قائلة "صوت حبيبي. هوذا آت" يا لها من نعمة غنية، فان ذلك المكان شهد يوما مع احتقاره ورفضه من ابنة صهيون _ المكان الذي من أجله ذرف دموعه، هذا المكان نفسه سوف تتجلى فيه محبة ابنة صهيون لعريسها ومحبته هو له عندما ستعلن مجد ملكه الألفي. ان سفر المزامير يصور أمامنا في مناسبات عديدة أشواق تلك البقية في أخر الأيام وحنينها إلى ظهور مسياها كمليكهم ومنقذهم. ان ذاك الذي تتغنى العروس بمجيئه "هوذا آت" هو بعينه المكتوب عنه "هوذا يأتي"(رؤ1: 7).
"طافرا على الجبال قافزا على التلال" ان مجيء العريس _ سواء لاختطاف الكنيسة _ عروسه السماوية، أو لإنقاذ عروسه الأرضية _ البقية المختارة وخلاصها من ضيقها والإتيان بها إلى الغبطة والبركة في ملكه الألفي المجيد، سيتميز بثلاثة أشياء: الفرح والسرعة والنصرة. نعم فأنه عندما تجيء تلك اللحظة التي فيها يقوم من على عرش أبيه لكي يلتقي بعروسه لتكون معه سيرى في ملء الفرح والابتهاج إذ ستراه العروس طافرا مثل الظبي المسرور بلقاء حبيبته (ع9) "لان الرب نفسه بهتاف (الفرح) بصوت رئيس ملائكته وبوق الله سوف ينـزل من السماء. . وهكذا نكون كل حين مع الرب"(1تس4: 16-18) وسيكون مجيئه مقترنا بالسرعة "طافرا (أي واثبا بسرعة) وقافزا" وهذا حق سواء من جهة مجيئه لأجل قديسيه، الأمر الذي يؤكده الرب نفسه مرارا عديدة "ها أنا آتي سريعا"(رؤ22: 7و12و20) أو مجيئه وظهوره مع قديسيه "لا يتباطئ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ"(2بط3: 9).
إذ قلبه المشتاق لا يحتمل التأخير
يدعو إذا عروسه لمجده المنير
كذلك سيكون مجيئه مقترنا بالنصرة والقوة، فهو سيعلو فوق كل الصعوبات التي تعترض طريقه إلى تسليم زمام الملك وبسط سلطانه على المسكونة بأسرها. أنه سيأتي "طافرا على الجبال وقافزا على التلال" إذا ماذا تحسب كل هذه أمام قوته، فهو _ له المجد سيرى "آتي على سحاب السماء بقوة ومجد كثير"(مت24: 30 ومر13: 26) عندئذ يتم القول "تقلد سيفك علة فخذك أيها الجبار جلالك وبهائك . وبجلاك أقتحم. اركب.. فتريك يمينك مخاوف. نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك. شعوب تحتك يسقطون"(مز45: 3-5) فمهما تجمعت قوات الشر لتعترض إتمام جهة سيادة المسيح فهو له المجد سينتصر على الوحش والنبي الكذاب ويطرحوهما حيين في بحيرة النار (رؤ19: 20) وسينتصر على الشيطان _ الحية القديمة ويقيدها ويطرحها في الهاوية مدة ألف سنة بأكملها (رؤ20: 1-3) "كما أنه سينـزع من ملكوته جميع المعثرة وفاعلي الأثم حيث يطرحون في أتون النار"(رؤ19: 20، مت13: 41و42، 25: 41و46). أنه سيأتي "طافرا على الجبال قافزا على التلال".
ص 2، آية 9
9-"حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر ( 1) الأيائل _ هوذا واقف وراء حائطنا يتطلع من الكوى ويوصوص ( 2) من الشبابيك".
ترى العروس بعين إيمانها ورجائها ان عريسها وحبيبها أتيا سريعا ببهجة وفرح عظيمين. تراه قادم إليها طافرا كالظبي وقافزا مثل الغزال الصغير الممتلئ نشاطا وحيوية وسرورا. نعم سيجعل الرب مجيئه سواء لأخذ عروسه _ الكنيسة التي أحبها وأسلم نفسه لأجلها، أو لأجل لإنقاذ شعبه الأرضي من ضيقهم، أو ليعتق الخليقة التي تئن من عبودية الفساد، أو لتأسيس ملكوته المجيد. أنه سيأتي عاجلا كالظبي وكالغفر الأيائل وستراه عيوننا. سنراه "كما هو". ليتنا نكون في انتظار دائم لذلك الوقت السعيد الذي فيه نلتقي بعريسنا الحبيب حيث نكون معه كل حين.
هذا وان غياب الرب بالجسد عن عروسه لا يتعارض مع هذه الحقيقة المبهجة وهي ان الرب ساهر على سلامة خاصته، وأنه سائر معه وبرفقتها "ها أنا معكم كل الأيام إلى أنقضاء الدهر" _ إلى ان "يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيه ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب"(مت28: 20، أف5: 27).
* * *
"هوذا واقف وراء حائطنا يتطلع من الكوى ويوصوص من الشبابيك"
ان ذلك الحائط هو "حائطنا" نحن وليس حائطه هو، فما يبدو في حياتنا من فتور وتغافل أو انحراف وفقر روحي وهو بمثابة الحائط الذي يضعف تمتعنا بطلعته البهية الطاهرة، ولكنه تبارك اسمه "هوذا (هو) واقف وراء حائطنا"، وعين الإيمان البسيطة والقلب المليء بالمحبة له يستطيعان ان يريا من "لا يرى". هل لنا الآذان المختونة لنسمع صوته "صوت حبيبي" العيون المفتوحة لنراه واقفا قريبا منا وناظرا إلينا. "هو واقف وراء حائطنا يتطلع"؟ لينا نصغي إلى صوته الذي ينادينا هأنذا واقف على الباب وأقرع ان سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي"(رؤ3: 20).
* * *
وقد تكون هذه العبارات أيضا واصفا لحالة المؤمنين في العهد القديم _ عهد الناموس والظلال، فأنه لم يكن لهم امتياز النظر إلى مجد الرب بوجه مكشوف. كانوا يرونه من خلال كوى الرموز والتقوس والفرائض، ولقد كان الحجاب بمثابة الحائط الذي من ورائه ينظر الرب إلى قديسيه في ذلك العهد، ومع أنهم كانوا بلا شك مؤمنين حقيقيين إلا أنه لم يكن لهم نور الإنجيل ولا معرفة الخلاص الكامل الذي بالمسيح يسوع _ ذلك الخلاص الذي فتش وبحث عنه الأنبياء في العهد القديم الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلنا. . الذين إعلان لهم أنهم ليسوا لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أخبارا بها نحن الآن بواسطة الذين بشرونا بالروح القدس المرسلة من السماء. (الأمور) التي تشتهي الملائكة ان تطلع عليها (1بط1: 10-12).
وقد أوضح الرب الفرق الكبير بين ما رآه وسمعه قديسو العهد القديم وما رأته وسمعته خاصته إذ "ألتفت إلى التلاميذ على أفراد وقال طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه. لأني أقول لكم ان أنبياء كثيرين وملوكا أرادوا ان ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا وان يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا"(لو10: 23و24).
* * *
هذا ويرى البعض ان "حائطنا" هنا إشارة إلى حالتنا الحاضرة، أعني وجودنا في هذه الأجساد الضعيفة بالمقابل مع ما سنكون عليه عند مجيء الرب إلينا وتغير أجسادنا لنكون على صورة جسد مجده، "فأننا ننظر الآن في مرآة في لغز" أننا نراه الآن في الإيمان فقط كما من كوى وشبابيك ولكن بعد قليل "نراه كما هو" سنراه "حينئذ وجها لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة ولكن حينئذ سأعرف كما عرفت"(1كو13: 12) على أنه من امتيازنا أننا وان كنا لا نراه الآن في(الجسد) ولكننا نحبه ذلك وان كنا لا نراه الآن لكن نؤمن به فنبتهج بفرح لا ينطق به ومجيد (1بط1: 8).
* * *
كذلك تعتبر الأسفار المقدسة بمثابة الكوى والشبابيك، فما تضمنه من مواعيد ورموز وذبائح وتقدمات ونبؤات هي قوة إلهية العديدة التي منها يمكننا رؤية الحبيب، والتي بواسطتها يعلن هو ذاته لكل قلب متيقظ وعين مكتحلة، وأنه من خلال تلك الكوى أمكن ان ترى عين الإيمان أتقيائه ثياب المجد والجلال والمسربل بها كرئيس الكهنة العظيم، والصدرة المرصعة بالجواهر الكريمة التي يحملها على صدره، والعمامة الطاهرة أو بالحري تاج رئيس الكهنة الموضوع على جبينه الطاهر.
من خلال تلك الكوى أمكن ان نرى عين إيمان قديسيه _ في أزمان مختلفة _ كحمل الله المرفوع على صليب الجلجثة، أو كملك ممسوح في أمجاد ملكه العتيد.
* * *
وكم سيكون إيمان البقية عظيما حتى أنه في وسط آلامهم يرونه قريبا منهم "وراء حائطهم" ينظر إليهم وغلى مذلتهم بعين العطف والحنان، الأمر الذي سيكون فيه عزاؤهم وفرحهم في وسط تجربتهم الشديدة، لا يرون حبيبهم فقط بل يسمعون صوته كالآتي لإنقاذهم وليمتعهم بكمال البركة في مجد ملكه عليهم.
* * *
( 1) غفر الأيائل _ أي الغزلان الصغيرة
( 2) يوصوص من الشبابيك أي يظهر ذاته من خلف الستائر أو الشبابيك
ص 2، آية 10
10-"أجاب حبيبي وقال لي قومي يا حبيبتي ويا جميلتي وتعالي".
"أجاب حبيبي" يبدوا ان الحبيب أجاب عن طلبة سرية قد قدمتها الحبيبة إليه، وان كانت هذه الطلبة لم تدون هنا إلا أنها حركة عواطفه المقدسة، لأنه تبارك اسمه لكل الذين يدعونه _ الذين يدعونه بالحق "أحببت لان الرب يسمع صوتي تضرعاتي"(مز116: 1) وقد أكد الرب له المجد بان "كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له" ليتنا ندرب أنفسنا على الإكثار من الصلوات والتضرعات إلى إلهنا "سامع الصلاة" "مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لها بعين بكل مواظبة وطلبة"(أف6: 18).
* * *
ثم ان العروس تردد نفس كلمات العريس التي تكلم بها إليها كلمة فكلمة "أجاب حبيبي وقال لي" ما أغنى النفس التي تحفظ أقواله وتلهج فيها "نهارا وليلا" وتتحفظ للعمل بها أنها تكون "كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل"(مز1). أنها (أي كلمة الله) "صادقة تصير الجاهل حكيما. . . أنها تفرح القلب وتنير العينين هي أشهى من الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهاد. . . وفي حفظها ثواب عظيم"(مز19).
هل يستطيع كل منا ان يقول بالحق "كم أحببت شريعتك. اليوم كله هي لهجي"(مز119: 97) ان كلام المسيح هو "روح وحياة" فما أسعدنا ان كنا نخبئ كلمه في قلوبنا ككنـز ثمين "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى"(كو3: 16).
* * *
"قومي يا حبيبتي. . . وتعالي" ترى العروس في القسم الأول من هذا السفر مكان الحب والإعزاز، فهي ترى في حجال الملك وفي بيت الخمر وبين ذراعيه _ أعني في أقرب مكان إلى قلبه حيث له ان تتمتع بمحبة العريس في كل كمالاته بحسب أفكاره وقصده الإلهي، إلا أننا نرى هنا وفي أجزاء كثيرة من هذا السفر ان محبي المسيح لا يتمتعون دائما بملء هذه المحبة بقدر الذي يريده لهم، لهذا يتحدث إليه كثيرا ويريهم المكان الذي لهم في قلبه بحسب أفكاره الطيبة وذلك لكي يصل بهم إلى أسمى حالة من التمتع بمحبته فيقول "قومي يا حبيبتي. . وتعالي" وبذا يحثها بان تضع قلبها وعواطفها على ما فوق حيث هو، وان تثبت بصره لا في الأمور الوقتية التي ترى بل إلى الأمور الأبدية التي لا ترى، وأنها بعمل الروح القدس الساكن فيها تتحقق من ان سيرتها هي في السمويات، وأنها أقيمت مع المسيح المقام والممجد، وأنه أجلست في السمويات فيه، وأنها ليست من العالم ولكنها أرسلت من الرب سيدها وعريسها في إرسالية إلهية، وان بيتها ووطنها هما فوق "قومي. . . وتعالي" فليس هو وقت التراخي والنوم بل الوقت لطلب الرب، لذلك يقول "أستيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح"(أف5: 14).
"يا حبيبتي يا جميلتي" ما أحلك يا ربنا يسوع وما أحلى محبتك لعروسك التي دفعت فيها ثمنا غاليا _ دمك الكريم. لقد انسكبت النعمة على شفتيك وها أنت تخاطب عروسك قائلا "يا حبيبتي يا جميلتي" أليس عجيبا ان يرى الرب عروسه جميلة؟ أنه تبارك اسمه يرى كل مؤمن حقيقي جميلا حقا في عينيه، ومع أنه صار "فيه" وقد اكتسى ببر إلهي (بر الله). لقد أصبح "مقبولا في المحبوب"، والإيمان وحده هو الذي أعطاه كل هذا الجمال، فقد "اعتمد للمسيح". هذا هو جمال المؤمن فهو جميل وحلو في عين المسيح، الأمر الذي ينبر عليه هذا السفر كثيرا. ولا ريب في ان جمال كهذا ليس فيه إي عيب أو نقص لان المسيح نفسه هو الذي به قد اكتسى المؤمن وتسربل "لبستم المسيح". أنه له المجد هو "الحلة الأولى" التي لبسها المؤمن في بيت الآب (لو15) هذا هو تعليم الإنجيل الذي يتغنى به العريس هنا. حقا ما أجمل التوافق والانسجام بين الأناجيل وسفر النشيد.
ص 2، آية 11
11-"لان الشتاء قد مضى والمطر مر وزال"
ان الرب يدعو _ حبيبتي وجميلته بان تأتي إليه "قومي. . . تعالي" فأنه لا يريد ان تظل في برودة الشتاء بينما قد أعدت محبته لها كل نفائس وثمار الربيع النضرة في صحبته وعشرته، وهذا يقودنا إلى التساؤل "أين نحن وما هي حالة نفوسنا؟" ان الرب سيدنا _ رأسنا وعريسنا المبارك يريد لنا الخير والهناء "عندي الغنى والكرامة". أنه يدعونا لان نطرح جانبا كل فتور والتراخي، وان نرتع بما أعده لنا في غنى وجوده ومحبته _ "بغنى المسيح الذي لا يستقصى" وذلك ميسور ومضمون لنا طالما نوجد في شركة مستمرة معه، لان أمامه شبع سرور. في يمينه نعم إلى الأبد.
* * *
"المطر مر وزال" المطر المملوء برودة والمصحوب بالعواطف والأنواء وحيث يتساقط الثلج والبرد، ولم يبق له أثر، فليس هناك رعب أو خوف من الدينونة وليس هناك دموع أو فزع للنفس التي تستقر في صحبة العريس إذ حضرته "يهرب الحزن والتنهد".
* * *
حتى وان كان الرب يسمح في حكمته وصلاحه ان يحيز خاصته في آلام متنوعة في هذه الحياة "ان كان يجب تحزنون يسيرا بتجارب متنوعة"(1بط1: 6) وكأنه يوجدهم في أيام شتاء مظلمة، وذلك لخيرهم ولتزكية إيمانهم وتنقية حياتهم الروحية، ولكنه لن يتخلى عنهم، فأنه في الوقت المعين بحسب حكمته الفائقة يخرجهم من الضيق إلى رحب لا حصر فيه. أنه يحول شتاء آلامهم إلى ربيع ملئ بالثمار الشهية هنا في هذه الحياة "معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده"(مز91: 15) وفي المجد أيضا إذ تؤول "للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح"(1بط1: 7).
"لان الشتاء قد مضى" شتاء البقية التقية الطويل الذي طالما ظن الكثيرون من المسيحيين أنه لن ينتهي، وان آلامه ستدوم، وأنه سيبقى طريدا في ظلام الشتاء البارد إلى المنتهى، ولكن أفكارا كهذه تتعارض مع مواعيد الله للآباء، فأنه وان كان الشعب الأرضي في حالة الموت الروحي المعبر عنه بالشتاء البارد الذي يغشاه الموت إذ لا ثمر فيه، ولكن لا بد ان تسمع البقية دعوة العريس "قومي. . . تعالي لان الشتاء قد مضى والمطر مر وزال" "قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك"(أش59: 20و60: 1-3) "لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة"(رو11: 29).
ص 2، آية 12
12-"الزهور ظهرت في الأرض بلغ أوان القضب ( * ) وصوت اليمامة سمع في أرضينا".
ياله من تغير عجيب تجريه النعمة الغنية سواء بالنسبة للمؤمنين في زمان النعمة الحاضرة أو في يوم قادم، فهوذا الشتاء ببرده القارس والمميت حيث تصير الزهور طوال الشتاء مائتة، قد مضى، والمطر المسحوب بالأنواء والعواصف والرعود قد مر وزال، وهوذا الزهور زهرت في الأرض بروائحها العطرية وحللها البهية التي تفوق ثياب سليمان بكل مجده. تبارك اسم إلهنا فأنه عين لكل شيء وقت، فالآلام وقت، وللفرح والبهجة وقت، لليل المظلم وقت ولنهار المنير وقت، "لك النهار ولك أيضا الليل. . الصيف والشتاء أنت خلقتهما"(مز74: 1و17). نعم لقد عين لكل أمر وقتا لن يتعده "للبكاء وقت الضحك وقت ولنوح وقت وللرقص وقت"(جا3: 4) فإذا ما اجتاز الرب نفسه الصديق في شتاء لليل مظلم فأنه لابد ان يأتي به إلى ربيع مشرق ونضير "لان للحظة غضبه. عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح ترنم"(مز30: 5). أنه له المجد يحول نوح الصديق إلى رقص، ويملأ نفسه فرحا ولسانه تسبيحا، وعوض الأنين أغاني روحية _ أغاني التعظيم والمحبة للمسيح.
* * *
نعم أنه لتغير عجيب ومبارك تجريه محبة الرب ونعمته، فهو _ له المجد يدعو عروسه لان تقوم وتأتي إليه تاركة وراءها برودة وخمول الشتاء حيث تتمتع في رفقته وبربيع غني بالزهور وبالمراعي الدسمة. أنه بالروح القدس يجعل الحياة الضعيف والهزيلة قوية ونشيطة وممتلئة أثمار صالحة "لان ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق"(أف5: 9) "واما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طوال أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف"(غلا5: 22) فأصغي يا عروس الرب إلى صوت حبيبك الذي يدعوك "قومي. . تعالي لان الشتاء قد مضى والمطر مر وزال. الزهور ظهرت في الأرض".
* * *
"بلغ في أوان القضب وصوت اليمامة سمع في أرضنا" إذا كان المقصود بالقضب هو قطع أغصان الكرمة الجافة في بدء فصل الربيع، ففي ذلك تحذير خطير لغير المؤمنين فقد شبه الرب ذاته بالكرمة الحقيقية، والمؤمنين هم الأغصان الحية التي تأتي بثمر، أما المسيحيون بالاسم فهم الأغصان الميتة غير المثمرة، وان الآب الذي هو الكرام يميز بين هذه وتلك، فالأغصان الميتة التي لا تأتي بثمر يطرحها خارجا فتجف وتطرح في النار فتحترق(يو15) وفي هذا إنذار خطير وصريح لكل المسيحيين بالاسم الذين لا حياة ولا ثمر فيهم حتى يبادروا بالإتيان إلى المخلص الكريم بالإيمان القلبي به وبكيفية عمله فوق الصليب وبالاتحاد به ينالون حياة جديدة مثمرة لمجد الله. ليت كل شخص بعيد عن المخلص يقرأ هذه الكلمات يسرع إلى المخلص الوحيد لنجاة والحياة قبل فوات الفرصة.
كما ان في هذا التعبير درسا نافعا للمؤمن الحقيقي. فلآب السماوي _ الكرام ينقي كل غصن حي ومثمر لكي يأتي بثمر أكثر. أنه _ له المجد _ يعمل بوسائله الإلهية المتنوعة _ التعليم والإنذار والتوبيخ، والتأديب المؤلم إذا لزم الأمر وذلك لتنقية حياتنا من كل ما يعطل نمونا الروحي ويعيق الإكثار من الثمر، وإذ ينقي ويطهر حياتنا من كل معطل لنموها تمتلئ قلوبنا شبعا وفرحا وتسبيحا، فلو لم يكن قد بلغ أوان القضب _ أعني قطع الأغصان الجافة حيث كانت العصافير تعشش فيها لم سمع صوت اليمامة وغنائها، فقد يسمح الرب ان يهز ويهدم كل عش تنام فيه قلوبنا ويذبل كل ركن تستند عليه نفوسنا لكي نصبح في جو الأقداس السماوية _ جو الشركة النقي حيث نسبحه ونرنم له أغاني الحمد وأناشيد الفرح.
* * *
أما إذا كان المقصود بعبارات "بلغ أوان القضب" هو أنه قد "بلغ أوان الغناء أو تغريد العصافير" كما سلفت الإشارة، فان في هذا معنى ساميا أيضا، فالعصافير الصغيرة تبقى طول الشتاء في أوكارها وقلما تعيش، ولكن كانت الحياة بأغانيها الشجية تعود إليه عندما يعود الربيع، ولا ريب فان النفس التي تلبي دعوة الرب الحبيب "قومي وتعالي. . الزهور ظهرت في الأرض" وتأتي إليه بكل قلبها فأنها لم تخلص فقط من برودة الحياة الروحية وجفافها بل تتمتع أيضا بمباهج الربيع البهية _ ربيع الفرح والنشاط الروحي، وتنتعش بعبيق رائحة الزهور العطرية _ رائحة المسيح الذكية، وبرؤية أشعة الشمس المشرقة _ شمس المحبة الإلهية "لان الرب الله شمس. . . الرب يعطي رحمة ومجدا"(مز84: 11) تلك الأشعة التي تنعكس على الندى المتساقط على أوراق الزهور كالآلئ الكريمة، فتستطيع النفس ان تستخلص من تلك الزهور التي أنبتتها نعمة الرب الغنية طيبا خالصا وغاليا تسكبه على قدمي المخلص المعبود اعترافا بمحبته وسجودا يشبع قلبه وينعش عواطف رجل الأحزان المرفوض، وعندئذ تكون مجازاته لتلك النفس "عملا حسنا قد عملت بي".
أنه ليس مما يتفق مع مشيئة الرب وقصده من نحونا نحن المؤمنين. كأفراد أو كجماعات ان نبقى في حالة الخمول أو الجمود الروحي في جو العالم الخانق بل ان إرادته الصالحة هي ان نحلق كالعصافير في جو السماويات المقدسة، وان تتصاعد منا في كل حين بل انقطاع أغاني وتغاريد والحمد وترنيمات الفرح "صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين"(مز118: 15) فهيا أنهضي يا عروس الرب. أفرحي وترنمي لان عريسك أتيا إليك سريعا.
قومي عروس الرب لا تعيي من السهد
لك عريس في العلى وهو رجاء المجد
* * *
"وصوت اليمامة سمع في أرضنا" ان اليمامة تعلمنا درسا عمليا، فقد قيل عنها بأنها حفظت الوقت المعين بمجيئه إلى مكانها، فكان الرب يعطي بواسطتها درسا مخجلا لشعبه "اليمامة والسنون المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما. أما شعبي فلم يعرف قضاء الرب"(أر8: 7) نعم ان تغاريد العصافير وصوت اليمامة تخجلا نحن خاصة الرب _ نحن الذين "أفضل من عصافير كثيرة" هو "يقوتنا أحسن منها" ليتنا نتمثل بالعصافير وباليمامة فنحيا مسبحين وشاكرين لان هذه هي مشيئة الله من جهتنا.
* * *
ولا يفوتنا ان نشير إلى هذه الحقيقة النبوية، وهي ان البقية سيكون لها مكان معد من الله لإعالتها وحمايتها خلال شتاء مرير لم يشهد العالم نظيره وأنه لأجلها سيقصر الله أيام ذلك الضيق، وليس ذلك فقط بل ان الرب سيقترب إليهم بمحبته الإلهية وسيأتي بهم إلى التمتع بالفرح فيه وبه _ ذلك الفرح المؤسس على قيامته، فأنه "العهد الأبدي" و "مراحم داود الصادقة" ستتحقق لهم بواسطة المسيا المقام من بين الأموات (قارن أش55: 3، أع13: 34). ان الملك الألفي السعيد سيتحقق بواسطة المسيح المقام والممجد.
ان يوم الفرح لا بد ان يبدأ عما قريب لتلك البقية المختارة التي طالما قاومها الأعداء وضايقوها "قد اقترب ملكوت السموات" والرب نفسه سيظهر سريعا ولا بد ان يعقب شتاء غياب الرب بظلامه وجفافه مباهج الربيع الزاهرة "في المستقبل يتأصل يعقوب. يزهر ويفرع إسرائيل ويملون وجه المسكونة ثمارا"(أش27: 6) فان أشعة شمس البر والمنيرة سوف تطرد ظلمة شتاء شتاتهم الطويل المجدب. عندئذ تغني العصافير وتغرد، وصوت اليمامة يسمع في "أرضنا" _ أرض الوعد والبركة.
* * *
( * ) جاءت عبارة "بلغ أوان القضب" في ترجمات عديدة بمعنى "بلغ أوان الغناء أو تغريد العصافير" The time of the singing (of birds) is come.
ص 2، آية 13
13-"التينة أخرجت فجها (1) وقعال (2) الكروم تفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي".
ان ظهور زهور الربيع، وغناء العصافير، وصوت اليمامة، والتينة والكروم التي بدأت تظهر ثمارها ورائحتها _ هذه كلها وان كانت تشير إلى أمور نبوية مستقبلية ولكنها تتحدث إلى قلوبنا نحن عن امتيازات وبركات وفيرة، لنا ان نتمتع بها الآن بها في شركتنا مع المسيح وهو _ تبارك اسمه يدعون بان نقوم ونأتي إليه لنتمتع بما أعدته لنا نعمته الغنية "بغنى المسيح الذي لا يستقصى" وان كلمة العريس ودعوته للعروس بان تقوم وتأتي إليه لواضحة وصريحة كما أنها فاحصة لحالة قلوبنا، فهل نحن قانعون وراضون ببقاء في ربوع الشتاء البارد بينما هو _ له المجد _ يدعونا لنتمتع بأفراح ربيع إلهي؟
ان هذا عين ما عمله الرب مع التلميذين اللذين كانا في طريقهما إلى عمواس (لو24) فكأنهما كانا يقاسيان برودة "الشتاء" ولم تكن لديهما زهرة واحدة من زهور الرجاء لتبهجهما. كانا "ماشيين عابسين" لان ذاك الذي كانا يرجوان أنه "هو المزمع ان يفدي إسرائيل" قد صلب ومات، وكأنه من "وراء الحائط" وتطلع إليهما "من الكوى" فلم يظهر ذاته إليهما _ في بادئ الأمر _ بكيفية واضحة وكأنه بلغة هذا السفر كان "يوصوص من الشبابيك" (أي ينظر إليهما من خلال الستائر) إلا أنه _ مجدا لاسمه _ لم يتركهما حتى أعاد إليهما رجاءهما وملأ قلبيهما يقينا بان "الشتاء قد مضى" وان الربيع المبارك قد أقبل عليهما في شخصه المبارك المقام من بين الأموات، ومن ثم "انفتحت أعينهما" فتخلصا على الفور من برودة الشتاء الروحية ودب في نفسيهما نشاط الربيع المنعش، "فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين. . . فكانا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز".
كما أننا نرى ذلك عينه مع مريم المجدلية (يو20) فقد كانت هي أيضا تعاني برودة "الشتاء" فأنها كانت واقفة خارج القبر تبكي لان حبيبها الذي خلصها من سلطان الظلمة قد مات، ولكنه تطلع إليها كما "من الكوى" وجعلها تسمع صوته الحلو داعيا إياها إلى التمتع بأفراح ربيع الحياة والقيامة، وان تحمل الأخبار إلى أخوته.
ان العنوان الموحى به لمزمور 22 هو "على أيلة الصبح" والآيلة أي الغزالة تشير إلى ذلك القدوس البار والحبيب الذي جاز في الآلام والأحزان المقترنة بموته كذبيحة الخطية، والصبح يشير إلى فجر القيامة المجيد بأنواره البهية. أنه صباح الفرح والترنم عقب ليل الحزن والبكاء، وحزن المسيا العميق (ع1-21) قد تحول إلى فرح ونشيد النصر (ع22-31) ونستطيع ان نرى ذلك جليا في الفصول الختامية للأناجيل، ففي صحبة المخلص المقام "صباح صحو" بلا غيوم حيث لا أثر للشتاء، وهوذا المفديون يرون الآن _ في نور قيامة الرب المبارك _ مسربلين بالجمال والمجد اللذين للمسيح "لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا" لان الله قد تمجد في موت المسيح الذي صرنا مقبولين فيه.
ان الرب يسوع يدعونا لمشاهدة مناظر الربيع السماوية _ لنرى ونتمتع بأزهار الربيع الروحية ونستنشق عبيقها العطري، لنشبع بالثمار الشهية الدسمة في شركة مقدسة معه "لان أمامه شبع سرور"فهلا نلبي دعوته الكريمة؟
* * *
"التينة أخرجت فجها" لا حاجة إلى التليل على ان المقصود بالتينة هو ذلك الشعب الأرضي الذي تدور حوله نبوات العهد القديم _ ذلك الشعب الذي مرت عليه أجيال طوال هو في شتاء التشتيت في كل ممالك الأرض بسبب شرورهم وارتدادهم عن الله الحي ولا سيما لخطيتهم المروعة _ خطية رفض المسيا ملكهم وصلبه إذ قبلوا ان يكون دمه عليهم وعلى أولادهم، ولكن ذلك الشتاء لابد ان ينقضي، وقد أشار الرب إلى ذلك في كلماته النبوية الصريحة "فمن شجرة التين تعلموا المثل متى صار غصنها رخصا وأخرجت أورقها تعلمون ان الصيف قريب. هكذا أنتم أيضا متى رأيتم هذا كله فأعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل ( * ) حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول"(مت24: 32-35). ان كلمة الله الصادقة تنبئنا بكل وضوح بان ذلك الشعب سيجوز أولا في "ضيق يعقوب" الذي لم يكن مثله منذ أبتدأ العالم إلى الآن ولن يكون، ولكن لأجل المختارين (من ذلك الشعب الأرضي) تقصر تلك الأيام وعندئذ يتمتعون بالبركة التي وعد بها الآباء على ان رجاءنا _ رجاء الكنيسة السماوي سيتحقق قبل كل هذه الأحداث، لان الرب سيأتينا كالعريس السماوي _ وان كنا نرى في أيامنا هذه مقدمات أو بالحري بوادر تلك الحوادث فحري بنا ان نصحو ونسهر لان مجيء الرب أصبح قريبا جدا.
* * *
"وفعال الكروم تفيح رائحتها" تلك الكروم التي كانت في حكم الموت في "الشتاء" قد عادت إليها الحياة وهوذا تفيح رائحتها المنعشة، وفي ذلك إشارة إلى عودة الحياة الروحية مستقبلا إلى ذلك الشعب الذي نحاه الله عنه بسبب عصيانه وأصبح في حالة الموت الروحي "هكذا قال الرب لهذه العظام. هأنذا أدخل فيكم روحا فتحيون. . .. وتعلمون أني أنا الرب. . . ثم قال لي يا ابن آدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل. ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا. قد انقطعنا. لذلك تنبأ وقل لهم هكذا قال السيد الرب: هأنذا افتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي. . . واجعل روحي فيكم فتحيون واجعلكم في أرضكم فتعلمون أني أنا الرب تكلمت وأفعل يقول الرب"(حز37).
* * *
كما ان في هذا تعليما روحيا لنا نحن المسيحيين، فأننا إذ خلصنا من شتاء الموت الروحي وأتى بنا الرب مخلصنا إلى ربيع النعمة الغنية واهبا لنا حياة جديدة، فأنه يريدنا ان نكون أغصانا مثمرة لمجده وان تفيح رائحة المسيح الذكية في حياتنا. أنه يريدنا ان تكون حياتنا شهادة قوية أمام العالم لغنى نعمته _ شهادة جذابة للنفوس البعيدة. ان العالم، ولا سيما في هذه الأيام في حاجة إلى رؤية ثمار النعمة المجيدة وإلى إظهار رائحة صفات المسيح العطرية في سلوكنا وعيشتنا أكثر من حاجته إلى سماع مجرد أقوال دينية جوفاء. فلتكن سيرتنا وتصرفاتنا دليلا قويا على صدق أقوالنا وشهادتنا. علينا ان نحيا "كما يليق بالتعليم الصحيح" وبذا نـزين تعليم مخلصنا الله في كل شيء (تي2).
* * *
"قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي" حقا ما أعظم محبة الرب وصلاحه. ما أطيبه، وما أعظم صبره وطول أناته علينا "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" نعم أنه، تبارك اسمه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن. أنه يعرف حاجتنا إلى الحث المتواصل والإنهاض المستمر، فهوذا هو يكرر نفس الكلمات التي قالها سابقا لعروسه (ع10) فهو لم يكتف بتوجيه الدعوة إليها مرة واحدة "لكن الله يتكلم وبأثنتين"(أي33: 14). أنه _ له التعبد القلبي لا يمل من موالاة النصح والإرشاد المرة تلو المرة لإنهاض حياتنا الروحية، وبلغة الحب الصادق والإعزاز الكلي يدعونا لان نستيقظ من نومنا ونقوم من رقادنا ونأتي إليه "تعالى" أو بالحري أخرجي من جو الشتاء البارد والمؤذي للصحة الروحية، وتعالى إلى حيث الدفء والبهجة وراحة القلب وهنائه "تعالوا إلي . . . فتجدوا راحة لنفوسكم".
أفلا نصغي إلى صوت الحبيب الذي يدعونا للخروج إليه لنتمتع بنشاط الحياة الروحية؟ ان كنا نقرأ (في يو10: 22) القول "وكان الشتاء" ولكن الرب المبارك يقول "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" وأنه هو الذي يعطي خرافه حياة أبدية (يو1) هذا هو الربيع الإلهي المبارك الذي يدعو الرب خاصته للتمتع بثمار الشهية، وأننا في إتياننا إلى هذه الربوع لن نخسر شيئا ذا قيمة مما كان لنا في "الشتاء" لان "التينة أخرجت فجها وقعال الكوم تفيح رائحتها".
* * *
(1)الفج هو التين الأخضر الذي لم ينضج بعد Green Figs
وفي ترجمة أخرى "تين الشتاء" Winer Figs
(2) "قعال الكروم" أي العنب الغض الذي لم ينضج بعد Tender Grape
( * ) المقصود بالجيل هو شعب إسرائيل الذي ستحل عليه دينونات الله بسبب دماء الصديقين الكثيرين التي أهرقوها (أنظر لو11: 50و 51)
ص 2، آية 14
14-"يا حمامتي في محاجىء ( * ) الصخر في ستر المعاقل أريني وجهك أسمعيني صوتك لان صوتك لطيف ووجهك جميل".
"يا حمامتي" بهذا يخاطب العريس حبيبته لأنه يراها كذلك، فهي وان كانت في ذاتها لا تخلو من العيب واللوم وكثيرا ما تكون "كحمامة رعناء"(هو7: 11) ولكنه في نعمته الغنية ومحبته الفائقة يراها طاهرة كالحمامة، ولا عيب فيها "قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة"(أف1: 4) "بسطاء كالحمام" (مت10: 16) "بسطاء. . بلا عيب"(في2: 15) وتتميز الحمامة عن غيرها من الطيور بوداعتها ولطفها، وأنها لا تؤذي غيرها حتى ولو تعرضت هي أو فراخها الصغيرة لأذى. هكذا يرى الرب عروسه وهذا ما يجب ان تكون عليه في حياتها العملية. ثم أنها ليست لذاتها ولكنها ملكه "يا حمامتي" فقد "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها. . . . لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب"(أف5) "لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن"(1كو6: 30) "وأما أنتم فللمسيح"(1كو3: 23).
فأنا لست لذاتي ليس لي شيء هنا
كل ما عندي لفادي الخلق وهاب المنى
إذ فداني إذ فداني ذاك بالدم الكريم
ما كان أكبر الفرق بين تصرف الغراب (الطائر النجس) الذي أرسله نوح من الفلك والذي خرج مترددا ولم يعد إليه مرة أخرى إذ وجده شعبه في الجيف النتنة التي كانت طافية على وجه المياه، وبين تصرف الحمامة التي أرسلها نوح من الفلك ولكنها عادت إليه فورا إذ لم تجد مقرا لرجلها، وإذ أرسلها ثانية عادت إليه بورقة زيتون خضراء في فمها. أليس في هذا تعليم لنا؟ هل يستطيع المسيحي الحقيقي ان يجد شبعا لنفسه في ملذات العالم وشهواته؟ أنه لن تجد فيه راحة ولا استقرارا لنفسه. ان الراحة والأمن والسلامة هي في ذاك الذي كان نوح والفلك يرمزان إليه _ فلك النجاة والأمن ربنا يسوع المسيح.
* * *
"يا حمامتي في محاجىء الصخر" مع ان الحمامة ضعيفة في ذاتها _ ضعيفة جدا، وليس في طوقها ان تحمي نفسها من أذى الكواسر أو الطيور الجارحة ولكنها وجدت خلاصها ونجاتها وأمنها في محاجىء الصخر _ في جراحات المسيح _ الصخر الثابت الذي لا يتزعزع. هناك تستقر النفس هادئة وهانئة في حمى ذلك الجنب المطعون، وهناك تجد مكانا أمينا في ذلك القلب الكبير _ قلب المحبة الإلهية بحيث لا يستطيع أجناد الظلمة وقوات الجحيم المرعبة ان تسقط شعرة واحدة من شعرها، لان واحدا من هؤلاء الأعداء لن يصل إلى محجأ الصخر حيث تختبئ حمامة المسيح. أنها في أعالي الصخر _ في المسيح الذي هو الآن فوق جميع السموات بحيث لا يستطيع رئيس سلطان الهواء وكل أجناد الشر الروحية ان تحلق لتصل إليها، فهي (أي الحمامة _ عروس الرب) تشبه طائفة الوبار التي هي "طائفة ضعيفة ولكنها تضع بيوتها في الصخر"(أم30: 26) ومع ان واجبها ان تستقر في كل حين في حمى ذلك الصخر ولكن أمنها ليس متوقفا على مبلغ قوتها واستمساكها بالرب صخرها، وإلا لهلكت لا محالة، وأنما على قوة المسيح الذي يحميها ويصونها ويرعاها، وهل يمكن للرب المبارك ان يسلم للوحش نفس يمامته؟ كلا فلقد قال مؤكدا "أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني أياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد ان يخطف من يد أبي"(يو10 : 28و 29) "ويكون كمخبأ من الريح وستارة من السيل كسواقي ماء في مكان يابس كظل صخرة في أرض معيبة"(أش32: 2) مبارك ومجيد اسم ربنا صخر الدهور.
يا صخر الدهور قد ضربت من أجلي
لتفتح الباب الذي يدخله مثلي
* * *
"في ستر المعاقل ( * )" لم تكن العروس في محاجىء الصخر _ مكان الحمى والأمن في ذلك الجنب المطعون فقط، ولكنها كانت أيضا في "ستر المعاقل" _ مكان الشركة السرية، إذ صار لها حق الاقتراب إلى الأقداس السماوية "لان به لنا كلينا قدوما في روح واحد إلى الآب"(أف2: 18) "فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع. لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان. . . "(عب10: 19-22) "وما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك وأغلق بابك (أي في ستر المعاقل) وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك"(مت6: 6).
* * *
أما إذا اعتبرنا ان المقصود بستر المعاقل الدرج السري (كما في الحاشية السفلية بالصفحة السابقة) ربما كان في ذلك إشارة إلى الغرفات التي بناها سليمان الملك حول حيطان الهيكل، وكانت مكونة من ثلاث طباق، كانت كل طبقة منها أكثر اتساعا من الطبقة التي تحتها، وكان الصعود إلى الغرفات الوسطى والعليا بدرج معطف من الداخل (أي الدرج لم يكن يرى من الخارج. 1مل6: 5-8) ففي الشركة السرية ترتقي النفس إلى أدراك أعلى، واختبار أسمى لمحبة المسيح، وتتسع طاقتها الروحية سواه في التمتع به أو في السجود والخدمة له.
* * *
"أريني وجهك أسمعيني صوتك" حسن جدا ان يكون لنا مكان الأمن والحمى "في محاجي الصخر. في ستر المعاقل" وان قلوبنا لتفيض بالحمد والتعبد للرب من أجل بركة الفداء وغفران الخطايا، ولأجل السلام الذي ملأ به ضمائرنا وقلوبنا إذ "أبطل الخطية بذبيحة نفسه" لأننا إذ احتمينا في قيمة وفاعلية دمه الكريم صار مكروه "لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح". هذه حقائق سامية وجوهرية ولها قيمتها الغالية، ولكنها ليست كل ما هيأته لنا محبة المسيح، فهو يريدنا ان نكون في صحبته المقدسة حيث يطلعنا على مقاصد المحبة الإلهية والمشورات الأزلية التي ذخرت لنا في ، شخصه المجيد، وهو يريد ان يرى الفرح بهذه المشورات الحبية الغالية ينير وجوهنا، وان يسمع أصواتنا وهي تتعبد له مترنمة له ومتحدثة إليه بهذه المشورات التي قصدتها مسرة مشيئته. ان الحبيب يوجه التفات حبيبته _ في هذا الإصحاح _ إلى مناظر سماوية مجيدة وجذابة خارج الأماكن المغلقة التي هي فيها، ويدعوها لترى وتسمع ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه، ولكن الله أعلنه لنا بروحه. أنه يريد ان يوسع تخومنا الروحية يريدنا ان نمتد إلى ما هو قدام، وان نتقدم في مداركنا واختباراتنا الروحية "انموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح".
* * *
"لان صوتك لطيف ووجهك جميل" يدعو الرب الحبيب عروسه بان تأتي إليه ليرى وجهها الجميل في عينيه وليسمع صوتها اللطيف، وهل هناك تعبير أعمق وأقوى من هذا عن محبة العريس المبارك لعروسه وإعجابه بجمالها وبصوتها العذب _ سواء أكانت العروس السماوية _ الكنيسة التي هي جسده، أم العروس الأرضية _ البقية التقية من يهوذا؟ ولكي يتسنى لنا فهم كلمة الله فهما صحيحا يجب ان نميز في نور هذه الكلمة بين ما هو أرضي وما هو سماوي، بين دعوة شعبه القديم الأرضية، ودعوة الكنيسة السماوية. ان هذه الكلمة ترينا بكل وضوح ان الرب سوف يعني بشعبه الأرضي، وان عروس الملك "المسيا" (أش54: 5 وهو2: 14-20) أورشليم الأرضية ستكون مركز المجد والبركة الأرضيين، كما ان الكنيسة _ أورشليم السماوية هي عروس الخروف (رؤ21: 2و 9-27) _ "حمل الله" الذي تألم مرة ليكفر عن خطايانا، أما الآن فهو المسيح الممجد السماوي إذا فأورشليم عروس، والكنيسة عروس، ويجب ان يراعى ان هذا اللقب "عروس" هو تعبير رمزي للدلالة على العاطفة والمحبة والوحدة، لان مركز العروس ومكانها هو دائما إلى جانب العريس، وعلى هذا ستأخذ العروس الأرضية _ البقية المعبر عنها بأورشليم مكانها بجواره في المجد الأرضي "جعلت الملكة عن يمينك"(مز45) كما ان الكنيسة _ العروس السماوية ستأخذ مكانها إلى جانبه في المجد السماوي، فأنها إذ اعترفت به ربا وسيدا أثناء رفضه لذلك ستكون أقرب إليه وأعز لقلبه في رفعته ومجده. من هذا يتبين ان مجد الملكوت العتيد له وجهان: سماوي وأرضي "لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك"(أف1: 10) أعني ان كل قوة وبركة ومجد في الدائرتين سوف تتركز في المسيح.
ان نصيب الشعب الأرضي هو بركات زمنية في أرض بهية وخصبة (عا9: 11-15). أما نحن فنصيبنا كل بركة روحية في السماويات(أف1). أورشليم الأرضية ستكون مركز المجد الأرضي والبركة الأرضية. ستكون المدينة الملكية، عاصمة الأرض كلها، وعن طريقها تتبارك أمم الأرض "لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب"(أش2: 3) أما أورشليم العليا _ العروس السماوية فستكون مركز المجد السماوي. مجد الله ينيرها والخروف سراجها (رؤ21: 23). القديسون السماويون يلبسون أجسادهم المجيدة إذ يتغيرون على صورة جسد مجد المسيح.
* * *
إلا ان الرب لا يرى عروسه جميلة في عينيه وصوتها عذبا لسمع أذنيه وهي إلى جانبه في المجد فقط بل قبل ذلك أيضا _ وهي هنا فوق الأرض في جسد الأتضاع والضعف، ذلك لأنه خلع عليها جماله هو. ان صوتها لطيف _ صوت تضرعاتها وصلواتها، وليس ذلك فقط بل حتى اعترافاتها وكلمات التذلل والبكاء والانسحاق التي ترفعها إليه لان "صلاة المستقيمين مرضاته"(أم15: 8) كما ان ذبائح السجود والتسابيح الروحية هي مقبولة عنده (1بط2: 5) "فلنتقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه"(عب13: 15) "أعني للرب في حياتي. أرنم لإلهي ما دمت موجودا فيلذ له نشيدي"(مز104: 33) "مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب، شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح لله والأب"(أف5: 19و 20) نعم ان صلواتنا وسجودنا وتسبيحاتنا تتصاعد إلى حضرته كرائحة البخور العطرية لان الروح القدس الساكن فينا هو قوة سجودنا وتعبدنا. وان وجهها جميل، إذ أنه قد غسلها من أدرانها وخطاياها. وطهرها من ضمير شرير فلم تبق فيها عيبة أمامه، لذا يريد ان يرى وجهها الجميل "حينئذ تتلذذ بالقدير وترفع إلى الله وجهك. . . ترفع وجهك بلا عيب"(أي22: 26، 11: 15).
* * *
واضح ان عروس المسيا الأرضية، قبل ان يؤتى بها البركة إلى جانب العريس في ملكه الألفي المجيد، ستجوز في آلام وتدريبات مرة وقاسية _ في ذلك الضيق الذي لم يسبق له مثيل، وكلمات الرب الموجهة إليها في هذا العدد أنما لكي يملأ قلبها بالرجاء واليقين بان يوم خلاصها من ذلك الضيق أصبح قريبا. أنه يريدها ان تعرف أنها موضوع عنايته ورعايته. لا شك أنها ستكون في ذلك الوقت هدف مكر ضد المسيح ومحاولاته الخبيثة، لأنه سيعمل على هلاك البقية الأمينة، ولكنها إذ تسير في هداية الرب وفي نور الكلمة النبوية ستجد لنفسها مخبأ في البرية "حينئذ يهرب الذين في اليهودية إلى الجبال"(مت24: 16) وتبارك اسم الرب إلهنا وسيدنا فأنه يعرف ملجأها وهي هناك تكون تحت نظره وتبدو لعينيه وقلبه كحمامة متحصنة "في محاجي الصخر. في ستر المعاقل".
ثم ان صوتها سيكون لطيفا في سمع أذني حبيبها، ويلذ له ان تسمعه صوتها ولو أنه حينئذ يشبه صوت الحمامة الحزينة التي تجلس وحيدة تندب اليفها "وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له"(زك12: 10-14) كما ان وجهها سيكون جميلا في عينيه مهما فعل بها الاضطهاد وأحرقتها نيران التجارب "البلوى المحرقة" التي ستجوز فيها. أنه بالرغم من هذا كله فهو يريد ان يرى وجهها وان يستمع إلى صوتها "لان صوتك لطيف ووجهك جميل" هذه هي "محبة المسيح الفائقة المعرفة".
* * *
( * ) المحاجىء بمعنى الشقوق Clefts والمفرد محجأ. والمعاقل بمعنى الحصون
( * ) "في ستر المعاقل" In the secret places of the stairs أي أنها جاءت في بعض الترجمات بمعنى الدرج أو السلم السري.
ص 2، آية 15
15-"خذوا لنا الثعالب الصغار المفسدة الكروم لان كرومنا قد أقعلت".
كم هو جميل ان نرى العريس هنا يربط نفسه بعروسه في أمر العناية بالكروم، فيقول خذوا "لنا". . . لان "كرومنا" فكان فرح العريس مرتبط بفرح عروسه وان ما يؤلمها أو يؤذيها كأنه يؤلمه ويؤذيه هو "أنا يسوع الذي أنت تضطهده"(أع9: 5) لذا نراه مهتما بسلامتها وصيانتها من كل أذى. لقد ناجى عروسه بان تريه وجهها الجميل وتسمعه صوتها اللطيف، وهو لا يريد ان أي شيء يعطل هذه الشركة المقدسة "فالثعالب الصغار" التي تزحف بكل خفة، فلا يشعر بها أحد، تفسد الكروم التي أقلعت (أي ظهرت أغصانها الطرية وبدأت تظهرها ثمارها) وما أكثر "الثعالب الصغار". ان خطايا كثيرة ومتنوعة تبدو كأنها بسيطة وصغيرة ولكنها تستطيع ان تسلب من المؤمنين تعزياتهم وبهجة خلاصهم وتهدم كيانهم الروحي، فليست الخطايا التي تحسب كبيرة وبغيضة هي وحدها التي تؤذي الحياة الروحية، بل ان هناك آلافا من الأمور التي يظن أنها بريئة ولا ضرر من ورائها تعطل حياة المؤمنين الروحية، فالأصدقاء ولو كانوا ظرفاء وأدبين، ومجاراتهم في مبادئهم العالمية والتمشي معهم في ميولهم اجتماعية كانت أو سياسية والاشتراك معهم في منتدياتهم الرياضية أو ما شاكل ذلك، كما ان الروابط الجسدية والعائلية، أو الدخول تحت نير مع غير المؤمنين سواء في العلاقات الزوجية أو الأشغال الزمنية أو غير ذلك، قد تكون هذه وغيرها كثير من "الثعالب الصغار" التي لا يلفت إليها وإلى خطرها إلا عند ما يتنبه القلب ليرى أنه قد فقد فرحه في الرب وان هذه الأشياء قد ملكت عليه بدلا من الإصغاء إلى صوت الحبيب. فليحذر كل مسيحي حقيقي ولا سيما المؤمنين الأحداث من "الثعالب الصغار" فأنه تفسد الكروم الغضة. حذار من الخطية المحيطة بك بسهولة. لا تعطي إبليس مكانا أو منفذا إلى نفسك أو بالحري أحفظ قلبك مغلق ضد الخطية مهما كان نوعها فان فكرا شريرا أو نظرة دنسة أو كلمة هزل، أو أي كلمة عاطلة أو غير ذلك مما تحسبه خطايا صغيرة هي كالثعالب الصغار التي تفسد حياتك الروحية. "امتنعوا عن كل شبه شر"(1تس5: 22) "فوق كل تحفظ أحفظ قلبك لان منه مخارج الحيوة"(أم4: 23).
لقد وهبنا الرب يسوع بموته فوق الصليب حياة أبدية ولا يمكن ان نفقد هذه الحياة "خرافي. لن تهلك إلى الأبد" إلا أننا بحاجة مستمرة إلى السهر الروحي لئلا يتعطل "ثمر الروح" في حياتنا. أننا _ كأفراد _ نحتاج إلى الصحو والسهر حتى لا نحزن الروح القدس الساكن فينا، فلا نعيق عمله الإلهي في حياتنا وإلا فان العدو يسلب منا أفراحنا وتعزياتنا وسلامنا، كما أننا _ كجماعة نجتمع معا باسم الرب _ في حاجة مستمرة إلى السهر ضد "الثعالب الصغار" التي تفسد الكروم لئلا نطفئ الروح القدس في سجودنا وفي ممارسة المواهب الروحية التي أؤتمنا عليها سواء لبنيان المؤمنين أو لخلاص النفوس.
* * *
ولنلاحظ ان "الثعالب الصغار" لا تبقى صغيرة على مر الزمن فأنها تنمو وتكبر حتى تصير ثعالب كبيرة، فالخطايا التي تتسرب إلى حياة المؤمنين كأنها ثعالب صغيرة إذ لم نحكم عليه ونتحرر منه لا بد ان تنمو وتكبر في حياتنا وتتأصل فينا ولا يكون من السهل التخلص منها "ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذ كملت تنتج موتا"(يع1: 15) نعم أننا إذ لم نسهر ضد ما تحسبه "شبه شر" فأنه ينمو حتى يصير شرا بالغا "من الخطايا المستترة (كالثعالب الصغار) أبريني. من المتكبرين (أي الخطايا الكبيرة" ( * )، أحفظ عبدك فلا يتسلطوا علي حينئذ أكون كاملا وأتبرأ من ذنب عظيم"(مز19: 12و 13).
لقد كانت الأمة الإسرائيلية في أيام داود وسليمان كالكرمة المثمرة "فأصلت أصولها فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله. مدت قضبانها إلى البحر وإلى النهر فروعها"(مز80) ولكنها إذ لم تسهر ضد الشر ولم تحفظ سور الانفصال بينها وبين سائر الشعوب عاليا تسلقت "الثعالب الصغار" أسوارها حتى صار "يرعاها وحش البرية". "أنبياءك يا إسرائيل صاروا كالثعالب في الخرب"(خر13: 4) وليس الأنبياء فقط بل لقد شبه الرب في أيام تجسده ذلك الملك الأدومي الشرير الذي ملك على إسرائيل والذي كان يريد قتل الرب بالثعلب الماكر (لو13: 31و 32) ولكن تبارك اسم إلهنا الواعد الأمين فأنه لا بد ان يجيء الوقت الذي فيه ينير الرب وجهه لخلاص ذلك الشعب الأرضي وذلك بواسطة المسيا _ الابن المختار لان دعوته وهباته هي بلا ندامة "يا إله الجنود أرجعن أطلع من السماء وانظر وتعهد هذه الكرمة والغرس الذي غرسته بيمينك والابن الذي اخترته لنفسك. لتكن يدك على رجل يمينك وعلى ابن آدم الذي اخترته لنفسك فلا نرتد عنك. أحينا فتدعو باسمك. يا رب إله الجنود أرجعنا. أنر بوجهك فنخلص"(مز80).
* * *
( * ) Presumptuous sins
ص 2، آية 16
16-"حبيبي لي وأنا له الراعي بين السوسن"
رأينا مما تقدم كيف ان العريس يدعو عروسه المحبوبة والجميلة "يا حبيبتي يا جميلتي" بان تقوم وتأتي إليه وان تراه وجهه الجميل وتسمعه صوتها اللطيف، كما رأينا حرصه على سلامتها من أذى "الثعالب الصغار" وهوذا هي تلبي دعوته فتتحدث بيقين كامل عن امتلاكها لمن هو غرض وشبع قلبها "حبيبي لي" ويجب ان تراعي هذه الحقيقة الجوهرية وهي ان ربنا يسوع المسيح هو هبة الله المجانية لكل من يؤمن به لأنه "هكذا أحب الله العالم حتى بذل (أي أعطى) ابنه الوحيد. . " ومن امتياز كل مؤمن حقيقي لا ان ينال غفرانا لخطاياه وخلاصا كاملا وأبديا فقط بل ان يمتلك المخلص نفسه _ ان يكون المسيح له موضوع هنائه وشبع نفسه، فأنه وان كان الخلاص هبة إلهية غالية "خلاصا هذا مقداره" (عب2: 3) ولكن المخلص نفسه _ يسوع المسيح الحبيب _ هو "عطية الله التي لا يعبر عنها" العطية التي تملأ النفس فرحا لا ينطق به ومجيد "تبتهج روحي بالله مخلصي" ولقد كانت هذه غاية المسيح له المجد في بذل حياته فوق الصليب "أحب المسيح الكنيسة وأسلم (أي أعطى) نفسه لأجلها"(أف5: 25) كما ان هذه عمل روح القدس الساكن فينا _ ان يمتعنا بالمسيح كنصيبنا وكغرض قلوبنا ". . ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" وهل هناك في السماء أو على الأرض ما يعادل امتلاك المسيح. ان النفس التي امتلكت المسيح ترى ان كل الأشياء سواه _ مهما كانت جذابة للعين الطبيعية _ ان هي إلا "نفاية" فهل يستطيع القارئ المسيحي العزيز ان يقول بحق "حبيبي لي"؟ أننا عندما نتحقق بان ربنا يسوع المسيح هو نصيبنا الأبدي _ النصيب الصالح الذي لينـزع منا _ فلا بد هذا اليقين يقودنا إلى تكريس الحياة له "لان محبة المسيح تحصرنا".
"حبيبي لي" المسيح لي _ هو حبيبي الآن في الحياة الحاضرة فقد غسلني من خطاياي بدمه وألبسني برا إلهيا. هو لي لكي أنظر إليه وأتفرس في جماله. لي ليعتني بي في زمان غربتي _ كما أنه لي في المجد الأبدي ولابد ان يأتي ليأخذني إليه حيث أكون معه كل حين _ "حبيبي لي" أني أحبه _ ولكن لا فضل لي في محبتي له. أني أحبه لأنه هو أحبني أولا. تبارك اسمه المعبود الكريم.
"وأنا له" يا لها من علاقة حبية مقدسة ونقية _ هذه العلاقة المتبادلة بين العريس وعروسه، فكما أنه جميل وملذ ان تعرف العروس ان حبيبها لها _ لها في الزمان وفي الأبدية _ لها بكل كمالاته وأمجاده وغناه الذي لا يستقصى، فأنه جميل أيضا ان تعرف أنها هي أيضا له _ له وحده وليست لذاتها ولا لشيء سواه. أننا له لأنه خالقنا "هو صنعنا ونحن له"(مز100: 3) "إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء. . . لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد"(أع17: 25و 28) وأكثر من ذلك فأننا له لأنه اشترانا بثمن غالي وثمين "بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح"(1بط1: 19) ". . . لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن"(1كو6: 19و 20) نعم جميل ان تعرف العروس بأنها لحبيبها، وهي معرفتها هذه ليست وهمية لأنه طالما أكد لها هذه الحقيقة المباركة مرارا وتكرارا "يا حبيبتي، يا جميلتي، يا حمامتي،" وهي استنادا على كلمته الصادقة أيقنت أنها ملك له، أو ليس جميل ان يعرف المسيحي الحقيقي أنه ليس تابعا لأحد غير المسيح مهما سما قدره؟ "إذا لم يفتخرن أحد بالناس فان كل شيء لكم. أبولس أم أبلوس أم صفا أم العالم أم الحياة أم الموت أم الأشياء الحاضرة أم المستقبلة كل شيء لكم. وأم أنتم فللمسيح والمسيح لله"(1كو3: 21-23) ما أمجد هذه الحقيقة "أننا للمسيح" وان كل واحد منا ان يقول بحق "وأنا له".
هذا ومع أننا لسنا تابعين إلا للمسيح فان كل شيء لنا "كل شيء لكم" أبولس أم أبلوس أم صفاء _ هؤلاء جميعا لنا _ لخدمة نفوسنا وبركتها، بل حتى الموت نفسه لم تعد له سيادة علينا فهو للمؤمن _ ان تأني الرب _ رسول سلام وليس سيدا، كما ان العالم لا يقدر أد يدعي أننا له، ذلك لأنه القول الكريم "أنتم للمسيح" قد أنهى الحالة القديمة، فنحن للمسيح وللمسيح وحده دون سواه _ له في زمان وفي الأبدية أيضا. أليس هذا كفاية لان ينشأ فينا تكريسا صحيحا لذاك الذي نحن له؟ "كي يعيش الأحياء في ما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام"(2كو5: 15) هبنا يا ربنا الحبيب وسيدنا المعبود ان نحيا في نور هذا الحق المبارك _ أنك لنا ونحن لك _ فتنتعش وتتنشط حياتنا الروحية بتأثير هذه الحقيقة الغالية.
* * *
"الراعي بين السوسن" تردد العروس ذلك اللقب الجميل الذي لقبها العريس به، لقب السوسن (ع2) وأنه لجميل ونافع لنا ان نردد أقواله _ الأوصاف والألقاب التي يلقبنا بها لان في ذلك تعزية قلوبنا كما أنه يزيد تقديرنا ولمحبته، وبالتالي تزداد محبتنا له. تبارك اسمه ليس فقط عريسنا الذي ننتظر مجيئه ليأخذنا إليه ولكنه أيضا "الراعي" الذي يرعى قطيعه _ أنه راعينا السائر أمامنا وبرفقتنا في مرحلة سياحتنا في هذا العالم والذي يقودنا ويغذي حياتنا الروحية كما أنه يجد مسرته ولذته بين خاصته _ في جنة السوسن. صحيح ان خاصته هذه هي "كالسوسنة بين الشوك" لكن أمنهم وسلامتهم وحفظهم من كل أذى مكفول في رعايته لهم "الرب راعي فلا يعوزني شيء... لا أخاف شرا لأنك أنت معي"(مز23).
* * *
واضح من هذه الكلمات ان الرب المسيا ملك إسرائيل لم يتبوأ بعد عرشه على شعبه الأرضي المختار، وان البقية لم تصل بعد إلا راحتها المعدة له في أرض البركة، وأنها لازالت جائزة في وسط آلامها "بين الشوك" ولكنها تجد عزاءها في رعاية الرب حبيبها لها.
ص 2، آية 17
17-"إلى ان يفيح النهار وتنهزم الظلال أرجع وأشبه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشبعة"
لقد سما إيمان العروس بعريسها وثقتها به حتى أنها في وسط آلامها استطاعت ان تراه بالإيمان وان تتمتع به وبرعايته لها "الراعي بين السوسن" إلا ان نفسها كانت تتوق إلى شيء أسمى _ إلى يوم مجده، عندما "يفيح النهار وتنهزم الظلال". لقد أعلن الرب ذاته (في رؤ22) بأنه "كوكب الصبح المنير" وأنه "آت سريعا" فإذا يأتي لا يبقى لظلام الليل ولا لظلال أثر في ما بعد. أننا نراه الآن بالإيمان كما "في مرآة في لغز" لكن حينئذ "وجها لوجه" سنرى عريسنا المبارك _ سنراه "كما هو". هذا هو رجاء المسيح الحقيقي _ رجاء الكنيسة عروس الرب، ولكن "إلى أن" يبزغ فجر ذلك اليوم المجيد تتطلب العروس إلى عريسها وحبيبها الذي أرتفع إلى السماء بان يظهر ذاته لها ويشعرها بحضوره معها "أرجع. . . يا حبيبي". أنها تحن إلى التمتع بعشرته السعيدة وبمحبته المنعشة لنفسها، فهي لا تكتفي بمجيء عريسها لأخذها إليه ولكنها تصبو إلى التمتع به وهي هنا فوق الأرض إلى ان يفيح النهار وتنهزم الظلال. ذلك هو الإيمان الحي، الرجاء المبارك.
* * *
وكما ان رجاء الكنيسة هو في مجيء الرب يسوع المسيح "كوكب الصبح المنير" كذلك سيكون رجاء الأتقياء في إسرائيل "بعدئذ" هو في ظهوره كالمسيا الذي سيبدد إلى الأبد ظلام شتاتهم الطويل المجدب "ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها"(ملاخي4: 2) وان تلك البقية ستتطلع إلى اقتراب يوم مجده، إلا أنه قبل ان يشرق ذلك النهار بلمعانه لابد ان تنهزم كل الظلال "وكنور الصباح إذ أشرقت الشمس. كعشب من الأرض في صباح صحو مضيء غب المطر"(2صم23: 4). هذه بلا شك ستكون لغة البقية إبان اجتيازها في آلامها المريرة قبل ان يفيح النهار وتنهزم الظلال _ قبل ان تشرق شمس البر _ رجاء البقية المبارك الذي سيتحقق عند ظهوره من تلك الآلام.
* * *
"أرجع وأشبه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشبعة"لقد عرفت العروس بأنها لا تزال في برية هذا العالم محوطة "بتجارب متنوعة" كالجبال المشبعة، لذا تطلب إلى عريسها بان يسرع لنجاتها وحمايتها كما أنها تتوق إلى رجوعه سريعا كالظبي، أو الغزلان الصغيرة، متنقلا في خفة رائعة على الجبال المشبعة. هذا هو حنين الكنيسة _ عروس المسيح "الروح والعروس يقولان تعال. . . أمين. تعال أيها الرب يسوع" فلنسر إذن مواظبين على الصلاة ومترقبين تلك اللحظة السعيدة التي فيها نرى ضياء وجه ربنا وسيدنا وعريسنا المبارك "كوكب الصبح المنير". "إذا يا أخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين ان تعبكم ليس باطلا في الرب"(1كو15: 58).
* * *
كذلك ستكون هذه لغة الأتقياء في شعب الرب الأرضي وحنينهم. أنهم في مرارة نفوسهم يتوسلون إليه بان يسرع لخلاصهم، وهو _ له كل الإكرام _ سيقصر أيام ضيقهم رغما عن مقاومات مضايقيهم (مت24: 22) وهل تستطيع أية قوة أرضية أو جهنمية ان تعطل إتمام مقاصد الله من نحو شعبه الأرضي أو تحقيق مواعيده التي وعد بها آباءهم؟ ان أشعة مجده العتيدة سوف توقع الرعب في قلوب أعدائهم وتهيئ الطريق أمام مفديي الرب للتمتع بالبركة في الملك الألفي السعيد "ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم ويهرب الحزن والتنهد"(أش35: 10) يومئذ لا يبقى لآلامهم "الجبال المشعبة" أي أثر "كل وطاء يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيما والعراقيب سهلا. فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معا لان فم الرب تكلم"(أش40: 4و 5) نعم سيأتي "الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب"(أش59: 20) سيأتي كالظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة.