تفسير سفر نشيد الأنشاد آية آية
ص 4، آية 1
1-"ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة عيناك حمامتان من تحت نقابك. شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد".
يتحدث الملك في هذا الإصحاح إلى عروسه _ بأسلوب بديع _ عن جمالها، وعن أفكار قلبه من نحوها، فهل لنا الأذان والقلوب المختونة لتصغي وتستوعب كلمات الحبيب _ كلمات النعمة المنسكبة على شفتيه التي قالها للتعبير به عن إعجابه بعروسه وعن تقديره لجمالها الذي لا مثيل له في عينيه؟ "ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة" _ تلك الكلمات التي إذا وصلت بقوتها إلى قلوبنا بعمل الروح القدس فأنها تقودنا إلى الأتضاع وإنكار النفس وإلى تعظيم النعمة، وتجعلنا أكثر قربا إلى نفسه وقلبه. أنها تملأ نفوسنا بغبطة السلام الهادئة وتربطنا بقلبه رباطا وثيقا وتجعلنا مشابهين صورته كثيرا.
* * *
وبعد ان أكد لقلبها في عبارات شاملة أنها "جميلة" في عينيه أخذ يتغنى بسبع صفات من صفاتها التي يتجلى فيها جمالها، والتي كان يتأملها واحدة فواحدة بعين الإعجاب، فقد تغنى بجمالها في العينين والشعر والأسنان والشفتين * والخد والعنق والثديين، ولان كل واحدة من هذه الصفات كانت جميلة، كما ان العدد 7 يشير إلى الكمال. فقد وجد العريس في عروسه كمال الجمال "كلك جميلة يا حبيبتي ليس فيك عيبة" وهو له المجد يسر بالتحدث إلى العروس عن جمالها الذي هو من مجرد النعمة الغنية. أنه يلذ له بان يؤكد لقلبها بان لها جمالا فائقا في عينه. وغنى عن البيان أنه لا دخل للطبيعة في ذلك، فان أفضل ما في الطبيعة البشرية من صفات جذابة ولطيفة مرفوض عنده ولا شان ولا دخل له في جمال العروس، إذ ان جمالها هو هبة إلهية خلعتها علينا نعمته "نعمة (أي جمال Beauty ) الرب إلهنا علينا"(مز90: 17)وواضح ان الرب في حديثه هذا إلى عروسه لم يكن أمامه شيء مما كنا عليه بحسب الجسد بل ما صرنا إليه الآن بنعمة الله، والجمال الذي يتحدث عنه الرب هنا ليس هو جمالا وهميا أو خياليا بل هو جمال حقيقي ودائم، إذ ليس ممكنا ان يتكلم الرب الصادق عن شيء ليس حقيقيا، ولكن عينيه تستقران بارتياح تام على كل صفة من صفات الجمال التي زينت نعمته بها عروسه، إذ متى أدركت النعمة نفسا فان تلك النفس لن تبقى بدون ثمر بل بالحري تحدث النعمة فيها تغييرا روحيا وأدبيا. أنها ننشئ في النفوس التي تحتضنها سجايا وصفات طاهرة وتجمّلها بالأخلاق المقدسة التي ترى في عيني المسيح في جمال باهر. لقد استطاع الرسول بولس ان يقول "بنعمة الله أنا ما أنا" أي ان ما صرت إليه الآن هو بنعمة الله، وحتى من جهة جهاده وتعبه في خدمة الرب يقول "ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي"(1كو15: 10) فكل من امتلكته النعمة تزينه بصفات حلوة وجميلة. ان ما قيل عن شاول الطرسوسي "هوذا يصلي" يبين ان هناك تغييرا عجيبا حدث له وليس تغييرا فقط بل خضوعا وتسليما للرب واعتمادا عليه بدلا من الإرادة الذاتية العنيدة والمليئة بالعداوة للرب وشعبه. لقد صار حلوا وجميلا في عيني الرب، ان نعمة الله تعلمنا لا ان ننكر الفجور والشهوات العالمية فقط بل ان نعيش أيضا بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر (تي2: 12) هذه صفات روحية وأدبية جذابة وجميلة في عيني ربنا المبارك. عندما آمن كثيرون من الأمم في إنطاكية ورجعوا إلى الرب أرسل إليهم برنابا الذي أتى ورأى نعمة الله. لقد رأى النعمة في ثمارها الشهية الظاهرة في أولئك المتجددين حديثا ففرح (أع11: 23) والروح القدس في إصحاحنا هذا يرسم أمامنا في كلمات شعرية الجمال المقدس الذي أنشأته النعمة في عروس النشيد، وان غرض روح الله هو ان يوجهنا إلى السجايا الروحية والأدبية المحببة إلى قلب المسيح حتى يكون هدفنا بمعونته هو التجمل والتحلى بهذه الصفات القدسية التي هي صفاته هو فنتغير إلى تلك الصورة عينها.
* * *
"عيناك حمامتان من تحت نقابك" أو "لك عينا حمامة". هذه أول صفة من صفات الجمال التي تغنى بها الحبيب عن عروسه، والعين تشير دائما _في كلمة الله_ إلى النور والفطنة الروحية "سراج الجسد هو العين فان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا"(مت6: 22). أنها _ أي العين _ تشير إلى القدرة على التميز الروحي، ثم ان عيني العروس هما حمامتان من تحت نقابها، فهي صفة جميلة لا يعرفها العالم، ولا يدركها لأنها خفية عن نظرهم "تحت نقابك" ولكنها جميلة في عيني المسيح، فكم كانوا مكرّمين وأعزاء لقلب الرب، في أيام جسده، أولئك الذين إذ تبعوه في زمان رفضه اثبتوا على ان لهم الفطنة والقدرة على التمييز الروحي أو بالحري البصيرة الروحية المقدسة _ أولئك الذين استطاع الرب له المجد ان يقول لهم "طوبى لعونكم لأنها تبصر"(مت13: 16).
ولا يمكن ان تكون هناك قدرة على الأبصار أو الإدراك الروحي بدون الولادة الجديدة، لان الرب قد نبّر على ذلك بقوله "ان كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر ان يرى ملكوت الله (يو3: 3) فعمل الله في الولادة الثانية وسكنى الروح القدس لازمان لتكون للنفس عينا حمامة "وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء"(1يو2: 20) "وأما الروحي فيحكم (أو يميز) في كل شيء"(1كو2: 15) هذه الأعداد يرسمها الروح القدس أمامنا ويذكرنا بها عند التأمل في عيني العروس _ عيني الحمامة. عندما سأل الرب تلاميذه "من يقولون أني أنا؟" قصد بذلك ان يعطيهم فرصة لإظهار ما لديهم من إدراك أو بالحري بصيرة روحية، وإذ أجاب بطرس "أنت المسيح ابن الله الحي" قال له الرب "طوبى لك" فقد كانت له "عيننا حمامة" وكان له ولكلماته جمال فائق في عيني الرب.
وحين جدا ان نذكر أنه ما كان ممكنا ان تكون لنا _ بالمعنى الروحي _ عيون للنظر لولا ان الرب هو الذي وهبنا البصر "الرب يفتح أعين العمي"(مز146: 8) ومكتوب بكل وضوح بان المسيا في يومه سيفتح عيون العمي (أش29: 18، 35: 5، 42: 7) وقد صدق معلمو اليهود القدماء في قولهم بان فتح عيون العمي هو معجزة أحتفظ بها للمسيا دون سواه، فان الرب له المجد لم يعط حتى تلاميذه القدرة على فتح أعين العميان، أما إرسالية بولس لكي "يفتح عيونهم" فقد قصد بها أنه يكشف لهم حقيقتهم حتى يرجعوا "من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله"(أع26: 18) وأما ربنا المبارك فأنه في أيام جسده قد فتح أعين كثيرين من العميان، والأناجيل الأربعة تذكر بكيفية مفصلة سبعة أشخاص منحهم الرب نعمة البصر، وهذا يرينا كيف ان النعمة الإلهية _ نعمة ربنا يسوع المسيح هي التي تهب النور والبصيرة الروحية.
* * *
هل نراعي دائما ان بصيرتنا الروحية التي منحت لنا هي لمسرة ربنا المبارك وان مداركنا الروحية لم توهب لنا لإظهار ذواتنا بين الناس أو لكي نجتذب التفاتهم إلينا وأنه يجب ان تكون هبته هذه كل حين متوارية وراء الحجاب "تحت نقابك"؟ أنه خليق بنا ان نحسب ان كل ما وصل إلينا من نور، وان كل تقدم في معرفة المسيح، وكل نمو في معرفة الله _ الكل قد وهب لنا لنكون لبهجة ومسرة قلب المسيح أكثر فأكثر. وكثيرا ما لا يريد الرب منا ان نتحدث مع الآخرين عما منحه لنا، إذ ربما يكلمنا في بعض الأحايين بنفس الكلمات التي قالها للأعميين "أنظر لا يعلم أحد"(مت9: 27-30).
ان العينين تحت النقاب تشيران إلى جمال روحي سري غير مدرك من جميع الناس بل هو للمسيح ولمسرته هو دون سواه، وهو له المجد يحتفظ به ليستخدمه في الوقت المناسب حسب قصده وحكمته، فقد أعطى لبولس رؤى سماوية "مناظر الرب وإعلاناته" عندما اختطف إلى الفردوس، ولكنه احتفظ بها "تحت النقاب" ولم يشر إليها لمدة أربع عشرة سنة (2كو12)، فان التحدث بمثل هذه الأمور قد يعطى شيئا من المجد أو الفخر لخادم الرب ولكن إخفاءها تحت النقاب إلى الوقت المعين يؤول إلى مجد المسيح. ليتنا ننمو في المعرفة وفي كل فهم روحي فتقوى بصيرتنا الروحية، على ان يكون غرضنا الوحيد في هذا كله مسرة وفرح قلب سيدنا، ولا شك ان كل محب للمسيح يرغب في ان تكون له العين البسيطة والبصر الروحي المقدس لفرح وسرور قلب لرب له المجد.
* * *
"شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد" هذه هي الصفة الثانية التي فيها نرى العروس جميلة في عيني عريسها، وشعرها يشير بلا ريب إلى مجد المرأة "وأما المرأة ان كانت ترخي شعرها فهو مجد لها"(1كو11: 15) والطبيعة نفسها تعلمنا ان مجد المرأة هو في ان ترخي شعرها وان تغطي رأسها اعترافا منها بأنها في مكان الخضوع للرجل الذي هو رأسها، وفي هذا إشارة واضحة إلى المجد الحقيقي الذي للمؤمنين الحقيقيين. ان مجد الكنيسة وشرفها هما في خضوعها للمسيح كرأسها، وخضوعها هذا ليس لشعورها بأنه مجرد واجب تقوم به بل بالحري هو خضوع المحبة والتعبد له، فالكنيسة لا تشعر فقط بأنه التزام عليها ان تخضع للمسيح بل هي تحب ذلك لأنها تعرف جيدا ان هذا هو الشيء الوحيد اللائق بها، وان في هذا مجدها وفخرها، هذه صفة جوهرية من الصفات التي بها يراها العريس جميلة في عينيه.
* * *
والشعر في شريعة النذير يرسم أمامنا صورة للتكريس "إلى كمال الأيام التي انتذر (أي تكرس) فيها للرب يكون مقدسا ويربي خصل شعر رأسه. . . شعر رأس انتذاره (أي تكريسه) (عدد6: 5و18) وكم هي جميلة في عيني المسيح هذه الصورة، فكمن تحصرنا محبة المسيح لا نعيش فيما بعد لأنفسنا بل له هو "ان عشنا فللرب نعيش . . . للرب نحن"(رو14: 8) وهذا بيقين هو ثمر عمل النعمة، وشعر النذير هو سر قوته، فقد كانت قوة شمشون العظيمة كامنة في "سبع خصل رأسه" وطالما كانت تلك الخصل غير محلوقة لم يكن في متناول العدو ان ينتصر عليه، وواضح ان كل مسيحي حقيقي هو نذير للرب، وعليه ان يبدي صفات النذير عمليا، فليتنا في سهر وصلاة مستمرين نعيش ونسلك في الانفصال عن العالم، وفي الشركة مع المسيح بقوة الروح القدس. ليتنا نبذل كل الجهد في ان لا نسمح لأية شهوة جسدية أو ميل عالمي بان ينتزع منا خصل شعرنا أو بالحري يعيق عمل روح الله _ روح القوة فينا، فلا تتوقف أو تعطل شركتنا مع إلهنا.
* * *
وكون شعر العروس هو "كقطيع معز" يرسم أمامنا صورة جميلة لوحدة المؤمنين وارتباطهم معا، فخضوع المؤمنين الفردي للرب وتكريس حياتهم له يؤول بلا ريب اتحادهم وارتباطهم معا، فان كلمة "قطيع" تصور القديسين لا كأفراد يتمتع كل منهم بعناية الراعي فحسب بل كقطيع "رعية واحدة" تسير تحت قيادة ورعاية "راع واحد".
* * *
وهذه صورة لها جمالها في عيني المسيح، فكما ان المؤمنين لهم جمالهم ولهم مجدهم في خضوعهم للمسيح رأسهم _ هذا الخضوع المرموز إليه بالشعر، فان المسيح يراهم أيضا في جمال فائق كقطيع متحد وسائر تحت قيادته وينعم برعايته.
* * *
ان خضوعنا للراعي العظيم، وسيرنا وراءه بنفس واحدة، وثقتنا فيه وفي محبته تؤدي بنا إلى أطيب المراعي وأكثر دسما "على جبل جلعاد" هذا الجبل الذي تميز بخصوبة ودسم مراعيه "وأرد إسرائيل إلى مسكنه فيرعى كرمل وباشان وفي جبل أفرايم وجلعاد تشبع نفسه"(أر50: 19) "ارع بعصاك شعبك غنم ميراثك. .لترع في باشان وجلعاد كأيام القدم"(مي7: 14) فهل نحن متمتعون عمليا بهذه المراعي الغنية؟ وهل نحن سائرون معا بقلب واحد وفكر واحد بهداية وقيادة الراعي الكريم؟ وهل نحن في حالة التكريس والخضوع لعريسنا المبارك؟ ان في ذلك مجدنا وعزنا، وفيه نرى في جمال عملي في عيني عريسنا المبارك.
* * *
* ع3 في كل الترجمات هو "شفتاك كسلكة من القرمز وكلامك حلو" أو كلام شفتيك حلو.
ص 4، آية 2
2-"أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل اللواتي كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم".
هذه صفة من الصفات الجميلة في عيني العريس، فهو يرى عروسه جميلة في أسنانها، والأسنان تشير إلى القدرة على فهم كلمة الله والتغذي بها. ان اللبن هو طعام الأطفال الذين ليست لهم "أسنان" بها يمضغون "الطعام القوي" ولكننا إذ ننمو في النعمة تصير لنا القدرة على تناول "طعام البالغين". . . أعني التغذي بالمسيح نفسه. ان الرب في نعمته قد جهز لنا في كلمته أطعمة دسمة وشهية، وسروره هو في ان يرانا قادرين على الاستفادة منها والتغذي بها. لقد وجدت في العهد القديم أطعمة متنوعة وكلها ترمز إلى المسيح، فخروف الفصح والمن والحنطة والخبز _ هذه وغيرها تشير إلى المسيح كطعام وشبع الحياة الروحية، والرب له المجد قال عن نفسه أنه "خبز الله النازل من السماء" (يو6) ولكن ما لم تكن لنا "الأسنان" أي القدرة على التغذي بهذه الأطعمة الغنية فلا يمكن ان نستفيد أو نتقوى روحيا.
* * *
ويصور العريس أسنان عروسه بأنها "كقطيع الجزائز" أي كقطيع الغنم المجزوزة * والغنم أو الخراف، في كلمة الله تشير دائما إلى المؤمنين الحقيقيين الذين صارت لهم طبيعة جديدة أي صاروا "شركاء الطبيعة الإلهية". (2بط1: 4) فإذا أردنا ان نتغذى بالمسيح وبالأطعمة الروحية التي أعدتها لنا نعمته في كلمته فلا بد من ان تكون لنا طبيعة تستطيع ان نتغذى بهذه الأطعمة وان تنمو بها، أما إذا لم يكن هناك شيء روحي جديد في النفس فأنها لا تستطيع ان تجد في المسيح شيئا تشتهيه وتتغذى به. يجب ان يكون هناك توافق بين النفس والمسيح، فالذين "ولدوا من زرع لا يفنى" يتميزون بان لهم القابلية الروحية للتغذي بالمسيح وبكلمته، أما الإنسان الطبيعي فلا يستطيع ذلك إذ ليس فيه أو في طبيعته الساقطة أي ميل إلى مثل هذا الطعام الروحي.
* * *
ثم ان العريس يصور أسنان عروسه بأنها كقطيع "الجزائز" أي الغنم المجزوزة التي تنتج صوفا لفائدة الآخرين، فطالما كنا نتغذى بالمسيح وبكلمته فلا بد ان نثمر لمجد المسيح وبركة الآخرين، كما أنه بقدر ما يزداد ثمرنا الروحي بقدر ما تزداد قابليتنا أيضا للتغذي بكلمة الله وبالرب يسوع طعام الحياة الجديدة.
قد ميّز الله الغنم بالصوف ليكون لفائدة ونفع الآخرين، وفي هذا درس عملي لنا. أننا لسنا لأنفسنا، وكل ما وهب لنا من بركات وعطايا روحية وزمنية هو لمجد الرب ولخير الآخرين، فواجبنا أذن هو ان نكرس كل كياننا لتمجيد سيدنا وبركة الآخرين. لقد كان سيدنا له المجد "كنعجة صامتة أمام جازيها" وقد ترك لنا مثالا لكي نتبع آثار خطواته، لقد أتى إلى عالمنا لا لكي يخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين. ليتنا نقتفي أثر خطواته فنثمر لمجد الله ولفائدة الغير.
ويصور الرب أسنان العروس بأنها كقطيع الجزائز "الصادرة من الغسل" وفي هذا تعليم له أهميته وخطورته، فأنه لا قيمة لكل أعمالنا وخدماتنا إذا لم تكن مقترنة بالغسل، بل ربما لا نشعر بشيء من الفائدة الروحية في ممارستنا لوسائط النعمة، كحضور الاجتماعات الروحية أو درس كلمة الله، والسر في ذلك هو إهمال أمر "الغسل" فان "غسل الماء بالكلمة"(أف5: 26) هو تنقيتنا من كل ما لا يوافق المسيح أو لا يليق بنا كخاصته. أننا إذا لم نخضع كياننا بجملته لكلمة الله الفاحصة، ولم نعرض كل ناحية من نواحي حياتنا لنورها الإلهي لتنقيتنا وتقديسنا فأننا نفقد الشهية للتغذي بالطعام الروحي _ المسيح "خبز الحياة".
* * *
وأخيرا نتميز الخراف بالثمر الكثير "كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم" أعني ان كل واحدة من هذه الخراف تلد توأمين _ أي أثنين، وإذا كانت كل واحدة تلد في كل مرة أثنين فلا بد ان ينمو ويتزايد سريعا عدد القطيع ازديادا مطردا، وكم يكون حسنا وجميلا في عيني الرب ان كل واحد منا نحن المؤمنين يأتي من حين لآخر بنفسين إلى المسيح. لقد وجد اندراوس أولا أخاه سمعان وأتى به إلى المسيح، ومن المحقق أنه أتى بعد ذلك بنفوس أخرى كثيرة للمسيح. أنه ليس بحسب فكر الرب ان يكون أي واحد من المؤمنين عقيما بلا ثمر "ليس فيهن عقيم". ان ربنا المبارك يريد من كل واحد من المؤمنين ان يكون عاملا على تكاثر وازدياد المؤمنين الحقيقيين، ومتى كان هناك اهتمام صادق بهذا النوع من الثمر فان القابلية الروحية فينا تتزايد للتمتع بالطعام الروحي، وكلمة الله تصير لها في نفوسنا قيمة عظمى وغلاوة فائقة عندما نختبر فرح الإتيان بنفوس أخرى لتعرف قيمة هذه الكلمة.
* * *
* كقطيع الجزائز A fiock of sheep that are even shorn.
ص 4، آية 3
3-"شفتاك كسلكة من القرمز وفمك حلو. خدك كفلقة رمانة تحت نقابك".
ان كانت أسنان العروس تشير إلى القدرة على التغذي بالطعام القوي كما سلفت الإشارة، أو بالحري إلى ما يدخل فينا من طعام فان شفتيها تشيران إلى ما يخرج منا، وما يخرج من شفاهنا هو بلا ريب ثمرة ما تناولناه من طعام، فالحياة الباطنية التي تتغذى بالطعام الروحي يظهر جمالها في كلامها الحلو "شفتاك كسلكة من القرمز وفمك (أي كلام فمك) حلو" فأنه بقدر ما يتغذى "الإنسان الداخل" بقدر ما يتغير المؤمن إلى صورة المسيح، وتكون الشفاه المرآة الظاهرة التي تعبر عن الكيان الداخلي "الإنسان الصالح من كنـز قلبه الصالح يخرج الصلاح. والإنسان الشرير من كنـز قلبه الشرير يخرج الشرور. فأنه من فضلة القلب يتكلم فمه"(لو6: 45)، ان أسنان العروس تعبر عن النضوج والقوة ولا علاقة لها بحالة الطفولة، فهي تدل على "الخبرة في كلام البر" وعلى "الحواس المدربة على التمييز بين الخير والشر" وان النفس قد أدركت غنى النعمة التي في المسيح السماوي المقام من الأموات (انظر عب5: 12-6: 3) ومتى تغذت النفس في الداخل بهذه الحقائق الجوهرية الغنية فان الشفاه تلهج بما امتلكته النفس في الباطن.
* * *
ان كل صفة من صفات الجمال التي للعروس هي مكتسبة من المسيح، لأنها _ أي العروس "من لحمه ومن عظامه" كما كانت حواء من آدم _ من لحمه ومن عظامه، وإذا تأملنا في شفتي العريس المبارك ربنا يسوع فأننا نرى كيف "انسكبت النعمة على شفتيه"(مزمور45: 2) وكيف تدفقت "كلمات النعمة الخارجة من فمه"(لو4: 22) وهو له المجد يريد ان نتمثل وتتشبه عروسه به فيكون كلامنا، بالنعمة كما كان هو له المجد "ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحا بملح"(كو4: 6: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كل ما كان صالحا للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين"(أف4: 29) وكم هي جميلة هذه الصفة في عيني المسيح، فان جمال العروس الذي يتغنى به العريس هنا في هذه جمال عملي. أنه جمال روحي وأدبي لمسرة وشبع قلب سيدنا وربنا يسوع.
* * *
ويصف العريس شفتي العروس بأنهما كسلكة من "القرمز" والقرمز يشير إلى دم المسيح الذي به اغتسلنا، وكم هو جميلة ان يكون عمل المسيح فوق الصليب ودمه الكريم موضوع حديث القديس ولهجه في كل حين "لأني لم أعزم ان أعرف شيئا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا"(1كو2: 2) ثم "حاشا لي ان افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم"(غل6: 14). لقد كانت شفاهنا دنسة ولكن تبارك اسم إلهنا فان ربنا يسوع قد صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا، لقد "غسلنا من خطايانا بدمه" فعوض الشفاه النجسة قد صارت الشفاه النقية القرمزية اللون _ شفاه المؤمن المغفور الأثم "وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا"(1كو6: 11).
عندما أظهر الرب مجده لأشعياء، رأى نفسه أدبيا كأبرص نجس فصرخ قائلا "ويل لي أني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين" فطار إليه واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح "الذي يشير إلى الصليب" ومس بها فمه وقال له "ان هذه قد مست شفتيك فانتزع أثمك وكفر عن خطيتك" (أش6).
قد كان هناك وقت فيه كان لسان حالنا "شفاهنا معنا (أي ملكنا). من هو سيد علينا؟"(مزمور12: 4) ولكن شكرا لإلهنا إذ قد انقضى ذلك الوقت عندما اعترفنا بأفواهنا بيسوع ربا (رو10: 9) وهذا معناه أننا قدسنا الرب إلهنا في قلوبنا وبالتالي قدسناه بشفاهنا.
* * *
كذلك يشير "القرمز" إلى سيادة الرب وحقوقه الملكية (انظر مت27: 28و29). عندما ربطت راحات "حبل القرمز في الكوة"(يش2: 21) كان ذلك اعترافا بإيمانها بالرب: (عب11: 31) كما كان صورة رمزية لاحتمائها في نعمته الغنية، فان كانت شفاهنا قد اعترفت بيسوع ربا فأنها وكل ما تنطق به يكون متوافقا مع اعترافنا هذا، فلا نستطيع ان نقول فيما بعد بان "شفاهنا معنا (أو ملكنا) وأنه ليس لنا سيد علينا" بل ان كل ما ننطق به يبرهن على ان لنا ربا وان شفاهنا هي لمدحه وحمده وخدمته وعندئذ تكون "كسلكة (أو خيط) من القرمز".
* * *
وان كانت شفاهنا قد استخدمت وتستخدم في التحدث بأمور روحية سامية فلا يليق ان تكون آلة للجسد، والرسول يعقوب ينهانا عن استخدام الفم الواحد في البركة واللعنة "من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة؟ لا يصلح يا أخوتي ان تكون هذه الأمور هكذا"(يع3: 9-11) فإذا كنت بشفتي أبارك الرب والله الآب فينبغي ان يكون ما أتحدث به للناس أو لأخوتي المؤمنين متوافقا مع ذلك. لقد كانت شفتا الرب المبارك جميلتين في كل ما خرج منهما "هوذا شفتاي لم امنعهما أنت يا رب علمت. لم أكتم عدلك في وسط قلبي. تكلمت بأمانتك وخلاصك. لم أخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة"(مز40: 9و10) لقد كانت شفتاه الطاهرتان "كسلكة من القرمز" تتحدثان دائما في أمانة كاملة لله وفي نعمة فائقة للبشر، نعم لقد كانت شفتا الإنسان الكامل لمسرة قلب الله ولمجده، وهذا ما يجب ان تكون عليه شفاهنا بنعمته تعالى، فنملأ قلبه سرورا بالأسلوب الذي يكون عليه حديثنا، ومتى كان هدفنا إرضاء ذاك الذي أحبنا والذي نحن نحبه فلا بد ان يكون لذلك تأثيره الدائم في قلوبنا وعلى أفواهنا "لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب صخرتي ووليي"(مز19: 14). ليتنا نقدم إليه "عجول شفاهنا"(هو14: 2).
"خدك كفلقة رمانة تحت نقابك" وهذه أيضا صورة أخرى من صور الجمال التي يتحدث بها العريس لعروسه، والمعروف عن الرمانة الفاكهة اللذيذة الطعم ان لونها من الداخل بعد كسرها هو مزيج من الحمرة والبياض، وإذ هي "تحت نقابها" ففي ذلك إشارة إلى الحشمة والحياء وإنكار النفس التي تجملنا في عيني المسيح. لقد كان ينطبق علينا ما قيل عن بيت يعقوب "أنك قاس وغضل من حديد عنقك وجبهتك نحاس"(أش48: 4) ولكن ما أعظم التغيير الذي فعلته النعمة! فها هو الرب يرى في حبيبته جمال الوداعة ونعمة التواضع.
* * *
يرى العريس خدي عروسه كفلقة (أو قطعة) رمانة "تحت نقابها" فالعروس لا تبغي ان تتباهى بشيء من جمالها، لأنه لا فضل لها فيه بل ان النعمة هي التي خلعته عليها. ان لون الرمان الأحمر والجميل كان على خدي العروس ولكنها وارته تحت نقابها، وهذه هي أسمى حالة روحية تليق بكل قديس، فان أعظم سمو في الحياة الروحية الباطنية هو لمدح ولمسرة قلب الله دون سواه، وفي اللحظة التي يبغي المؤمن فيها إظهار ذاته أمام الآخرين فأنه يفقد جمال تلك الحياة الروحية، فما ينشئه فينا الروح القدس من ثمار النعمة هو لشبع قلب الرب يسوع والله الآب، لا لإظهار ذواتنا أو الافتخار بها.
وما أجمل التوافق بين صفة الجمال هذه وبين كلمات الرب في الإصحاح السادس من إنجيل متى عن الصدقات والصلوات والاصوام، وهذه أمور جوهرية ولها أهميتها وجميلة في عيني الرب ولكن يجب ان تعمل تحت النقاب. يجب ان تمارس تحت نظر الآب وليس لكي "نمجد من الناس"، والعروس تقنع برضى تام بان يرى جمالها من هذه الناحية في عيني حبيبها.
ان عمل البر _ كالصدقات وغيرها هي من الأمور الواجبة واللائقة بالقديسين ولكن الرب يحذرنا بالقول "احترزوا من ان تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم" فليس الغرض من أعمال البر هو إظهار ذواتنا وإلا فأنها تفقد قيمتها وجمالها أمام الآب، كما أنه يليق بالقديسين ان يصلوا في كل حين وبلا انقطاع، ولكن يجب ان تكون هذه "في الخفاء" فان المخدع والباب المغلق لازمان جدا. صحيح ان للقديسين شركة في الصلاة معا، ولكن ذلك ليس لإظهار ذواتهم بين الناس، فان ذلك يؤول إلى انتفاخ الجسد المتدين أو الدين الجسدي. ان العريس هنا يعبر عن تقديره لعروسه ولجمالها الذي يراه "تحت النقاب" أنها في حجاله _ في حضرته أي في "الدخول إلى الأقداس" ترى بغير النقاب "بوجه مكشوف" أما في الخارج وأمام الغير فلا بد من "النقاب" وهذا يزيدها جمالا في عيني حبيبها. ان عمل النعمة ينشئ فينا سجايا ويكون فينا اختبارات سرية بيننا وبين الرب، وهذا ما يحفظنا من كل صور الرياء الديني. أنه يكسونا بجمال حقيقي وعملي في عيني الحبيب، وليس هناك ما هو أجمل في عينيه من حياة التكريس الباطنية. أنه "يسر بالحق في الباطن".
حقا ما أجمل التوافق بين صفات العروس هنا وبين الجمال الروحي والأدبي المشار إليه في أقوال الرب المعرفة "بالموعظة على الجبل" ففي النشيد نرى عمل المسيح في نفوس خاصته بلغة شعرية سماوية وبأسلوب رمزي بينما في أقوال الرب الوعظية سالفة الذكر نرى ذلك عينه بأسلوب واضح وبسيط، ولغة سفر النشيد الرمزية يمكن تفسيرها وفهمها فهما صحيحا في نور العهد الجديد بواسطة أولئك الذين تميزوا بالتقوى العملية الحقيقية وبالمحبة القلبية الصادقة للمسيح.
* * *
صحيح ان أمامنا وجها آخر في كلمات الرب "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات"(مت5: 16) وهذه هي الناحية العلنية المتعلقة بشهادتنا أمام الآخرين، فكل ما لدينا من نور من الله يجب ان يضيء لا ان يخفى تحت المكيال، ولكن ذلك ليس لابرازنا أو إظهار ذواتنا _ الأمور الذي يتطلب منا سهرا مستمرا _ بل لمجد إلهنا وأبينا.
ص 4، آية 4
4-"عنقك كبرج داود المبنى للأسلحة. ألف مجن علق عليه كلها أترأس الجبابرة".
يشير العنق في كلمة الله إلى العزيمة القوية والثبات في القصد، سواء للخير أو للشر، فكثيرا ما نقرأ عن أناس بأنهم "شعب صلب الرقبة" أو "قساوة الرقاب" وقصد الإنسان الطبيعي دائما في ان يفعل ويتمم إرادته الذاتية لإشباع رغباته وتمجيد ذاته، ولكن عندما تتدخل النعمة وتعمل عملها المبارك فان قصد الإنسان يتخذ طريقا جديدا مغايرا تماما لطريقه الأول، فعندما تحمل النفس بنعمة الله نير المسيح فان تغييرا كاملا وشاملا يحدث في تلك النفس، ولا يمكن ان تكون هناك صورة توضح هذه الحقيقة تماما مثل حالة شاول الطرسوسي، وإذا كان هناك إنسان "قاس وعضل من حديد عنقه"(أش48: 4) فهو شاول الطرسوسي، ولكن الرحمة أدركته من سماء المجد وأخضعته تماما، فعندما قال "يا رب ماذا تريد ان أفعل؟" كان قد حمل نير المسيح بالحقيقة على عنقه، وكان من تلك اللحظة له القصد الثابت في ان يعرف إرادة الله ويتممها.
* * *
ويذكرنا "برج داود" بان داود الذي كان رمزا لربنا يسوع هو الإنسان بحسب قلب الله والذي كان سيصنع كل مشيئته (أع13: 11) ويا له من انتصار للنعمة، فبدلا من الإرادة الذاتية التي تظهر في قساوة الرقبة وعنادها ضد الله، فان النفس تصير كبرج داود، إذ صار لها القصد الثابت والعزيمة القوية لعمل إرادة الله والانتصار على كل ما يغاير مشيئته المقدسة.
قال الرسول بولس للكورنثيين "إذا يا أخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين" (1كو15: 58) كما أنه استطاع ان يقول لابنه تيموثاوس "وأما أنت فقد تبعت. . قصدي"(2تي3: 10) كما استطاع أيضا ان يقول "أني موضوع لحماية الإنجيل"(في1: 17) فنرى فيه شخصا كان عنقه "كبرج داود" لقد عرف إرادة الله كما هي في المسيح يسوع وقرر بعزم راسخ وأكيد ان يدافع عنها في مشهد كان بجملته مناصبا ومعاديا لها، وصفة كهذه هي صورة من صور جمال العريس التي كانت عينا حبيبها مستقرتين عليها ومتلذذتين بها.
عندما وضع بريسكلا وأكيلا عنقيهما من أجل حياة بولس كانا في ذلك مضحيين بحياتهما للدفاع عن الشهادة لله ولحق المسيح.
وقد كان استفانوس صورة جميلة للعنق الذي "كبرج داود" فقد واجه بقصد ثابت لا يتزحزح كل مجموع اليهود _ كل الجماعة العظيمة والمكرمة في إسرائيل، وجاهر أمامهم بكل قوته وبشجاعة كاملة بشهادة الله، وان كان وجهه رؤي حتى من أعدائه كوجه ملاك فكم كان ذلك الوجه جميلا في عيني ذاك الذي نظر إليه من أعالي مجده. نعم لقد كان جميلا في وجهه وفي عنقه، وكان الرب له المجد يقول له ولكل الذين يماثلونه في أمانتهم ولو في أصغر درجة أو مقياس "ها أنت جميل يا حبيبي".
ان "الجبابرة" الذين أترأسهم هي "ألف مجن" يرسمون أمامنا جيشا متحدا ومهيئا للدفاع، وهذا يوافقه ما قاله الرسول بولس للقديسين في فيلبي "فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح حتى إذا جئت ورأيتكم أو كنت غائبا أسمع أموركم أنكم تثبتون في روح واحد مجاهدين معا بنفس واحدة لإيمان الإنجيل"(في1: 27) فالصورة هنا ليست صورة فرد بل صورة جماعة متحدة برأي واحد في جهادها المقدس، وأنه ليست هناك ثغرة متروكة للعدو لكي يعطل الشهادة لله ولحقه.
* * *
ثم لقد كان برج أسلحة داود مزدانا بغنائم نصراته، فهو رجل حرب خلصه الرب من يد جميع أعدائه وبذا مهد الطريق لملك السلام في عهد سليمان ابنه، ولكن ماذا تكون نصراته هذه بالمقابلة مع نصرات المسيا؟ ان الكتاب المقدس هو بمثابة سجل لنصرات المسيح في كل التدابير. فعنق العروس الشبيه بالبرج المزدان بكثير من الجواهر يرسم أمامنا ما ستجريه النعمة المنتصرة مستقبلا في البقية المختارة من شعب الرب الأرضي، فان كنا نرى إسرائيل كشعب عنيد "قاس وعضل من حديد عنفه" (أش48: 4) ولكن سيجيء عاجلا الوقت الذي فيه ستنتصر النعمة وتجري عملها في البقية المشار إليها، وعندئذ ينكسر نير الأثم عن عنق ابنة صهيون فتبدو جميلة ومزينة مثل برج داود "استيقظي استيقظي ألبسي عزك يا صهيون ألبسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة. . . أنحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون"(أش52: 1و2).
ص 4، آية 5
5-"ثدياك كخشفتي ظبية (*) توأمان يرعيان بين السوسن"
هذه هي الصفة السابعة من الصفات التي فيها ترى العروس جميلة في عيني عريسها، فالثديان هما رمز التطور والنمو الروحي، كما أنهما يتحدثان عن تكريس القلب والعواطف للمسيح، لقد أفسحت العروس مكانا في قلبها وعواطفها لعريسها الحبيب "بين ثديي يبيت"(ص1: 13) وإذ وجد هو راحته في أحشاء عروسه وعواطفها لذا يتغنى متحدثا إليها عما وجده في قلبها من محبة صادقة له _ هذه المحبة التي يسر بها كما يسر الزوج بمحبة زوجته التي تكون له كالظبية المحبوبة لان ثدييها يرويانه في كل وقت (أم5: 19) لقد كانت صلاة بولس لأجل القديسين في أفسس ان يحل المسيح بالإيمان في قلوبهم (أف3) فهلا نحني نحن أيضا ركبنا باستمرار أمام إلهنا وأبينا لكي نتمتع بهذه الغبطة المقدسة _ غبطة حلول المسيح بالإيمان في قلوبنا؟
* * *
ثم ان العريس يشبه ثديي عروسه بأنهما "كخشفتي ظبية توأمين" أي غزالتين صغيرتين، وفي هذا إشارة إلى رقة العواطف ودقة الإحساس الروحي، فالظباء تتميز بالحياء كما بالحس المرهف وبدقة الشعور بأي شيء مزعج أو مكدر يدنو منها فتبادر بالهرب منه بأقدام خفيفة وسريعة (أنظر 2صم2: 18)، وان ربنا المبارك يريدنا ان نربي ونهذب أنفسنا فتكون لنا الحواس المدربة فنصحو ونسهر ضد كل أمور العالم أو حركات الجسد أو حيل إبليس، وامتلاك هذه الحساسية المقدسة والاحتفاظ بها يتطلب منا التغذي المستمر بالطعام الروحي والشركة المستمرة مع الرب، فان خشفتي الظبية "يرعيان بين السوسن" وهذا هو المكان الذي فيه يرعى الرب المبارك قطيعه (ص2: 16، 6: 3) وبما ان العروس نفسها هي "كالسوسنة بين الشوك"(ص2: 2) فان عواطفها يجب ان تتغذى بما يتفق مع طبيعتها الجديدة، وما أجمل وأمجد هذا المكان الذي هيأته لنا النعمة بين السوسن.
* * *
والثديان هما أيضا رمز التغذية، أعني تغذية الآخرين ونموهم وبركتهم، ومن هنا ندرك علة المفارقة القائمة بين العروس وأختها الصغيرة التي يقال عنها في ختام هذا السفر "لنا أخت صغيرة ليس لها ثديان"(ص8: 8) فيرى البعض من توفر نمو العروس ومن انعدامه في "الأخت الصغيرة" إشارة إلى الحالة الروحية التي سيكون عليها يهوذا (أي السبطان) من جهة، وأفرايم (أي العشرة الأسباط) من جهة أخرى في المستقبل. فأنه حينما يلتقي الأسباط الاثنا عشر معا مرة أخرى سيكون الفارق ملموسا وواضحا، فمع ان العشرة أسباط (المعبر عنهم بأفرايم) سوف يتمتعون بنتائج البركة التي صارت لأخوتهم _ أي للسبطين، إلا ان أفرايم سيظل بعيدا إلى درجة ما عن تلك التدريبات القلبية العميقة التي سيجتازها يهوذا بالنسبة للمسيا، ومن ثم لا يكون لهم التطور الروحي الذي سوف تنشئه تلك التدريبات، فأنه بعد سبي الأسباط العشرة أتى المسيح له المجد إلى هذا العالم ورفض وصلب، ثم قبل جمعه إياهم من بين الأمم وإتيانه بهم إلى الأرض سيكون قد أعلن نفسه ليهوذا كمن سيأتي بالقوة والمجد.
* * *
ان كان الرب يتحدث إلى عروسه عن صفات الجمال السبع _ أي الكاملة العدد التي في نعمته ومحبته يراها فيها فذلك لأنه يرغب في ان تكون العروس مدركة وعالمة بهذه الصفات التي يراها فيها. ويجب ان معرفتنا هذه لا تقودنا إلى تعظيم ذواتنا بل إلى تعظيم نعمته الفائقة لان هذه كلها هي ثمرة موته لأجلنا، كما ان إظهار هذه الصفات الجميلة بكيفية عملية يتطلب منا الحكم على الذات وإدانة كل ما هو من الجسد، والتحرر بنعمة الرب وبعمل الروح القدس من كل ما كنا عليه بحسب الطبيعة. ان الرب الحبيب يريد أيضا ان يطلعنا على نواحي الجمال التي يرانا فيها لكي يشجعنا على التجمل عمليا بهذه الصفات المباركة ولإظهار جماله هو في حياتنا وذلك لمسرة وبهجة قلبه، فجدير بكل مؤمن حقيقي ان يناحي نفسه في كل صباح ومساء وبلا انقطاع قائلا "ان الله قد أتى بي بنعمته إليه ليجعلني كالمسيح لذا فان أي شيء ليس من المسيح ولا أكون فيه مثله لا يليق بي" ان جمال العروس يتجلى في رفض كل ما لا يتفق مع المسيح، وبقدر ما نـزداد تعرفا بالمسيح وشركة معه يزداد تمثلنا به.
(*) خشفتي ظبية أي غزا لتين صغيرتين جدا
ص 4، آية 6
6-"إلى ان يفيح النهار وتنهزم الظلال أذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان".
أنه عندما يفيح النهار وتنهزم الظلال سيصير كل القديسين مثل المسيح ومعه كل حين، أنهم سيلبسون صورة السماوي، ولكن يجب عليهم الآن ان يتمثلوا به ويتغيروا إلى صورته، وهذا ما يريده العريس من نحو عروسه، أنه يريدها ان تصحبه إلى "جبل المر وإلى تل اللبان" حيث يمكنها ان تمتلك الكثير من عطوره المقدسة التي له وليست لآخر سواه. هذه هي نفس دعوة الإنجيل لكل مسيحي حقيقي "ان كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله"(كو3: 1) فالمسيحي بالحق مدعو لان يتبع المسيح إلى جبل المر وإلى تل اللبان "فان سيرتنا نحن (أي الدولة التي صرنا تابعين لها) هي في السموات"(في3: 20) لقد أجلسنا في السماويات في المسيح يسوع وهناك نستطيع ان نستمتع برائحة المر واللبان.
* * *
ويحدثنا "جبل المر" أيضا عن محبة المسيح التي تجلت في آلامه حتى الموت _ موت الصليب، فهناك في الجلجثة قدموا له خلا ممزوجا بالمر، وليس شيء يستطيع ان يؤثر على القلب نظير التأمل في محبة المسيح المتألم، فلا البركات الممنوحة لنا ولا الأمجاد التي تنتظرنا تستطيع ان تهيمن على القلب والعواطف نظير محبة المسيح المعلنة في آلامه وصليبه، فأنه كالملك الممجد سوف "ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له. . . ويخلص أنفس الفقراء"(مز72) ولكن كم يكون تعلق قلوب المساكين والفقراء به عندما يعلمون أنه "في كل ضيقهم تضايق"(أش53: 4)! لقد كان له المجد "رجل أوجاع ومختبر الحزن" والفصح في العلية، جثسيماني، والجلجثة ترسم أمامنا "جبل المر" وهو يقودنا إلى هناك لندرك أكثر فأكثر محبته التي أحبنا بها إلى المنتهى.
* * *
أما "تل اللبان" فأنه يرسم أمامنا خدمة ربنا يسوع المسيح رئيس الكهنة العظيم، فان أفكار الله الآب ومشورات نعمته من نحونا قد ذخرها لنا في قلب ابنه الحبيب _ الابن المبارك الذي قدس ذاته لأجلنا (يو17). ان ربنا يسوع دائم المشغولية بخاصته إذ هم في فكرة وأمام نظر عينيه في كل حين، وما أسمى أفكاره وأفكار أبيه من نحوهم! والأحجار الكريمة التي رصعت بها صدرة رئيس الكهنة كانت تمثل الأسباط الاثني عشر الذين نقشت أسماؤهم على تلك الأحجار الغالية والتي كانت ترى داخل الأقداس في لمعان باهر وجمال فائق معلنة أفكار النعمة الإلهية حيث لا أثر فيها لضعفات الشعب وفشله.
وأنه يلذ لربنا الحبيب ورأسنا المبارك ان يطلعنا على ما لنا في قلبه وفي قلب الآب، فجبل المر وتل اللبان يرسمان أمامنا السمو الذي أوصلنا إليه والذي يريد الرب ان ترقى إليه نفوسنا روحيا وذلك بالتفرس في محبته التي بينها في صلبه وموته، وأنه من امتيازنا ان نرقى ونسمو إلى جبل المر وتل اللبان قبل ان يفيح النهار وتنهزم الظلال فتفيض قلوبنا سجودا وتعبدا له _ السجود الذي تفوح رائحته العطرية، رائحة اللبان المنعش لقلب سيدنا الذي له كل المجد.
ص 4، آية 7
7-"كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة".
إذا ارتقت العروس برفقة عريسها إلى "جبل المر وإلى تل اللبان" فهو في محبة لا قياس لها وعواطف إلهية فائقة يناجيها "كلك جميل يا حبيبتي" لقد سبق ان قال لها "ها أنت جميلة يا حبيبتي"(عدد1) وها هو يؤكد لها مرة أخرى بأنها جميلة كلها وليس فيها أي عيب. ما أعجب محبتك يا ربنا وسيدنا وما أغنى نعمتك! نعم مات ربنا المبارك نيابة عنا وبذا سترت كل خطايانا ومحيت كل آثامنا. لقد غاصت كلها كالرصاص في أعماق البحر. أنه نسيها إلى الأبد ولا يعود يذكرها فيما بعد "أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه" لاسمه المعبود كل الحمد والثناء. وان الله "بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" لقد صرنا خليقة جديدة "الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا". ويا لها من كلفة كبيرة قد تكلفها المسيح في سبيل تطهيرنا من خطايانا وجعلنا قديسين وبلا لوم قدام الله أبيه "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب" (أف5: 25-27). فما أعجب محبة العريس ونعمته إذ يرانا في جمال كامل، ومع أننا لا نستطيع ان ندرك سمو هذه المحبة إدراكا كاملا ولكننا نفرح ونبتهج بها ونحبه أكثر لأنه هو أحبنا أولا.
ص 4، آية 8
8-"هلمي معي من لبنان يا عروس معي من لبنان. انظري من رأس أمانة من رأس شنير وحرمون من خدور الأسود من جبال النمور".
رأينا فيما سلف كيف ان العريس في نعمته الفائقة يتحدث إلى العروس عن محبته لها وإعجابه بها وبجمالها وأنه ليس فيها عيبة، ولكنه في الوقت نفسه إذ يرى الأخطار المحدقة بها يدعوها لتأتي معه "هلمي معي" حيث النجاة والأمن.
أننا في اللحظة التي تنحرف فيها قلوبنا عنه نكون على مقربة من "خدور الأسود" فان مباهج هذا العالم وملذاته التي تجتذبنا صوبها توارى خلفها ألد أعدائنا وأشدهم فتكا بنا "فلبنان" (أي أفكارنا المتعالية عن أمجاد العالم المزعومة ورفعته الوهمية هذه التي تخلب العقل وتفتن العين) يخفي وراءه الأسود المفترسة والنمور الشرسة، فجدير بنا ان نتثبت من هذه الحقيقة وهي ان أجمل مناظر الأرض وجاذبياتها تستر بين طياتها أخبث الأعداء وأشد خطرا على كياننا الروحي _ أعداء أخبث وأعنف من الأسود والنمور، فكم من أولاد الله قد جذبتهم الرغبة الملحة في التشبه بالعالم، والبعض منهم قد خدعتهم أشياء قد تبدوا أنها بريئة كمعاشرة ومصاحبة غير المؤمنين أو قراءة الكتب التي تفتن الذهن ولكنها تجفف النفس، وكثيرون قد انساقوا وراء شهواتهم أو إرادتهم الذاتية فسلكوا الطريق التي تظهر مستقيمة في أعينهم، لكنها تنتهي بهم إلى "خدور الأسود وجبال النمور" ولكن تبارك اسم إلهنا فان عينا واحدة _ واحدة فقط هي التي تكتشف الخطر، وصوتا واحدا فقط هو الذي يجذب القلب بعيدا عن مواطن الخطر. نعم من هناك من "رأس أمانة من رأس شنير وحرمون" تنادينا المحبة الإلهية "تعالوا إلي" وإذ نسمو ونرتقي إلى هناك يصبح العالم تحت أقدامنا. ان "أمانة" معناها الصدق أو الأمانة، ففي دائرة الحق والبر والعيشة بالأمانة في رفقة الرب نحفظ غير عاثرين إلى النهاية.
* * *
وما أبدع الأسلوب الذي به يدعو الرب عروسه جاذبا إياها من مشاهد الخطر حين يقول لها هلمي معي. . . يا عروس معي" تعالي معي! ما أرقها كلمات كلها عطف وإشفاق! أنه لا يقول لها "أذهبي، ابعدي لان الخطر قريب منك. أنت على مقربة من خدور الأسود" بل يقول لها "هلمي معي من لبنان يا عروس هلمي معي من لبنان" فهو يريد ان يفطم قلبها عن لبنان _ عن مكان المباهج الأرضية لكنها المباهج المقترنة بالمخاطر الروحية. ان كلمات العريس هذه تنطق بأرق العواطف وأعمقها، وما أحلى كلمة "هلمي" أنها أحلى لسمعنا من كلمة "أخرجي" ففي الأولى معنى الشركة وفي الأخرى معنى الانفصال ولنراع ان الانفصال يسبق الشركة فلا يتسنى لنا ان نتمتع بالشركة الهنيئة والمباركة إلا إذا كانت حياتنا حياة الانفصال عن كل ما ليس من المسيح وللمسيح. له المجد.
نعم ان ربنا المبارك لا يريد لنا مجرد النجاة من "خدور الأسود وجبال النمور" بل أكثر من ذلك، فهو يريدنا ان نتمتع برفقته السعيدة لذا يكرر لعروسه القول "هلمي معي" أنها كلمة حلوة تزيل الخوف وتملأ القلب ثقة وفرحا مهما تكن الظروف، بل أكثر من ذلك فأنه تعلن سروره في مرافقة عروسه له، فوجودها معه سروره. يا لها من حقيقة عجيبة ومباركة ان الرب يجد مسرته بنا وفينا، وأنه يشتاق ان يوجدنا معه، ألا يكفي هذا لان يجتذب قلوبنا لنكون معه ونسير برفقته هنا قبل ان نكون معه في المجد.
* * *
بقي ان نلقي نظرة عابرة على البقية التقية _ أي الأمناء في يهوذا في يومهم القادم، الذين يرسم أمامنا هذا السفر آمالهم وعواطفهم وأشواقهم نحو المسيا، فأننا نراهم خلال ضيقتهم القاسية يعانون آلاما مبرحة عندما يطرح من السماء ذلك المشتكي _ إبليس _ الأسد الزائر وبه غضب عظيم عالما ان له زمانا قليلا (رؤ12) والوحش الذي رآه يوحنا "شبه نمر" طالعا من البحر، وكذلك بالرغم من هؤلاء كلهم "الأسود والنمور" ومن ان عروس الرب الأرضية ستكون هناك في ذلك الحين فأنها ستصغي إلى تحذير العريس لها من هؤلاء الأعداء وبالتالي ستتمتع برفقة روحية مع عريسها فلا تستطيع تلك القوات الشريرة المحتشدة ضدها ان تعطل تلك القوة العظمى والنعمة الغنية والمحبة الإلهية من نحو تلك البقية، بل ستكون النصرة للمسيا الذي سيقضي على كل هؤلاء الأعداء وعندئذ ستملأ البركة والغبطة كل أرض عمانوئيل.
ص 4، آية 9
9-"قد سبيت قلبي يا أختي العروس قد سبيت قلبي بإحدى عينيك بقلادة واحدة من عنقك".
هنا يخاطب الرب خاصته بلقب جديد، فقد كان يدعوها قبلا "يا حبيبتي" أو "يا عروستي" أما الآن فأنه يدعوها "أختي" و"يا عروس" أو "يا عروسي" وهذا اللقبان نجدهما فقط في هذا الإصحاح وفي الإصحاح الذي يليه، والرب يبين هنا ان له بخاصته علاقتين، فهو ليس عريسا فقط، بل قد صار أخا لخاصته، لأنه "إذ تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما"(عب2: 14) أنه تبارك اسمه "البكر بين أخوة كثيرين" لان "المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي ان يدعوهم أخوة قائلا أخبر باسمك أخوتي"(عب2: 11، 12) والرب بعد قيامته من بين الأموات يعلن على التو تلك العلاقة المباركة في حديثه مع المجدلية "أذهبي إلى أخوتي وقولي لهم أني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم"(يو20: 17).
* * *
ومهما تكن سامية وجذابة تلك المناظر الخلابة في "رأس أمانة وشنير وحرمون" التي رأينا لمحة منها في العدد السابق، ومهما تكن مبهجة مشاهد تلك الجبال النضرة بحقولها وأزهارها، ومهما تكن غنية بالعطر والرياحين تلك الجبال جبال الأطياب فأنها لا تستطيع ان تستطيع ان تشغل فكر العريس أو تلهيه عن عروسه وعن إبداء إعجابه بها، فهو يرى فيها ما لا يستطيع ان يراه في غيرها، وماذا كانت مباهج الجنة في نظر آدم الأول بالمقابلة مع سروره الذي وجده في حواء؟ لقد كانت هي لا الخليقة _ قطعة من ذاته، فأنه إذ وقع عليه سبات عميق تكونت عروسه من جنبه، وإذ استيقظ من سباته ووجدها إلى جانبه _ تلك التي أعدها له الرب الإله في صلاحه قال على الفور "هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي"(تل2: 23) وعندئذ ملئ الفراغ، إذ لم يكن إلى ذلك الوقت قد وجد في خليقة الله الحسنة جدا ما يوافق رغبة قلبه.
* * *
على ان ما كان رمزيا بالنسبة للإنسان الأول صار حقيقة معلنة بالنسبة للإنسان الثاني "آدم الأخير"، فقد وقع عليه السبات العميق الصحيح _ سبات الموت، وكثمرة جنبه المطعون تكونت حواء ثانية _ كلها جميل في عينيه ولا عيب فيها _ حواء أخرى، الكنيسة التي هي جسده والتي ستقاسمه عما قريب أفراحه وسيادته في الخليقة الجديدة المفدية، وهناك في وسط أمجادها الكثيرة ستعكس حبه الذي كان أقوى من الموت. أنعجب أذن حينما نلمح على محياه البهجة والمسرة لكونها على شبهه تبارك اسمه؟ ان قوة الله وقدرته تستطيع ان تخلق عالما، أما المحبة الإلهية فهي وحدها التي تستطيع عن طريق الألم والموت ان تفدي الخطاة الهالكين وتخلع عليهم جملا مقدسا يكون لمسرة وشبع قلب الرب، فلا عجب أذن ان كان العريس يقول لعروسه "قد سبيت قلبي يا أختي العروس قد سبيت قلبي" يا لها من حقيقة تأسر وتسبي عواطف القديس المختون الأذن والقلب، إذ من هذا الذي يسبي قلب المسيح الكبير؟ أنه الخاطئ الذي خلصته النعمة. نعم يسبيه شخص اغتسل في دمه الكريم وازدان بفضائله الفائقة، لان ان كان _تبارك اسمه _ قد دفع هذا الثمن العظيم، وهو حياته الغالية التي بذلها لأجل عروسه لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة فكيف لا تكون محبوبة لقلبه محبة تفوق كل قياس؟ وان كان الثمن الذي دفع فيها لا يقدر فقيمتها كذلك لا تقدر، لاسمه المعبود كل السجود، فأنه هو الإنسان الفريد الذي مضى وباع كل ما كان له واشترى اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن (مت13: 44-46) فهل نعجب إذا ان كان له المجد يقول لها "قد سبيت قلبي"؟ أنه _ "يشتهي حسنها"(مز45: 11) وعما قريب سيراها في المجد "كعروس مزينة لرجلها"(رؤ21: 2).
* * *
ان ربنا يسوع لا يجد راحته أو شبعه سروره في هذا العالم الملطخ بالأثم والملوث بالدنس، والذي يحمل طابع الحية القديمة والخليقة الساقطة التي لا مكان لله في قلبها ولا علاقة لها به ولا تقدير عندما للمسيح ولمحبته، ولكن في وسط هذا المشهد الخرب يرى المسيح في قديسيه صفات وسجايا هي ثمرة عمل النعمة الإلهية، وهذه الصفات الروحية الأدبية هي جميلة في عينيه وتسبي قلبه، وقد كانت بيت عنيا صورة عملية توضح هذه الحقيقة، فهناك استطاع الرب يسوع ان يجد راحته وسروره "وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر"(يو11: 5).
لقد دخل الرب يسوع أورشليم والهيكل ولكنه لم يجد في أورشليم التي هي مدينته ولا في الهيكل الذي هو بيته من يقبله أو يرحب به "وإذ كان الوقت قد أمسى خرج إلى بيت عنيا"(م11: 11) فهناك في بيت عنيا كان الله قد عمل بنعمته في تلك العائلة فامتلأت قلوبهم بالمحبة والتقدير للمسيح كما ان قلب المسيح تعلق بهم وامتلأ محبة وتقديرا لهم.
* * *
يخاطب الرب عروسه قائلا أنك سبيت قلبي "بإحدى عينيك بقلادة واحدة من عنقك" قد تكون الإشارة هنا إلى كل فضيلة أو نعمة في المؤمن، وكل زينة روحية فيه، أو مسرة الرب بكل مؤمن بمفرده أو بشعبه كجماعة، فأننا محبوبون أفرادا وجماعة ومخلصون أفرادا وجماعة، وممجدون أفرادا وجماعة "أحبني وأسلم نفسه لأجلي" و "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها".
ثم أننا نرى في إشارة الرب هنا إلى عين العروس "إحدى عينيك" كيف أنه يقدر كل التقدير ما يراه فينا من التمييز والإدراك أو بالحري البصيرة الروحية الثاقبة أي أننا نرى كل الأشياء بحسب الفكر الإلهي، كما ان في قول الرب "قلادة واحدة من عنقك" إشارة إلى خضوع قلوبنا لكلمة الله، فسليمان يخاطب كل "ابن" قائلا بان تأديب الآب وشريعة الأم هما "قلائد لعنقك"(أم1: 8و9) ففي كلمات العريس إشارة إلى التعليم الإلهي الذي يجب ان يهيمن على كياننا وعندئذ يجد الرب سروره فينا ويبدي إعجاب محبته بنا "بإحدى عينيك بقلادة واحدة من عنقك".
ص 4، آية 10
10-"ما أحسن حبك يا أختي العروس كم محبتك أطيب من الخمر وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب".
يفتتح الروح القدس هذا السفر بكلمات العروس التي تحدثت بها إلى عريسها "لان حبك أطيب من الخمر. . . . نذكر حبك أكثر من الخمر"(ص1: 2و4) وها هو العريس يناجي عروسه بهذه الكلمات الحلوة _ كلمات النعمة الخارجة من فمه "ما أحسن حبك يا أختي العروس كم محبتك أطيب من الخمر" وغني عن البيان ان التصاق العروس بعريسها وشركتها معه هي التي أكسبتها من جمال صفاته وزينتها بمحبة قلبية صادقة له، فأنه بقدر ما تزداد علاقتنا بالرب وشركتنا معه تزداد محبتنا له وتعلقنا به.
لقد تعجب رؤساء اليهود وشيوخهم عندما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا وشجاعتهما في الشهادة للمسيح مع أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان ولكنهم عرفوا "أنهما كانا مع يسوع"(أع4: 13) فإذا ما كنا في صحبة المسيح وفي شركة مقدسة معه فلا بد ان تظهر صورته في حياتنا _ في أعمالنا وفي أقوالنا.
* * *
أليس عجيبا حقا ان يخاطب الرب عروسه بالقول "كم محبتك أطيب من الخمر؟" إذ ماذا تكون محبتنا له إذا نظرنا إليها في نور محبته هو _ "محبة المسيح الفائقة المعرفة؟" أنها بلا ريب ليست شيئا بالمقابلة مع محبته لنا.
يا رب قد أحببتني بحبك العجيب
حبي إزاء حبك لا شيء يا حبيب
ومع ذلك فأنه تبارك اسمه يقدر محبتنا له أكثر من تقديرنا نحن لمحبته هو. ان ربنا يسوع هو المتقدم في المحبة كما في كل الكمالات والسجايا المقدسة. وهذا يذكرنا بما فعله داود ويوناثان عندما "قبل كل منهما صاحبه وبكى كل منهما مع صاحبه حتى زاد داود"(1صم20: 41) ومع أننا نشعر في قرارة نفوسنا بان محبتنا له ليست شيئا بالمقارنة مع محبته، فان محبتنا له تنعش قلبه وعواطفه. وإدراكنا لهذه الحقيقة إدراكا صحيحا يوقظ مشاعرنا ويضرم المحبة في قلوبنا، فنحبه أكثر.
* * *
"وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب" من أين لها رائحة الأدهان الطيبة هذه؟ فقد كانت بحسب الطبيعة ميتة روحيا ورائحتها نتنة "حنجرتهم قبر مفتوح"(رو3: 13) ولكن النعمة الغنية _ نعمة ربنا يسوع المسيح قد غيرتها وصيرتها خليقة جديدة "الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا" وليس ذلك فقط بل إذ صارت للمسيح أخذت "روح المسيح" المسحة المقدسة _ الروح القدس الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرها، فهو الذي يرسم أمامها كمالاته وصفاته المباركة، ويقودها للسجود ولذا تخاطبه بروح تعبدية "لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهن مهراق"(ص1: 3) ففي شركتنا المقدسة والحلوة مع المسيح نكتسب من رائحة أدهانه الطيبة فتظهر رائحة المسيح الذكية في عيشتنا في القداسة، وهذا بكل يقين هو عمل الروح القدس فينا، وكل ما يصدر من عمل روح الله فينا هو رائحة أدهان طيبة ومنعشة لقلب المسيح "وأطيب من كل الأطياب" أنه أطيب من ما يمكن ان يصدر من الطبيعة مهما كان لطيفا وجذابا، إذ لا يمكن ان تكون هناك أطياب لها قيمتها في نظر العريس مثل رائحة أدهان العروس، فهي كالأطياب التي قدمتها ملكة سبا لسليمان "لم يكن مثل ذلك الطيب الذي أهدته ملكة سبا للملك سليمان"(2أخ9: 9). ليتنا نوجد في شركة أعمق مع عريسنا المجيد حتى نستطيع بعمل روحه فينا ان ننعش قلبه برائحة الأدهان الطيبة، فان من يعيش وسط الورود والرياحين والزهور العطرية تفوح منه رائحتها المنعشة، فلنحي في صحبة سيدنا المعبود فتظهر رائحته الذكية في كل نواحي حياتنا.
* * *
يتنبأ أشعياء عن الأمة الإسرائيلية في زمان ارتدادها القادم الذي فيه ستغوص في عبادة الأصنام بأنها ستذهب وراء الملك الكذاب "وسرت إلى الملك بالدهن وأكثر أطيابك وأرسلت رسلك إلى بعد ونـزلت حتى إلى الهاوية"(ص57: 9) ويا لها من حالة مروحة ستصل إليها تلك الأمة المرتدة فأنهم سيعملون كل ما يرضى "ضد المسيح" ويحببه فيهم، أما الأمناء منهم أي البقية التقية فأنهم إلى ان يظهر المسيا الملك الحقيقي سيتحملون الآلام بصبر كما تألم ملكهم قبلا في أيام جسده، وهو تبارك اسمه سيرى في صبرهم على المشقات التي يجوزون فيها رائحة أدهان طيبة منعشة لقلبه.
ص 4، آية 11
11-"شفتاك يا عروس تقتران شهدا. تحت لسانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان".
ان الشهد والعسل هما ثمرة المثابرة على العمل في صبر كثير وجهاد متواصل، فالنحلة تنتقل من زهرة إلى زهرة لتمتص ما فيها من حلاوة حتى تمتلئ منها فتستطيع ان تجود بالشهد لتغذية وإشباع الغير، وما أحوجنا إلى التغذي بالمسيح وبكلمته "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى" ما أحوجنا إلى المثابرة في درس كلمة الله بصبر وتدقيق حتى يتسنى لنا ان نختزنها في داخلنا ومن ثم تفيض قلوبنا بكلام صالح لمسرة قلب المسيح ولكي يعطي كلامنا نعمة للسامعين. ان الرب يصغي باستمرار إلى ما تنطق به شفاهنا "حينئذ كلم متقو الرب واحدة قريبة والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين في اسمه"(ملا3: 16).
* * *
ان كان ما يحدثنا الرب به في كلمته هو "أحلى من العسل وقطر الشهاد"(مز19: 10) فان كلماتنا إليه _ في الصلاة والسجود والتسبيح _ حلوة كالشهد ومشبعة لقلبه كالعسل واللبن لذا يناجينا "أسمعيني صوتك. . . لان صوتك لطيف"(ص2: 14). يا لها من نعمة فائقة فأننا نحن الذين كان ينطبق علينا هذا القول "سم الاصلال تحت شفاههم"(رو3: 13) قد اغتسلنا بدم المسيح وصارت لنا الشفاه النقية التي تنطق بتسابيح الرب، فلنحرص إذن على ان تكون أقوال شفاهنا مرضية أمامه، وعلى ان يكون كلامنا كل حين بنعمة "صالحا للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين"(أف4: 29، كو4: 6) ليتنا نحرص على ان تقطر شفاهنا دائما كلام شفقة وحلم ووداعة وحق وإيمان ومحبة ورجاء.
* * *
"ورائحة ثيابك كرائحة لبنان" ان الثياب تشير إلى الصورة الخارجية _ إلى عوا ئدنا وطرقنا وعلاقاتنا الظاهرة أمام الآخرين وثياب العروس لها رائحة منعشة كثياب عريسها الملك نفسه (مز45: 8) فرائحة ثياب العروس كرائحة "لبنان" العالي والمرتفع، أي ان حياتها الظاهرة أمام الغير هي حياة السمو والارتفاع الروحي أو بالحري حياة سماوية وتختلف كل الاختلاف عن حياة الغير، إذ وصلت روحيا إلى سمو أعلى وأرفع من مستوى هذا العالم، وهذا ما جعلها محببة إلى قلب المسيح، وهو له المجد يريدنا ان نبدو في شهادتنا العملية أمام العالم كأناس سماويين لنا رائحة عطرية "كرائحة لبنان" لأننا لسنا من العالم، كم ان سيدنا ليس من هذا العالم.
ص 4، آية 12
12-"أختي العروس جنة مغلقة عين مقفلة ينبوع مختوم".
هنا يرسم العريس أخته العروس بصورة جديدة وجذابة، فهي ترى هنا كالجنة، وللجنة مكان خاص في فكر الله، فان أول شيء عمله تعالى بعد ما خلق الإنسان هو أنه غرس الجنة في عدن "وأنبت الرب الإله كل شجرة شهية لنظر وجيدة للأكل" وأعد نهرا ليسقي الجنة (تك2: 7-10) كما ان كل فكر الله جنة أخرى (فردوس الله الذي في وسطه شجرة الحياة)(رؤ2: 7) والرسول بولس وهو إنسان مثلنا اختطف كما نعلم إلى الفردوس، وقد صار أيضا بواسطة صعود المسيح إلى السماء ضمان لوجود أرواح جميع المؤمنين الراقدين في فردوس الله إلى ان يجمع المسيح كل قديسيه الراقدين والأحياء ليكونوا معه في المجد الأبدي، وان غاية الله هي ان يكون المؤمنون متمتعين بالوجود روحيا بهذه الحالة المباركة.
ان للجنة صفة خاصة لدى الله، ومع ان كل خليقته التي عملها كانت جميلة في عينيه، إذ رأى ان كل ما عمله "هو حسن جدا" ولكن لم يستلزم عمل الخليقة سوى ان يقول الله كلمة "وقال الله ليكن. . . فكان"(تك1: 3) "بالإيمان نفهم ان العالمين أتقنت بكلمة الله"(عب11: 3) ولكن مكتوب بأنه عندما عمل الله الجنة "وغرس الرب الإله جنة"(تك2: 8) أي ان الجنة كانت عمل يديه مبينا بذلك اهتمامه ومسرته بها، وفي هذا إشارة إلى ان قديسيه هم لمسرته ولمسرة قلب ابنه الحبيب.
* * *
ان العروس هي "جنة مغلقة عين مقفلة ينبوع مختوم" فهي له وحده دون سواه. أنها جنته، وهذا يجعلها جميلة في عينيه، وهذا ما يجب ان يراعيه المؤمن في حياته _ ان تكون حياته بجملتها للرب، فان جنته ليست حديقة عامة يستطيع ان يدخلها كل ما يشاء. أنها "مغلقة" لتكون له وحده، وأننا لا نستطيع ان نكون "كعذراء عفيفة للمسيح" إلا إذا كنا نحرص على الاحتفاظ بأنفسنا من مؤثرات هذا العالم.
* * *
عندما كان يموت شخص ما من إسرائيل في خيمته، فان كل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة يكون نجسا (عدد19: 15) وأننا موجودون في عالم ساده الموت الروحي وقد غشى فساده ورائحته النتية كل شيء، فلكي نكون طاهرين يجب ان نكون أواني محكمة القفل. نعم ما أحوجنا ولا سيما في أيام الارتداد هذه إلى ان يكون كل مسيحي حقيقي "مغلقا" و "مقفلا" و "مختوما" وان كان العالم يعتبرنا ضيقين، ولكن يا لها من كرامة بل وفرح يغمر نفوسنا إذ نحتفظ بكياننا للمسيح وحده! وهل ندم أي مسيحي في كل حياته وإلى نهايتها لأنه كان بجملته للمسيح؟ ولكن ما أكثر الذين حزنوا وندموا لأنهم لم يتفانوا في تكريس ذواتهم له. لقد توسل المرنم التائب إلى الله قائلا "أغسلني فأبيض أكثر من الثلج"(مز50) فهل لنا مثل هذه الرغبة الصادقة في الطهارة؟ لا بل ان قصد إلهنا من نحونا هو أسمى من ذلك، فأنه يريد من كل من له الرجاء بان يكون مثل المسيح عندما يراه كما هو، بان "يطهر نفسه كما هو طاهر"(1يو3: 3) وهذا ما يحفظنا من كل المؤثرات التي في هذا العالم .
ومتى سمونا إلى هذا المستوى فلا يكون مقياس حياتنا ما هو محلل أو محرم، وهذا ليس معناه التساهل مع الشر أو شبه شر، بل يكون هدفنا ما هو مرض ومسر للمسيح، وتكون غايتنا ان جنته تأتي بثمر المشبع والملذ لقلبه فنستطيع ان ندعوه ليدخل جنته ولنا اليقين بأنه سيجد سروره فينا.
* * *
"عين مقفلة" لا يستطيع ان يرتوي من مياهها إلا صاحبها الذي تعب فيه فأنه وان كانت غاية الرب ان المؤمن الذي قبل الروح القدس تجري من بطنه أنهار ماء حي لارواء الآخرين، إلا ان في حياة المؤمن وعلاقته السرية والباطنية بالرب ما هو للمسيح وحده _ له دون سواه، فللمسيح وحده عواطف السجود والتعبد والقلب المكرس. هذه هي مياه العين المقفلة المياه الغالية لديه كما كانت مياه بئر بيت لحم التي عند الباب له قيمتها الغالية لدى داود (2صم23).
* * *
"ينبوع مختوم" فالعروس بجملتها لعريسها وله وحده، وهي قانعة تماما بنصيبها في حبيبها، فالمسيح كفايته وهو ملء قلبها، وهي ينبوع مختوم له دون الآخرين، وعلى ينبوع الملك خاتمه الملكي، والمياه الحية لا تفيض من ذلك الينبوع إلا إليه، فليس لأجنبي ان يعبث بما قد ختمه الملك بخاتمه "ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم. يعلم الرب الذين هم له ولتجنب الأثم كل من يسمي اسم المسيح"(2تي2: 19).
ان الكلمات "مغلقة. مقفلة. مختوم" من شأنها ان توحي بالضرورة إلى انفصال المؤمن عن العالم انفصالا مطلقا ومحددا فان المسيحي الحقيقي وان كان في العالم ولكنه ليس منه "ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم"(يو17) ولا يمكن ان يرضى العريس أو ان يجد مسرته في عروسه بغير ذلك "اسمعي يا بنت وانظرن وأميلي أذنك وأنسي شعبك وبيت أبيك فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له"(مز45) أنه واضح جليا ان العريس يريد ان تكون العروس كجنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم فلا يكون لسواه _ لا لشبعها ولا لبيت أبيها مكان في قلبها وعواطفها. أنه يريدها ان تكون بجملتها له وحده وبذا تكون جميلة فيشتهي حسنها، وهي إذ تعترف به سيدا لها يفيض قلبها حبا وسجودا وتعبدا له، وهذا ما نراه فعلا في رفقة، فقد تركت الكل لأجل اسحق لقد نسيت شعبها وبيت أبيها وسارت في برية قاحلة بقلب ملئ بالمحبة والإخلاص لعريسها، وإذ رأته من بعيد نـزلت عن الجمل وتغطت بالبرقع دليل الخضوع والحياء لذا اشتهى اسحق حسنها وأحبها، وهكذا الكنيسة فأنه من واجبها بل بالحري امتيازها ان تحب عريسها وتتعبد له وتحيا مكرسة له كعذراء عفيفة. أفلا نصغي لكلمات الروح القدس فنحيا عمليا "كجنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم"؟.
ص 4، آية 13 و14
13و14"أغراسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة فاغية وناردين. ناردين وكركم. قصب الذريرة وقرفة مع كل عود اللبان مر وعود مع كل أنفس الأطياب"
ما أغنى وأحلى التي ينشئها الروح القدس في حياة المؤمن. المؤمن المنفصل والمكرس لله "كجنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم"، ويجب ان يكون مفهوما تماما أنه بدون الانفصال الصحيح عن العالم والتكريس القلبي للمسيح لا يمكن ان يكون المؤمن مثمرا ثمرا روحيا لمجد الله. في الرسالة فيلبي (ص1) بعد ان يؤكد الرسول بولس لأولئك القديسين المحبوبين بان الله الذي ابتدأ فيهم عملا صالحا يكمل إلى يوم المسيح، يخبرهم بأنه يصلي لأجلهم لكي يتزايد الثمر الروحي فيهم فتزداد محبتهم أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم، وان يمتلئوا من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده، وفي الرسالة إلى غلاطية (ص5) نجد قائمة مباركة لثمر الروح القدس في حياة المؤمنين "محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف" هذه هي الثمار التي يتطلبها الرب من خاصته. أنه يريد ان كل واحد منا يكون كجنة مليئة بمثل هذه الأثمار المبهجة لقلبه.
وكما ان الرب له المجد قد أعد فردوسا لشعبه في السماء، فأنه يريد ان يجد في قلب كل مؤمن فردوسا غنيا بالثمار المشبعة لقلبه _ فردوسا مليئا بالمحبة والطهارة والصلاح والوداعة واللطف والشفقة والعطف على الآخرين. هذه هي الثمار الشهية التي لمسرة قلب ذاك الذي يريد أنه "من تعب نفسه يرى ويشبع"
* * *
وبالرجوع إلى سفر الخروج (ص30: 23-25) نجد ان نفس الأطياب المذكورة في هذين العددين من سفر النشيد هي أهم الأطياب العطرية التي عمل منها دهن المسحة المقدس الذي مسح به رئيس الكهنة هرون وبنوه، وفي هذا إشارة إلى ما ينشئه الروح القدس في المؤمنين _ الكهنة الروحيين من صفات وسجايا روحية مقدسة هي صفات وسجايا المسيح رئيس الكهنة العظيم.
* * *
وان ربنا يسوع المسيح يجد سروره وشبعه في خاصته ولا سيما إذ يجتمعون معا باسمه وفي حضرته حول مائدته "لأكل عشاء الرب" إلا ان الثمار الشهية الأطياب العطرية لا تظهر حيثما يجتمع المؤمنون معا فقط، فأنه يجب ان يسبقها تدريب سري لان سلوكنا بالروح كل أيام الأسبوع له نتائجه الطيبة والمشبعة لقلب الرب عندما نجتمع معا في اليوم الأول من الأسبوع، فأنه لا يستطيع أحد من المؤمنين ان يكون في حالة جسدية طيلة أيام الأسبوع ثم يكون روحيا في يوم الرب. ان الأمر يتطلب منا صحوا روحيا لا في يوم الرب فقط بل كل أيام الحياة. لكي نثمر ثمرا نفيسا مشبعا لقلب الآب وللرب سيدنا.
ص 4، آية 15
15-"ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان".
يصف العريس عروسه مرة أخرى بأنها "ينبوع" وأنها "بئر مياه حية" وفي هذا إشارة واضحة إلى عمل الروح القدس في المؤمن الحقيقي، فقد نادى الرب في اليوم الأخير العظيم من العيد قائلا "ان عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين ان يقبلوه لان الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد لان يسوع لم يكن قد مجد بعد"(يو7: 37-39) فالروح القدس قد أعطي من السماء ليسكن في جميع أولاد الله المؤمنين الحقيقيين لكي يكونوا كجنات مثمرة لمجد المسيح ولبركة الآخرين. ويجب ان يراعى ان الجنات لن تأتي بالثمار النفيسة بدون "ينبوع. . . أو بئر مياه حية" أنها تصير جافة وبلا ثمر، فهل نحن متمتعون بالحياة الممتلئة والفائضة لمجد الرب ولبركة غيرنا؟ أننا نعيش في أيام الفتور والجدوبة الروحية، وحاجتنا القصوى إلى الحياة الممتلئة بالروح القدس باستمرار. ولا يتنسى لنا ذلك إلا إذا تفرغنا من كل العوائق، من الذات ومن كل الميول والرغائب العالمية. ان الشر أو شبه الشر _ الخطية من أي نوع كان هي بمثابة الأحجار التي تعطل جريان أنهار الماء الحي من داخلنا. ليت كل مؤمن يدرك هذه الحقيقة ويفحص نفسه أمام الله الذي هو نور ويحكم على ذاته معترفا له بكل خطية قد عطلت حياته الروحية ويدينها أمام الرب ويتحرر بنعمته ومعونته منها فيمتلئ بالروح القدس، وكساجد يفيض قلبه بكلام صالح _ بكلمات التعبد والتسبيح للرب، وكخادم لسيده وشاهد مخلص له تجري من بطنه أنهار ماء حي لارواء ظمأ الآخرين. أليس أمرا جوهريا ان نهتم باجتذاب الآخرين إلى المخلص الكريم؟
* * *
"وسيول من لبنان" فقد أتى الروح القدس من الأعالي _ من السماء بواسطة المسيح الذي ارتفع إلى السماء، وخدمة الروح القدس هي بمثابة السيول المنحدرة من لبنان
لارواء جنة الرب لتأتي بالثمر النفيس والمشبع لقلبه والأطياب المنعشة لنفسه، والرب لا يرضى بأقل من ذلك. لقد وصلت كنيسة أفسس إلى حالة الجدوبة الروحية وكان سيولا لبنان انقطعت عنها، فمع ان الرب كان يعرف أعمالها وتعبها وصبرها، هذه الأشياء التي لها قيمتها بلا شك، ولكنها سقطت إذ تركت محبتها الأولى، فقد يقوم الإنسان بأعمال جليلة في ذاتها دون ان يكون ممتلئا بالروح القدس الذي يملأ القلب بالمسيح وبالمحبة له، ولكن الثمار لها قيمتها وتقديرها عند الرب هي التي ينشئها الروح القدس في النفس.
ص 4، آية 16
16-"استيقظي يا ريح الشمال وتالي يا ريح الجنوب. هبي على جنتَّي فتقطر أطيابها. ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس".
ان كلمة "ريح" تستعمل كثيرا في الكتاب المقدس كإشارة إلى الروح القدس فكان الرب له المجد يريد ان يعمل بروحه بوسائل متنوعة في قلوب شعبه المحبوب "جنته" لكي تقطر أطيابها. أنه _ تبارك اسمه يعرف كل شجرة في جنته، لان كل ما فيها هو من غرس يمينه "فيدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد"(أش61: 3) ثم هناك في جنة الرب "أطياب" ولا يمكن ان تقطر تلك الأطياب إلا بعمل الروح القدس سواء بريح الشمال أو بريح الجنوب "استيقظي يا ريح الشمال أو تعالي يا ريح الجنوب. هبي على جنتي" فقد يستخدم الرب عصفا عاتيا من الشمال أو لفحة هادئة من الجنوب لكي تقطر أطياب جنته ولكي يجد فيها ثمرا نفيسا، فكل الظروف المختلفة والمتنوعة التي يجتازها القديسون تؤول إلى نموهم في النعمة وفي الإتيان بالأطياب وبالثمر النفيس لقد هبت ريح الشمال عندما حدث اضطهاد عظيم على الكنيسة (أع8: 1-3) كما هبت ريح الجنوب عندما كان للكنائس سلام وكانت تبنى في خوف الرب وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر (أع9: 31) وكذلك بولس وسيلا فأنهما اختبرا ريح الجنوب في بيت ليديه ولكن عصفت عليهما ريح الشمال العاتية في سجن فيلبي (أع16).
ولا ريب في أنه في كلتا الحالتين قطرت هناك أطياب ذكية للرب الحبيب، فكل الظروف التي ترتبها المحبة للقديسين تؤول بكل يقين إلى الثمر المبهج لقلب الرب "ونحن نعلم ان كل الأشياء (ريح الشمال وريح الجنوب) تعمل معا للخير للذين يحبون الله"(رو8: 28).
* * *
"ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" : هذه الكلمات القليلة هي وحدها التي نطقت بها شفتا العروس في كل هذا الإصحاح، ولكنها كلمات لها قيمتها الغالية لدى عريسها الكريم، فهي تقول "حبيبي" أي أنه شخصيا لها وهي تعلم هذه الحقيقة وتستمتع بها. أنه سيدها المعبود ومخلصها الحبيب "حبيبي" ولكنها في الكلام عن الجنة تقول أنها "جنته" وفي الكلام عن الثمر أنه "ثمرة النفيس" وهذا حق فأننا نقرأ في موضع آخر "كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة" وهو يقول عن ذلك الكرم أو بالحري الكرمة المشتهاة "أنا الرب حارسها. أسقيها كل لحظة لئلا يوقع بها احرسها ليلا ونهارا"(أش5: 1و27: 2و3).
يتكلم الرب في يو15 عن نفسه بأنه الكرمة الحقيقية وعن شعبه بأنه الأغصان وعن أبيه بأنه الكرام، ويا له من مشهد: ان يتطلع الآب من السماء فيرى ابنه الحبيب مثمرا لمجده عن طريق الأغصان الحية النابعة من تلك الكرمة، وما أحلاه منظرا لعين الآب ان يرى الأغصان مرتبطة بابنه الحبيب ومثمرة لمجده "مملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده"(في1: 11) "بهذا يتمجد أبي ان تأتوا بثمر كثير(يو15: 8).
* * *
لقد ظهر الثمر في حياة العروس ولذا تدعو حبيبها ليأتي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس، وهو _ له المجد _ يجيبها على الفور "قد دخلت جنتي"(ص5: 1) أنه _ تبارك اسمه لا يرجئ الإتيان إليها فلا يقول لها سأدخل بل "دخلت" فكأنه في اللحظة التي تدعوه فيها تراه حاضرا لان قلبه على استعداد دائما ان يلبي نداء أحبائه.
* * *
"وبعد قليل جدا" سنتقل أغراس جنة الرب إلى الفردوس الأسنى، أو بالأحرى إلى بيت الآب نفسه حيث الهدوء والسلام والراحة الكاملة، وحيث لا تكون هناك حاجة إلى ريح الشمال العنيفة _ ريح الضيق والتأديب. هناك لا يكون للخطية أثر وبالتالي لا يكون هناك وجع أو حزن. هناك ترتوي أغراس الرب من ندى المحبة الأبدية، فلا تذبل أبدا وتكون لبهجة قلب الآب ولمجد ربنا المعبود حيث الله الروح القدس معنا إلى الأبد.