تفسير سفر نشيد الأنشاد آية آية
ص 7، آية 1
1-"ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم. دوائر فخذيك مثل الحلى صنعته يد صناع (1)
يرسم الروح أمامنا في هذا الفصل صورة دقيقة ومفصلة لعروس الملك، ويعطينا لقبا جديدا "يا بنت الكريم" (أو يا بنت الأمير (2) وهذا يوافق ما جاء في مز45 حيث نقرأ "كلها مجد ابنة الملك".
ولقد سبقت الإشارة في تأملاتنا في ختام الإصحاح السابق إلى ان من امتياز القديسين ان يحيوا حياة النصرة _ الحياة الغالبة _ في كل حين وفي كل الظروف، ومتى كنا في حالة كهذه فلا بد ان ترى فينا الصفات والمحاسن المذكورة في صور تشبيهية في هذا الفصل _هذه الصفات والمحاسن التي لم يذكر مثلها بالتفصيل في الإصحاحات السابقة، الأمر الذي يدل على التقدم والنمو في الحياة الروحية ظاهريا وباطنيا.
* * *
وإذ نقارن هذه الأعداد بالأوصاف التي وصفت بها العروس عريسها (ص5: 10-16) نجد ان العروس تصف عريسها مبتدئة من الرأس حتى تصل إلى القدمين، بينما توصف العروس هنا من القدمين حتى إلى الرأس، ولعل العروس كان منظورا إليها قبل كل شيء _ من الناحية الأرضية، أو كان الإعجاب بسلوكها وبخطواتها العملية كان أفضل من أي شيء آخر.
* * *
يبدأ الكلام هنا بوصف قدمي العروس "ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم" فخطوات العروس تتميز بالاتزان والعظمة الروحية والوقار، كما بالسير في طريق السلام "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام"(أف6: 15) وكنيسة الله مدعوة لان تسلك وتسير في هناءة السلام الإلهي "لان الله ليس إله تشويش بل إله سلام. كما في جميع الكنائس"(1كو14: 33) "مجتهدين ان تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام"(أف4: 3).
* * *
ثم "دوائر فخذيك مثل الحلى" (أي مفاصل فخذيك *) والمفاصل هي التي تعطي الرجلين القدرة على السير في الطريق بكل حرية وباتزان. أنها "مثل الحلي" ولا يتسنى لنا ذلك إلا بإخضاع الجسد، وكل ما هو من الطبيعة والذات، فالإنسان الذي صارع يعقوب لم يتركه حتى ضرب حق فخذه "فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه"(تك32: 25) فالنشاط الجسدي وقوى الطبيعة _ أي الذات يجب ان تتعطل وتشل حتى يتسنى للنعمة ان تنشئ فينا القوة الروحية للسير بحسب إرادة الله. لقد أعطي بولس شوكة في الجسد، ولكنه تعلم أخيرا بان الأفضل هو ان تكون له الشوكة ونعمة المسيح من ان يكون بدونها. لقد تعلم ان القوة قد تكملت في ضعفه، ومتى كانت خطواتنا مرتبة ومزينة بنعمة المسيح وبقوة روحه القدوس فأنها تكون في عينيه "مثل الحلي صنعه يدي صناع" حقا ما أحوجنا إلى الاتصال المستمر "بذاك الذي هو الرأس المسيح الذي منه كل الجسد مركبا معا ومقترنا بموازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة"(أف4: 15و16).
1-ليس واضحا ان كان المتكلم في الخمسة أعداد الأولى من هذا الإصحاح هو العريس أو بنات أورشليم، أما الأعداد 6 إلى نصف عدد9 فواضح ان المتحدث فيها هو العريس.
(2) "بنت الكريم" أي بنت الأمير أو الرئيس Prince,s Daughtcr
* "أي مفاصل فخذيك" (The Joints of thy thighs)
ص 7، آية 2
2-"سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن".
في هذا الوصف نرى الحنطة التي تغذي الإنسان وتحفظه، والخمر التي تنعشه وتبهجه، كما نرى سياجا من السوسن أي النعمة والاتضاع اللذين يزينان المؤمن ويحيطان به.
والعروس "بنت الكريم" ترى هنا في حالتها الباطنية. أنها ترى في حالة الشبع الداخلي. لقد تكلم الرب مع السامرية عند البئر عن الماء الحي بأنه يصير (في داخل المؤمن) ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية (يو4) كما قال له المجد بان من يؤمن به "تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو7). لقد عرف الرسول بولس معنى الشبع الصحيح مهما كانت الظروف "قد تعلمت ان أكون مكتفيا بما أنا فيه"(في4: 11).
ولقد سأل اليفار قائلا "ألعل الحكيم. . يملأ بطنه من ريح شرقية؟" (أي15: 2) يا لتعاسة المرء الذي ليس له سوى الريح الشرقية ليملأ بطنه منها، أما اليهو فقد كان لديه شيء أفضل "أني ملان أقوالا. روح باطني تضايقني. هوذا بطني كخمر لم يفتح كالزقاق الجديد يكاد ينشق" (أي32: 18و19) فقد كان ممتلئا بأقوال الله حتى أنه لم يعرف كيف يحجزها في داخله.
ان "الشراب الممزوج" (أي الخمر الممزوجة) يشير إلى الأفراح التي لنا في الروح المعزي، كما ان "صبرة الحنطة" (أي كومة الحنطة) تحدثنا عن المسيح الذي هو طعام شعبه. أنه غذاء لشعبه ليس بمقدار عوزهم أو ليسد رمقهم فقط ولكنه مثل "صبرة حنطة" تملأ باطنهم لان فيه (أي في المسيح) وأمامه "شبع سرور" وفي يمينه "نعم إلى الأبد" نعم فان لنا "غنى المسيح الذي لا يستقصى" لاسمه المعبود كل المجد.
وان لم يكن لائقا في التدبير الماضي ان الذين شبعوا من خير الأرض _ من حنطتها وخمرها_ يظهرون أمام الرب "فارغين" فكم بالأحرى بالنسبة لنا نحن الذين صار لنا ملء المسيح وأفراح الروح القدس! أنه تبارك اسمه. يريد ان يرى من تعب نفسه "ويشبع" إذ كم هو ملذ لقلب الحبيب ان يرانا شباعى في حياتنا الباطنية فيمجد في ذلك شبعا لنفسه!
* * *
وفي اجتماعاتنا معا يريد الرب ان يرانا دائما في حالة الامتلاء. أنه يريد من كل أخ مسيحي بالحق ان يفيض مما أعطاه هو له "كما قسم الله لكل واحد مقدارا من الإيمان" وبحسب إرشاد وقيادة روحه القدوس، فيؤول كل شيء لمجد اسمه وللبنيان. نعم ان الرب يريدنا ان نكون في حضرته ممتلئين وفائضين. وكم هو محزن لقلب الرب ان يكون أي أخ منا صامتا في الاجتماع لأنه "فارغ"! ان شخصيا كهذا يخشى ان يكون فاشلا في حياته الروحية، لان ما نتمتع به في حياتنا الباطنية لا نستطيع إلا ان نفيض به على الآخرين، وهذا هو السبيل إلى النجاح والنمو في الحياة الروحية "النفس السخية تسمن والمروي هو أيضا يروى"(أم11: 25).
ص 7، آية 3
3-"ثدياك كخشفتين توأمي ظبية *".
سبق ان وصف العريس عروسه بهذا الوصف (ص4: 5) ويتكرر هذا الوصف هنا لكي تتيقن العروس بان محبة الرب لها ثابتة إذ ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، فمع أنها كثيرا ما تحولت عنه وانقطعت شركتها معه الأمر الذي سبب لها آلاما وأوجاعا كثيرة، إلا ان محبته لها هي "محبة أبدية" لأنه "إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى" ما أعجب محبتك يا ربنا المبارك.
* * *
وقد يكون وصف الثديين بأنهما مثل توأمي ظبية إشارة إلى الوحدة والانسجام، الأمور التي ستميز الشعب الأرضي في الملك الألفي السعيد، كما ان في الثديين إشارة إلى ما سيتمتع به ذلك الشعب من شبع ودسم في ذلك الحين "افرحوا مع أورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبيها. افرحوا معها فرحا يا جميع النائحين عليها لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعزيانها. لكي تعصروا وتتلذذوا من درة مجدها"(أش66: 10و11).
* * *
* "كخشفتين توأمي ظبية" أي مثل توأمين من الغزلان الصغيرة.
ص 7، آية 4
4-"عنقك كبرج من عاج. عيناك كالبرك في حشبون عند باب بث ربيم. أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق".
سبق ان وصف العريس عنق العروس "كبرج داود المبني للأسلحة"(ص4: 4) وفي ذلك إشارة إلى العزيمة القوية والقصد الثابت "راسخين غير متزعزعين" أما هنا فيوصف عنق العروس بأنه "كبرج من عاج" وفي ها إشارة إلى الغنى الجزيل والرفعة كما إلى الطهارة والنقاوة لان العاج نقي وأبيض مثل الثلج.
* * *
"عيناك كالبرج في خشبون عند باب بث ربيم *" إشارة إلى الهدوء والصفاء كما إلى عمق البصيرة الروحية. لقد وصف العريس عيني عروسه قبلا بأنهما "حمامتان" (4: 1) كما أنها هي وصفت عيني حبيبها بهذا الوصف ذاته "عيناه كالحمام" (5: 12) وفي ذلك إشارة إلى البصيرة الروحية النقية والعين البسيطة، أما تشبيه عيني العروس بالبرج في حشبون فأنه يشير بلا ريب إلى البصيرة الروحية التي لا تنظر إلى الأمور نظرة سطحية بل عميقة. لقد كانت لمريم أخت مرثا النظرة الروحية العميقة التي ميزت الفرصة المناسبة والفريدة التي فيها تسكب الطيب على جسد الرب لتكفينه. ما أجمل هذا التمييز الروحي الذي كان لها والذي استحقت لأجله المدح والثناء من الرب نفسه!
* * *
"أنفك كبرج لبنان" ان هذا الوصف يصور لنا القدرة الممنوحة للمؤمن والتي يستطيع ان يشتم رائحة كل ما هو من الله، ومتى كانت لنا الفطنة والذكاء والقدرة التي بها نميز رائحة الأمور الإلهية كريهة لأنها ليست من الله. ان الأنف هي العضو الدقيق الذي به نميز رائحة الأشياء ان كانت من الله أو من العدو، والمؤمن الذي له هذه الحاسة يستطيع ان يميز كل تعليم هل هو من الله أو ليس منه، ومتى كان التعليم من الله فان رائحته العطرية تجتذب النفس إلى المسيح وتربطه به بفرح عظيم.
ان "العين والأنف" يرمزان إلى الحواس المدربة على التمييز بين الخير والشر فالخير تتبعه من كل القلب والشر ترفضه بعزيمة صادقة. حقا ما أجمل هذه الصفات في "بنت الكريم".
* * *
"الناظر تجاه دمشق" في هذا إشارة إلى القوة والتفوق، فشعب الرب الأرضي الذي كان مضطهدا وقد انتصرت عليه ممالك كثيرة وبخاصة الآراميون، سوف ينظر إبان ملك المسيا المجيد تجاه دمشق (عاصمة سوريا) والأمم المجاورة في قوة مثل قوة البرج، فان جميع الأمم سوف تخضع يومئذ له، وستكون أورشليم قصبة المسكونة بأسرها في الزمن الألفي المجيد. يومئذ يكون ظاهرا ان قوة الرب يسوع تقيم في وسط شعبه المحبوب، وفي هذا صورة لتفوقهم.
ص 7، آية 5
5-"رأسك عليك مثل الكرمل وشعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل".
يشار بالرأس هنا إلى الذهن المستنير وإلى الفهم الروحي. لقد كانت طلبة الرسول بولس لأجل القديسين في أفسس هي ان يعطيهم إله ربنا يسوع المسيح "روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين" (أف1) إذا "ان كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له"(يع1: 5).
* * *
كما يشار بالكرمل في الكتاب إلى الثمر والبهاء والجمال "بهاء كرمل"(أش35: 1و2) أي ان شعب الرب الأرضي في يومه سيكون متوجا بالخير والبركة فهم سيتمتعون بكل بركة أرضية في بلاد عمانوئيل، ولكن مهما تكن بركاتهم وفيرة ومجيدة، فأنها ليست شيئا بالمقابلة مع بركات الكنيسة ولو أنها سائحة وغربية في هذا العالم "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السمويات في المسيح"(أف1: 3):"بكل بركة روحية" فليست تنقصنا أية بركة، ثم هي بركات روحية توافق طبيعتنا الجديدة. "في السمويات" أي في دوائر المجد العلوية،فليست في الأرض ولا من الأرض نظير بركات الشعب الأرضي في أرض كنعان. "في المسيح" أي عن طريقه وبواسطته ومرتبطة به. أنها أمور سماوية لا شبيه لها الأرض، ولا يفوقها إلا شخصه المبارك إذ هو "عطية الله التي لا يعبر عنها" ولا يسعنا إلا ان نسجد ونتعبد.
بحبك السامي لقد وهبنا كل البركات
لكن شخصك لنا أثمن من كل الهبات
* * *
"شعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل" الأرجوان هو رمز الملكية والجلال. والعروس في هذه الأعداد ترى بجملتها _من الرجلين إلى الرأس في جمال فائق. أنها كاملة لا عيب فيها لأنها فيه "بلا لوم قدامه في المحبة". وجميل ان نقرأ هنا "ملك قد أسر بالخصل" أي ان مفاتنها اجتذبته وغمرته. جمالها الذي خلعه عليها، هو الذي سباه، له المجد "كلها مجد ابنه الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها. بملابس مطرزة تحضر إلى الملك"(مز45: 13و14).
لقد أتى ربنا يسوع إلى أرضنا هذه "أخلى نفسه آخذا صورة عبد" لقد جاء "ليس ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين". ان محبته لخاصته هي التي أسرته إلى هذا الحد. وخليق بالعروس ان تتمثل به في هذه الصفة المباركة. أنه مجد لنا ان نتحلى بالخضوع والطاعة له إذ ليس شيء يجتذب قلب الرب وعواطفه إلينا نظير خضوع وطاعة قلوبنا له كرأسنا المبارك. عندئذ نرى الملك _ملك الملوك كمن قد "أسر بالخصل". . "لان الرب اختار صهيون اشتهاها مسكنا له. هذه هي راحتي إلى الأبد ههنا أسكن لأني اشتهيتها"(مز132: 13و14) "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي. . .وإليه نأتي وعنده نصنع منـزلا"(يو14:21و23).
ص 7، آية 6
6-"ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات".
مما لا ريب فيه ان الناطق بهذه الكلمات هو العريس، وأننا نرى من خلالها سموا في العاطفة وفي الحب والإعزاز أكثر مما رأينا في الأعداد الخمسة السابقة _الأعداد التي ربما نطق بها "بنات أورشليم" فان كان الآخرون يعجبون بالعروس أيما إعجاب ويشيدون بكمالاتها وفضائلها، إلا ان العريس وحده هو الذي يجد لذة في عروسه وفرحا بها، وتبارك اسمه الجليل فان نعمته الغنية هي التي صيرتها مشابهة لشخصه الكريم، وهذه المشابهة هي التي يراها الآن وفيها يجد لذته ومسرته، وبقدر ما يجد فينا من المشابهة له بهذا القدر يلتذ ويسر بنا. ان ربنا المبارك لا يجد سروره إلا فيما يشبه كمالاته الأدبية. ياله درسا عمليا يعوزنا ان نتعلمه! ليتنا نفكر في محبته وقداسته وكمال طرقه، ثم نسائل أنفسنا: في أي النواحي يا ترى يجد سيدنا صورته منعكسة بصفة عملية في تصرفاتنا؟ ليتنا في نوره الباهر نفحص طرقنا العملية جميعها ونحرص بمعونته على ان نتشبه به كمن ترك لنا مثالا لكي نتبع خطواته: ما أجمل للنفس التي تحب المسيح ان تسمع من شفتيه هذه الكلمات "ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات".
ص 7، آية 7 و8
7 و8-"قامتك هذه شبيهة بالنخلة وثدياك بالعناقيد. قلت أني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها. وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ورائحة أنفك كالتفاح".
يشار هنا لأول مرة في هذا السفر إلى "القامة" إذ متى كانت كل الصفات التي وصفت بها العروس "بنت الكريم" متوفرة في المؤمنين فلا بد ان يرى الحبيب فيهم "القامة" التي يسر بها، أو بالحري يرى تقدما ونموا "إلى قياس قامة ملء المسيح"(أف4: 13) ان مشيئة إلهنا هي ان نكون "صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح"(أف4: 15) فقامتنا تقاس بمقدار محبتنا، فعلينا ان نقيس دائما قامتنا بالإصحاح الثالث عشر من الرسالة الأولى إلى كورنثوس.
* * *
"ان النخلة والعناقيد" هي صور رمزية أو تشبيهيه للنصرة والنضوج _للاستقامة ووفرت الغلات، ولقد ذكرت النخلة في مناسبات كثيرة في الكتاب كرمز، فهي من حيث شكلها الطبيعي ذات ساق مديدة ومستقيمة، وبذلك هي كلمة الله رمز للاستقامة والمستقيمين، وبعض أنواع النخيل ينمو إلى درجة كبيرة من الارتفاع بحيث لا يكون من اليسير الوصول إلى ثمارها، ولكن العريس يقول "أني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها" نعم فان ثمار الروح لن تكون بعيدة عن متناول يده، أنه يجمع ثمار النعمة في خاصته _يجمعها لنفسه ولمسرته.
ثم ان وجود النخلة في مكان ما علامة مؤكدة على وجود الماء في ذلك المكان ولو كان صحراء، من أجل هذا فان منظر النخلة لعين المسافر لا يوجد أبدع منه، وهذه الحقيقة يؤيدها المكتوب "ثم جاءوا إلى ايليم وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة. فنـزلوا هناك عند الماء"(خر15: 27).
* * *
وهناك في الكتاب إشارات كثيرة إلى أغصان النخيل بوصفها رمز النصرة والفرح. فهي علامة على عيد المظال عند اليهود قديما، ذلك العيد الذي طالما كان عيد بهجة في إسرائيل "وتأخذون. . . . سعف النخل. . . وتفرحون أمام الرب إلهكم سبعة أيام"(لا23: 40-42) ثم ان الجمع الكثير الذي رآه يوحنا أمام الخروف كانوا "متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل"(رؤ7: 9،أنظر أيضا يو12: 12و13) "الصديق كالنخلة يزهر"(مز92: 12) في هذه الأمثلة الكثيرة التي أمامنا نرى من الناحية الروحية النصرة والفرح اللذين هما من نصيب المؤمنين في الزمان الحاضر، كما أنهما سيكونان من نصيب الشعب الأرضي في الزمان الآتي. عندئذ تكون العروس قد وصلت إلى نضوجها الأدبي "ثدياك كعناقيد الكرم" أنها ستبدو كاملة في عينيه موضوع لذة قلبه، وصورة لشخصه. عندئذ تكون قد أجيبت الطلبة القديمة "لتكن نعمة الرب إلهنا علينا" أو "ليكن جمال الرب إلهنا علينا" (مز90: 17).
* * *
"رائحة أنفك كالتفاح" ذلك الرمز المختار للحبيب نفسه، فقد قالت عنه العروس قبلا "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين. أنعشوني بالتفاح. "(ص2: 3و5) أي ان العروس تنشر روائح اسمه الكريم وشخصه المعبود. أنها بسلوكها وبشهادتها تخبر "بفضائل الذي دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب" وذلك لمجده ولبهجة نفسه، لذا يناجيها بدوره "رائحة أنفك كالتفاح" ليتنا نصغي لصوت العريس فنكون لمسرته هنا كما سنكون "لمدح مجده" في بيت أبيه.
ص 7، آية 9
9-"حنكك كأجود الخمر _لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين" *
يشير العريس في العددين 8و9 إلى ثلاثة أشياء "ثدياك" و"رائحة أنفك" و"حنكك" أي إلى العواطف الحية، وإلى القدرة على تمييز الأمور وإدراكها، وإلى القدرة على تذوق حلاوة الأمور الإلهية التي له "كأجود الخمر" فهل لنا هذه السجايا الروحية المقدسة؟
"حنكك كأجود الخمر" حقا ما أجمل إدراك هذه الحقيقة، وهي ان تذوقنا حلاوة السماويات وتلذذنا بها هي للحبيب "كأجود الخمر"! أنه يسر بتلذذنا وتمتعنا بالأمور والبركات الإلهية "حينئذ كلم متقو الرب كل واحد قريبه والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين في اسمه"(ملاخي3: 16و17) فكلمات أتقيائه كانت له كأجود الخمر.
وإذ وصل العريس في وصف جمال عروسه إلى التحدث عن حنكها بأنه "كأجود الخمر" إذا بها تقاطعه قائلة "لحبيبي" أي ان هذه الصفات هي لحبيبي أو من حبيبي، وان هذه الخمر تسيل وتجري إلى فم حبيبها بسهولة وبلذة وهي لامعة ومتلألئة.
* * *
يا لها من محبة، ويا لها من نعمة أسبغها العريس على عروسه _ البقية الأمينة! تلك البقية التي سترجع إلى ملكها وعريسها رجوعا كاملا وأبديا. عندئذ سيرى هو من تعب نفسه ويشبع. سيجد راحته في تلك البقية ويسر بها كما "بأجود الخمر" تلك الخمر التي تجعل "شفتاه النائمين" تتكلم. أما عن رجوع تلك البقية إلى يهوه ملكها، فأنه حقيقة تتكلم عنها نبواءت عديدة في كلمة الله "ترنمي يا ابنة صهيون أهتف يا إسرائيل أفرحي ابتهجي بكل قلبك يا ابنة أورشليم قد نـزع الرب القضية عليك أزال عدوك. ملك إسرائيل الرب في وسطك. لا تنظرين بعد شرا. في ذلك اليوم يقال لأورشليم لا تخافي يا صهيون لا ترتخ يداك. الرب إلهك في وسطك جبار. يخلص يبتهج بك فرحا. يسكت في محبته. يبتهج بك بترنم"(صف3: 14-17).
* * *
* "حنكك" أو سقف حلقك، "السائغة" أي المستساغة التي تشرب بسهولة وبلذة "المرقرقة" أي اللامعة المتلألئة (قارن أم23: 31).
ص 7، آية 10
10-"أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه".
يمكننا ان نقول بحق ان هذه العبارة هي أعذب وأحلى ما نطقت به شفتا العروس في هذا السفر، فقد وصلت إلى أسمى حالة من اليقين بمحبة العريس لها وعلاقته بها. لقد فرغت من ذاتها وأصبحت مشغولة بالمسيح _ المسيح وحده، وكلماتها هذه تكشف عن إدراكها لشخصه الكريم ولعظمة محبته، فهي تقول "إليّ اشتياقه" أنه يبتهج بي، وبالتبعية تركت أمر نفسها. نسيت ذاتها، فقد عملت النعمة عملها الكامل، ومن ثم استقرت النفس في النعمة، وفي هذا كمال الجمال الذي يريد الرب ان يراه في خاصته.
* * *
لو رجعنا إلى ص2: 16 لوجدنا ان العروس تعبر عن بهجة قلبها إذ وجدت حبيبها إذ امتلكته، فتقوك "حبيبي لي وأنا له" وإذ نتقدم إلى الإصحاح السادس نجدها قد ارتقت في اختبارها، فان قلبها يجد شعبه ولذته في معرفتها بأنها له حيث تقول "أنا لحبيبي وحبيبي لي" أما فبي العدد الذي أمامنا الآن فنجدها قد وصلت إلى أعلى ذروة في الاختبار الروحي المقدس حيت تجد الراحة الكاملة في يقينها بان قلبه يفرح بها "أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه" هذه هي الثمرة الغنية لعمل النعمة. أنها جميلة وكاملة كلها في عينيه. أنها مكسوة بجمال النعمة، وقد عرفت العروس ذلك وفي هذا راحة قلبها التامة "إليّ اشتياقه" ونحن على يقين بان النفس لن تستطيع ان تسمو إلى أكثر من هذا الحد، ولن تجد أفضل منه. نعم فقد وجدت كل شيء في محبة المسيح التي لا تتغير. هذا ما يجب ان تختبره النفس المتجددة ان تجد أعمق بهجتها وأحلى سلامها في محبته، ويا لها من حالة سعيدة يمكن ان يوجد فيها الخاطئ المسكين المخلص بالنعمة، ويوجد فيها الآن. يا لها من حالة مباركة ان يجد كل ينابيعه الجديدة في محبة ربنا يسوع، وان يقول: ان يسوع الحبيب يعرفني جيدا، يعرف ما أنا في ذاتي، ومع ذلك فهو لا يحبني فقط بل يجد فيَّ مسرته أيضا ما أعجب هذا الحق! "في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا"(1يو4: 10).
ص 7، آية 11 و12
11 و12-"تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى. لنبكرن إلى الكروم لننظر هل أزهر الكرم هل تفتح القعال هل نوَّر الرمان. هنالك أعطيك حبي".
لقد رأينا قبلا كيف ان الحبيب قد نـزال إلى جنته لينظر "هل أقعل الكرم هل نور الرمان"(ص6: 11) الأمر الذي يدل على اهتمامه الكلي بوجود الحياة المثمرة في النفوس، وهنا في العددين اللذين أمامنا نرى كيف ان العروس وهي في ملء الشركة متمتعة بمحبة العريس، لها نفس الفكر والاهتمام اللذين له فتتحدث إليه عن أمور تعلم أنها تسره، فتدعوه بان يذهب معها لينظرا "هل أزهر الكرم هل تفتح القعال هل نور الرمان" لقد صار لها اتحاد أو وحدة معه في الذهن والقلب لان إيمانها قد وصل إلى قياس أفكاره وعواطفه من نحوها.
أننا لا نتوقع ثمرا في إسرائيل كأمة في التدبير الحاضر، لأننا نعيش في عصر النعمة _عصر الإنجيل المقدم إلى كل أمم الأرض، ومن واجب الكنيسة ان تهتم بتوصيل بشارة الخلاص إلى النفوس البعيدة التي في "الحقول" (أي العالم) "ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد"(يو4: 35) وأنه لمن امتيازنا ان يكون لنا فكر المسيح نفسه من نحو النفوس المسكينة الموجودة في العالم، وكم يلذ للمؤمن الذي له "فكر المسيح" ان يرى نفسا تعترف بالمسيح مخلصا وربا، وليس ذلك فقط بل ان يرى فيها ثمرا يدل على وجود الحياة الروحية فيها.
* * *
يبدو ان في القول "لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى. ." إشارة إلى ان بركات وأمجاد الألف سنة ستتجاوز حدود إسرائيل، فأورشليم ومدن يهوذا باعتبارها المركز الأرضي لمجد المسيا لا بد ان تمتلئ أولا بذلك المجد، ومن هناك ينتشر حتى تمتلئ الأرض كلها من مجده، وكم هو جميل ان يهوذا سيكون متحدا ومشتركا مع مسيحه في ذلك المجد الذي سيملأ أرجاء المسكونة، وهذا ما نراه جليا في قول العروس "تعال يا حبيبي لنخرج _لنبت _ لنبكرن_ لننظر. . . " ثم في ثقة القلب تضيف ما يرينا إياها جالسة في حضرته "هنالك أعطيك حبي" لقد فاض القلب، ومن ثم فاضت المحبة كأنهار متدفقة إذ تقول "حبي" (بلغة الجمع * ) أنها محبة فائضة، ومتى كان المسيح غرض القلب فليس كثيرا عليه ان يفيض بوفرة وبغزارة.
قبل هذا تكون الكنيسة وجميع القديسين الذين يقومون عند مجيء الرب ثانية قد تمجدوا مع المسيح في أورشليم العليا، لان قصد الله هو ان "يجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض" (أف1: 10) أعني أنه سيسود بقوته على دوائر الملكوت السماوية والأرضية وحينئذ تتحدان معا كما يسلم يعقوب، وسيكون مجد القديسين السماويين ظاهرا للذين على الأرض بل ولكل العالم "ليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني" (يو17: 23).
* * *
* "حبي" بلغة الجمعLoves
ص 7، آية 13
13-"اللفاح يفوح رائحة وعند أبوابنا كل النفائس * من جديد وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي".
ان العروس لا تكتفي بالخروج بصحبة عريسها إلى "الحقل والقرى والكروم" ولكن لديها شيء آخر له أهميته، فلديها "أبواب" حيث "كل النفائس (أو الثمار النفيسة) من جديدة وقديمة" قد ذخرتها لحبيبها. ان لديها ما هو أهم من "الكروم ومن الرمان" إذ قد اختزنت لحبيبها ما فيه سروره الكامل، وفي درس له أهميته بالنسبة لنا، فهل لدينا نحن بحق "وعند أبوابنا" ثمار نفيسة للحبيب؟
* * *
والنفائس "من جديدة وقديمة" ترينا التنوع كما ترينا القيمة الغالية لما يجب ان يكون مذخرا عندنا للحبيب. ثم ان "الجديدة والقديمة" ترسم أمامنا أيضا طرق الله ومقاصده المعلنة في العهدين القديم والجديد. نعم ان الكتاب المقدس كل الذخائر النفيسة لمجد ولمسرة الحبيب، ولقد أشار الرب إلى هذه الحقيقة إذ قال "كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنـزه جددا وعتقاء" (مت13: 52). لا شك ان النفائس "الجديدة والقديمة" هي لفائدة ولتعليم المؤمنين ولكنها في الوقت نفسه مذخرة لمسرة وشبع الحبيب.
* * *
والرب من كرمه أعد "أبوابا" حيث عندها هذه النفائس، وهو يريد قديسيه يعرفون بان هذه الأبواب هي بحسب غنى نعمته أبوابهم. أنه يسر إذ ندعوه إلى "أبوابنا" هذه ليشبع ويلتذ بكل الثمار النفيسة. وكم هو مؤلم لقلبه ان لا يرانا مرحبين به، فلا ندعوه ليأتي "عند أبوابنا" حتى يضطر هو ان يأتي إلينا ليوقظ قلوبنا المتغافلة بصوته الحنون "هأنذا واقف على الباب وأقرع ان سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي"(رؤ3: 20). لكن كم هو جميل ومبهج لقلب العريس ان يرى عروسه مقدمة إليه وفرة الثمار النفيسة، من حب ومديح وتكريس! وما أجمل وأعمق العبارة الأخيرة في هذا العدد "ذخرتها لك يا حبيبي"! لقد امتلأت نفسها بمشاعر جديدة من نحو سيدها وحبيبها، فقلبها الذي طالما كان مجدبا ومقفرا قد امتلأ وأثمر ثمرا وفيرا بالمحبة لمسيحها. لقد ذخرتها للرب وحده "ذخرتها لك يا حبيبي".
* * *
وفي الأعداد 11-13 نرى ثلاثة أنواع من الخدمة والشهادة، أي خدمة المبشر والراعي والمعلم: _
"لنخرج إلى الحقل" _ "إلى العالم أجمع" (مر16: 15) أو إلى كل ممالك العالم أو "لنبت في القرى" _ في الأماكن القريبة "لنذهب إلى القرى المجاورة لاكرز هناك أيضا"(مر1: 38) هذا هو عمل المبشر.
"لنبكرن إلى الكروم لننظرن هل أزهر الكرم" وهذا هو عمل الراعي الذي يلاحظ ويتتبع باهتمام وجود ثمر الروح القدس في المؤمنين.
"كل النفائس من جديدة وقديمة" وهذا عمل وخدمة المعلم، وهي التي أشار الرب إليها (في مت13: 52) كما سلفت القول. فليت كل من قبل خدمة من الرب ينظر إليها لكي يتممها (كو4: 17) "ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بعضكم بعضا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة" (1بط4: 10).
* * *
*"النفائس" أي الثمار النفيسة أو المبهجة Pleasant Fruits أو Choice Fruits