تفسير سفر نشيد الأنشاد آية آية
ص 8، آية 1 و2
1و2-"ليتك كأخ إلى الراضع ثديي أمي فأجدك في الخارج وأقبلك ولا يخزونني. وأقودك وأدخل بك بيت أمي وهي تعلمني فأسقيك من الخمر الممزوجة من سلاف رماني".
لسنا نرى في كلام العروس في الأربعة الأعداد الأولى من هذا الإصحاح الشعور بحالة القرب السعيدة التي كانت متمتعة بها قبلا، فقد تركناها في نهاية الإصحاح السابع في حالة مجيدة متمتعة برفقة حبيبها "أنا لحبيبي واليَّ اشتياقه" أما هنا فهي تتمنى ان تتمتع بالحبيب وبالشركة معه "ليتك كأخ لي" يا له من امتياز لنا نحن المؤمنين في عهد النعمة المبارك، إذ لسنا نتمنى ان يكون الرب أخا لنا، بل قد أيقنا أنه له المجد "البكر بين أخوة كثيرين" (رو8: 29) "لان المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي ان يدعوهم أخوة قائلا أخبر باسمك أخوتي وفي وسط الكنيسة أسبحك فأذ تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما. . ."(عب2: 11-14) "اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم أني أصعد إلى أبي وأبيكم. . . ."(يو20: 17).
* * *
"الراضع ثديي أمي. . . وأدخل بك بيت أمي وهي تعلمني" ان أمنا نحن هي "أورشليم العليا" أي نظام أو تدبير النعمة السماوي "وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعا فهي حرة"(غل4: 26) وإذ قد صرنا للمسيح فقد أصبحنا أحرارا، ولنا ملء الحرية بان نتمتع بمحبته، وكل ذلك من النعمة وبالنعمة _ النعمة التي خلصتنا هي هي أمنا التي تعلمنا "هي تعلمني" _ "معلمة أيانا" (تي2: 12).
"فأجدك في الخارج وأقبلك ولا يخزونني" أنه "في الخارج" فقط نستطيع ان نجده "فلنخرج إذا إليه خارج المحلة" (عب13: 13).
"وأقبلك" هذه رغبة العروس القلبية الملحة _ رغبتها في الشركة مع حبيبها شركة لا تتعطل ولا تتوقف. أنها تشتاق إليه هو وإلى التمتع به، وتشتهي ان تقبله، وهو قول يتفق مع بداية السفر يوم قالت "ليقبلني بقبلات فمه لان حبك أطيب من الخمر".
* * *
"ولا يخزونني" ان شعورنا بان في حياتنا ما يدعو إلى الخزي أو الخجل يجب ان يقودنا إلى إدانة أنفسنا وإلى تسليم ذواتنا تسليما كليا إلى الله. ان إدانة النفس في الصليب معناها الخروج من دائرة الذات. هذا هو الدرس الذي تعلمنا إياه أمنا _ النعمة. لقد صلب المسيح لأجلنا على الخشبة لكي نصلب نحن معه ولكي نكون في حالة عملية تؤهلنا للتمتع به وبالحرية التي لنا فيه.
* * *
"فأسقيك من الخمر الممزوجة من سلاف (أو عصير) رماني" أنها _أي العروس تشتاق ان تمتلك العريس وان تتمتع به، وان تريه من تعب نفسه فيشبع، فتسقيه من خمر رمانها. أنه تبارك اسمه قد شرب مرة كأس غضب الله المرير من أجل خطاياها، فحنت نفسها بان تقدم إليه كأس خمر ممزوجة من شكرها وسجودها وتكريسها. لقد طلبت منه قبلا "تعال يا حبيبي. . .لننظر نوّر الرمان" (7: 11و12) أما الآن فقد نضج هذا الثمر الشهي، وفي الخفاء بعيدا عن كل ضوضاء قد هيأت منه خمرا ممزوجة، وهوذا هي تدعوه لان يشرب ويرتوي من ثمر تعبه فوق الصليب. ليت لكل منا هذا الاختبار السامي المقدس.
ص 8، آية 3 و4
3و4-"شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء" *.
إذ رغبت العروس في ان تتمتع بالعريس المبارك وبعشرته السعيدة والهنيئة، وان تتاح لها الفرصة لتسقيه من الخمر المزوجة من عصير رمانها _من سجودها وتعبدها ومن محبتها وتكريسها، فقد وجدت من حبيبها ترحيبا كاملا. لقد ضمها إلى صدره، وحملها في حضنه حيث وجدت راحتها بين ذراعيه "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني". لقد وجد الابن الضال في اللحظة التي رجع فيها إلى بيت أبيه ترحيبا عجيبا من أبيه الذي "ركض ووقع على عنقه وقبله" (لو15) ان بين ذراعي الحبيب وفي أحشائه _ في حضنه وعلى صدره مكانا فسيحا يتسع لكل أحبائه، كما كان لذلك "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"
* * *
وإذ وجدت العروس هناءها وراحتها بين ذراعي حبيبها فهي _ مرة أخرى _ تحلف بنات أورشليم "ألا ييقظن ولا ينبهن الحبيب حتى يشاء". أنها لا تشاء، كما لا يشاء هو ان يعطل فرحهما بشركتهما معا، وتمتعها به وتمتعه هو أيضا بها أي معطل. فهل هذا هو اختبارك يا أخي الحبيب؟
* * *
* سبق التأمل في مثل كلمات العروس هذه في ص2: 6، 3: 5
ص 8، آية 5
5-"من هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟ تحت شجرة التفاح شوَّقتك هناك خطبت لك أمك هناك خطبت لك والدتك *".
ما أجمل المشاهد المتنوعة التي ترى فيها العروس، فبينما نراها مستريحة بين ذراعي حبيبها "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني"(ع3) نشاهدها في الوقت نفسه طالعة من البرية مستندة على حبيبها، وما أعظم التعليم الذي لنا في هذه الصورة الأخيرة _ العروس طالعة "من برية مستندة على حبيبها" فان سر القوة والنصرة هو في موارد النعمة الغنية التي لنا، لا في أنفسنا، بل في شخص آخر _ في ربنا يسوع المسيح إلى أبد الآبدين، والذي فيه الكفاية لمعونتنا وتسنيدنا والذي يشاء في محبته بل ويسر بان نستند عليه استنادا كليا وكاملا.
* * *
ان "البرية" هي المكان الوحيد الذي فيه يهذبنا الرب ويمتحننا بوسائل الإلهية والذي فيه نتعلم ونختبر ضعفنا وانحراف طبيعتنا، ولكن هناك أيضا نتعلم درس الاعتماد على نعمة ربنا يسوع المسيح الكاهن العظيم، وبذا نستطيع الطلوع من البرية مظهرين كيف أننا في ضعفنا نستند على قوة حبيبنا "تقووا في الرب وفي شدة قوته"(أف6: 10) وبذا تصير نعمة المسيح وقوته ظاهرتين في ضعفنا إذ أننا لا نستطيع ان نسير خطوة واحدة في البرية بدونه وبدون معونته "تكفيك نعمتي لان قوتي في الضعف تكمل"(2كو12: 9).
ان خدمة المسيح، الكاهن العظيم في الأقداس السماوية وقوة الروح القدس الساكن فينا متلازمتان، فأننا إذ نستند على حبيبنا نسلك في الوقت ذاته بالروح ولا نعطي للجسد مكانا. يا لها من حالها اختبارية مباركة ان يكون للنفس عادة السلوك المستمر خطوة بعد خطوة بقوة الروح القدس! والرب له المجد يريدنا ان نستند عليه فلا نتحرر فقط من أعمال الجسد، بل نصير قادرين على الطلوع من البرية إلى جو البهجة الإلهية المنعش. في العدد الثالث عشر من هذا الإصحاح يخاطب الحبيب عروسه بالقول "أيتها الجالسة في الجنات" ففي "البرية" نتدرب على السير في الطرق الإلهية واختباراتها، أما في "الجنات" فأننا نكون في دائرة الفرح والابتهاج الإلهيين، وبمؤازرة ربنا يسوع وروحه نستطيع الارتقاء فوق كل اختبارات البرية لنعرف مكاننا السماوي بحسب الدعوة الإلهية التي دعينا إليها ووفقا لقصد المحبة التي لا حد لها _ محبة الله الآب الذي اختارنا في المسيح يسوع من قبل تأسيس العالم.
ان تدريبات البرية كلها لخيرنا ولبركتنا سواء أكانت تجارب متنوعة أم أمراضا جسدية أم أحزانا أو غير ذلك وهي وسائل الله معنا لتهذيبنا وتزكية إيماننا، ومتى تدربنا بها فأنها تنشيء لنا فرحا أبديا، فإذا ما انتهت سياحتنا وغربتنا في هذه البرية وطلعنا منها فأننا لا نخلص فقط من مشقاتنا وتجاربنا بل نحمل معنا ثمارها المجيدة _نحمل معنا ربحا وفيرا لمجد الله وحمده.
* * *
ألا ان الطلوع من البرية ليس معناه فقط الانطلاق من هذا العالم لنكون مع المسيح ولكنه من امتيازنا ونحن هنا في هذا العالم ان نطلع روحيا من "البرية" مستندين على حبيبنا، فحضور الرب المبارك معنا أو في وسط الكنيسة هو شيء أسمى من اختبارات البرية، فأنه إذ يخبرنا، نحن الذين لا يستحي ان يدعونا أخوة، عن الله أبينا وإلهنا وعن محبته ومقاصد ومشورات النعمة الأزلية، نكون في دائرة أسمى من البرية واختباراتها، غير أننا هناك في اجتماعنا باسمه وفي حضرته المباركة نقدم له من الثمار التي ربحناها من تدريبات البرية.
* * *
"تحت شجرة التفاح أيقظتك (أو أقمتك) هناك ولدتك أمك هناك ولدتك والدتك". يذكر الحبيب عروسه بأصلها في دائرة النعمة، وكيف صار لها وجود أمامه، وأنه لجدير بالاهتمام والالتفات أننا نعرف ذلك جيدا، فكل ما صرنا إليه هو من نعمة الله "الكل من الله" فمن وقت حصولنا على الولادة الثانية _الولادة من فوق ونحن نقيم في نعمة الله الفائقة الإدراك، ولكن الأمر الجوهري في هذا العدد، والذي يجب ان لا يفوتنا، هو أننا ولدنا من أم "ولدتك أمك _ ولدتك والدتك" والرسول بولس يحدثنا عن "أمين" إحداهما جارية والأخرى حرة (غل4) ويرينا ان هاتين الأمين تمثلان نظامين إحداهما مرسوم العبودية والآخر متوج بالحرية. الواحد هو نظام شرعي مرتبط بسيناء، والآخر نظام روحي قوامه النعمة والحرية وهو المعبر عنه "بأورشليم" وهي التي يقول عنها الرسول بولس بأنها "هي أمنا" وخلاصة هذه الحقيقة هي "إذا أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة"(غل4: 22-31). ان "أورشليم العليا" هي الدائرة الروحية السماوية وترمز إلى كل ما صرنا إليه وصار لنا من الله بالنعمة، فمن اللحظة التي رجعنا فيها إلى الله وآمنا بابنه الوحيد قبلنا منه غفرانا لخطايانا كما قبلنا المسيح برا لنا وروحه القدوس الذي به ختمنا وهو ساكن فينا. هذا هو تدبير النعمة المؤسس على موت وقيامة المسيح الممجد الآن في السماء.
* * *
ان أمنا قد ولدتنا "تحت شجرة التفاح" وشجرة التفاح هي بكل يقين رمز للمسيح نفسه له المجد والكرامة "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت ان أجلس"(ص2: 3)فإذ قد ولدتنا أمنا والمسيح أيقظنا نجد أنفسنا "تحت ظله"، ويا لها من يقظة مباركة عندما تدرك النفس وقت تجديدها بان الله قد أعد لها كل شيء في المسيح _"شجرة الحياة". ان كل أفكار الله من نحو بركة الإنسان قد تحققت في المسيح، ولكننا لم نستطيع ان ندركها إلا بعد ان ولدتنا "أمنا" وبعد ان أيقظنا المسيح، لأننا بحسب الطبيعة لا نستطيع ان نقدر سمو المسيح، والكرامة اللائقة له، إذ لو استطعنا ذلك بأنفسنا يكون هذا معناه أننا لسنا بشرا ساقطين بحسب الطبيعة. أننا فقط كمن قد ولدنا وأيقظنا نستطيع ان ندرك المسيح ونعمته وغناه الذي لا يستقصى "الناموس بموسى أعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" فليس شيء خارجا عن المسيح "ومن ملئه نحن جميعا أخذنا ونعمة فوق نعمة"(يو1: 16و17) ما أسعد حقا وكم هو ممجد لله ان نعرف بان كل بركة باركنا بها هي من عمل محبته الإلهية وأنها كلها تحققت ووهبت لنا في المسيح، وهو له المجد قد أيقظنا لنراها وندركها ولنحمده ونسبحه لأجلها.
* * *
وبالنسبة للبقية التقية في يومها المجيد يقول لها العريس _المسيا "تحت شجرة التفاح أيقظتك أو أقمتك" أني أحببتك وباركتك بكل البركات الأرضية في مملكة مجيدة بحسب عهدي مع الآباء. أما المسيحي فيفوز بحياته وبركته مع المسيح وفيه بحسب غنى نعمته، وهذه الحقيقة الهامة توضح الفارق بين البركة اليهودية والبركة المسيحية. صحيح ان كلا من الفريقين ينال حياته وبركاته منه تبارك اسمه، إلا ان المسيحيين الحقيقيين قد أحياهم الله مع المسيح، وأقامهم معا وأجلسهم معا في السماويات في المسيح يسوع، أما إسرائيل فأنه من الأرض وبركاته أرضية، في حين ان المسيحيين تابعون "للسماويات" وأسماؤهم مكتوبة في السماء.
* * *
جاءت العبارة الأخيرة من هذا العدد في كل الترجمات الأخرى هكذا "تحت شجرة التفاح أيقظتك (أو أقمتك) هناك ولدتك أمك هناك ولدتك والدتك":
I raised (or awoke) thee up unber the apple tree, there thy mother brought thee forth , there ahe brought thee forth that bare thee.
ص 8، آية 6
6-"اجعلني كخاتم على قلبك على ساعدك. لان المحبة قوية كالموت. الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نار لظى الرب".
كم هو مبهج ولذ للقلب للمسيح ان يدرك المكانة التي له في قلب وعواطف الحبيب، إذ ليس شيء مضرا ومعطلا للحياة المسيحية مثل الشك أو عدم اليقين بما لنا من محبة وإعزاز في قلب المسيح. ان الخاتم (أو الختمSeal ) على القلب وعلى الذراع هما بمثابة عهد أو ضمان إلهي بان لنا كل محبة المسيح وكل قوته "شدة قوته" وليس شيء أقل من ذلك يريح ويرضي العروس ويشبعها. أنها تعرف جيدا ان الختم الذي يضمن سلامتها الحاضرة والأبدية هما على قلبه وعلى ساعده، ومتى كانت للمؤمن هذه المعرفة فأنه يستطيع ان يقول "من سيفصلنا عن محبة المسيح. . . . . فأني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمورا حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا"(رو8: 35-39).
* * *
والروح القدس هو الختم الإلهي الذي يؤكد لنا بأننا صرنا لله إلى الأبد "إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده. . . . روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء"(أف1: 13و14، 4: 30).
* * *
والعروس تثق في محبة الحبيب التي استطاعت ان تواجه الموت "لان المحبة قوية كالموت" فأنه "ليس لأحد حب أعظم من هذا ان يضع أحد نفسه لأجل أحبائه"(يو15: 13) وهذا ما عمله ابن الله، ومحبته دائمة وأبدية فأنها لن تنتهي أو تتعطل لأننا على قلبه، كما أنه لن يكف عن خدمتنا لأننا على ساعده، وأسماؤنا منقوشة كما على الصدرة التي كانت على "قلب هرون" ومنقوشة أيضا على حجري الجزع الموضوعين على كتفيه "كنقش الخاتم كل واحد على اسمه تكون للاثنى عشر سبطا"(خر28: 21). ان هذا يرينا بكل وضوح ان أسماءنا لن تمحى من أمامه، ولا شيء يستطيع ان يزعزع أو يزحزح القديسين من مكانهم أو مقامهم السامي إذ هم غرض محبة وخدمة المسيح "هوذا على كفي نقشتك"(أش49: 16) ان إدراكنا لذلك يلصق نفوسنا ويربط قلوبنا وعواطفنا به.
قوموا نسبح كلنا لريس الأحبار
أسماؤنا منقوشة في صدره المختار
لا سبب يقدر ان يخمد حب ذاك
مات هنا عنا كما يحيا لنا هناك
"لان المحبة قوية كالموت" نعم فكما ان الموت يمسك بمن يقبضهم ولا يفلتهم من يده إذ لا توجد قوة تستطيع ان تنتزعهم منه، هكذا المسيح له المجد فأنه لن يتخلى عن أحبائه ولا توجد قوة تستطيع ان تنتزعهم من يده. ان محبة المسيح لا ترخي ولا تهمل أولئك الذين هم عطية الآب له "وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي .... ولا يقدر أحد ان يخطف من يد أبي. أنا والأب واحد" (يو10: 28-30).
حقا ما أعجب محبة ربنا يسوع فأنها إذ التقت بالموت في صراع عنيف فوق الصليب انتصرت المحبة وانهزم الموت إلى الأبد.
* * *
"الغيرة قاسية كالهاوية. لهيبها لهيب نار لظى الرب" أنها غيرة المسيح المقدسة _غيرة محبته الشديدة، التي لا تحتمل ان يختلس قلوبنا أي شيء سواه. كم وهو بغيض لديه ان يوجد ما يفسد أذهاننا عن البساطة التي في المسيح يسوع نحن الذين خطبنا لنكون عذراء عفيفة له. أنه يغار علينا "غيرة الله" (2كو11: 2و3) وما يقدمه لنا من تحريضات وتحذيرات وتأنيبات وتأديبات هي من الأدلة القوية على غيرة محبته التي هي "الهاوية" أي التي لا تستطيع أية قوة ان تؤثر عليها أو تضعفها، إذ ليس في كل الخليقة ما يستطيع ان ينتزع من الهاوية (أي القبر) من قد استحوذت عليهم وامتلكتهم. ان غيرته الشديدة علينا تعمل معنا بوسائل متنوعة، وكثيرا ما تكون معاملاته قاسية كما لو كانت "لهيب نار لظى الرب" وهذا يذكرنا بذلك الفصل الذي يتحدث كثيرا عن "تأديب الرب" ويختم بهذه العبارة الخطيرة "لان إلهنا نار آكلة" (عب12) ولكن هناك دائما من وراء تلك المعاملات الإلهية، مهما كانت مذللة وقاسية، تلك المحبة القوية والمضطرمة التي لا تطفأ _ تلك المحبة التي تقف حائلا ضد كل المؤثرات التي تحاول ان تلهينا أو تحولنا عن الحبيب. أنها المحبة التي تعمل دائما على ملا شاة كل تلك المؤثرات ولو "بلهيب نار" إذا لزم الأمر، وذلك لتحريرنا من تلك المؤثرات ومن قوتها حتى نستطيع ان نتمتع ونبتهج فرحا بمحبة المسيح.
ص 8، آية 7
7-"مياه كثيرة لا تستطيع ان تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها. ان أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقار".
ان المحبة الإلهية هي أسمى من كل مقاومات الأعداء، ولا شيء يستطيع ان يعمله البشر أو الشيطان يمكنه ان ينتصر عليها. تأمل في تاريخ الكنيسة، أو في حياة المؤمنين أفرادا، ومن بينهم تلاميذ الرب المحبوبين عندما كان هو له المجد هنا في هذا العالم، فكم ظهر منهم من عدم إيمان ومحبة ذات، وثقة ذاتية، ولكن كان "لظى الرب" قد أحرقها كلها. لقد كانت انتصرت محبته على هذه كلها فلم تستطع "المياه الكثيرة" ان تطفئها. نعم لقد كانت في كل واحد منا أشياء كثيرة تطفئ محبة الجميع من نحونا عدا محبته هو. أنها لن تنطفئ، فهي محبة أبدية، وهو تبارك اسمه يحبنا الآن _ في هذه اللحظة بقدر المحبة التي أحبنا بها عندما بذل نفسه لأجلنا على الصليب. مبارك اسمه المعبود إلى الأبد.
* * *
ما أجمل ان نطيل التأمل في محبة ابن الله القوية والتي تفوق الإدراك، ولا توجد ثروة في العالم تستطيع ان تعادل قيمة هذه المحبة أو تنيلها "ان أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقار" وأين نجد محبة مثل هذه؟ أنها في قلب ربنا يسوع وحده "الذي أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا"(أف5: 2) "بهذا قد عرفنا المحبة ان ذاك وضع نفسه لأجلنا" (1يو3: 16). لقد كان كل واحد منا بمفرده في قلب الرب يسوع لما كان على الصليب. صحيح ان هناك وجها عاما لموته، فقد "مات لأجل الجميع" (2كو5: 15) أنه "بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1تي2: 6) ولكن من جهة المختارين _أولئك الذين أعطاهم الآب له_ فقد بذل نفسه لأجل كل واحد منهم شخصيا، ويستطيع كل مؤمن ان يقول "ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي"(غل2: 20) لقد أعطى له المجد أكثر من "كل ثروة بيته" أنه أعطى نفسه، وأي شيء أقل من ذلك غير كاف لان يبين محبته أو ان يجذب قلوبنا إليه لنحبه، وإذ ندرك بان ابن الله قد أحبنا _ أحب كل واحد منا فأننا نحبه محبة قلبية صادقة، فان محبته التي بيّنها في بذل نفسه لأجلنا لا يمكن ان "تحتقر". وإذا كنا نطيل التأمل في محبته لنا وبذل نفسه _حياة الغالية لأجلنا فأننا بدورنا نحبه محبة تقودنا إلى تسليم ذواتنا بجملتها له عالمين أننا إذا قدم أي منا "كل ثروة بيته بدل المحبة (محبة قلوبنا له فأنها) تحتقر احتقارا".
فان بذلت ثروتي وكل مالي باختيار
فكل ذا في حبه يرى بعين الاحتقار
ص 8، آية 8 و9
8 و9-"لنا أخت ليس لها ثديان. فماذا نضع لأختنا في يوم تخطب. ان تكن سورا فنبنى عليها برج فضة. وان تكن بابا فنحصرها بألواح أرز"
من المحقق ان المقصود "بالأخت الصغيرة" هو افرايم أي العشر الأسباط التي فقدت من زمان بعيد لقد كان سبيهم وتشتيتهم سابقا لميلاد المسيح، ولا يزالون تائهين ولا يعرف لهم مقر إلى الآن، لذا لم تكن لهم دراية بكل التدريبات التي اجتازها السبطان الآخران. أنهم قصيروا الإدراك وليست لهم صلة أو معرفة بالمسيح في ولادته وموته وقيامته ورجوعه مرة ثانية، ومع ذلك سوف يتمتعون بنتائج مجيئه الأول بالنعمة ومجيئه الثاني بالمجد.
* * *
فضلا عن ذلك فان لنا في هذين العددين تعليما روحيا وتحذيرا خطيرا، إذ كم من المؤمنين في أيامنا هذه ينطبق عليهم القول "لنا أخت ليس لها ثديان" مؤمنون قصيرو النظر، ضعفاء في المعرفة والفهم الروحيين أو في الحياة التقوية. أنهم في حاجة إلى النمو في النعمة، وإلى إدراك غنى بركات الفداء الذي لنا في دم الحمل، "فماذا نصنع لأختنا؟" ما هو العلاج لهذه الحالة؟ لا شك ان الأمر يتطلب اقتياد تلك النفوس لتدرك قيمة البركات الروحية التي ذخرت لها في ربنا المبارك. أنها في حاجة إلى التقدم والنمو للوصول إلى حالة البلوغ الروحي _ إلى "برج فضة" وإلى "ألواح أرز" وقد عمل الرسول بولس جاهدا ليضيف شيئا روحيا جسديا للقديسين رو1: 11، 1كو2: 13،كو1: 24، 1تس3 : 10، عب6: 1).
* * *
وفي القول "ان تكن سورا" ما يبين أنه وان كانت أخت العروس صغيرة إلا أنها راغبة في العيشة بالانفصال عن العالم، وفي تجنب الشر المحيط بها، ومع ذلك فأنه "ليس لها ثديان" أي أنه تعوزها الأحشاء والعواطف التي تعتز بالعريس وبمحبته، وحسن ولا ريب ان تكون الأخت الصغيرة "سورا". أنه أمر له أهميته وضرورته وهذا ما تتميز به المدينة المقدسة (رؤ21) ولكن علاوة على ان هذه المدينة "لها سور عظيم وعال" فأنها تتميز أيضا بأوصاف أخرى هي غاية في الجمال، فهي "العروس امرأة الخروف" أي ان لها العواطف والأحشاء التي تحب العريس وتعتز بمحبته، تلك الأحشاء التي كانت تنقص الأخت الصغيرة فأنه "ليس لها ثديان" وهذه الحالة كانت عيبا أو نقصا يحتاج إلى علاج كامل "فماذا نصنع لأختنا في يوم تخطب؟".
* * *
"فنبنى عليها برج فضة" ان كان السور يشير إلى العيشة في مخافة الرب التي تقود النفس إلى الانفصال ، وهذا حسن وجميل إلا أنه ليس كافيا، فيجب ان يضاف إلى ذلك إدراك النفس ويقينها بنعمة الله التي لها والفداء الذي في ربنا يسوع المسيح _ هذا الفداء الذي كانت الفضة رمزا له "برج فضة" فالأخت الصغيرة هي في حاجة إلى إدراك إحسان الله الكامل ورضائه الذي استقر عليها كمفدية. لقد كان للفداء شان عظيم في تاريخ الشعب القديم "ترشد برأفتك الشعب الذي فديته"(خر15: 13) وكذلك نحن المؤمنين في عهد النعمة الحاضر، فان لنا في ربنا يسوع المسيح "الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته"(أف1: 7) "المسيح افتدانا من لعنة الناموس. . . لنصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح"(غل3: 13و14). لقد افتدينا لننال التبني، وبما أننا أبناء فقد "أرسل الله روح ابنه إلى قلوبنا صارخا يا أبا الآب"(غل4: 4-6) هذا ما يشير إليه "برج الفضة".
* * *
"وان تكن بابا فنحصرها بألواح أرز" لقد قصد الله ان يكون الشعب الأرضي في تاريخه السابق، كما سيكون في تاريخه اللاحق "بابا" يدخل منه البشر إلى معرفة الله، ولكن ذلك الشعب قد فشل في ذلك. أنه لم يحسن استعمال هذا الامتياز الموهوب له من الله، من ثم صار المسيح، له المجد _ "الباب" الحقيقي "أنا هو الباب. ان دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى"(يو10) فبالمسيح وحده الإتيان إلى الله، وإلى التمتع بملء البركة الإلهية "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو14: 6) ولكن الله لم يغير فكره من ان يكون شعبه أيضا "بابا" يمكن بواسطته الوصول إلى معرفته تعالى. ان الله الذي لم ينظره أحد قط يريد ان يرى في شعبه ويعرف بواسطتهم "إذ نسعى كسفراء عن المسيح كان الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تعالوا مع الله" (2كو5: 20)
* * *
ولكي يكون المؤمن "بابا" بكل معنى الكلمة، يجب ان يتجمل بزينة روحية مقدسة. يجب ان تظهر فيه صفات وسجايا "الطبيعة الإلهية" وذلك بان تكون له شركة عميقة مع الله الآب والرب يسوع المسيح. لقد كتب الرسول بولس للمؤمنين في كورنثوس عن مقامهم الذي لهم في المسيح يسوع "المقدسين في المسيح يسوع. . . أمين هو الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا"(1كو1) ثم في (ص2) عن الروح القدس الذي به يستطيعون ان يعرفوا الأشياء الموهوبة لهم من الله، وفي الرسالة بصفة عامة كان كأنه يبنى عليهم "برج فضة" ولكن بسبب نقص مستواهم الروحي أضطر ان يكتب إليهم رسالة ثانية كما لو كان فيها يحصرهم "بألواح أرز" ففيها يرسم أمامهم ربنا يسوع وسيط العهد الجديد الذي يجب ان ينظروا إلى مجده بوجه مكشوف لكي يتغيروا إلى صورته. أنه يحدثهم في هذه الرسالة (الثانية) عن الخليقة الجديدة الجميلة، وان الأشياء العتيقة قد مضت، وان الكل من الله، وان المؤمن الشاخص إلى المسيح والناظر إلى مجده، والذي انعكس عليه ذلك الجمال الأدبي _ جمال المسيح، فأنه يكون بلا ريب "بابا" جميلا يقود الآخرين إلى المسيح "نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" كما سلفت الإشارة (2كو5: 20).
لقد بنى هيكل سليمان من حجارة، ولكنها قد تغطت بألواح الأرز الجميلة، وفي هذا إشارة أو رمز إلى اكتساب شيء جديد من كمالات المسيح "من مجد إلى مجد" أعني سجايا روحية جميلة، ولا يمكن ان يرى جمال القديسين جليا وبكيفية جذابة للآخرين إلا إذا تحلو بالصفات التي يحثنا عليها الروح القدس كثيرا في كلمة الله كما في (رو12، 1كو13، كو3: 12-15) هناك ما يشير إليه "ألواح الأرز"
ص 8، آية 10
10-"أنا سور وثدياي كبرجين. حينئذ كنت في عينيه كواجدة سلامة".
هذه حقيقة عرفتها العروس، فقد أيقنت ان ضمان تمتعها بغنى البركات هو في الانفصال الكلي عن العالم "أنا سور" وعرفت أيضا ان الانفصال هو السبيل الوحيد للنمو والبلوغ الروحيين، كما إلى الحياة المثمرة لمسرة وشبع الحبيب "وثدياي كبرجين" وقد صار لها اليقين باستقرار رضاه عليها وعلى حياتها العملية "حينئذ كنت في عينيه كواجدة سلامة" لقد صار لها الإدراك الكامل بأنها وجدت نعمة في عينيه، وليس هناك ما يحرمها منه ومن التمتع برضاه "حياة في رضاه". هبنا يا إلهنا وأبانا نموا في النعمة وفي ربنا يسوع المسيح. هبنا هذا البلوغ الروحي _البلوغ إلى معرفة ابنك الوحيد. "إلى إنسان كامل. إلى قياس ملء المسيح. . صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح الذي منه كل الجسد مركبا معا ومقترنا بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة"(أف4: 13-16).
ص 8، آية 11 و12
11و12-"كان لسليمان كرم في بعل هامون. دفع الكرم إلى نواطير كل واحد يؤدي عن ثمره ألفا من الفضة. كرمي الذي لي هو أمامي. الألف لك يا سليمان ومئتان لنواطير الثمر".
كان سليمان، بكل يقين، رمزا لربنا يسوع المسيح ملك السلام _ المسيا ملك المجد الحقيقي، وهو صاحب الكرم الذي في "بعل هامون" (أي رب جمهور غفير) والإشارة هنا هي إلى جماهير الأمم في الملك الألفي السعيد، فالأرض كلها ستصير كرما عظيما لرب المجد "للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها"(مز24: 1) فكان العروس ترى بان الألف سنة قد جاءت ومجد الرب ملأ الأرض.
وعندما يأتي سليمان _ سليمان الحقيقي سيكون له كرم، وسيمون ذلك مثمرا، وسيقدم نواطير الكرم _أي حارسوه نتيجة خدمتهم للملك صاحبه، أي ان كل شيء سيكون تحت نظر وسيادة المسيح وطبقا لمبادئ ملكوته. أما كرم العروس فتريد ان تذهب كل ثماره للملك سليمان مع حصة صغيرة لأولئك الحراس "كرمي الذي لي هو أمامي. الألف لك يا سليمان ومئتان لنواطير الثمر" فالكل يساهمون في غنائم الأرض المباركة، المثمرة والمبهجة والممتلئة سلاما، ولكن المسيح سيكون رب الجميع _"بعل هامون" أي ملك المسكونة بأسرها. عندئذ تجثو له كل ركبة "ويعترف كل لسان ان يسوع هو رب لمجد الله الآب".
* * *
ان في كلام العروس عن "الكرم" إشارة إلى موضوع الخدمة ومسئوليتنا بازائها، على ان أمر الخدمة ليس هو الموضوع الرئيسي في هذا السفر، إذ ان موضوعه الجوهري هو علاقة الرب بنا ومحبته لنا وعلاقتنا نحن به ومحبتنا له، ومتى عرف ذلك بكيفية عملية فأنه ينشئ فينا رغبة صادقة في خدمته، والروح القدس يصوره أمامنا هنا كسليمان الحقيقي الذي له كرم في "بعل هامون" أي أنه رب جمهور غفير كما سلفت كسليمان الحقيقي الذي له يرسم أمامنا سيادة الرب يسوع، وان جمهور المؤمنين هم عبيد أو خدام مسئولون أمامه. فقد سلم الكرم إلى النواطير _ أي إلى حراس، وعلى كل واحد ان يؤدي عن ثمره "ألفا من الفضة" (قارن مت21: 33و34). نعم أننا إذا قدَّرنا مسئوليتنا كعبيد وخدام للمسيح، فأننا نأخذ نصيبا كاملا ومباركا من تعبنا في كرمه _ نأخذ "ثمره" أعني كل ثمر الكرم وهو له المجد يأخذ "ألفا من الفضة" من كل واحد منا. ان لكل واحد من المؤمنين نصيبا من الخدمة في كرم الرب _كبيرا كان أو صغيرا، ومتى أدى كل واحد خدمته "بحسب ما أخذ" بأمانة واجتهاد فأنه يتمتع بالثمر الوفير كما أنه يقدم لسيده نصيبه"ألفا من الفضة" فالسيد صاحب الكرم والخادم يتمتع كل منهما بنصيب كامل، والشيء الذي يجب ان نراعيه ونذكره دائما هو أننا حراس لكرمه سواء كنا أفرادا أو عائلات، سواء في بيوتنا أو في أشغالنا، أو في اجتماعاتنا، فأننا دائما تحت المسؤلية والالتزام بخدمة السيد.
* * *
ثم تشير العروس إلى كرمها هي "كرمي الذي لي هو أمامي" فعلاوة على كرم سليمان، كان للعروس كرم، وكان موضوع رعايتها واهتمامها "هو أمامي" فهي في بداءة هذا السفر تعترف بحالتها لأنها أهملت كرمها "أما كرمي فلم انصره"(ص1: 6) أما الآن فأنها ترى في حالة الصحو والسهر "كرمي الذي لي هو أمامي".
وهي باختيارها تقدم لسليمان "ألفا من الفضة" من كرمها "الألف لك يا سليمان" فعواطف محبتها تتعادل مع مطاليبه، فان كان قد طلب من كرمه هو "ألفا من الفضة" فأنه لن يأخذ أقل من ذلك من كرمها هي، وفي هذا نرى ان المحبة ليست أقل أثمارا وإنتاجا من المسئولية، فإذا ما أدركت قلوبنا كيف نثمر المحبة والعواطف النقية والمخلصة للمسيح بالصورة المرسومة أمامنا في كلمات العروس هذه، فان محبتنا للمسيح تكون محبة عملية بالحق. ان المحبة وحدها هي التي تستطيع ان تؤدي بسرور وفرح ما يجب ان يؤدي تحت المسؤلية، وهي _ أي المحبة_ تؤديه ليس لأنه مجرد واجب بل لأنها تجد لذتها في تأديته_ تجد بهجتها في ان تتعب لأجل من تحب، وهذا معنى قول العروس "الألف لك يا سليمان" فالمحبة تقدم له الكل, وهو_ أي سليمان الحقيقي يتقبل ذلك لا باعتبار أنه مجرد واجب، بل لان العروس تقدم بسرور "بروح منتدبة" وبقلب مبتهج وبدافع المحبة الخالصة. ليتنا نتعلم كيف نمارس خدمتنا للرب بهذه الروح_ روح المحبة لذاك الذي أحبنا وخدمنا ولا زال يخدمنا.
* * *
ثم تدرك العروس مبدأ المكافأة والمجازاة على الخدمة والتعب الرب "ومئتان لنواطير الثمر" وهذه حقيقة واضحة كل الوضوح في كلمة الله، وهي ان كل خدمة للرب سيكون لها جزاؤها بكل يقين، فلا يمكن ان واحد من المؤمنين يعمل شيئا بأمانة للرب إلا وينال منه المجازاة والمكافأة، فهو له المجد ليس "بظالم حتى ينس تعب المحبة التي أظهرتموها نحو أسمه"(عب6: 10) والرب يعطي المجازاة روحيا الآن، ثم سيعطيها علنية أمام "كرسي المسيح" وهذه المكافأة ستكون على مبدأ النعمة فان كل واحد منا عندما ينال المجازاة سيشعر أنه أخذ أكثر كثيرا مما يستحق، وكان العروس قد عرفت ذلك عندما قالت بان الحراس يأخذون "مئتان من الفضة" والحصاد يأخذ أجرة ويجمع ثمارا للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معا"(يو4: 36).
"إذا يا أخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين في عمل الرب في كل حين عالمين ان تعبكم ليس باطلا في الرب"(1كو15: 58) "ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه" (1كو3: 8). "حينئذ يكون المدح لكل واحد من الله"(1كو4: 5).
ص 8، آية 13 و14
13و14-"أيتها الجالسة في الجنات الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني". "أهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيائل على جبال الأطياب".
يطلب العريس المبارك _ المسيا من حبيبته الجميلة العروس الأرضية_ البقية التقية من يهوذا ان تسمعه صوتها "فأسمعيني" وهي إذ تلبي نداءه تترنم وتغني بأناشيد الحمد للملك المتوج، وستترنم معها الأرض كلها، وتذيع "أوصنا" السعيدة عندما "يملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرضي" (مز72: 8) فالخليقة بأسرها ستمتلئ بالفرح والابتهاج في ملك المسيا المجيد، وبنغمات الحمد والشكر تحمي مليكها المجيد.
وان قلب العروس إذ يتوق إلى ذلك الوقت السعيد، وقت الملك المجيد، فهي ترجو ان يأتي عريسها وحبيبها سريعا، وهو سيحقق لها انتظارها إذ لا بد ان "تأتي أزمنة الفرج من وجه الرب ويرسل يسوع المسيح. . . الذي ينبغي ان السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر" (أع3: 19-21) أنه _ له المجد سيأتي لغبطة الكنيسة ومجد إسرائيل وبركة الأرض كلها.
* * *
والعروس ترى هنا جالسة "في الجنات"، فهي ليست بعد في البرية، ولكنها تهنأ بالامتيازات المباركة في جو الغبطة والابتهاج، وهناك يسمع الأصحاب صوتها "الأصحاب يسمعون صوتك" وكلمة الرب الأخيرة "أسمعيني" لها أهميتها، فقد نكون متمتعين بغبطة الوجود "في الجنات" في صفاء والسلام، وقد نتحدث كثيرا إلى أخوتنا "الأصحاب" بكلام مفيد ونافع للبنيان، ولكن هل نحن نعنى بالكلام مع الحبيب وبالتحدث إليه شخصيا؟
هذه هي آخر كلمة يوجهه هو إلى العروس في هذا السفر "فأسمعيني" ليذكرها وبذكرنا بأنه وان كان الكلام مع الأصحاب حسنا إلا ان الكلام معه أحسن وألزم بما لا يقاس، وان الحبيب يهمه كثيرا ان نكون على صلة دائمة به. أنه يريد ان يكون ذلك موضوع اهتمامنا الأول. ألسنا في حاجة إلى كلمة الرب هذه؟ نعم إذ ما أقل حديثنا مع الرب الذي يريد في كل حين ان يسمع أصواتنا "فأسمعيني".
* * *
وهوذا هي تلبي نداءه وتسمعه صوتها إذ تدعوه قائلة "أهرب أو أسرع ((Haste يا حبيبي" فهو لا يزال غائبا، وهي تشتاق إلى مجيئه. ولفة العروس هذه يوافقها تماما قول العهد الجديد "والروح والعروس يقولان تعال"(رؤ22: 17). أنها تريد ان يأتي سريعا لتراه "كما هو" ولكي تكون معه "كل حين" وأنه بمجيئه سيلاشي عناء البرية الموحشة ومشقاتها. نعم ان مجيئه سيغير المشهد الحاضر الملطخ بالخطية والملئ بالأشواك، وعندئذ ستملأ رائحة الأطياب، المنسكبة على قدميه، المسكونة بأسرها، وستكون الأرض عندئذ لمسرة خالقها وسينتشر العبيق العطر من "جبال الأطياب" هذا بلا ريب هو منظر الملك الألفي البهيج الذي فيه سيكون لعروس الحمل أقرب وأعز مكان في قلب عريسها، وسيكون العريس المبارك مجد وإكليل ذلك العصر الذهبي السعيد، كما سيكون هو _تبارك اسمه المعبود _ مجد وإكليل العروس نفسها.
وكم هو جميل ان هذا السفر النفيس يترك في ختامه أعظم أثر في نفوسنا إذ يضع أمامنا مجيء ربنا المبارك، فان غاية الروح القدس في ختام هذا السفر هو ان تكون قلوبنا مهيأة ومستعدة ومتشوقة إلى مجيء المسيح فتدعوه برغبة صادقة "أهرب _ أسرع يا حبيبي". ولقد كانت آخر كلمة للمسيح له المجد على صفحات الوحي المقدس هي "نعم. أنا آتي سريعا" فليتنا نقول بحق ومن كل القلب "آمين. تعال أيها الرب يسوع"(رؤ22: 20).
إذ قلبه المشتاق لا يحتمل التأخير
يدعو إذا عروسه لمجده المنير
_________
فأسرعن بالحضور يا أيها الرب الغفور
فنحظى بملء السرور معك إلى دهر الدهور
* * *
وفي الختام لا يسع الكاتب إلا ان يقدم الشكر الكثير للرب على معونته له في كتابة هذه التأملات البسيطة مستودعا أياها بين يديه ومتوسلا إليه ان يجعلها سبب بركة وإنهاض له وللقارئ العزيز حتى نحيا جميعا في شركة قلبية صادقة ونقية مع الرب، وفي انتظار لمجيئه السعيد الذي أصبح قريبا جدا.
* * *
ولا ينسى الكاتب ما لقيه من معونة في كتابة هذه التأملات بواسطة بعض المراجع وأهمها:
أولا: الترجمات المتنوعة للكتاب المقدس باللغة الإنكليزية ولا سيما ترجمة يوحنا داربي
ثانيا: AN OUTLINE OF THE SONG OF SONGS C.A.C.
ثالثا: THE SONG oF SOLOMON BY A. MILLER.