تعريب الدكتور جورج نوّار
طبعة تحضيرية 1993
العظات 1-3
تعليق وتبويب القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مارجرجس بإسبورتنج إسكندرية
بين يديك أيها القارئ العزير كتاب هو ثمرة شركة مع الله عاشها القديس غريغوريوس
أسقف نيصص، فقد وُجد في هذا السفر حجال العرس السماوي، فيه تنعم النفس التي تُرد
لها صورة الله بالاتحاد مع عريسها السماوي، تتعرف على أسراره وتشترك في عربون مجده
الفائق.
لقد سبق ترجمة بعض مقتطفات لهذا العمل في كتابنا "نشيد الأناشيد"، والآن نفرح إذ يقوم الدكتور جورج نوّار بهذه الترجمة للنص... وهو نص عميق يحتاج إلى جلسات هادئة مع الله، لكي يختبر المؤمن "الحب الإلهي" ويعيشه!
الرب يستخدم هذا العمل لحساب ملكوته،
ويهبنا جميعًا بروحه القدوس نعمة الفهم الروحي والحياة الجديدة المسبحة والمتهلِّلة بالمخلص،
من أجل سهولة متابعة النص قمت بوضع عناوين جانبية، مع بعض التعليقات. كما قمت بنشر سيرة القديس وكتاباته كمقدمة لهذا العمل.
القمص تادرس يعقوب ملطي
عيد استشهاد مارمينا نوفمبر 1992م.
نشيد الأناشيد 1:1-4
1. نشيد الأناشيد الذي لسليمان.
2. ليقبلني بقبلات فمه، لأن ثدييك أفضل من الخمر.
3. رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب. اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى.
[يرى القديس غريغوريوس أن إدراك أسرار هذا السفر - سفر العرس السماوي - هو موهبة يقدمها العريس السماوي لعروسه التي تختفي فيه، كما في ثوب ملوكي مقدس... لهذا لاق بالنفس أن تخلع عنها ثوب الأفكار الجسدانية حتى ترتفع بروح الرب إلى حجال عريسها وتتأهل للتمتع بأسراره.]
أنتم يا من - حسب نصيحة القديس بولس - قد تجرّدتم من الإنسان العتيق بأعماله وشهواته كما من رداء قذر، وارتديتم بطهارة حياتكم ملابس الرب اللامعة التي ظهر بها على جبل التجلي.
يا من لبستم الرب يسوع المسيح بثوبه المقدس، وتغيرتم معه إلى التحرر من الأهواء، وتبعتم الإلهيات.
استمعوا الآن إلى أسرار نشيد الأناشيد.
ادخلوا إلى حجال العريس الطاهر، والبسوا الثياب البيضاء التي للأفكار الطاهرة النقية.
لا يكن لأحد شهوات وأفكار جسدية وثوب ضمير غير لائق بالعرس الإلهي.
ليتخلص كل أحد من أفكاره الشخصية، ولا يربط أقوال العريس والعروس بالأهواء الجسدية الحيوانية.
كل من يظهر أنه مرتبط بهذه الأفكار المشينة يلزم طرده من صحبة المتمتعين بأفراح العرس إلى موضع النحيب (مت 22: 10-13).
[بعد أن طلب القديس منا أن نخلع ثوب الأفكار الجسدانية ونرتدي مسيحنا ثوبًا مقدسًا، طالبنا أن نلتقي بعريسنا على مستوى الحب الحقيقي، لا الخوف. نطلبه لأجل حبنا له، وليس خوفًا من أن نفقد المكافأة. إننا نحبه لأجل شخصه، لا لأجل مكافأته أو عطاياه.]
قدمت هذا التحذير قبل أن أورد التفسير السري لنشيد الأناشيد، حيث تحيط كلماته النقية الروحية غير الجسدانية بالنفس وتوحِّدها مع الله. لأن الله الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4)، يظهر هنا طريق الخلاص الأكمل والمطوَّب، أقصد طريق الحب. فبالنسبة للبعض يتم الخلاص بالخوف: الخوف من العقاب في جهنم، وبهذا يبتعدون عن الشرور. والبعض الآخر يسلكون في طريق الفضيلة مترجين المكافأة من أجل الحياة التقوية. هؤلاء لا يعملون الخير من أجل الحب بل انتظارًا للإثابة.
على الجانب الآخر نجد أن الشخص الذي يُسرع إلى الكمال الروحي يرفض الخوف (لأن الخوف هو عبودية؛ ومثل هذا الشخص الخائف لا يبقى مع سيده من أجل الحب. فإنه لا يهرب لئلا يُجلد). بينما الشخص الذي يطلب الكمال هو الذي يستخف حتى بالمكافأة، فإنه لا يرغب في أن يُشار إليه بأنه يفضل الهدية على مهديها. أنه يحب "من كل قلبه ونفسه وقوته" (تث 6: 5)، ليس من أجل الأشياء التي يهبها الله له، بل يحب الله مصدر كل الصالحات. هذا هو ما يأمر به الله كل النفوس التي تصغي إليه، فإنه يأمرنا أن نشاركه حياته.
سليمان هو الذي أسس هذا القانون (1 مل3: 12 ؛ 5: 9-14). فبحسب الشهادة الإلهية، فاقت حكمته كل المقاييس، ولم يكن لها مثيل في كل من سبقوه وكل من أتوا بعده. كان ثاقب الفكر، لا تخفي عنه خافية.
لا تظن أنني أقصد سليمان الذي من بئر سبع، والذي قدم آلاف الذبائح على الجبال (1 مل 11: 6-8)، والذي أخطأ بعد أن أغوته المرأة التي من صيدا (1 مل 11: 1-2). كلاَّ، أنه سليمان الآخر (المسيح) هو المُعنى به هنا، ذاك الذي جاء من نسل داود حسب الجسد، واسمه يعني سلامًا، الملك الحقيقي لإسرائيل وباني هيكل الله. سليمان الآخر هذا عنده معرفة كاملة بكل شيء. حكمته غير محدودة، وجوهره هو حكمة وحق، واسمه ممجد وإلهي وأيضًا فكره.
استخدم المسيح سليمان كأداة وكلمنا خلال فمه أولاً في الأمثال ثم في الجامعة. وبعد هذين السفرين تكلم خلال الفلسفة التي تضمنها نشيد الأناشيد موضحًا لنا كيف يكون التدريج إلى الكمال بترتيب.
[يقدم القديس عرضًا رائعًا لهذه الأسفار الثلاثة بكونها الأسفار التي تسند المؤمن عبر كل حياته. يسنده سفر الأمثال كما من طفولته الروحية، ويسلمه إلى سفر الجامعة كإنسان عبر إلى نوع من النضوج، وهذا يسلمه إلى سفر نشيد الأناشيد، سفر العروس الكاملة المتحدة بعريسها، تتعرف على أسراره الإلهية.]
الإنسان غير قادر في كل مرحلة من مراحل حياته على إنجاز كل نوع من العمل. وأيضًا نجد أن حياتنا لا تتقدم بنفس الأسلوب في مراحل حياتنا المختلفة.
(فالطفل لا يستطيع أن يقوم بأعمال الإنسان الناضج، والناضج أيضًا لا يُحمَل بين يديّ مرضعته. إذًا فلكل مرحلة من العمر نشاطها الذي يناسبها.)
إذًا نجد أن النفس تنمو كالجسد أيضًا بترتيب خاص وتدرُّج يؤدي بها إلى حياة الفضيلة. فسفر الأمثال له أسلوبه المميز في تعاليمه، وسفر الجامعة له أسلوب آخر، بينما فلسفة نشيد الأناشيد تسمو على كليهما بتعاليمها الفائقة.
إن تعاليم سفر الأمثال تناسب الشخص الحديث السن، حيث أن كلماته تحث على أعمال تتلائم مع هذه المرحلة من العمر. "اسمع يا ابني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أمك" (أم 1: 8).
نرى هنا أن النفس في هذه المرحلة من العمر تتميز بليونة حيث يسهل تشكيلها، وأيضًا تكون بعد في احتياج للإرشاد والتشجيع الأبوي. يجب على الآباء (والأمهات) أن يتفهموا كيف يشجعوا أطفالهم ليكونوا أكثر حرصًا في استذكار دروسهم وأيضًا في الإصغاء بأكثر اهتمامٍ لنصائح والديهم، ربما عن طريق الوعود بتقديم هدايا لطيفة من وقت لآخر، مثل تقديم سلسلة ذهبية براقة حول عنقه أو تاج مزين بورود جميلة. على الوالدين تفهم مثل هذه الأمور تمامًا إذا ما كانت نيتهم وراء ذلك هو تقدُّم أولادهم.
هكذا فإن سفر الأمثال يبدأ بوصف الحكمة للطفل بطرق متنوعة، ويشرح الجمال الذي يفوق الوصف بحيث لا يوحي بأي خوف أو ارتباك بل بالأحرى يجذب الطفل إلى الشوق والرغبة في عمل الصلاح. إن وصف أوجه الجمال يجذب الشاب بطريقة ما للرغبة فيما يشاهده من هذا الجمال، وبالتالي يثير رغبته للمشاركة فيه.
ثم يزيِّن سليمان جمال الحكمة بتمجيدها، وذلك حتى يزداد حبنا للحكمة بعدما تحولت ميولنا المادية إلى أخرى غير مادية. ليس أن سليمان يصور جمالها بالكلمات فحسب بل أنه أيضًا يذكر مقدار الغنى المذخَّر في الحكمة، حكمة الله التي تقطن معنا حتميًا. حينئذ نشاهد هذا الغنى في الحكمة الرائعة الزينة. إن الزينة على يمينها طول الأيام، إذ أن كلمات الحكيم تقول: "في يمينها طول الأيام" (أم 3: 16). وتلبس على يسارها ثروة الفضيلة الثمينة وعظمة المجد معًا؛ "وفي يسارها الغنى والمجد" (أم 3: 16).
ثم يتحدث سليمان عن العبير الذي يفوح من فم العروس، نسيم الرائحة الذكية التي للفضيلة: "من فمها يخرج كلام البرّ" (3: 16). وبدلاً من اللون الأحمر الطبيعي لشفتيّ العروس يقول إن الشريعة والرحمة تخرج من شفتيها. وحتى يكمل جمالها يمدح أيضًا خطواتها فيقول "في طريق العدل اتمشَّى في وسط سبل الحق" (أم 8: 20).
في مدحه لجمالها يمدح سليمان أيضًا ضخامة حجمها الذي يشبه شجرة مورقة عظيمة. وهذه الشجرة التي يبلغ ارتفاعها ارتفاع قامة عروسه، هي شجرة الحياة على حد قوله، وهي تغذي من يلتجئ إليها، وهي دعامة قوية وراسخة لمن يتكئ عليها كما على الرب، فهي بالمثل ثابتة. وتُمتدح قوتها أيضًا حتى يكون تمجيد جمال الحكمة كاملاً، مشتملة على كل ما هو صالح. "الرب بالحكمة أسس الأرض. أثبت السموات بالفهم" (أم 3: 19). ينسب سليمان جميع عناصر الخليقة إلى قوة الحكمة ويصفها بأسماء كثيرة، كلٍ يحمل المعنى ذاته للحكمة مثل التعقل، الإدراك الحسن، المعرفة، الفهم وما شابه ذلك.
ثم يرافق سليمان الشاب إلى محل إقامة خاص ويحثه ليتفرس في حجرة العرس. "لا تتركها فتحفظك، اَحببها فتصونك. الحكمة هي الرأس. فاقتنِ الحكمة وبكل مقتنياك اقتن الفهم. ارفعها فتُعلِّيك. تمجدك إذا اعتنقتها. تعطي رأسك إكليل نعمة. تاج جمال تمنحك".
والآن فإن الشاب المزيَّن بتاج العرس يحثه العريس على عدم ترك الحكمة "إذا ذهبت تهديك، إذا نمت تحرسك، وإذا استيقظت فهي تحدثك" (أم 5: 22). بتلك الطرق وبأخرى حث سليمان الشاب بحسب الإنسان الباطن وأشعل رغبته للتمسك بالحكمة، إذ الحكمة تصف نفسها. بذلك انتزع سليمان حب كل من استمع إليه. إلى جانب ذلك فالحكمة تقول: "أنا أحب الذين يحبونني" (أم 8: 17)، إذ أن اشتياق المحب هو إن يُرَدَ له الحب بالحب، يؤدي به إلى رغبة شديدة بالأكثر. أضاف سليمان إلى هذه الكلمات نصائح آخرى بتصريحات أكثر وضوحًا وسلاسة. وقد قاد سليمان الشباب إلى المثالية في أروع صورها في الآيات الأخيرة من سفر الأمثال، حيث يقول "مبارك" هو اتحاد الحب، في هذا الجزء الذي يخص مدح المرأة الفاضلة.
يضيف سليمان فلسفة سفر الجامعة إلى الشخص الذي أخذ قسطًا تمهيديًا وافيًا من التدريبات المشتمل عليها سفر الأمثال، وصار مشتاقًا إلى الفضيلة.
بعد أن وبخ سليمان في سفر الجامعة سلوك الإنسان تجاه المظاهر الخارجية، وبعد أن قال إن كل ما هو غير ثابت هو باطل وعابر "كل ما يأتي باطل" (جا 11: 8). نجد سليمان بعد ذلك قد ارتفع فوق كل الأشياء المحسوسة، أي حركة الحب التي توجه نفوسنا تجاه الجمال غير منظور.
وهكذا إذ غسل القلب من الأمور الخارجية بدأ سليمان يمهد النفس للدخول إلى قدس الأقداس خلال نشيد الأناشيد. إن نشيد الأناشيد يصف عرسًا إنما ما يفهم ضمنًا هو اتحاد النفس البشرية مع الله.
لذلك فإن الابن الشاب في سفر الأمثال يسمَّى العروس وتتخد الحكمة دور العريس، حتى أن الإنسان يستطيع أن يتحد بالله إذ يصير عذراء طاهرة بدلاً من كونه العريس. بالتصاقه مع الرب يصير الإنسان روحًا واحدًا معه (1 كو 6: 17) من خلال الوحدة، مع ما هو طاهر ونقي ذهنيًا بدلاً من التثقل بالجسد وأهوائه.
بما أن الحكمة هي التي تتكلم، إذًا فلتُحب قدر ما تستطيع بكل قلبك وكل قوتك (تث 6: 5)؛ لتكن فيك هذه الرغبة قدر استطاعتك. وإنني اتجاسر فأضيف لهذه الكلمات: "لتكن توَّاقًا لذلك". هذا الشعور تجاه الأمور غير الجسدية، إنما هو فوق الشبهات وخالي من الشهوة، كما تقول الحكمة في سفر الأمثال عند وصفها للحب المتقد للجمال الإلهي.
لكن النص أمامنا الآن يحثنا بالمثل. أنه لا يقدم لنا مجرد نصيحة بخصوص الحب، لكن من خلال الأسرار التي لا يُنطق بها يفلسف صورة مباهج الحياة، مقدمًا لنا إياها كاستعداد لإرشاداتها. إن الصورة هي إحدى صور الزفاف حيث الرغبة في الجمال تمثل الوسيط. لا يبدأ العريس بإظهار رغبته حسب العادة البشرية الطبيعية، لكن العروس هي التي تبادر بإظهار مشاعرها بلا خجل وتتوسل أن تحظى بقبلات العريس.
إن الذين يخدمون الخطيبة البكر ويلازمونها هم البطاركة والأنبياء ومعلمي الناموس. إنهم يقدمون للعروس هدايا العرس، كما كانت. (من أمثلة هذه الهدايا: غفران المعاصي، نسيان الأعمال الشريرة، غسل الخطايا، تغيير الطبيعة، أي تصير الطبيعة الفاسدة طاهرة، التمتع بالفردوس، وكرامة ملكوت الله، والفرح اللانهائي.) عندما تتقبل العروس كل هذه الهدايا من النبلاء الحاملين لها والذين يقدمونها خلال تعاليمهم النبوية حينئذ تعترف باشتياقاتها ثم تسرع لتتمتع بامتياز جمال الواحد طالما اشتاقت إليه.
يصغي خدام البتول ومرافقوها إليها ويحثونها بالأكثر لاشتياق متزايد. ثم يصل العريس قائدًا جوقة من المغنين فيما بينهم أصدقاؤه والذين يترجون خيره. هؤلاء يمثلون الأرواح الخادمة التي تنقذ الإنسان أو الأنبياء الأطهار. عند سماع صوت العريس يفرحون (يو 3: 29)، عندما يتحقق الاتحاد الطاهر حيث تصير النفس الملتصقة بالرب روحًا واحدًا معه كما يقول الرسول (1 كو 6: 17).
سأعود ثانيًا إلى ما سبق إن قلته في بداية هذه العظة: لا تدع أي شخص شهواني أو جسداني تنبعث منه رائحة الإنسان العتيق الكريهة (2 كو 2: 16) أن يقلل من أهمية الأفكار والكلمات المقدسة، ويستبدلها بأخرى شهوانية حيوانية، بل بالأحرى ليخرج كل إنسان من الأنا ويعتزل العالم المادي. ليصعد إلى الفردوس خلال قطع رباطات العالم إذ صار مثل الله خلال النقاوة. ثم نقول ليدخل كل منا إلى قدس أقداس الأسرار المعلنة في هذا الكتاب (سفر نشيد الأناشيد).
إذ ما كانت النفس غير مستعدة لسماع ذلك فلتنصت لموسى النبى الذي يمنعنا من الصعود على الجبل الروحي قبلما نغسل ثياب قلوبنا وأيضًا ننقى نفوسنا برش الماء المقدس اللائق لتنقية أفكارنا أولاً وبالتالي نفوسنا.
وحينما نتكرس لمثل هذه التأملات علينا إن نلقي جانبًا فكرة الزواج كما أمر موسى (خر 19: 15) حينما أمر الذين بدأوا بغسل ثيابهم بألاَّ يقربوا امرأة. علينا أن نتبع إرشاداته حينما نكون على وشك الاقتراب من الجبل الروحي لمعرفة الله: إذ أن الأفكار عن النساء وما يصاحبها من حب اقتناء الماديات يجب أن يُترك جانبًا مع اعتزال الحياة السفلية.
إذا ما قامت أي نزوة غير منطقية عند سفح الجبل يجب إن تُحطم بقوة مضادة من أفكار أكثر حزمًا كما لو كانت تُرجم بالحجارة. وإلا فسوف يصعب علينا أن نسمع صوت البوق الذي يتردد بصوتٍ عالٍ وعظيم يفوق طاقه السامعين. يصدر هذا الصوت من مكان وجود الله الخفي، والذي يحرق كل ما هو مادي فوق هذا الجبل.
نشيد الأناشيد
والآن دعنا ندخل إلى قدس الأقداس، نشيد الأناشيد. إن تعبير "قدس الأقداس" يحمل معنى القداسة الفائقة. إن النص الكريم يعدنا خلال عنوانه "نشيد الأناشيد" بأن يعلمنا سر الأسرار.
من المؤكد أن هناك أناشيد أخرى كثيرة في التعاليم الإلهية الموحاة، وهي تعلمنا الكثير في طريق معرفة الله على فم داود، وإشعياء، وموسى وكثيرين غيرهم.
وهكذا نفهم من العنوان "نشيد الأناشيد" أنه كما أن أناشيد القديسين تفوق حكمة الأناشيد الدنيوية، بالمثل أيضًا فإن الأسرار المكنوزة هنا تفوق أناشيد القديسين. حقًا إن العقل البشري بحسب إمكانياته المحدودة لا يستطيع أن يكتشف أو يستوعب أسرار النشيد، إذ أنه يحسب اللذه الجسدية (أي الجنسية) رمزًا للحب. يعلمنا هذا السفر أن النفس تحتاج أن تفتش على الجمال الخفي للطبيعة الإلهية، وأن تحبه مثلما يميل الجسد لحب قريبه.
يليق بالنفس أن تُخمد العاطفة الجسدية حتى أنه حين تُطفئ كل عاطفة جسدية تتقد عقولنا بالعاطفة الروحية وحدها وتتمتع بالدفء خلال هذه النار التي جاء الرب ليلقيها على الأرض (لو 12: 49).
والآن وقد استفضت الحديث عن السامعين لهذه الكلمات السرائرية وكيف قد حان الوقت لتدبير نفوسهم لنبدأ بتفسير الكلمات الإلهية لسفر نشيد الأناشيد. لنبدأ حديثنا بدلاً له العنوان.
إن نَسب السفر لسليمان لم يأتِ مصادفة، وهذا النَسب يفيد بأن يُعد القارئ لاستقبال شيء عظيم ومقدس. فشهرة سليمان بالحكمة عظيمة وذات تأثير على كل أحد. لذلك فإن ذكر اسمه في مطلع السفر يزيد من توقعات القارئ لشيء عظيم يليق بمثل هذه الشهرة.
في فن الرسم نجد الألوان المختلفة وقد تآلفت معًا لتقدم لوحة فنية جميلة. ولكننا نرى أن الشخص الذي ينظر إلى الصورة التي رسمها الفنان مستخدمًا الألوان بمهارة لا يركّز نظره على الألوان بل على الإطار العام للوحة. هكذا الأمر بالنسبة لهذا السفر الماثل أمامنا، فعلينا ألا نهتم بمادة اللون (أي الكلمات) بل بالأحرى علينا أن نهتم بصورة الملك المعبَّر عنها بمفهوم الطهارة. إذ أن اللون الأبيض والأصفر والأسود والأحمر والأزرق أو أي لون آخر ما هو إلا هذه الكلمات بمعانيها الواضحة - فم، قبلة، مر، سلك، الأطراف الجسدية، المخدع، الخادمات... - وهكذا. إن الشكل الذي تكونه هذه الكلمات هو: البركة، الانفصال عن الشر، الاتحاد بالله، البعد عن الشر، وحب ما هو حقًا جميل. هذه المفاهيم تشهد بأن حكمة سليمان قد فاقت حدود الحكمة البشرية. ماذا يحيرنا أكثر هو أن سليمان يجعل الطبيعة البشرية تتنقى من الشهوات، ويعلمنا ذلك مستخدمًا كلمات مفعمة بالعاطفة المتقدة! إذ أن سليمان لا يتحدث عن ضرورة البعد عن انفعالات الجسد أو إماته أعضائنا التي على الأرض، أو أن نحجم عن كلمات العاطفة المتأججة، لكنه بالحرى يحث النفس أن تسعى للطهارة خلال كلمات تبدو أنها تحمل معنى عكسيًا، إذ أنه يشير إلى معاني نقية عفيفة خلال لغه حِسية ملموسة.
خلال مقدمة النص نتعلم شيئًا واحدًا: هؤلاء الذين دخلوا إلى أعماق أسرار هذا السفر ليسوا بشرًا بعد، بل قد تحولوا بالطبيعة خلال تعاليم الرب إلى ما هو إلهي بالأكثر. الله الكلمة قد شهد لتلاميذه بأنهم مميزون عن البشر. وقد جاء هذا التمييز حين قال لهم: "من يقول الناس إني أنا؟" (مر 8: 27)؟ يستخدم سفر النشيد كلمات ظاهرها يشير إلى التمتع باللذة الجسدية. ولكنها في الواقع لا تتضمن أي معنى غير طاهر أوغير لائق، بل هي تقودنا إلى فلسفة الأمور المقدسة خلال المفاهيم الطاهرة. إنها توضح لنا أننا لسنا بعد من لحم ودم ذي طبيعة بشرية لكنها بالحري تشير إلى الحياة التي نتطلع إليها عند قيامة القديسين، حياة ملائكية خالية من كل شهوة.
بعد القيامة، يتحد الجسد - الذي صار في عدم فساد - مرة آخرى مع النفس. إن الشهوات التي تحارب جسدنا المائت الآن لن تكون بعد بل تسكن جميعها. وسيبطل النزاع بين الجسد والنفس. ولن تكون هناك بعد حرب الشهوات ضد ناموس العقل، حيث تهزم النفس وتصير أسيرة الخطية. حينئذ تتنقى الطبيعة من كل هذه الأشياء وتكون الروح واحدة (أي لا تعارض بين الجسد والروح) وسوف يبطل كل تدبير جسدي للجنس البشري. وهكذا فإن النشيد يحثنا على الرغم من أننا مازلنا في الجسد ألاَّ تكون أفكارنا جسدانية؛ بل بالحري علينا أن نهتم بالروح وحدها وأن ننسب كل مظاهر العاطفة في النص إلى صلاح الله الفائق كذبيحة طاهرة غير دنسة. لأن الله وحده هو عذب بالحقيقة، مشتهى الأمم ومستحق أن يُحَب. إن تمتعنا الحالي بالله هو نقطة البداءة لنصيب أكبر من صلاحه ويزيد من شوقنا إليه. وهكذا ففي أسفار موسى (خر 33: 11) يقول إن العروس أحبت العريس. كما تقول عروس النشيد "ليقبلني بقبلات فمه". إن موسى قد خاطب الله وجهًا لوجه كما يشهد الكتاب (تث 34: 10) وهكذا ازداد شوقه إلى هذه القبلات بعد رؤيته لله. لقد بحث عن الله وكأنه لم يره قط. لذلك فهؤلاء الذين لديهم رغبة دفينة واشتياق لله فإن هذا الاشتياق لا يتوقف بل كلما تمتعوا بالله كلما اِزداد اِشياقهم تأججًا إليه.
إن الروح رغم اتحادها مع الله فهي لا تشعر بملء السعادة مطلقًا. كلما تمتعت بجماله زاد اشتياقها إليه. إن كلمات العريس روح وحياة (يو 5: 24)، وكل من التصق بالروح يصير روحًا. كل من التصق بالحياة ينتقل من الموت إلى الحياة كما قال الرب. وهكذا فالروح البكر تشتاق دائمًا للدنو من نبع الحياة الروحية. النبع هو فم العريس الذي تخرج منه كلمات الحياة الأبدية. أنه يملأ الفم الذي يقترب منه مثل داود النبي الذي اجتذب روحًا خلال فمه (مز 118: 131).
لما كان لزامًا على الشخص الذي يشرب من النبع أن يضع فمه على فم النبع، وحيث أن الرب ذاته هو النبع كما يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليَّّ ويشرب" (يو 7: 37)؛ لذلك فإن الأرواح العطشانة تشتهي أن تضع فمها على الفم الذي ينبع بالحياة ويقول: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 1: 2).
من يهب الجميع الحياة ويريد أن الجميع يخلصون يشتهي أن يتمتع كل واحد بنصيب من هذه القبلات، لأنها تطهر من كل دنس.
اَعتقد أن الرب كان يوبخ سمعان الأبرص حين قال له: "قبلة لم تقبلني" (لو 7: 45). كان يعني بذلك: لقد كان يمكنك أن تبرأ من مرضك لو أنك انتزعت الشفاء بشفتيك. ولكن على الأرجح أن سمعان لم يكن مستحقًا للحب، إذ أن مرضه سبَّب له نموًا مطردًا في جسده، وقد ظل غير مشتاق لله بسبب مرضه. ولكن حينما تتطهر الروح ولا يعوقها بعد برص الجسد تبدأ في التفتيش عن كنز الصالحات. اسم هذا البيت الذي يضم الكنز هو القلب. من هذا الكنز يمتلئ الثديين بغنى اللبن المقدس الذي به تتغذى الروح وتنتزع البركة بما يوازي إيمانها. لذلك تهتف الروح: "لأن حبك (أي ثدياك) أطيب من الخمر" ويشير بالثدي إلى القلب. ولا نخطئ إذا حسبنا أن القلب هنا ما هو إلاَّ قدرة الله الخفية السرية. من الأرجح أن نعتبر أن الثديين هما عمل الله القوي من أجلنا الذي به يشبع حياة كل منا بما يناسبه.
إن فلسفة سفر النشيد تعلمنا بطريق غير مباشر درسًا آخر ألا وهو إنَّ فهمنا للأمور له شقان: مفهوم جسدي ومفهوم روحي. كما يقول الحكيم في سفر الأمثال، "وتجد معرفة الله" (أم 2: 5). هناك نوع من التناظر بين أعمال الروح وأعمال الجسد الحسية، وهذا ما نتعلمه من هذا النص. إننا نميز الخمر واللبن عن طريق حاسة التذوق، بينما الحقائق الروحية تُدرك خلال قدرة الروح على الفهم والتعقل. إن القبلة نتيجة لحاسة اللمس حين تتلامس شفاة شخصين. على الجانب الآخر هناك نوع آخر من التلامس الروحي للكلمة والعمل يتم بطريقة روحية غير جسدية. كما يقول معلمنا يوحنا: "... الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1:1).
بالمثل فإن رائحة المسيح الزكية لا نشتمَّها جسديًا، ولكن خلال قوة روحية غير مادية، أي بقوة الروح. لذلك تسترسل عروس النشيد في آياته الأولى قائلة: "لأن حبك أطيب من الخمر. لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهن مهراق." [ع1-2].
ما تشير إليه هذه الكلمات لا يُستهان به. فإنه بمقارنة التمتع بلبن الثديين المقدس والتمتع بشرب الخمر، أظن أننا نتعلم أن الحكمة البشرية والعلم وقوة الملاحظة وفهم الأمور المبدعة... كل ذلك لا يضاهي الشبع الروحي بالتعاليم الإلهية في بساطته. إن اللبن طعام الأطفال يمنحه الثديان، بينما الخمر الذي يمنح القوة والدفء هو متعة لمن هم أكثر نضوجًا واكتمالاً. ولكن على الرغم من ذلك فإن حكمة العالم لا تضاهي التعاليم الطفولية للعالم الروحي المقدس.
وهكذا فإن الثديين المقدسين أفضل من الخمر البشري، ورائحة المسيح الزكية لهي أطيب من أي عطر آخر.
يبدو لي أن ذلك يعني ما يلي:
نحن نفهم أن العطور تمثل الفضائل المختلفة: الحكمة، العدل، ضبط النفس، الجَلَد... وهكذا. إذا ما تعطرنا بهذه العطور، كلٌّ قدر استطاعته واختياره فيكون لكل منَّا رائحة طيبة خاصة، لواحد حكمة أو ضبط للنفس، لآخر جَلَد أو عدل أو أي فضيلة أخرى. آخر يمكن أن يكون له رائحة طيبة داخليًا (داخلية) نتيجة لامتزاج كل هذه العطور. ولكن كل هذه معًا لا تقارن بالفضيلة السماوية الكاملة. كما يقول حبقوق النبي: "جلاله غطى السموات" (حب 3:3). هذه هي حكمة الله، عدل الله، حق الله وما إلى ذلك بصورته المطلقة. لذلك يقول إن رائحة الدهن السماوي تبهج النفس بما لا يقارن بأي نوع آخر من العطور المتعارف عليها.
يعود عريس النفس مرة أخرى ليقدم فلسفة أكثر سموًا، ويوضح أن القوة الإلهية لهي فائقة تمامًا، لا يمكن إدراكها بالمفاهيم البشرية. يقول النص: "اسمك دهن مهراق" [ع3]. يبدو لى أن هذه الآية تشير إلى الآتي: إن الطبيعة (الإلهية) غير المحدودة لا يمكن حصرها بدقة في اسم؛ بل فوق ذلك فإن كل مقدرة على الفهم وكل صيغة للكلمات والأسماء مهما بدت عظيمة وتناسب مجد الله فهي غير قادرة على إدراك حقيقته. ولكننا نلقي الضوء ونقتفي آثار ما نجهله متحسسين الطريق بكلماتنا، وأيضًا بالمناظرة لما نلمسه ندرك الأمور غير مدركة. ومهما كان الاسم الذي نختاره لنُعبر به عن رائحة المسيح الذكية فنحن لا نستطيع أن نُعبر عن قدر هذه الرائحة، ولكننا إنما نكشف عن مجرد أثر بسيط للرائحة المقدسة باستخدام اصطلاحاتنا اللاهوتية.
إذا ما سكبنا عطر من إناء يصعب أن نتعرف على طبيعة هذا العطر. ولكن إذ يتبخر الأثر البسيط من العطر المتخلف في الإناء نستطيع أن نكِّون فكرة عن العطر الذي سُكب منه. وهكذا نعلم أنه أيًا كان العطر المقدس في جوهره فهو يفوق كل اسم وفكر.
حقًا إن العجائب التي نشاهدها في الكون تعطي مادة للمصطلحات اللاهوتية التي بها ندعو الله حكيمًا، قديرًا، صالحًا، مقدسًا، مباركًا، أبديًا، ديانًا، مخلصًا وهكذا. كل ذلك يعطي دلالة بسيطة عن نوعية رائحة المسيح وخاصيتها حيث تحتفظ الخليقة بآثار الرائحة المقدسة من خلال عجائبها المنظورة كما في مثل إناء العطر. "لذلك أحبتك العذارى" [ع3]. هنا تذكر العروس لماذا مالت العذارى إليه وأحبته. من يستطيع ألا يحب مثل هذا الجمال طالمًا له العين الثاقبة التي تستطيع أن تُدرك مدى جماله؟ إن الجمال الملموس لهُو عظيم، ولكن ما هو بالتأكيد أعظم منه هو الجمال الذي نلمحه بمجرد النظره الخاطفة لهيئته الخارجية.
لا تثير الشهوات الجسدية الأطفال، لأن الطفل غير قادر على الإحساس بها، وهي أيضًا لا تمثل مشكلة بالنسبة للشخص المتقدم في العمر. هكذا الأمر أيضًا بالنسبة للجمال الإلهي: فإن الطفل الذي تهزه كل ريح تعليم والإنسان المتقدم في العمر الذي قد قارب الموت كليهما غير قادرين على الشهوة الجسدية.
إن الجمال الإلهي لا يحرك مشاعر مثل هؤلاء، ولكنه يحرك مشاعر تلك الروح التي قد تجاوزت مرحلة الطفولة وقد بلغت زهرة شباب النضوج الروحي. إذ أن مثل هذه الروح يسميها السفر "العذارى" [ع3]؛ إذ ليس بها أي علامة من علامات تَقدُّم العمر من بقع أو تجاعيد أو ما شابه ذلك؛ فهي لا تفتقر إلى الإدراك الحسِّي لمرحلة الطفولة ولا هي واهية بسبب الكهولة. مثل هذه الروح تعيش في طاعة لأعظم وصية، ألا وهي أول وصية في الناموس أن تحب هذا الجمال الإلهي من كل قلبك ومن كل قوتك (تث 6: 5). إن العقل البشري غير قادر على إيجاد أي وصف، أو تشبيه أو تعبير يناسب هذا الجمال. لذلك فقد نمت تلك العذارى في الفضيلة، وقد دخلن حجال العرس في الوقت المناسب ليكتشفن الأسرار الإلهية.
الآن قد أحببن جمال العريس وخلال هذا الحب دنون منه. لأنه العريس الذي يكافِئ من يحبونه ويقول على لسان الحكيم: "أحب الذين يحبونني"، "عندي الغنى والكرامة" (إن العريس ذاته هو هذا الغنى) "وأملأ خزائنهم" (أم 8: 17، 21). لذلك تشتاق الأرواح إلى عريسها الحيّ الذي لا يموت وتتبع الرب الإله كما هو مكتوب (هو 11: 10). أنهم يحبونه، ويمشون وراءه بسبب رائحته الذكية، أنهم يتقدمون إلى ما هو أمامهم وينسون ما هو وراء. "اجذبني وراءك فنجري" [ع4].
هؤلاء الذين لم يبلغوا بعد كمال الفضيلة وهم بعد أحداث يقدمون وعدًا بأن يسعون نحو الهدف الذي يمثله الرائحة الذكية. لأنهم يقولون، "اجذبني وراءك فنجري". أما الأرواح الأكثر كمالاً فقد ركضت بأكثر جدية وحققت الهدف فعليًا من هذا السير وقد استحقت الكنز المختزن. إذ تقول: "أدخلني الملك إلى حجاله" [ع4]. لقد اشتهت أن تلمس ما هو طيب بشفتيها وقد لمست الجمال بمقدار قوة صلاتها. فقد صلَّت [ع2] لتستحق قبلة خلال الاستنارة التي يمنحها إياها الكلمة).
والآن خلال ما حققته بلغت ذهنيًا إلى عمق آخر للأسرار، لكنها تصرخ معلنة أنها لم تدرك إلا مدخل الصلاح. إن قبلة العريس قد منحتها استحقاق باكورة نِتاج الروح، فتقول أنها تبحث عن أعماق الله في عمق أقداس الفردوس، وكما قال معلمنا بولس الرسول العظيم: "ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن" (2 كو 12: 4).
الآن نراه يكشف الحديث عن دور كنسي، لأن أولئك الذين أرشدتهم النعمة وقد صاروا شهودًا للكلمة، لا يكتموا الحق محتفظين به لأنفسهم، بل بالأحرى يبشرون به آخرين ممن لحقوهم. لذلك تقول العذارى للعروس التي تمتعت أولاً بالصلاح إذ التقت بالكلمة وجهًا لوجه واستحقت أن تتعرف على الأسرار الخفية: "نبتهج ونفرح بك، نذكر حبك أكثر من الخمر" (نش 1: 4).
لأنك تحب ثدييّ الكلمة أكثر من الخمر فسوف نتشبه بك، ونحب ثدييك أكثر من الخمر البشري، لأنه خلالهما يتغذى الأطفال في المسيح يسوع.
حتى نوضح الغرض من هذه الفقرة علينا أن نركز اهتمامنا بالآتي: إن يوحنا الحبيب الذي اتكأ على صدر الرب أحب ثدييّ الكلمة (يو 13: 25)؛ وإذ وضع قلبه بقرب منبع الحياة تمتع بامتصاص الأسرار الخفية التي في قلب الرب كما يمتص الإسفنج.
يعطينا يوحنا الثدي الغني بالكلمة فنمتلئ من الصلاح الذي أخذه يوحنا من منبع الصلاح، معلنًا عن الكلمة الأبدي. لذلك يحق لنا الآن أن نقول: "نذكر حبك أكثر من الخمر" إذا ما صرنا كالعذارى ولم نعد أطفالاً في أذهاننا تحت نير نوع من التفاهة الطفولية، وإذ لم نتدنس بعد بالخطية فندنو من الموت في كهولتنا. لذلك دعنا نحب فيض التعليم الإلهي لأنهم "بالحق يحبونك" [ع4]. هذا هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه، والمسيح هو الحق. ينسب النص هنا للمسيح اسمًا أكثر جمالاً وملاءمة للرب، أفضل من داود النبي الذي قال: "أن الرب مستقيم" (مز 9: 15). إن الرب يسمى بالحق في هذا النص. لأنه يجعل المعوج مستقيمًا. ليصير كل المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً (إش 40: 4) بنعمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد دائمًا أبديًا آمين.
5 . أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشقق (جلود) سليمان.
6 . لا تنظرن إليَّّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني (تتطلع إليَّ بغضب). بنو أمي غضبوا عليَّ، جعلوني ناطورة (حارسة) الكروم؛ أما كرمي فلم أنطره (أحرسه).
7 . اَخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنَّعة عند قطعان أصحابك؟!
8 . إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء، فاُخرجي على آثار الغنم، واِرعي جداءك عند خيام الرعاة.
[منظر خيمة الاجتماع عجيب، من الخارج مغطاة بجلود ماعز وكباش، أما من الداخل مملوء بهاءً. هكذا سفر النشيد، الذي فيه يجتمع الله بكنيسته، كما في حجال العرس. من الخارج كلمات لا يدرك الأطفال في الإيمان أسرارها، أما في أعماقها فتسبحة حب زيجي لا يُعبر عنها!
سفر النشيد يمثل حياة المؤمن الحقيقي، من الخارج ضعفات وألآم مُرة، ومن الداخل بهجة ونور سماوي عجيب.]
المنظر الخارجي لخيمة الاجتماع المقدسة لا يُقارن بمدى كرامة الجمال الخفي داخلها. كان الغطاء الخارجي للخيمة مصنوعًا من نسيج الكتان ومن شعر الماعز (خر 26: 7)، وأيضًا لفائف حمراء (جلود) وقد أُضيفت إلى زينة الخيمة الخارجية. لم يُرَ أي شيء آخر خلاف ذلك ذو قيمة ثمينة بالنسبة للمنظر الخارجي للخيمة. أما عن داخل خيمة الشهادة فقد تلألأت بالذهب والفضة والأحجار الكريمة (عب 9: 2-5). كان هناك أعمدة وقواعد وتيجان للأعمدة، مبخرة، مذبح، سرج، تابوت، منارة، كرس الرحمة، المرحضة، والستائر في الداخل. كانت الستائر الجميلة مصنوعة من ألوان متنوعة من الصباغة الفنية: ونسيج ذهبي مطرز بأناقة بأيدي صنَّاع مهرة باللون بالاسمانجوني والأرجوان والكتَّان والقُرمز وممزوجة بكل مادة لتجعل الفسيح يلمع مثل شرائط قوس قزح.
إن سبب هذه البداية (أي وصف خيمة الاجتماع) سوف يصير جليًا عندما تواصل قراءة الآتي. مرة أخرى نجد في سفر النشيد مرشدًا لنا لكل نوع من الفلسفة والمعرفة لله. نشيد الأناشيد هو خيمة الاجتماع الحقيقية حيث نجد أن ستائرها، وجلودها، وأغطية فنائها الخارجي ما هي إلا تعبيرات حب. إنها توضح الموقف بالنسبة للشيء المشتهى فيما يتعلق بالوصف الجمالي، وذكر الأعضاء الجسدية الظاهرة خارجيًا والتي تحجبها الأغطية عن العين.
حقًا إن المحتويات الداخلية للخيمة لها بريق فائق ومملوءة بالأسرار. هناك رائحة البخور الذكية، التكفير عن الخطية، ومذبح الذهب الصلب الذي للتقوى، والستائر الجميلة المنسوجة بأناقة من ألوان الفضيلة المملوءة صلاحًا، أعمدة الحكمة الراسخة، وقواعد العقيدة التي لا تتزعزع، روعة الأكاليل التي تشير إلى النعمة في التدبير الروحي، والمرحضة الروحية وكل ما يمت بصلة للحياة السماوية غير الجسدية. مثل هذه الأشياء يستخدمها الناموس كمثل من خلال رموز غامضة. كل هذه الأشياء يمكن أن نجدها بطريقة ملموسة إذا ما أعددنا أنفسنا بمثابرة للدخول إلى قدس الأقداس بعد أن نتطهر من دنس الأفكار المخزية بالغسل خلال الكلمة. وإلا فإننا نحرم من رؤية الروائع التي بداخل الخيمة، لأننا قد لمسنا أفكار فاسدة على خلاف وصية الناموس أو قد قبلنا أفكارًا غير طاهرة (ا بط 3: 21). إذ أن ناموس الروح يمنع دخول مثل هذه الأشياء وأمر بأن الشخص الذي يسمح بدخول أفكار مقيتة ودنسة إلى قلبه عليه أن يغسل ضميره منها بحسب وصية موسى (عد 19: 11).
ما قلناه بشأن خيمة الاجتماع يقودنا إلى التأمل في كلمات العروس التي وجهتها للعذارى: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان" [ع5].
يليق بالمدرس أن يبدأ بداية حسنة بشرح ما هو صالح لتلاميذه. مثل هذه النفوس التي تأهلت أن تتفهم مثل هذه الرموز تتكلم مجازيًا عن الخمر. إنهم يفضلون أن يروه متدفقًا من ثدييّ العريس الروحيين كنعمة إلهية. وهكذا يقولون، "نذكر حبك أكثر من الخمر، بالحق يحبونك". ثم تسترسل العروس في حديثها مع تلاميذها، فتتحدث عن حقيقة مدهشة عن نفسها حتى نستطيع أن نعلم مدى عظمة حب العريس لبني البشر الذي أضفى جمالاً على العروس المحبوبة من خلال مثل هذا الحب. تقول: "لا تتعجبوا أن الحق أحبني". بالرغم من أني صرت سوداء بسبب الخطية ومكثت في الظلال بسبب أعمالي، فإن العريس قد جعلني جميلة من خلال حبه، إذ استبدل جماله بعاري (إش 53: 2-3؛ في 2: 7). بعد أن حمل دنس خطيتي، سمح لي أن أشاركه في طهارته وأضفي على جماله. حوّل منظري المنفر إلى جمالٍ، أظهر لي حبه.
[تطلب العروس كأم من العذارى كبنات لها أن يتشبهن بها، فقد كانت كخيام قيدار وقد تحولت إلى ستائر هيكل سليمان العظيم... تطلب ألا ييأسن بسبب فساد حياتهن، فقد كانت مثلهن لكن بحب الحق (المسيح) لها تغيرت طبيعتها من السواد إلى الجمال الروحي السماوى.]
بعد هذه الكلمات تحث العروس بنات أورشليم أن يكن جميلات مثلها. إنها تظهر جمالها بنفس أسلوب بولس الرسول الذي يقول: "لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا" (1 كو 7:7). وأيضًا "فأطلب إليكم أن تكونوا متمثلين بي" (1 كو 4: 16). لذلك تعمل العروس على ألا تقع نفوس العذارى اللآتي التزمت بهن في اليأس من أن يصرن جميلات بسبب فساد حياتهن الأولى؛ بل بالأحرى يتعلمن باتباع مثل العروس فإن حياتهن الحالية إذا ما كانت بلا لوم تصير ساترًا لأسلوب حياتهم السابق (إش 65: 17؛ 2 كو 5: 17).
تقول العروس إنه بالرغم من أنها الآن تشع جمالاً بسبب حب الحق لها، إلا أنها لا تنسى كم كانت سوداء في بداية حياتها بسبب فساد حياتها حينذاك. بالرغم من أني كنت سوداء فإنني الآن جميلة المنظر إذ تحولت صورة الظلام إلى جمال. يا بنات أورشليم اُنظرن إلى أمكنَّ، أورشليم العليا. إذ ما كنتن يومًا ما خيام قيدار بسبب سكنى رؤساء قوات الظلمة فيكن (كلمة "قيدار" تشير إلى الظلمة)، سوف تصرن "شقق سليمان"، أي تصرن هيكل الملك (1 كو 3: 16) وسليمان الملك يسكن فيكنَّ.
سليمان الذي يعني اسمه "سلامًا"، هو مملوء سلامًا. إن خيمة سليمان تشير جزئيًا إلى الغطاء الكلي للخيمة الملوكية. أظن إن بولس الرسول العظيم (5: 8) يحب مثل هذا التفسير حيث أنه في رسالته إلى رومية يوصينا بحب الله. بالرغم من إننا صرنا ظلمة بسبب الخطية فإن الله قد أضفى علينا جمالاً وبهاءً من خلال نعمته الفائقة. عندما يسود الليل ويكتنف الظلام كل شيءٍ نجد أنه رغم أن بعض الأشياء تصير مضيئة بالطبيعة إذ حلّ النهار فإن مقارنتها بالظلمة لا تنطبق على الأشياء التي كانت معتمة قبلاً بالسواد. وهكذا تعبُر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة. انتقل بولس الرسول عروس المسيح من الظلمة إلى النور، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس (1 تي 1: 13)، كما العروس لوصيفتها، أنه قد صار مستحقًا أن يكون جميلاً، لأنه كان قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا ومظلمًا. ويقول بولس الرسول أيضًا إن المسيح جاء إلى العالم لينير للذين في الظلمة. إن المسيح لم يدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة، الذي جعلهم يضيئون كأنوار في العالم (في 2: 15)، بحميم الميلاد الثاني الذي غسلهم من صورتهم السوداء الأولى.
نظر داود إلى العلا وبدهشة شاهد منظر المدينة المدهش (مز 86: 5) بابل مدينة الله التي قيل عنها أمور مجيدة؛ ذكرت راحاب الزانية والقبائل الأممية وصور وأثيوبيا أيضًا في أورشليم السمائية. لن يقترب أحد بعد من أهل هذه المدينة المهجورين البؤساء، قائلاً: "ولصهيون يقال هذا الإنسان وهذا الإنسان وُلد فيها" (مز 86: 5). صار البابليون من أهل أورشليم، والزانية صارت عذراء، الأثيوبيون صاروا لونهم أبيض عوض السواد وصارت صور المدينة العليا. وهكذا فإن العروس تشجع بنات أورشليم بحماس إذ تصف لهم صلاح العريس الذي يستلم النفس السوداء ويردها إلى صورة الجمال الأول بالشركة معه. إذن من كان "كخيام قيدار" يصير مسكنًا مضيئًا لسليمان الحقيقي، أي يسكن فيه ملك السلام. لذلك يقول النص: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". وجميعكم الذين تنظرونني تصيرون كشقق سليمان حتى وإن كنتم قبلاً "كخيام قيدار".
ثم يضيف النص بعض الكلمات الأخرى ليقوِّي أذهان الدارسين. إن سبب سوادها لا ينسب إلى الخالق، بل منبعه هو الإرادة الحرة لكل إنسان. "لا تنظرن إليّ لكوني سوداء"؛ فلم أكن هكذا منذ البدء، لأنه لا يُعقل إن العروس التي شُكلت بأيدي الله تكون سوداء. "لذلك لم أكن سوداء" تقول العروس، "لكنني صرت هكذا". لست سوداء بالطبيعة لكن قد لحقني العار، إذ أن الشمس قد لوَّحتني فتغير لوني من اللون الأبيض البرَّاق إلى السواد: "لأن الشمس قد لوَّحتني".
ماذا نتعلم من هذا؟ يقول الرب للجموع في المثل (مت 14: 3-7) إن الزارع الذي يزرع كلمة الله لا يزرعها في القلوب الجيدة فقط بل أيضًا في الحجرية والمليئة بالأشواك؛ حتى وإن كان هذا القلب على الطريق ويداس بالأقدام فإن الرب يلقي بذار الكلمة للجميع بسبب محبته للبشرية.
في شرحه لخاصية كل نفس، يقول السيد المسيح إن نفس الأمر يحدث في النفس الحجرية، حيث لا تجد البذرة لها عمق أرض وإذ تنبت حالاً تنبئ بالأثمار، ولكن إذ تشرق الشمس تحترق إذ لم يكن لها أصل تجف. ثمثل الشمس التجربة. وهكذا نتعلم من السيد المسيح الآتي: الطبيعة البشرية كانت صورة من النور الحقيقي، بعيدة كل البعد عن الظلمة، وكانت مضيئة كمثل الجمال الأصلي، أي الإلهي (تك 1: 27).
هكذا فإن التجربة المحرقة المخادعة تعصف بالنبتة الأولى الرقيقة التي ليس لها جذور بعد. وذلك قبل أن تبلغ هذه النبتة أيّ حالة جيدة، وقبل أن يكون لها الفرصة أن تمتد بجذورها في عمق الأرض نتيجة لرعاية الفلاح لها، يأتي العصيان سريعًا فتجف البرعمة الخضراء في الحال. إن التجربة قد جعلتها سوداء بسبب الشمس المحرقة. فإذا ما قلنا أن التجربة هي الشمس فلا يُخدع أحد إذن حيث أن الكتب الإلهية الموحاة تُعلمنا ذلك في عدة مواضع.
يقدم المزمور الثاني للمصاعد (مز 120: 2) تطويبًا للرجل الذي يأخذ معونة من الرب صانع السموات والأرض، فلن تضربه الشمس في النهار (عدد 6)، وإشعياء التي إذ يتنبأ بإقامة الكنيسة (إش 60: 4؛ 66: 12) يصفها بموكب خاص. وتزداد القصة إشراقًا إذ يقول إن البنات يُحملن على الأيدي، والأطفال في مركبات مغطاة، وتحميهم مظلات من حرارة الشمس المحرقة.
خلال هذه الرموز يصف إشعياء السلوك في حياة الفضيلة. يشير بحداثة السن إلى المولود حديثًا والبريء؛ أما بالمظلات فإن إشعياء يصف حاله الوقاية من حرارة الشمس التي تليق بالأرواح النقية التي تتميز بضبط النفس.
تعلمنا هذه الأمثال أن الأرواح المخطوبة لله يجب أن تُحمل على الأكتاف، لا يمتطيها الجسد، بل هي تمتطي الجسد. عندما نسمع تعبير "مركبات مغطاة" نتذكر النعمة التي تمنح الاستنارة التي بها نصير أطفالاً. لا نمشي على الأرض بعد، بل نُحمل ونعيش حياة سماوية. عندما تطفأ الحرارة بمظلة الفضيلة تصير حياتنا مظللة وتصير مثل الندى. حينما لا تظلله سحابة الروح لتقيه من الحر (إش 4: 5-6). إن شمس التجارب هذه تحرق بشرة الإنسان فتصير سوداء، بغيضة المنظر، بسبب انقضاض تجربة ما على هذا الإنسان.
ثم يحدثنا عن تحولنا من اللون الحسن إلى السواد: "بنو أمي غضبوا عليَّ. جعلوني ناطوره الكروم. أما كرمي فلم أنطره" [ع6].
دعني أحذر القارئ هنا ألا يأخذ هذه الكلمات بالمعنى الحرفي، بل يحاول أن يفهم المعنى الرمزي. إذا ما كان الفكر قاصرًا عن توضيح المعنى المقصود فذلك يرجع إلى ضعف الترجمة اليونانية من الأصل العبري. إن الذين يدرسون اللغة العبرية لا تواجههم مثل هذه المشكلة. إن التركيبة النحوية للُّغة اليونانية لا تقارن بأناقة العبرية، بل إنها تسبب مشاكل لأولئك الذين يتبعون القيمة السطحية للمفهوم الحرفي. هذا هو المفهوم الذي ينجلي أمامنا لهذه الكلمات على قدر فهمنا لمعانيها:
إن الإنسان لم ينقصه منذ البدء شيئًا من الهبات الإلهية؛ وقد كان دوره هو أن يحافظ على كل ما أخذه من هبات الله الصالحة لا أن يجاهد ليكتسبها. ولكن خطة عدو الخير الخطيرة قد عرَّت الإنسان إذ لم يحافظ على نصيبه من الطبيعة الصالحة التي منحها له الله.
إن الكلمات هنا بها شيء من الغموض إذ تقول: "بنو أمي غضبوا عليَّ. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره".
يعلمنا النص الكثير خلال هذه الكلمات القليلة. أول ما يعلنه القديس بولس الرسول أن جميع الأشياء من الله، ورب واحد هو الآب الذي به جميع الأشياء (1 كو 8: 6). ليس لموجود ما كيان إلا خلاله ومنه. "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). بما أن الله هو صانع جميع الأشياء فإذًا الكل "حسن جدًا" (تك 1: 31)، لأنه قد عمل كل الأشياء بحكمة. أعطى الله الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان القدرة على تحديد ما يريده حتى يسكن الصلاح في حياته، ليس قسرًا ولا لا إراديًا بل نتيجة للاختيار الحر. إن تمتعنا بحرية الإرادة يؤدي بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. في طبيعة الأمور، إذا ما أساء أحد استخدام مثل هذه الإرادة الحرة فإنه بحسب كلمات الرسول يصير مثل هذا الشخص مخترعًا لأعمال شريرة (رو 1: 30). كل من هو من الله يُعد أخًا لنا، أما الذي يرفض الاشتراك في أعمال الصلاح بكامل إرادته إنما هو يبث الشر. إذ يصير "أبو الكذَّاب" (يو 8: 44)، فقد أعدَّ نفسه لمحاربة كل من اِختار أن يعيش في الصلاح.
حيث كان هذا السقوط من الصلاح بداية الشر لبقية بني البشر (هذا ما حدث للطبيعة البشرية)، هكذا نجد إن من كان ذات يوم أسود اللون قد صار الآن جميلاً، ناسبًا سبب هذا السواد الظاهري إلى "بني أمهاتهم"؛ نحن نعلم أن كل شيء كان له أم واحدة هي سبب وجوده. وهكذا ما هو مدرك حسيًا في الوجود يُنسب إلى شيء آخر. إن الاختيار الحر يقسم الطبيعة البشرية إلى صداقة وعداوة، إذ أن أولئك الذين تركوا السلوك الصالح قد أعطوا مكانًا للشر بابتعادهم عن الصلاح (إن الشر منفصل تمامًا عن الخير). مثل هؤلاء يسرعون لإقامة شركة مع آخرين في الشر (إذ تقول العروس "بنو" بصيغة الجمع، فهي بذلك تشير إلى تعدد طرق الشر). إن "بني أمي" قد جعلوا الحرب في داخلي، وذلك ليس بالهجمات الخارجية ولكن عن طريق جعل النفس أرضًا للمعركة الداخلية. مثل هذه المعركة تدور في داخل كل إنسان كما يقول الرسول: "ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي" (رو 7: 23). وتضيف العروس قائلة: "إن إخوتي هم الذين شنوا عليَّ هذه الحرب الأهلية، وقد صرت سوداء بيد أعداء خلاصي؛ لقد قهرني الأعداء وأما كرمي فلم أنطره."
علينا أن نحسب الكرم فردوسًا، وقد أمر الإنسان إن يحرسه. إهماله في حراسته جعله يُطرد منه، وصار مقيمًا حيث تغرب الشمس بدلاً من مكان شروقها، لذلك فإن شروق الشمس يظهر في غروبها. "غنوا لله رنموا لاسمه. أعدوا طريقًا للراكب في القفار باسمه ياه، واهتفوا أمامه" (مز 67: 4)، حتى أنه عندما يشع النور في الظلام يتحول الظلام إلى إشعاعات مضيئة، وتعود العروس السوداء إلى جمالها الأول. إن التباين في المعنى الحرفي للنص يمكن إصلاحه إذا ما تطلعنا إلى المعنى الحقيقي: "جعلوني ناطورة الكروم" مثلما قيل: "جعلوا أورشليم أكوامًا" (مز 78: 1). والواضح في مفهوم النص هنا أن الله وليس الأبناء قد جعل العروس حارسة للكرم المقدس. إن الأبناء غضبوا على العروس، وضعوها كمظلة في كرم، كخيمة في مقثأة (إش 1: 8). وقد حرمت من الفاكهة المحروسة وذلك من خلال العصيان، فصار الناظر إليها يرثي لها، حيث إن الشيء الذي كان محروسًا بداخلها لم يعد موجودًا. وضع الله آدم في جنة عدن ليعملها ويحفظها (تك 2: 15)، قالت العروس: حينما نفخ في الله نفخة الحياة (إذ تمتع الإنسان بالحياة في الفردوس حيث أقامه الله هناك ليعملها ويحفظها)، وحولني الأعداء من حراسة الفردوس إلى حراسة كرمهم حيث عناقيده مملوءة مرارة وشجيراته تخرج غضبًا.
[تشعر العروس بمرارة حينما تجد النفس التي كان يلزمها أن تحرس الفردوس الذي وهبها الله إياه، إذا بها تسهر على تحطيمه. عوض حراسة الصلاح الذي وهبها الله إياه، إذا بها تصير حارسة للشر لئلا تفقده!]
هكذا كان كرم سدوم، وأيضًا عمورة التي أدينت؛ خلالهما قد بث غضب الحيات المميت وقد انسكب في معصرة سدوم المملوءة شرورًا (يؤ 3: 14). وإلى يومنا هذا يوجد كثير ممن يسهرون بحماس على شهواتهم، خشية أن يفقدونها.
لاحظ الإنسان الشرير الذي يسهر على الزنى متمثلاً في الشر والجشع. مثل هؤلاء الذين يسهرون على الشر يعتبرون أن الحرمان من الخطية خسارة. وفي حالات أخرى يمكن للإنسان بالمثل أن يلاحظ الذين يستمتعون بالشهوات والتفاهات أو ما شابه ذلك، قد أحاطهم دائمًا أناس من كل نوع يسهرون على مثل هذه الشرور وقد اعتبروه امتيازًا ألا يُحرموا من الشهوات أبدًا.
تعبِّر العروس عن مرثاتها قائلة: قد صرتُ سوداء لأنني كنت أحرس وأرعى زوان العدو (مت 13: 25) وسهامه الشريرة، "أما كرمي فلم أنطره." كم تشعر العروس بالأسى حينما تجد من حولها يرددون "أما كرمي فلم أنطره!"
إن صدى هذه الكلمات لهو حقًا مرثاةً تجعل الأنطره ينوح بكل وجدانه
كيف صارت صهيون المدينة الأمينة المملوءة عدلاً عاهرة؟
كيف تركت ابنة صهيون كخيمة في الكرم؟
كيف تُركت المدينة التي كانت يومًا ما عامرة بالناس، مهجورة؟
كيف صارت المدينة التي كانت متسلطة على المناطق المجاورة لها، تحت الجزية؟
كيف اِكدرَّ الذهب وتغير الإبريز الجيد (مرا 4: 1)؟
كيف صارت سوداء، هذه العروس التي كانت تشع بالنور الحقيقي في البدء؟
"كل هذا قد حدث لي" تقول العروس "لأن كرمي لم أنطره".
الخلود هو الكرم، هو حالة تحرر من الشهوات، تشبه بالله وتغرب عن الشر. إن ثمرة هذا الكروم هي النقاوة. هذا هو عنقود العنب الناضج البرَّاق الذي يدفئ حواس النفس ويعطيها عذوبة في طهارة. محلاق العنب هو الاتحاد والنسب للحياة الأبدية.
إن النباتات التي تنمو ما هي إلا الفضائل السماوية التي ترتفع إلى قامة الملائكة. إن الأوراق تنبت وتتحرك برقة على الأغصان مع النسيم الهادئ، وزينة الفضائل المقدسة المتعددة الوجوه التي تنبت مع النفس كلاهما معًا.
تقول العروس إنه رغم أنها امتلكت كل ذلك وقد أثمرت إلا أنها قد صارت سوداء: "أما كرمي فلم أنطره"، إذ نبذت الطهارة صارت في صورة مظلمة. هذا الجلد هو رداء أو الشكل الخارجي الأسود (تك 3: 21). لكن البر قد أحبني. فإنني أتقبل نصيبي السعيد إذ صرت جميلة ومضيئة. لن أفقد جمالي مرة أخرى، إذ فشلت قبلاً بسبب جهلي أن أحافظ على كرمي وأحرسه".
إذ أخفقت العروس في حراسة كرمها، أحجمت عن التحدث مع بنات أورشليم. بدأت تنادي عريسها خلال الصلاة وتكشف لحبيبها عن أفكارها القلبية. ماذا تقول؟
"أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ لماذا أكون كمقنَّعة عند قطعان أصحابك" (نش 1: 7).
"أين ترعى أيها الراعي الصالح، يا من تحمل القطيع كله على كتفيك؟ لأنك إنما حملت خروفًا واحدًا على كتفيك ألا وهو طبيعتنا البشرية.
أرني المراعي الخضراء.
عرفني مياه الراحة (مز 22: 2).
قدني إلى العشب المشبع.
ادعني باسمي (يو 10: 16)، حتى أسمع صوتك، أنا خروفك، اَعطني حياة أبدية.
"اَخبرني يا من تحبه نفسي".
إنني أدعوك هكذا لأن اسمك فوق كل اسم (في 2: 9). أنه لا يوصف، وغير مدرك بالعقل البشري. لذلك فإن اسمك يكشف عن صلاحك، علاقتي بك روحية.
كيف لا أحبك يا من أحببتني بشدة؟ رغم أني سوداء، فقد وضعت حياتك من أجل خرافك (يو 15: 13)، أنت راعيهم.
ليس لأحد حب أعظم من هذا، لأنك بذلت حياتك لتمنحني الخلاص.
قل لي إذًا أين ترعى؟ عندما أجد مرعى خلاصك حينئذ أشبع بالطعام السماوي؛ الذي بدونه لا يدخل أحد إلى الحياة الأبدية. وحين أجري إليك أيها الينبوع سوف أشرب من الينبوع الإلهي الذي جعلته يتدفق ليروي كل من يعطش إليك. إذ ضُرِب جنبك بالحربة للوقت خرج دم وماء (يو 19: 34). ومن يشرب منه يصبح ينبوع ماء حيّ للحياة الأبدية (يو 4: 14). إذا رعيتني ستجعلني أستريح بسلام خلال منتصف النهار في الضوء الخالي من الظلال. لأنه لا توجد ظلال في منتصف النهار، عندما ترسل الشمس أشعتها عمودية فوق الرأس. وستجعل ضوء منتصف النهار يُريح كل من أطعمته وتأخذ أطفالك معك في فراشك (لو 11: 7). لا يستحق أحد أن يأخذ راحة منتصف النهار إلا ابن النور والنهار (1 تس 5:5). الشخص الذي فصل نفسه من ظلمة الليل إلى الفجر، سوف يستريح في منتصف النهار مع شمس البرّ (ملا 4: 2).
اَخبرني، قالت العروس، أين استريح؟ أرني مكان الراحة في منتصف النهار لئلا اَبتعد وأضل بجهلي عن قيادتك الحنونة، فأعرف أين أرجع لبقية قطيع غنمك.
تتكلم العروس هذا الكلام بروح الرجاء إلى الله وتكافح لكي تتعلم وتفكر كيف تحتفظ بجمالها إلى الأبد. ولكنها ليست متأكدة بعد، إنها مستحقة لصوت العريس. ولأن الله يتنبأ لها بشيء أفضل محجوز لها، وهذا هو أن مقدمة فرحها ومتعتها قد تلهب رغبتها إلى شيء أقوى. وهكذا تسبب رغبتها إلى زيادة فرحها.
ولكن يتكلم أصدقاء العريس مع العروس عن مستقبلها الأبدي العظيم. وكانت نصيحتهم غامضة، وعبروا عنها كالآتي: "إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك عند خيام الرعاة" [ع8]. ويظهر الغرض من هذه الكلمات مما أسلفنا شرحه. ولكن الترتيب في النص غير واضح. فما معنى "الخيمة؟ فأسلم طريقة للفهم هي ألا يجهل الشخص نفسه.
يجب على كل إنسان أن يعرف نفسه كما هو، وأن يميز نفسه عن ما لا يخصه، حتى لا يجد نفسه يحتفظ بما هو غريب عنه دون وعي. ويحدث هذا للأشخاص المهملين الذين لا يراعون أنفسهم، فإنهم يهتمون بالقوة والجمال والعظمة والمركز وفائدة الثروة والغرور وضخامة الجسم ورشاقة الشكل أو أي شيء مادي يخصهم. ويتصف مثل هؤلاء الأشخاص بأنهم حراس مهملون، لأنهم ينجذبون نحو الخطأ فلا يحرسون ما هو صالح لهم.
كيف يتمكن أي شخص من أن يعتني بما لا يعرفه؟ أحسن وسيلة للحفاظ على ما عندنا من خير هو أن نعرف أنفسنا.
كل شخص يلزم أن يعرف من هو، وأن يقدر إمكانياته بدقة، ويُميز بين ما هو عرضي وما هو حقيقي حتى لا يجري وراء الأوهام. الشخص الذي يُعلي قدر الحياة في هذه الدنيا، ويحسب قيمتها كأمر يجب الحفاظ عليه لا يعرف أن يحدد ما له مما هو غريب عنه.
كل ما هو مؤقت لا نملكه. كيف نحتفظ بما هو عابر ومؤقت؟ يوجد واحد فقط في هذا العالم ليست له طبيعة مادية وهو الله الأبدي. فكل العالم المادي يفنى من خلال تغيرات سريعة ومتتابعة.
الشخص الذي يفصل نفسه عن الله الدائم إلى الأبد يضيع بعيدًا في الهاوية.
من يفصل نفسه عن الله سوف يُحمل بالضرورة إلى اتباع الشيطان. ومن يملك ويهتم بالأشياء المؤقتة ويبحث عن الله يصل في النهاية إلى خيبة الأمل، ويفصل نفسه عن الله، ولا يتمكَّن من الوصول إلى أي هدف.
يعطي أصدقاء العريس النصيحة الآتية: "إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء فاُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك عند خيام الرعاة"
الشخص الجاهل لا يعرف قيمة نفسه، يترك قطيع الغنم ويرعى مع الجداء التي رفضها السيد المسيح ووضعها عن يساره (مت 25: 23). لذلك فالراعيا لصالح يضع غنمه على يمينه ويفصل الجداء من القطيع الجيد ويضعها على يساره. لنتعلم من أصدقاء العريس أن نكون واعين لطبيعة الأشياء ولا نحيد عن الحق بحفظ خطواتنا ناحيته.
تحتاج هذه النقطة إلى دراسة متعمقة. كثير من الناس لا يعرفون موقفهم من الحقيقة. لذلك يقتنعون بالطريق التي سلكها من سبقوهم، وينقصهم الحكم الصحيح على الحق، وينقصهم المنطق السليم. ويخطئون عندما تتاح لهم فرصة الحكم على الصلاح، والنتيجة أنهم يختارون لأنفسهم القوة والمركز العالي والمادة في هذا العالم: إنهم يهتمون بما يمتلكونه من مادة بينما لا يعرفون ماذا يستفيدون بها بعد مماتهم. إن العادات البشرية ليست تأمينًا جيدًا للمستقبل لأنها غالبًا ما تقودنا إلى قطيع الجداء بدلاً من الغنم.
يعطي الإنجيل فكرة واضحة عن موضوع الغنم. الشخص الذي يبحث فيما يخص الطبيعة البشرية سوف يحتقر العادات الغير منطقية، ويعتبر كل ما يُسيء للنفس أنه خطية، لذلك لا يفيدنا أن نتبع آثار أقدام الماشية التي ترمز إلى حياة من سبقونا على الأرض. وذلك لأن اختيارنا لما نعمله من الأشياء الظاهرة يظل غير واضح إلى أن نرحل من هذه الحياة، وهناك سوف نعرف من الذي تبعناه. فالشخص الذي يتبع خطوات من سبقوه ويعتبر العادات السارية في هذا العالم دليلاً له، ولا يُميز الخير من الشر إلاّ على أساس الأمر الواقع، غالبًا ما يقع في الخطأ. ويُصبح من فريق الجداء في اليوم الأخير بدلاً من فريق الخراف. لذلك يلزم أن نسمع إلى أصدقاء العروس: أيتها النفس الطيبة، بالرغم أنك كنت سابقًا سوداء، لكن إذا أردت أن تحتفظي بشكلك الجميل على الدوام فلا تقتفي آثار أقدام الذين سبقوك في الحياة. لأنك لا تعرفين إذا كانت آثار الأقدام التي تتبعينها هي مسار للجداء أو للغنم. لذلك يجب الاحتراس لئلا نوضع بعد الموت مع القطعان التي اقتفينا آثار خطواتها بجهل أثناء الحياة.
"إذن لم تعرفي نفسك أيتها الجميلة بين النساء، فاُخرجي على آثار الغنم، واِرعي جداءك عند خيام الرعاة" (نش 1: 8). يمكن فهم هذه الفقرة بسهولة أكثر إذا رتبت كلماتها كالآتي: "إذا كنت لا تعرفين نفسك أيتها الجميلة بين النساء فلقد اقتفيتِ أثر خطوات القطعان، وأطعمتِ الجداء أمام خيام الرعاة". وهنا يتوافق المعنى بالضبط مع تفسير النص كما سبق. ولكي لا تعاني من سوء الحظ، راقبي نفسك كما يُشير بذلك النص. لأن هذا هو الطريق المؤكد لحماية نفسكِ، ويمكن التحقق من أن الله قد وضعنا في مستوى أعلى بكثير من بقية المخلوقات. فلم يصنع السموات على هيئته ولا القمر أو الشمس أو النجوم الجميلة أو أي شيء آخر تراه في الخليقة. أنت وحدك قد خُلقت على مثال هذه الطبيعة التي تعلو فوق أي إدراك، على هيئة الجمال الأبدي وصورته، كما استقبلت البركات الإلهية الحقيقية، وختم النور الحقيقي، وستصيرين مثله عندما تنظر إليه. وعندما تقتدين به هذا الذي يشرق في داخلك (2 كو 4: 6) وينعكس نوره بواسطة طهارتك.
لا يوجد في الخليقة ما يُقارن بعظمتك، فكل ما في السموات تحتويها يد الله، والأرض والبحر تمتلكها راحة يده، وأما أنتِ فيمكنك أن تحتوي الله العظيم. فبالرغم من أنه يمسك كل الخليقة في راحة يده إلا أنه يمكنك أن تحتوي الله. فالله يسكن فيك، ويخترقك وهو ليس محصور داخلك. إنه يقول إني سأسكن فيهم وأسير بينهم (2 كو 6: 16).
إذا وعيت ذلك لا تنظر عينك إلى أي شيء مادي أرضي، لا تفتكر أن السموات عجيبة جدًا وفوق الإدراك. كيف تنظر بتعجب إلى السموات أيها الإنسان إذا كنت ترى أنك أكثر منها بقاءً؟ فالسموات سوف تزول (مت 24: 35)، وأنت تبقى في الأبدية مع ذاك الذي يبقى على الدوام.
لا تتعجب من ضخامة الأرض أو اتساع المحيط فلقد عُينت سائقًا لهما كما على زوج من الخيل، وهى على ضخامتها واتساعها طيّعة لإرادتك. فالأرض تمدك بما تريده، والبحر يعطيك ظهره كحصان أليف لكي تركبه إلى حيث تريد.
"إن لم تعرفي نفسك أيتها الجميلة بين النساء" فإنك سوف تنظرين بازدراء للكون كله. وباستمرارية النظر إلى الخير الروحي فسوف لا تهتمين بخطوات هذه الحياة التائهة. اِفحصي نفسك باستمرار، ولا تُخدعي بواسطة قطيع الجداء. وفي النهاية سوف لا تُعزَلي مثل الجداء، بل كالخراف في يوم الحساب وسوف توضعي عن يمين العريس، وتسمعي الصوت العذب الذي يقول للخراف الطيبة المغطاة بالصوف: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34). ليتنا نكون مستحقين لهذا الملكوت في المسيح يسوع ربنا له المجد إلى دهر الدهور أمين.
روجع
نشيد الأناشيد 9:1-14
9. لقد شبهتكٍ يا حبيبتي بفرسٍ في مواجهة مركبات فرعون.
10. ما أجمل خدَّيكِ كخدي يمامة، وعنقكِ بقلائد؟
11. نصنع لكِ سلاسل (أشكالاً) من ذهب مع جمان من فضة.
12. ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته.
13. صُرَّة المُر حبيبي لي، بين ثدييّ يبيت.
14. طاقة فاغية حبيبي لي، في كروم عين جدي.
[على غير عادة البشر بدأت العروس بالحديث تعلن عن شوقها نحو عريسها السماوي. وإذ يناجيها عريسها، إنما يشرق بكلماته كأشعة الشمس التي تضيء أعماقها... كلمات مسيحنا هي النور تبدد ظلمة الخطية الخفية في الداخل، وتحول ظلمة قبرنا إلى مقدس منير.
حديثه هو إعلان ذاته كما على جبل سيناء... لكنه إعلان مفرح، لأنه إعلان عن عرس سماوي أبدي.]
سبق الإشارة إلى أنَّ الآيات الأولى في نشيد الأناشيد يمكن مقارنتها بأشعة الشمس عند الفجر بعد أن يسحب الليل آخر ظلاله. إنها لا تحمل ضوءًا صافيًا بل هي مقدمة رقيقة له، لأنها ليست بالأشعة التي تُضيء الإضاءة الكاملة.
تتكلم العروس في افتتاحية النشيد ثم يُشرِق صوت العريس مثل الشمس التي يطغي نور أشعتها على ضوء النجوم والقمر، ويرمز ذلك إلى تطهير وتنظيف الروح استعدادًا لاستقبال الله.
يشترك النص الحالي للنشيد في اللاهوت نفسه، لأن كلمة الله وقوته العظيمة تُمِكّنان القارئ من مشاركته الكلمة. ويشبه ذلك إسرائيل في جبل سيناء الذي كان مستعدًا خلال يومين من التطهير (خر 19: 10) أن يستحق الاستماع إلى الله عند فجر اليوم الثالث. لقد استقبل إسرائيل الله نفسه بعد ما غسل الشعب خطاياه وأقذاره . لذلك يمكن اعتبار تفسير مقدمة النشيد كأن لها نفس فائدة يومىْ التطهير من وحل الجسد لكي نفهم كلمات النشيد.
سوف يُظهر الله الكلمة (للنفس) المتطهرة في اليوم الثالث الذي يتبع اليومين الأول والثاني. وسيجعل ظهوره معروفًا، ليس في الظلام، بل في رعود وبروق وصوت بوق شديد جدًا وأتون نار أحرقت كل ما حول سفح الجبل إلى قمته، ولكنه سوف يتحول ظهوره المخيف هذا إلى فرح جميل ومقبول، لأنه يقوم بين العريس والعروس.
طلبت العروس أن تعرف المكان الذي يقضي فيه الراعي الصالح وقته، حتى لا تعاني من مصاعب قد تحدث لها في غيابه بسبب جهلها، فشرح لها أصدقاء العريس الموقف الحقيقي والمؤكد هكذا:
يجب أن تراقب النفس وتعرف نفسها. إنه يُقال أن جهل الإنسان بنفسه هو بداءة جهل الشخص بكل شيء يجب أن يعرفه، وما يترتب عن ذلك من نتائج. كيف يحصل الشخص على معلومات بينما هو يجهل نفسه؟
عندما يتنقى ويتطهر الجزء المُتحكَّم (القيادي) في النفس يشرق الله الكلمة على النفس التي ترغب فيه كالشمس، يشجعها إلى كمال أعظم من خلال ما تم عمله، ثم يمدح ما يُعمل في اتجاه معرفة أعمق للخير (لله).
وماذا يقول إذن الكلمة الحقيقي للعروس البكر؟
يقول لها "لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مواجهة مركبات فرعون" [ع9]. ولما كان من المستحيل أن نفسر هذه الكلمات بمعناها الحرفي، لذلك يلزم أن نختبر النص الذي أمامنا بعمق.
كما نعرف من سفر خروج (14: 16-29). إنه قد نشأت قوة مضادة لفرسان فرعون: السحاب، والأسلحة، والرياح الشديدة، وانغلاق البحر الأحمر وتحوُّل قاع البحر إلى أرض جافة، والأمواج العاتية التي تحولت إلى جدران على الجانبين، ومن خلال هذا الخلاص العظيم عبر الإسرائيليون البحر بينما غرق المصريون بفرسانهم ومركباتهم في القاع.
إذ لم يظهر أي فرسان ليحارب بهم إسرائيل جيش المصريين، لذلك ليس من السهل تَصوُّر مقارنة العروس بالفرسان ضد مركبات المصريين.
"لأن فرساني" يقول العريس "انتصرت على مركبات الفرعون، إني شبهتك بهم يا حبيبتي" .
واضح أن العدو لا يمكن هزيمته في معركة بحرية دون أن تغرقه قوة أخرى. وأيضًا لا يمكن هزيمة فرسان المصريين دون أن تقوم قوة معادلة لهم من الفرسان بذلك. وقد كانت قوة فرسان الجيش المصري معروفة بقوتها.
ويُسمِىّ النص القوة الخفية التي هزمت جيش المصريين بالفرسان. لأنهم علموا أيضًا أن الله كان يحارب معهم لقد صرخوا قائلين: "الله يحارب ضد المصريين" وقال المصريون "دعونا نهرب من وجه الله" ويتضح من ذلك أن القائد الحقيقي جَنَّد قواته الخاصة ضد قوات العدو (سفر الخروج 14).
أي أن قوة غير مرئية دمرت قوات المصريين خلال معجزة البحر الأحمر، وهذه القوة يسميها النص "الفرسان" ويمكن أن نفترض أن الفرسان كانوا جيشًا من الملائكة التي يذكرها حبقوق النبي: "ركبت خيلك ومركباتك مركبات الخلاص" (حب 3: 8). وذكر داود أيضًا مركبات الله قائلا: "مركبات الله ربوات" (مز 67: 17).
وكذلك فإن القوة التي رفعت إيليا من الأرض إلى المنطقة العليا يُسميها الكتاب بالخيل (2 مل 2: 11). ويُسمي زكريا النبي الذين ذهبوا حول كل الارض - ورأوا أنها في سلام، وتكلموا مع الرجل الذي كان يقف بين الجبلين - فرسانًا (زك 1: 10-11).
ذاك الذي يملك الكون عنده فرسان وهي التي رفعت النبي إيليا وتنظم السلام في الأرض المسكونة.
وفي حالات أخرى يُجنَّد فرسانُ الله في مركبات ويأتي الله على رأسها لخلاص البشر، أو تأتى لهزيمة جيش المصريين. لذلك توجد طرق عديدة تعمل بها فرسان الله.
ويمكن مقارنة الفرسان التي تقود النفس إلى الفضيلة بالفرسان التي هزمت جيش المصريين. لذلك فكلمة الله تقول للعروس: "إني أقارنك يا حبيبتي بالفرسان التي تواجه مركبات فرعون".
إن سفر النشيد به أمجاد كثيرة. وبمقارنة سلاح الفرسان هذا، نجد أنه قائمة من التماجيد. نتذكر الأمور التالية عن إسرائيل أثناء إقامته وسط المصريين: العبودية، العصافة، الطين، التبن، كل عمل يتصل بالتراب، أولئك الذين طلبوا حصة يومية من التبن، تحويل الماء إلى دم، والنهار صار ليلاً، الضفادع دخلت وملأت المنازل، التراب المُحرَق الذي سبب القروح والأورام، كل نوع من أنواع البلية مثل الجراد، الذباب، المطر، البرَدْ، وموت الأبكار. كل هذه الأمثال وغيرها ما هي إلا طرق الخلاص للإسرائيليين، وهي تُعدُّ أساسًا لتمجيد النفس المتحدة بالله.
تقارن النفس بتلك القوة التي حطمت المصريين الأشرار، وأطلقت إسرائيل حرًا من طغيان الشر، لأن كل هذه الأحداث قد آلت إلى النجاح، تلك التي حطمت مصر وأيضًا أعدَّت الرحلة إلى الله للشعب الذي اُقتِيد إلى أرض الموعد بعيدًا عن وحل أرض مصر.
وحيث أن القديس بولس الرسول يقول: (1 كو 10: 11) أن هذه الأمور جميعها كُتِبت لإنذارنا، فإن الكلمة يعزينا خلال كلماته التي وجهها إلى العروس وهي أنه علينا أيضًا أن نستقبل الكلمة وقد امتطانا كما على فرس ليهزم سلاح الفرسان المصري بمركباته وفرسانه، ليغرق كل قواته الشريرة في المياه ويصير مثل تلك القوة التي تترك الجيش المعادي وراءها في المياه في وصمة عار.
وحتى نستطيع أن نفهم كلمات النشيد بالأكثر علينا أن نأخذ في الاعتبار الآتي:
إن شخصًا ما لا يمكن مقارنته بسلاح الفرسان الذي غرقت بواسطته مركبات المصريين إلى العمق إلا إذا كان قد تحرر من العبودية للعدو خلال المياه السرائرية. وعليه أن يترك وراءه كل تفكير في مصر وكل شر وخطية في المياه.
عليه أن يطفو على سطح المياه طاهرًا، ولا تشوب حياته الجديدة أي أثر من آثار الضمير المصري (الفرعوني).
لأن الإنسان الذي تطهر من كل عذابات المصريين: الدم، الضفادع، البثور، الظلام، الجراد، الذباب، البرد، النار من السماء والتجارب الأخرى التي بتلك القوة التي يمتطيها الكلمة. نحن لا نجهل تمامًا ما ترمز إليه العذابات مثل الدم، رائحة الضفادع (النتنة)، تحوّل النور إلى ظلمة، وهكذا...الخ
مَنْ يخُفي عليه مثل هذه الحياة التي تتحول إلى دم؟ قد كانت قبلاً ماءً صالحًا للشرب والآن قد صار ملوثًا. أيضًا من لا يعلم كيف تتحول الحياة المضيئة إلى حياة مظلمة؟ وإلى مثل هذه الحياة الشريرة؟ فإن أتون جهنم يأتي ببثور مُهيِّجة للجلد ولعينة. ونستطيع أن نقول أن كلا من الضربات التي وقعت على المصريين يمكن أن تتحول بسهولة إلى شيء تعليمي ووسيلة لكبح جماح السامعين؛ حقًا ليس من الضروري أن نعيش في حالٍ كهذه، أظن أننا جميعًا متفقون على ذلك.
حينما نتغلب على مثل هذه الأمور ونقترب من الله، سوف نسمع حتمًا نحن أيضًا هذه الكلمات "قد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات مواجهة فرعون".
ربما لا يروق للبعض هذه المقارنة بالفرس في مواجهة مركبات فرعون خاصة الذين سلكوا حياة معتدلة ومنضبطة.
كثير من الأنبياء يمنعوننا من تشبيه أنفسنا بالخيل، إذ نجد أن إرميا يستخدم الخيل كرمز للشهوة الجسدية المسعورة: "صاروا حصنًا معلوفة سائبة. صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه" (إر 5: 8). بالمثل قال داود العظيم في الأنبياء أنه قد كان شيئًا فظيعًا أن يكون المرء كفرس أو بغل (مز 31: 9)، ويحثنا أن نلجم فمنا مثل هذه الحيوانات بلجام وشكيمة.
[لا نخف من تشبيهنا بالفرس، فإننا نحمل بالله قوة الفرس وحياء اليمامة وطهارتها، إذ لنا خدَّا يمامة طاهرة.]
لذلك يسترسل كاتب النشيد بنغمة لتخفيف الألم في الآيات التالية، قائلاً أنه حتى ولو كنت فرسًا فإنه لا داعي لوضع لجام أو شكيمة على فمك لكبح جماحك. بل أن خدَّيك قد صارا جميلين من خلال نقاوة اليمامة. لأنه يقول: "ما أجمل خدَّيك كخدَّي يمامة". الذين يتمتعون بقوة ملاحظة يزعمون أن هذا الطائر يبقى وحده بعد أن ينفصل عن أليفه ولا يتخذ لنفسه آخر، كما ولو كانت الطهارة شيئًا طبيعيًا في حياته. لذلك فقد تضمَّن شيئًا طبيعيًا تمجيد الكلمة لهذا الطائر أيضًا. بدلاً من لجام لفم هذا الفرس المقدس لدينا خدَّان يُقارنان بخدَّي اليمامة. وذلك يشير إلى أن حياة الطهارة تلائم مثل هذا الفرس. إن الكلمة يقول لعروسه بإعجاب:" ما أجمل خدَّيك كخدَّي يمامة".
ويضيف مديحًا آخر بعقد مقارنة: "وعنقك بقلائد".
يستخدم لغة الكلمات لمدح العروس. إنه يمدح عنقها إذ بها انحناءة دائرية مثلما نرى الخيول الجميلة الصغيرة السن.
إن ذكر القلائد يشير لهذه الانحناءة الدائرية على عنق الفرس التي تُظهر جمالاً خاصًا للمهرة.
من الجانب الآخر فإن كلمة "قلائد" تشير إلى أماكن من شاطئ البحر منحنية للداخل على شكل هلال. بذلك يستقبل البحر في حضنها ويمثل مكان راحة للذين يبحرون آتين من عرض البحر.
وبسبب شكلها تسمى زينة العنق مجازيًا HORMOS. عندما يستخدم تصغير HORMOS لكلمة HORMISKOS، نرى الشكل المماثل مصغرًا. لذلك فإن مقارنة عنق العروس بالقلائد يمثل مديحًا فائقًا عظيمًا للعروس.
أولاً. فإن المهر حين يُحنى رقبته على شكل دائرى يحترس في خطواته فيجري في أمان، لكيلا ترتطم حوافره بصخرة أو يقع في حفرة. هذا ليس بالمديح البسيط للروح اليقظة المتقدمة بسرعة في الطريق المقدس دون أن تسقط أن تعتبر فوق كل تجربة تعوقها في الطريق وتتجاوزها.
إن المفهوم الأصلي لكلمة "hormos" حيث أنه يشير بالمثل إلى زينة العنق يسمى "hormiskos" ويتضمن حقًا مديحًا عظيمًا عندما يقارن العنق بالقلائد.
ما هي المدائح التي يكشفها الإنجيل خلال هذا التعبير؟
ثانيًا. إن الميناء هو ملاذ أمين يرحب بالبحارة، وملجأ هادئ بعد عنائهم في البحر. هنا ينسون أتعابهم بينما يستردون عافيتهم ويستريحون من أتعابهم الطويلة. فلا خوف من انكسار السفينة، ولا قلق من جهة عمق المحيط، ولا مخاطر من قراصنة ولا اضطرابات الرياح ولا هياج البحر بسبب النوء.
الذين كانوا عرضة لتقاذف سفينتهم بسبب العاصفة قد صاروا الآن بمنأى عن كل مثل هذه المخاطر في ملاذ المياه الساكنة.
إذا ما أعدَّ أحد نفسه حتى تبقى في سكون بغير اضطراب، في هدوء بلا أمواج مضطربة بريح الرذيلة، ولا انتفاخ خلال الكبرياء أو الحنق بأمواج الغضب، أو الاضطراب بأمواج الشهوة، أو تحمله كل ريح تثير أمواج الشهوة الكثيرة إذا ما أُعدَّ النفس هكذا، وإذا ما سكَّن الاضطراب العاصف في بحر هذه الحياة بكل أمواجه الهائلة الشريرة، وصمدت أمامهما حياة الفضيلة السلسة الهادئة حتى يدخلون فيها ويفرون من مخاطر انكسار السفينة، حينئذ يكون جديرًا بأن يقارن على فم الكلمة "بالقلائد" حيث أن استخدام الجمع هنا يشير إلى كمال الفضائل في كل أشكالها.
إذا ما قورنت العروس بقلادة واحدة فقط لما كمل مديحها إذ لا تتضمن الفضائل الأخرى. مقارنتها لعدد من القلائد يحمل شهادة لحقيقة أنها تُمتدَح من أجل تجمُّلها بجميع الفضائل. وهذا عزاء مقدم في النص للكنيسة بأجمعها.
فعلينا ألا نقْصر اهتمامًا لاقتناء فضيلة واحدة وإهمال أعمال صالحة أخرى.
إذا ما تحليت بقلادة ضبط النفس على عنقك بحياة طاهرة كما باللآلئ إذن فعليك أن يكون لك قلادة أخرى: الغيرة لاقتناء الفضيلة يتضمن حجارة كريمة من التعاليم المقدسة لتضاعف من جمال عنقك.
عليك أن تقتني قلادة أخرى أيضًا تزين بها عنقك: الصلاح والإيمان السليم.
هذه هي القلادة الذهبية المسبوكة من الذهب الخالص لمعرفة الله الذي يبُرق حول عنقك.
يقول سفر الأمثال: "لأنها إكليل نعمة لرأسك وقلائد لعنقك" (أم 1: 9).
وهكذا فإن قلائد العروس تهبنا ثمرًا وفيرًا لأفكارنا.
الآن حان الوقت لنتأمل كلمات أصدقاء العريس الموجهة للعروس: "نصنع لك سلاسل (أشكال) من ذهب مع جُماٍن من فضة (1: 11-12). "ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته".
إذا ما تطلع أحد إلى هذه الكلمات في سياق التفسير المقدم عالية، يجد أن الغرض يبدو متآلفًا معه. ولكن المعنى الحرفي مختفي بعمق وراء الرمز ويصعب تفسيره.
بما أن جمال الروح قد قورن بسلاح الفرسان (أي الجيش الملائكي) الذي حطم مركبات المصريين، وحيث أن ممتطي الفرس يسمى من يملك على فرسه "الطهارة" بالمقارنة بخدَّي اليمامة، وأيضًا عنق العروس مزيَّن بقلائد لامعة بالفضائل، نجد أن أصدقاء العريس يودون أن يُضفوا الجمال على الفرس. يفعلون ذلك بتزيينها بأزرار ذهبية مطعمة بفضة نقية. بذلك تزداد جمالاً وتلمع بالأكثر إذ أن لمعان الفضة يمتزج ببريق الذهب.
علينا أن نترك وراءنا هذه المعاني الرمزية ولكن دون أن نحذف أي معنى ربما قد يساعدنا. إن النفس وقد تطهرت خلال الفضائل قد قورنت بسلاح الفرسان.
لكنها لم تُعبِّر بعد عن أنها تابعة للكلمة؛ ولا أنها تحمل فوقها ذاك الذي يمتطي الفرس حتى يأتي بالخلاص (حب 3: 8؛ زك 9:9).
يليق بالفرس أولاً أن يكون في كامل زينته وبعد ذلك يستقبل الملك (الذي يمتطيه).
سواء أخضع الملك الفرس له - ذاك الذي بحسب الأنبياء يمتطينا كفرس من أجل تحقيق خلاصنا (حب 3: 8)، أو كان هو الذي يسكن في داخلنا أو يتمشى معنا مخترقًا أعماق نفوسنا، فلا فرق في المعنى، لأن الوحدة تتحقق خلال الأمرين، وأي قصور يتحول إلى الكمال.
فمن يكون فرسًا يمتطيه الله هو حقًا يتمتع بالله ساكنًا بداخله، ومن يستقبل الله بداخله فقد تجاوز ما كان قد أدركه قبلاً.
لذلك فإن الملك على وشك أن يمتطي الفرس. كما قيل بالنسبة للقدرة الإلهية فإن الاتكاء على مقعد أو مضجع سيان.
إن رجال الملك يجهزون الفرس ليمتطيه بتزينه أولاً، حيث أنه في عينيّ الله لا فرق بين أن يكون بداخل إنسان أو فوقه.
إذا ما تركنا جانبًا المفهوم الرمزي، نجد أن الذين يجهزون الفرس يتعهدون أن يجعلوا منه الآن مُتكئًا، وكما يقول النص يلزمنا أن نصنع سلاسل (أشكالاً) من ذهب مع جمان من فضة لتجميل الفرس، حتى يستريح الملك لا على مقعد بل كما على سرير.
كما يوضح لنا الكتاب، إن النص يصف لنا هذا المعنى. علينا أَلاَّ نسترسل دون الأخذ في الاعتبار سبب عدم استخدام الملك للذهب للزينة بل "شبه الذهب"، وليس الفضة بل "شبه الفضة". ذلك يعني الآتي:
كل تعليم يخص وصف طبيعة الله التي لا توصف، حتى وإن كان يكشف عن أفضل وأسمى مفهومٍ ممكن إنما هو شِبه الذهب وليس الذهب ذاته، لأن الصلاح الذي يتجاوز العقل البشري لا يمكن تقديمه بدقة.
حتى ولو أن أحدًا مثل القديس بولس قد اِطلع على أسرار الفردوس غير المدركة وسمع كلمات لا ينطق بها (2 كو 12: 4) فإن أي معرفة لله تظل لا ينطق بها.
وبولس الرسول ذاته يقول إن مثل هذه المفاهيم غير مدركة.
أعلن أولئك الذين يقدمون لنا أي أفكار صالحة عن مثل هذه الأسرار، أنهم أيضًا غير قادرين حقًا على التعبير عن الطبيعة الإلهية.
إنهم يتكلمون بالأحرى عن بهاء مجد الله ورسم جوهره (عب 1: 3)، صورة الله، والكلمة الذي في البدء وكان الكلمة الله (يو 1:1). كل هذه التعبيرات تبدو لنا نحن الذين لم نرَ الطبيعة الإلهية مثل الذهب من هذا الكنز.
ولكن بالنسبة لهؤلاء القادرين على رؤية الحقيقة، يرون أنها شبه الذهب وليس ذهبًا لامعًا، إنه ذهب مع جُمان من فضة. إن الفضة كما يقول الكتاب: "لسان الصدِّيق فضة مختارة" (أم 10: 20).
هنا يتكشف لنا أن الطبيعة الإلهية تتجاوز كل مفهوم نحاول أن ندركه.
إن فهمنا للطبيعة الإلهية يشبه ما نهدف إليه. إن أحدًا لم يَرَها ولا يستطيع أن يراها، إلا كما في مرآة ولغز (1 كو 13: 12).
إنها تعطينا انعكاسًا لما نفكر فيه، أي تقدم انعكاسًا موجودًا في النفس بصورة معينة.
كل كلمة تمثل هذه المفاهيم تشبه نقطة تحتاج أن تتسع حيث أنها قاصرة عن التعبير عما في العقل.
إذن فكل فكر لنا يعجز عن إدراك الله.
وكل كلمة تقال كمحاولة للتعبير عن الله تبدو مثل نقطة صغيرة غير قادرة على الاتساع لتتناسب مع المفهوم. هكذا إذ تقُاد النفس بمثل هذه المفاهيم لإدراك ما لا يمكن إدراكه إلا عن طريق الإيمان عَلَّها أن تفسر ذاتيًا طبيعة تفوق كل ذكاء.
هذا ما يقوله أصدقاء العريس: "دعينا أيتها النفس التي تشبه الفرس نصنع لك صورًا تشبه الحق (لأنه لذلك يذكرون الفضة: إذ أن كلماتهم تشبه شرارة تتلألأ، ولكنها قاصرة عن تقديم المعنى العميق بدقة).
وعندما تصلك هذه الكلمات تكون قد صرت خاضعًا لها وهكذا تصير مكانًا لسكنى ذاك الذي يوشك أن يتكئ ويسكن في داخلك خلال إيمانك.
ربما يستحق القديس بولس أو من يشبهه مثل هذه الكلمات.
لأن بولس الرسول قد صار يومًا ما "إناءًا مختارًا" (أع 9: 15)، فلم يَعَشْ حياته بعد لكنه أظهر المسيح حيًا في حياته، وقدم برهان المسيح المتكلم فيه (2 كو 13: 3). لذلك صار مسكنًا يحوي الطبيعة التي لا تُحوىَ.
[نتعرف على العريس خلال رائحته فينا، وندرك صلاحه غير المدرك خلال عمله فينا. هكذا تصير النفس مرآة له!]
مثل هذه النعم يمنحها أصدقاء العريس للنفوس العذارى الطاهرة (مثل هؤلاء الأصدقاء هم أرواح خادمة لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص).
تزداد العروس كمالاً عندما تُمنح هذه النعم؛ كلما اقتربت من شهوة قلبها، وقبل أن يتجلى جمال عريسها نجدها خلال حاسة الشم تتلامس مع من تشتهيه وتهدف إليه.
إنها تميز لونه خلال قوة رائحته وتقول أنها تشتم رائحته خلال رائحة عطرها الذي تسميه "ناردين". تستخدم هذا التعبير حينما تخاطب أصدقاءها: "أفاح نارديني رائحته" [ع12].
تقول العروس أنك لا تمنحنا الذهب الخالص بل شبه الذهب خلال المفاهيم المناسبة لإدراكنا، ولا تكشف عن شيء عنه سوى رموز وعلامات.
لكنك تلقي بعض الضوء على ذاك الذي أفتش عنه خلال تلميحك بالـ "جُمان من فضة" لذلك فأنا أيضًا قد تلقيت رائحتك الذكية خلال رائحة نارديني، وذلك عن طريق الحواس.
هذه الكلمات في نظري تعني الآتي: هناك كثير من العطور المتنوعة وكلٌ له رائحته التي تختلف عن الآخر، لكننا إذا صنعنا مزيجًا من العطور باهتمام سوف نحصل على عطر خاص.
إن عطرًا واحدَّ يسمى ناردين يطلق اسمه على خليط من كل العطور. كثير من خواص العطور تنسب إلى واحد، أَلاَ وهو رائحة العريس الزكية الذي تستنشقه الحواس النقية.
نظن أن الكلمة يعلمنا هنا عن جوهره المفهوم ضمنًا خلال ترتيب الخلقة والهيكل العام لها:
إنه لا يُدنَى منه وغير ملموس وغير مدرك. بدلاً من الكلام لدينا الرائحة المركبة الناتجة عن كمال الفضائل بداخلنا.
إنها تشبه بطهارتها من هو بالطبيعة عديم الفساد، وبصلاحها تشبه صلاحه، بعدم فسادها عدم فساده، بعدم تغييرها عدم تغيره؛ وبكل ما فينا الذي يتأثر بالفضيلة، فضيلته الحقة التي غطت كل السموات كقول حبقوق النبي (حب 3:3).
حين تقول العروس لأصدقاء عريسها "أفاح نارديني رائحته" تأخذ (النفس) من كل زهرة من مختلف مروج الفضيلة وتصير حياة الإنسان عطرة خلال رائحة سلوكه الذكية وهكذا يصير كاملاً إلى حدٍ ما، مثل هذا الشخص لن يكون من طبيعته أن ينظر بثبات على كلمة الله كما على الشمس ولكنه بالأحرى يراها بداخله كما في مرآة. لأن شعاع هذه الفضيلة الحقة المقدسة يشع في الحياة الطاهرة بإفراز، ويجعل الغير منظور منظورًا لنا، والغير مدرك مدركًا، بتصوير الشمس في مرآة نفوسنا.
عندما نتفهم النص نجد أنه لا فرق بين أن نتحدث عن أشعة الشمس، وتدفق الفضيلة أو رائحة العطور الذكية. أيًا كان التعبير الذي نختاره، فهناك فكرة عامة واحدة للكل، أَلا وهي أننا نكتسب معرفة الصلاح من الفضيلة، ذلك الصلاح الذي يتجاوز كل فهم، تمامًا مثلما نستدل على جمال أي نموذج من صورته.
هكذا تشبَّه بولس العروس بالعريس في فضائله، وصور(ما تشكيلها؟؟) بعطره الجمال الذي لا يدنى منه. من ثمار الروح الحب، الفرح، السلام وما شابه ذلك. صنع عطره واستحق أن يصير "رائحة المسيح الذكية" (2 كو 2: 15)، لقد استنشق القديس بولس هذه النعمة الغير مدركة التي تجاوزت كل نعمة، وأعطى نفسه لآخرين كرائحة ذكية ليأخذوا منها على قدر طاقتهم، حسب تدبير كل إنسان. صار بولس الرسول عطرًا إما لحياة أو لموت، فإنه إذا ما وضعنا العطر ذاته أمام خنفس وأمام حمامة، فلن يكون له تأثير مماثل على الاثنين: فبينما تصير الحمامة أكثر قوة حين تستنشقه فإن الخنفس يموت حينذاك. هكذا كان الحال مع الرائحة المقدسة، مع بولس الرسول العظيم الذي شابه الحمامة.
وبالمثل تيطس وسلوانس وتيموثاوس جميعًهم قد شاركوا في رائحة عطر بولس الرسول، ونموا في كل عمل صالح مع بولس متخذينه مثالاً لهم.
على الجانب الآخر، فإن إنسانًا ما كديماس (2 تي 4: 10)، أو الكسندر (2 تي 4: 14) أو هرموجانس (2 تي 1: 15)، لم يشتركوا في رائحة عطر بولس الرسول، إذ لم يستطيع كل منهم أن يحتمل رائحة ضبط النفس، فإنه طُرح مثل الخنفس تحت تأثير رائحة العطر الذكية.
لذلك فإن بولس الرسول الذي بمثل هذه الروائح الذكية قال: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15).
إذ توجد علاقة بين ناردين الإنجيل وعطر العروس، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا الناردين الأصيل الغالي الثمن الذي سُكب على رأس السيد (يو 12: 3)، وهكذا فاحت رائحته الذكية، وملأت المنزل كله. وبالمثل فإن هذا العطر لا يختلف عن عطر العروس الذي أفاح رائحة العريس.
جاء في الإنجيل إنَّ سَكْبَ الطيب على رأس ربنا قد أفاح رائحة زكية في أرجاء المنزل حيث أقيمت المأدبة، وكأن المرأة ساكبة الطيب قد تنبأت بسرّ موت المسيح. وقد شهد الرب لعملها هذا قائلاً: "إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني" (مت 26: 12).
المنزل الذي امتلأ بهذه الرائحة يمثل الكون بأكمله، العالم كله: "حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم" تنتشر رائحة عملها هذا مع الكرازة بالإنجيل، ويصير الإنجيل "تذكارًا لها"، إذ أن الناردين في نص نشيد الأناشيد يفيح رائحة العريس لعروسه، وفي الإنجيل أيضًا تصير رائحة المسيح الذكية التي ملأت كل المنزل كطيبٍ يُطيِّب كل جسد الكنيسة في كل المسكونة والعالم أجمع، فربما نجد علاقة بين الفقرتين.
نكتفي بما قلنا في هذه النقطة .
والآن يبدو أن ما يلي يناسب نغمة العرس، أي العروس التي تعد نفسها في حجرة العرس .
حقًا إن النص إذن "صُرَّة المُر حبيبي لي. بين ثديي يبيت" [ع13].
يقال أن النساء يهتممن أكثر مما ينبغي بحليِّهن حتى يبدون جميلات في أعين رفقائهن، ولكنهن يهتممن أيضًا بأن يعطِّرن أجسادهن حتى تكون ذات رائحة زكيه جذابة لأزواجهن. ولذلك فإنهن يضَفن العطر في ثنايا ثيابهن حتى إذا ما فاحت رائحة العطر يكون لأجسادهن نصيب أيضًا في رائحته.
إذا ما أخذنا في الاعتبار عادة النساء هذه، نقول تُرى بماذا إذا تجرأت العذراء النبيلة لتقول؟
عندما تكون "صُرَّة مُر" مدلاَّة من عنقي فوق ثدييََّّ فإنها تعطر جسدي برائحة زكية. ولكنه ليس بالعطر المألوف. إذ صار الرب ذاته المُر الساكن في "صُرَّة صغيرة" وساكنًا في قلبي.
إن مركز القلب كما يقول الخبراء يقع بين الثديين.
تقول العروس إن هناك تضع الصُرَّة التي بها كنزها. أيضًا يقال إن القلب هو منبع الدفء منه يستمد الجسد حرارته خلال الأوردة. وهكذا تتمتع أعضاء الجسد بالحرارة والنشاط والغذاء خلال حرارة القلب الملتهبة. ولذلك فإن العروس قد استقبلت رائحة المسيح الذكية في مركز النفس وقد جعلت من قلبها نوعًا من الصرة لتحتوي هذا العطر. وتجعل العروس كل أعمالها وأيضًا أجزاء جسدها ملتهبة بنسمة من قلبها حتى لا يفتر حبها لله في أي عضو من أعضاء جسدها بسبب أي خطية تحاربها.
دعنا نفحص الآن الآية التالية.
دعنا نستمع ما تقوله الكرمة المزدهرة عن ثمارها، الكرمة الموضوعة في جوانب بيت الله، التي يقول النبي إنها مثمرة (مز 127: 3).
إن الحياة الطاهرة الإلهية تمتزج بالحب. "طاقة فاغية حبيبي في كروم عين جدي". من هو هذا المبارك هكذا؟ بل بالحري من ذا الذي يسمو فوق كل بركة حتى أنه إذا ما نظر إلى ثمرته يرى في كرمه أي في نفسه الداخلية رب الكرمة؟ لاحظ كيف نمت العروس حتى إن ناردينها قد أفاح رائحة العريس الذكية. لقد جعلت منه مرًا نقيًا، ووضعت هذا العطر في صُرَّة، وخبَّأته في قلبها حتى لا تفارقها عذوبته ولا تفقدها أبدًا، وهكذا قد صارت العروس أُمًا لعنقود العنب المقدس الذي أزهر أي الذي أزدهر، وقت آلام الرب وأثناء هذه الآلام سكب عصيره. الخمر الذي يفرح القلب (مز 103: 15) يسمى دم العنب بعد الآلام.
نستطيع أن نستمتع بعناقيد العنب بطريقتين: بأزهارها التي تنعش الحواس برائحتها الذكية، وبنضوج ثمارها إذ نستمتع بأكله أو حين نقيم مأدبة نقدم فيها الخمر.
في نفس السفر نجد العروس قد جمعت العناقيد المزدهرة وتسمى البراعم سروًا.
ينمو الطفل يسوع المولود بداخلنا بمختلف الطرق في الحكمة والقامة والنعمة في قلب من يستقبله ليسكن فيه (لو 2: 52).
يسكن المسيح في كل قلب نقي ولكن بصورة مختلفة حسب قامة الإنسان الذي يسكن بداخله. يُظهر ذاته حسب طاقة كل إنسان. فإنه يأتي كطفل أو كصبي أو كإنسان ناضج على مثال العناقيد.
لا يظهر المسيح بنفس الصورة على الكرمة، لكنه يغير هيئته مع مرور الوقت، الآن تبرعم، لقد نبت، ثم نضج وصار يانعًا وأخيرًا صار خمرًا.
إذ يحمل الكرم ثمرته يحمل معها وعدًا، حقًا إنه لم ينضج بعد ليعطي خمرًا ولكنه ينتظر مرحلة النضوج. وفي الوقت ذاته إنه لا يحرمنا من السرور، لأنه يفرح حاسة الشم بدلاً من التذوق باعتبار ما سيكون؛ خلال عطر الرجاء يعطي عذوبة لحواس النفس.
إن الإيمان الثابت بالرجاء في النعمة يصير بهجة لنا، نحن الذين ننتظر في صبر. وهكذا فإن الطاقة الفاغية" تحمل وعدًا بالخمر. إنها ليست بعد خمرًا، لكنها تنبت نبته الرجاء. إنها تنتظر نعمة لم تأتِ بعد.
إنَّ ذكر عين جدي أيضًا تشير إلى بقعة خضراء فيها يرمي الكرم جذورًا وينتج ثمارًا شهية صحية.
الذين لهم خبرة جغرافية يقولون إن أرض جدي مناسبة جدًا لتعهد العنب. إن الإنسان الذي تتفق إرادته مع ناموس الله يلهج فيه نهارًا وليلاً (مز 1: 2) يصير كالشجرة المغروسة على مجاري المياه (مز 1: 3) وتعطي أثمارها في أوقاتها (مت 21: 41).
هكذا أيضًا فإن كرم العريس مغروس في جدي، مكان خصب، بمعنى أنه في أعماق عقل مُروى بالتعاليم المقدسة، ويحمل هذه العناقيد المثمرة النابتة، حيث نستطيع أن نرى الكرام والمزارع. طوبى لهذا البستان الذي تُشبه أثماره العريس في جمالها! إذ أنه النور الحقيقي، الحياة الحقيقية، الاستقامة الحقيقية وكل ما تبقى كما يقول الحكيم (أم 1: 3).
حينما يكتسب الإنسان مثل هذه الصفات خلال أعماله الصالحة، يتطلع إلى الكرمة بداخل ضميره، ويرى العريس هناك ويعكس نور الحق خلال حياته النقية.
لذلك نقول الكرمة المزهرة، إن عناقيدي تنبت أزهارًا.
إنه العنقود الحقيقي الذي أعلن ذاته معلقًا على خشبة الصليب، ذاك الذي يعطينا دمه لنشربه، ويقدم خلاصه للمخلصين الذين يبتهجون فيه. له المجد والقوة إلى أبد الأبد . آمين.
15. ها أنتِ جميلة يا حبيبتي (صاحبتي)، ها أنت جميلة؛ عيناكِ حمامتان.
16. ها أنت جميل يا حبيبي وحلو (جميل)، وسريرنا أخضر (مظلل).
17. جوائز (عوارض) بيتنا أرز، وروافدنا سرو.
1:2 أنا زهرة الحقل، سوسنة الأودية.
2. كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات.
3. كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي.
4. ادخلني إلى بيت الخمر، ووضع المحبة أمامي.
5. اسندونى بالروائح، انعشونى بالتفاح، فإني مجروحة حبًا.
6. شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني.
7. أحلفكن يا بنات أورشليم بقوات وقوى الحقل ألا تُيَقِظن وتنبهن الحبيب حتى يشاء.
إذا ما مُزِج أي عنصر غريب مع الذهب فيجعله زائفًا، يقدم الخبراء من الصيَّاغ علاجًا للموقف بتنقية الذهب في النار.
إنهم يكررون هذا مرارًا وتكرارًا وفي كل إعادة يلاحظون كيف يتحسن لون الذهب.
هذه العملية أي تنقية الذهب تجعله يصبح غير زائف في منظره.
إن سبب ذكر هذا الأمر هنا سوف يتضح لك إذا ما فكرنا في النص. في البدء كانت الطبيعة البشرية مثل الذهب اللامع وذلك لتَشابُهه بالصلاح الذي بلا دنس.
لكن لونه قد تغير وصار أسودًا عندما امتزج بالرذيلة كما سمعنا العروس تقول ذلك في بداية السفر: إن إهمالها في حراسة كرمها قد جعلها سوداء (1: 5). الله الذي يصنع كل الأشياء بحكمته يهتم بما حل بالعروس من قباحٍ منظر غير لائق.
إنه ينسب لها جمالاً جديدًا لم يكن قبلاً لها، لكنه يقودها ثانيًا لحالة النعمة الأولى بإزالة السواد الذي حل بها خلال الخطية مغيرًا لونها إلى آخر بلا دنس.
بعد صب الذهب الأول يلاحظ الخبراء من الصيّاغ كم يزداد الذهب جمالاً بعد عملية تنقيته.
وعند سبك الذهب للمرة الثانية، إذ لم يتنقَّ بما فيه الكفاية بالمقارنة بالصبة الأولى فإنه يلاحظ أن الذهب يزداد جمالاً، غالبًا ما تتكرر العملية ذاتها مع ملاحظة التحسن الذي يحدث في كل مرَّة بدقة.
لذلك فإن المرافق للذهب المشوب أي العروس يُضفي على الروح بريقًا إذ ينقيه خلال عمليات تنقية خاصة.
في العظة السابقة (الثالثة) يشهد بأن جمال عروسه يشبه الفرس.
لكنه الآن يقول إنها صارت تشبه العذراء في جمالها: "ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان" [ع15]. إن النشيد يعلمنا خلال هذه الكلمات كيف أن العروس قد استعادت جمالها باقترابها من الجمال الحقيقي الذي كانت قد انفصلت عنه قبلاً.
لأن العريس يقول: "ها أنت جميلة يا حبيبتي"، أي أنه يود أن يقول لها: إنك قبلاً لم تكوني جميلة. إذ قد ضللت عن الجمال الأول باِتحادك بالرذيلة مما جعلك قبيحة المنظر.
هذا يعني أن الإرادة الحرة إذا ما أخذت اتجاهًا ما فإنها إنما تميل إليه.
فإذا ما استحوذ الغضب على الإرادة الحرة يصير الإنسان سريع الغضب، وإذا ما غُلب بالشهوة تأسره اللذة.
وإذا ما مال الإنسان إلى الجبن، الخوف، أو أي وجع آخر فإن الطبيعة البشرية تأخذ شكل كل منها على الجانب الآخر.
فإذا ما استبدلت الطبيعة البشرية الغضب وفقدان العزاء والجسارة وعدم المخافة وما شابه ذلك واكتسبت بدلاً منها الصبر والطهارة والسلام والحرية ففي هذه الحالة تبرز طبيعة كل من هذه الفضائل في صميم الروح وتصير ساكنة ومتحررة من الشهوات.
لذلك فإن الفضيلة والرذيلة إنما هما مضادتان ولا يمكن أن يجتمعا معًا في الإنسان ذاته في آن واحد.
لأن الذي قد رفض ضبط النفس يتحول إلى الفسق في سلوكه.
إن من يعتبر حياة النجاسة كشيء بغيض فإن لهذا السبب ذاته قد يتحول عن الشر، ويحيا فيما بعد حياة صالحة وعفيفة.
هكذا الحال مع كل الفضائل الأخرى.
إن الإنسان المتواضع قد قطع نفسه عن الكبرياء، ومن يمدح نفسه باطلاً قد نبذ نفسه عن التواضع.
وهل نحتاج أن نشير إلى أن غياب أحد الضالين يدل ضمنًا على أن الآخر قد ثَبتّ وجوده؟ بما أننا خلال إرادتنا الحرة نستطيع أن نصير كما يحلو لنا.
وهكذا يحق للكلمة أن يقول للعروس التي قد صارت جميلة: "ها قد نبذتِ الشركة مع الشر ودنوتِ مني.
وخلال دنوكِ من الجمال الأصلي قد صرتِ أنت ذاتك جميلة.
قد صرتِ جميلة المنظر كشبه الجمال الأول كما في مرآة." حقًا أن الطبيعة البشرية كمثل مرآه تنطبع عليها صور مختلفة بحسب الشكل الذي تتخذه النفس خلال إرادتها الحرة.
إذا ما عُرض الذهب أمام المرآة فإن المرآة يظهر عليها شكل الذهب وتعكس لمعان مادة الذهب.
وإذا ما عرض أي شيء كريه فسوف تظهر صورته الكريهة على المرآة كمثال ضفدع، سلحفاة، أم أربعة وأربعين، أو أي شيء كريه للنظر.
إذن فإن المرآة تعكس ما يعرض أمامهما.
وهكذا الروح أيضًا، عندما تتنقى من الرذيلة خلال الكلمة حينئذ يستقبل داخليًا مدار الشمس ويسطع بأشعتها المنعكسة.
لذلك فإن الكلمة يقول للعروس: قد صرِت جميلة باقترابك من نوري، بدنوِّك مني، إذ قد اِتحدْتِ بجمالي، "ها أنت جميلة يا حبيبتي" (1: 15).
ثم يصمت العريس، وإذ يرى جمال عروسه قد ازداد، يكرر كلماته: "ها أنت جميلة". وقد أسماها "يا حبيبتي"، والآن وقد لاحظ جمال عينيها يقول: "عيناكِ حمامتان" عندما قورنت العروس بالفرس حينئذ مُدحِ خدَّاها وعنقها (1: 10).
أما الآن وقد ظهر جمالها الذاتي امتدح جمال عينيها.
يقول العريس إن عينيها حمامتان وهذا يحمل المعنى الآتي: عندما تكون العينان صافيتين حينئذ تعكس صورة من ينظر إليها بوضوح.
يقول خبراء الظواهر الطبيعية إن العين ترى من خلال استقبال انعكاس الصور المنبثقة من الأشياء المرئية.
لذلك فإن جمال العروس يُمتدَح لأن صورة الحمامة منطبعة في عينيها.
عندما يتطلع إنسان ما إلى أي شيءٍ، يستقبل في ذاته صورة هذا الشيء.
إن الإنسان الذي قد تخلى عن الحياة الملموسة، أي اللحم والدم يتطلع إلى الحياة الروحية. كما يقول، فيسلك في الروح، وبالروح يميت أعمال الجسد. هذا الإنسان قد صار كليًا في الروح، فلم يعد الإنسان إلى الطبيعة الجسدانية. لهذا توصف النفس التي تخلصت من أهواء الجسد أن صورة الحمامة تظهر في عينيها، وهذا يعني أن خاتم الحياة الروحية يشع نورًا من داخلها. تصبح العين النقية. النفس التي حصلت على صورة الحمامة قادرة على رؤية الجاذبية الروحية للعريس. تنظر العروس إلى عريسها، عندما تكون صورة الحمامة في عينيها، فترى جماله الروحي. كذلك لا يستطيع أحد أن يقول: يسوع رب إلا بالروح القدس. وتقول العروس: "ها أنتَ جميل يا حبيبي" [ع16]، وبما أنه لا يظهر لي شيء جميل الآن لأني قد اِبتعدت عن كل شيء كنت أظن سابقًا أنه صالح، أما الآن فإن حكمي على الخير والجمال صار حكمًا بعيدًا عن الخطأ. وإنني لا أرى الجمال وأي شيء آخر إلا فيك، فلا التصفيق أو العظمة أو القوّة في هذه الدنيا تعادل ما أراه فيك من جمال. لأن الذين يكتفون بالحواس، قد يروا الدنيويات جميلة ولكنها ليست كذلك في حقيقتها. كيف أي شيء جميل إذا كانت تنقصه المادة؟
تظهر الأشياء في هذه الدنيا كأن لها قيمة في عقول من يفكرون في ذلك فقط. ولكنك جميلة حقًا بل أنت أصل الجمال ومادته، فأنت ثابتة على الدوام، فتزهرين باستمرار وليس في موسم واحد ثم تسقط أزهارك. ففي خلال حياتك الأبدية يظل جمالك ثابتًا. اسمك هو "الحب لجميع البشر". أنت هو نبع يهوذا، ويصبح الشعب إخوة لمن يأتون إليك من الأمم. لذلك فأنت مستحق أن تُعرف باسم المحبوب من كل الذين يرغبون أن يكونوا لك إخوة لله الذي حل في الجسد.
تصف العروس العريس بأن ظله على الفراش: "سريرنا أخضر" [ع16]. أي أن الطبيعة البشرية تدرك أو سوف تدرك أنك تظللها برعايتك. "لقد أتيت" قالت العروس، "أنت الجميل الذي يظلل فراشنا". لأنه إن لم "يخيم ظلك علينا على هيئة خادم" (فيقول 2: 7)، عندما تكشف لنا عن أشعة بهائك الإلهي، فمن يستطيع أن يتطلع إلى عظمتك البهية؟ "وقال لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 33: 20). لقد أتيت إلينا الآن كشخص رائع ويمكننا استقباله. أتيت إلينا متجسد كإنسان لتخفي عن عيوننا أشعة ألوهيتك. كيف اِمتزجت الطبيعة التي تدوم إلى الأبد بالطبيعة التي تموت؟ إن ظل جسده عمل كوسيط يمنحنا النور نحن الذين كنا نعيش في الظلمة: تستعمل العروس كلمة فراش (سرير) لكي تُفسر بحاسة تصويرية اِتحاد الطبيعة البشرية مع الله. بنفس الطريقة يضمنا الرسول بولس العظيم كأبكار مع المسيح ويعمل هو كمرافق للعروس. ويقول إن اندماج شخصين في وحدة كجسد واحد هو سر عظيم كاِتحاد المسيح مع الكنيسة. حيث يقول: "يصير الإثنان جسدًا واحدًا" ثم يضيف: "هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول هذا من نحو المسيح والكنيسة " (أف 5: 31-32).
تسمى العروس البكر هذا الاِتحاد مع الله "فراش" لأنه سرّ. ولم يكن من الممكن أن يحدث هذا، لولا أن الله ظهر لنا مختفيًا في جسد إنسان. وهو لم يكن فقط العريس، ولكنه أيضًا البيت ومادة البناء. إنه يضع يقفا لهذا البيت ويزيِّن هذا العمل بمواد ثابتة لا تفسد مثل خشب الأرز والسرو الذي يقاوم عمليات التحلل. ولا يضعف بمرور الزمن ولا يهاجمه الحشرات ولا ينال منه الفساد. وتُستخدم لأعمدة الأرز الطويلة للسقف بينما يستخدم السرو في أعمال التغليف الذي يُزيِّن الجزء الداخلي من البيت. ويقول النشيد: "جوائز بيتنا أرز وروافدنا سرو" [ع17]. إن المعاني الخفية وراء هذه الأخشاب تتضح لمن يتبعون ما جاء في النص. يدعو الله حدوث التجارب المختلفة في الإنجيل بكلمة "مطر" ويقول عن الرجل بنى بيته على صخر: "نزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح ووقعن على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسسًا على الصخر" (مت 7: 5).
يجب أن تكون لدينا دعامة من أعمدة الأرز حتى نقاوم الشر الذي ينزل كالمطر. فهي تمثل الفضائل التي لا تسمح بأن تشملنا الإغراءات، فهي قوية وثابتة ولا تلين للإغراءات الشيطانية. ويمكننا الاستفادة من الدرس هنا إذا ما قارناه بما يقابله في سفر الجامعة. حيث يقول المتكلم في الجامعة: "بالكسل الكثير يهبط السقف ويتدلى اليدين يكف البيت" (جا 10: 18).
فإذا كانت الأخشاب التي تدعم السقف رفيعة وضعيفة، وكان صاحب المنزل مهمِلاً ولا يرعى المبنى، فإن السقف سوف لا يمنع المطر من التسرب إلى داخل المنزل. ويؤدي إلى اِنحناء أخشاب السقف التي لا تتحمل وزن مياه المطر الساقطة عليه، ثم ينكسر أعمدة الخشب الضعيفة التي لا تتحمل الوزن الإضافي وتنفذ المياه المتجمعة على السقف المنحني إلى داخل المنزل. وهكذا فإن المطر، يُخرج الرجل من منزله عندما يزداد تدفقه، كما جاء في سفر الأمثال (أم 27: 15). لذلك تشجعنا الرموز الموجودة في المثل (جا 10: 18) أن نكون حازمين ضد هجمات الانفعالات حتى لا ننحني تحت ثقلها، فتدخل المياه إلى قلوبنا وتفسد كل الكنوز المخزونة هناك.
يرمز أرز لبنان الذي زرعه الله، حيث تبني فيه العصافير أعشاشها ويكون مأوى للطيور الكبيرة، إلى الفضائل. إن الأرز دعامة لمنزل العرس ولحجرة العروس حيث تعيش فيها النفوس التي تشبه العصافير، التي تنجوا من شراك الصيادين وتبني أعشاشها، وتجد فيها الطيور الكبيرة ملجأ لها، كما يقول الكتاب (مز 123: 7). يقول المهتمين بدراسة عادات الطيور أن طائر أبو قردان عنده كراهية للاجتماع الجنسي ولا يمارسه إلا عند الحاجة ويكون مصحوبًا بعلامات حزن وصرخات. ويظهر لى أن النص يشير إلى النقاوة خلال هذا المثال. تنظر العروس في نشيد الأناشيد إلى أعمدة الأرز في حجرة العرس الطاهرة وترى خشب السدو المزيَّن الذي يزيد المنظر جمالاً وأناقة. ويذكر النص أن تغليف السقف كان من خشب السدو. وتعني كلمة التغليف، تثبيت قطع الخشب بإحكام في شكل هندسي لتجميل سقف الحجرة. ماذا نتعلمه من هذا؟ لخشب السدو رائحة جميلة وله مناعة ضد التحليل وهو مفيد في إنتاج الكثير من أعمال الخشب الفنية لأنه خفيف وسهل التشكيل ويصلح لأعمال "الأويمة". نتعلم من هذا الدرس أنه يجب أن نغرس الفضيلة في نفوسنا من الداخل على أن لا نهمل أن يكون منظرنا الخارجي حسنًا فيلزم أن نعتني بما هو شريف أمام الله والناس (2 كو 5: 11).
حتى يروا الناس أعمالكم الصالحة ويمجدوا الله. وهكذا نشجع الناس ونكسب سمعة طيبة من اللّين في الخارج (1 تي 2: 7). لكي ننير بالأعمال الطيبة أمام الناس ونسلك سلوكًا طيبًا أمام من في الخارج، هذا هو "التغليف" الذي ينتج من رائحة المسيح الذكية والذي يرمز إليه خشب السرو. الذي شُكل بمهارة بواسطة حياة صادقة ومضبوطة. عرف المهندس الماهر بولس كيف يعبر عن الأمور في انسجام بديع "وليكن كل شيء بلياقة وحسب ترتيب" (1 كو 14: 40).
ينمو الجمال بداخلنا إذا طبقنا ما شرحناه الآن بدقة، وسينتج من طول وعرض طبيعتنا شجرة مزهرة نقية ذات عبير ذكي. وتسمى زهور هذه الشجرة النرجس الذي يشير جماله إلى ضياء النقاء والطهر. وتشرح العروس هذا عندما تقول لوصيفاتها: "بعد مجيء العريس إلى فراشنا" - خلال تجسده - الذي شيَّدني كبيت لنفسه وعمل لي سقفًا من أرز الفضائل وزيّن السقف بالرائحة الذكية للسرو. لقد أصبحت زهرة وسط الطبيعة تختلف لونًا ورائحة عن بقية الزهور. لأنني نشأت نرجسة في الوديان. وكما جاء في النص "أنا نرجس شارون سوسنة الأودية" [ع1]
رأينا فيما سبق أن النفس زُرعت في عرض الطبيعة البشرية. (عندما نسمع كلمة "حقل" نفهم أنه عرض الطبيعة البشرية لأن لها القدرة على استيعاب مجموعة كبيرة جدًا من الأفكار والكلمات والتعاليم). لذلك فالنفس التي يزرعها راعي طبيعتنا تزدهر كرائحة طيبة، وتشرق كزهرة نقية في حقل طبيعتنا. وهذا الحقل حتى لو سميناه وادي بالمقارنة بالحياة في السماء، هو في الحقيقة حقل، والنفس التي تنمو فيه لا يمنعها أحد من أبد نكون زهرة. ويرتفع النبات الأخضر إلى أعلى في هذا الوادي الواسع إلى مثل اِرتفاع نبات النرجس. وتعلو أغصان النبات النرجس الخضراء إلى مثل ارتفاع نبات الغاب ثم تبرز الزهرة على القمة. فتوجد مسافة ليست قصيرة بين الزهور والأرض. والسبب في ذلك حسب رأيي، أن جمالها يظل نقيًا طالما هي مرتفعة إلى أعلى وليست ملوثة بملامسة الأرض.
لذلك تنظر عين العريس العادلة على العروس التي أصبحت نرجسة أو ترغب في أن تكون نرجسة. (كلا التفسيرين صحيح: إما أن العروس تفتخر بأنها أصبحت فعلاً كما ترغب، أو تسأل الزارع أن تكون زهرة تنمو من خلال حكمته في وديان وجود البشر إلى جمال النرجس). وترى عين العريس الصادقة العروس في حالتيّ وصولها أو عدم وصولها إلى ما ترغبه. ويوافق على أن يجعلها نرجسة لا تختنق بأشواك الحياة التي يسميها "البنات". إني أعتقد أن هذا ينطبق على قوى الشر المضادة للحياة البشرية، ويُعرف أبوهم بأنه مخترع الشر.
"كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات" [ع2]. إننا نرى تقدمًا عظيمًا في ارتفاع النفس، كانت الخطوة الأولى في الارتفاع هي مقارنة العروس بالخيل التي حطمت قوى المصريين. وكانت الخطوة الثانية عندما أصبحت العروس رفيقًا للعريس ومقارنة عيونها بالحمامة. وتتكون الخطوة الثالثة في تسمية العروس ليس كرفيق ولكن "بأخت" الرب. "كل من يعمل مشيئة أبي الذي في السموات، هو أخي وأختي وأمي" (مت 12: 50). فعندما تصبح النفس زهرة لا تجرحها التجارب الشائكة خلال تطورها إلى نرجسة، وتنسى الناس وبيت أبيها وتنظر إلى أبيها الحقيقي. لذلك تسمى أخت الابن لأنها حصلت على هذه العلاقة بواسطة روح التبني وابتعدت عن ملازمة بنات الآب الكاذب. وهكذا تصبح أكثر سموًا وتنظر إلى السر من خلال عيون الحمامة. وأعني بذلك أنها تعمل ذلك بواسطة روح النبوة. إنها ترى الآتي: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين" [ع3]. فإذا رأت العروس؟ يطلق الكتاب المقدس كلمة "غابة" على الناحية المادية من الحياة البشرية الممتلئة بكثير من الانفعالات. وهنا تعيش الحيوانات المخربة في داخل شقوقها. أنهم عاجزون في وضح النهار وتكمن قوتهم في الظلمة. وتخرج الحيوانات من مخابئها بعد غروب الشمس ومجيء الليل كما يقول النبي (مز 104: 20). لذلك فالحيوان الوحيد الذي يتغذى في الغابة الكثيفة قد دمر جمال الطبيعة البشرية. وكما يقول النبي: "يفسدها الخنزير من الوعر ويرعاها وحش البرية" (مز 79: 13). من أجل هذا نمت شجرة التفاح وسط الأشجار الكثيفة، ولأنها مصنوعة من الخشب فإن لها مادة تشبه الطبيعة البشرية وجربت بكل وسيلة حين كانت بلا خطية. (عب 4: 15). وتختلف شجرة التفاح عن غيرها من الأشجار لأنها تحمل فاكهة تعطي عذوبة للنفس وهذا يجعلها تختلف عن غيرها من الأشجار كاِختلاف النرجس عن الأشواك.
يبهج النرجس حاستيّ النظر والشم، وعلى جانب الآخر تُفرِّح شجرة التفاح ثلاث حواس وهي: جميلة يُنظر إليها، ولها رائحة ذكية، وفاكهتها ذات طعم حلو. ترى العروس فرقًا بينها وبين سيدها لأنه بكونه نور، فهو مسرَّة لعيوننا، ورائحة ذكية لأنوفنا، وحياة لمن يأكله. يقول الكتاب: "هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. ليس كما أكل آباؤكم المنّ وماتوا. من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد" (يو 6: 58)، تصير الطبيعة البشرية كاملة وتتحول إلى زهرة من خلال الفضيلة، إنها لا تزوِّد الراعي بالغذاء لكنها توفر زينة لنفسها. فهو ليس بحاجة إلى صلاحنا، ولكننا نحتاج إلى صلاحه. كما يقول النبي: "قلت للرب أنت سيدي. خيري لا شيء غيْرك" (مز 15: 2).
لذلك تنظر النفس النقية إلى عريسها وهو على هيئة شجرة التفاح بين أشجار الغابة. وهي تبحث لكي تُطعم على نفسها؟ جميع أغصان الأشجار البرية بالغابة، وتُعدهم لكي يزهر والإنتاج ثمارًا مماثلة. لقد فهمنا أن البنات (الأشواك) هم أطفال الأب الكاذب، وأنهم نموا مع الزهرة واِرتقوا إلى جمال النرجس. هكذا عندما نسمع أننا نقارن الأشخاص بأشجار الغابة، فإننا نفهم أنهم لا يرمزون إلى أصدقاء العريس بل إلى أعدائه. جميعكم أبناء ظلمة وأبناء غضب ( 1تس 5:5). ولكن الله يغيِّرهم إلى أبناء النور والنهار من خلال الشركة مع الثمرة، لذلك تقول النفس التي تدربت حواسها: "وثمرته حلوة لحلقي" [ع3]. إن الثمر ما هو إلا تعاليم الله، كما يقول النبي: "كلماته حلوة لحلقي أكثر من الشهد لفمي" (مز 118: 103). "كالتفاح بين شجر الوعر..." [ع3]. تزداد حواس النفس حلاوة حسب كلمة العريس عندما تظللنا شجرة التفاح وتحمينا من لهيب الإغراء، وتمنع تأثير أشعة الشمس الحارقة على رءوسنا العارية. ولكن لا يمكن للنفس أن تنتعش في ظل شجرة الحياة إلاّ إذا كان عندها اشتياق ورغبة كبيرة، لذلك توجد الرغبة بداخلك لكي تخلق شعور جارف نحو شجرة التفاح، التي يتعاظم الاِستمتاع بها لمن يقتربون منها. فتنتعش العين برؤية جمال التفاح، وتستنشق الأنف رائحتها الذكية، ويتغذى منها الجسم، ويتمتع الفم بمذاقها الحلو، وتبتعد عنا حرارة الجو ويصبح ظلها مثل مقعد مريح لتجلس عليه النفس، بعد أن ترفض كرسي المرض الخطير (الخطية).
ثم تقول العروس "ادخلي إلى بيت الخمر وعَلَمُه فوقي محبة. اِسند بأقراص الزبيب. انعشوني بالتفاح فإني مريضة حبا" [ع4].
آه كيف تشبَّه النفس بالحصان الذي يجري على الطريق المقدس. كيف تقفز وتجري في قفزات متجهة إلى ما يقع أمامها ولا ترجع إلى الخلف. وبالرغم من ذلك فهي لا زالت عطشانة. لقد أصبح عطشها شديدًا لدرجة أنها لم ترتوِ بكأس الحكمة. فلم يكف الكأس كله ليطفئ ظمأها. إنها تبحث لكي تذهب إلى بيت الخمر نفسه لتضع فمها على البرامي التي تخرج منها فقاقيع الخمر والكرمة التي غذَّت العناقيد، وأخيرًا لترى راعي الكرمة الحقيقية الذي اِهتم بالعناقيد وجعلها حلوة. ولا يلزم هنا أن نشرح بالتفصيل جميع هذه العناصر فالمعنى الرمزي لكل منها واضح. ترغب العروس أن تعرف السر الخاص بملابس العريس التي صار لونها أحمر نتيجة للمشي في معصرة العنب. ويقول النبي عن هذا السر: "ما بال لباسك مُحمَرّ وثيابك كدائس المعصرة" (إش 63: 2)؟
من أجل هذا وأسرار أخرى شبيهة به ترغب العروس أن تكون داخل البيت الذي يحوي سر الخمر. وبعدما دخلته، ابتدأت في القفز إلى أعلى لكي تصل إلى ما هو أعظم لأنها. كانت تبحث لكي تقع في الحب. وتبعا للقديس يوحنا، الله محبة (1 يو 4: 8). إن خضوع النفس لله هو الخلاص، كما يشير داود (مز 61: 2). "أدخلني إلى بيت الخمر وعَلَمُه فوقي محبة" [ع4]. تقول العروس ضع حبه فوقي إني خاضعة لحبه فكلا الجملتين لهما نفس المعنى.
نتعلم هنا من العروس نظرية معرفة وهي حبنا الذي نقدمه لله ومعاملتنا للناس. يجب أن نعمل كل شيء بنظام خصوصًا ما يتعلق بالحب. فلو اِتبع قايين الترتيب الصحيح، أي لو أبقى ما احتاجه لنفسه ثم وهب الباقي لله (تك 4: 7). كان يجب على قايين أن يقدم المولود الأول من قطيعه، ولكنه أبقى لنفسه الأحسن وقدم الباقي لله.
إنه من المهم أن نعرف ما هو ترتيب الحب، والوصايا هي التي تقودنا، لذلك كيف يحب الشخص الله ثم الجار والزوجة والعدو لئلا يضيع الترتيب في ممارسة الحب ويتغير اتجاهه إلى عكس ما أريد له. يلزم أن تحب الله من كل القلب والروح والقوة والشعور والجار كنفسك (تث 6: 5). وإذا كان لنا نفوسًا نقية فيجب أن نُحب زوجاتنا كما أحب المسيح الكنيسة. وعلى جانب الآخر، إذا كنا خاضعين للانفعال، فيجب أن نحب زوجاتنا كما نحب أجسادنا كما يحثنا الرسول بولس المرجع في هذه الأمور (أف 5: 25). يجب أن لا نجازي أعداءنا شرًا بشر ولكن نجازي الظلم بالعمل الطيب.
والآن نلاحظ أن الكثير من الناس تختلط عليهم الأمور ويمارسون الحب بلا ترتيب، فحبهم غير متزن وينقصه الاتجاه الصحيح. فيحبون المال والشهرة والنساء - بعض الأحيان بانفعال - بكل أرواحهم وقوتهم. ويظهرون أنهم قد يضحون بحياتهم مسرورين من أجلها. ولكنهم يحبون الله فقط على سبيل التظاهر. وقليلاً ما يظهرون حبًا لجارهم الذي كان يجب أن يظهروه للأعداء، أو لمن يكرهونهم، واِتجاههم هو أن يردوا شرًا أعظم مما وجه إليهم. لذلك تقول العروس: "أعطي أمرا للحب بداخلي، حتى أقدم لله ما يحق له، وحتى لا أفقد المقياس الصحيح لكل شيء آخر". ويمكن أن نفهم النص أيضًا كالآتي: بالرغم من أني قد قُدم لي الحب أولاً، فإني جابهت عدوى نتيجة لعصياني، ولكني الآن تصالحت مع العريس وارتبطت معه بالحب. اثبتوا في داخلية هذه النعمة المرتبة، والتى لا تتغير يا رفاق العريس، خلال رعايتكم واِهتمامكم احفظوا بحزم ميولي نحو الأفضل.
وبعدما قالت العروس هذه الكلمات اِنتقلت إلى أمور أكثر سموًا، وهي أنها تبحث في أن تدعمها الروائح الذكية حتى تحفظ بما عندها من صفات جيدة. "اسندوني بالروائح الذكية" [ع5]. يا لهذا السند الفائق! كيف تكون الروائح الطيبة أعمدة لدعم المنزل؟ كيف يُرفع السقف المكوّن من مواد ذات أوزان ثقيلة على الروائح الذكية؟
غرسَ الله الفضائل فينا بأنواعها المختلفة، ولكن ليس واضحا أن كلا منها سُمي حسب عملها. لأن عمل الفضيلة ليس فقط معرفة الخير والمساهمة في فعله، ولكن أيضًا التمسك به وعدم الحياد عنه. لذلك فالشخص الذي يرغب أن تدعمه الروائح الذكية يهدف إلى مثابرة في الفضيلة. الروائح الذكية هي الفضيلة لأنها منفصلة عن كل روائح الخطية الكريهة.
إن الجزء التالي في النص أيضًا لهو فائق، وهو بالتحديد الدعم الذي ترغبه العروس لبيتها. إنها لا تطلب شجيرات تحمل أشواكًا أو قشًا أو دريسًا، أو كما يقول الرسول ليس خشبًا أو دريسًا أو قشًا (1 كو 3: 12)، وهي المواد التي تبنى بها المنازل. إنها طلبت بدلاً من ذلك تفاحًا لكي يكون دعامة قوية لسقف هذا البيت. وهي تقول: "أنعشوني بالتفاح" [ع5]، وذلك لكي تكون هذه الفاكهة الكل في الكل لها (أنظر 1 كو 3: 12). الجمال، الرائحة الذكية، والمذاق السكري، الشبع، والتمتع بظلها، كرسي للراحة، عامود صلب وسقف للوقايه.
إن الجمال بُفلارح الناظرين والرائحة الذكية متعة لحاسة الشم والتغذية لازمة للجسم وتشبع حاسة التذوق، والظل يُنعش بعد حرارة الشمس، والكرسي يُريح من التعب، وسقف المنزل حماية للسكان، والعامود يعطي دعامة وثباتًا، وشجرة التفاح الجميلة تزيِّن السقف. إنه لمنظر بديع حقًا عندما تُعرض ثمار التفاح بعد نضجها فألوانها الحمراء والبيضاء تعطي العين منظرًا جميلاً متعدد الألوان تتدرج فيه من الأحمر الداكن إلى الفاِتح ثم الوردي والأبيض. ويصبح هذا المنظر رائعًا لو رفعنا هذا العرض إلى أعلى. إنه ليس مستحيلاً أن ننجز ذلك في عمل الخير الروحي، لأن مثل هذا النوع من الثمار ليس ثقيل الوزن فلا ينجذب ناحية الأرض، لأن مثل هذا العمل يميل طبيعيًا إلى أعلى.
فالفضيلة تنمو إلى أعلى وتنظر لما هو فوق. لذلك، ترغب العروس أن يُزيّن سقف منزلها بجمال ثمرات التفاح. ماذا يتضح لنا من النص هنا؟ طبعًا ليس فقط المنظر الجميل للتفاح على السقف. ما هو الطريق إلى الفضيلة الذي يوجد في هذه الكلمات إن لم نقتبسه من التفسير المناسب لها؟
ما هو اقتراحي إذن؟ إن الواحد الذي ظهر في غابة طبيعتنا البشرية بسبب حبه للبشر، أصبح تفاحة باشتراكه معنا في الجسد (اللحم والدم). وكل من هذه (اللحم والدم) يقابله أحد ألوان التفاح. فاللون الأبيض يمثل لون اللحم أما اللون الأحمر فيمثل الدم. لذلك، عندما تفرح النفس في الأمور السمائية فإنها ترغب أن ترى تفاحًا على السقف، وهكذا ترى ما هو فوق وتركز على التفاح، فيقودها هذا إلى الطريق السمائي للحياة حسب تعاليم الإنجيل. الذي جاء من الأعالي والذي هو فوق الجميع. أرانا الطريق من خلال ظهوره في الجسد، فقد كان لنا مثالاً عاليًا لكل فضيلة وصلاح. وكما قال السيد المسيح: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). وقد تكلم الرسول في نفس الموضوع عندما تحدث عن الاِتضاع، ودعوني أقرأ النص لأوضح الحقيقة العامة: يقول بولس ينظرون إلى أعلى "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب فله أن يكون معاملاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 5). لقد شاركنا حياتنا بالجسد والدم وبإرادته أخذ هذا. تقول العروس، "اِنعشوني بالتفاح"، حتى أبقى باستمرار ناظرة إلى أعلى، فأرى على الدوام صور الفضيلة واضحة في عريسي. ففيه أرى الوداعة، الخلوّ من الغضب، التصالح مع الأعداء، حب الذين يسببون له الضيقات مقابلة الشر بالخير كما أرى القوة والنقاء والصبر وليس به أي أثر للمجد الباطل أو الخداع.
وبعد ما قالت ذلك، مدحت العروس رامي الرمح على تصويبه الدقيق، لأنه رماها بسهمه. فقالت العروس: "إني مجروحة حبًا" [ع5]. تعني هذه الكلمات أن سهام العريس قد نفدت إلى داخل قلبها. إن مُصوّب هذه السهام هو الحب (1 يو 4: 8)، الذي يرسل "سهمه المختار" (إش 49: 2)، الابن الوحيد، إلى هؤلاء الذين يخلصون، ثم يغمس سن السهم الثلاثي في روح الحياة. وسن السهم هو الإيمان، وبواسطته يقدم الله مُصوِّب السهم، وكذلك السهم معًا إلى القلب، كما يقول السيد المسيح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23).
لذلك فالنفس التي ارتفعت إلى درجات إلهية عليا ترى بداخلها سهم الحب العذب الذي جرحها، وتفتخر بهذا الجرح قائلة: "إني مجروحة بالحب". أيها الجرح الجميل، والسهم العذب، الذي أدخل الحياة إلى قلبي! فلقد فتح نفاذ السهم بابًا ومدخلاً للحب، وهي التحول الخيالي من رمي السهام إلى فرح العرس.
كلنا يعرف كيف يقبض رامي السهام على القوس وتعمل يداه المضبوطة، فتمسك اليد اليسرى بالقوس، بينما تجذب اليد اليمنى الوتر المرن، وهكذا يتحرك السهم إلى الخلف بطرفه المشقوق. ثم توجِّه اليد اليسرى السهم إلى الهدف. ذكرنا سابقًا أن العروس كانت الهدف، والآن ترى نفسها كأنها السهم في يديّ صاحب القوس. فيمسك بيده اليمنى بطريقةٍ ما، وبطريقة أخرى بيده اليسرى...
الله هو العريس ومصوِّب السهم، وهو يعامل النفس النقية كالعروس، يصوِّبه سهمه نحو هدف طيب. لذلك فهو يسمح لعروسه أن تشارك أبديته التي بلا فساد، وينعم عليها بسنين وحياة طويلة بيده اليمنى. ويعطيها بيده اليسرى هبة حياته الأبدية، وعظمة الله التي لا يشاركه فيها من يبحثون عن العظمة في العالم. من أجل ذلك تقول العروس: "شماله تحت رأسي" [ع6]. لأن هذه هي الطريقة التي يُصوَّب بها السهم إلى هدفه. "ويمينه تعانقني". وكأن العروس تقول إن يمين الله تستقبلني وتسحبني إلى الخلف، لكي تريح رحلتي إلى أعلى حيث يوجهني دون أن أنفصل عن يد حامل القوس. وفي نفس الوقت سوف أُحمل بعيدًا بعمله في التصويب وإني أشعر براحة بين يدي حامل القوس: تقول الأمثال عن صفات هذه الأيادي: "في يمينها طول أيام، وفي يسارها الغنى والمجد" (أم 3: 16).
تخاطب العروس بنات أورشليم السمائية. تعبر بواسطة تشجيعهن على هيئة قسم بأن الحب قد يتضاعف ويزيد باستمرار حتى يتمم إرادة ذاك الذي يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). ويقول النص: "أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألاّ تُيْقِظن ولا تُنبِّهن الحبيب حتى يشاء" [ع7]. فالقسم هو ما ينطق مع ضمان صدقه. ويعمل بطريقتين: فإمَّا إنه يؤكد الحقيقة لمن يسمهونه، أو يُلزم الشخص الذي أقسَم بأن لا يكذب. وكما تقول المزامير: "أقسَم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه. من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). في هذه الحالة ويتأكد صدق الوعد بالقَسم.
عندما كان إبراهيم متهمًا بأن ابنه يجب أن يتزوج من عائلة نبيلة (تك 24: 2-9)، أمر خادمه أن لا يختار امرأة كنعانية محكوم عليها بالعبودية كزوجة لاسحق حتى لا يتلوث دم أحفاده النبيل باختلاطه بدم سلالة العبيد. أراد إبراهيم أن يتحد ابنه بالزواج من امرأة تعيش في موطنه الأصلي، لذلك ألزم عبده بأن يُقسِم بأن يعمل حسب ما أوصاه لابنه بغير إهمال.
لذلك كان العبد مقيدًا بوعده لإبراهيم لكي يرتب الزواج المناسب لاسحق.
وكما قلت قبلاً أن القَسَم يعمل بطريقتين في النص الحالي تتقدم الروح نحو الأعالي كما رأينا. وفي نفس الوقت تنصح النفوس التي لم تصل بعد إلى نفس المستوى إلى طريق الكمال، وتستخدم القسَم ليس لكي تؤكد لهم التقدم الذي وصلت إليه، ولكن تقودهم من خلال القسم إلى حياة الفضيلة. وتأمرهم أن يحفظوا حبهم متيقظًا وساهرًا إلى أن يتحقق إرادته الصالحة، أي إلى أن يخلص الجميع ويدركون الحق (أنظر 1 تي 2: 4).
إن قَسَم إبراهيم كان على فخذه (تك 24: 2، 9)، وحدث بواسطة "مقدرة وقوة الحقل" لذلك يقول النص: "أُحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألاّ تيْقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء" [ع7]. ثم معنى كلمة "قوى" و "مقدرة"، وهل يختلف معنى كل منها عن الآخر أم لها نفس المعنى. ثم يتلو ذلك أن نبحث عن معنى إثارة وإيقاظ الحب. لقد سبق تفسير العبارة "حتى يشاء".
يتضح أن السيد يعني بكلمة "حقل" العالم (مت 13: 38).
سينتهي شكل هذا العالم لأنه بطبيعته غير ثابت. وهذا واضح في سفر الجامعة الذي يعلن أن مرئي أو متحرك باطل (جا 1: 2). ما هي إذن قوة هذا "الحقل" العالم؟ ما هي القوة التي لا تسمح بالفكر وتمتعه بواسطة القَسَم على بنات أورشليم لينقُضْنه؟ إذا نظرنا إلى الحقيقة الظاهرة لهذه القوة، فإن الجامعة ترفض مثل هذا الفرض. (جا 1: 2)، يُسمي "باطل" كل شيء نراه، ويعيش في الواقع المرئي. الباطل ليس له مادة، وما ليس به مادة ليست له قوة. وقد نحصل على إشارة عن معنى النص من استعمال صيغة الجمع لكلمة قوة. نجد توضيحًا للكلمات من هذا النوع في الكتابات المقدسة، فعندما تستعمل كلمة قوة في صيغة المفرد فإنها تعني قوة الله بينما حينما تُستعمل في صيغة الجمع فإنها تعني قوة الملائكة. فمثلاً "المسيح" قوة وحكمة الله (1 كو 1: 24). يوضح هنا استخدام كلمة قوة بصيغة المفرد على أُلوهية السيد المسيح. وعلى الجانب الآخر نجد في (مز 103: 21) "باركوا الله في جميع قواته"، وهنا توضح صيغة الجمع الطبيعة الروحية للملائكة. إن التعبير "المقدرة" التي تُستخدم مع كلمة قوة تركز أكثر على المعنى. ويعمل الوحي الألهى في بعض الأحيان على جعل المعنى أكثر تأكيدًا باستخدام كلمات لها نفس المعنى. خذ كمثال التعبير الآتي: "الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به اَحتمي. تُرس وقرن خلاصي وملجأي. أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي" (مز 18: 2-3). فكل كلمة تعبر عن نفس المعنى، ولكن اسستعمال الكلمتين معًا يُعطي تأكيدًا للعبادة. لذلك فاستخدام صيغة الجمع لكلمة قُوى وكلمة مقدرة بنفس المعنى تشير إلى طبيعة الملائكة. لذلك فالقَسَم يُلزم النفوس التي لا تزال في مرحلة التلمذة لكي يؤكد لهم ما قد درسوه. إنهم سوف لا يُقسمون بالدنيا الزائلة، ولكن بالطبيعة الملائكية الدائمة باستمرار. إنهم يُشجعون لكي يكونوا متنبهين للملائكة الذين يؤكدون الحياة الثابتة والمستمرة للفضيلة.
لقد وُعدنا بحياة مشابهة لحياة الملائكة بعد القيامة من الأموات، والذي وعدنا بذلك هو صادق. لذلك يجب أن تكون الحياة في هذا العالم مرحلة للترتيب للحياة التي نترقبها. وبالرغم من أننا نعيش في الجسد خلال مرورنا في الحقل هذا العالم، يجب أن لا نعيش حسب الجسد ولا نتبع أساليب الحياة في هذا العالم، بل نفكر بعمق في الحياة الآتية أثناء وجودنا في هذه الحياة. لذلك تُثبِّت العروس النفوس التي تدربها من خلال القسم، أثناء حياتهم في "حقل" هذا العالم. وسوف يُوجِّهون نظرهم إلى "القُوى" ويقلِّدون النقاء الملائكي بواسطة اِنفصالهم عن الجسديات. وهكذا ينمو الحب ويتجدد، أي أنه يرتفع ويزدهر باستمرار إلى نمو عظيم. لتكن مشيئة الله العظيمة "كما في السماء كذلك على الأرض" (مت 6: 10)، عندما نأخذ طبيعة الملائكة. هذا هو ما نفهمه من "أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيايل الحقول ألاّ تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء". وإذا وجدنا نصًا آخر يقرِّبنا من الحق الذي نبحث عنه، ليتنا نستقبله كنعمة وبركة ونشكر الله الذي يكشف لنا بواسطة الروح القدس الأسرار المخبَّأة في المسيح يسوع ربنا له المجد والعزة إلى الأبد آمين.
يقودنا نشيد الأناشيد الآن إلى رغبة في التفكير بعمق في الحُسن العظيم. ولكن تتألم نفوسنا عندما نعرف أنه لا يمكننا الإلمام بهذا الحُسن. كيف لا يأسف أي شخص عندما يكتشف أن الارتقاء إلى هذا الحُسن صعب المنال، إذ ترتفع النفس الطاهرة النقية بواسطة الحب لكي تشارك في هذا الحُسن، ولكن يظهر أنها للآن لم تتمكن من الحصول على ما تبحث عنه، كما يقول القديس بولس (في 3: 11).
عندما وصفت ارتقاء العروس في العظات السابقة، ذكرت أنها نالت النعمة. لقد تعرفت على التفاحة ذات المذاق الحلو، وفرَّقت بينها وبين الغابة الغير مثمرة. لقد اشتاقت إلى ظل عريسها، واستمتعت بمذاق فاكهته الحلوة ودخلت إلى الحجرات الداخلية لفرح. ولقَّبت هذا الفرح "بالخمر" الذي يُفرِّح قلوب من يشربونه (مز 104: 15). وبعد ما ثبتت العروس في الحب زادت قوته بدعم الروائح الزكية من التفاح الذي كان يظللها، ثم اِستقبلت سهم الحب في قلبها وتلا ذلك أيادي مُصَوِّب السهم، وأباحت هي نفسها سهما مُصَوَّبًا إلى معرفة الحق بواسطة الأيادي القوية لمُصَوِّب السهم (مز 127: 4).
لقد فهمت أن العروس تمت تربيتها وتعليمها بواسطة أساليب عديدة، فقد وصلت إلى أعلى قمة السعادة. غير أنه يظهر لي أن ما قد أُنجِز قبلاً كان مقدمة فقط لارتفاع العروس نحو الفضيلة. ولا تُسمَّى العروس الدرجات التي ارتفعتها من قبل إنجازًا أو معرفة واضحة للحق، ولكنها تُسمِّيها "صوت" العريس الذي تريده. أي أنها تتمكن من سماع ومعرفة صوته، ولكنها لا تتمتع بصحبته ولا تعرفه. فإذا ارتفعت العروس إلى مثل هذه المستويات - (لأن بولس ارتفع إلى السماء الثالثة 2 كو 12: 2) - ولم تحصل بعد على ما كانت تبحث عنه كاملاً، فيا ترى ما هو حالنا؟ في أي مستوى نضع أنفسنا، لأننا لم نقترب حتى من الأبواب الخارجية لمكان المعرفة المقدس.
يمكن معرفة الصعوبة التي تواجهها العروس في إدراك العريس مما تقوله "صوت حبيبي" وليست هيئته أو وجهه أو جسمه، ويشير ذلك إلى ما تبحث عنه. ولكن صوته يعطيها فقط فكرة عن المتكلم. لذلك يُعطي النص العديد من الصور عن العريس وليس صوره واحدة، لأن العروس ليس لديها صورة واضحة عنه. تفكر العروس أنها تدرك صورًا مختلفة لعريسها في الأوقات المختلفة وتقول: "أنظر لقد جاء" [ع8]. لا يقف العريس دون حركة ولا يبقى بالقرب منها حتى تتمكن من رؤيته وتتعرف عليه. بدلاً من ذلك ينسحب قبل أن تصل العروس لكي تتعرف عليه: "يقفز على الجبال، مسرعًا على التلال!! فتتخيله كأنه غزال في أحد الأوقات أو كذكر صغير للغزال الأحمر في أوقات أخرى "حبيبي هو شبيه بالظبي أو بِغُفْرِ الأيائل. هوذا واقف وراء حائطنا يتطلع من الكُوى يُوَصْوِص من الشبابيك" [ع9]. لذلك فهيئته تختلف من آن لآخر.
تُسبِّب لي هذه الأشياء الألم إذا فُهمت بمعناها اللفظي وتجعلني أشك أني سوف لا أصل إلى فهم حقيقي للأمور المقدسة. ولكن يلزم أن نضع آمالنا في الله الذي يقوي هؤلاء الذين يعظون ويفسرون الأخبار المفرحة. كما يلزم أن نرى كيف يمكننا تطبيق دراستنا للنص الحالي على تأملاتنا السابقة. يقول النص "صوت حبيبي" ثم يضيف بعد ذلك مباشرةً: "اُنظر هو يأتي" ماذا نفهم من ذلك؟ يُحتمل أن هذه الكلمات تنبئ عن إعطاء كلمة الله التي عرفناها بواسطة الإنجيل. لقد أعلنها الآنبياء مُسبقًا، ثم وضحت من خلال ظهور الله في الجسد يحمل الصوت المقدس شهادة على هذه الأعمال وإنجازاتها، كما أنه يرتبط بكلمة الوعد كما يقول النبي: "ذَكَرْنا يا الله رَحْمَتك في وسط هيكلك" (مز 48: 9). "صوت حبيبي" هذا هو ما سمعناه. "اُنظر ها هو يأتي"، هذا هو ما رأته أعيننا. "الله بعدما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة" (عب 1:1)، هذا هو الصوت الذي سمعناه: "كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء الذي به أيضًا عمل العالمين" (عب 1: 2). هذا هو ما تكلموا به: "اُنظر، هو آت يقفز على الجبال ويمشي على التلال". فهو يُشبه من ناحية المقارنة بغزال، ومن ناحية أخرى يقترب في الشكل من ذَكَر صغير للغزال الأحمر. تشير كلمة الغزال إلى حِدَّة الإبصار لأن الغزلان معروفة بقوة إبصار خارقة. ويشتق اسمها من الكلمة اليونانية التي تعني يبصر أو قوة إبصار خارقة تمسح البادية كلها. لذلك فالواحد الذي يمسح ويرى الكون كله، هو الله الذي خلق الكل ويرى الكل. وبما أن الله قد ظهر في الجسد ليحطم قوى الشر بحياته، لذلك فالواحد الذي نظر من السماء إلى الأرض، يُشَبَّه بالغزال. وعلى الجانب الآخر يُشَبَّه الله بذَكَر الغزال الصغير الذي يعبر على الجبال والتلال بقفزاته. أي أنه يدوس ويسحق أعمال الشر التي لإبليس. ويتكلم الكتاب المقدس عن الجبال التي اهتزت بقوة الله. وكما صاغها داود، أنها أُزيحت إلى "قلب البحر" (مز 46: 2) وغُمرِت في قاع البحر العميق. تكلم السيد المسيح عن الجبال في مناسبة شفاء الصَرَع، "لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل (الذي يرمز إلى الصَرَع) اِنتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" (مت 17: 20). ولما كان ذكر الغزال الأحمر الصغير قادرًا على تحطيم الحيوانات البرية وتهرب الثعابين ذعرًا من صوت تنفسه ومن لونه الأحمر، لذلك يُقارن العريس، الذي يراقب من أعلى كل شيء، بالغزال، ولكنه أيضًا يشبه ذَكَر الغزال الأحمر الصغير في قفزاته التي يحطم بها كل القُوى المضادة، التي يرمز لها النشيد بالجبال والتلال.
سُمِع صوت العريس عندما تكلم الله من خلال الآنبياء وبعد الصوت جاء كلمة الله قافزًا فوق الجبال التي في طريقه وأخضع كل القوى الثائرة صغيرها وكبيرها تحت قدميه، وجعلها من مريديه، بسيْره على التلال. ويرمز الفرق بين الجبال والتلال بالقُوى العظمى والقُوى الصغرى المضادة، التي سُحِقَت وتحطمت بقوة وسلطان كلمة الله. فقد سُحِق الأسد والوحش الأسطورى والحيوانات الكبيرة وأيضًا الصغيرة مثل الحيات والعقارب. دعني أذكر لكم مثالاً. لقد كان في الجموع التي تجمعت حول السيد المسيح "جبال أي شياطين". لقد كانوا جماعات اليهود في أرض جرسين وفي أماكن أخرى كثيرة حيث امتلأوا تكبُّرًا ورفعوا أنفسهم ضد الطبيعة البشرية. وكان بينهم جبال وتلال، أي شياطين صغيرة وأخرى كبيرة. ولكن ذكر الغزال الأحمر الذي داس الحيّات والذي أعطى لتلاميذه طبيعته قال لهم: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولايضركم شيء" (لو 10: 19). ثم داس عليهم جميعًا وطاردهم بعيدًا وذلك ليُمَكِن من ارتفعوا إلى أعلى بالفضيلة أن يحتفظوا بمكانتهم العليا، فلا تُخيفهم قمم تلال الشر. يظهر أن جبال الله (Bethel) بأنها بيت الله ولذلك يذكر [ع8] "يأتي ظافرا على الجبال"