صموئيل الثاني

 

 

 

 

 

 

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

-

- مقدمة

 

الأصحاح الثاني عشر (اعتراف داود النبي)

- الباب الأول الأصحاحات [1- 10]

 

الأصحاح الثالث عشر (أمنون وثامار)

الأصحاح الأول (داود يرثي شعبه)

 

الأصحاح الرابع عشر (العفو عن أبشالوم)

الأصحاح الثاني (داود يملك على يهوذا)

 

الأصحاح الخامس عشر (عقوق أبشالوم)

الأصحاح الثالث (أبنير ينضم إلى داود)

 

الأصحاح السادس عشر (داود الهارب)

الأصحاح الرابع (نهاية مملكة شاول)

 

الأصحاح السابع عشر (إحباط مشورة أخيتوفل)

الأصحاح الخامس (مسح داود ملكًا)

 

الأصحاح الثامن عشر (نهاية أبشالوم)

الأصحاح السادس (إحضار تابوت العهد)

 

الأصحاح التاسع عشر (عودة داود للمُلك)

الأصحاح السابع (اشتياق داود لبناء بيت الرب)

 

الأصحاح العشرون (ثورة شبع بن بكري)

الأصحاح الثامن (انتصارات داود المستمرة)

 

الأصحاح الحادي والعشرون (مجاعة بسبب الجبعونيين)

الأصحاح التاسع (داود ومفيبوشث)

 

الأصحاح الثاني والعشرون (نشيد النصرة)

الأصحاح العاشر (تآمر الرؤساء على داود)

 

الأصحاح الثالث والعشرون (كلمات داود الأخيرة)

- الباب الثاني الأصحاحات [11- 24]

 

الأصحاح الرابع والعشرون (الإحصاء والوباء)

الأصحاح الحادي عشر (سقوط داود مع بثشبع)

 

 


 

مقدمة في سفر

صموئيل الثاني

لما كان هذا السفر في الأصل العبري هو تكملة لسفر صموئيل الأول لذا نرجوا الرجوع إلى مقدمة السفر السابق.

بحسب التقليد اليهودي هذا السفر من وضع ناثان النبي وجاد النبي وبعض ممن تربوا في مدارس الأنبياء التي أنشأها صموئيل النبي. دُعي في الترجمة السبعينية "سفر الممالك الثاني".

تاريخ كتابته:

بعد انقسام المملكة وقبل السبي، حيث يُذكر فيه مدة حكم داود الملك كاملة (٢ صم ٥: ٥)، ويذكر ملوك يهوذا تمييزًا لهم عن ملوك إسرائيل (١ صم ٢٧: ٦).

سماته:

١. موضوعه هو عرض لحياة داود الملك بعد جهاده في السفر السابق مع شاول الملك وموت الأخير على أيدي الأعداء في نهاية السفر السابق. عرض لتبوّء داود العرش وحروبه وإصعاده التابوت إلى أورشليم، كما عرض لسقطات داود في بعض الخطايا وما سببته له من متاعب وأحزان لم تنقطع. بمعنى آخر هذا السفر يمثل تاريخ الشعب في مدة حكم داود، حوالي أربعين عامًا. وتعتبر دراسته ذات أهمية خاصة لكل من يريد أن يفهم مزامير داود.

لا نعجب من تخصيص جزء كبير من الكتاب المقدس لترجمة شخص واحد، فإن داود في الواقع هو المؤسس الحقيقي للمملكة وليس شاول، أعد لإبنه المواد وهيأ الجو لبناء الهيكل، ورتب خدمة العبادة، ووضع أكثر المزامير، وتنبأ عن السيد المسيح مشتهى الأمم الذي جاء من نسله حسب الجسد.

٢. شمل هذا السفر قصائد وأناشيد متعددة مثل رثاء داود لأبنير (٢ صم ٣: ٣٣-٣٤)، ونشيد النصرة (٢ صم ٢٢)، وكلمات داود الأخيرة (٢ صم ٢٣).

٣. يكشف هذا السفر عن سمو حياة داود العجيبة، كما عن ضعفاته وما قدمته الخطية من ثمار قاتلة... وكأنه لا يوجد من يقدر أن يتبرر أمام الله حتى رجاله العظماء! يمثل هذا السفر تحذيرًا لكل إنسان خاصة بالنسبة للمؤمنين، وكما يقول القديس بولس الرسول: "إذًا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (١ كو ١0: ١2). هذا ما دفع القديس يوحنا الذهبي الفم أن يهتم بخلاص نفسه وسط خدمته لشعب الله؛ إذ يقول: "إن كلامي أكثر فائدة لحياتي من الذين يسمعونني"[1].

أقسامه:

أولاً: انتصارات داود النبي

١. نصرته على بيت شاول                     [١-٤].

٢. نصرته على اليبوسيين والفلسطينيين         [٥].

٣. إحضار تابوت العهد                        [٦-٧].

٤. نصرته على الأمم المقاومة له               [٨-١٠].

ثانيًا: ضعفات داود ومتاعبه

١. داود وامرأة أوريا الحثي                    [١١-١٢].

٢. متاعب خطية أمنون                         [١٣].

٣. ثورة ابشالوم ضده                          [١٤-١٩].

٤. ثورة شبع بن بِكْري                         [٢٠].

٥. مجاعة بسبب الجبعونيين                    [٢١].

٦. نشيد النصرة وكلماته الأخيرة               [٢٢-٢٣].

٧. الإحصاء والوباء                           [٢٤].

ملاحظة: ما ورد هنا عن إسرائيل في العهد القديم قد صار ميراثًا لإسرائيل أي كنيسة العهد الجديد و ليس لدولة إسرائيل.

<<
 

 

الباب الأول

 

 

 

 

 

انتصارات داود النبي

 

١. نصرته على بيت شاول               [١-٤].

٢. نصرته على اليبوسيين والفلسطينيين [٥].

٣. إحضار تابوت العهد                   [٦-٧].

٤. نصرته على الأمم المقاومة له        [٨-١٠].

 

 


 

 

في السفر السابق ظهر داود النبي كرجل الله الحق، الذي غلب وانتصر، لا على الآخرين، بل في حياته الداخلية. لقد سقط شاول الملك مطارده بين يديه على الأقل مرتين ولم يقبل أن يمد يده على مسيح الرب. وعندما ثار على نابل الأحمق وعزم أن ينتقم لنفسه سمع لمشورة أبيجايل الحكيمة وباركها لأنها منعته عن الانتقام لنفسه. الآن، سقط شاول وبنيه في الحرب، فانكشف بالأكثر اتساع قلب داود بالحب الخالص. لقد نسى إساءات شاول واضطهاداته المستمر، كما لم ينشغل بنفسه بكونه نستحقًا أن يتولى عرش المملكة، إنما رثى شاول ويوناثان، متذكرًا الجوانب الطيبة فيهما، فحسبهما حلوين. وكان يرثيهما بقلبه ودموعه كما بلسانه وشفتيه.

استحق صاحب هذا القلب الكبير أن يتمتع بنصرات مستمرة على الأمم المحيطة به والمقاولة حيث ثبتت مملكته، لا ليتسلمها سليمان ابنه من بعده فحسب، إنما بالحري ليأتي من نسله المسيا المخلص يملك إلى الأبد على قلوب مؤمنينه، مقيمًا ملكوت الله داخلهم.

<<

 


 

الأصحاح الأول

داود يرثي شعبه

انتصر داود على عماليق وردّ المسبيين وعاد يحمل الغنائم الوافرة ليوزع منها على شيوخ يهوذا، ويجدد المساكن بعد حرق صقلغ (١ صم ٣٠)، أما قلبه فكان ملتهبًا من جهة شعبه، إذ يعلم كيف ضعف الجيش وفارق روح الرب شاول بينما اتسم جيش الفلسطينيين بالقوة والنظام... في اليوم الثالث من وصوله إلى صقلغ جاء عماليقي يبشره بموت شاول مسيح الرب، وكان ينتظر مكافأة مدعيًا أنه ضرب شاول في أنفاسه الأخيرة فنال عقوبة، ورثى داود شاول ويوناثان وكل الشعب.

١. عماليقي يبشر بموت شاول       [١-١٠].

٢. داود يبكي شعبه                   [١١-١٣].

٣. داود يعاقب العماليقي              [١٤-١٦].

٤. مرثاة لشاول ويوناثان            [١٧-٢٦].

١. عماليقي يبشر بموت شاول:

في اليوم الثالث من وصول داود إلى صقلغ بينما كان مهتمًا بإعادة بنائها كان قلبه يئن مع ضيقة شعبه، متوقعًا بين لحظة وأخرى أن تصله أنباء عن المعركة، وإن كانت الأنباء متوقعة مقدمًا. جاءه غلام بثياب ممزقة وعلى رأسه تراب يخبره بنتائج المعركة.

لا ندهش من عدم إرسال داود جاسوسًا إلى أرض المعركة ليأتيه بالأخبار، إذ كان يعلم ما سيحدث مقدمًا، وقد خشى أن يظن أحد أنه متهلف على تولي العرش بموت شاول ورجاله.

أما قصة هذا الغلام العماليقي، فبحسب التقليد اليهودي هو ابن دواغ الأدومي: شعر أن داود سيملك لا محالة، فأرسل ابنه كغلام عماليقي يكون أول مبشر له بخبر موت شاول ويوناثان، وهو الذي أعطاه الإكليل الذي على رأس شاول – عصابة ضيقة من الذهب حول خوذته – والسوار الذي على ذراعه. غالبًا ما رواه الغلام كان كذبًا، لكنه أراد أن يكسب ود داود. فمن جهة جاء بثياب ممزقة والتراب على رأسه معتبرًا نفسه واحدًا من شعب داود كان يخدم أحد العاملين في الجيش، أمينًا في مشاعره حتي بعد هزيمة سيده. ومن جهة أخرى أخبره بأن شاول ويوناثان ابنه ماتا، وكأنه لم يصر هناك وارث على العرش سواه. إذ كان شاول وحده دون يوناثان يطارد داود، لأن يوناثان كان يحب داود كنفسه، لهذا قال عن شاول فقط: "فوقفت عليه وقتلته". رأى علامات الضيق والحزن على وجه داود فأكمل حديثه: "لأني علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه". أخيرًا أراد أن يهنئه بالمُلك كوارث لشاول، فقدم له إكليل شاول وسواره لأنه هو أولى من يستلمهما.

في الآثار الأشورية غالبًا ما يُصور المحاربون وقد لبسوا حليًَّا خاصة أسورة على أذرعتهم.

واضح من القصة أنها مُختلفة، فإنه جاء في (١ صم 31: ٣) الخ "أصاب الرماة شاول فانجرح، فطلب من حامل سلاحه أن يستل سيفه ويطعنه حتى لا يُقبِّحه الغُلف. رفض حامل السلاح إذ خاف جدًا فأخذ شاول السيف وسقط عليه. إنه ليس من المقبول أو المنطقي أن يطلب الملك من رجل غريب عابر طريق لا يعرفه أن يقف عليه ويقتله".

صورة مؤلمة لقصة أحكم الغلام أو أبوه حبكها لكي يكسب ودّ داود أو ينال مكافأة، إذ ظن أن داود ينتظر المُلك متلهفًا، لكن داود الحلو في حبه وإخلاصه حكم على الغلام من فمه كقاتل لمسيح الرب. لقد كذب العماليقي، وجنى ثمرة كذبه قتله لنفسه (إذ ارتكب سلسلة خطايا منها الكذب والطمع...) كما دفع حياته الجسدية للهلاك عوض المكافأة.

يتحدث السيد المسيح عن إبليس قائلاً: "ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذَّاب وأبو الكذاب" (يو ٨: ٤٥). كما قيل: "كراهة الرب شفتا كذب، أما العاملون بالصدق فرضاه" (أم ١٢: ٢٢).

v     الكذب ممنوع بعبارات قوية مملؤة تهديدًا، كقول النبي: "تهلك كل الناطقين بالكذب" (مز ٥: ٧) و"الفم الكاذب يقتل النفس" (حك ١: ١1).

الأب يوسف[2]

v     منذ اليوم الذي فيه دُعي اسم المسيح عليّ لم يخرج كذب من فمي.

أنبا آنوب[3]

٢. داود يبكي شعبه:

لم يفكر داود ولا رجاله في التشفي في شاول المقاوم لهم زمانًا طويلاً، ولا فيمن يستلم الحكم من بعده، ولا في المجد الذي يعود عليهم بعد قتل شاول ويوناثان؛ وإنما ندبوا وبكوا وصاموا إلى المساء من أجل موت شاول ويوناثان ومن أجل موت الكثير من الشعب وانكساره.

بكى داود الرقيق في مشاعره، وقد تعلم منه ابنه سليمان هذا الفكر، فقال: "لا تفرح بسقوط عدوك، ولا يبتهج قلبك إذا عثر، لئلا يرى الرب ويسوء ذلك في عينيه فيرد عنه غضبه" (أم ٢٤: ١٧-١٨)؛ "الفرحان ببلية لا يتبرأ" (أم ١٧: ٥).

الإنسان الروحي لا يفرح بما يحل بأعدائه من متاعب وإنما بقلبه المتسع يئن مع أنَّات الجميع، ليس فقط مع أنات البشر المقاومين له بل حتى مع أنَّات الحيوانات الضارة. إنه يطلب سلام كل الخليقة وسعادتها! قلبه متسع بالحب للكل!

لم يوجد من يبكي شاول ويرثيه من الأعماق إلا ذاك الرجل الذي أبغضه شاول لسنوات طويلة ومعه رجاله... لقد حمل داود ظلاً للسيد المسيح الذي بكى على أورشليم الساقطة بينما كانت تستخدم كل طاقتها لقتله (مت ٢٣: ٣٧؛ لو ١٣: ٣٤)!

أعداؤنا أحوج إلى دموعنا من كل صديق، فإننا إذ نحبهم نبكي فيهم فقدانهم الخلاص بسبب عداوتهم، طالبين أن يعمل الله في الكل لخلاص الجميع.

إننا ندهش مما صنعه داود – الملك الحقيقي الممسوح خفية بيد صموئيل النبي كطلب الله – حينما سمع بقتل الملك المرفوض شاول مضطهده، فإنه لم يدنه ولا شهَّر به بل رثاه ومدحه، فكم تكون خطيتنا نحن حين ندين الغير، خاصة الرعاة الذي أقامهم الرب لخدمة  شعبه؟!

٣. داود يعاقب العماليقي:

تعجب داود كيف يتجاسر إنسان مفتخرًا أنه قتل مسيح الرب وهو جريح في المعركة، لذا سأل الغلام: "من أين أنت؟" فقال له "أنا ابن رجل غريب عماليقي"، أي أن والده غريب الجنس سكن في وسط الشعب فصار دخيلاً. عاد ليسأله "كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب؟". إذ لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال صمت، فحكم بصمته على نفسه: "دمك على رأسك لأن فمك شهد عليك قائلاً: أنا قتلت مسيح الرب".

٤. مرثاة لشاول ويوناثان:

تقف كل نفس أمينة أمام هذه المرثاة العجيبة في خشوع لتحيّي الحب الصادق النابع من قلب داود تجاه مضطهده شاول وصديقه يوناثان. تهتز كل مشاعر داود أمام نبأ قتلهما فلم يقدر أن يحبس دموعه ولا أن يصمت بلسانه فسجل لنا هذه المرثاة.

يقول القديس أمبروسيوس: [إستبقاء حياة (شاول) يُعتبر أمرًا صغيرًا أمام حزن داود عليه عندما قُتل في الحرب، إذ ناح عليه بدموع، قائلاً: "يا جبال جلبوع لا يكن طلّ ولا مطر عليكن... الخ". أي أم تبكي على وحيدها كما بكى داود على عدوه؟! من يقدر أن يمتدح من قدم له خيرًا مثلما مدح (داود) ذاك الذي خطط ضد حياته؟! لقد حزن عليه بكل عواطفه، انتحبه بمشاعر عميقة! الجبال جفت عند لعنة النبي... الطبيعة نفسها قدمت تأديبًا شهادة لموت الملك[4]].

عبّر داود النبي عن مشاعره الصادقة الأمينة بمرثاة لشاول ويوناثان، وقد طلب من بني يهوذا أن يتعلموها لكي تبقى ذكراهما دائمة. سُجلت في كتاب شعري مشهور في ذلك الحين يُسمى "سفر ياشر" وهو كتاب أدبي وليس سفرًا من أسفار الكتاب المقدس (يش ١٠: ١٣؛ مل ٨: ٣٥).

دعا داود مرثاته "نشيد القوس" ربما من أجل ذكره قوس يوناثان المحبوب لديه [٢٢]. وربما يشير هذه اللقب: "نشيد القوس" إلى أن "الرب رجل الحرب" (خر ١٥: ٣)، قوسه هم رجاله الذين يستخدمهم لحساب ملكوته كما جاء في (زك ٩: ٣) "لأني أوترت يهوذا لنفسي وملأت القوس أفرايم"[5]... كان هذا النشيد الذي رثى به داود شاول ويوناثان إنما هو نشيد "قوس الرب" الذي يبعث الغيرة في حياة كل مؤمن ليجاهد روحيًا فيكون قوسًا في يد الرب.

هذا النشيد أو هذه المرثاة ليست مزمورًا مُوحى به بل هي قصيدة شعرية تكشف عن مشاعر حب وإخلاص[6].

"الظبي يا إسرائيل مقتول على شوامخك" [١٩] ربما قصد بالظبي يوناثان، إذ كانت سرعة الحركة من أعظم سمات المحارب؛ فكان يوناثان سريعًا في حركته كالظبي، لكنه وُجد مقتولاً على شوامخ إسرائيل، أي على جبال جلبوع الشامخة.

"كيف سقط الجبابرة؟!": ربما كان هذا القول قرارًا في النشيد[7]، فقد دعا شاول وابنه ورجالهما جبابرة لم يُنتظر سقوطهم، كانوا سندًا للكثيرين، لكنهم سقطوا فسقط الجميع وراءهم.

"لا تخبروا في جت؛ لا تبشروا في أسواق أشلقون، لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغلف" [٢٠]. اختار جت بكونها أعظم مدن الفلسطينيين واشقلون المدينة التي فيها أعظم هياكل عشتاروت ربما أُرسل إليها سلاح شاول ويوناثان (١ صم ٣١: ١٠).

"يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن ولا حقول تقدمات، لأنه هناك طرح مجن الجبابرة مجن شاول بلا مسح بالدهن. من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء وسيف شاول لم يرجع خائبًا" [٢١-٢٢]. هذه جميعها اصطلاحات شعرية تصور خطورة الكارثة التي حلت على جبال جلبوع حيث تلطخت بدماء ملوكية، دماء جبابرة بأس. يطلب ألا يكون عليها طل ولا مطر فتجف وتصير قفرًا بعد موت الجبابرة، لا يكون بها حقول تأتي بثمار يُقدم منها تقدمات للرب أو ما يستحق أن يقدم عنها عشور أو بكور حيث حل بها الخراب، فقد سقطت أسلحة الجبابرة. سيف شاول لم يمسح بالدهن ليقاتل به (كانت العادة أن يمسح السيف قبل استعماله)، لقد سقط عليه وتلطخ بدمه عوض الدهن. كانت قوس يوناثان وأيضًا سيف شاول دائمي العمل في قتل الجبابرة أما الآن فتوقفا!

تذكر داود انتصارات شاول الكثيرة وغلبته على أعدائه (١ صم ١٤: ٤٧).

"شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان في حياتهما لم يفترقا في موتهما. أخف من النسور وأشد من الأسود" [٢٣]. أظهر داود نقاوة قلبه الداخلية فإنه لم ينطق بكلمة واحدة تُسئ إلى شاول، ولا حتى بالتلميح، إنما امتدحه مع محبوبه يوناثان. تطلع إليهما كمحبوبين، فقد أحب يوناثان أباه شاول وبقى سندًا له في البلاط، أمينًا في عمله، حلوًا في تصرفاته، ملاصقًا له حتى لحظات الموت وإن كان لم يسترح لحسد أبيه نحو داود ولم يشترك معه في التصرفات الخاطئة. إنه لم يخن أباه لكنه كان صريحًا معه ومطيعًا له في الحق. أما شاول فكان مملوءًا حبًا لابنه يبذل كل الجهد ليسلمه العرش من بعده.

مدحهما داود على سرعتهما في الحركة وشجاعتهما في القتال مشبهًا إياهما بالنسور والأسود.

"يا بنات إسرائيل ابكين شاول الذي ألبسكن قرمزًا بالتنعم، وجعل الذهب على ملابسكن" [٢٤].

كانت لشاول خطاياه من عصيان وعناد وجنون وحسد لكن داود تجاهل هذا كله في مرثاته، مذكرًا النسوة الباكيات بأعماله الجبارة، فقد حارب وغلب، واسقرت البلاد في أيامه حتى لبست النساء القرمز متنعمات وتحلين بالذهب لأنهن في أمان من الأعداء والسبي.

"لقد تضايقتُ عليك يا أخي يوناثان. كنت حلوًا لي جدًا. محبتك لي أعجب من محبة النساء" [٢٦]. محبة النساء لرجالهن عجيبة، إذ يتركن بيوت آبائهن وأهلهن ويلتصقن برجالهن، إن مرضوا يخدمنهن... إما حب يوناثان فكان أعذب وأحلى. لقد بقى في بيت أبيه محتملاً التعييرات بسبب داود. كان يعلم أن داود يحتل عرشه، فكان يهيئ له الطريق بفرح مقدمًا حياته فدية عنه. كان بحق حلوًا في حبه! أي شيء أعذب من الحب الأخوي الخالص الذي لا يطلب ما لنفسه بل ما لصديقه!

يُعبِّر القديس يوحنا الذهبي الفم عن حب يوناثان الحلو لداود، قائلاً: [ماذا إذن، هل حسد (يوناثان) داود؟ قطعًا لا، مع أنه كان يوجد سبب للحسد. لقد أدرك خلال الأحداث أن المملكة تعبر عنه إليه، ومع هذا لم يحمل شيئًا من الحسد. لم يقل: إنه يحرمني من المُلك الموروث عن والدي. بل بالحري فضل أن يجتاز إليه المُلك، وفي نفس الوقت لم يتخلَّ عن أبيه بسبب صديقه. لا يظن أحد أنه كان خائنًا لأبيه، فإنه لم يؤُذِ والده وإنما بقى يقاوم محاولاته الظالمة... لم يسمح لأبيه أن يكون قاتلاً ظالمًا، فقد أراد في مرات كثيرة أن يموت من أجل صديقه، مقاومًا اتهامات أبيه.

عوض الحسد كان يعمل ليستلم (داود) المُلك... لقد ضحى بحياته لأجله. من أجل صديقه لم يخش حتى والده الذي دبر خططًا ظالمة.

كان ضميره حرًا... و هكذا ارتبط العدل بالصداقة[8]].

أما عن مقابلة داود حب يوناثان بالحب، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[لم تكن أمامه فرصة ليرد المكافأة... فقد أُخذ (يوناثان) قبل أن يملك داود، وذُبح قبل أن يستلم مَنْ خَدَمه المُلك.

ماذا إذًا؟ لقد أعلن هذا البار صداقته قدر ما سُمح له؛ قدر طاقته، إذ يقول: كنت مفرحًا لي يا يوناثان، لقد جُرحت حتى الموت!

هل هذا هو كل ما فعله؟... غالبًا ما أنقذ ابنه وحفيده من الخطر بسبب لطف الأب، وبقي داود يسند ويحمي أبناءه كما لو كانوا أبناءه هو. هكذا أراد أن يتمتع الكل بصداقة تجاه الأحياء والأموات[9]].

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الثاني

داود يملك على يهوذا

لقد أيقن داود أنه هو الملك المختار من قبل الرب، لكنه استشار الرب أولاً إن كان يصعد إلى إحدى مدن يهوذا.  

وبعد سؤال الرب صعد داود إلى حبرون حيث مُسح ملكًا على بيت يهوذا. لم ينس داود المعروف الذي صنعه رجال يابيش جلعاد مع شاول بعد موته. أقام أبنير أيشبوشث بن شاول ملكًا على جلعاد والأشيريين ويزرعيل وافرايم وبنيامين وكل إسرائيل. بدأ أبنير بالحرب ضد رجال داود حيث غلبه رجال داود؛ عاد فطلب أبنير أن تتوقف هذه الحرب الأهلية فقبل الطرفان إلى حين.

١. مسح داود ملكًا على يهوذا        [١-٤].

٢. داود يمتدح أهل يابيش             [٥-٧].

٣. أبنير يقيم أيشبوشث ملكًا          [٨-١١].

٤. أبنير يثير حربًا أهلية              [١٢-١٧].

٥. أبنير يقتل عسائيل                 [١٨-٢٣].

٦. سعي يوآب وراء أبنير           [٢٤-٣٢].

١. مسح داود ملكًا على يهوذا:

مات شاول ويوناثان، وكانت الخلافة لايشبوشث بن شاول. اسمه الأصلي "أشبعل" (١ أي ٨: ٣٣)، أي "رجل البعل" أو "الرجل ذو سيادة". ولما كانت كلمة "بعل" قد تخصصت لإله الفينيقيين لذا تغير اسمه إلى ايشبوشث لتعني "رجل الخزي" إذ كان ضعيفًا غير قادر على العمل، يحركه أبنير رئيس جيش شاول كيفما يُريد.

أما داود الذي سبق فمسحه صموئيل ملكًا سرًا وسط إخوته (١ صم ١٦)، فكان عند موت شاول ويوناثان في صقلغ في أرض الفلسطينيين، وقد خلا له الجو إلى حد كبير ليستلم العرش. أما هو فبحكمة واتزان لم يتسرع طالبًا الحكم وإنما رأى أنه لا داعي لبقائه خارج وطنه بعد موت شاول الذي كان يطلب نفسه. لقد شعر بحنين شديد نحو خدمة شعب الله، لذا سأل الرب إن كان يصعد إلى إحدى مدن يهوذا، أي وسط سبطه الذين كانوا بلا شك يميلون إليه أكثر من غيرهم. سأل الرب خلال الأوريم الذي أحضره أبيأثار الكاهن معه.

بحسب الفكر البشري فإن انطلاق داود وأسرته ورجاله وأسرهم إلى يهوذا أمر طبيعي بعد موت شاول لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى صلاة أو طلب مشورة إلهية، لكن داود – كرجل الله – يدرك أهمية طلب مشورة الله ليس فقط وقت الضيق أو حالة الارتباك والغموض، وإنما حتى في لحظات الفرج وحين يكون الطريق واضحًا. الاتكاء على صدر الرب وطلب مشورته من سمات أولاد الله المرتبطين بأبيهم السماوي خلال دالة الحب العميق والشركة الدائمة معه.

جاءت الإجابة الإلهية بالإيجاب، أي يصعد إلى يهوذا، وقد وجهه الرب إلى "حبرون" من أعظم مدن يهوذا المقامة بين الجبال كحصون طبيعية.

"حبرون" معناها "اقتران"، "صداقة"، "اتحاد"، "رباط" الخ... دُعيت أصلاً "قرية أربع" (يش ٢٠: ٧)، تدعى حاليًا مدينة "الخليل" إذ سكن إبراهيم خليل الله بجوارها عند بلوطات ممرا (تك ١٣: ١٨؛ ٣٥: ٢٧)، وهناك ماتت زوجته سارة ودفنت، ودفن هو أيضًا فيها...

صعد داود وامرأتاه ورجاله بعائلاتهم ليسكنوا حبرون والمدن التابعة لها، وهناك جاءه رجال يهوذا ومسحوه ملكًا علانية.

إن كانت "حبرون" تعني "اقترانًا" فإنه ما كان يمكن لداود أن يُمسح ملكًا ما لم يصعد هو وأسرته ورجاله إليها ليأتيه رجال يهوذا هناك. أقول إننا لن ننعم بالمسحة المقدسة لنحسب "ملوكًا وكهنة" (رؤ ١: ٦؛ ٥: ١٠) ما لم ننعم بالاتحاد مع ربنا يسوع "ملك الملوك"، نقدم له حياتنا كلها: النفس مع الجسد بكل إمكانياتهما وقدراتهما ومواهبهما... لننعم بشركة مع الله في ابنه يسوع المسيح، فنملك معه.

يقارن يوسابيوس القيصري[10] بين مسحاء العهد القديم من كهنة وملوك وأنبياء وبين السيد المسيح نفسه موضحًا أن ما ناله رجال العهد القديم كان رمزًا فكانوا عاجزين عن أن يقيموا من أتباعهم مسحاء، أما السيد المسيح فهو وحده الذي دُعى اتباعه "مسيحيين"، لأنهم صاروا فيه مسحاء: ملوكًا وكهنة.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[11]. أنه في العهد القديم كان الروح القدس يهب مسحة للبعض فيقيم ملوكًا أو كهنة أو أنبياء، أما في العهد الجديد – ففي المسيح يسوع – نلنا جميعًا مسحة ليكون كل واحد منا ملكًا وكاهنًا ونبيًا، ملكًا من حيث تنعمنا بالملكوت، وكهنة إذ نقدم أجسادنا ذبيحة (رو ١٢: ١)، وأنبياء إذ يعلن لنا ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن (١ كو ٢: ٩).

يوضح القديس أمبروسيوس[12] أن طالب العماد يتمتع خلال المسحة بكهنوت روحي وملكوت روحي.

هنا يجب التمييز بين الملكوت الروحي والملكوت التدبيري الزمني، لذا نخضع للرؤساء والملوك، كما يجب التمييز بين الكهنوت الذي يُوهَب للعمل السرائري الرعوي والكهنوت العلماني الذي يوُهَب لجمعيع المؤمنين[13].

يرى البعض أن في مسح داود ملكًا على بيت يهوذا [٤] بواسطة رجال يهوذا كشفًا عن نقطة ضعف اتسم بها سبط يهوذا ألا وهي ميله نحو الانعزالية والانفراد عن بقية الأسباط مما سبب متاعب كثيرة فيما بعد وانقسامات في الشعب، بل وانقسمت المملكة إلى اثنين: مملكة إسرائيل (١٠ أسباط) ومملكة يهوذا (يهوذا وبنيامين) إلى أيام السبي.

هذا ويُلاحظ أن داود مُسح ملكًا ثلاث مرات:

أ. سرًا في بيت أبيه (١ صم ١٦: ١٣).

ب. مسحه على بيت يهوذا [٤].

ج. مسحه على كل إسرائيل (٢ صم ٥: ٣).

ما حدث مع داود يرمز لما تم للسيد المسيح بكونه ملك الملوك، إذ مرّ ملكوته بمراحل ثلاث:

أ. منذ الأزل هو الإبن الوحيد الجنس، ملك الملوك (١ تي ٦: ١٥؛ رؤ ١7: ١4؛ ١6: ١9).

ب. ملك خلال الرمز والظل على رجال العهد القديم كما على بيت يهوذا (مت ٢١: ٥).

ج. ملك ولا زال يملك على كنيسته "إسرائيل الله" الممتدة من أقصي الأرض إلى أقصاها، إذ قيل "للرب الأرض وملؤها" (١ كو ١٠: ٢٦؛ مز ٢٤: ١).

٢. داود يمتدح أهل يابيش:

أول عمل قام به داود بعد مسحه ملكًا على بيت يهوذا هو اهتمامه بمن قاموا بدفن شاول ويوناثان. لقد عرف أنهم أهل يابيش جلعاد فأرسل إليهم يمتدحهم قائلاً لهم:

"مباركون أنتم في الرب...

والآن ليصنع الرب معكم إحسانًا وحقًا،

وأنا أيضًا أفعل معكم هذا الخير...

والآن فلتتشدد أيديكم وكونوا ذوي بأس، لأنه قد مات سيدكم شاول وإياي مسح بيت يهوذا ملكًا عليكم" [٥-٧].

هذا التصرف من جانب داود كبكر أعماله الملوكية يستحق الدراسة والاهتمام:

أ. بدأ عمله الملوكي بتقديم البركة: "مباركون أنتم من الرب"، فإنه ما أجمل أن يبدأ الإنسان حياته الإيمانية (الملوكية) بالكلمات العذبة وتشجيع الغير عوض السلبيات والهجوم.

ب. لم يقف عمله عند المديح، ولا عند طلب المكافأة لهم من قبل الرب، وإنما أن يقدم هو أيضًا مكافأة من جانبه.

ج. أدرك داود أمانتهم وإخلاصهم لشاول فاشتاق أن يستخدم ذات طاقتهم لبنيان مملكته. القائد الناجح هو الذي لا يمركز العمل فيه بل يعرف كيف يستخدم طاقات الكل فيقيم صفًا آخر.

٣. أبنير يقيم أيشبوشث ملكًا:

أقام الله داود ملكًا حيث مسحه بيت يهوذا ليقيم في حبرون سبع سنوات ونصف [١١]. بعدها مُسح ملكًا على جميع الأسباط. من الجانب الآخر انشغل أبنير رئيس جيش شاول في استرجاع بعض المدن التي فُقدت في معركة جلبوع؛ صار يُجاهد لمدة خمس سنوات ونصف بعدها أقام ايشبوشث بن شاول ملكًا على إسرائيل (ما عدا سبط يهوذا)، وعبر به إلى محنايم كعاصمة للملكة. كان ايشبوشث ابن أربعين عامًا حين ملك وبقى ملكًا لمدة عامين في متاعب مستمرة.

كان أبنير يعلم ضعف شخصية ايشبوشث الذي لم يشترك في معركة جلبوع مع أبيه وإخوته؛ أو ربما هرب في ساعة الخطر من أرض المعركة. لكن أبنير أقامه ملكًا ليكون هو الحاكم العملي والتنفيذي؛ خاصة أنه ابن عم شاول (١ صم ١4: ١5)، يخاف من داود لئلا يطرده من منصبه كرئيس جيش.

عبر أبنير بايشبوشث إلى محنايم كعاصمة. اسمها يعني "معسكرين" أو "محلتين"[14]، دعاها يعقوب هكذا. وقد جاءت على حدود تخم جاد ومنسي، تنقسم إلى حيين أحدهما لجاد والآخر لمنسي. وقد أُعطى جاد قسمه لبني مراري فصارت مدينة ملجأ (يش ٢١: ٣٨، ١ أي  ٦: ٨). تقع شرق الأردن وشمال نهر يبوق. يرى البعض أنها كانت "خربة محنة" تبعد حوالي ميلين ونصف ميل شمال عجلون، ويرى آخرون أنها "تلال ذهب".

 ٤. أبنير يثير حربًا أهلية:

بقي داود أمينًا ومخلصًا لشاول ويوناثان، لم يفكر قط في اغتصاب العرش رغم مسحه ملكًا مرتين؛ مكتفيًا أن يعمل وسط سبطه يهوذا، لكن أبنير ابن عم شاول أراد أن يُخضع يهوذا لايشبوشث فخرج ومعه رجال ايشبوشث من محنايم إلى جبعون، واضطر يوآب وعبيد داود أن يخرجوا أيضًا دون داود، والتقى الطرفان على بركة جبعون كل على جانب مقابل الآخر، تبعد حوالي خمسة أميال ونصف شمال أورشليم [15] (جبعون تدعى حاليًا قرية الجيب).

يبدو أن رجال كل طرف من الطرفين لم يستريحوا لمقاتلة إخوتهم... ولو ترك الأمر هكذا لرجع الطرفان كما قال يوآب فيما بعد لأبنير [27]. لقد جلس الجميع على طرفي البركة [١٣] ولم يتأهبوا للقتال. أراد أبنير أن يلهب الجو فطلب أن يتقاتل بعض الغلمان. قام ١٢ غلامًا من كل طرف، فأمسك كل واحد برأس صاحبه وضرب سيفه في جنب صاحبه وسقط الأربعة وعشرون غلامًا، ودعي هذا الموضع "حلقث هصوريم" أي "صقل السيوف".

أثار هذا المنظر الطرفين فقام الكل يتقاتلون، وانكسر أبنير ورجاله أمام عبيد داود.

٥. أبنير يقتل عسائيل:

هُزم أبنير ورجاله، فهرب، لكن عسائيل أراد أن يلحق به ويقتله، وكان رئيسًا لإحدى فرق الجيش، خفيف الرجلين كالظبي لكنه لم يكن قويًا في الحرب كأخيه يوآب ولا كأبنير.

كلمة "عسائيل" معناها "الله عمل"[16]. وهو ابن صروية أخت داود؛ أخو يوآب وابيشاي.

جرى وراء أبنير متكلاً على خفض رجليه وسرعته، وعلى قرابته لداود ويوآب متجاهلاً قلة خبرته في الحرب بالنسبة لخصمه أبنير. ربما أخذه الحماس بعدما غلب أخوه يوآب أبنير، أن يلحق بالأخير ليضع حدًا فاصلاً للحرب ويسرع بتسليم خاله داود المُلك.

تطلع أبنير وراءه فشاهد عسائيل؛ لم يخشه إنما خشى خطورة الموقف. لقد أدرك أنه سيغلب عسائيل ويقتله لكن أخاه يوآب لن يهدأ حتى ينتقم لأخيه بقتل أبنير، وعندئذ يتحطم ايشبوشث وتنتقل الملكية تمامًا من سبط بنيامين إلى يهوذا (داود الملك). التفت أبنير إلى الوراء وطلب من عسائيل أن يترك السعي وراءه ويميل يمينًا أو يسارًا بغلام ويسلبه كما يُريد ولا يجري وراء القائد، لكن عسائيل رفض. كرر أبنير طلبه بل وتحذيره قائلاً: "مل من ورائي، لماذا أضربك إلى الأرض، فكيف أرفع وجهي لدى يوآب أخيك؟". في كبرياء أصرَّ عسائيل أن يلاحقه فضربه أبنير بزج الرمح ضربة خفيفة كي لا يقتله، أي ضربة بخلف الرمح، مع ذلك دخل الرمح في بطنه وخرج من خلفه، وسقط عسائيل ميتًا.

إذ كان الجميع يحبونه هو وأخاه يوآب، كان كل من يأتي إلى الموضع الذي سقط فيه يقف.

٦. سعي يوآب وراء أبنير:

سعى يوآب وأبيشاي وراء أبنير لينتقما لأخيهما عسائيل حتى الغروب عندما جاء أبنير إلى تل أمة الذي تجاه جيح.

اجتمع بنو بنيامين الذين كانوا يطلبون نجاح ايشبوشث وقائده أبنير، واستعدوا لمقاومة يوآب. فنادي أبنير يوآب، وقال له: "هل إلى الأبد يأكل السيف؟! ألم تعلم أنها تكون مرارة في الأخير؟! فحتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم؟!" [٢٦]. هكذا شعر أبنير أن القتال لن يتوقف والخراب سيحل بالجميع لذا طلب من يوآب أن يرجع هو ورجاله عن مقاتلة إخوتهم.

أجابه يوآب محملاً إياه مسئولية ما حدث، فإنه لو لم يتكلم عند بركة جبعون لما تقاتل الأربعة وعشرون غلامًا، وبالتالي لرجع رجال الطرفين كل إلى بيته.

ضرب يوآب البوق وتوقف الحرب، وأحصي القتلى فكانوا ١٩ من عبيد داود وعسائيل، ٣٦٠ من رجال أبنير. هذا العدد يعتبر صغيرًا جدًا، يكشف أنه لم تجتمع أعداد ضخمة من الجانبين للحرب، وأن الشعب لم يحب مقاتلة بعضهم البعض. أما قبول يوآب وقف الحرب بالرغم من قتل أخيه، إنما لأنه يدرك ما في قلب خاله داود الملك، إنه لا يسعى ليملك بمقاتلة إخوته، إنما ينتظر عمل الله الهادئ.

دفن القتلى في أرض المعركة، أما عسائيل فدفن في بيت لحم في مقبرة أبيه [٣٢].

عبر أبنير الأردن إلى محنايم، وذهب يوآب إلى حبرون حيث يملك داود.

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الثالث

أبنير ينضم إلى داود

إذ ملك داود على بيت يهوذا بقي خمس سنوات ونصفًا في ملكه لا يتحرك قط لإخضاع بقية الأسباط، إنما غالبًا ما كرَّس حياته لحياة العبادة والتقوى مع تدبير أمور هذه المملكة الصغيرة. وحينما تحرك أبنير ليقيم ايشبوشث من بيت شاول ملكًا على بقية الأسباط بقي داود أمينًا في وعده مع شاول ويوناثان فلم يهاجم ايشبوشث بالرغم من ضعف شخصيته وقدراته. أخذ ايشبوشث موقف الهجوم يثيره في ذلك أبنير رئيس جيشه الذي كان يحرك الملك كيفما يشاء وداود في هدوء لم يتحرك. وحينما اضطر للدفاع عن نفسه أرسل يوآب على مضض لا للهجوم وإنما للدفاع. لم يبق الحال طويلاً فبعد سنتين تقريبًا أو أقل قليلاً انقلب أبنير على ايشبوشث وأقام عهدًا مع داود ليسلمه كل بقية الأسباط، وداود في موضعه يمارس الصمت متأملاً عمل الله الفائق.

١. حرب بين بيت شاول وبين داود             [١-٦].

٢. أبنير يقاوم ايشبوشث                       [٧-١١].

٣. إقامة عهد بين أبنير وداود                  [١٢-٢١].

٤. يوآب يغدر بأبنير                           [٢٢-٣٠].

٥. داود يحزن على أبنير                       [٣١-٣٩].

١. حرب بين بيت شاول وبين داود:

إذ ملّك أبنير نسيب شاول ايشبوشث على إسرائيل (ما عدا سبط يهوذا) بقى داود صامتًا ينتظر يد الله ومواعيده الأمينة والصادقة، فإنه لم يسع نحو إخضاع الأسباط تحت حكمه ولا مقاومة الملك الجديد. بدأ ايشبوشث حربه بتحريض وقيادة أبنير الذي كان يصر على أن يبقى المُلك في يد شاول بالرغم من إدراكه إن الله حلف لداود أن يهبه المُلك [١٠-١١].

كانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود المصرّ على عدم مقاومة الملك أو الإساءة إلى بيت شاول. خلال هذه الحرب التي استمرت حوالي عامين تعلم داود الصبر وانتظار تحقيق مواعيد الله بإيمان وثقة، فكان يتشدد ويتقوى بالرب بينما يضعف عدوه وينهار. قيل: "وكانت الحرب طويلة بين بيت شاول وبيت داود، وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاول يذهب يضعف" [١]. خلال هذه الفترة كان الله يعمل وسط شعبه ليجتذبهم تدريجيًا نحو داود لا خلال القهر والإلزام بل خلال حياته المقدسة الهادئة.

ما أحوج أولاد الله إلى الدخول في المتاعب لكي يتجلى الرب فيهم، ويعلن ذاته خلال غلبتهم ونصرتهم الداخلية. مع كل ضيقة تتنقى أعماقنا، وينكشف نور الرب فينا، فنكسب الكثيرين لحساب ملكوته المفرح. يقول القديس بطرس الرسول: "إن عُيّرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم" (١ بط ٤: ١٤). وكأنه وسط الآلام نتمتع بروح المجد ويُعلن الله الحالّ فينا. يقول القديس كبريانوس: [أراد الرب أن نفرح ونمتلئ بهجة في الضيقات (لو ٦: ٢٢-٢٣)، لأنه حيث توجد اضطهادات تُعطى أكاليل الإيمان ويتزكى جنود المسيح وتنفتح السموات[17]].

كثيرًا ما نشتهي أن نملك سريعًا لكن الله يُريدنا أن نجتاز طريق الألم والضيق لكي ننعم بمجد الرب داخلنا خلال شركتنا معه في آلامه... إننا نتعجل الأمور لكن الله يعرف كيف يقودنا بحكمته العلوية نحو المجد خلال الألم.

نعود إلى داود الذي بقى في حبرون يملك على يهوذا وحده غير منشغل بالسلطة والعظمة بل بالحياة المقدسة.

أنجب ستة أولاد:

أمنون البكر، الذي ارتكب الشر مع أخته (٢ صم ١٣) كثمرة لما فعله داود مع امرأة أوريا الحثي (٢ صم ١١، ١٢)، وقد مات في حياة داود.

كيلاب من أبيجابل، اسمه الأصلي دانيئيل (١ أي ٣: ١)، غالبا مات في أواخر حياة داود.

أبشالوم: انشق على والده فيما بعد، وكان سبب مرارة له؛ قُتل في حياة والده.

أدونيا: طلب الخلافة بعد موت أبيه بكونه أكبر أبناء الملك الأحياء (١ مل 1: 5).

يثرعام...

٢. أبنير يقاوم ايشبوشث:

كان داود يملك على القليل (سبط واحد) وايشبوشث يملك على الكثير (بقية الأسباط)، لكن داود حمل مجده في داخله خلال إيمانه بالله العامل فيه، أما ايشبوشث فارتكزت قوته على أبنير نسيبه ورئيس جيشه، لذا كان الأول يزداد مجدًا من يوم إلى يوم والثاني يزداد انهيارًا من وقت إلى آخر. كان الأول متكئًا على الله يسلك بمشورة إلهية والثاني يتكئ على ذراع بشر بمشورةٍ إنسانية.

جاهد أبنير سنوات طويلة في أيام شاول لكنه لم يقدر أن ينقذ حياة شاول أو حياة أولاده، وبقى خمس سنوات ونصفًا يحاول ضم المدن التي استولى عليها الأعداء ليعد الطريق لايشبوشث، وها هو ايشبوشث يملك على إسرائيل... لكن سرعان ما ينقلب أبنير عليه!

دخل أبنير على سُرِّية شاول فعاتبه ايشبوشث الضعيف الشخصية بعنف، ليس دفاعًا عن الحياة المقدسة وإنما لأنه حسب أنه بذلك يُريد أن ينسب المُلك إلى نفسه. لم يقبل أبنير هذا العتاب لأنه هو الذي أقامه ملكًا. في عنف وبخ الملك قائلاً له: "ألعلي رأس كلب ليهوذا؟! اليوم أصنع معروفًا مع بيت شاول أبيك مع إخوته ومع أصحابه ولم أسلمك ليد داود وتطالبني بإثم امرأة؟!. قال هذا ربما لأن ايشبوشث اتهمه بالخيانة كأنه متفق مع يهوذا سرًا على هذا التصرف. ربما رأى أبنير داود يتقوى ويتعظم في أعين الكثيرين بينما ايشبوشث يضعف، فاستغل الفرصة ليترك الملك وينحاز لداود. لقد ادرك أنه كان يقاوم مشيئة الله بمحاربته داود، إذ قال لايشبوشث: "كما حلف الرب لداود كذلك أصنع له. لنقل المملكة من بيت شاول وإقامة كرسي داود على إسرائيل وعلى يهوذا من دان إلى بئر سبع" (أي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب). لم يقدر ايشبوشث أن يجيبه لأنه كان ضعيف الشخصية أمامه وأمام نفسه كما أمام الشعب.

كان أبنير معتدًا بذاته فقد أعاد الكثير من البلدان إلى إسرائيل في وقت خلا فيه عرش إسرائيل من ملك اللهم إلا سبط يهوذا الذي ملك عليه داود؛ أقام ايشبوشث ملكًا وأيضًا حطمه، والآن في حديثه يظن أنه قادر أن يصنع هذا مع داود أي يقيمه ملكًا وبالتالي يقدر أن يعزله... لكنه لم يدرك أنه قبلما يتحقق مسح داود ملكًا على كل الأسباط يموت أبنير. إنه يمثل الذراع البشري المتشامخ الذي يظن أنه قادر أن يقيم ملوكًا ويعزلهم، ولم يدرك أنه نسمة ضعيفة تُطلب في وقت لا يدركه!

لعل داود الملك نال خلال علاقة ايشبوشث بأبنير، خبرة عملية واقعية تسنده كل أيام ملكه عبَّر عنها في مزاميره بقوله: "لا تتكلوا على الرؤساء، ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده، تخرج روحه فيعود إلى ترابه... طوبى لمن إله يعقوب معينه ورجاؤه على الرب إلهه" (مز ١٤٦: ٣-٥). "الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء" (مز ١١٨: ٨). يقول القديس جيروم: [يتكل كثيرون على رئيس (عظيم). اليوم هو موجود، غدًا قد لا يكون موجودًا. في النهار يستعرض جيشًا أمامه، في الليل يرقد في قبره... لنا معين واحد قادر أن يخلص[18]].

٣. إقامة عهد بين أبنير وداود:

لقد صمت ايشبوشث أمام تهديدات أبنير ولم ينطق بكلمة لأنه نال المُلك من يده لا من يد الله، معتمدًا على ذراع بشر، أما أبنير فلم يكن محتاجًا إلى وقت للتفكير في الأمر، إذ يبدو أن فكرة التخلي عن ايشبوشث قد سيطرت عليه تمامًا. لهذا "أرسل أبنير من فوره رسلاً إلى داود قائلاً: لمن هي الأرض؟! يقولون اقطع عهدك معي وهوذا يدي معك لرد جميع إسرائيل إليك" [١٢]. هكذا يتعهد أبنير – خلال رسله – أن يرد جميع الأسباط إلى داود عن أن يقبله في خدمته ويعفو عن كل ما فعله من عصيان.

قبل داود الملك هذا العرض مشترطًا لإقامة العهد أن تُرد إليه زوجته الأولى، ميكال ابنة شاول التي اعطاها والدها لفلطئيل بن لايش (١ صم ٢٥: ٤٤).

لماذا وضع داود هذا الشرط؟

يرى البعض أن داود طلبها ليس حبًا فيها وإنما لأسباب سياسية، وهو إبراز أنه أولاً وقبل كل شيء نسيب شاول الملك فينال أمام الأسباط نوعًا من الشرعية في تولي المُلك. رأى آخرون في هذا التصرف ردَّا لكرامة داود الذي أُغتصبت زوجته وسُلِّمت لآخر.

ربما كان هذان السببان في ذهن داود الملك لكنني أظن أنهما ليسا سببين رئيسيين، إذ وجدت أسباب أخرى جوهرية في ذهن هذا الطوباوي.

لقد أراد أولاً أن يؤكد لا لأبنير ولا لايشبوشث بل لكل الأسباط أنه ليس متلهفًا على تولي العرش كتمتع بالسلطة والكرامة الزمنية. فإنه كان يستطيع أن يقبل العرض وبعد استلامه المُلك يطلب ميكال ولا يقف أحد أمامه، فيُحسب عنيفًا ومستغلاً لسلطته. إنما أراد داود أن يُبرز أنه أمين لزوجته ميكال التي أحبها، هذه الأمانة في نظره أولى من تسلمه المُلك. إن لم يكن أمينًا مع زوجته فكيف يرعى هذا الشعب كله.

لقد أحبته ميكال وأنقذت حياته من يد أبيها (١ صم ١9: ١1 الخ)، وها هو يعلن حبه لها كزوجة ولو على حساب استلام المملكة.

القائد الناجح هو ذاك الذي يهتم بحياته الداخلية وأعماقه المخفية كما ببيته وأسرته فيكون أمينًا في حبه لمن هم تحت قيادته أو رعايته. يقول القديس بولس الرسول: "إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله؟!" (١ تي ٣: ٥).

من مارس الحب في بيته ومع خاصته وأصدقائه يعرف مفهوم الرعاية خلال خبرة الحب، فيقول مع القديس يوحنا الذهبي الفم: [إني أب مملوء حنوًا[19]]، [ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم[20]].

هكذا نُحيي في داود النبي هذه الروح العميقة التي تكشف عن قدسية حياته الداخلية وتقديره لزوجته وعدم تلهفه على نوال كرامة زمنية.

طلب أبنير من ايشبوشث أن يرد لداود ميكال زوجته بكونه الملك وأيضًا أخاها؛ ربما كان ذلك بعلم أبنير وتدبيره. لم يقدر ايشبوشث أن يقاوم بل أخذها من عند رجلها وأرسلها، وكان رجلها يسير معها ويبكي وراءها إلى بحوريم.

"بحوريم" تعني "شباب"[21]، مكانها الحالي رأس التميم، شمال شرق جبل الزيتون[22]، على الطريق من أورشليم إلى الأردن (١٦: ٥)، عندها سبَّ شمعي داود أثناء هروبه من وجه أبشالوم، وفيها اختبأ يوناثان وأخيمعص (١7: ١8).

٤. يوآب يغدر بأبنير:

كنا نتوقع من داود النبي والملك أن يتحرك فرحًا ليستغل الفرصة ليجمع الأسباط تحت سلطته، لكن ما حدث أنه وقف في حب وثقة بالله يتأمل عمل الله معه، فكان المتحرك هو أبنير، إذ بادر بالوفاء بوعده، متحدثًا مع شيوخ إسرائيل عن إقامة داود ملكًا كطلبهم السابق وتحقيقًا لمشيئة الله. تحدث أيضًا في مسامع بنيامين بلا خوف؛ سمعوا له بكونه واحدًا منهم وأكثرهم قوة وشجاعة وإخلاصًا لشاول، إذ حسبوه أنه قد يئس من ايشبوشث.

يبدو من حديث أبنير مع الشيوخ أن الأسباط سبق أن طلبوا داود ملكًا [١٧]، لكن أبنير نفسه قاومهم ليثبت كرسي شاول حتى يئس أخيرًا من ايشبوشث.

أخذ أبنير عشرين رجلاً من شيوخ الأسباط، وانطلقوا إلى داود الذي أقام لهم وليمة علامة على الاتحاد وإقامة عهد معهم.

تأثر أبنير بلقاء داود مع العشرين شيخًا لذا طلب من داود أن يسمح له بالذهاب إلى الأسباط لتدبير الأمور الخاصة بتجليسه رسميًا ملكًا (١ أي ١١: ١-٣).

عاد يوآب مع رجاله من الحرب وسمع بما تم بين داود وأبنير فثارت ثائرته، ربما لأنه كان يخشى أن يحتل أبنير مركزه. لقد انتهر داود الملك متهمًا أبنير أنه جاسوس جاء ليخدع الملك حتى يخرج ويثير الأسباط لمحاربته، أما داود فصمت ليس خوفًا من يوآب كما صمت ايشبوشث أمام أبنير، وإنما استخفافًا بفكر يوآب، وتصرفاته المتهورة في مواقف كثيرة.

أرسل يوآب إلى أبنير يريده متظاهرًا أنه يود (هو أو الملك) مباحثه في بعض الأمور، ولم يكن داود يعلم بما فعله يوآب [٢٦]. عاد أبنير من بئر السيرة إلى حبرون؛ يرى يوسيفوس المؤرخ أن المسافة بينهما تبلغ حوالي ميلين ونصف.

تظاهر يوآب أنه يود الحديث مع أبنير سرًا، وإذ مال إليه اغتاله انتقامًا لأخيه عسائيل، ولأنه خشي أن يحتل مركزه كرئيس جيش داود.

لم يكن لائقًا برجل حرب كيوآب أن يقتل إنسانًا ائتمنه على نفسه وجاءه يتفاوض معه، إنما كان يجب أن يصارحه ويبارزه إن أراد... فقد أوصى موسى الشعب. "ملعون من يقتل قريبه في الخفاء" (تث ٢٧: ٢٤).

٥. داود يحزن على أبنير:

كم كان داود شهمًا ونبيلاً عندما أعلن رسميًا وشخصيًا براءته من قتل أبنير ورفضه هذا الغدر من جانب يوآب، معلنًا للجميع أن ما صنعه يوآب لا يليق برجل إيمان ولا برجل حرب وأن تأديب الرب سيحل به [٢٩].

أعلن داود رأيه رسميًا بسيرة وراء نعش أبنير وطلبه من الشعب أن يمزقوا ثيابهم ويتنطقوا بالمسوح ويلطموا أمام جثمان أبنير، كما أعلن عن براءته من قتل أبنير بسلوكه الشخصي فقد بكى عليه وصام النهار كله. لقد تأثر به الشعب جدًا وبكوا معه. نسى داود أن أبنير عدوه الذي كان يثير الحرب بينه وبين ايشبوشث وتذكر أنه قائد عظيم كان يمكن الانتفاع منه في محاربة الوثنيين.

في مرثاته قال: "هل كموت أحمق يموت أبنير؟! يداك لم تكونا مربوطتين ورجلاك لم توضعا في سلاسل نحاس. كالسقوط أمام بني الإثم سقطت" [٣٣-٣٤]. كأنه يسأل: هل مات أبنير كأحمق إذ ائتمن نفسه لدى الغادر يوآب؟ إنه لم يمت في حرب كضعيف إذ كان قادرًا على القتال، ولم تكن يداه مربوطتين ولا رجلاه مقيدتين، لكنه بالخيانة سقط أمام بني الإثم: يوآب وأبيشاي. لم يمت أيضًا كأحمق في خيانة...

لم يعزل داود يوآب من عمله ربما لأنه لم يجد مثله كرجل حرب وربما لأنه رأى أن ما فعله يوآب كان يهدف إلى الدفاع عن مملكة داود حاسبًا أبنير جاسوسًا ومخادعًا.

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع

نهاية مملكة شاول

 بقتل أبنير غدرًا بيد يوآب انتهت مملكة شاول إذ كان ايشبوشث ملكًا صوريًا، قتله أخوان "بَعْنة ورَكاب" غدرًا وهو على سرير فراشه نائمًا. ولم يبق وارثًا للملكة إلا مفيبوشث بن يوناثان، وكان أعرج يعجز عن تولي العرش.

١. انهيار ايشبوشث         [١].

٢. قتل ايشبوشث           [٢-٨].

٣. الانتقام لايشبوشث       [٩-١٢].

١. انهيار ايشبوشث:

"ولما سمع ابن شاول أن أبنير قد مات في حبرون ارتخت يداه وارتاع جميع إسرائيل  [١]. عدم ذكر اسمه هو نوع من الاحتقار، فقد فَقد ايشبوشث كرامته وقوته لأن مملكته قامت على أبنير الذي غدر به يوآب. خبر خيانة أبنير لايشبوشث والغدر بأبنير حطم نفسية الملك الشكلي فارتخت يداه، بل وارتاع الشعب كله، فقد مات القائد الشجاع ولا يعرفون ماذا يفعل بهم داود.

٢. قتل ايشبوشث:

غدر به بَعْنَة ورَكاب ابنا رِمُّون من بئيروت التي للجبعونيين، من بني بنيامين [2]. هذان كانا في خدمة الملك، انتهزا الأحداث، وشعرا بانهيار الملك وتخلي الشعب عنه، فأرادا اللحاق بخدمة داود الملك بتقديم رأس منافسه ايشبوشث. هذان خانا الملك الذي أقامهما في البلاط للخدمة، بجانب أنهما من ذات سبطه، مما يجعل جريمتهما أكثر بشاعة.

يرى البعض أنهما في الأصل كنعانيين من الجبعونيين الذين قطع معهم يشوع بن نون عهدًا (يش ٩) وأُعطيت مدنهم للبنياميين. يبدو أن البيئروتيين – من بينهم رِمُّون والد بَعنه ورَكاب – هربوا إلى جتَّايم عندما قتل شاول بعض الجبعونيين ليعطي أملاكهم للبنياميين. لهذا فإنه وإن كان هذان الأخان قد التحقا بخدمة ابن شاول لكنهما يحملان كراهية وبغضة نحو بيت شاول، عبَّرا عنها بقتل الملك. لقد دخلا بيته بحجة أنهما يطلبان حنطة وكان ذلك في وقت الظهيرة – ما بين الساعة الثانية عشرة والثالثة بعد الظهر؛ وجدا الملك نائمًا في سريره فقطعا رأسه وجاءا بها إلى داود مقدمين تعليلاً لاهوتيًا: "قد أعطى الرب لسيدي الملك انتقامًا في هذا اليوم من شاول ونسله" [٨].

"بَعْنة" معناها "ابن الضيق" أو "العناء"[23]، وركاب معناها "راكب"[24] أو "فارس". "رِمُّون" معناها "شجرة رمان"[25]، "بئيروت" معناها "آبار" مدينة مبنية على سفح الأكمة التي كانت جبعون مبنية عليها، تفيض من سفحها مياه بغزارة، وهي تبعد حوالي عشرة أميال شمالي أورشليم، تدعى الآن "البيرة"[26].

بقتل ايشبوشث خلى الجو تمامًا لداود إذ لم يعد من بيت شاول سوى مفيبوشث بن يوناثان، كان ابن خمس سنين حينما قُتل أباه وجده في الحرب، فحملته مربيته وهربت، وإذ كانت مسرعة وقع فانكسرت عظام رجليه والتحمت خطأ في غير موضعها فصار أعرج [٤]، غير قادر على تولي العرش لعجزه الجسدي ولصغر سنه (حوالي ١2 سنة).

٣. الانتقام لايشبوشث:

أكد داود النبي للخائنين الشريرين أنه ليس في حاجة إلى عون الأشرار مثلهما بل هو متكل على الله الذي فدى نفسه [٩]. إنه لم يستحسن قتل شاول ولا أبنير فكيف يقبل قتل رجل على سرير فراشه؟!

طلب الدم البرئ منهما، فقُطعت أياديهما التي قتلت والأرجل التي هربت، وعُلقت جثتاهما على بِركة حبرون حتى يدرك القادمون للاستقاء أن داود لا يملك خلال هرق دم برئ، وأنه لا يُسر بهذين الخائنين. إما رأس ايشبوشث فدفنت بتكريم في مقبرة أبنير في حبرون.

هذا التصرف يفرح قلب الله الذي أقام داود ملكًا كما يسر قلوب البنياميين وأتباعهم، إذ يرون أن داود لا يحمل عداوة تجاه بيت شاول بل محبة وإخلاصًا.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الخامس

مسح داود ملكًا

أخيرًا مُسح داود ملكًا على جميع الأسباط في الوقت المناسب، بعد أن تعلم في السنوات الماضية حياة الجهاد بلا ملل، والاتضاع فلا يطلب لنفسه مجدًا زمنيًا، والحب فلا ينتقم لنفسه.

لقد مارس داود أعمال محبة تسندها مشاعر صادقة فملك وغلب بالرغم من مقاومة الأعداء له.

١. مسح داود ملكًا                   [١-٥].

٢. نصرته على اليبوسيين           [٦-١٠].

٣. صداقة حيرام له                  [١١].

٤. تثبيت مملكته                     [١٢-١٦].

٥. مقاومة الأعداء                   [١٧-٢٥].

١. مسح داود ملكًا:

هذه هي المرة الثالثة التي فيها مُسح داود ملكًا حيث خضع الكل له. لقد حان الوقت لتوليه المُلك باختيار له وإجماع الشعب عليه. جاء إليه الشيوخ: "هوذا عظمك ولحملك نحن. ومنذ أمس وما قبله حين كان شاول ملكًا علينا قد كنت أنت تُخرج وتُدخل إسرائيل، وقد قال لك الرب: أنت ترعى شعبي إسرائيل وأنت تكون رئيسًا على إسرائيل" [١-٢].

لقد تدرب داود على الجهاد والحب، عرف كيف يقاوم حسد شاول بسماحةٍ في أدب ورقة، وكيف يقابل موت شاول وأبنير وايشبوشث بغير شماته إنما بنبل وحب يرثيهم وينتقم لكل دم برئ. قَبِل مشورة أبيجابل الحكيمة بفرح عندما طلبت منه ألا ينتقم لنفسه إذ ينتظر الكل منه أن يعطى ويبذل لا أن يطلب ما لنفسه... بهذه الروح التي عاشها لسنوات طويلة وخبرات متلاحقة في الرب قابل الشيوخ في حبرون بمحبة، دون أن يعاتبهم بكلمة أو يحمل مشاعر ضيق تجاههم. لم يقل لهم: "ما دُمت من عظمكم ولحمكم، ما دُمت كنت سبب غلبة لإسرائيل، وما دام الله أقامني راعيًا ورئيسًا، فلماذا طاردتموني طوال هذه السنين ولم تدافعوا عني أمام شاول المرفوض، ولماذا بقيتم بلا ملك أكثر من خمس سنوات حتى ملّك أبنير ايشبوشث عليكم وتجاهلتم وجودي في حبرون؟!"

لقد كان داود رمزًا للملك الحقيقي رب المجد يسوع، الذي مُسح أزليًا ليملك، لكنه جاء في ملء الزمان يسلك طريق الصليب في اتضاع، صالحنا ونحن بعد أعداء (رو ٥: ١٠) دون أن يجرح مشاعرنا بسبب جحودنا السابق أو مقاومتنا له. إنه في رقة الحب الحقيقي يقرع باب القلب ليدخل ويملك إن فتحنا له بكامل حريتنا دون قهر أو إلزام من جانبه علينا!

أخيرًا أدرك الشيوخ من هو داود وعلاقتهم به، قائلين: "هوذا عظمك ولحمك نحن". ونحن أيضًا نعتز بعلاقتنا بابن داود مرددين كلمات الرسول بولس: "لأننا أعضاء جسمه من لحمه وعظامه" (أف ٥: ٣٠)، "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح...؟!" (١ كو ٦: ١٥)، "وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (١ كو ١٢: ٢٧).

جاء كلمة الله متجسدًا ليملك لا بالسلطة والإلزام، إنما بملكه فينا ليقيمنا جسده المقدس، فنصير أعضاءً فيه نحمل شركة طبيعته.

٢. نصرته على اليبوسيين:

كانت يبوس – إسم أُورشليم في عهد اليبوسيين – تمثل مساحة صغيرة إن قونت بأورشليم في أيام سليمان[27]. كانت تناسب أن تكون العاصمة لداود أكثر من حبرون، أولاً لأن موقعها منيع للغاية، فهي مرتفعة (مز ٤٨: ٢)، حولها جبال (مز ١٢٥: ٢) تحيط بها وديان عميقة من ثلاثة جوانب يبلغ عمق بعضها ٨٠٠ قدم؛ ثانيًا لأنها على تخم يهوذا وبنيامين فترضي السبطين (سبط يهوذا الذي خرج منه داود، وسبط بنيامين الذي يضم بيت شاول الملك).

أما اليبوسيين[28] فهم قبيلة من الكنعانيين قبل دخول إسرائيل أرض الموعد (تك ١0: ١6؛ 15: 21؛ خر 3: 8). أثناء الخروج كانوا قبيلة جبلية (عد ١٣: ٢٩؛ يش 11: 3). اتحدوا مع بعض الملوك ضد جبعون لأنها أقامت عهدًا مع يشوع، لكن الأخير هزمهم وقتل ملكهم أدوني صادق (يش ١٠: ٢٣-٢٦)، وأعطى أرضهم لبنيامين (يش ١٨: ٢٨)، بعد ذلك احتلها رجال يهوذا لأنها كانت على حدود تخمهم، وأحرقوها (يش ١٥: ٨؛ قض 1: 8)، لكن اليبوسيين لم يفقدوا قلعتهم فيها كما يقول يوسيفوس[29]، وإنما سكنوا مع بني يهوذا وبنيامين كغرباء (يش ١٥: ٣٦؛ قض ١: ٢١؛ ١٩: ١١)، بقوا فيها حتى بعدما أخذ داود حصنهم (٢ صم ٢٤: ١٦-١٨؛ ٢ أي ٣: ١).

كان اليبوسيين واثقين أن داود لن يستطيع الاستيلاء على حصنهم بسبب مناعته، حتى لو كان من بداخله عمي وعرج، لذا في استخفاف قالوا له: "لا تدخل إلى هنا ما لم تنزع العميان والعرج" [٦].

أعلن داود عن المكافأة لمن يضرب المدينة حتى يبلغ إلى القناة، أي إلى النفق تحت الأرض من الوادي إلى فوق، فإن من يبلغ القناة يدخل الحصن، لم يذكر ما هي لأنها لا تحتاج إلى ذكر، إذ عنَي أن يصير المنتصر "رأسًا وقائدًا" (١ أي ١١: ٦)؛ وقد حقيقة يوآب ابن صروية ذلك.

دخل يوآب المدينة وصار رأسًا (١ أي ١١: ٦)، وسكن داود ورجاله القلعة أو الحصن ودعاه "مدينة داود".

يلاحظ في استيلاء داود على يبوس الآتي:

أ. أراد اليبوسييون أن يسخروا منه فقالوا: "لا تدخل إلى هنا ما لم تنزع العميان والعرج" [٦]، وكان القصد بذلك أنه لن يدخلها قط؛ لكنه إذ دخلها صار المثل: "لا يدخل البيت أعمى ولا أعرج" [٨]. بمعنى آخر قال سكان يبوس إنهم حتى إن كانوا عميانًا وعرجًا فلن يقدر داود الملك بكل جيشه أن يحتل مدينتهم؛ لكنه إذ استولى عليها يقول: لم يعد بالمدينة أعمى أو أعرج، لا بمعنى أنه منع دخول أي أعمى أو أعرج، وإنما إعلانًا رمزيًا عن قوة رجاله وحكمتهم أن جميعهم مبصرون وقادرون على السير. ما حدث مع داود كان رمزًا لما تحقق مع ابن داود، فقد كان العالم قد احتله عدو الخير زمانًا حتى دُعي "رئيس هذا العالم" (يو ١٤: ٣٠)، فصار العالم أسيرًا تحت قدميه (يبوس تعني مدوسًا تحت الأقدام)، وكانت البشرية أشبه بالعمي والعرج، انطمست أعنيهم الداخلية عن معاينة ملكوت السموات وعجزت أقدامهم الداخلية عن السير في الطريق الملوكي... مع هذا فقد ظن هؤلاء العمي والعرج أنهم محصنون لن يقدر ابن داود أن يقيم ملكوته في حياة البشرية. دخل ابن داود يبوس – أي العالم – وأقام بالصليب ملكوته محتلاً القلوب التي سبق فملك عليها عدو الخير، ونزع عنها كل عَمى للبصيرة وكل عَجز عن الحركة، فصار المؤمنون الحقيقيون مبصرين تسرع أقدامهم نحو السموات، ليس بينهم أعمى أو أعرج روحيًا.

ب. إذ استولى داود على يبوس وجعل منها مدينته الخاصة، تحمل اسمه، قيل: "وبنى داود مستديرًا من القلعة فداخلاً" [٩]. ماذا تعني الاستدارة إلا أن المدينة صارت كما في شكل دائرة ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية، بمعنى أنها حملت سمة جديدة هي الارتفاع فوق الزمن لتصير مدينة سماوية خالدة لا يقدر الموت أن يُنهي كيانها. هذه هي كنيسة العهد الجديد التي كانت مدوسة بالأقدام (يبوسًا) صار بعريسها السماوي وملكها ابن داود سماوية. وكما يقول القديس بولس "أجلسنا معه في السماويات" (أف ٢: ٦). ويقول القديس إكلمينضس الاسكندري: [إن الأرض تصير بالنسبة للمؤمن صاحب المعرفة الروحية (الغنوسي) سماءً].

ليت ابن داود يحتل يبوسنا الداخلية فيجعل منها مدينة داود، مدينته الخاصة المستديرة أو السماوية، طاردًا عنها كل عمى للبصيرة وفالج للأقدام.

ج. ختم حديثه هنا بالقول: "فكان داود يتزايد متعظمًا والرب إله الجنود معه" [١٠]. كان داود يتزايد في العظمة ليس لأنه احتل حصن يبوس المنيع وإنما بالحري لأن الرب "إله الجنود" معه. هنا يُدعى الرب "إله الجنود" وكأنه هو القائد الحقيقي لشعبه وهو المحارب عنهم ليهبهم النصرة والمجد. هذه هي خبرة داود النبي التي عبَّر عنها في مزاميره، فجاء فيها:

"الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟!  (مز ٢٧: ١).

"إنما هو صخرتي وخلاصي ملجأي فلا أتزعزع. على الله خلاصي ومجدي صخرة قوتي محتماي في الله" (مز ٦٢: ٥-٦).

يقول القديس أغسطينوس: [يعطيني الرب كلاً من معرفة ذاته والخلاص، فمن يقدر أن يأخذني منه؟!... يُبدد الرب كل هجمات عدوي وشباكه فلا أخاف أحدًا[30]]. هذا هو سر مجدنا غير المنقطع!

٣. صداقة حيرام له:

مع كل نصرة حقيقية يواجه المؤمن أمرين: مقاومة من العدو تؤول به إلى نصرة جديدة، وأيضًا انجذاب البعض لله العامل فيه. هكذا إذ تزايد داود متعاظمًا لأن رب الجنود كان معه أثار ذلك بعض الأعداء لمقاومته بالأكثر، وفي نفس الوقت انجذبت إليه بعض الممالك المجاورة تمجد الله فيه، كما يظهر ذلك من تصرف حيرام ملك صور.

كانت صور في ذلك الوقت قد بلغت العظمة، بعث ملكها رسلاً إلى داود وتكونت بينهما صداقة دامت حتي أيام سليمان، بل وقامت هذه الصداقة بين الدولتين في أيام عاموس النبي (عا ١: ٩).

أدرك حيرام أن داود يحتاج إلى حركة إنشاء وتعمير بعد الانتصارات المستمرة التي تحققت في عهده، لذا أرسل إليه الكثير من خشب الأرز الذي لا يسوِّس كما أرسل إليه بنائين [١١]. تعاونت المملكتان معًا وصارتا في ودٍّ، كانت إسرائيل تستخدم صور كبلد ساحلي لتحقيق واردتها وتوزيع مصنوعاتها، بينما استخدمت صور ممكة إسرائيل كطريق لتجارتها تشتري أيضًا منها الغلال والمحاصيل.

سلامنا مع الله في داخلنا يثمر سلامًا مع الغير ويحول الظروف المحيطة بنا لخدمتنا وبنياننا، حتى مقاومة الأشرار يحولها الله لنمونا وفرحنا الداخلي.

أقول، ما أحوجنا في علاجنا لمشاكلنا – أيّا كانت – إلى أن نبدأ بالداخل على ضوء عمل الله فينا، عندئذ تعمل نعمة الله فينا وبنا لدفع كل الأمور لخيرنا، فنقول مع الرسول بولس: "كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو ٨: ٢٨).

٤. تثبيت مملكته:

بعد حوالي ٢٠ عامًا من مسحه سرًا في بيت لحم قيل: "وعلم داود أن الرب قد أثبته ملكًا على إسرائيل، وأنه قد رفّع ملكه من أجل شعبه إسرائيل" [١٢].

انتظر داود هذه السنوات الطويلة في إيمان وبصبر ليتدرب بنعمة الله على رعاية شعب الله، والآن يُثبت الله مملكته من أجل شعبه. هكذا يليق بنا – مهما بلغت مواهبنا وقدراتنا ومهما تعاظم نجاحنا – أن ندرك أنها عطايا إلهية قُدمت لنا من أجل بنيان الجماعة المقدسة.

من أجل البشرية تجسد السيد المسيح ومن أجلها ملك على خشبة وقام وصعد إلى السموات ومن أجلها يأتي على السحاب ليجمع مؤمنيه ويرفعهم إلى حضن الآب. هكذا نحن كأعضاء جسده يليق بنا أن نحمل ذات فكره فنضرم كل موهبة فينا لبنيان الغير. يقول القديس بولس: "المحبة... لا تطلب ما لنفسها" (١ كو ١٣: ٥).

٥.  مقاومة الأعداء:

إن كان نجاح داود أعطاه نعمة في عيني حيرام ملك صور ليرسل له خشب أرز وبنائين علامة الصداقة العملية إلا أنه في الجانب المقابل، ضاعف نجاحه هذا من مقاومة الأعداء. مع كل نصرة نتوقع مقاومة وحربًا إن لم تكن من الخارج فمن الداخل، لذا قيل في سفر ابن سيراخ: "يا بني إذا تقدمت لخدمة الرب أعدد نفسك للتجربة" (2: 1).

رأى الأعداء في مسح داود ملكًا على كل الأسباط وتزايده في المجد خطرًا عليهم خاصةً أن الشعب كله صار بقلب واحد معه. لم يخشونه في حبرون لكونه ملكًا على سبط واحد فاستهانوا به، ولأنه في حبرون كان خاضعًا لهم. أما في يبوس فصار مستقلاً ومحصنًا وصار نجمه يلمع ويتلألأ. لذا فتشوا عليه للخلاص منه. أما هو فلم يكن متوقعًا الحرب لذا نزل مع حرسه الخاص إلى حصنه القديم "عدلام". فتش عنه الأعداء المنتشرون في وادي الرفائيين (موقعه مجهول إلا أنه كان بين بيت لحم وأورشليم (يش ١٥: ٨) ومشهورًا بالخصب (إش ١٧: ٥)).

في الحصن انحاز إليه بنو جاد (أي ١٢: ٨-١٥) وكان العدد قليلاً جدًا إن قورن بجيش الأعداء. سأل الرب خلال أبيأثار الكاهن (١ صم ٢٣: ١١؛ ٣٠: ٧-٨) الذي سمح له بالحرب. جاء إلى بعل فراحيم (أي إله أو سيد الهزيمات، وهو مكان مرتفع شمال وادي الرفائيين، وهو جبل فراصيم المذكور في (إش ٢٨: ١١)).

ما أحوجنا أن نتكل على راعي نفوسنا الذي يتقدم قطيعه ليسير الكل وراءه ومعه، قائلين مع المرتل: "جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع" (مز ١٦: ٨). يقول القديس أغسطينوس: [إنه يُنعم عليَّ (بذاته) فأسكن فيه بثبات[31]].

جاء داود برجاله ليقف وراء العدو ويقاومه مقابل أشجار البكاء عندما شعر بحضرة الرب وتقدمه ليحمله في طريق الجهاد، واهبًا له النصرة بنعمته. وكأننا إن أردنا حياة الغلبة على عدو الخير يلزمنا أن ننزل إلى وادي البكاء والدموع لنلتقي بالله عزنا. فنسمع المرتل يقول: "طوبى لأناس عزهم بك... عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعًا... يذهبون من قوة إلى قوة، يُرون قدام الله في صهيون" (مز ٨٤: ٥-٧).

يقول القديس جيروم: [لنتأمل للحظة أننا في هذا الوادي؛ لسنا على الجبل، لسنا في جنة عدن، لسنا على مرتفعات الفردوس، إنما نحن في أسافل الأرض، على الأرض التي خضعت للَّعْنة وتُنتج شوكًا وحسكًا... مادمنا في وادي الدموع يليق بنا لا أن نضحك بل نبكي. يقول الرب "طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو ٦: ٢١). الآن نحن في وادي الدموع، هذا العالم هو موضع للبكاء لا للتهليل... العالم المقبل هو عالم الفرح... وادي الدموع هو ساحة للجهاد والمثابرة[32]].

نزل داود ورجاله إلى وادي الدموع لكي يتقبل نعمة الله المجانية أكثر فأكثر، فينطلق من قوة إلى قوة، إذ ضرب الأعداء من جبْع إلى مدخل جازَر [٢٥]. في وادي الدموع انفتحت بصيرته ليرى الله يتقدمه ممهدًا له طريق النصرة، ومحطمًا العدو أمامه. وكأن الحضرة الإلهية التي تملأنا تعزية وسط الدموع، ترعب العدو وتحطمه تمامًا.

كلمة "جبع" معناها "تل"[33]، وهي مدينة في بنيامين (يش ١٨: ٢٤)، خصصت للكهنة (يش ٢١: ١٧)، مقابل مخماس؛ حاليًا قرية "جبع" تحمل ذات الإسم القديم وتبعد ٦ أميال شمال شرقي أورشليم. هذا يعني أن الأعداء هربو تجاه الشمال الشرقي وليس نحو أرضهم في الغرب لكي يحتموا في الحصن الموجود في جبع (١ صم ١٣: ٣). وإذ لم يحميهم هذا ساروا نحو أرضهم حتى جبعون (١ أي ١٤: ١٦)، ومنها ساروا في طريق عقبة بيت حورون (يش ١٠: ١٠) إلى مدخل جازر أي طريق جازر (كلمة "جازر" معناها "نصيب" أو "مهر العروس") وهي على تخم أرضهم وتبعد حوالي ١٨ ميلاً شمال غربي أورشليم،        ٥ أميال شرقي عقرون.

<<

 

 

 


 

الأصحاح السادس

إحضار تابوت العهد

إذ كان داود يتعظم وكان رب الجنود معه يهبه النصرة والغلبة حتى استقر في أورشليم كعاصمة لمملكته، أراد أن يؤكد أن الرب هو الملك الحقيقي مدبر أمور الشعب وواهبهم الغلبة، لذا فكر في إحضار تابوت العهد إلى أورشليم كعلامة منظورة لقوة الله غير لمنظورة.

١. موكب التابوت                     [١-٥].

٢. ضرب عُزة                        [٦-١١].

٣. إحضار التابوت إلى أورشليم      [١٢-١٥].

٤. احتقار ميكال لداود                [١٦-٢٣].

١. موكب التابوت:

جمع داود ثلاثين إلفًا من المنتخبين، لا ليحاربوا، بل ليحتفلوا بأحضار التابوت إلى أورشليم. اشترك هذا العدد الضخم في الاحتفال تكريمًا لله سر فرح شعبه. هنا تبرز حكمة داود الروحية، إذ لم يرد أن ينشغل الشعب بالنصرة على الأعداء كمجد شخصي له وإنما سحب قلوبهم إلى الله نفسه، لكي تتهلل بالرب مخلصهم الحقيقي.

تابوت العهد كممثل للحضرة الإلهية حمل إسم رب الجنود كقائد حقيقي لشعبه الأبطال روحيًا، الرب الجالس على الكروبيم [٢]؛ يظهر مجد الله خلال الكاروبين ليعلن رحمته لشعبه كما من عرش الرحمة أو كرسي الرحمة.

الله هو رب الجنود المهوب، مركبته سماوية هم جماعة الكاروبيم الملتهبون نارًا، يحل وسط شعبه برحمته أبًا مترفقًا يسندهم ويُفِّرح أعماقهم.

بدأ الموكب من "بعلة يهوذا" أو "بعلة" أو "قرية بعل" أو "قرية يعاريم" وهي إحدي مدن الجبعونيين (يش ٩: ١٧) على تخم يهوذا وبنيامين، وُضع فيها التابوت بعد إرجاعه من أرض الفلسطينيين (١ صم ٦: ١٩؛ ٧: ٢)، يرجح أنها قرية العنب أو أباغوش، تبعد حوالي        ٨ أميال شمال غربي أورشليم[34].

وضعوا التابوت على عجلة جديدة، ربما مقتدين بما فعله الفلسطينيون (١ صم ٦: ٧)، لكنهم بهذا خالفوا الناموس إذ كان يجب أن يحمله بنو قهات (عد ١: ١٥؛ ٤: ١٥) على الأكتاف و ليس على عجلة.

كان عُزة وأخيو ابنا أبيناداب (غالبًا كانا حفيديه) يسوقان العجلة؛ أخيو يتقدمها ليقودها بينما كان داود وكل بيت إسرائيل يلعبون بفرح ورقص يعزفون بكل أنواع آلات الطرب أمام الرب، بالرباب والدفوف والصنوج والجنوك (الجنك آلة موسيقية لها طوق من نحاس فيه ثقب، وبالثقب أسلاك معدنية تمتد من جانب إلى جانب، وللطوق مقبض يمسك باليد لتتحرك الأسلاك حيث الثقب واسع[35]).

٢. ضرب عُزَّة:

تحرك الموكب حتى بلغ بيدر ناخون أو كيدون (١ أي ١٣: ٩)، عند موضع دراسة غلال رجل يُدعى ناخون أو نكون أو كيدون. هناك انشمصت الثيران، أي ذعرت وأخذت تركض وترفس، فمدّ عُزة يده إلى تابوت الله وأمسكه كي لا يسقط، فضربه الله هناك ومات.

لماذا أماته الرب؟ أما تُحسب هذه قسوة في التأديب؟

أ. كان يجب أن يُحمل التابوت على أكتاف اللاويين لا على عجلة. لقد سمح الله للوثنيين أن يضعوه على عَجلة جديدة تجرها بقرتان، إذ كانت ترمز لكنيسة العهد الجديد الحاملة لشخص المسيح في داخلنا بكونه رأسها، تضم الكنيسة شعبين: من اليهود ومن الأمم. لم يكن الوثنيون في ذلك الوقت قد تهيأو لحمل تابوت العهد، إذ لا شركة بين الله وبليعال (٢ كو ٦: ١٤). أما بنو قهات فكانوا يمثلون جماعة المؤمنين الذين تأهلوا ليكونوا سماءً ثانية يحملون الله في داخلهم، لذلك كان يلزمهم أن يُصروا على التمتع بحقهم في حمل التابوت دون العَجلة الجديدة.

الله لا يطلب عجلة جديدة ولا تقدمات هذا العالم بل الأكتاف الداخلية المقدسة التي تصير كالشاروبيم تحمل الله. الله يُريد قلوبنا لا إمكانياتنا.

ب. كان يجب على عُزَّة أن يعرف الناموس، خاصة وأن التابوت وُجد في بيت أبيه وجدّه لمدة حوالي ٧٠ سنة، وأنه لا يليق لمسه. قيل: "لا يمسّوا القدس لئلا يموتوا" (عد ٤: ١٥).

ج. ربما اعتاد عُزَّة أن يمد يده إلى التابوت بغير وقار، وقد تجاسر بالأكثر حين فعل ذلك علانية أمام كل الجماعة.

د. أراد الله تأكيد الحاجة إلى "مخافة الرب" جنبًا إلى جنب مع "الحب الإلهي"، كي يعيش داود وكل الشعب في مخافة ووقار مع حب ودالّة.

لقد كان الدرس قاسيًا لكي يتعلم الجميع منه، وذلك كما حدث مع حنانيا حين كذب على الرسل (أع ٥: ٥). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عوقب ذلك الإنسان (حنانيا) وانتفع الغير بذلك... عُوقب عُزَّة فقع خوف على الكل[36]].

اغتاظ داود لأن فرح الجماعة تحول إلى حزن وخوف، ولأن ارتباكًا ملأ الجميع واضطر الكل أن ينصرفوا... وخاف داود أن ينتقل التابوت إلى مدينته قبل التيقن من سر غضب الله على عُزَّة.

مال داود بالتابوت إلى بيت عوبيد آدوم الجتي، غالبًا من جت رمون في نصيب دان في الجنوب (يش ١٩: ٤٥) أعطيت لبني قهات (يش ٢١: ٢٤). كان عوبيد آدوم (إسمه يعني "آدوم يعبد") من القورحيين من نسل قهات (عد ١٦: ١)، تمتع ببركة بقاء التابوت في بيته لمدة ثلاثة أشهر.

نود هنا أن نشير إلى أن داود لم يستشر الرب عدنما رغب في نقل التابوت إلى مدينته، مع أنه اعتاد أستشارته في كل صغيرة وكبيرة، حاسبًا أن هذا الأمر يُسرَّ به الرب قطعًا ولا حاجة إلى طلب مشورته، أو ربما أن شدة فرحه بنقل التابوت ورغبته في نوال البركة الإلهية أفقداه التفكير في ذلك. لو أنه استشار الرب، لكشف له خطأ نقل التابوت على عجلة... وبالتالي ما كان قد مات عُزَّة، ولما تحول فرح الشعب إلى حزن ورعب.

لقد أدرك داود النبي أن موت عُزَّة لم يكن لمجرد لمسه للتابوت وإنما وراء هذا اللمس وُجد عصيان وفساد، لذلك وضع المزمور ١٥ حيث يقول:

"يارب من ينزل إلى مسكنك (خيمتك)؟!

من يسكن في جبل قدسك؟!

السالك بالكمال، والعامل الحق، والمتكلم بالصدق في قلبه...".

٣. إحضار التابوت إلى أورشليم:

قَبِل عوبيد آدوم تابوت العهد في بيته بوقار وخشوع لذلك بارك الرب بيته (١ أي ١٣: ١٣-14؛ ٢ صم ٦: ١٢)، وبارك كل ما له، لذلك فكر داود النبي في إحضاره إلى أورشليم كما ورد ذلك بالتفصيل في (١ أي ١٥).

كلما ساروا ست خطوات ذُبح ثور وعجل (أي كبش) معلوف، وذلك سبع مرات (١ أي ١٥: ٢٦). في كل مرة إذ يعبرون ست خطوات يقدمون ذبيحة شكر لله الذي أعانهم ولم يصبهم ما حل بعُزّة.

ارتدى داود أفودًا من الكتان، كانت تُلبس تحت الجبة، إذ لم يكن ممكنًا له أن يرقص وهو يرتدي الجبة. لقد كانت الجبة علامة العظمة أما الأفود الكتانية فعلامة النقاوة؛ وكأن داود قد خلع كل مظاهر الأبهة لكي يعلن في اتضاعه عن نقاوة داخلية وعن تهليله بحضرة الرب.

لقد رقص داود أمام التابوت معبرًا بذلك عن أعماقه الداخلية التي تهتز في تهليل أمام الرب، لكننا لم نسمع عن صموئيل النبي أنه فعل ذلك ليس لأن الأخير لم يكن متهللاً في أعماقه إنما كل مؤمن يعبر عن حبه وفرحه بما يناسب ظروفه. لذا يقول القديس أمبروسيوس: [رقص داود أمام التابوت وأما صموئيل فلم يرقص. داود لم يُلَم ومُدح صموئيل[37]].

عبّر الطوباوي داود عن فرحه بالتابوت في مزموره الثلاثين (٢٩ حسب الترجمة السبعينية)، جاء فيه:

"لأن للحظة غضبه، حياة في رضاه.

 عند المساء يبيت البكاء و في الصباح الترنم.

  حولت نوحي إلى رقص لي.

 حللت مسحي ومنطقتي فرحًا.

 لكي تترنم لك روحي ولا تسكت.

 يارب إلهي إلى الأبد أحمدك" (مز ٣٠: ٥-١١).

كشفت هذه العبارات العجيبة عما في أعماق قلب داود من فرح وتهليل، مصدره ليس فقط الأحداث التي عاش فيها بنقله التابوت إلى مدينته وإنما أيضًا وبصورة أعظم لحلول المسيَّا المخلص نفسه في نفس مدينة النفس الداخلية، أو سكنى الرب في القلب لإقامة ملكوته داخلنا (لو ١٧: ٢١).

يقول داود المرتل: "لأن للحظة غضبه، حياة في رضاه" مشيرًا إلى الغضب الإلهي الذي تحقق إلى لحظة عندما سقط عُزَّة ميتًا أمام التابوت لأنه تجاسر فلمسه، كان ذلك للحظة، لكن خلال هذا التابوت تمتع الشعب بالحياة إذ نالوا رضى الله. كان ذلك رمزًا لما حدث مع رب المجد يسوع عندما حمل الغضب الإلهي على الصليب إذ قيل "إما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. أن جعل نفسه ذبيحة إثم... حمل خطية كثيرين" (إش ٥٣: ١٠، ١٢)؛ كما إلى لحظة غضبه إذ وُضع إثمنا عليه، لكنه قام فأقامنا معه واهبًا إيانا الحياة في رضاه.

ما حدث مع عُزّة كان كما عند ظلام المساء، وما تحقق مع داود في نقله التابوت كان كما في نور الصباح: "عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح الترنم". تحقق ذلك بقوة عندما أسلم الرب الروح على الصليب فحل البكاء في المساء، لكن في فجر الأحد تهللت الكنيسة بقيامته لتبقى تنعم بالحياة المقامة فيه.

يقول داود المرتل: "حولت نوحي إلى رقص لي"... فقد ناح داخليًا عندما مات عُزّة وارتبك للغاية، لكنه رقص في أعماقه كرقصات يوحنا المعمدان في أحشاء أمه اليصابات عندما أدرك المسيح المتجسد في أحشاء البتول مريم. رقص داود أمام التابوت لأنه رآه رمزًا للمسيح القادم إلى العالم، ليحل بين البشرية ويرد لهم الحياة بعد الموت، والفرح عوض النوح.

يقول "حللت مُسحي ومنطقتي فرحًا"؛ إن كان قد خلع جبة العظمة وتمنطق ليرقص أمام التابوت، فإنه في ذلك رمزًا لخلعه أعمال الإنسان العتيق أو الطبيعة الفاسدة لينعم بمِنطقة الفرح أو الإنسان الجديد أو تجديد الطبيعة الإنسانية.

هكذا في المزمور الثلاثين يربط المرتل داود بين فرحه بتابوت العهد ورقصه أمامه وبين تهليله بمجيء المسيَّا مخلص العالم ومجدد الطبيعة البشرية خلال تمتعها بقيامته فيها. يقول القديس إغسطينوس في شرحه للمزمور: [إنه مزمور فرح القيامة والتغيير وتجديد الجسد إلى حالة الخلود، ليس فقط بالنسبة للرب إنما أيضًا لكل الكنيسة[38]]. كما يقول: ["حللت مُسحي ومنطقتي فرحًا". حللت حجاب خطاياي، حزن موتي، ومنطقتني بالثوب الأول، بالفرح الخالد[39]].

لقد وضع داود النبي مزمورًا خاصًا بالإحتفال بقدوم تابوت العهد إلى مدينته، افتتحه بالصيغة التقليدية التي كانت الجماعة ترددها كلما نصبوا الخيمة: "يقوم الله. يتبدد أعداؤه، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه (مز ٦٨: ١؛ عد ١٠: ٣٥). عبَّر هذا المزمور بقوة عن بركات حلول الله في وسط شعبه كسرّ فرح وتهليل (مز ٦٨: ٣-٤)، ورعاية واهتمام لشعبه خاصة اليتامى والأرامل بكونه أبا اليتامى وقاضي الأرامل (مز ٦٨: ٥)، مُشبع احتياجات المساكين (مز ٦٨: ١٠)، واهب الخلاص (مز ٦٨: ١٩) والقوة والشدة (مز ٦٨: ٣٥). إنه كنار يبدد الشر كالشمع قدامه ويذريه كدخان (مز ٦٨: ٢)، أمامه ترتعد الأرض (مز ٦٨: ٦) ويهرب الملوك (مز ٦٨: ١٢).

وضع أيضًا المزمور ٢٤ ليعلن أن بهجته الشديدة بتابوت العهد لا تعني حصر سكنى الرب في موضع معين، إنما هو رمز لرعاية الرب للبشرية كلها، إذ يقول: "للرب الأرض وملؤها؛ المسكونة وكل الساكنين فيها" (مز ٢٤: ١) الخ... في ختام هذا المزمور الرائع يرى داود النبي في دخول التابوت إلى أورشليم صورة رمزية لصعود السيد المسيح إلى أورشليم العليا بعد نصرته في معركة الصليب، إذ يقول:

"ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد.

 من هو ملك المجد؟

 الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال... رب الجنود هو ملك المجد" (مز ٢٤: ٧-١٠).

٤. احتقار ميكال لداود:

أُدخل التابوت إلى مدينة داود، وهي القسم الأعلى من الجنوب الغربي لأورشليم حيث يوجد الحصن الذي استولى عليه داود من اليبوسيين، هناك وُجد بيت داود وأيضًا مسكن التابوت حتى انتقل إلى الهيكل الذي بناه سليمان.

كانت ميكال تحب داود (١ صم ١٨: ٢٠)، أنقذته من يد أبيها (١ صم ١٩: ١٣)، لكن شاول أعطاها لفلطيئيل زوجة، ثم أُعيدت ثانية إلى رجلها الأول داود... لكنها لم تكن قادرة أن تشاركه حبه لله وغيرته وإيمانه. لذا رأت في خلعه لجبته الملوكية ورقصه أمام التابوت نوعًا من السفاهة. استقبلته باحتقار قائلة له: "ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حين تكشَّف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشَّف أحد السفهاء" [٢٠].

ما أبعد الفارق بين داود وميكال؛ الأول انسحب بكل كيانه الداخلي ليرى خلال التابوت تجسد الكلمة وحلول المسيا بين شعبه وتقديم عمله الخلاصي، أما ميكال فتعلق قلبها بالجبة الملوكية التي خلعها داود فرأته سفيهًا وعاريًا كما قالت له!!!

يبدو أن ميكال كانت تنتظر من رجلها كملك أن يبقى في قصره ويأتي إليه الكل يهنئونه بوصول التابوت، لا أن ينزل من القصر ويخلع جبته الملوكية ويرقص أمام التابوت في حضرة الجماعة. ميكال تمثل الأنا القابعة في داخل النفس، المتقوقعة والمغلقة، تطلب ما للأنا، ولا تنفتح على الله والناس، لذا أصيبت بعمى البصيرة الداخلية وتحجر القلب وفقدان الحس الداخلي تجاه العمل الإلهي الفائق. أما داود الطوباوي فيمثل النفس التي تخلع حب العظمة الزمنية، وتنفتح بالاتضاع المملوء حبًا نحو الله والناس، فتتحول عن مسوح الحزن إلى منطقة الفرح، وتعبر من بكاء المساء إلى فرح صباح القيامة!

بحضور التابوت قدمت محرقات وذبائح سلامة (لا ١: ٣)، وكان تجسد الكلمة غايته ذبيحة الصليب التي هي موضع سرور الآب والقادرة على خلاصنا.

بارك داود الشعب وأعطى كل واحد رغيف خبز وكأس خمر وقرص زبيب. رغيف الخبز يشير إلى وحدة الكنيسة وتبادل الحب بين أعضائها إذ تجتمع الحنطة معًا في رغيف خبز؛ وكأس الخمر يشير إلى شركة الفرح بالروح، أما قرص الزبيب فيشير إلى عذوبة الكنيسة وحلاوتها باتحادها[40].

لم ينس داود بيته فجاء يباركه، لكن ميكال انتهرته. أما هو ففي حزم وبخها على نظرتها غير الإيمانية.

يُختم الأصحاح بالقول بأنه لم يكن لميكال ولد من داود، وكان ذلك عارًا في العهد القديم، علامة غضب الله، إذ تترقب كل مؤمنة أن يأتي المسيا من نسلها. فعقر ميكال ربما كان ثمرة تمردها على الرب ولكبريائها.

<<  

 

 

 


 

الأصحاح السابع

اشتياق داود لبناء بيت الرب

شعر داود النبي والملك بإحسانات الرب إليه فأراد أن يبني له بيتًا، إذ حسب أنه ليس من اللائق أن يسكن هو في بيت من الأرز بينما يسكن تابوت العهد في خيمة من الشقق.

١. رغبة داود في بناء بيت الرب     [١-٣].

٢. ابن داود يبني البيت                [٤-١٧].

٣. داود يشكر الله                    [١٨-٢٩].

١. رغبة داود في بناء بيت الرب:

لم يتبع الكاتب التسلسل الزمني، إذ أراد الكشف عما ورد في قلب داود النبي والملك من جهة بناء بيت للرب عوض الخيمة مباشرة بعد ذكره إحضار التابوت إلى مدينة داود، بينما ما جاء هنا غالبًا ما تحقق بعد الحرب التي وردت في الأصحاح التالي. لقد قيل هنا: "وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه" [١].

بلا شك ظهر هذا الفكر في أعماق داود النبي عندما بدأ في بناء بيته، وربما اشتهى أن يبني بيت الرب قبل بيته، حاسبًا الله أولاً في كل أمور حياته. هذا الفكر تزايد بالأكثر بعدما أُحضر التابوت إلى مدينته، لكنه لم يتحدث مع ناثان النبي إلا بعدما استراح من الحروب، قاصدًا أن يبني بيتًا ضخمًا جدًا يحتاج بناؤه إلى إزمنة سلام، أي إلى تفرغ للبناء دون ارتباك بالحروب.

كان ناثان نبيًا أمينًا لله وللملك وله وقاره الخاص، قام بحزم وشجاعة لكنه في أدب بتوبيخ الملك عندما ارتكب الخطية مع امرأة أوريا الحثي (١٢: ١-١٥). قام هو وجاد الرائي بترتيب خدمة بيت الرب (٢ أي ٢٩: ٢٥). عمل مع بثشبع على إقامة سليمان ملكًا (١ مل ٨-٤٥).

وافق ناثان في البداية على طلب داود الخاص ببناء بيت للرب، إذ حسبه طلبًا صالحًا ولائقًا، لكنه إذ استشار الرب أجابه ألا يعمل ذلك بل يترك الأمر لإبنه من بعده.

٢. ابن داود يبني البيت:

يبدو أن الله تحدث مع ناثان خلال رؤيا الليل [٤، ١٧]، وقد رفض الله أن يبني داود بيتًا مقدمًا له هذا التعليل بأن الله لم يسكن في بيت منذ إخراجه للشعب من مصر، ولا طلب ذلك منهم. إنه ليس إنسانًا يحتاج إلى بيت (إش ٦٦: ١). أكد الله ذلك لئلا يظن شعبه أنه حقق لهم انتصارات لأجل إقامة هيكل عظيم له، ولكي لا ينشغلوا ببيت الله فيما بعد كمبنى عظيم. هم أنفسهم بيته الحيّ، يود أن يسكن في وسطهم معلنًا حضوره الدائم فيهم خلال الحياة المقدسة. هذا ما كشفه العهد الجديد بأكثر وضوح. عندما طلب التلاميذ من السيد المسيح أن ينظر الأبنية العظيمة التي للهيكل. أكَّد لهم أنه لن يبقى حجر على حجر إلا وينقض (مت ٢٤: ١-٢)؛ كما تحدث عن الهيكل بكونه هيكل جسده هو الذي ينقضه اليهود على الصليب ليقوم في اليوم الثالث (يو ٢: ١٩-٢٢) واهبًا إيانا الحياة المقامة خلال اتحادنا معه. حدثنا أيضًا القديس بطرس عن الهيكل الحيّ الذي يقوم بحجارة حية هي جماعة المؤمنين (١ بط ٢: ٥).

سبق أن تحدثنا في كتاب "الكنيسة بيت الله" عن ارتباط المبنى الكنسي بالحياة الداخلية، حيث استعرضت مقتطفات لكلمات العلامة أوريجانوس، جاء فيها:

[أهِّلني يارب يسوع المسيح أن أساهم في بناء بيتك... 

إني أتوق أن أقدم ذهبًا للغطاء (خر ٢٥: ١٧)، أو لتابوت العهد أو للمنارة أو للسرج! ...

هلم نبني خيمة إله يعقوب يسوع المسيح ربنا، ونزّينها[41]].

[ليكن للنفس مذبح في وسط القلب، عليه تُقدم ذبائح الصلاة ومحرقات الرحمة، فَتُذبح فوقه ثيران الكبرياء بسكين الوداعة، وتُقتل عليه كباش الغضب وماعز التنعم والشهوات...

"لتعرف النفس كيف تقيم داخل قدس إقداس قلبها منارة تضئ بغير انقطاع[42]].

إن ما يمجّد الله ليس في المباني المادية الضخمة، بل في النفوس الحية التي أقامها السيد المسيح من الأموات، وتعلن حضوره في وسطها وملكوته في داخلها. لذلك أبرز الله معاملاته مع داود كيف أقامه الله من المربض من وراء الغنم ليصير رئيسًا لشعبه، كيف كان معه أينما وُجد واهبًا له النجاح والغلبة. وكأنه مع كل نصرة روحية وكل نجاح داخلي يُعلن بيت الرب المجيد فينا.

على أي الأحوال، لم يحرم الله داود سؤال قلبه، إنما وعده بتحقيق ذلك خلال ابنه الذي يخرج من أحشائه، مقدمًا تبريرًا لذلك كما جاء في (١ أي ٢٢: ٨). بأن داود سفك دمًا كثيرًا وعمل حروبًا عظيمة، لذلك يليق بناء بيت الرب في أيام سليمان حيث تكون أيامه سلامًا.

الذي يقيم بيت الرب هو سليمان، وكان رمزًا للسيد المسيح ابن داود حسب الجسد الذي أقام كنيسة العهد الجديد بيتًا روحيًا يسكنه الثالوث القدوس.

يقول القديس أغسطينوس:

[من يظن أن هذا الوعد العظيم (٧: ١٢-١٦) قد تحقق في سليمان يخطئ خطأ عظيمًا، إذ يسمع القول "هو يبني لي بيتًا" لكنه لا يسمع للقول: "بيته يبقى أمينًا وتكون مملكته أمامي إلى الأبد". ليته ينصت ويتأمل بيت سليمان المملوء نساءً غريبات يتعبَّدن لآلهة غريبة، بل والملك نفسه الذي كان حكيمًا خُدع بواسطتهن وسقط في عبادة الأوثان نفسها. ليته لا يتجاسر أحد فيظن أن الله قد وعد بذلك باطلاً أو أنه كان غير قادر أن يعرف ما سيكون عليه سليمان هذا وبيته.

إذن، يليق بنا ألا نشك في أن هذه الأمور قد تحققت في المسيح ربنا الذي جاء من نسل داود حسب الجسد (رو ١: ٣)، لئلا تكون نظرتنا هنا باطلة مثل اليهود الجسدانيين الذين يدركون أن الابن المذكور هنا والموعود به لداود ليس سليمان ومع ذلك فبعماهم العجيب عن الموعود به (المسيح) والمعلن عنه يقولون إنهم ينتظرون آخر.

حقًا لقد ظهرت في سليمان صورة لما حدث فيما بعد، إذ بنى الهيكل وكان له سلام كاسمه (لأن سليمان يعني سالم)، وكان في بداية حكمه مستحقًا للمديح بطريقة عجيبة، بينما أظهر المسيح ربنا – بكونه ظلاً له – لكنه لم يماثله في شخصه[43]].

جاء في الوعد الذي قدمه الله لداود أن ابنه يقوم ببناء البيت الآتي:

أ. "أثبت كرسي مملكته إلى الأبد" [١٣]. لقد ملك سليمان أربعين سنة، أما نسله فملكوا حتى نهاية المملكة. السيد المسيح هو الذي ليس لملكه نهاية (مز 89: ٢٧، ٣٦، ٣٧). لقد سقطت مظلة داود (عا ٩: ١١)، أما مملكة المسيح فلن تسقط أبدًا.

جاء في عنوان المزمور ٧٢ أن سليمان يملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقصى الأردن، سليمان هذا رمز للسيد المسيح الذي ملك من النهر أي خلال الأردن، مياه المعمودية، حيث يقيم مملكته في قلوب المعمدين كأعضاء جسده الخاضعة للرأس.

ب. "أقيم بعدك نسلك ..." [١٢] يرى القديس أغسطينوس أن سليمان ملك أثناء حياة داود، قبل موته، لهذا فالوعد في جوهره ينطبق على غيره، على المسيح الذي بنى الهيكل الروحي (١ كو ٣: ١٧).

يقول أيضًا الأب لاكتانتينوس: [تسلم سليمان المملكة من أبيه نفسه بينما تحدث الأنبياء عمَّن (يبني البيت) أنه يولد بعد أن يرقد داود مع آبائه. هذا ولم يكن حكم سليمان أبديًا، إذ ملك لمدة أربعين سنة. ثانيًا لم يُدع سليمان قط ابن الله بل ابن داود، والبيت الذي بناه لم يثبت على الدوام مثل الكنيسة التي هي الهيكل الحقيقي لله، هذه التي لم تُبن من حوائط بل من القلوب (١ بط ٢: ٥) بإيمان الذين آمنوا به وقد دُعوا مؤمنين. أما هيكل سليمان فبُني باليد وهُدم باليد. أخيرًا تنبأ في المزمور ١٢٦ عن عمل ابنه (حسب الجسد): "إن لم يبن الرب البيت فباطلاً تعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً سهر الحراس"[44]].

ج. هيكل الله ليس هيكل سليمان الذي هدمه نبوخذنصَّر بل جسد المسيح (يو ٢: ١٩-٢١) الذي حل بيننا وصعد إلى السماء ليقيمنا فيه أبديًا، به صرنا شركاء الطبيعة الإلهية (رؤ ٢١: ٣).

د. "أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا" [١٤]. صار سليمان كابن لكنه تعوَّج واحتاج إلى تأديب، إما السيد المسيح فهو الابن الأزلي الذي وهبنا فيه البنوة، خلاله لا تنزع عنا الرحمة الإلهية، لكننا إن أخطأنا يؤدبنا بقضيب الناس وبضربات بني آدم [١٤].

يقول القديس أغسطينوس: [بالنسبة للمسيح نفسه الذي هو رأس الكنيسة لا يمكن أن يوجد فيه أية خطية تحتاج إلى تأديب إلهي بتصحيحات بشرية [١٤]... إنما توجد في جسده وفي أعضائه الذين هم شعبه. لذلك ما قيل في سفر صموئيل "إن هو (تعوَّج)" جاء في المزمور (٨٩): "إثم بنيه"، ("إن ترك بنوه شريعتي" (مز ٨٩: ٣٠)[45]).

نختم حديثنا عن الوعد الإلهي لداود ببناء بيت الرب بيدي ابنه بالملاحظات التالية:

أ. الله في حديثه يقول: "هل تكلمت بكلمة إلى أحد قضاة إسرائيل الذين أمرتهم أن يرعوا شعبي إسرائيل قائلاً: لماذا لم تبنوا لي بيتًا من الأرز؟!" [٧]. كأن بناء بيت الرب المفرح له هو رعاية شعبه والاهتمام بهم، يسيرون مع شعبه ويحامون عنه ويعتنون به كما يعتني الراعي بقطيع غنمه.

ب. لئلا يظن داود أن عدم بنائه للبيت يقلل من مركزه لدى الله قال ليوناثان: "هكذا تقول لعبدي داود" (٨: ٧). كأن الله ينسب نفسه لداود شخصيًا، علامة الاعتزاز به.

ج. عدم بناء البيت إلى عصر سليمان لا يعني رفضه شعبه، إذ يهتم هو بهم وعيّن لهم حتى أرضهم: "عينت مكانًا لشعبي إسرائيل وغرسته، فسكن في مكانه ولا يضطرب بعد ..." [١٠]... هكذا هو بيت الرب الثابت: قدسيّة حياة مؤمنيه.

٣. داود يشكر الله:

جلس داود غالبًا على الأرض وأحنى رأسه أمام الرب ليشكره من أجل هذا الوعد الذي أنعم به عليه قائلاً:

"من أنا يا سيدي؟! وما هو بيتي؟! حتى أوصلتني إلى هنا؟!" [١٨]. لقد أدرك أنه ليس عن استحقاق شخصي ولا عن كرامة لبيت أبيه نال هذا الوعد الإلهي، إنما هو نعمة إلهية فائقة جاءت به إلى كرسي المُلك ليكون في حضرة الرب ينعم بسكناه وحلوله معه وسخاء نعمه عليه.

ما أحوجنا أن نجلس في هدوء داخلي أمام الرب نسمع مواعيده المفرحة ونتحدث معه، مدركين عظمة عطيته المجانية، فقد أقامنا معه من الفساد وجعلنا له ملوكًا وكهنة، وحسبنا أبناء له ننعم بشركة أمجاده.

"وبماذا يعود داود يكلمك وأنت قد عرفت عبدك يا سيدي الرب" [٢٠]. شعر داود بالخجل أن يتحدث مع الله الذي يعرفه تمامًا؛ يعرف ضعفات داود وخطاياه ومذلته كما يعرف محبته وغيرته وجهاده وصبره... ليس شيء مخفيًا عن الله.

"فمن أجل كلمتك وحسب قلبك فعلت هذه العظائم كلها لتعرف عبدك" [٢١]. ما تقدمه من عطايا فائقة ليس من أجل برّ ذاتي في الإنسان وإنما من أجل وعدك الإلهي، وكلمته الثابته إلى الأبد، حسب محبتك السرمدية تقدم المواعيد العظمى لعبدك.

من أجل وعده لشعبه أَعطى داود هباتٍ كثيرة، فقد ثبَّت الله لنفسه شعبًا يفتديه بكونه إلهم الذي يتمجد فيهم. من أجل الكنيسة المقدسة التي تحمل اسم المسيح يمنح أسراره الفائقة لمؤمنيه.

يختم داود صلاته بطلب البركة: "فالآن ارتض وبارك بيت عبدك ليكون إلى الأبد أمامك، لأنك أنت يا سيدي الرب قد تكلمت، فليُبارك بيت عبدك ببركتك إلى الأبد" [٢٩]. هذه هي البركة، أن يكون الإنسان أمام الله على الدوام.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثامن

انتصارات داود المستمرة

لم يكن داود منشغلاً بمجده الذاتي ولا باتساع رقعة مملكته وإنما كان مهتمًا بملكوت الله، لهذا لم يسعَ نحو إخضاع الأسباط تحت سلطانه إنما كان مشغولاً بخدمة الجميع ورعايتهم بكونهم شعب الله. الآن دخل داود النبي في حروب كثيرة وتكررت العبارة" "وكان الرب يخلص داود حيثما توجه" [٦، ١٤]. حصل على هدايا وغنائم كرَّسها لخدمة بيت الرب.

كإنسان حكيم مهتم بملكوت الله لم تشغله الحروب الخارجية عن الاهتمام بتدبير أمور مملكته الداخلية بحكمة واتزان.

١. نصرته على الأمم المحيطة       [١-٨].

٢. توعى يقدم له هدايا               [٩-١٠].

٣. تقديس الهدايا والغنائم             [١١-١٤].

٤. تدبير أمور المملكة الداخلية       [١٥-١٨].

١. نصرته على الأمم المحيطة:

كانت حروب داود النبي ضد الأمم الوثنية التي انجرفت تمامًا في الرجاسات مع العنف والقسوة، تشير إلى جهاد المؤمن ضد الخطية بكل رجاساتها وعنفها.

لقد ضرب داود:

أ. الفلسطينيين: "أخذ زمام القصبة من أيدي الفلسطينيين" [١]؛ أي أخذ جت وقراها، بكونها قصبتهم وزمام دولتهم المتسلطة على يهوذا ودان، إذ كانت جت على تخم يهوذا وبالقرب من دان.

جاءت الكلمة العبرية لزمام القصبة Meth-eg-ammah، تعني حرفيًا "لجام الأمة"، إذ كانت جت عاصمتهم تمثل من يمسك بلجام يحرك إسرائيل كيفما شاء. لقد أمسك داود بهذا اللجام وقبض عليه في يده ليستخدمه للتحكم فيهم عوض تحكمهم هم فيه.

ب. الموآبيين: سبق أن أودع داود والديه لدي ملك موآب (١ صم ٢٢: ٣-٤)، لسنا نعرف متى تحولت هذه الصداقة إلى عداوة لتستمر بعد ذلك. ربما كان موآب يسند داود عندما كان شاول يقاومه، يهدف بذلك إلى مقاومة شاول كملك رسمي، لكن إذ صار داود ملكًا واتحدت الأسباط معًا تحت قيادته واستقرت مملكته ثار موآب ضده.

ضرب داود المدينة، قتل الثلثين، واستبقى الثلث يدبرون أمورهم الداخلية مقابل دفع جزية (تقديم هدايا). وقد تحققت نبوة بلعام: "يقوم قضيب من إسرائيل فيُحطم طرفي موآب" (عد ٢٤: ١٧).

بقى موآب يدفع الجزية حتى موت آخاب حيث ثار ملك موآب ضد إسرائيل وعصاه (٢ مل ٣: 3-٤).

ج. السوريين أو الآراميين: كانت آرام تضم في الشمال مملكتين عظيمتين متمايزتين: آرام صوبة (عاصمتها صوبة يظن البعض أنها حمص) تسيطر على عدة ملوك؛ وآرام النهرين (عاصمتها دمشق).

بدأ داود بمحاربة هدد (هدر) عزر ملك آرام صوبة. كانت صوبة[46] في أيام شاول وداود وسليمان مملكة آرامية قوية غرب الفرات. امتد سلطانها يومًا إلى حدود حماة إلى الشمال الغربي (١ أي ١٨: ٣؛ ٢ صم ٨: ١٠) وكانت دمشق إلى جنوبها أو إلى الجنوب الغربي منها، لأن إحدى مدنها بيروثاي كانت تقع بين حماة ودمشق.

ضربه داود من الغرب في حماه (١ أي ١٨: ١٣)، من الوراء، فجاء ملك آرام دمشق لنجدته فضربه داود (يرى البعض أن آرام دمشق هي ذاتها آرام النهرين، موقعها فدان آرام حيث عاش الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب).

بضرب داود آرام صوبة وآرام دمشق حطم كل ممالك آرام العظيمة؛ ولكي لا تتجمع جيوشهم ثانية لمحاربته أقام محافظين في صوبة ودمشق، وألزمهم بدفع جزية (تقديم هدايا).

استولى داود على أتراس الذهب (مطلية بالذهب)، وهي أتراس حراس الملك، وجاء بها إلى أورشليم. كما جاء بنحاس كثير جدًا من مدينتي هدد "باطح" و "بيروثاي" وهما طبحة وخون (١ أي ١٨: ٨)، الأولى ربما تكون هي طبحة التي بين حلب والفرات (باطح تعني ثقة)[47]، أما الثانية فيرى البعض أنها بيروت، بينما يرجح آخرون أنها قرية بريتان على بعد ٦ أميال جنوب غربي بعلبك (بيروثاي تعني "آبارًا")[48].

استخدم سليمان الحكيم النحاس الذي أُخذ من هاتين المدينتين في صنع بحر النحاس والأعمدة والآنية النحاسية.

ترنم داود النبي بالمزمور الستين عندما حارب آرام صوبة وآرام النهرين (دمشق) وغلبهما. يعلن القديس أغسطينوس على عنوان المزمور قائلاً: [إنه حمل روحًا نبويًا، إذ يعلن ما لم نجده في التاريخ ليكشف لنا خلال الرمز ما سيحدث مستقبلاً[49]].

عنوان المزمور كما جاء في الترجمة السبعينية هو:

(إلى الذين لا زالوا يتغيرون.

إلى نصب تذكاري منقوش، لأجل داود،

للتعليم،

عندما حرق المصيصة السريانية (ما بين النهرين، آرام النهرين Mesopatamaia وصوبة السريانية (آرام صوبة).

  فرجع يوآب وضرب من آدوم في وادي الملح اثنى عشر ألفًا).

يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا لهذا العنوان موجزه الآتي (بتصرف):

v   إن المزمور كتب من أجل الذين يغير المسيح (ابن داود) حياتهم لأجله هو... كأن السيد المسيح هو الذي يغير حياتنا ويجددها، وغاية هذا التغير هو أن نتعلم أن نلتقي به كغاية الناموس أو الوصية أو التعليم (رو ٥: ١٠). فهو المعلم وهو المجدد وهو الغاية.

v   كيف يحدث هذا التغيير؟

أ. بحرق المصيصة Mesopatamaia (ما بين النهرين) السورية (آرام): يرى القديس أغسطينوس أن سوريا تعني "تعالٍ" و "مصيصة" تعني "دعوة". وكأنه لكي تتغير حياتنا يحرق الرب تعالينا وعجرفتنا لننعم باتضاعه. أرسل روحه القدوس الناري إلى العالم ليحرق كل فساد مجددًا طبيعتنا (في مياة المعمودية)؛ عوض أن يُدخل العالم إلى النار فيهلك أرسل ناره إلى العالم ليجدده، بحرق أعمال الإنسان العتيق ومنح الإنسان الجديد الداخلي أو الحياة الجديدة التي في المسيح. ليتنا لا نخاف نار المسيح وإن كانت تحرق فهي تحرق ما هو قديم فينا.

ب. برجوع "يوآب"؛ في رأيه أن كلمة "يوآب" معناها "عدو". وكأن المسيحي يرجع إلى ابن داود المنتصر بعد أن كان عدوًا لله... لنرجع إلى مسيحنا أحباء بعد العداوة القديمة.

ج. ضرب اثني عشر ألفًا من آدوم في وادي الملح. إن كانت "آدوم" تعني "أرضًا"، فتغييرنا يعني ما هو أرضي فينا لنحمل ما هو سماوي. كما لبسنا صورة التراب (آدم الأول) هكذا يلزمنا أن نلبس صورة السماوي (آدم الثاني) (١ كو ١٥: ٤٩).

٢. توعى يقدم له هدايا:

أرسل توعى أو توعو ملك حماة ابنه إلى داود ليسأل عن سلامته ويباركه بسبب ضربه هدد عزر، الذي كان عدوًا لتوعى. قدم الابن هدايا: آنية فضة، آنية ذهب، آنية نحاس، قدسها داود لحساب بيت الرب. هكذا قبل داود هذه الإرسالية، معلنًا أنه لا يهوى الحرب بل يطلب السلام.

٣. تقديس الهدايا والغنائم:

كان داود الملك يهيئ الطريق لسليمان ابنه لبناء بيت الرب من جانبين:

أ. إخضاع الأمم المقاومة مثل آرام النهرين وآرام صوبة وآدوم، وإقامة علاقات ودّ مع الأمم المسالمة مثل مملكة حماة... حتى يعيش سليمان متفرغًا لبناء بيت الرب في جو من السلام.

ب. إعداد الإمكانيات للبناء، إذ لم يستخدم داود الغنائم والهدايا لصالحه الخاص ولا لإثراء أسرته وسبطه وإنما قدم الغنائم مع الهدايا لحساب بيت الرب.

ميز داود النبي بين التماثيل الذهبية والآنية الذهبية؛ الأولى حرقها (٥: ٢١)  والثانية خصصها لخدمة بيت الرب. الأولى أي الأصنام تشير إلى الشر الذي يجب تحطيمه تمامًا، فإن الله ليس في حاجة إلى الذهب أو الفضة... والثانية تشير إلى تحويل الطاقات والمواهب المستخدمة للشر إلى طاقات ومواهب لحساب ملكوت الله. الله يرفض الشر ويقدس ما دنسناه خلال الشر، يكره الخطية لا الخطاة.

قيل أيضًا: "ونصب داود تذكارًا عند رجوعه من ضربه ثمانية عشر ألفًا من آدوم في وادي الملح" [١٣]. هكذا أقام نصبًا تذكاريًا يعلن تحطيمة آدوم (أي ما هو أرضي)... ما هو هذا النصب إلا صليب ربنا يسوع المسيح الذي حولنا عن الزمنيات إلى السماويات. لذلك جاء في المزمور ٦٠ الذي تغنى به داود عند ضربه آدوم وآرام: "زلزلتَ الأرضَ فََصَمْتَها، أجْبُرْ كسرها لأنها متزعزعة... على آدوم أَطْرحُ نعلي". بصليب ربنا تتزلزل فينا الأفكار الأرضية لنطأها تحت أقدامنا!

٤. تدبير أمور المملكة الداخلية:

كما نجح داود في حروبه ضد الأمم المقاومة وكسب صداقات الأمم المسالمة نجح أيضًا في الاهتمام بشئون مملكته الداخلية ورعاية شعب الله على خلاف شاول الذي كان قويًا في الحروب وفاشلاً في سياسته الداخلية.

أولاً: اهتم بكل الشعب وبالقضاء لهم بالعدل: "وملك داود على جميع إسرائيل، وكان داود يجري قضاءً وعدلاً لكل شعبه" [١٥].

جاء في المزمور ٧٢: "يدين شعبك بالعدل ومسكينك بالحق، تحمل الجبال سلامًا للشعب والآكام بالبر. يقضي لمساكين الشعوب. يخلص بني البائسين ويسحق الظالم" (مز ٧٢: ٢-٤).

ثانيا: نجح في توزيع المسئوليات على قادة يسندونه، فأقام:

أ. يوآب على الجيش.

ب. يهوشفاط بن أخيلود مُسجِّلاً يكتب أحكام الملك ويحفظها.

ج. صادوق بن أخيطوب من نسل أليعازار وأخيمالك بن أبيأثار كاهنين.

د. سرايا كاتبًا، أي وزيرًا ومفتشًا للدولة.

هـ. بناياهو بن يهو يداع رئيسًا على الجلادين والسعاة الذي يعاقبون المذنبين، وهم أيضًا حراس الملك (٢ مل ١١: ٤). الكلمة الأصلية لجلادين "كريتيون"، ربما لأن الملوك كانوا يفضلون استخدام حراس من الأجانب حتى إذا ما حدثت فتنة من الشعوب لا يتسترون عليهم بسبب القرابة.

و. بنيه (بني داود) كهنة أي شفعاء. كلمة "كهنة" هنا لا تعني ممارسة العمل الكهنوتي التعبدي وإنما عمل الشفاعة كحكام تحت يديْ داود ويعملون لحساب الشعب وخدمتهم؛ يقدمون لداود طلبات الشعب الحقيقية... لذا حسبوا ككهنة.

<<

 

 


 

الأصحاح التاسع

داود ومفيبوشث

عادة إذ يستريح الإنسان ويستقر ينسى الماضي بآلامه ويتجاهل مشاعر الغير، أما داود النبي والملك صاحب القلب الكبير فنجاحه واستقراره دفعه بالأكثر إلى بحثه عن راحة الآخرين. لقد أراحه الله من جميع أعدائه، وبعد موت شاول ويوناثان بحوالي ١٥ سنة لم ينس عهده مع يوناثان (١ صم ٢٠: ١٤-١٧)، فبدأ يسأل إن كان قد بقى أحد من بيت شاول لكي يصنع معه إحسانًا من أجل يوناثان. سمع عن مفيبوشث بن يوناثان، الأعرج الرجلين، فاستدعاه ليرد له حقول جده شاول ويقيمه ضيفًا دائمًا يأكل معه على مائدته كأحد أفراد أسرته.

١. داود يستدعي مفيبوشث [١-٦].

٢. داود يرد له حقول شاول          [٧-١٣].

١. داود يستدعي مفيبوشث:

من العادات القديمة أن يقتل الملك الجديد كل نسل الملك السابق لئلا يقاوموه ويطلبوا المُلك لأنفسهم (٢ مل ١١: ١)، أما داود النبي فأدرك أنه لم يستلم المُلك من يد إنسان بل من الله، ولأنه لم يضع قلبه على المجد الزمني بل مجد الله لذا لم يخف على كرسيه ولا طلب قتل نسل شاول، إنما على العكس إذ استقر بدأ يبحث عمن بقى من نسل شاول ليصنع معه معروفًا [١].

استُدعى صيبا عبد شاول ووكيله قبل موته، فامتثل أمام داود الملك وأخبره بأنه يوجد بعد ابن ليوناثان أعرج الرجلين [٣]، وأنه في بيت رجل غني يدعى ماكير بن عمِّيئيل في لودبار بجلعاد شرق الأردن ("ماكير" معناه "مُبتاع").

"صيبا" اسم آرامي يعني "غصنًا"[50]، كان خادمًا أو عبدًا للملك شاول. حُرر[51] ربما في وقت تغلب الفلسطينيين على شاول. وكان أبًا لعائلة كبيرة واقتني عبيدًا.

٢. داود يرد له حقول شاول:

كان داود النبي والملك نبيلاً للغاية في تعامله مع مفيبوشث، كريمًا في عطائه له:

أ. تحدث معه وهو صبي صغير السن وأعرج كإنسان معجب به، يُسر بالحديث معه، ذي كرامة... لقاء داود معه كان أثمن بكثير وأعظم من الحقول التي رُدت إليه، إذ أعطاه ما يريح نفسه الداخلية ويشبعها، الأمر الذي لا تقدر كل مقتنيات العالم أن تهبها للإنسان. هذا ما دفع القديس بولس أن يطالبنا بتقديم قلبنا (الحب) للمحتاجين قبل تقديم الأموال أو العطايا المادية. يقول الرسول: "وإن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق وليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا" (١ كو ١٣: ٣).

ب. يبدو أن مفيبوشث كان خائفًا أن يقتله الملك، لذا طمأنه داود قائلاً له: "لا تخف، فإني لأعملن معك معروفًا من أجل يوناثان أبيك" [٧]. ما زرعه يوناثان من حب خالص وأمانة في صداقته لداود يجنيه ابنه مفيبوشث بعد موت أبيه بسنوات.

ج. قدم داود حبًا عمليًا له: "أرد إليك كل حقول أبيك" [٧]، وطلب من صيبا (يبدو أنه رجل طماع وخبيث أراد فيما بعد عندما طُرد داود أن يغتصب هذه الممتلكات) أن يعمل هو وبنوه وعبيده في حقول شاول لحساب حفيده مفيبوشث.

د. أخيرًا حسبه كأهل بيته: "وأنت تأكل خبزًا على مائدتي دائمًا" [٧]... لم يحتمل مفيبوشث هذا الكرم الشديد والحب المتدفق والرقة غير المتوقعة حتى وهو أعرج" سجد وقال: من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلي؟!" [٨].

سبق أن سجد داود ليوناثان بكونه ولي العرش (١ صم ٢٠: ٤١)، وها هو ابن يوناثان يسجد لداود كملك.

داود في سخائه يرمز للسيد المسيح ، الذي يدعونا إليه لنلتقي معه كأحباء؛ ينزع عنا الخوف، ويرد إلينا ما فُقد منا (الطبيعة الصالحة التي خلقنا عليها) كما وهبنا أن نجلس على مائدته السماوية نتناول جسده ودمه المبذولين سر خلاص وتمتع بالحياة الأبدية.

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح العاشر

تآمر الرؤساء على داود

أراد داود صاحب القلب الكبير أن يصنع معروفًا مع حانون ملك عمون من أجل ما فعله أبوه ناحاش معه، لكن المشيرين أساءوا الفهم وأثاروا الملك ضده مدعين أن داود أرسل جواسيس – ولا معزين – ليقتحم المدينة، فتحالف حانون مع الملوك المحيطين به لمحاربة داود... لكن داود انتصر عليهم.

كانت هذه الحروب وأمثالها فرصة ليسجل لنا داود بعض مزاميره (مز ٢، ٢٠، ٢١، ٦٠، ١١٠) التي تنبأت عن ثورة الأمم، وتآمر الرؤساء على السيد المسيح حتى يُصلب، ويبقى الأشرار يتحالفون ضد كنيسته فيتمجد السيد المسيح في الكنيسة المضطهدة.

١. حانون يهين رسل داود                      [١-٥].

٢. الغلبة على بني عمون وملوك آرام        [٦-١٤].

٣. الغلبة على هدر وعزر                     [١٥-١٩].

١. حانون يهين رسل داود:

أساء مشيرو حانون ملك بني عمون الظن بداود إذ حسبوا أن رسله للتعزية جواسيس لاقتحام المدينة، وبمشورتهم الشريرة أثاروا حربًا عظيمة أدت إلى هلاك الكثيرين. ما أخطر إساءة الظن على حياتنا!

جاء رُسل داود إلى مدينة ربّة أو ربّة عمون. كلمة "ربة" معناها "عظيم" أو "عاصمة"[52]، وهي غير ربّة التي على جبال يهوذا (يش ١٥: ٦) القريبة من أورشليم، إنما هي ربة بني عمون القائمة عند منبع نهر يبوق، تبعد حوالي ٢٣ ميلاً شرقي الأردن. جمّلها بطليموس فلادلفوس (سنة ٢٨٥-٢٤٦ ق.م.) ودعيت فيلادلفيا تكريمًا له، اسمها الحديث عمّان، عاصمة شرق الأردن. يمر بها الطريق التجاري بين دمشق وشبه الجزيرة العربية.

استمع حانون لمشيريه الأشرار فحلق نصف لحي الرسل وشق ثيابهم... يعتبر هذا العمل عند العبرانيين إهانه عظيمة. سمع داود الملك فذهب إليهم وطلب منهم ألا يرجعوا إلى أورشليم حتى لا يخجلوا من لقائهم مع رجال البلاط. هكذا حمل داود مشاعر رقيقة، إذ يهتم بمشاعر كل إنسان ويخشى إن تُجرح!

٢. الغلبة على بني عمون وملوك آرام:

شعر بنو عمون أن إهانة سفراء داود موجهة إلى الدولة كلها، ملكًا وشعبًا، وأنه لابد أن ينتقم داود منهم، فاستأجروا آراميين من ممالك آرام وتحالفوا معهم على محاربة داود. استأجروا آراميين من بيت رحوب وصوبة ومعكة وطوب. هكذا دفعت إساءة الظن إلى حرب طاحنة بين دول وممالك كثيرة!

"بيت رحوب": إسم عبري معناه "بيت موضع رحب أو مفتوح أو بلازا"[53]. مدينة في شمال فلسطين، في وادي الأردن الأعلى (عد ١٣: ٢)، تدعى "رحوب". سكنها الآراميون (السريان)، موقعها بقرب "دان" أو "تل القاضي"، كانت في موقع "بنياس" الحالية.

"صوبة" راجع تفسير الأصحاح الثامن.

"معكة" إحدى ممالك آرام دعيت "آرام معكة" أو "سوريا معكة" (١ أي ١٩: ٦-٧)، على تخوم فلسطين الشمالي الشرقي بين أرجوب غربًا والبرية شرقًا، سكانها من سلالة ناحور (تك ٢٢: ٢٤). (إسم "معكة" معناه "غبي"[54]).

"طوب": معناها "صالح أو حسن أو طيب" [55]. منطقة تقع شرق الأردن، هرب إليها يفتاح لما حرمه إخوته من الميراث (قض ١١: ٣، ٥)، ربما هي أرض تبياس (١ مك 5: 13؛ ٢ مك 12: 7)، لعلها هي "الطيبة" التي تبعد ١٠ أميال جنوبي جدارا Gadara (حاليًا أم قيس أو مقيس).

إذ سمع داود بتحالف هذه الممالك معًا ضده لم يخف وإنما بالأكثر تمسك بوعود الله له، فاستعد للحرب متكئًا على قوة الرب نفسه، قائلاً:

"لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل.

 قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه...

 الساكن في السموات يضحك. الرب يستهزئ بهم...

إني أخبر من جهة قضاء الرب.

 قال لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك...

 فالآن أيها الملوك تعقلوا... (مز ٢).

لم يكن ممكنا لداود برجاله المشاة أن يقاوم هذه الممالك المجتمعة التي تحاربه من الجنوب (بني عمون) ومن الشمال (الآراميين) والتي خرجت بمركبات وخيل...  إنما اتكل على قوة الله، قائلاً:

"يارب بقوتك يفرح الملك، وبخلاصك كيف لا يبتهج أحد؟! (مز ٢١: ١).

"هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر" (مز 21: ١).

رأى داود خلال هذه المعركة التي طرفاها الله نفسه وقوات الظلمة أي إبليس، معركة الصليب حيث تجمعت قوات الظلمة ضد الابن الوحيد الجنس، لذا أنشد قائلاً:

"قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك" (مز 110: ١).

خرج بنو عمون واصطفوا للحرب عند مدخل المدينة، غالبًا "ربّة"، بينما كان الآراميون (السوريون) في السهل (الحقل) مقابل ميديا (١ أي ١٩: ٧) حتى يسهل تحرك مركباتهم.

لو أن يوآب جمع كل رجاله ليحارب بني عمون متجهًا نحو الجنوب لضربه الآراميون من خلف في الشمال، خاصة وأن الآراميين أكثر قوة من بني عمون. بحكمة قسّم يوآب رجاله قسمين، أخذ الجبابرة معه متجهًا نحو الآراميين بينما أخوه أبيشاي متجهًا نحو بني عمون، واتفقا معًا أنه إن ضعف طرف يسنده الآخر.

إذ كان الآراميون مستأجرين لم يستطيعوا الوقوف أمام يوآب ورجاله الأبطال، وبالتالي خاف بنو عمون وهربوا من أمام أبيشاي ودخلوا مدينة ربة قبل أن يبدأ أبيشاي بمحاربتهم. خافوا لأنهم أضعف من الآراميين. لم يلحقهم أبيشاي ولا يوآب بل عاد الاثنان مستحسنين تأجيل الحرب لمدة سنة كاملة (١١: ١).

اتفاق يوآب مع أخيه أبيشاي أن يكون كل منهما مستعدًا لنجدة الآخر يكشف عن أحد ملامح الجهاد الروحي الحيّ، وهي مساندة العضو لأخيه. لذا أوصى السيد المسيح تلميذه بطرس: "ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت إخوتك" (لو ٢٢: ٣٢). فإن كان الله هو سر نصرتنا وقوتنا يلزمنا بدورنا أن نسند الضعفاء. يقول الرسول بولس: "أسندوا الضعفاء" (١ تس ٥: ١٤).

٣. الغلبة على هدر عزر:

حاول الآراميون أن يردوا اعتبارهم وسمعتهم فتجمعوا من جديد لمحاربة رجال داود؛ وقد بعث إليهم هدر عزر ملك آرام صوبا (٨: ٣) شوبك رئيس جيشه، لكن داود غلبه وقُتل شوبك في الحرب، فخاف الملوك الخاضعون لهدر عزر وتصالحوا مع داود واستعبدوا له ولم يعودوا يساندون بني عمون بعد.

<<

 

 

 

 


 

 

 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

متاعب داود وضعفاته

 

١. داود وامرأة أوريا الحثِّي       [١١-١٢].

٢. متاعب خطية آمنون            [١٣].

٣. ثورة أبشالوم                   [١٤-١٩].

٤. ثورة شَبَع                      [٢٠].

5. مجاعة بسبب الجبعونيين       [21]

6. قصيدة داود وكلماته الأخيرة   [٢٢-٢٣].

7. الإحصاء والوباء               [٢٤].

 

 

 

 

 

 

 


 

قدم لنا الكتاب المقدس صورة واقعية لشخصية داود النبي والملك، الذي عاش بقلب منفتح نحو الله والناس منذ صُبوَّته، في نقاوة وطهارة، مشتاقًا أن يخدم الله ويمجده في جدية وبغيرة متقدة نارًا، وأن يبذل حياته من أجل الأمانة حتى في رعايته الخراف غير الناطقة. كافأه الله على هذه الحياة الجادة المقدسة واهبًا له كل نجاح حتى تعظم جدًا وكان رب الجنود معه.  

استطاع داود أن يقتل أسدًا ودبًا لينقذ خروفًا أو أكثر وأن يقتل بحجر أملس جُليات الجبار الذي يعير صفوف الشعب ويجدف على الله. واجه مقاومة شاول الملك المستمرة ومطاردته بقلب مملوء سماحة وحكمة. قبل وعود الله بصبر واتزان دون تلهف على نوال مجد واستلام المملكة. حين سقط مطارد له كشاول الملك أو منافس كمفيبوشث كان الرجلَ النبيلَ الذي لا يعرف الشماتة بل من أعماق قلبه يرثيه كرجل محبوب لديه...

هذه السيرة العطرة الفريدة من نوعها تكشفت بأعظم جلاء خلال المزامير التي أنشدها بروح الله لتبقى ذخرًا للمؤمنين وعونًا لهم في الحياة المقدسة في الرب.

الآن بعد أن صار ملكًا على كل الأسباط، واستقرت مملكته، وجاء بالتابوت إلى مدينته، في لحظة ضعف تهاون فسقط لتظهر الطبيعة البشرية بأعماق ضعفها في حياة داود العظيم. انهار هذا الجبار وانحدر بالتتالي من خطية إلى أخرى... وكان يظن أنه قادر على إخفاء هذا الضعف فإذا بها تنفضح أمامنا جميعًا عبر الأجيال بعد أن نال تأديبات مُرَّة وحلت به أحزان متوالية خلال كل بقية أيام حياته.

لم يخجل الوحي الإلهي عن تسجيل هذه السقطات في شيء من التفصيل، دون إخفاء للضعف أو تستر عليه حتى ندرك الحاجة إلى التجديد الكامل للطبيعة البشرية، بل الحاجة إلى تدخل الخالق نفسه لتحقيق هذا التجديد.

سقطات داود هي جرس تحذير يدوي عبر الأجيال لكي يتيقظ كل مؤمن وكل خادم – مهما بلغت قامته الروحية أو خبراته عبر السنوات – لئلا يسقط.

سقطات داود ملأته أحزانًا مُرّة لكن بالتوبة تحولت لمجده، فصارت سيرته ومزامير توبته سرّ قيام لكثيرين حطمتهم الخطية وهوى بهم اليأس!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الحادي عشر

سقوط داود مع بثشبع

هرب بنو عمون أمام أبيشاي ودخلوا مدينتهم الحصينة ربّة، وإذ تمت استعدادات كافية لمحاربتهم عند مدينتهم حتى لا يعودوا يمثلون خطرًا على مملكة داود، أرسل داود يوآب وعبيده للحرب حيث قاموا بتخريب مدن بني عمون وقراها وحاصروا مدينتهم الحصينة ربَّة، أما داود فأقام في أورشليم. استسلم داود للتراخي وتمشى على السطح وترك العنان لعينيه تتطلعان إلى امرأة أخيه فانحدر تدريجيًا حتى ارتكب خطايا بشعة.

١. تراخي داود              [١-٢].

٢. السقوط التدريجي        [٣-٥].

٣. علاجه البشري                    [٥-١٣].

4. تسليم أوريا للموت      [١٤-٢٥].

١. تراخي داود:

الخطوة الأولى في السقوط هي التهاون والاسترخاء. لم يسقط داود في مثل هذه الخطية (الزنا) حين كان يُجاهد في صباه وشبابه وهو يرعى الغنم، وحين عمل في البلاط الملكى لدى شاول، وحين صار طريدًا أمام الملك، وأيضًا حين كان ملكًا على سبط واحد، وحين اهتم بخلاص الأسباط جميعها، أما لآن وقد استقرت مملكته وتزايد في المجد وصار له بيت من الأرز ترك الحرب ليوآب رئيس جيشه واسترخى في بيته في أورشليم.

في وقت المساء عوض الصلاة من أجل المجاهدين قام عن سريره وتمشى على سطح البيت "فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدًا" [٢]... حياة التراخي خلقت فراغًا في القلب والحواس ليطلب الإنسان شبعًا لحواسه بجمال خارجي.

كثيرًا ما تحدث مار إسحق السرياني عن خطورة التراخي والكسل في حياة المؤمن كما في حياة القائد الروحي، فمن كلماته:

[تراخي أعضاء الجسد يتبعه هيام الأفكار وتشتيتها[56]].

[عندما يتطلع الجسد إلى الترف والأمور العالمية ويرى علل الارتخاء في كل ساعة تلتهب فيه الشهوة المحرقة[57]].

[الإهمال والرخاوة يضرَّان ليس فقط من يخضع لهما وإنما أيضًا من هم تحت قيادته[58]].

[الإنسان الذي يصير في عهدته كنز لا ينام. إنْ راعَيْنا ناموس السهر ومارسنا التمييز بمعرفة، هذه التي نجني منها ثمرة الحياة فإنه لن تقترب إلى ذهننا هجمات الأهواء بأية وسيلة[59]].

٢. السقوط التدريجي:

"فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي. فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها" [٣-٤].

كان داود قويًا، لم يسقط قط منذ صباه في الزنا، ولا قتل أحدًا بظلم، ولا مال يمينًا أو يسارًا عن الشريعة اللهم إلا في لحظات ضعف بسيطة، كيف يسقط الآن وهو ملك قوي ونبي مختار وقاضٍ عادل للشعب؟!

لعل داود لم يكن يتوقع في نفسه أنه ينحدر يومًا إلى هذا السقوط الشنيع، لكن الخطية خاطئة جدًا ومخادعة للغاية، تعرف كيف تلقي شباكها وفخاخها لتصطاد الجبابرة تدريجيًا. بدأ داود بالتراخي في أورشليم وقت الجهاد، والنوم على سرير الكسل في بيته، ثم بالمشي على السطح عوض الصلاة من أجل رجاله والانسحاق أمام الله من أجل شعبه؛ مال داود ونظر من على السطح ليرى امرأة تستحم في بيتها؛ سأل عنها إذ ربما حسبها فتاة عذراء ليتزوجها، وعرف أنها امرأة أوريا الحثي الذي يحارب من أجل مملكته، بعث إليها رسلاً وأخيرًا سقط معها!!

لقد شلت الشهوة كل تفكير جاد، فقد نسى داود الآتي:

أ. أنه مسيح الرب ونبيّه الذي نال نعمًا إلهية عظيمة؛ فلا يليق به أن يحطم قدسية حياته الداخلية في الرب.

ب. أنه في حالة حرب، وكان يليق به أن ينزل المعركة: كعادته ليبذل ويعطي بفرح من أجل مجد الله و بنيان الجماعة، لا أن يطلب ما لإشباع شهوات جسده.

ج. يغتصب امرأة متزوجة كاسرًا الشريعة التي تطلب قتل الاثنين (لا 2٠: 1٠).

د. يخون بطلاً أمينًا يدافع عن مملكته، وهو رجل غريب الجنس متهود.

هذا السقوط سرَّه التهاون بالثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش ٢: ١٥)، فإن الخطايا الكبيرة – إن صح التعبير – بدايتها إهمال صغير، وبالتدريج ينحدر الإنسان إلى سلسلة من الخطايا.

لقد كان الوقت مساءً [١١] حين قام داود عن سريره يتمشى على سطح بيته ويتطلع نحو امرأة تستحم. كان الوقت ملائمًا للسقوط، لأن "شمس البر" قد غرب عنه، وحلت الظلمة حوله فعاش كما في ليل.

مادام مسيحنا – شمس البر – مشرقًا فينا، فلن يحل بنا مساء، ولا تكتنفنا ظلمة، بل بالحري نصير أبناء نور محفوظين بنعمته من السقوط. يقول الرسول بولس: "وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة... جميعكم أبناء نور، وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة... وأما نحن الذين من نهار فلنصح لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هي رجاء الخلاص" (٢ تس ٥: ٤-٨).

ارتباطنا بمسيحنا ينير أعماقنا فلا يزحف فكر خبيث إلينا ولا يتسلل لص إلى قلبنا.

لقد تسللت شهوة شريرة إلى أحاسيس داود في المساء، جاءت كضيف – على حد تعبير ناثان النبي (١2: ٤) يُريد أن يأكل ويشبع، فأرسل داود إلى بيت أوريا الحثي يأخذ زوجته الوحيدة بثشبع، يقدمها طعامًا له. طلبها داود لإشباع شهواته مع أن له زوجاته... افترستها شهوته كما افترسته هو أيضًا!

يقول الكتاب انها "دخلت إليه" [١١]، ربما شعرت المرأة بما في قلبه فأغرته وأثارت مشاعره، إذ حسبت ذلك فخرًا لها أن يطلبها ملك عظيم... ومع هذا فإن داود لا يتبرر ولا نُسب له عذر، لأنه هو الذي أرسل يطلبها. لقد استطاع وهو صبي أن يقتل جليات الجبار ويرعب الوثنيين ويرد للشعب كرامته، وها هو أمام شهوته ينكسر في مذلة بين يدي امرأة!

يعلق القديس أغسطينوس عن سقوط داود أمام شهوته الجسدية قائلاً:

[هذا الضعف الذي للجسد يجب أن يكون موضع اعتبار. لتذكر كلمات الرسول: "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت" (رو ٦: ١٢). لم يقل: "لا تكن فيكم الخطية"، بل: "لا تملكن الخطية". توجد خطية فيك متى وجدت لذة، وتملك الخطية فيك متى وافقتها. يليق بك أن تلجم اللذة الجسدية النابعة عن مصدر غريب غير شرعي، ولا تتركها متسيبة. لتروضها متحكمًا فيها، لا أن تتركها تتحكم فيك... احذر حتى إن كان ليس فيك شيء يتحرك... هل أنت أقوى من داود؟...

هذه الخطية لم يرتكبها داود حين كان شاول يضطهده... وحين كان مرتبكًا بسبب أعدائه، هاربًا إلى أماكن متنوعة لكي لا يسقط بين أيديهم. لم يشته ما للغير، ولا قتل زوج امرأة بعد أن زنى معها. كان في ضعف من متاعبه، لكنه كان ملتصقًا بالله حينما كان يبدو أكثر بؤسًا. نافعة هي التجارب، إنها مشرط الجراح[60]].

٣. علاجه البشري:

بحسب الشريعة كانت بثشبع مستوجبة القتل (لا 2٠: 1٠)، لذلك أرسلت إلى الملك ليدبر أمر خلاصها من الموت. أرسل داود إلى رجلها يطلبه من الحرب لينزل إلى بيته، فيُحسب الحمل منه وتختفي آثار الجريمة، لكن أوريا لم يرض أن ينام في بيته مادام إخوته يجاهدون في الميدان.

لقد وبَّخ الله داود على لسان أوريا دون أن يدري، إذ قال له: "إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر" [١١]. لقد حسب أوريا أن إيمانه بالله وقدسية حياته بل وشهامته كرجل حرب بل وإنسانيته، هذه جميعها تمنعه عن أن يدخل بيته في ذلك الوقت ليأكل ويشرب بينما المعركة دائرة. حسب ذلك إهانة لله (المرموز له بالتابوت) وللشعب (إسرائيل) ولسبط الملك (يهوذا) كما لقائده (يوآب) وإخوته في الميدان (عبيد داود) إن استراح في بيته ومارس حتي ما هو شرعي بالنسبة له... إنه وقت للبذل والجهاد لا للتمتع بالحقوق الشخصية! كان هذا توبيخًا لداود فبسقوطه أهان الله وشعبه وسبطه ورجال الحرب كما أهان الصداقة وأساء إلى نفسه!

استخدم داود كل وسيلة لإخفاء جريمته، دعا الرجل حاسبًا أنه يجد في هذه الدعوة فرصة لممارسة العلاقات الجسدية مع زوجته الجميلة، وأصدر الأمر إليه أن يدخل بيته فرفض حبًا في الله وداود وشعبه وتكريمًا لإخوته في الحرب، وأخيرًا أسكره... وحتى بعد سكره لم ينزل إلى بيته [١٣].

4. تسليم أوريا للموت:

ضاق الأمر جدًا بداود الجبار فأحدرته الخطية ليسقط في سلسلة مُرَّة من الخطايا البشعة، إذ سلم بطله الأمين خطابًا يحمل رسالة خفية بقتله على يدي الأعداء دون ذنب.

استطاع داود قبلاً أن يدافع عن الحق ويحارب الوثنيين ليعيد للشعب كرامته وقدرته ولو على حساب صالحه الخاص، أما الآن فاستهان بالعدل واحتقر روح الأمانة والإخلاص مسلمًا القائد الأمين ومعه نفوسًا بريئة للموت بأيدي الأعداء لا لسبب سوى ستر فضيحته وإخفاء الحقيقة عن الأعين.

هل أدرك يوآب سر هذه الرسالة المختومة؟

ربما لم يدركها في البداية وكان عليه أن يطيع أمر سيده، لكنه قطعًا فهم ما وراءها عندما تزوج داود بامرأة الرجل بعد انقضاء فترة الحزن مباشرة. لعل يوآب أدرك – منذ البداية – أن وراء الرسالة سرًا خطيرًا، وأن أوريا سيكون ضحية هذا القرار الخفي، لأنه يموت دون محاكمة بلا دفاع من جانبه.

كانت بالنسبة ليوآب فرصة ثمينة ليحقق طلب الملك فلا يعود الملك يذله على قتله لمنافسه أبنير (٢ صم ٣). شعر داود بنوع من المذله أمام يوآب، لهذا نجد يوآب يتجاسر ويتحدث مع داود بعد قتله أبشالوم كما بسلطان (٢ صم ١٩: ٥-٨)، وقد حاول عزله من منصبه فلم يقدر فأوصى ابنه سليمان بقتله (١ مل ٢: ٥-٦).

جاء قتل أوريا ظلمًا وأيضًا بعض رجال الحرب وذلك بسبب ارتكاب خطية زنا، هكذا تلتحم القساوة والعنف والظلم مع النجاسة. فالإنسان الساقط تحت ثقل النجاسة تجده عنيفًا وقاسيًا في أعماقه حتى وإن كان له مظهر الرقة والوداعة، والإنسان العنيف في أعماقه ينهار أمام شهوة الجسد في مذلة. العنف والزنا أخوان متلازمان، يسند أحدهما الآخر. كثيرون سقطوا في شهوات الجسد لا لسبب إلا عنفهم؛ فحينما يكون الإنسان عنيفًا مع والديه أو إخوته أو أقربائه أو زملائه يشرب من ثمرة عمله فيصير جسده عنيفًا معه يقاوم كل طهارة أو عفة، وكما يقول عوبديا النبي "كما فعلتَ يُفعل بك، عملك يرتد على رأسك" (عو ١٤).

نعود إلى داود لنجده قد اشتعل غضبًا بسبب محاولة يوآب اقتحام المدينة والاقتراب منها جدًا، متجاهلاً ما حدث مع أبيمالك بن يربوشت حين قتلته امرأة بإلقاء رحيَ عليه من السور (قض ٩: ٥-٤٥). أخبروه بأن أوريا الحثي مات فسكن غضبه!

سمعت بثشبع عن موت رجلها فندبته سبعه أيام حسب العادة القديمة (تك 5٠: 1٠، 1 صم 31: 13). ثم ضمها داود النبي زوجة له، حاسبًا إن ستارًا قد اسدل على جريمته إلى الأبد، فاستراح ضميره إلى عام كامل.

"وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عين الرب" [٢٧]. الله ليس عنده محاباه، فإن كان داود قد جاهد كثيرًا من أجل الله ولبنيان شعبه لكنه لا يتستر على جريمته هذه، ولا يقبل هذا الفعل الشرير... إنه ينتظر توبته، فإن استكان ضميره يرسل له من يوقظه ويوبخه.

نختم حديثنا بما قاله القديس أغسطينوس في عظته عن المزمور الخمسين (٥١): [كانت المرأة بعيده لكن الشهوة قريبة (رو ٦: ١٢)]؛ وكأن ما نرتكبه من خطايا ليس هو ثمره الظروف إنما لأننا نُملِّك الخطية فينا، تقودنا وتسحبنا إلى حيث تشاء!

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح الثاني عشر

اعتراف داود النبي

عاش داود النبي عامًا كاملاً مع خطيته لم يبكته ضميره عليها بالرغم من خبراته الروحية القديمة ومعرفته للناموس وعمله كقاض للشعب يحكم بالعدل. كان محتاجًا إلى ناثان ليبكته على عمله ويحفزه على الاعتراف بما ارتكبه.

١. ناثان يوبخ داود         [١-٩].

٢. تأديب داود               [١٠-١٢].

٣. توبة داود                [١٣ – ١٤].

٤. موت ابن بثشبع         [١٥-٢٣].

٥. ميلاد سليمان           [٢٤- ٢٥].

٦. داود يهزم ربّة           [٢٦ – ٣١].

١. ناثان يوبخ داود:

أرسل الرب ناثان إلى داود ليوقظ ضميره، فروى له قصة الرجل الغني الذي أبى أن يذبح إحدى نعاجه لضيفه، مغتصبًا نعجة الفقير الوحيدة الصغيرة التي اقتناها لنفسه ورباها وكبرت معه مع بنيه جميعًا، أكلت من لقمته وشربت من كأسه، ونامت في حضنه وكانت له كابنة. حمى غضب داود على هذا الغني المغتصب أخاه الفقير وأصدر حكمه: "حيّ هو الرب أن يقتل الرجل الفاعل ذلك، ويرد النعجة أربعة أضعاف، لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق" [٦]. أجابه ناثان النبي: "أنت هو الرجل" [٧].

الضيف الجائع هي شهوة داود التي ثارت فيه خلال تراخيه وتهاونه مع الخطية، فأراد أن يشبعها باغتصابه بثشبع الصغيرة الوحيدة المحبوبة جدًا لدى رجلها، هذه التي عاشت معه تشاركه حياته وأكله وشربه وسرير نومه، رافقته زمانًا بكل أحاسيسها ومشاعرها، والآن يغتصبها الغني جدًا داود الذي أقامه الله ملكًا والذي تهاون بالناموس بزواجه كثيرات. في كل يوم كان داود يتعظم جدًا لأن رب الجنود كان معه (١٥: 10). كان الله يود أن يقدم له أكثر فأكثر لكنه بخطيته أغلق على نفسه دون فيض النعم المجانية.

بحسب الشريعة لا يُقتل السارق إنما يرد أربعة أضعاف (خر ٢٢: ١، لو ١٩: ٨)، لكن ظروف السرقة كما وصفها ناثان (وتنطبق على داود) أغضبت داود جدًا فطلب قتل الرجل دون أن يدرك أنه يحكم على نفسه، خاصة وأنه لم يسرق نعجة وحيدة بل امرأة إنسان مخلص وأمين، اغتصبها في ظروف حرب وقتل رجلها... فماذا يستحق؟

يليق بنا أن نقف قليلاً أمام تصرف ناثان، فقد جاء تصرفًا حكيمًا، وصريحًا، حازمًا، ومملوءًا حبًا. لم يخف أن يتحدث بصراحة وبحزم مع ملك أخفى جريمته بقتل أوريًا الحثي، وكان يمكن أن يتعرض ناثان لذات المصير، في جرأة لم يخشَ الملك ولا حاباه، وكما جاء في الدسقولية: [لا تحابي الوجوه عندما توبخ على خطايا، إنما اعمل  مثل إيليا وميخا مع آخاب (١ مل 18: 21-٢٢)، وعبد ملك الأثيوبي مع صدقيا (إر ٣٨، ٣٩)، وناثان مع داود (٢ صم ١٢)، ويوحنا مع هيرودس (مت ١٤)[61]].

كان صريحًا وحازمًا وأيضًا مملوءًا حبًا... فتح أباب الرجاء أمام داود الملك.

جاء ناثان ليتحدث مع داود خفية دون أن يقف ليشهر به علانية، وإن كان الله قد سمح بنشر كل ما حدث لأجل خلاصنا. هكذا يليق بنا عند توبيخنا للغير أن نلتقي بهم خلال دائرة الحب والصداقة، لا التشهير العلني أمامهم أو في غيبتهم. يقول مار اسحق السرياني: [من يصلح أخاه في حجرته الخاصة يشفيه من الشر، أما من يتهم آخر في اجتماع علني فيدمي بالأكثر جراحاته. من يشفي أخاه خفية يعلن قوة حبه، وأما من يجعل أخاه في خزي أمام أصحابه فيبرهن على قوة حسده. الصديق الذي ينتهر آخر في السر هو طبيب حكيم، أما من يرغب في معالجته أمام أعين الكثيرين ففي حقيقته هو شتّام[62]].

٢. تأديب داود:

محبة الله لداود دفعته أن يرسل ناثان لإيقاظ ضميره ولتأديبه علانية، فمن الأفضل له أن يُفضح هنا في الزمان الحاضر فيتوب ويرجع إلى الله عن أن يغطي على جراحات النفس فيهلك الإنسان في خطيته أبديًا. لذلك قال ناثان لداود: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة. هكذا قال الرب. هأنذا أُقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس. لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس" [١٠-١٢].

يبدو أن هذا التأديب كان قاسيًا للغاية لكنه كان ضروريًا لخلاص نفسه وخلاص الآخرين:

أ. أوضح أن هذا التأديب هو الثمر الطبيعي للخطية، فما يجتنيه داود إنما القليل من ثمار فعله. لقد قتل سرًا فأفاض القتلُ قتالاً. وزنى خفية وأفاض ذلك فسادًا. أما كون التأديب يتحقق داخل بيت داود، فمن جهة مات ابنه الذي من بثشبع، واغتصب أمنون بن داود ثامار أخته (١٣: ١-٢٢) فقتله أخوه أبشالوم (١٣: ٢٣-٣٨)، وقام أبشالوم على أبيه داود ليغتصب منه الملك واضطجع مع سراريه أمام جميع إسرائيل (١٦: ٢٢) وطلب قتل والده (17: 2) فقُتل هو (١٨: ١٤-١٥)، وقتل أدونيا بأمر أخيه سليمان (١ مل ٢: ٢٥)...

هذه جميعها تمت داخل بيت داود لكن يؤكد الله أن ما تم إنما هو ثمر طبيعي داخلي للفساد الذي قبله داود بإرادته.

ب. خلال تأديبات داود التي حلت ببيته أوضح الكتاب المقدس خطوره دور الأسرة وقدسيتها. فما ارتكبه داود أثمر في حياة أولاده، وإن كانوا لا يعاقبون على خطئه، إنما يذوقون هنا مرارة ما ورثوه عن أبيهم. الآباء الفاسدون يقدمون لأبنائهم فسادًا، والمباركون يقدمون لهم البركة.

ج. كانت العقوبة قاسية بالنسبة لداود لأنه قائد، كان يليق به أن يكون مثالاً حيًا لشعبه، لذا صارت عقوبته مضاعفة. فالعقوبة ليست ثمنًا معادلاً للخطية، لكنها تأديب لإصلاح المخطئ ومن هم حوله، تختلف حسب ظروف كل إنسان. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليست العقوبة واحدة لكل الخطايا، بل توجد عقوبات كثيرة ومتنوعة حسب الأوقات والأشخاص ورتبهم وفهمهم وأمور أخرى[63]].

د. لتأكيد أنه ليس عند الله محاباة، فإنه وإن كان قد أقامه نبيًا وملكًا وقاضيًا، وله تاريخ مجيد في حياة مقدسة لكنه متى أخطأ يستوجب التأديب. يقول القديس إيريناؤس: [الله غير محاب للوجوه، لذا يوقع عقوبة مناسبة على التصرفات التي لا تسره. وذلك كما في حالة داود الذي عانى الإضطهاد من شاول (١ صم ١٨) من أجل البر، وهرب من الملك شاول ولم يرد أن ينتقم من عدوه، وأنشد بمجيء المسيح، وعلَّم الأمم الحكمة، وفعل كل شيء بإرشاد الروح وسُرّ به الله. لكنه عندما دفعته شهوته ليأخذ بثشبع زوجة أوريا يقول الكتاب: "وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب" (١١: ٢٧). وأرسل إليه ناثان النبي يشير له إلى جريمته حتى يحكم على نفسه ويدين ذاته فينال رحمة ومغفرة من المسيح[64]].

٣. توبة داود:

دخل داود النبي إلى أعماقه ليكتشف ضعفاته دون تقديم أي مبررات خارجية لنفسه. شعر أنه أخطأ بلا عذر، وحسب خطيته موجهة ليس ضد أوريا الحثي ولا بثشبع وإنما أولاً وقبل كل شيء ضد الله نفسه. لم يخجل كملك عظيم ونبي وقاض ومنظم لأمور العبادة أن يعترف لله في حضرة ناثان النبي قائلاً: "قد أخطأت إلى الرب" [١٣].

شعر أن الخطية في داخله مُرّة للغاية لذا وجب عليه أن يتقيأها، وكما يقول مار اسحق السرياني: [تذكر أن كل لذة يتبعها غثيان ومرارة كصديقين متلازمين[65]]. لقد تقيأ المُرّ الذي في داخله في خجل من نفسه ومن خطيته لا من الاعتراف أمام ناثان.

جاءت إجابة ناثان تعلن حب الله الفائق: "الرب قد نقل عنك خطيتك لا تموت". بحسب الشريعة كان يجب أن يُقتل لكن الله في رحمته عفا عنه فلا يقتل، كما بالتوبة ينعم بالخلاص – خلال الذبيحة المقدسة – فلا يموت بل يتمتع بالحياة الغالبة للموت.

خلال هذه التوبة الصادقة سجل لنا داود النبي الكثير من "مزامير التوبة" مثل (مز ٦، ٣٢، ٣٨، ٥١، ١٠٢، ١٣٠، ١٤٣) يتوّجها المزمور الخمسون (مز ٥١) الذي ننشده في كل صلاة طالبين مراحم الله بالتوبة الصادقة.

v   أيا كنت أنت يامن تخطئ وتتردد في ممارسة التوبة عن خطاياك، يائسًا من خلاصك، اسمع داود يتنهد. لم يُرسَل إليك ناثان، إنما داود نفسه مُرسل لك.

اسمعه يصرخ، واصرخ معه!

اسمعه يتنهد، وتنهد معه!

اسمعه يبكي، واخلط دموعك بدموعه!

اسمعه وهو يصلح نفسه، وافرح معه!

إن كانت الخطية لم تُنْزَع عنك، فلا تنزع الرجاء في المغفرة!

أُرسل ناثان النبي لذلك الرجل، فلاحظ اتضاع الملك، إذ لم يحتقر كلمات النصح المقدمة له، ولم يقل له: كيف تتجاسر وتتحدث معي أنا الملك؟ الملك العظيم أصغي لنبي، ليت شعب (المسيح) المتضع ينصت للمسيح.

v   "لأني أنا عارف بإثمي وخطيتي أمامي في كل حين" (مز ٥٠ (٥١): ٣)...

لم تكن خطيته قبلاً أمامه بل خلف ظهره، لم يكن يعرف إثمه... لكن جاء النبي بهذا الهدف أن يأخذ خطيته من وراء ظهره ويضعها أمام عينيه، لكي يرى الحكم المعلن ضده، لكي يفتح جرح قلبه ويداويه. استخدم مبضع (مشرط) لسانه...

القديس أغسطينوس[66]

v   داود أيضًا أخطأ [١٧]، لننظر كيف تاب... لقد غسل الخطية بالإتضاع وندامة القلب وتوبة النفس وعدم السقوط مرة أخرى، وبتذكره الدائم لخطيته، وقبوله كل ما حلَّ به بشكر، وتركه الذين يحزنونه، واحتماله المتآمرين عليه دون مقابلة الشر بالشر بل ومنع الذين يرغبون ذلك...

كان له قلب منسحق به تمتع بغسل خطاياه خلال التوبة والاعتراف.

القديس يوحنا الذهبي الفم [67]

v   أزال كل ثقل الخطايا خلال اعتراف كامل بكلمة واحدة.

القديس يوحنا كاسيان[68]

أما عن محبة الله لمؤمنيه فتدفعه للتأديب من أجل بنيانهم:

v   لا تنظر إلى الله كمجرد ديَّان بل تطلع أيضًا إلى أمثلة من تصرفاته هذه، إنه كُلِّيُّ الصلاح... تأمله عندما يظهر الرحمة. في مقابل حزمه (قسوته) ضع في الميزان لطفه.

العلامة ترتليان[69]

v   تأديب المحبة للإصلاح وليس للنقمة. الإنسان الحكيم البار يتشبه بالله، فإنه لن يؤدب إنسانًا ليرد له الشر وللإنتقام، بل ليصلحه أو ليخيف الآخرين.

مار إسحق السرياني[70]

الله محب لأولاده، في محبته يسمح بتأديبهم حتى يدركوا بغضه للخطيه. لقد سمح الله بموت الابن الذي جاء ثمرة الخطية [١٤]، لا لذنب ارتكبه الطفل وإنما حتى لا يظن من حوله – خاصة الوثنيين – أن عند الله محاباة.

٤. موت ابن بثشبع:

مرض الطفل جدًا فتذلل داود من أجل محبته للطفل، وأيضًا لأنه شعر أن موت الطفل علامة غضب الله على والديه. كان يترجى أن الله يشفق على الطفل وعلى والديه، فكان يُصلي صائمًا واضطجع على الأرض [١٦]. "قام شيوخ بيته عليه ليقيموه عن الأرض فلم يشأ ولم يأكل معهم خبزًا" [١٧].

في اليوم السابع مات الطفل، وخاف عبيد داود أن يخبروه لِما رأوا فيه من تذلل. رآهم يتناجون فأدرك ما حدث، ولما سألهم أجابوه إن الطفل مات. قام داود عن الأرض اغتسل وتدهَّن وبدَّل ثيابه ودخل بيت الرب وسجد ثم جاء إلى بيته يطلب أن يأكل.

ما أعجب داود النبي الذي أعلن تسليمه الكامل لإرادة الله. لقد تذلل قبلاً طالبًا الرحمة، أما وقد مات الولد فيخضع لإرادة الله قائلاً: "الآن قد مات فلماذا أصوم؟ هل أقدر أن أرده بعد؟ أنا ذاهب إليه وأما هو فلا يرجع إليَّ" [٢٣].

لقد مسح نفسه بالدهن علامة الفرح، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كانت عادة القدماء أن يمسحوا بدهن باستمرار عندها يكونون في سرور وفرح. هذا ما يراه الإنسان بوضوح في داود ودانيال (دا ١٠: ٣)[71]]. بقدر ما تذلل داود أثناء مرض طفله فرح وتهلل عندما أراد الله له أن يأخذه إليه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنها حكمة حقيقية! هذا هو الحب! مهما أحببت ابنك لن تحبه كما يحبه الله[72]].

القلب المنفتح على السماء لا يخاف الموت بل يقبله بفرح كانطلاق نحو المسيح.

v   لا تخف الموت، فقد دبر الله إعدادات لتقوم غالبًا الموت[73].

v   ثبت رحيلك في قلبك يا إنسان؛ قل لنفسك على الدوام:

"انظر، الرسول على الأبواب، لقد جاء إليّ.

لماذا أنا متراخٍ؟! إن رحيلي أبدي، هناك لا توجد عودة!".

اعبر الليلة متأملاً في ذلك. تأمل في هذا الفكر خلال النهار. وعندما يأتي وقت الرحيل حيِّهِ ببهجة قائلاً: "تعال في سلام. لقد عرفت أنك قادم، فلم أهمل في أمر ينفعني في الطريق"[74].

مار إسحق السرياني

٥. ميلاد سليمان:

عزى داود بثشبع، فإنه لم يطردها بكونها علة أحزانه ومتاعبه؛ وأنجب منها سليمان (معناه "سالم" أو "صانع سلام"[75])، إذ في أيامه استراحت المملكة من الحروب (١ أي ٢٢: ٩).

اختار داود النبي هذا الاسم ربما لكي يعلن أنه وإن كانت الخطية قد أثارت زوابع كثيرة في حياته، لكنه بالتوبة الصادقة والإتكال على مراحم الله استعاد سلامه الداخلي بنواله المغفرة وإن حلَّت به التأديبات من كل جانب.

أحب الله هذا الطفل، وأرسل ناثان حيث دعاه "يديديا" أي "محبوب الله" ليؤكد الله لوالديه أنه وإن مات الطفل الأول للتأديب فالثاني يعلن محبة الله لهما وغفرانه خطيتهما.

٦. داود يهزم ربّة:

عاد الكاتب إلى خبر الحرب مع بني عمون الذي بدأه في (١١: ١)، حيث هزم يوآب ربّة عاصمة بني عمون. أرسل إلى داود الملك ليأتي ويدخل المدينة حتى تُحسب النصرة لداود وتنسب إليه المدينة كغالب ومنتصر. بالفعل خرج داود وحاربها وأخذ تاج ملكها الذي يزن وزنة ذهب (حوالي ٢٨ رطلاً) مع حجر كريم. لبسه داود، وذلك بأن أمسكه اثنان من العظماء ورفعاه على رأسه بعض الوقت علامة تسلطه على مملكة بني عمون.

تمتع داود بغنائم كثيرة بعد أن قتل شعب المدينة.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثالث عشر

أمنون وثامار

أخطأ داود في الخفاء مع بثشبع، وبقي الأمر مخفيًا إلى حين، لتظهر رائحة الفساء القاتلة علانية في بيت داود. لقد سقط أمنون بكامل حريته في الشهوة وأحب أخته التي من أبيه دون أمه، أحبها جدًا لجمالها حتى مرض وإذ تمكن منها أذلها ثم طردها لأنه أبغضها جدًا ولم يطق أن يراها!

تصور ماذا كان حال داود ومركزه بين قواده ورؤساء الشعب حين بلغهم هذا الخبر؟!

هذا التصرف من جانب أمنون أثار سخط أبشالوم من أجل أخته ثامار، وبعد سنتين دبر أمر قتله وهرب ففقد داود الاثنين!

١. سقوط أمنون في حب ثامار       [١-١١].

٢. كراهية أمنون لثامار              [١٢-١٩].

٣. أبشالوم يدبر للإنتقام              [٢٠-٢٧].

٤. قتل أمنون                        [٢٨-٣٣].

٥. هروب أبشالوم                    [٣٤-٣٩].

١. سقوط أمنون في حب ثامار:

تبقى قصة أمنون وثامار عبر الأجيال تمثل صورة حية للتمييز بين الحب والشهوة[76]، الحب تحرر من الأنا ليعطي الإنسان ذاته لبنيان نفسه والآخرين، فيتعامل مع الغير – خاصة الجنس الآخر – كأشخاص لهم تقديرهم، أما الشهوة فهي تتقوقع حول الأنا ليطلب الإنسان إشباع لذَّاته أو كرامته الخ... يتعامل مع الغير كأدوات لتحقيق شبعه. الحب ينمو يومًا فيومًا ويهب القلب اتساعًا للجميع، أما الشهوة فتحطم الإنسان وتضيِّق قلبه وسرعان ما تلهو بالشخص نفسه لينقلب الحب الشهواني إلى كراهية.

أمنون أحب ثامار جدًا وكان يظن أنها – دون سواها – هي سر سعادته، خلال شهوته أسَرة جمالها، وربما أعجب بشخصيتها وحسبها الوحيدة التي تقدر أن تملأ كل فراغ فيه... وإذ نال منها تحقيق شهوته لم يجد في داخله شبعًا كما كان يظن، لذا أبغضها، وكانت بغضته لها أكثر من حبه السابق لها.

تشبه أمنون بامرأة فوطيفار التي حسبت في جسد يوسف مصدر بهجتها وشبعه، وكانت تحبه جدًا، حتى ضربت بمركزها كسيدة أمام عبد عرض الحائط، ولم تبال بحياتها كامرأه فعرضت عليه الشر، بل وأمسكت ثوبه... وعندما رفض سلمته للسجن والفضيحة ظلمًا!! هذه هي الشهوة القاتلة للنفس والمتقوقعة حول اللذة والأنا!

"أمنون" اسم عبري معناه "أمين"[77]، الابن البكر لداود، وولي العهد (3: 2)، ولد في حبرون (2 صم 3: 2، ١ أي ٣: ١) حوالي سنة ١٠٠٠ ق.م.[78]، والدته أخينوعم اليزرعيلية، أما "ثامار" (إسم معناه "نخلة") فكانت أخت أبشالوم بن داود من معكة بنت تلماي ملك جشور (2 صم ٣: ٣، ١ أي 3: 2).

أحب أمنون ثامار جدًا. بمعنى آخر أحب جمالها وجسدها لا إنسانيتها وشخصها، أو أحب أن يشبع شهواته بجمالها، وإذ كانت أخته لم يستطع أن يتزوجها (لا ١٨: ٩)، لذلك عسر في عينيه أن يفعل لها شيئًا [٢] وكانت ثامار عذراء تقيم في جناح النساء.

حطمت الشهوة أمنون فصار يضعف يومًا فيومًا، خار جدًا الأمر الذي أزعج صديقه الحميم وابن عمه يوناداب بن شعمي أو شمه أخو داود (١ صم ١٦: ٩)، وكان الرجل ذكيا جدًا، قادرًا على التفكير للخير كما للشر. سأل يوناداب أمنون عما يفكر فيه، فأجاب: "إني أحب ثامار أخت أبشالوم أخي" [٤]. قدم له يوناداب مشورة لاغتصابها: "اضطجع على سريرك وتمارض؛ وإذ جاء أبوك ليراك فقل له: دع ثامار أختي فتأتي وتطعمني خبزًا وتعمل أمامي الطعام لأرى فآكل من يدها" [٥].

نفذ أمنون هذه المشورة الشريرة، وجاءت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع. فأخذت العجين وعملت كعكا أمامه وخبزته. وأخذت المقلاة وسكبت أمامه، فأبى أن يأكل. طلب أن يُخرجوا كل إنسان عنه ثم أمسكها ليغتصبها. أما هي ففي عفة قالت له:

"لا يا أخي لا تذلني، لأنه لا يُفعل هكذا في إسرائيل.

لا تعمل هذه القباحة.

أما أنا فأين أذهب بعاري؟!

وأما أنت فتكون كواحد من السفهاء في إسرائيل.

والآن كلم الملك لأنه لا يمنعني عنك" [١٣] الخ...

بحكمة تحدثت ثامار مع أخيها:

أ. كشفت له أن هذا العمل لا يليق بأمة مقدسة، إذ يجلب الغضب على الشعب كله ليس بكونهما ابني الملك وإنما بكونهما عضوين في الجماعة. المؤمن عضو في الجماعة، كل نمو في حياته يثمر نموًا في الآخرين، مجتذبًا بحياته الكثيرين نحو السمويات؛ وكل سقوط وانحراف يعثر أيضًا الكثيرين ويهدمهم. المؤمن إما أن يكون سر بركة للجماعة أو سر هدم لها.

ب. الخطية تحطم مرتكبيها، حسبتها ثامار عارًا لها وتحطيمًا لأمنون؛ تصير هي في خزي ويُحسب هو كأحد السفهاء.

ج. سألته أن يطلبها من الملك زوجة، لعلها بهذا أرادت أن تفلت من يديه أو لأنها حسبت الزواج بأخ من أم أخرى أهون من السقوط في الزنا.

لم يستمع أمنون لصوت أخته، إذ أفسدت الشهوة تفكيره ونزعت عنه إنسانيته فاغتصبها عنوة.

٢. كراهية أمنون لثامار:

إذ حقق أمنون شهوة جسده أبغض ثامار "بغضة شديدة جدًا حتى إن البغضة التي أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التي أحبها إياها" [١٥]. قام بطردها عوض أن يتزوجها شرعيًا، فتذللت أمامه ليتزوجها ولا يلقيها للعار، أما هو فطلب من الخادم أن يطردها عنوة.

كما سبق فقلت أن الشهوة والعنف صنوان، كلاهما ثمرة انتزاع النعمة الإلهية من الإنسان وحرمانه من الوجود مع الله. الشهوة  تعطي الإنسان أحيانًا رقة في الظاهر لكنها تحمل عنفًا في الداخل، والعنف يولد شهوة ولذة حيث يطلب الإنسان ما لِذاته لا ما هو للغير. كانت امرأة فوطيفار رقيقة للغاية أمام يوسف لكنها لم تقدر أن تخفي عنفها حين رفض الاستسلام لها فألقته في السجن. أما هو فكان رقيقًا جدًا معها رغم حزمه في رفض الخطية. لم ينتقم لنفسه ولا شهَّر بها حين تمتع بالمجد وصار صاحب سلطان في قصر فرعون. 

يربط سليمان الحكيم بين الزنا والقسوة قائلاً: "لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً وحنكها أنعم من الزيت، لكن عاقبتها مُرّة كالأفسنتين حادة كسيف ذي حدين. قدماها تنحدران إلى الموت. خطواتها تتمسك بالهاوية" (أم ٥: ٣-٥).

هكذا ولَّدت الشهوة عنفًا في حياة أمنون، فأصدر أمره لخادمه أن يطرد سيدته ويغلق الباب وراءها؛ أما هي فوضعت رمادًا على رأسها علامة الحزن الشديد (١ صم ٤:  ١٣، اس ٤: ١) كمن في جنازة، ومزقت الثوب الملون (الجبة الخاصة ببنات الملوك العذارى) علامة فقدها كل مجد والتصاق الخزي بها، ووضعت يدها على رأسها وكانت تسير صارخة.

إنها صورة مُرّة للنفس التي تُحطمها الخطية، فإنها تهيم في الطريق في مذلة كمن هي مطرودة من البيت؛ تفقد النفس سكناها في حضن الله لتهيم كما في عزلة، ليس من يسندها ولا من يشاركها أعماق مشاعرها! تتطلع من خلفها لتجد الكل قد أغلق الباب في وجهها!

تضع رمادًا على رأسها إذ يُحطم اليأس تفكيرها، تفقد رجاءها وسلامها وفرحها الداخلي!

تمزق الثوب الملون الذي يشير إلى الجسد بكل طاقاته؛ الجسد الذي يطلب الشبع لحواسه خلال الشهوة يفقد قدسيته وتتدنس حواسه!

تضع يدها على رأسها علامة عجزها عن العمل والتصرف!

تهيم صارخة في الطريق كمن فقد الطريق الملوكي المفرح!

٣. أبشالوم يدبر للإنتقام:

طلب أبشالوم من أخته أن تلتزم الصمت، وكان يُريد بذلك أن يهدئ الجو ليخطط للانتقام؛ فقد قال لها: "فالآن يا أختي اسكتي. أخوك هو. لا تضعي قلبك على هذا الأمر" [٢٠].

طالبها بالصمت، لكنه ليس صمتًا يحمل هدوءًا وسلامًا وإنما الصمت الذي يخفي دهاءً وانتقامًا من أخيه أمنون.

حقًا ما أعذب الصمت والسكون إن حملا هدوءًا داخليًا، أما متى كان ستارًا لمرارة داخلية فغالبًا ما يكون أكثر عنفًا وقسوة من الكلام الجارح. لذا يميز الآباء بين الصمت المقدس البنّاء والصمت الشرير المهلك، كما يميزون بأن الكلام الصالح والكلام المهلك.

أقامت ثامار في بيت أبشالوم أخيها محطمة النفس، إذ كانت في عار غير قادرة على الزواج دون ذنب من جانبها. أما داود فسمع بالأمر واغتاظ دون أن يُعاقب أمنون، إذ كان يدلل أولاده، أو لأنه رأى جريمته مع بثشبع متجلية بوضوح في حياة ابنه البكر.

انتظر أبشالوم سنتين دون أن يتحرك للإنتقام حتى يظن أمنون وداود أن الأمر قد نسى، ولما جاء وقت جزّ الغنم، وهو وقت فرح (١ صم ٢٥: ٧، ٣٦)، وذلك في بعل حاصور، دبر أبشالوم أمر اغتيال أخيه.

"بعل حصور" معناه "بعل التسييج أو الانحباس أو التطويق أو حظيرة مسيّجة[79]"، بالقرب من قرية أفرايم. مكانه الأصلي ربما الآن "جبل القصور" يبعد حوالي أربعة أميال ونصف شمال شرقي بيت إيل وخمسة عشر ميلاً شمال شرقي أورشليم.

دعا أبشالوم أباه وإخوته جميعًا لكي يخفي ما في قلبه، وإذ استعفى الملك طلب إليه بإلحاح أن يرسل أمنون كولي العهد ونائب عنه، أخيرًا وافق داود، ربما بعد تخوف من نية أبشالوم.

٤. قتل أمنون:

أعد أبشالوم الخطة، ولما طاب قلب أخيه أمنون بالخمر والسكر قتله غلمان أبشالوم كطلب سيدهم. عندئذ ركب بنو الملك بغالهم وهربوا. وفيما هم في الطريق بلغ داود أن أبشالوم قتل جميع بنيه. قام الملك ومزق ثيابه واضطجع على الأرض وكان جميع عبيده واقفين بثياب ممزقة. لكن يوناداب أدرك الأمر فأخبر داود أن أبشالوم انتقم لأخته من أمنون وحده...

لقد جنى أمنون ثمر نجاسته، وأيضًا استسلامه للسكر؛ يقول سليمان الحكيم: "لمن الويل؟ لمن الشقاوة؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجروح بلا سبب؟ لمن ازمهرار العينين؟ للذين يدمنون الخمر، الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة، في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان" (أم ٢٣: ٢٩-٣٢).

قدم أبشالوم لأمنون خمرًا يحمل سم الموت، أما مسيحنا فيقدم نفسه الكرمة الحقيقية التي تثمر خمر الحياة، حيث يسكر القلب بالحب الإلهي، متهللاً بالحياة معه في السمويات. لذا قيل: "خمر تفرح قلب الإنسان" (مز ١٠٤: ١٥). يقول العلامة أوريجانوس: [إن كان القلب هو الجزء العقلي (في الإنسان)، وما يفرحه  هو "الكلمة" الذي يبهج أفضل من كل شرب، حيث ينزع عنا الأمور البشرية ويهبنا الإحساس بالوحي ويسكرنا بمسكر إلهي وليس مسكرًا غير عاقل، فإنني أدرك ما فعله يوسف حين روى إخوته بالخمر (تك ٤٣: ٣٤)... (المسيح) هو الكرمة الحقيقية، عناقيده التي يحملها هي الحق، والتلاميذ هم أغصانه، هؤلاء أيضًا يثمرون الحق كثمر لهم[80]].

٥. هروب أبشالوم:

هرب أبشالوم إلى جده تلماي بن عميهود ملك جشور. كلمة "جشور" معناها "جسر"، وهي مقاطعة تقع بين حرمون وباشان تتاخم أرجوب، تقع شرقي الأردن. على حدودها جسر على نهر الأردن بين طبرية والحولة يعرف بجسر بنات يعقوب.

إذ هدأ داود اشتاق أن يرى أبشالوم، إذ كان يحبه حبًا شديدًا (١٨: ٥، ٣٣)، لكن خشى نقد الناس له لأنه قاتل أمنون ولي العهد.

<<

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الرابع عشر

العفو عن أبشالوم

لأسباب كثيرة أراد يوآب أن يقوم بمصالحة داود على ابنه المحبوب لديه جدًا أبشالوم، لذا دبر خطة يكسب بها كل الأطراف؛ الملك وابنه والشعب ليحضر أبشالوم من جشور إلى أورشليم. لكن الملك صمم ألا يرى ابنه لمدة عامين حتى اضطر أبشالوم أن يستخدم العنف للضغط على يوآب ليصالحه مع أبيه.

١. أرسال امرأة حكيمة إلى داود      [١-١١].

٢. المرأة تصارح داود                [١٢-٢٠].

٣. يوآب يتشفع في أبشالوم          [٢١-٢٤].

٤. جمال أبشالوم وجاذبيته            [٢٥-٢٧].

٥. أبشالوم يضغط على يوآب        [٢٨-٣٣].

١. أرسال امرأة حكيمة إلى داود

أراد يوآب أن يكون هو الواسطة لمصالحة داود على ابنه أبشالوم، وكان دافعه في ذلك الأمر هو:  

أ. كان يعلم إن داود يحب أبشالوم جدًا، مشتاقًا أن يرده إلى أورشليم، لكنه يخشى نقد الشعب له، لهذا أوجد مجالاً للمصالحة أو على الأقل لرده إلى أورشليم. الأمر الذي يفرح قلب داود داخليًا حتى إن تظاهر بغير ذلك.

ب. أدرك أنه وإن طال الزمن لابد أن يتصالح داود مع ابنه، فبقيامه هو بهذا الدور يكسب صداقة الطرفين.

ج. يعلم أن لأبشالوم شعبية كبيرة، فإن مات داود ينقسم الشعب على نفسه، كثيرون يطلبونه ملكًا، وآخرون يتشككون بسبب غضب والده عليه لقتله أمنون أخيه البكر... هنا يحدث انشقاق لا تُعرف عاقبته.

د. رجوع أبشالوم قاتل أخيه، وصفح داود عنه، ينزع مشاعر الضيق من داود تجاه يوآب بكونه قاتل منافسه أبنير.

هذه الأسباب جميعها دفعت يوآب أن يلجأ إلى امرأة حكيمة من تقوع، وهي قرية في يهوذا قرب بيت لحم، جنوب شرقي أورشليم، تُدعى تقوعة، وهي قرية عاموس النبي. وكان يوآب من بيت لحم سمع عن هذه المرأة وتعرف عليها، لذا لجأ اليها، ودبر لها الخطة حتى لا يكتشفها داود الملك.

يعرف يوآب قلب داود النبي المتسع جدًا والمملوء رحمة خاصة تجاه الحزانى والمتألمين، وبالأكثر إن كانوا يتامى أو أرامل. لهذا طلب من المرأة أن تقوم بدور أرملة حزينة للغاية وفي ضيق شديد، فجاءت إليه كمن تنوح على ميت. لبست ثياب الحزن ولم تُدهن بزيت علامة عدم اعتنائها بجسدها. وأخذت تروي للملك قصتها المزعومة لتطابق حالة أبشالوم من جوانب متعددة حتى تسحب من فمه وعدًا بل وقسمًا بالعفو عن ابنه أبشالوم.

خرت المرأة التقوعية أمام الملك على وجهها إلى الأرض وسجدت ثم طلبت منه أن يُعينها. عرضت قضيتها أنها أرملة مات رجلها، ولها ابنان تخاصما في الحقل وليس من يفصل بينهما فضرب أحدهما الآخر وقتله. قامت العشيرة كلها عليها لتسلم ضارب أخيه فيقتلوه بنفس أخيه. بهذا تُهلك الوارث أيضًا.

إنها تطلب رحمة لها والعفو عن ابنها، ليس من أجله هو، وإنما من أجل ترملها. ابنها يمثل جمرة تضطرم منها النار، ولغاية في نفوس العشيرة تود أن تطفئ الجمرة لكي تستولى على الميراث. هذا من جانب ومن جانب آخر فانه الوارث الوحيد الذي يحمل اسم رجلها ويقيم اسم الميت.

ترآف داود جدًا عليها ووعدها أن يوصي بها كي لا يموت ابنها [٨].

لم تكتفِ المرأة بتوصية داود من أجلها ومن أجل ابنها، بل أرادت تأكيدًا بالعفو عن أن تتحمل هي إثم إلغاء حكم الشريعة الموسوية الخاص بقتل القاتل، وكان ذلك جائزًا من أجل الرحمة (تث ٩:  ١٣، ١٢: ٧)؛ إذ قالت له: "عليّ الإثم يا سيدي الملك وعلى بيت أبي، والملك وكرسيه نقيان" [٩]. عندئذ وعدها الملك بالعفو قائلاً لها: "إذا كلمك أحد فأتِ به إليّ فلا يعود يُمسك بعد" [١٠].

لم تكتف بتوصية الملك وبوعده إذ تظاهرت بالخوف من ولي الدم لئلا يهلكوا ابنها، عندئذ قدم لها قسمًا: "حيّ هو الرب إنه لا تسقط شعرة من شعر ابنك إلى الأرض" [١١]. بهذا القسم صدر الحكم من فم داود الملك بالعفو على ابنه أبشالوم قاتل أخيه أمنون!

نجحت المرأة المتظاهرة بالحزن أن تغتصب من داود تدريجيًا الآتي:  

أ. وعدًا أن يوصي بأمرها ويترفقوا بها [٨].

ب. أن تنال حكمًا فوريًا لصالحها من فمه.

ج. ألا يتعرض لها أحد بأذية، ويقوم بحمايتها.

د. أن ينال ابنها العفو ويقوم الملك بحمايته.

هـ. قسمًا بالعفو الشامل لابنها.

٢. المرأة تصارح داود:

نجحت المرأة التقوعية في تمثيل الفصل الأول من المسرحية، حيث انتزعت كل ما تُريده من فم الملك، وهو القسم بالعفو الشامل عن قاتل أخيه. عندئذ نزعت المرأة قناعها لتصارح الملك في الفصل الثاني من المسرحية أنه إن كان الملك يحكم هكذا بالنسبة لشعب الله فلماذا لا يرد منفيه، أي ابنه أبشالوم.

دُهش الملك لما فعلته المرأة، وقد وجد هذا العمل نوعًا من الاستطابة في قلبه من أجل محبته لابنه أبشالوم. شبهت المرأة الشعب بالأم المحبة لابنها أبشالوم دون تجاهل للقتيل ابنها أمنون. والملك هو ولي الدم من حقه أن يطالب بالدم. لكنه يلزم أن يترفق بالشعب المحب والذي  يطلب العفو عن أبشالوم بالنسبة لقتل أمنون.

كان يمكن لداود أن يحاور المرأة مظهرًا أن حالتها غير مطابقة لحالة أبشالوم في أمور كثيرة، منها أن أبشالوم لم يقتل أمنون نتيجة ثورة مفاجئة وغضب سريع وانفعال وقتي إنما خلال خطة أحكمها ودبر لها لها زمانًا، وكان يمكنه أن يراجع نفسه أو يستشير أحدًا. وأيضًا أبشالوم ليس وحيدًا إذ له أخوة آخرون يمكنهم أن يرثوا ويحملوا اسم ابيهم. عدم محاورة داود لها يكشف عن رغبة خفية في قلبه لرجوع ابنه إلى أورشليم.

أرادت المرأة تأكيد ضرورة رجوع أبشالوم، إذ قدمت لداود حججًا وبراهين منها:  

أ. قولها: "لماذا افتكرت بمثل هذا الأمر على شعب الله؟" [١٣]. كأنها تقول له إن كنت تترآف على أرملة فتعفو عن ابنها القاتل، كم بالأكثر يليق بك أن تُراعي مشاعر شعب الله بأسره وقد تعلق قلبه بأبشالوم؛ أما تستحق مشاعر هذا الشعب أن يكون لها اعتبار لديك؟

ب. قولها: "لابد أن نموت" [١٤]. ربما قصدت أن أيامنا جميعًا قليلة للغاية، فلنحتمل بعضنا بعضًا وليسامح أحدنا الآخر، لنقضي أيامًا مملوءة سلامًا وفرحًا لبنيان الجماعة. أو لعلها أرادت القول إن الجميع يموتون، وكان لابد لأمنون أن يموت. لقد مات مقتولاً، لكنه حتى ولو لم يقتله أبشالوم فهو يموت أيضًا، فاصفح لأن أمنون لا يعود إلى الحياة في هذا العالم ثانية، ونفي أبشالوم لا يحل المشكلة.

ج. قولها: "لا ينزع الله نفسًا" [١٤]؛ أي لابد من الموت الطبيعي في وقته المجهول، لذا فإن الله يريد الرحمة ولا يطلب أن ننتزع حياة إخوتنا. ربما أشارت ضمنًا إلى داود نفسه الذي استوجب الموت ومع ذلك لم ينزع الله نفسه بل غفر له، لذا لاق به أن يغفر للغير.

د. قولها: "لأن الشعب أخافني" [١٥]. فإن الشعب وهو يمثل الأم التي فقدت ابنها المحبوب أمنون ها هي تفقد أبشالوم، لذا يطلبون رجوع الأخير، وأنهم أخافوها لئلا تفشل في مسعاها لدى داود.

بحكمة ختمت المرأة حديثها بمدحها له: "ليكن كلام سيدي الملك عزاء، لأن سيدي الملك إنما هو كملاك الله لفهم الخير والشر، والرب إلهك يكون معك" [١٧].

أدرك داود النبي أن يوآب وراء المرأة، وإذ سألها أجابته بالحق في اتضاع وحكمة حتى لا يثور الملك عليه: "هو وضع في فم جاريتك كل هذا الكلام، لأجل تحويل وجه الكلام فعل عبدك يوآب هذا الأمر، وسيدي حكيم كحكمة ملاك الله ليعلم كل ما في الأرض" (١٤: 2٠).

بلا شك تستحق هذه المرأة كل مديح من أجل حكمتها الملتحمة باتضاعها؛ عرفت كيف تنال طلبتها ليس لنفع خاص بها شخصيًا وإنما من أجل سلام الجماعة، ولرد أبشالوم إلى أورشليم.

يحدثنا مار اسحق السرياني عن ضرورة ارتباط الحكمة أو التمييز بالاتضاع فيقول:  

[الاتضاع بتمييز هو معرفة حقيقية.

المعرفة الحقيقية هي ينبوع الاتضاع.

  المتضع في القلب متضع في الجسد[81]].

٣. يوآب يتشفع في أبشالوم:

طلب الملك من يوآب أن يتمم هذه المهمة التي من أجلها أرسل المرأة إليه؛ عبر يوآب عن شكره للملك بالسجود أمامه إلى الأرض على وجهه، إذ حسب ذلك كرمًا من الملك أن يستجيب لطلبة عبده وأن يطلب منه أن يتمم هذه المهمة بنفسه.

رأينا في حديثنا السابق (في نفس الأصحاح) الأسباب التي لأجلها طلب يوآب رد أبشالوم إلى أورشليم؛ لم يكن من بينها ما يظهر أن يوآب محبًا لأبشالوم، إذ كان العمل سياسيًا بحتًا، لكسب صداقة الملك وابنه وتقدير الشعب له. لهذا لا نعجب إن رأيناه يقوم بقتل أبشالوم (١٤: ٨) وبتوبيخ الملك على حزنه المفرط عليه (١٩: ٥-٧).

طلب الملك رده إلى أورشليم على ألا يرى وجهه (19: 24) للأسباب التالية: 

أ. لا يظهر أمام الشعب أنه متهاون في حق دم أمنون.

ب. لكي يعرف أبشالوم أن يتضع مقدمًا التوبة عما ارتكبه.

ج. لأنه خشى أن يخرج ويدخل فيكسب شعبية تسنده في تولي الحكم بعده، إذ كانت بثشبع تطلب أن يتولى ابنها سليمان العرش.

٤. جمال أبشالوم وجاذبيته:

لم يمدح أبشالوم إلا في جمال جسده الذي جذب قلوب الشعب. قيل: "ولم يكن في إسرائيل رجل جميل وممدوح جدًا كأبشالوم من باطن قدمه حتى هامته لم يكن فيه عيب" [٢٥]. كان شعره غزيرًا جدًا وجميلاً، يدهنه بالأطياب، وربما كان يُزينه ببرادة ذهب مما زاد في جماله وفي وزنه. كان يحلق شعره سنويًا ويزنه كعادة الفلسطينيين في ذلك الوقت بكونها ممارسة دينية.

اكتسب أبشالوم شعبيته خلال جمال جسده وليس خلال قدسية نفسه ونقاوة قلبه. لهذا لم تدم هذه الشعبية ولا انتفع بمديح الناس له، وإنما على العكس هذا سبب هلاكه كما سنرى.

يحدثنا مار اسحق السرياني عن ضرورة الاهتمام بجمال النفس لا الجسد قائلاً:  [تتطلع (النفس) إلى الجمال السماوي في داخلها كما في مرآة كاملة، خلال نقاوتها المطلقة تعكس جمال وجوه الناس. لقد قيل: "القداسة تليق بالقديسين"[82]].

سجل لنا القديس أكليمنضس الاسكندري فصلاً كاملاً عن "الجمال الحقيقي"  في كتابه "المعلم" ، جاء فيه:  

[الإنسان الذي يسكنه الكلمة لا يغير ذاته (بالحلي والزينة الخارجية) ولا يبتكر لنفسه شيئًا، إذ له شكل الكلمة، إنه مخلوق على مثال الله، إنه جميل فلا يزين نفسه، له الله الجمال الحقيقي[83]...].

[يوجد أيضًا جمال آخر للإنسان: المحبة[84]].

[ليس من شأن الإنسان الخارجي (الجسد) أن يتزين بحلى الصلاح بل من شأن النفس[85]].

٥. أبشالوم يضغط على يوآب:

بقى أبشالوم عامين في أورشليم لم يستطع خلالها أن يرى وجه الملك، لكنه لم يتعلم خلالها كيف يقتني العفو بالاتضاع إنما بقى عنيفًا في أعماقه.

يبدو أن يوآب خشى أن يأتي إلى أبشالوم لئلا يغضب داود عليه؛ كرر أبشالوم الطلب لكن يوآب لم يتحرك لمصالحة أبشالوم على داود أبيه. عندئذ أرسل أبشالوم عبيده وأحرقوا حقل يوآب بالنار، فخاف يوآب وجاء إليه. طلب منه أن يتدخل لدى الملك لينظر في دعواه، إما أن يحكم ببراءته فيلتقي به أو يقتله. عرف أبشالوم نقطة ضعف أبيه، إنه لن يقبل قتل ابنه، ولعله خشى إن حكم على ابنه يُشهر ابنه به بسبب قتله أوريا الحثي.

جاء يوآب إلى الملك وأخبره بكلمات أبشالوم، فدعى الملك ابنه وأعلن العفو عنه بتقبيله.

لقد نجح أبشالوم في العودة إلى القصر، ربما بهدف التخطيط لاغتصاب العرش من أبيه.

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الخامس عشر

عقوق أبشالوم

عاد أبشالوم إلى أورشليم ليس من أجل شوقه لصفح أبيه عن قتله لأخيه أمنون، ولا حبًا في والده، وإنما ليهيئ الطريق لنفسه كي يغتصب المُلك من والده مهما كلفه الأمر.

١. أبشالوم يعد الطريق لنفسه        [١].

٢. أبشالوم يمالئ الشعب             [٢-٦].

٣. المناداة به ملكًا                   [٧-١٢].

٤. هروب داود ورجاله               [١٣-١٧].

٥. هروب أتاي الجثي                [١٨-٢٣].

٦. بقاء التابوت في أورشليم         [٢٤-٢٩].

٧. رجوع حوشاي الأركي            [٣٠-٣٧].

١. أبشالوم يعد الطريق لنفسه:

"وكان بعد ذلك أن أبشالوم اتخذ مركبة وخيلاً وخمسين رجلاً يجرون قدامه" [١].

يكشف هذا التصرف عن هدف أبشالوم من العودة إلى أورشليم، فقد حمل في داخه لهيب نار محبة المجد الباطل، تصالح مع والده لا لينال رضاه، ولا ليُقابل حبه الأبوي بالحب البنوي الخالص، وإنما ليخطط كي يغتصب منه العرش بروح العجرفه والعقوق، مظهرًا نفسه كرجل عظيم يستخدم مركبة ملوكية وخيلاً ويجري أمامه خمسون رجلاً.

لقد أعد الله لداود المُلك خلال الضيق والتعب لسنوات طويلة أما أبشالوم فهيأ نفسه للمُلك خلال المظاهر الخارجية والمجد الباطل. فقد تعلم من جده تلماي بن عميهود ملك جشور (١٣: ١٧) استخدام المركبة الملوكية والخيل وجري الرجال أمامه الأمر الذي سبق فحذر صموئيل النبي منه الشعب حينما طلبوا لأنفسهم ملكًا كسائر الأمم قائلاً لهم: "يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه فيركضون أمام مراكبه" (١ صم 8: 11).

هكذا اقتدى أبشالوم بملوك الأمم في العظمة بينما كان والده يمتطي بغلاً في بساطة مظهر واتضاع، وقد وجدت المظاهر الخارجية مع جمال أبشالوم الجسدي هوى لدى الكثيرين فزادت شعبيته، وحسبه البعض أولى بهذا المركز القيادي.

كان أبشالوم يجري وراء المجد الباطل ليستلم العرش ولم يدري أنه إنما يجري وراء هلاكه الروحي والجسدي أيضًا، ليفقد أبديته كما حياته الزمنية.

يحدثنا الآباء عن أهمية الاتضاع كطريق للمجد وخطورة المجد الباطل:

v   كن وضيعًا في عيني نفسك فترى مجد الله في داخلك.

حيث ينبت الاتضاع هناك يتفجر مجد الله.

إن جاهدت لكي يستهين بك كل بشر، فالله يمجدك.

إن كان لك اتضاع في قلبك، فسيظهر الله لك مجده في قلبك.

 كن مزدري في عظمتك ولا تكن عظيمًا في تفاهتك...

لا تطلب أن تكون مكرمًا بينما داخلك مملوء جراحات.

أرفض الكرامة فتصير مكرمًا ولا تحبها فلا تُهان.

من يطلب الكرامة تهرب منه، ومن يهرب من الكرامة تطارده، ويعلن كل بشر عن اتضاعه.

v   اهرب من المجد الباطل فتتمجد، خف من الكبرياء فتتعظم.

مار اسحق السرياني[86]

v   إنني أثق أن العمل الروحي البسيط حين نمارسه باتضاع، فإنه يبلغ بنا أن نكون مع القديسين الذين جاهدوا كثيرًا وصاروا خدامًا حقيقيين لله.

v   يوجد طريق حقيقي للنمو: بالنمو في الاتضاع يبلغ الإنسان المجد الإلهي الحقيقي.

الأب دوروثيوس[87]

٢. أبشالوم يمالئ الشعب:

لكي يسحب أبشالوم الكرسي من تحت والده لم يقف عند اهتمامه بجماله الجسدي ومظاهر الأبهة والعظمة وإنما في خداع صار يمالئ الشعب. كان يبكر ويقف بجانب طريق باب المدينة ليمنع المتقاضين من الوصول إلى موضع اجتماع أبيه؛ يُعطي اهتمامًا لكل شخص فيسأله عن مدينته وسبطه، ليقول له في خداع دون فحصه لقضيته: "انظر أمورك صالحة ومستقيمة، ولكن ليس من يسمع لك من قبل الملك" [٣]. هكذا يتحدث أبشالوم بذات القول للطرفين المتخاصمين لا ليقضي وإنما ليثير الكل على والده ويحثهم على إقامته هو ملكًا وقاضيًا، إذ كان يردد القول: "من يجعلني قاضيًا في الأرض فيأتي إليّ كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه؟!" [٤].

في اتضاع مزيف متى أراد أحد أن يسجد له كابن ملك وولي عهد، يمد يده ويمسكه ويقبله، كأنه صديق شخصي له... بهذا استرق أبشالوم قلوب الكثيرين، أمالهم إليه ليكسب ودّهم واحترامهم وطاعتهم له حتى يقيموه ملكًا عوضًا عن أبيه.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبشالوم مخادعًا، يسرق كل قلوب الناس. لاحظ كيف كان عظيمًا في خداعه! قيل إنه كان يذهب ويقول: أليس من يقضي لك؟! راغبًا في أن يصالح كل أحد معه؛ أما داود فكان بلا عيب. ماذا إذن؟ أنظر إلى نهاية كل منهما. أنظر كيف كان الأول في جنون مطبق! إذ كان يتطلع فقط إلى أذية أبيه صار أعمى في كل الأمور الأخرى، أما داود فلم يكن كذلك، لأن "من يسلك بالاستقامة يسلك بأمان" (أم ١٠: ٩)، وبتعقل[88]].

٣. المناداة به ملكًا:

تم ذلك في نهاية أربعين سنة من مسح داود ملكًا على يدي صموئيل (١ صم 16: ١). يرى البعض أنه في نهاية أربعة أعوام من مصالحة أبشالوم لأبيه أعد الطريق لنفسه لكي يملك.

طلب من أبيه السماح له بالذهاب إلى حبرون ليفي نذرًا تعهد به وهو في جشور قائلا: "إن أرجعني الرب إلى أورشليم فإني أعبد الرب" (١٥: ٨). وكان ذلك على الأرجح خداعًا، لكن أباه الذي يطلب استقامة ابنه فرح جدًا أن يسمع منه أنه يريد أن يعبد الرب في حبرون بلد مولده، لذا سمح له بالذهاب بكامل حريته.

وضع أبشالوم الخطة ربما مع بعض المشيرين، وقد أحكمها تمامًا، إذ احتوت الخطوط العريضة التالية:

أ. أن يعلن توليه الحكم في حبرون – أحدى مدن يهوذا – التي عاش فيها داود زمانًا كملك لسبط يهوذا، وأقامها عاصمة لمملكته. في حبرون – بعيدًا عن أورشليم – يستطيع أبشالوم أن يجمع حوله كل الطاقات والشخصيات التي تسنده ضد والده، خاصة أن رجال يهوذا كانوا قد غضبوا لانتقال داود من حبرون إلى أورشليم.

ب. بعث أبشالوم إلى جميع الأسباط رُسلاً دعوا جواسيس لأن عملهم كان سريًا، حتى ينادي الكل به ملكًا في وقت واحد، فلا يجد داود أمامه ملجأ للهروب.

ج. أخذ أبشالوم معه مائتين من عظماء الرجال، دعاهم لأجل الذبيحة وهم لا يدرون ما ينوي عليه أبشالوم. وجودهم معه في حبرون يوحي للأسباط بأن عظماء المملكة تركوا داود لتعضيد أبشالوم، وأنهم جاءوا معه لتحقيق هذا الهدف؛ بهذا يشعر الكل أن أبشالوم يستحق المُلك عن أبيه. هذا وسحبهم إلى حبرون يغلق الباب أمام العظماء عن التشاور مع داود في أمر عقوق ابنه وفتنته، فيصيرون أمام الأمر الواقع أن يقبلوا الملك الجديد.

د. استعان أبشالوم بأخيتوفل الجيلوني [١٢]، إذ توسم فيه الرغبة مع القدرة على خيانة داود، وهو في هذا يشبه يهوذا في خيانته لسيده كما يشبهه في طريقة موته (مز 41: 9؛ يو ١3: ١8)

"جيلوه" قرية في جبال يهوذا (يش ١٥: ٥)، يحتمل أن تكون هي "خربة جعلا" الحالية، التي تبعد حوالي خمسة أميال شمال غربي حبرون[89].

هكذا أحكم أبشالوم الخطة بطريقة بشرية ولم يكن أمام داود طريق إلا الهروب أو الاستسلام فيتعرض للقتل على يدي ابنه.

٤. هروب داود ورجاله:

أدرك داود الخطر مبكرًا، ولعله تذكر خطيته وقول الرب له: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتني... هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك" (١٢: ١٠-١١).

أشفق داود على المدينة، وخشى أن يضربها أبشالوم بالسيف بسببه، لذا قال لجميع عبيده: "قوموا بنا نهرب، لأنه ليس نجاة من وجه أبشالوم. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف" [١٤].

خرج الملك وكل رجاله في اثره ووقفوا عند آخر بيت من بيوت المدينة من جهة الشرق على طريق وادي قدرون ليعبروا بين يديه...

تمررت نفس داود لخيانة ابنه له وثورته ضده، لكن قلبه امتلأ رجاء في الرب مخلصه. بروح النبوة أدرك داود أن ما حل به من خيانة أبشالوم وأخيتوفل له إنما يرمز لخيانة يهوذا للسيد المسيح.

عندما هرب داود ترنم بالمزمور الثالث:

"يارب لماذا كثر الذين يحزنونني؟!

 كثيرون قاموا عليّ.

 كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه.

 أنت يارب، أنت هو ناصري، مجدي، ورافع رأسي.

 أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت...".

يعلق القديس أغسطينوس على هذا المزمور قائلاً:

[الكلمات "أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب يعضدني" تقودنا إلى الاعتقاد بأن هذا المزمور يُفهم في شخص المسيح، فإنها تنطبق على آلام ربنا وقيامته أكثر منها على تاريخ هروب داود من وجه ابنه العاق... إذ كُتب عن تلاميذ المسيح "بنو العريس لا يصومون مادام العريس معهم" (راجع مت ٩: ١٥)، فلا نعجب إن كان ابنه العاق هنا قصد به التلميذ الذي خانه. يُفهم هروبه من أمام وجهه تاريخيًا عندما سحب السيد بقية التلاميذ إلى الجبل عند خروج الخائن، ويُفهم روحيًا عندما ترك ابن الله الذي هو قوة الله وحكمته ذهن يهوذا إذ ملأ الشيطان قلبه، يُفهم بهذا أن المسيح هرب من وجهه. لا يعني هذا أن المسيح أعطى مكانًا للشيطان، وإنما إذ تركه المسيح ملك الشيطان فيه...

هرب الحق من ذهن يهوذا عندما توقف الحق عن إنارته.

أما "أبشالوم" فكما يفسرها البعض معناها باللاتينية Patrs pax أي سلام أبيه.

يبدو من الصعب أن يُفهم "سلام أبيه" سواء في تاريخ الملوك حيث أثار أبشالوم الحرب ضد أبيه، وفي تاريخ العهد الجديد حين خان يهوذا ربنا. لكن من يقرأ بتروٍّ يرى أن داود كان في سلام مع ابنه أثناء الحرب، إذ يقول "يا ابني أبشالوم، يا ليتني متُّ عوضًا عنك" (١٨: ٣٣). وفي تاريخ العهد الجديد فإنه بطول أناة ربنا العجيبة والمدهشة احتمله كثيرًا جدًا كما لو كان إنسانًا صالحًا مع أنه لم يكن يجهل أفكاره. لقد ضمه إلى العشاء... وأخيرًا تقبل قبلته في ذات لحظات خيانته. إنه من السهل أن نفهم كيف أظهر المسيح سلامًا نحو خائنه...[90]].

٥. هروب إتاي الجتي:

عندما هرب داود من وجه شاول أقام في جت ونظم جيشًا قوامه ستمائة جندي وأقام إتاي الجتي قائدًا لهم. دام هذا الجيش معه حين صار ملكًا في حبرون وأيضًا في أورشليم، وكانوا إسرائيليين لكن دخل بينهم بعض الجتيين.

لعل من أجمل السمات التي اتصف بها داود هي عدم تفكيره في صالحه الخاص حتي في لحظات الضيق المُرّة، إذ لم يطلب تسخير الغير لحسابه. لهذا طلب من إتاي أن يبقى مع أبشالوم كملك جديد، إذ لا يُريد أن يُحمل إتاي فوق طاقته، لأنه غريب الجنس. لقد قال له: "ارجع وأقم مع الملك. لأنك غريب ومنفي أيضًا من وطنك. أمسًا جئت واليوم أتيهك بالذهاب معنا، وأنا أنطلق حيث أنطلق. ارجع ورجع إخوتك، الرحمة والحق معك" [ ١٩] الخ. لكن إتاي غريب الجنس رفض أن يترك داود وقت ضيقه، إنما تحدث معه بروح الحب والإخلاص والوفاء، متشبها في ذلك براعوث الموآبية في حديثها مع حماتها نعمى (را ١: ١٦).

أراد الله أن يُعزي قلب داود، بينما كان ابنه يخونه ويسلب ملكه طالبًا قتله، إذا بغريب الجنس يتعلق به في ضيقته ويشاركه متاعبه.

كان أبشالوم بن داود يمثل جماعة اليهود الذين من خاصة السيد المسيح وقد صمموا على جحده بعد تقديمه الخلاص على الصليب، أما إتاي فيشير إلى جماعة الأمم الذين تعلقوا بابن داود وقبلوا التغرب معه، يخرجون معه خارج المحلة ويشاركونه عاره (عب ١٣: ١٣).

إتاي المذكور هنا غير إتاي المذكور في (2 صم ٢3: ٢9، ١ أي ١1: 31) الذي من جبعة بني بنيامين، وكان أحد أبطال داود.

عبر الملك ورجاله الوادي الذي بين أورشليم وجبل الزيتون، حيث لا يكون فيه ماء إلا في فصل الشتاء. وقد عبر المسيح ذات الوادي في ليلة آلامه ليدخل بستان جثيماني (يو ١٨: ١).

٦. بقاء التابوت في أورشليم:

أراد داود النبي أن تكون كل تحركاته تحت ظل الرب نفسه كمخلص له لذا طلب من صادوق الكاهن واللاويين أن يأتوا بالتابوت حتى يعبر الشعب، وإذ تم العبور لم يقبل أن يأخذه معه خارج أورشليم بل طلب إرجاعه مؤمنًا بأن الله يسمح له بالعودة إلى حيث التابوت رمز الحضرة الإلهية – إن أراد الرب.

أظهر داود تسليمًا كاملاً لحياته بين يدي الله مع شعوره بخطاياه وعدم استحقاقه، لذا رد التابوت ومعه صادوق الكاهن ومعه ابنه أخيمعص، وأبيأثار الكاهن وابنه يوناثان، حاسبًا ذلك سندًا له في أورشليم، وخشية أن يحل بالتابوت شيئًا!

أدرك أنه يمر بفترة تأديب إلهي لكنها إلى حين، أما قلبه فكان مرتبطًا بالله وبشعب الله وتابوت العهد والمدينة المقدسة أورشليم...

لقد طلب من الكاهنين أن يُرسلا إليه ابنيهما وهو متباطئ في البرية ليعرف أخبار أبشالوم ورجاله عند دخولهم المدينة.

٧. رجوع حوشاي الأركي:

صعد داود جبل الزيتون شرق مدينة أورشليم، قمته على بعد ميل منها، وكان يصعد باكيًا ورأسه مغطى ويمشى حافيًا، وجميع الشعب يتمثلون به. وإذ بلغ القمة "سجد لله" [٣٢]، فقد اعتاد أن يسجد لله ويشكره في وسط الضيقات. يقول مار اسحق السرياني: [القلب الذي يتحرك دائمًا بالشكر هو مرشد يقود لعطايا الله للإنسان[91]].

على ذات الجبل وقف رب المجد يسوع يتطلع نحو أورشليم باكيًا بسبب رفض أولادها أبوة الله ورعايته (مت ٢٣: ٣٧؛ لو ١٣: ٣٤).

مما زاد حزن داود الملك جدًا سماعه أن أخيتوفل أفضل أصدقائه يخونه، إذ هو بين الفاتنين مع أبشالوم، لذا صرخ إلى الرب أن يبدد مشورته، لأنه معروف بحكمته وتدابيره.

طلب داود من حوشاي الأركي أن يرجع لأنه شيخ لا يحتمل المشقات فيصير عبئًا على داود في تحركاته، ومن جانب آخر فإنه رجل أمين ووفي يقدر أن يبطل مشورة أخيتوفل خلال صداقته مع أبشالوم.

يبدو أن حوشاي كان غائبًا عندما هرب داود، وإذ سمع بالخبرأسرع إليه لكن داود فضل بقاءه في أورشليم، فكانت محبة حوشاي وأمانته بلسمًا لنفس داود المتمررة بسبب خيانة أخيتوفل.

عبّر داود النبي عن مرارة نفسه من جهة خيانة أخيتوفل وعن تهلله في نفس الوقت من أجل إخلاص حوشاي الأركي في المزمور ٤١.

"طوبى للرجل الذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب...

 الرب يعضده وهو على فراش الضعف. مهدت مضجعه كله في مرضه...

 أيضًا رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليّ عقبه" (مز ٤١).

لعله عنى بالمسكين نفسه إذ صار طريدًا، فقد تطلع إليه حوشاي بالرغم من شيخوخته وضعف جسده لذا يسنده الرب ويعينه بقية أيام حياته. أما رجل سلامته فهو أخيتوفل الذي أنعم عليه بالحب والصداقة مع نعم وعطايا وها هو يحطم الثقة ويرفع عليه عقبه لأذيته فيصير رمزًا ليهوذا الخائن.

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح السادس عشر

داود الهارب

كانت نفس داود مُرّة للغاية في هذه المرة فإنه ليس هاربًا من أمام وجه شاول الملك الذي يخشى داود لئلا يغتصب ملكه وإنما إمام إبنه العاق الذي اغتصب كرسيه وأثار الشعب ضده. ومما يزيد نفسيته مرارة أن البعض وجد فرصتهم لإهانته وسبه. هذا بجانب شعوره الخفي أن ما حل به هو ثمرة ما ارتكبه في حق الله وضد أوريا الحثي.

على أية الأحوال تكشف المزامير التي أنشدها داود أثناء هروبه أنه لم يفقد رجاءه في الرب، مدركًا أن ما حل به تأديب أبوي من قبل الرب مخلصه.

١. لقاؤه مع صيبا                    [١-5].

٢. شمعي يسب داود                  [٦-١٤].

٣. المناداة بأبشالوم ملكًا             [١٥-١٩].

٤. أبشالوم وسراري أبيه             [٢٠-٢٣].

١. لقاؤه مع صيبا:

كان صيبا يطمع في اغتصاب أملاك مفيبوشث بن يوناثان غير مكتف بأن يقوم هو وبنوه وعبيده بإدارتها، وقد وجد الفرصة سانحة لإثارة داود ضد مفيبوشث حتى يصدر داود أمره بنقل الملكية إليه عوض مفيبوشث.

لقد أدرك صيبا أن داود رجل حكيم وقوي، وأن الضيقة التي يجتازها عابرة، وأن الانتصار حليفه في النهاية، لذا أسرع إلى اللقاء معه وسط الضيقة حينما كان داود على قمة جبل الزيتون حيث قدم له حمارين مشدودين عليهما مائتا رغيف خبز ومئة عنقود زبيب ومئة قرص تين وزق خمر. قال له أن الحمارين لبيت الملك كما أن الأكل والشرب لمن يصاب بإعياء في البرية...

سأل داود عن مفيبوشث و في مكر أجاب صيبا: "هوذا هو مقيم في أورشليم، لأنه قال: اليوم يرد لي بيت إسرائيل مملكة أبي" [٣]. هكذا شوه صيبا صورة سيده أمام داود الذي قدم كل إحسان وحب وتكريم لمفيبوشث. كلمات صيبا غير مقبولة، لأنه لم يكن ممكنًا لمفيبوشث الأعرج أن يستلم الحكم من أبشالوم بكل جماله وقوته وسلطانه الذي عرف كيف يغتصب الحكم من داود الملك. لكن داود كان مهتمًا بأمور كثيرة وعاجلة، مدركًا أن مفيبوشث لن يمثل خطرًا عليه أو على ابنه، وإنما في عجلة وبغير تدقيق اغتاظ  وحسب مفيبوشث خائنًا وناكرًا للجميل، وأصدر قراره لصيبا: "هوذا لك كل ما لمفيبوشث" [٤]. سجد له صيبا وقال: "ليتني أجد نعمة في عينيك يا سيدي الملك" [٤].

لقد سمح الله لداود أن يجتاز هذه التجربة القاسية، وهو شعوره بخيانة مفيبوشث ضده، الأمر الذي لم يكن يتوقعه قط، وكان ذلك لخيره وبنيانه من جوانب كثيرة، منها:

أ. كان لابد لداود أن يشرب من ذات الكأس التي ملأها بيده، فقد خان رجله الأمين أوريا الحثي ونام ضميره زمانًا، لذا أراد الله أن يذوق داود مرارة الخيانة، وها هو يذوقها بخيانة ابنه له، وأيضًا أخيتوفل، وهوذا مفيبوشث وغيرهم كثيرون. الذين أحسن إليهم يسيئون إليه أكثر مما أساء إليه الأعداء!

ب. استخدم الله هذه التجربة لخيره، فقد كان داود ومن معه في حاجة إلى هذه الهدية، التي قدمها صيبا له. الله يعولنا بكل الطرق، عال إيليا بغراب، وعال داود ورجاله خلال خبث صيبا وخداعه!

ج. اكتشف داود فيما بعد خداع صيبا له، وتعلم ألا يصدر أحكامه بعجلة. لقد أدان مفيبوشث وغضب عليه وحرمه من ممتلكات جده ظلمًا.

٢. شمعي يسب داود:

خرج من بحوريم شمعي بن جبرا من بيت شاول، وكان بينه بين داود ورجاله وادٍ، فكان يرشقهم بالحجارة، غالبًا لم تكن تصلهم إنما هي علامة على غيظه واحتقاره لهم، أما كلماته فكانت مسموعة.

كان يسب داود قائلاً:

"اخرج اخرج يا رجل الدماء رجل بليعال.

قد ردّ الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه،

وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك،

وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء" [٧-٨].

كان شمعي يقذف داود بالحجارة كأنه كلب، أما كلماته فكانت كالسهام القاتلة، تحمل كراهية وضغينة مع كذب. فإن داود لم يقاتل شاول ليغتصب منه الملك. على النقيض من هذا قابل مطاردة شاول بالسماحة. لم يمد يده على شاول قط ولا على بنيه أو أحفاده وإنما كان يسعى ليصنع معهم معروفًا.

في غيرة أراد أبيشاي أن يعبر ليقتل هذا الرجل حاسبًا إياه كلبًا ميتًا، أما داود فمنعه حاسبًا هذه الإهانة تأديبًا من قبل الرب بسبب خطيته، إذ قال:

"مالي ولكم يا بني صروية.

 دعوه يسب، لأن الرب قال له: سب داود.

 ومن يقول: لماذا تفعل هكذا؟.

هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي، فكم بالحري الآن بنياميني؟! دعوه يسب لأن الرب قال له...

 لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم" [١0-١٢].

يُكرر الملك داود العبارة "لأن الرب قال له" أن يسبه، ليس لأن أمرًا صدر من قبل الرب لشمعي كي يسب داود، وإنما الله سمح لإرادة شمعي الشريرة أن تتمم ذلك فيتحقق العدل الإلهي كما يقول القديس أغسطينوس[92]. مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس[93]: [إن الله يستخدم الأشرار حتى الشيطان نفسه لأجل امتحان الصالحين وتزكية إيمانهم وتقواهم].

لم يكن ممكنًا لهذه الشتائم أن تؤذي داود بل هي بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كي يغتصب المراحم الإلهية. كلمات التملق التي نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكمًا خاطئًا ومتعجلاً في غضب ضد مفيبوشث أما كلمات شمعي المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكمًا صادقًا على نفسه. حقًا إن كلمات الإطراء أكثر خطرًا على حياة المؤمن – خاصة القائد – من كلمات الذم. وكما يقول أحد آباء البرية: من لا يحتمل كلمة الذم كيف يقدر أن يحتمل كلمة المديح؟!

تقبل داود كلمات السب بفرح كدواء لأعماقه الداخلية، لكنه غضب وتحدث بحزم مع أبيشاي لأنه أراد الانتقام له ممن يسبه.

v   تحرك داود بغضب تقوي ضد اقتراح (أبيشاي) المهلك، وحفظ المقياس اللائق للاتضاع والصبر بحزم.

القديس يوحنا كاسيان[94]

v   أنصت إلى داود الذي صار مشهورًا على وجه الخصوص بسبب انسحاق نفسه. كيف بعدما صنع كثيرًا من الأعمال الصالحة، وعندما كان مطرودًا من بلده وبيته بل ومن الحياة عينها، في وقت كارثته رأى جنديًا سخيفًا منبوذًا يمتهن كرامته ويسبه، لم يرد له السب بل ومنع أحد قواده من قتله قائلاً: "دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود" .

القديس يوحنا الذهبي الفم[95]

ما أعجب قلب داود المتسع حبًا حتى تجاه مضايقيه، فإننا نجده دائمًا لا يطلب النقمه لنفسه، بل يُقابل الإساءة الشخصية باتساع قلب.

ربما ثارت مشاعره الداخلية في البداية لكن الله ملأ قلبه بتعزيات فائقة أساسها:

أ. شعر أن هذا السب هو بسماح من الله لتأديبه فقد كان رجل دماء لا بقتل شاول أو أحد رجاله كما قال شمعي وإنما بقتله أوريا الحثي... لذا لاق به أن يتقبل السب بفرح كما من قبل الله، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه متى شتمك إنسان بقوله لك: "يا زانٍ"، لماذا تغضب؟ ألم يمر عليك قط فكر زنا أو شهوة رديئة في شبابك؟ احسب ذلك تأديبا عن أفكار شبابك.

ب. إن كان ابنه أبشالوم قد ثار ضده واغتصب منه العرش، وهو لا يضمر الانتقام منه، فلماذا ينتقم من بنياميني سبه دون أن يغتصب منه شيئًا؟!

ج. حسب داود النبي هذا السب فرصة للتذلل كطريق لاغتصاب مراحم الله.

٣. المناداة بأبشالوم ملكًا:

جاء أبشالوم ومعه الرجال من كل الأسباط – خاصة يهوذا - وأخيتوفل، جاء ليملك دون أن يسفك دمًا، فقد هرب داود ورجاله حتى لا يهلك أحد بسببه.

فوجئ أبشالوم بتقدم حوشاي الأركي صديق داود إليه وهو يقول: "ليحيا الملك ليحيا الملك". إذ لاحظ حوشاي الأركي تعجب أبشالوم قال بحكمة: "الذي اختاره الرب وهذا الشعب وكل رجال إسرائيل فله أكون ومعه أقيم. وثانيًا: من أخدم؟ أليس بين يدي ابنه؟! كما خدمت بين يدي أبيك كذلك أكون بين يديك" [١٨-١٩].

هكذا قدم حوشاي مبررات لعدم هروبه، حتى يثق به أبشالوم فيكون سندًا لداود في داخل القصر.

٤. أبشالوم وسراري أبيه: 

كان أخيتوفل مشيرًا لأبشالوم، يسمع له الملك الجديد كما لله، حاسبًا مشورته كمن يسأل كلام الله [٢٣]، مع أنها كانت مشورات شريرة من قبل إبليس، تحمل حكمة أرضية شهوانية (١ كو ٥: 1).

أول مشورة قدمها له أخيتوفل هي أن يدخل على سراري أبيه اللواتي تركهن داود لحفظ البيت. صنع أبشالوم ذلك على السطح لكي يتأكد الكل أن الكراهية ضد داود قد بلغت أشدها وأنه لا مصالحة بينه وبين أبيه.

لعل أخيتوفل أشار بذلك على أبشالوم خشية أن يحن الابن يومًا ما لأبيه فيصالحه، وبهذا يصير موقف أخيتوفل حرجًا أمام صديقه القديم داود. إنه خائن لا يقدر أن يواجه داود!

تم ذلك على السطح الذي سبق فتمشى عليه داود ليختلس نظرة شريرة لامرأة غريبة، هوذا ابنه يضطجع مع سراريه علانية في ذات الموقع!

<<

 

 

 

 


 

الأصحاح السابع عشر

إحباط مشورة أخيتوفل

بقي داود حوالي سبع سنوات ونصف في حبرون ملكًا على سبط يهوذا (٢: 4) حتى جاء إليه رجال الأسباط مع أبنير يطلبون إليه أن يملك عليهم، عندئذ انتقل إلى أورشليم كعاصمة لكل إسرائيل، أما أبشالوم فعلى النقيض من والده بعث رسلاً إلى رجال الأسباط لمبايعته ملكًا، وبسرعة تحرك من حبرون إلى أورشليم (١6: ١5)، لكنه لم يسترح بالرغم من استلامه المملكة في عجلة دون صراع من والده ورجاله... لقد وضع في قلبه قتل أبيه لعله يطمئن ويستريح. تقدم أخيتوفل بمشورة شريرة لكنها تحسب مُحكمة في تحقيق هدف أبشالوم، غير أن الله بدد هذه المشورة بمشورة أخرى أشار بها حوشاي الأركي.

١. مشورة أخيتوفل                   [١-٤].

٢. حوشاي يبطل المشورة            [٥-١٤].

٣. بعث رسولين إلى داود            [١٥-٢٢].

٤. انتحار أخيتوفل                    [٢٣].

٥. استعداد أبشالوم للحرب            [٢٤-٢٦].

٦. داود في محنايم                   [٢٧-٢٩].

١. مشورة أخيتوفل:

تقدم أخيتوفل كمشير للملك إلى أبشالوم بخطة لتحقيق أهدافه، وهي سرعة اللحاق بداود وهو متعب مع الشعب الذي معه، فبسبب الإرهاق الشديد وخلال عنصر المفاجأة وقبل أن يستقر داود لينظم جيشه ويدبر أموره يضطرب الكل ويتركونه، فيبقى داود وحده، يقتلونه ويرجع الشعب إلى أبشالوم دون مجهود يُذكر. في رأيه أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من اثني عشر ألف رجل منتخبين يتحركون في ذات الليلة ليرجعوا فورًا بنصرة أكيدة.

هذه المشورة حسبها الكتاب صالحة [١٤] لا بمعنى أنها تحمل صلاحًا وإنما لأنها قادرة على تحقيق هدف أبشالوم، يلاحظ فيها الآتي:

أ. جاءت رمزًا لمشورة رئيس الكهنة قيافا ضد ابن داود إذ قال: "أنتم لستم تعرفون شيئًا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" ويعلق الإنجيل قائلاً: "ولم يقل هذا من نفسه إذ كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يو ١١: ٤٩-٥٢).

إن كان اسم "أخيتوفل" يعني "أخ الحماقة"[96]، فإن الله في صلاحه يستخدم حتى هذا الأحمق الشرير أداة ليتنبأ به، كما فعل قبلاً مع بلعام العراف (عد ٢٣، ٢٤)، وها هو يستخدم أخيتوفل ليعلن أن الحاجة أن يموت داود فلا تهلك الجماعة كلها بل "يكون كل الشعب في سلام" [٣]. وقد تحقق ذلك في المسيح يسوع الذي قدم نفسه بإرادته كفارة عن العالم كله (١ يو ٢: ٢)، لذلك سلمنا جسده المبذول سر خلاص للكل. يقول القديس جيروم: [لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، هذا الذي ينزع خطايا العالم، لنأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة[97]].

ب. صوّر أخيتوفل داود ومن معه كخارجين عن طاعة الملك أبشالوم... هكذا بعينه الشريرة كرجل خائن رأي في داود عصيانًا وخروجًا عن القانون!

٢. حوشاي يبطل المشورة:

يرسل الله مع التجربة المنفذ؛ في كل عصر وُجد المقاومون للحق كما أقام الله من يحطمون مقاومتهم أو يحولونها للبنيان. إذ قام فرعون قاسيًا أرسل الله موسى قائدًا قويًا، وإذ بعث عدو الخير أخيتوفل أقام الله حوشاي، وإذ يأتي ضد المسيح في نهاية الأزمنة يرسل الله نبيين يحطمان أضاليله.

مع استصواب أبشالوم مشورة أخيتوفل استدعى حوشاي الأركي يطلب أيضًا مشورته ليأخذ قراره النهائي. بحكمة تظاهر بأن أخيتوفل لم يصب في هذه المرة، مقدمًا مشورة أخرى تبدو أكثر صلاحًا، غايتها في الواقع إنقاذ داود وخطوطها العريضة هي الآتي:

أ. أن داود رجل حرب وأنه يتوقع ما أشار به أخيتوفل لهذا فهو لن يبيت الليلة مع الشعب وإنما يختفي في مكان مجهول، في مغارة أو شق، ولن يبلغ إليه رجال أبشالوم، لذا تقوم حرب طاحنة يُقتل فيها الكثيرون من الطرفين ويبقى داود على قيد الحياة ينغض حياة أبشالوم.

ب. أن أبشالوم يواجه رجل حرب، صاحب خبرة، حكيم، يعرف أن يُخطط، رجاله قلة لكنهم أقوياء وجبابرة، لهذا فالتسرع ليس في صالح أبشالوم، وإنما يحتاج الأمر إلى تروٍ ودراسة وتحرك جاد على نطاق أوسع حتى لا ينهزم جيش أبشالوم فيفقد الشعب الثقة فيه.

ج. أن أبشالوم له إمكانيات جبارة، شعبه ممتد من دان إلى بئر سبع بلا عدد، فلماذا لا ينتفع بهذه الإمكانيات مكتفيًا باثني عشر ألف رجل؟! إنه قادر أن ينزل على داود كالطل على الأرض في كل موضع، وإن انحاز إلى مدينة يجرها رجاله بالحبال إلى الوادي حتى لا تبقى في المدينة هناك ولا حصاة. هكذا بعدما أرعبه من داود ورجاله عاد يطنب في قدرة أبشالوم برجال إسرائيل حتى لا يظن أبشالوم أن حوشاي يحتقره أو يستهين به. إنه يقف بجواره لكنه يطلب منه التروي وعدم التسرع... كان لابد من المديح حتى يتقبل رجل كأبشالوم المتعجرف مشورته.

د. أن الأمر لا يحتاج إلى قتل داود وحده وإنما الخلاص من كل رجاله حتى لا يسببون لأبشالوم كدرًا، وإذ قال له: "لا يبقى منه ولا من جميع الرجال الذين معه واحد" [١٢]. هذا الرأي يجد استطابة في قلب أبشالوم إذ لا يُريد أيضًا رجال داود.

هـ. هذه هي الحرب الأولى التي يقوم بها أبشالوم كملك فكيف لا يخرج مع رجاله، لذا أشار عليه حوشاي: "وحضرتك سائر في الوسط" [١١]. لعله هدف بهذا أن يموت أبشالوم في الحرب فلا توجد فرصة أخرى للمقاومة.

هذه النقاط أرعبت أبشالوم من ناحية إن تسرع، وطمأنته من ناحية أخرى بل وأشبعت كبرياءه إن تأنى ليجمع الكل تحت قيادته ويثير حربًا جادة وعنيفة قادرة على وضع نهاية لداود ورجاله.

لم يدرك أبشالوم إنه وإن وُجد كثيرون يمدحونه ويمالقونه لكن يوجد أيضًا بين الشعب كثيرون لازالوا يحبون داود أباه، وأن جمع كل بني إسرائيل حوله قلبيًا أمر يحتاج إلى وقت طويل.

على أية الأحوال هذا ما قدمه حوشاي، لكن السر الخفي وراء ذلك هو الله العامل الحقيقي لإنقاذ داود، فقد أعطى لمشورة حوشاي نعمة في عيني أبشالوم، إذ قيل: "فإن الرب أمر بإبطال مشورة أخيتوفل الصالحة لكي ينزل الرب الشر بأبشالوم" [١٤].

الله الذي سمح بتقديم مشورة أخيتوفل هو بنفسه أبطلها خلال مشورة حوشاي ليعطي داود ورجاله نصرة على أبشالوم. هذه يد الله العاملة عبرالأجيال لحساب مؤمنيه، خاصة حينما نزل ابن داود – كلمة الله المتجسد – إلى عالمنا ليحطم كل خطية شيطانية. يقول القديس جيروم: ["في البحر طريقك" (مز ٧٧: ١٩)، أي خلال الأمواج، خلال المياه المُرّة حيث يسكن التنين... أنت في السماء وقد نزلت إلى الأرض... جاء ينبوع الحياة ليحوّل البحر المُرّ والميت إلى مياه حلوة[98]].

"حوشاي" اسم معناه "مسرع"[99]. فقد أسرع إلى داود ليخرج معه وقد ضيقته بالرغم من شيخوخته لكن داود طلب منه البقاء في أورشليم ليكون سندًا له، وها هو يسرع إلى نجدته بتقديم مشورة تبطل مشورة أخيتوفل مع إبلاغ داود بكل ما جرى.

٣. بعث رسولين إلى داود:

كان لابد لحوشاي أن يخبر داود بما حدث خلال الكهنة؛ وقد استخدم الله الشعب والكهنة، الرجال والنساء، الشيوخ والشبان لتحقيق هذا الهدف، ليعلن أن الكنيسة جسد واحد يتحرك كل أعضائها بروح واحدة، كل عضو له دوره الفعّال[100].

أ. أرسل حوشاي إلى الكاهنين صادوق وأبيأثار يخبرهما بما حدث من جهة أخيتوفل ومن جانبه، حتي يتحركا للعمل، وطلب منهما أن يبعثا إلى داود في سهول البرية أي في الضفة الغربية من الأردن (١٥: ٢٨). لئلا يُبتلع هو وجميع الشعب الذي معه، إذ خشى أن يعود أبشالوم فيقبل مشورة أخيتوفل ويهاجم داود في ذات الليلة.

إن كان حوشاي  يمثل القيادات الشعبية، فإنها تلتزم بالعمل مع القيادات الكنيسة، بروح الوحدة والتعاون كأعضاء لجسد واحد، يتبادلان الحب ويتممان العمل الكنسي الواحد، مقدمين بعضهم بعضًا في الكرامة.

كل مغالاة من الجانبين يُحطم الكنيسة، فالأسقف كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هو أسقف بشعبه، والشعب يعمل بأسقفه في انسجام وتناغم معًا، فتحل البركة ويعمل الله في الجميع].

من الجانب الرمزي فإن حوشاي (تعني "مسرعًا") قد أسرع إلى صادوق (تعني "صديقًا أو بارًا"[101]) وأبيأثار (تعني "أب الثراء[102]") الكاهنين ليتدبرا الأمر. فإن الكاهنين يمثلان دور الكاهن في الخدمة متعاونًا مع الشعب، ألا وهو العمل خلال الحياة البارة أو المقدسة في الرب، والأبوة الثرية بفيض الحب. بمعنى آخر إن كان الشعب يسرع نحو الكهنة إنما لأنهم يتوقعون فيهم أولاً وقبل كل شيء قدسية الحياة والأبوة الصادقة المملوءة حنانًا ولطفًا.

أ. انطلقت جارية من قبل الكاهنين الشيخين صادوق وأبيأثار إلي ابنيهما الكاهنين الشابين: يوناثان (كلمة عبرية تعني "عطية يهوة"[103]) وأخيمعص (تعني "أخ الغضب"[104])، اللذين كانا واقفين عند عين روجيل (أي "عين مسافر"[105]) ينتظران الرسالة. الكنيسة في حاجة إلى جميع أفراد شعبها وكهنتها، فإنه ما كان يمكن لحوشاي أن يحقق رسالته دون الجارية الفقيرة، ولا كان يمكن للكاهنين الشيخين أن يعملا بدون الشابين. ليت الغني يشعر بعوزه إلى الفقير، والكاهن الشيخ لا يستخف بالكاهن الشاب!

اسما الشابين يحملان معنى رمزيًا، فإنه يليق بالشيوخ أو البالغين أن يتطلعوا إلى الشباب من زاويتين: الأولى أنهم عطية الله (يوناثان). فالشاب ليس أداة في يد الشخص البالغ إنما هو إنسان الله له كيانه وشخصيته ومواهبه وفكره، أمور تحتاج من البالغين أن يقدروها فيهم لا أن يطلبوا صَبَّ الشباب في قوالب حسب أهوائهم الشخصية[106]. أما الثانية فهي أن الشباب يُعرف بسرعة الإنفعال والغضب... لنقبلهم كإخوة (أخيمعص = أخ الغضب) لتتحول عواطفهم الثائرة للبنيان بتقديسها وليس بتحطيمها.

كان الشابان واقفين عند "عين روجيل" أي "عين المسافر" إذ يميل الشباب إلى الحركة المستمرة، إنهم لا يقبلون الحياة الخاملة الجامدة. عمل الشيوخ ليس مهاجمة الشباب في تحركهم وإنما مساندتهم بالحب والرعاية مع الحكمة فيتحرك الكل معًا في نمو للبنيان.

ب. لم يكن الشابان قادرين على الظهور في أورشليم [١٧] لأنهما معروفان أنهما من تابعي داود. ومع ذلك فقد رآهما غلام وأخبر أبشالوم بما حدث. وكأن مع كل عمل نتوقع مقاومة من عدو الخير من حيث لا ندري، لذا لن تنجح أية خطة بشرية مهما أُحكمت ما لم تتدخل عناية الله ونعمته.

ج. انطلق الشابان إلى بيت رجل في بحوريم (تعني "شبابًا"[107])، وهي ذات المدينة التي خرج منها شمعي بن جيرا البنياميني ليسب داود ويرشقه بالحجارة ويذري التراب مقابله (١٦: ٥، ٦، ١٧). المدينة التي أخرجت رجلاً يقاوم داود وجد فيها امرأة مؤمنة تعمل لحسابه، إذ أخفت الرجلين في بئر جافة وغطتها بسجف (ستائر) الباب وسطحت عليها سميذا. يمكننا القول إن المدينة التي أخرجت إنسانًا يهين داود فيحتمله باتساع قلب وجدت فيها امراة متسعة القلب نحو داود ورجاله. لقد سمع الرب لكلمات داود التي نطق بها هناك: "لعل الرب ينظر مذلتي ويكافئني خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم" (١6: ١1).

حيت يوجد احتمال الإهانة والسب برضى يقوم الخلاص!

الرجل سبّ داود والمرأة عملت على إنقاذ حياته... ليت كلا الجنسين يدركان دورهما الإيجابي في العمل لحساب ملكوت الله.

لعل الرجل الذي سب داود يشير إلى اليهود الذي جحدوا المخلص ورفضوه، أما المرأة فتُشير إلى جماعة الأمم التي قبلت بالإيمان بئر المعمودية المقدس وقد غطته ستائر الحب الإلهي خلال الدم المبذول على الصليب.

د. فتش عبيد أبشالوم عن الكاهنين الشابين فلم يجدوهما، فقالت لهم: "قد عبرا قناة الماء" [٢٠]. ربما أشارت بذلك إلى مجرى صغير من الماء بالقرب من البيت. في هذا كذبت المرأة كما فعلت راحاب (يش ٢: ١-٧) وميكال (١ صم ١٩: ١٢) وحوشاي (١٥: ٣٤). هذا الكذب هو ضعف بشري لا يمكن تبريره!

هـ. خرجا من البئر وانطلقا إلى داود يخبرانه أن يعبر هو وشعبه الماء (نهر الأردن) سريعًا بالرغم من صعوبة الأمر. وبالفعل تم العبور طوال الليل متجهين نحو المشرق، حتى لم يبق في الصباح أحد لم يعبر الأردن [٢٢].

٤. انتحار أخيتوفل:

لم يعمل أبشالوم بمشورة أخيتوفل المتعجرف، لهذا انطلق إلى بيته حيث خنق نفسه ومات بعدما أوصى لبيته أي رتب أمور أسرته [٢٣].

صنع هذا لسببين رئيسيين: الأول من أجل كرامته الذاتية، إذ استصعب أن تُقبل مشورة آخر غيره. والثاني أنه أدرك أن مشورة حوشاي ستُحطم أبشالوم فيعود داود إلى كرسيه وينتقم منه كخائن.

أما خنقه في بيته فيُشير إلى أن ما حلّ به هو ثمرة طبيعية للأنا أو البيت الداخلي المتقوقع بغير انفتاح قلب أو محبة للغير. لذا يؤكد القديس مقاريوس الكبير في العظات المنسوبة إليه أنه لا خلاص خارج الآخرين، ويقول مار اسحق السرياني: [من يقرض ذراعه لمساندة أخيه يتقبل ذراع الرب عونًا له[108]].

صار أخيتوفل رمزًا ليهوذا الخائن الذي خنق نفسه أيضًا.

٥. استعداد أبشالوم للحرب:

عبر داود ورجاله نهر الأردن إلى محنايم، وهي مدينة للاويين عند تخم جاد الشمالي (٢: ٨)، وكانت مدينة مناسبة لداود بسبب حصونها.

عبر أبشالوم الأردن ومعه رجال إسرائيل تحت قيادة عماسا (معناها "ثقل"[109]) الذي يحمل ذات القرابة لأبشالوم مثل يوآب ابن خالته، وقد صار عماسا ثقلاً على أبشالوم وليس معينًا له، إذ قُتل أبشالوم في المعركة الوحيدة التي قادها مع عماسا ضد أبيه.

٦. داود في محنايم:

جاء داود ورجاله إلى محنايم حيث قدم لهم شوبى بن ناحاش وماكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاي الجلعادي أثاثات وطعامًا ليأكلوا، تقدمة محبة تقبلها داود وسط ضيقه ومتاعبه، لذا ترنم بالمزمور ٢٣ قائلاً: "ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي".

تلقى محبة عملية في محنايم البعيدة عن عاصمة ملكه في وقت قام فيها كثيرون من أصدقائه بمقاومته وخيانته.

إن كانت "محنايم" تعني "معسكرين"، فالتجاء داود إليهما إنما يشير إلى تجلي السيد المسيح في كنيسته في العهدين القديم والجديد. في محنايم وُجد شوبى (يعني "الآسر" أو "المُعتقل"[110])، وماكير (تعني "البائع"[111]) بن عميئيل (يعني "شعب الله"[112])، وبرزلاي (يعني "قلبًا حديديًا"[113])، هؤلاء قاموا بخدمة داود بتقديم أثاثات وأطعمة متنوعة ليأكل هو ومن معه وسط الضيق والتعب. كأنه يليق بالمؤمنين من العهدين أن تكون لهم السمات الثلاث التالية:

أ. أن يكونوا آسرين لا أسرى، يعرفون كيف يقودون حياتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم بقوة الروح غير مستعبدين لشهوات الجسد؛ في أيديهم عجلة القيادة الداخلية بالروح القدس الساكن فيهم.

ب. أن يكونوا بائعين، أي لهم العمل الإيجابي في الكنيسة، يشعرون بنوع من الحرية كأعضاء حقيقيين في شعب الله.

ج. أن يكون لهم القلب الحديدي، لا يخنعون للخوف والقلق ولا للذة والشهوة، إنما يحملون روح النصرة والغلبة بالمسيح يسوع قائد الموكب الروحي.

<<

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الثامن عشر

نهاية أبشالوم

مُسح أبشالوم العاق والمتعجرف ملكًا على كل إسرائيل، ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى جمع جيشه الضخم ليقتل داود... دخل في معركة كانت ظلاً لمعركة الصليب، فيها خرج داود ورجاله منتصرين بينما تحطم أبشالوم ورجاله. كان داود رمزًا للمسيح الحيّ الغالب، وكان أبشالوم رمزًا لإبليس الذي قتله الرب بالصليب وحطم سلطانه.

١. تنظيم رجال داود         [١-٥].

٢. انكسار أبشالوم          [٦-٨].

٣. نهاية أبشالوم            [٩-١٥].

٤. رجوع عبيد داود        [١٦-١٨].

٥. داود يحزن على ابنه    [١٩-٢٣].

١. تنظيم رجال داود:

مُسح أبشالوم العاق ملكًا، وجمع جيشه الضخم وعبر الأردن لمحاربة داود ورجاله، طالبًا قتل داود بالذات، وكان في هذا يرمز لإبليس الذي بخداعه وكبريائه مع عصيانه لله صار رئيس هذا العالم (يو ١٤: ٣٠). وقد جمع كل رجاله الخاضعين له للخلاص من المسّيا.

في ذات الوقت كان داود يحصى رجاله لا لمعرفة عددهم وإنما لتنظيم جيشه في محنايم، ويقدر المؤرخ اليهودي يوسيفوس عددهم بحوالي ٤٠٠٠ نسمة، وهو عدد قليل جدًا بالنسبة لجيش أبشالوم. أقام داود رؤساء ألوف ورؤساء مئات كنظام موسى النبي (خر ١٨: ٢٥) ونظام شاول (١ صم ٢٢: ٧). كما قام بتوزيع الجيش على ثلاث فرق: الثلث تحت قيادة إتاي الجتي الذي أظهر إخلاصه وقت الضيق رافضًا البقاء في أورشليم مع أبشالوم ليشارك داود آلامه وتغربه (١٥: ١٨-٢٣)؛ والثلث تحت قيادة يوآب رئيس جيش داود، والثلث تحت قيادة أبيشاي أخي يوآب. ويبدو أنه أراد أن يكون القائد العام للثلاث فرق يقودهم بنفسه، لكن الشعب الذي سمع عن مشورة أخيتوفل وأدرك نية أبشالوم ألا وهي التركيز على قتل داود، طلبوا منه ألا يخرج، لأنه بقتله يسقط الجيش كله (٢١: ١٧)؛ وإن بقى في المدينة يرسل لهم نجدة ويسندهم بمشورته وتدبيره.

داود بتنظيمه للجيش يمثل السيد المسيح الذي يقيم من مؤمنيه جنودًا روحيين يصارعون حتى النهاية لتحطيم الشر وإبادة عدو الخير... لتحطيم الخطية لا الخطاة، الفساد لا البشر المخدوعين بالفساد. يقول القديس بولس: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، فإن مصارعتنا ليست من دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية وفي السمويات" (أف ٦: ١١-١٢). وأيضًا: "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنده" (٢ تي ٢: ٣-٤).

يرى الآباء أن السيد المسيح هو نفسه سلاحنا في المعركة. يقول القديس أمبروسيوس: [يوجد دفاع لخلاصنا مادام يوجد المسيح[114]]. ويقول القديس أغسطينوس: [عُدة أسلحتنا هي المسيح[115]].

أطاع داود أمرهم وبقي في المدينة، وفي حنان طلب من القادة الثلاثة: "ترفقوا لي بالفتي أبشالوم" [٥]. لم تكن هذه وصية ملك ولا قائد حرب بل وصية أب حنون يتطلع إلى ابنه العاق كصبي يحتاج إلى حنان الأبوة. هذه نظرة كثير من آباء الكنيسة تجاه كل إنسان غضوب، إنه شُبِّه بصبي صغير يحتاج إلى حب لعلاجه لا إلى مقاومته.

هذه هي مشاعر الأب البشري تجاه ابنه العاق، والأسقف أو الكاهن تجاه أحد أفراد شعبه الغضبي، فكم تكون مشاعر أبينا السماوي ربنا يسوع المسيح نحو الخطاة؟! إنه يبحث عنا جميعًا ويترفق بنا منتظرًا إشارة منا ليستلم حياتنا ويستريح في أحشائنا ويسكن في قلوبنا. لقد أعد الوليمة وأمسك بالحلة الأولى وخاتم البنوة، منتظرًا كل ابن عاق يرجع إليه.

ليس هناك وجه للمقارنة بين داود وأبشالوم، فداود المحب لكل الشعب لم يوصِ إلا بابنه العاق، بينما جاء أبشالوم بنفسه إلى المعركة هدفه الأول قتل أبيه!

٢. انكسار أبشالوم:

إذ تحرك أبشالوم للقتال اضطر داود أن يطلب من رجاله أن يتحركوا خارج محنايم، إذ لم يرد أن يسبب لشعبها اضطرابًا، وقد استضافوه هو ورجاله. هكذا كان داود عجيبًا في رقة مشاعره وحرصه ألا يتأذى أحد بسببه.

تم اللقاء في وعر أفرايم شرقي الأردن وذلك بخلاف الوعر الذي في غربة (يش ١٧: ١٨)، الذي فيه انكسر الأفراميون حينما حاربوا يفتاح وأهل جلعاد (قض 12: 6). انهزم أبشالوم مع رجاله أمام عبيد داود الذين يحسبون قلة قليلة أمام جيش أبشالوم. تشتت إسرائيل في الوعر فتبعهم رجال داود وقتلوا 20000 نسمة، أما الذين أهلكهم الوعر فكانوا أكثر من الذين قتلهم السيف، وكأن الطبيعة ذاتها ثارت ضد هذا الشرير كما حدث أثناء الصلب.

كان سقوطهم رمزًا لسقوط جاحدي الإيمان الذين رفضوا ابن داود السماوي ليعيشوا حسب فكرهم الأرضي وشهواتهم الجسدية وراء أبشالوم (رمز إبليس) المتعجرف. يقول القديس أغسطينوس: ["قدامه سيسقط كل المنحدرين إلى التراب" (مز ٢٢: ٢٩). هو (ربنا يسوع) وحده يرى كيف يسقط كل من يتركون السيرة السماوية، ويجعلون اختيارهم أرضيًا، ليظهروا أنهم سعداء أمام الناس الذين لا يرون سقوطهم (هلاكهم)[116]].

٣. نهاية أبشالوم:

كان أبشالوم راكبًا على بغل، مع أنه اعتاد في أورشليم أن يركب مركبة وخيلاً؛ وفي وسط الأحراش تعلقت رأسه، أو كما يقول يوسيفوس المؤرخ تشابك شعره بأغصان بطمة عظيمة، وذلك بسبب طول شعره وغزارته، وإذ سار البغل بقى معلقًا بين السماء والأرض. أسرع رجل يخبر يوآب بما رآه فانتهره لأنه لم يضربه إذ كان مستعدًا أن يعطيه عشرة شواقل فضه ومنطقة مطرزة. أجابه الرجل: "فلو وُزن في يدي ألف من الفضة لما كنت أمد يدي إلى ابن الملك. لأن الملك أوصاك في آذاننا أنت وأبيشاي وإتاي قائلاً: احترزوا أيا كان منكم على الفتى أبشالوم" [5]. لم يصبر يوآب رئيس الجيش على ذلك فنشب ٣ سهام في قلب أبشالوم وهو بعد حيّ في قلب البطمة، وأحاط به عشرة غلمان حاملوا سلاح يوآب وضربوا أبشالوم حتى مات. لقد خالف يوآب وصية داود لأنه شعر أن حياة أبشالوم تمثل خطرًا على داود نفسه كما على المملكة.

وقد سبقت الإشارة إلى أن نهاية أبشالوم ترمز إلى معركة الصليب التي فيها تحطمت قوى عدو الخير إبليس تمامًا بالنسبة للمؤمنين بالمخلص المصلوب، وذلك في الجوانب التالية:

أ. خرج رجال داود خارج المدينة "محنايم" ليدخلوا إلى معركة عنيفه مع أبشالوم ورجاله، مع رجال حرب أقوياء وكثيرين. هكذا إذ رفع مسيحنا على الصليب خارج أورشليم، يدعونا الرسول بولس أن نخرج خارج المحلة لنحمل عاره (عب ١٣: ١٣). ندخل معركة مع عدو الخير العنيف للغاية، قواته بلا حصر، لا يعرفون سوى العنف والشراسة... لكننا في المسيح يسوع ننال الغلبة والنصرة، محطمين كل خداعاته وحيله وكل قوته وجبروته. إنه يضعف جدًا هو وكل أعماله الشريرة إن اختفينا في مسيحنا الغالب.

ب. استخدم أبشالوم البغل الذي لأبيه عوض الخيل الذي كان يركبه... غالبًا ما كان داود الملك يخرج بهذا البغل في الحروب فيغلب، أما أبشالوم ففلت البغل من تحته ليتركه معلقًا بين السماء والأرض. يمكننا أن نقول مع العلامة أوريجانوس: [إن السيد المسيح رُفع على الصليب علانية، أما الذي فقد سلطانه وصُلبت إمكانياته فهو إبليس. على ذات الصليب ملك المسيح وتحطم إبليس، إذ يقول الرسول عنه إنه بالصليب قط أشهر إبليس وكل سلاطينه (١ كو ٢: ١٥).

v   لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء... لقد قهر... لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب!...

القديس أغسطينوس[117]

v   سلب (الرب) الرؤساء والسلاطين وظفر بهم بصليبه. هذا كان سبب مجيء ربنا: أن يطرحهم خارجًا ويسترد الإنسان الذي هو بيته وهيكله.

القديس مكاريوس الكبير[118]

v   بالشجرة التي قتلنا بها (الشيطان) أنقذنا الرب...

مبارك هو هذا الذي كحمل حقيقي خلصنا، وأهلك مهلكنا كما حدث مع داجون.

مار أفرايم السرياني[119]

ج. الشعر الذي بجماله وغزارته جذب أبشالوم الكثيرين ليقيموه ملكًا (١٤: ٢٥-٢٧)، هو الذي تشابك مع أغصان البطمة ليبقى معلقًا غير قادر على الإفلات من الموت. هكذا الجسد بكل أعضائه الصالحة وأحاسيسه ومشاعره التي أوجدها الله فينا إن انحرف عن غايته يصير سبب هلاك لنا. ليس العيب في الجسد ولا في طاقاته فإنه من عمل خالق صالح إنما العيب فينا نحن الذين نحول ما هو صالح لهلاكنا.

د. بقي أبشالوم بين السماء والأرض معلقًا على الخشبة، يشير إلى عدو الخير الذي يُحطمه الصليب فلا يجد راحة في السماء إذ ليس له موضع فيه، ولا الأرض باقية له... إنه يهوى إلى حيث لا يتمتع بالسماء ولا بالأرض.

هـ. ضُرب أبشالوم بالسهام وهو حي بيد يوآب في قلبه، كما ضربه الغلمان العشرة حاملوا السلاح. يوآب يمثل جماعه القديسين الجبابرة في الإيمان يُحطمون إبليس، يضربونه كما في قلبه. أما الغلمان العشرة فيشيرون إلى المؤمنين البسطاء كغلمان صغار لا يتوقفون عن محاربة عدو الخير الذي فقد قدرته على التحرك بالنسبة لهم. يشبهه القديس يوحنا الذهبي الفم بالكلب الذي ينبح كثيرًا أمام بيته لكنه جبان أمام طفل برئ.

٤. رجوع عبيد داود:

ضرب يوآب بالبوق لينهي القتال بموت أبشالوم؛ أنه بوق كلمة الله التي ينطق بها المؤمنون كما ببوق ليعلنوا خلال الكلمة حياة الغلبة ونهاية عدو الخير.

طرح أبشالوم في أقرب جب وُجد هناك فاقدًا كرامته كابن للملك. طلب الكرامة الزمنيه وسعى إليها بكل طاقاته ففقدها في موته وحتى بعد موته، فصار عبرة لكل نفس في عقوق نحو الله أبيها. كانوا يرمونه بالحجارة وكأنهم يرجمونه بسبب عقوقه كحكم الشريعة (تث ٢١: ٢٠-٢١). لا تزال توجد في بعض بلاد الشرق عادة أن يُلقي العابرون حجارة على مقبرة المجرمين.

مات أبشالوم بعد أسابيع من ملكه، وقد سبق أن مات أولاده الثلاثة (12: 27) في حياة أبيهم. وأقيم نصب تذكاري دُعي "يد أبشالوم"، ربما لأنهم كانو يصورون يدًا على النصب لأن اليد آلة للعمل. هذا النصب تذكار وعبرة لكل من تسول نفسه ممارسة العقوق.

٥. داود يحزن على ابنه:

أدرك يوآب أن الملك المتعلق بابنه أبشالوم لن يتقبل خبر النصرة بفرح بسبب موت ابنه لذلك لم يرد أن يقوم أخيمعص بن صادوق الكاهن بإبلاغ الخبر للملك، فبعث برسول آخر كوشي، ربما كان عبدًا ليوآب من بلاد كوش. نزل أخيمعص إلى الغور أي إلى وادي الأردن وسار فيه ثم صعد إلى محنايم ليبشر داود بالنصرة، أما الكوشي فأخذ طريقًا أسهل لكنه أطول.

وصل أخيمعص أولاً حيث كان داود جالسًا بين البابين: أي على السطح يربط بين باب خارجي تجاه البرية وآخر تجاه المدينة، وقد صعد الرقيب على سطح السور فوق الباب ليخبر داود بما يراه.

بشر أخيمعص داود بالنصرة، دون أن ينطق بكلمة بخصوص أبشالوم حتى جاء الكوشي، وفهم داود من حديثه أن ابنه مات فحزن جدًا، وكان يبكيه بمرارة، ولعل سر بكائه  هو:

أ. مشاعر الأبوة الحانية الطبيعية. خاصة وأن داود يحمل مشاعر رقيقة للكل.

ب. كان يكِنّ لأبشالوم معزة خاصة، متوقعًا أن تنضج شخصيته مع الزمن وخلال الخبرات المستمرة.

ج. لم يكن أبشالوم مستعدًا للموت بالتوبة.

د. شعوره بخطئه في تربيته لابنه.

هـ. شعر أن ما حل به هو ثمرة خطأه هو.

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح التاسع عشر

عودة داود للمُلك

عقوق أبشالوم ودخول إسرائيل في حرب مع رجال داود سبب جراحات كثيرة على مستوى بعض الشخصيات الهامة كما بين الأسباط وبعضها البعض، فقد انكشفت نية البعض كخونة لداود بينما سقط البعض في الخيانة تحت الضغط... كان أمر رجوع داود إلى المملكة يحتاج إلى حكمة في التصرف ولقاءات هامة...

١. يوآب يخرج داود من حزنه       [١-٨].

٢. يهوذا يلتقي بداود                 [٩-١٥].

٣. شمعي وصيبا يلتقيان بداود       [١٦-٢٣].

٤. مفيبوشث يلتقي بداود             [٢٤-٣٠].

٥. برزلاي يلتقي بداود               [٣١-٤٠].

٦. ثورة الأسباط على يهوذا [٤١-٤٢].

١. يوآب يخرج داود من حزنه:

اعتبر يوآب حزن داود المفرط على ابنه العاق أبشالوم إهانة للشعب الذين خاطروا بحياتهم في الحرب من أجله، وكانوا يتوقعون كلمة شكر واحتفالاً بالنصرة بفرح وبهجة. لهذا دخل يوآب إلى الملك ليتحدث معه بلكمات جارحة وفي غير لياقة قائلاً له: "قد أخزيت اليوم وجوه عبيدك منقذي نفسك وأنفس بنيك وبناتك وأنفس نسائك وأنفس سراريك بمحبتك لمبغضيك وبغضك لمحبيك، لأنك أظهرت اليوم أنه ليس لك رؤساء ولا عبيد، لأني علمت اليوم أنه لو كان أبشالوم حيًا وكلنا اليوم موتى لحسن حينئذ الأمر في عينيك".

بالغ يوآب في الحديث عندما ذكر أن داود أحب مبغضيه لأنه لو انتصر أبشالوم لقتل داود وبنيه ونساءه ورجاله خاصة الجبابرة كيوآب، لكن داود لم يبغض محبيه كما ادعى يوآب.

في جسارة طلب يوآب من الملك قائلاً: "قم واخرج وطيب قلوب عبيدك" [٧]. لقد خشى أن يتركه الكل ويطلبوا ملكًا آخر لأنه فضل ابنه العاق عن كل رجاله، فيحل الشر بداود.

لسنا ننكر رقة مشاعر داود مع الجميع خاصة ابنه أبشالوم، لكن كان يليق به أن يتخطى العلاقات الشخصية والعائليه من أجل حبه ورعايته للشعب؛ حزنه الشديد على ابنه العاق حطم نفسية رجاله، لأنهم ما كانوا يتوقعون منه ذلك. على أية الأحوال، أراد الكتاب المقدس أن يبرز أنه يصعب على الإنسان التخلص من الجوانب الشخصية وأثر العلاقات الأسرية حتى بالنسبة لكبار الأنبياء والقديسين.

٢. يهوذا يلتقي بداود:

صار الموقف مربكًا فكل الأسباط تذكر دور داود منذ صباه في الدفاع عنهم أيام شاول الملك، وكيف قابل عداوة شاول بالسماحة، وأيضًا خدمته الناجحة كملك. ومع هذا إذ ثار عليه ابنه وانضم إليه كثيرون حزن على موت ابنه العاق... والآن مات أبشالوم وصاروا بلا ملك، ولا يعرفون ماذا يفعلون خاصة سبط يهوذا الذي كان يساند أبشالوم في فتنته وخشوا نقمة داود منهم.

أرسل داود الكاهنين صادوق وأبيأثار إلى يهوذا ليسرعوا إلى داود، يعلنون خضوعهم له. لكي لا يتحرجوا من الموقف ذكَّرهم داود أنهم إخوته من عظمه ولحمه كما أرسال إلى عماسا رئيس جيش أبشالوم ليعده بأن يقيمه رئيسًا على الجيش عوض يوآب لكي يكسب الشعب الذي تعلق بأبشالوم، ومن جانب آخر ربما أراد أن يستريح من يوآب الذي قتل أبنير وأبشالوم وتحدث بخشونة مع داود، لأنه يحمل ذلة على داود بخصوص قتل أوريا الحثى.

بالفعل جاء داود إلى الأردن بينما جاء رجال يهوذا إلى الجلجال (بين أريحا والأردن) لملاقاة الملك وحراسته أثناء عبوره الأردن.

كان داود حكيمًا في إرساليته هذه ليهوذا لكي يكسبهم لصفه، وإن كان هذا له أيضًا جانبه السلبي، فقد أثار هذا الموقف بقية الأسباط إذ حسبت أن يهوذا يميل إلى الانعزالية حاسبًا داود ملكه الخاص لأنه من ذات السبط.

أرسل داود الكاهنين صادوق (= صديق أو بار) وأبيأثار (= أب الثراء) لكي يجتذب بالحب سبطه إليه، وفي ملء الزمان جاءنا ابن داود بنفسه كلمة الله المتجسد ليجتذبنا إليه خلال حياته الفائقة القداسة والأبوة الإلهية الغنية في الحب ليقيمنا أعضاء جسده، عظمه ولحمه، كنيسته المقدسة.

من كان فينا كعماسا له دور قيادي شرير لحساب أبشالوم (رمز إبليس) يحوله بنعمته الإلهية ليصير قائدًا لحساب ملكوت المسيح، كما فعل مع شاول الطرسوسي الذي كان يضطهد الكنيسة فصار بنعمته رسولاً أمينًا وكارزًا بالمسيح.

كما اهتم داود الملك بيهوذا كسبط وأيضًا بعماسا كشخص هكذا يهتم السيد المسيح بكنيسته كجماعة مقدسة عروسه الواحدة دون تجاهل لكل عضو فيها. بنيان الكنيسة هو لحساب نمو كل عضو فيها، وبنيان كل عضو إنما لحساب نمو الجماعة ككل، بلا فصل بين الحياة الكنسية الجماعية والخبرة الشخصية لكل عضو فيها.

٣. شمعي وصيبا يلتقيان بداود:

أسرع شمعي وصيبا لمقابلة داود، الأول سبه عند هروبه من أورشليم (١٦: ٥-١٣)، والثاني كذب عليه حينما ادعى أن مفيبوشث يطمع في الكرسي الملكي (١٦: ١-٤). خرج الأول معه ألف رجل من بنيامين وجاء الثاني معه بنوه الخمسة عشر وعبيده العشرون. خاضوا الأردن ليلتقوا بالملك.

رأى أبيشاي أن الوقت مناسب للانتقام من شمعي، أما داود فحسب أن الوقت هو وقت فرح وتضميد جراحات واتساع قلب للجميع، وقت حب وسماحه وعفو!

ما أعجب شخصية داود، مع كل نجاح أو نصرة لا يطلب سلطة وإن نالها لا يسيء استغلالها، بل يحول السلطة إلى حب ورعاية. يرى في الكرسي الملوكي مجالاً للجمع والمصالحة والاتحاد لا لإثارة تصديع وانشقاقات. بعفوه عن شمعي كسب كل سبط بنيامين بل واستراحت قلوب الأسباط الأخرى من أجل هذه الروح السمحة!

إن كان هذا بالنسبة للملك، فماذا نقول عن الأسقف أو الكاهن أو أي قائد روحي؟! الكهنوت أبوة ورعاية وليس سلطة ودكتاتورية! الكهنوت حب في المسيح وليس عجرفة وكرامة زمنية!

v   إن شرف الكهنوت عظيم، ولكن إن أخطأ الكهنة فهلاكهم فظيع.

v   لا يخلص الكاهن لأجل شرفه، إنما إن سلك بما يليق بشرفه.

القديس إرونيموس[120]

٤. مفيبوشث يلتقي بداود:

نزل مفيبوشث من بيته في جبعة بنيامين إلى أورشليم ليلتقي بالملك داود، حيث لم يعتن برجليه ولا بلحيته منذ ترك داود الكرسي، فوجد باب الملك مفتوحًا أمامه! كان قلب داود مفتوحًا وأبواب قصره مفتوحة للجميع حتى بالنسبة لمقاوميه والمسيئين إليه. التقى بشمعي الذي سبه وصيبا الذي خدعه وها هو يلتقي بمفيبوشث الذي أوضح الأمر أمامه مؤكدًا أن صيبا خدعه إذ أخذ الحمارين وتركه وهو أعرج بلا مطية (١٦: ١-٤). لقد عاتبه داود عن عدم خروجه معه، لكنه ترك له المجال للدفاع دون أخذ حكم مسبق، وحينما أدرك أن صيبا قد وشى بسيده صفح عن مفيبوشث وحكم بتقسيم الحقول – ربما قصد محاصيل الحقول – بين مفيبوشث وصيبا. لم يحكم ضد صيبا ولا طرده من خدمته لأنه صنع معه معروفًا وقت شدته.

تأثر مفيبوشث من كلمات داود وحواره فأعلن اهتمامه بمجيء الملك لا برد نصف الممتلكات إليه. حسب رجوع الملك إلى أورشليم لا يقارن بأية مكاسب أخرى.

كان داود رمزًا للسيد المسيح الذي جاء إلى عالمنا خلال مزود بقر بلا أبواب ومتاريس، مفتوح للجميع لكي ندخل ونحاوره، وإذ نسمع صوته نحسب مجيئه إلى أورشليمنا الداخلية أفضل من كل بركة أو مكسب نناله! حلوله فينا أعظم من أن يقارن بأية بركة مهما كانت قيمتها! مسيحنا يسكن في قلوبنا فيشبع كل احتياجاتنا.

٥. برزلاي يلتقي بداود:

كان برزلاي الجلعادي قد شاخ جدًا، ابن ثمانين سنة، نزل من روجليم وعبر الأردن مع الملك ليشيعه عند الأردن. طلب منه الملك أن يأتي معه إلى أورشليم ليكرمه مقابل اهتمامه بالملك عندما هرب وجاء إلى محنايم حيث قدم مع شوبي وماكير فرشًا وطسوسًا وآنية خزف وحنطة وشعيرًا ودقيقًا وفريكًا وفولاً وعدسًا وحمصًا مشويًا وعسلاً وزبدةً وضأنًا وجبن بقر (١٧: ٢٧-٢٩).

اعتذر برزلاي لشيخوخته أنه لم يعد يميز بين طعام وطعام، ولا يسمع لصوت المغنين والمغنيات وإنما يستعد للرحيل ليدفن في قبر والديه. اكتفى بأن يرسل ابنه كمهام مع الملك ليفعل معه الملك ما أراد بالنسبة لأبيه برزلاي، وقد أوصى داود به سليمان (١ مل ٢: ٧). يبدو أنه جعله حاكمًا في بيت لحم (إر ٤١: ١٧)، ويظن البعض أن السيد المسيح ولد في منزله.

خلال اللقاءات المذكورة في هذا الأصحاح نرى في داود رمزًا للسيد المسيح الذي التقى بالفئات التالية:

أولاً: بالكنيسة ككل مرموز لها بسبط يهوذا لتنعم بالاتحاد معه كجسده الواحد، في نفس الوقت اهتم بعماسا علامة اهتمامه بكل عضو.

ثانيًا: بالنفوس الساقطة التائبة كشمعي الذي سبق فسب داود.

ثالثًا: بالنفوس التي كذبت وخدعت وها هي قادمة بالتوبة مثل صيبا.

رابعًا: بالنفوس المحطمة المظلومة مثل مفيبوشث.

خامسًا: بالنفوس التقية المنشغلة بخروجها من العالم مثل برزلاي الجلعادي.

سادسًا: بالنفوس الحديثة في الإيمان مثل كمهام بن برزلاي، ليهبها سلطانها ويحل في داخلها.

٦. ثورة الأسباط على يهوذا:

أرسل الملك إلى سبط يهوذا الكاهنين صادوق وأبيأثار ليسرعوا بمقابلة الملك، وكان يهدف من ذلك استمالتهم بعدما حرضهم أبشالوم ضده. جاءوا إلى الجلجال. وجاء بنيامينيون مع شمعي، وأيضًا جاء بعض ممن يسكنون شرقي الأردن من أسباط رأوبين وجاد ومنسي، أما بقية الأسباط البعيدة في الغرب فجاءت متأخرة، وحسبت ذهاب يهوذا قبلهم دون انتظارهم إهانة واستخفافًا بهم. أجابهم سبط يهوذا إنهم لم يفعلوا هذا لمصلحة خاصة بالسبط وإنما لمجرد قربهم منه من جهة الموقع، إذ قالوا: "هل أكلنا شيئًا من الملك؟! أو وهبنا هبة؟!".

<<

 

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح العشرون

ثورة شبع بن بكري

كان لابد للسيف ألا يفارق مملكة داود تأديبًا له على قتل أوريا الحثي، لهذا بلا سبب حقيقي ثار شبع بن بكري البنياميني ضده وأثار إسرائيل بسرعة فائقة ليبقى رجال يهوذا وحدهم مع داود. أعلن الله يده القوية إذ تحقق الانتصار لداود بطريقة غير متوقعة ودون سفك دم، سوي قطع رأس شبع نفسه. هكذا سمح الله لداود بالتجربة للتأديب وهو الذي أوجد المنفذ أيضًا.

١. ثورة شبع بن بكري     [١-٣].

٢. غدر يوآب بعماسا       [٤].

٣. قتل شبع بن بكري      [٥-٢٢].

٤. تنظيم المملكة            [٢٢-٢٦].

١. ثورة شبع بن بكري:

"شبع" كلمة عبرية تعني "سبعة" أو "قسم oath"[121]. كان شبع بنيامينيًا حسب المولد [١]، مسكنه في جبل افرايم [2١]؛ وهو وشمعي من سبط شاول. ربما كان لشبع دور ظاهر أو خفي في فتنة أبشالوم ضد داود أبيه.

نزل البنيامينيون إلى الأردن ليعبّروا داود الأردن، لكنهم غضبوا من كلام يهوذا (١٩: ٤١-٤٣)، ولسبب تافه ضرب شمعي بالبوق ليعود رجال إسرائيل (١٠ أسباط) إلى بلادهم في تمرد ضد داود، لكنهم عوض الرجوع إلى بلادهم عادوا فتجمعوا لإثارة حرب جديدة بقيادة شبع (١ مل ١٢: ١٦).

واضح أن ما يحدث ليس بالأمر الطبيعي، فالشعب يتقلب بسرعة عجيبة، كانوا قبلاً مع داود، ثم تبعوا أبشالوم ثم رجعوا إلى داود، وها هم يتركونه ليتبعوا شبع. غالبًا ما كان السواد الأعظم لا يدري السبب للالتفاف حول شخص ما ثم مفارقته... هناك يد خفية تحرك هذا كله هو "السماح الإلهي" لأجل تأديب داود.

لم يسترح داود من فتنة ابنه أبشالوم حتى قام شبع بذات الدور ليجمع عشرة أسباط حوله، وكأن الله لم يرد لداود أن يستريح من الضيق حتى تبقى الخطية التي سقط فيها مُرّة في فمه.

عاد داود مع رجال يهوذا إلى أورشليم، وأخذ السرارى العشر وتركهن تحت الحجز لأنه لم يكن لائقًا أن يرجعن إليه بعدما دخل عليهن أبشالوم (١٦: ٢٢).

٢. غدر يوآب بعماسا:

طلب داود الملك من عماسا (إبن يثرا وأبيجابل أخت داود، وابن عم يوآب) أن يجمع له رجال يهوذا في ثلاثة أيام، وهي مدة غير كافية، لكن الأمر كان خطيرًا لا يحتمل أي تأخير، إذ يُريد أن يضرب شبع بن بكري بسرعة حتى لا تضيع المملكة كلها.

تجاهل داود الملك يوآب وأقام عماسا رئيسًا للجيش كله لأسباب كثيرة:

أ. اعتاد داود أن يفي بوعده مهما كانت الظروف، وقد سبق فأرسل له لكي يرجع إليه فيقيمه رئيسًا للجيش (١٩: ١٣).

ب. إن كان شبع قد جمع الأسباط كلها عدا يهوذا، فإن تعيين عماسا رئيس جيش أبشالوم يعني في أذهان الشعب أن داود غير منحاز لسبطه، وأنه لازال يفتح يديه للجميع لكي يعمل معهم وبهم.

ج. الخلافات القديمة بين داود ويوآب التي سبق لنا الحديث عنها (راجع ٢ صم ١٩).

تأخر عماسا عن الميعاد المحدد فطلب داود من أبيشاي أخي يوآب أن يلحق بشبع، فخرج أبيشاي ومعه أخوه يوآب ورجاله.

التقى يوآب بعماسا في عودته ومعه رجال يهوذا وبنيامين عند الصخرة العظيمة التي في جبعون. أمسك يوآب بلحية عماسا بيده اليمنى كمن يقبله – وعن عمد – أغمد سيفه الذي أمسكه بيده اليسرى ليقتل به عماسا، وتركه يتمرغ بدمه في وسط الطريق.

نادى يوآب وسط الشعب: "من سرّ بيوآب ومن هو لداود فوراء يوآب" [١١]. كأنه أراد أن يؤكد لهم أن قتل عماسا بسبب خيانته لداود، وأنه هو رجل داود الأول والأمين له، بهذا الحديث اجتذب حتى رجال عماسا وراءه هو وأبيشاي لإدراك شبع، تاركين عماسا بدمه بعد نقله من الطريق العام إلى حقل وطرح ثوبه عليه حتى لا يقف أحد بجواره.

تبقى شخصية يوآب غريبة ومحيرة، فمن جانب كان صادقًا في أمانته لداود فمع اختلافه في التفكير معه لكنه لم يخنه قط ولا توانى في بذل كل طاقته لتثبيت مملكته، رافقه كل الطريق... لكنه كان متسرعًا يُريد تحقيق سلام داود بتصرفات يراها داود الملك متهورة مثل قتله أبنير وعماسا... ولعل وراء ذلك دافعًا خفيًا هو الغيرة منهما كقائدي جيش قويين، فأراد الخلاص منهما كمنافسين خطيرين على مركزه. أيضًا قتل أبشالوم متجاهلاً أوامر الملك مادام في قتله سلام للملك والمملكة. لا يهتم بالوسيلة مادامت تحقق الهدف فقتل أبنير وعماسا غدرًا!

٣. قتل شبع بن بكري:

عبر الشعب تحت قيادة يوآب وأخيه أبيشاي نحو الشمال حتى بلغ مدينة "آبل بيت معكة" (تعني "مرج بيت الظلم"[122] أو "مرج بجوار بيت معكة"[123]). مدينة حصينة في سبط نفتالي، عرفت بحكمة أهلها وتمسكهم بالعادات اليهودية. ربما مكانها اليوم تل آبل (أو تل القمح)، قرية في غرب الأردن على رابية تشرف على الوادي، تبعد ١2 ميلاً شمال بحيرة الحولة مقابل دان. يحيط بها سهل خصيب مياهه وفيرة دعى "آبل مايم" أو "مرج المياه" (٢ أي ١٦: ٤). أقام يوآب ورجاله مترسه (حائطًا أو ساتر تراب يحميهم) حول المدينة.

أدرك أهل المدينة بالخطر المحدق بهم، وكانوا معروفين بالحكمة. نادت امرأة حكيمة: "اسمعوا. اسمعوا. قولوا ليوآب تقدم إلى ههنا فأكلمك" [١٦]. تحدثت معه قائلة: "كانوا يتكلمون أولاً قائلين: سؤالاً يسألون في آبل وهكذا كانوا انتهوا" [١٨]. هذا مثل مشهور عن آبل معناه أنها مدينة مشهورة بالحكمة، يلجأ إليها كثيرون يسألونها المشورة المصيبة المقنعة، فينالون إجابة قاطعة. كأنها تقول له: لماذا لم تأتِ إلينا بالتفاوض والتفاهم نحن أناس مسالمون وحكماء؟" قالت له: "لماذا تبلع نصيب الرب؟" بمعنى إنك تهاجم مدينة هي هبة قدمها الله لأهلها، وها أنت تخربها (بحسب الشريعة كان يلزمه أن يقدم السلام ويدخل في حوار قبل أن يهاجم (تث ١٠: ١٠)). أجابها يوآب: "حاشاى. حاشاى. أن أبلع وأن أهلك؛ الأمر ليس كذلك، لأن رجلاً من جبل أفرايم اسمه شبع بن بكري رفع يده على الملك داود؛ سلموه وحده فأنصرف عن المدينة (10: 21). استطاعت بحكمتها أن تقنع أهل المدينة، فقُطعت رأس شبع وألقتها إلى يوآب الذي ضرب بالبوق لينصرف الجيش من محاصرة المدينة.

"شبع" يرمز للكبرياء حيث يظن الإنسان أنه في حالة إستغناء، وهو المرض الذي أصاب أسقف كنيسة لاودكية فوبخه الرب قائلاً: "لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ ٣: ١٧). الشعور بالشبع الذاتي وعدم الحاجة إلى الله يُحطم كل إمكانياته ليصير هكذا شقيًا وبائسًا إلخ... هذا ما فعله شبع إذ جمع الأسباط حوله ليثيرها ضد داود ويقيم مملكة مقاومة له. لكن وجدت المرأة الحكيمة التي قطعت رأسه لتلقيها خارج الأسوار فيرجع للمملكة سلامها.

إن كانت حياتك الداخلية هي مملكة الله (لو ١٧: ٢١)، فإن الكبرياء كفيل أن يُحطم كل طاقاتك من أحاسيس وعواطف ومواهب وقدرات لتعمل كلها خلالها ضد ابن داود، فتُقيم مملكة مضادة ومقاومة. نحتاج إلى الحكمة، حكمة الصليب، القادرة أن تضرب الكبرياء وتقطع رأسها لتلقى بها خارجًا عنا، فيعود سلامنا إلينا حيث يرجع ابن داود ويملك فينا.

<<

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الحادي والعشرون

مجاعة بسبب الجبعونيين

أخطأ شاول بمقاتلته الجبعونيين الذين سبق فحلف لهم يشوع  بن نون ألا يقتلهم، وقد جنى الشعب الثمرة في أيام داود الملك إذ حدث جوع لمدة ثلاث سنوات، فلما سأل داود الرب كشف له عن السبب، ولم يكن هناك حل لذلك سوى تسليم سبعة رجال من بني شاول للجبعونيين، قاموا بصلبهم.

١. تأديب بسبب الجبعونيين           [١-٢].

٢. داود يسترضى الجبعونيين         [٣-٨].

٣. صلب أبناء شاول                 [٩-١٤].

٤. حرب مع الفلسطينيين             [١٥-٢٢].

١. تأديب بسبب الجبعونيين:

حدثت مجاعة بسبب انقطاع المطر لمدة ثلاث سنوات، فطلب داود وجه الرب. كانت الإجابة: "هو لأجل شاول ولأجل بيت الدماء لأنه قتل الجبعونيين" [١]. قتلهم عن غيرة وبجهالة لكي يستولى سبطه على مالهم دون مراعاة لقسم يشوع لهم (يش ٩).

هذه المجاعة غالبًا ما حدثت بعد أحداث الأصحاح التاسع، قبل فتنة أبشالوم (٢ صم ١٥). ربما لهذا السبب عيّر شمعي داود قائلاً له: "يا رجل الدماء" (16: 7)، مشيرًا إلى الرجال السبعة من بني شاول الذين سلمهم داود للجبعونيين ليصلبوهم.

لم يذكر الكتاب المقدس من قبل عن قتل الجبعونيين في أيام شاول، لأن الكتاب لم يهدف إلى تسجيل تاريخ مفصل للملوك وإنما تقديم ما يمس تعليمنا وخلاصنا.

حقًا لقد أدرك داود النبي والملك أن وراء المجاعة سرًّا ، لهذا سأل الرب عن سببها، لكنه تأخر في السؤال. لو أنه سأل في بداية المجاعة، في السنة الأولى أو الثانية لعرف السبب وانتهت المجاعة سريعًا. للأسف لا نلجأ سريعًا للرب بل ننتظر حتى تفرغ كل حيلنا وحكمتنا وتبيد كل قواتنا ولا نجد حلاً. حينئذ فقط نلجأ إلى الله أبينا المهتم بنا. ما أقسى قلوبنا، فإننا ننسى الله في أفراحنا بل وحتى في ضيقاتنا حتى تخور قوتنا.

إن كان الله قد أعد شعبًا له في العهد القديم ليكون خميرة للإيمان وليهيئ العالم لقبول المسيّا المخلص، فإنه بين الحين والآخر يؤكد بطرق متنوعة انفتاح باب الإيمان أمام الأمم، وأنه ليست عند الله محاباة. لقد أخطأ شاول ملك إسرائيل في حق الجبعونيين الأمميين ومات شاول، ونسى الناس تصرفه هذا، لكن الله لم ينس. أدّب الشعب كله بالجوع مع أنه شعب الله، يعيش في أرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا وتحت حكم ملك تقي "داود النبي" وفي قمة مجده يسمح الله بالتأديب حتى يدرك الكل أن ما حدث لم يكن صدفة أو لعوامل طبيعية مجردة إنما وراءه يد الله الخفية لبنيان شعبه.

يرمز شاول إلى اليهود المتكبرين جاحدي الإيمان، ويرمز الجبعونيين – الذين من الأمم – إلى جماعة الأمم التي دخلت في ميثاق مع يشوع الحقيقي، ربنا يسوع. لقد عانت كنيسة الأمم الكثير من اليهود رافضي الإيمان، وقد سمح الله بهذا لكنه في الوقت المناسب يحرك حتى الطبيعة (الأمطار) لمساندة قطيعه الصغير بينما يخسر الجاحدون حياتهم.

٢. داود يسترضي الجبعونيين:

شعر داود بالحاجة إلى استرضاء الجبعونيين الأمميين حتى يستجيب الرب له فقال: "ماذا أفعل لكم؟ وبماذا أكفر فتباركوا نصيب الرب؟" [٣]... يطلب داود النبي منهم أن يباركوا شعب الرب!!!

لقد عانى الجبعونيون من شاول ورجاله الكثير، إذ قتلوا منهم وطردوا البقية من موضعهم حانثين العهد المقام بين الشعبين في أيام يشوع. وقد جاءت طلبة الجبعونيين تكشف عن جوانب طيبة في حياتهم، ربما بسببها تدخل الله للدفاع عنهم، منها:

أ. لم يستغلوا الموقف لمصلحة مادية، إذ كان الملك مستعدًا أن يقدم لهم كل طلبتهم، أما هم فقالوا: "ليست لنا فضة ولا ذهب عند شاول ولا عند بيته" [٤].  لقد استعبدهم هذا الشعب واستعبد آباءهم ومع ذلك لم يطلبوا تعويضًا ماديًا.

ب. أنهم محبون للسلام، لا يطلبون سفك دم برئ، إذ قالوا: "وليس لنا أن نميت أحدًا في إسرائيل" [٤].

ج. يطلبون تأديب بيت شاول فقط: "الرجل الذي أفنانا والذي تآمر علينا ليبيدنا لكي لا نقيم في كل تخوم إسرائيل، فلنُعطَ سبعة رجال من بنيه فنصلبهم للرب في جبعة شاول مختار الرب" [٥-٦].

لقد طلب داود منهم أن "يكفر" [٣]، جاءت الكلمة لتعني تعويضًا عما أصابهم من ضرر، أي يقدم تغطية تقابل إصابتهم، أما هم فلم يطلبوا مالاً للتغطية ولا انتقامًا لأنفسهم، وإنما تحقيق عدالة الله. القاتل هو شاول وبيته، فمن بيته يُقدم سبعة رجال ليعلقوا على خشبة لعنة (تث ٢١: ٢٣، غلا ٣: ١٣)، فيرفع الله غضبه.

ويلاحظ في هذه الطلبة أنهم لم يريدوا وضع داود الملك في حرج:

أ. لم يُحددوا الرجال... فأعطوا الفرصة لداود ألا يُسلم مفيبوشث بن يوناثان من أجل أبيه والقسم الذي حلف به، حتى لا يصير داود نفسه حانثًا للقسم مع يوناثان وكاسرًا للصداقة العجيبة التي قامت بينهما.

ب. أنهم يعفون داود من قيامه بالصلب حتى لا يتحرج لأنهم من شعبه وهم أمميون.

ج. أن يتم الصلب في جبعة شاول، في مدينة مختار الرب، لكي يدرك الشعب أن ما حدث ليس عن نقمة ضد الشعب كله بل ضد شاول، وأنه مختار الرب لذا جاءت العقوبة شديدة!

٣. صلب أبناء شاول:

سلم داود الملك سبعة رجال من بني شاول للجبعونيين لصلبهم لا كذبائح بل لتحقيق العدالة. هؤلاء السبعة هم أرموني ومفيبوشث لشاول من إحدى سراريه تُدعى رصفة، هذه التي بسببها ثار مفيبوشث الملك على أبنير لأنه دخل عليها وهي سرية أبيه في محاولة لإغتصاب الكرسي (٣: ٧-١١)، وخمسة رجال أبناء ميكال التي لم تنجب ولدًا من داود (١٦: ٢٣) بل من عدريئيل بن برزلاي المحوّلي؛ وبحسب الترجوم هؤلاء الأولاد هم لأختها الميتة ميراب وقد تبنتهم هي.

جاءت رصفة سرية شاول إلى ذلك الموضع وجلست على المسوح على الصخر، غالبًا ما نصبت خيمة مع خدمها هناك، وكانت تحرس الأجساد المصلوبة حتى لا تدع طيور السماء تنزل عليها ولا حيوانات الحقل تقترب إليها. بقيت هكذا من بدء حصاء الشعير أي شهر إبريل / مايو. لتقضي الصيف كله ويحل موعد المطر في الخريف[124]، لترى ابنيها والخمسة رجال الآخرين يحل بهم الفساد على الخشبة يومًا بعد يوم. كانت تترجى أن يكون ابناها سبب تعزيتها في شيخوختها، لكن بسبب الخطية صارا هكذا سبب مرارة وتعب.

تأثر داود الملك جدًا بما فعلته هذه الأم العجوز، ولكي يظهر أنه لا يحمل حقدًا أو كراهية ضد بيت شاول أخذ عظام شاول ويوناثان التي دفنت خفية تحت شجرة (١ صم ٣١: ١٢-١٣) في يابيش جلعاد حتى لا يُنكل بها الأعداء، وقام بدفنها في قبر قيس في أرض بنيامين في صيلع (معناها "ضلع"[125])، يبدو أنها حاليًا خربة صلاح شمال غربي أورشليم.

٤. حرب مع الفلسطينيين:

انحدر داود من جبال يهوذا إلى سهل الفلسطينيين، حيث دارت الحرب وكاد أن يُقتل داود إذ كان قد أعيا – ولم يترك المعركة – لو لم ينقذه أبيشاي، حينئذ حلف رجال داود ألا يخرج معهم بعد إلى الحرب، فإنه إن قُتل يطفئ سراج الشعب كله.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في رجال داود الوفاء والحب لملكهم داود فأصروا على الحفاظ على حياته بعدم خروجه بعد إلى الحرب، ويود (القديس يوحنا) من شعبه أن يتسموا بذات الحب بالحفاظ على حياته الروحية بالمثابرة على الصلاة من أجله، إذ يقول: [انظروا كيف كانوا مهتمين باستبقاء حياة الشيخ. إني محتاج جدًا إلى صلواتكم. أقول ليته لا يحرمني أحد من هذا التعهد (بالصلاة عني) ومساندتي[126]] وذلك بسبب اتضاعه الشديد.

ليتنا نحفظ رعاتنا بالصلاة من أجلهم فإنهم إن سقطوا تهلك الرعية معهم.

تكررت الحرب أيضًا في جوب حيث قتل ألحانان جليات الجتي، وهو أخو جليات الذي قتله داود (١ أي ٢٠: ٥).

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الثاني والعشرون

نشيد النصرة

كنا نتوقع عوض النشيد المطابق تقريبًا للمزمور الثامن عشر في نهاية الحديث عن نصرات داود النبي والملك وقبل الحديث عن سقوطه في الخطية وعواقبها المريرة، إذ يذكر فيه بره وطهارة يده وحفظه طريق الرب وكماله لدى الرب، أي ما بين الأصحاح العاشر والحادي عشر. وكنا نتوقع أن يُقدم لنا هنا المزمور الحادي والخمسون (٥٠) الخاص بالتوبة والاعتراف... لكن الوحي الإلهي أراد أن يؤكد أن حياة التسبيح والشعور بالنصرة كانت ممتدة حتى النفس الأخير بالنسبة لداود. لقد سقط لكنه بالتوبة والاعتراف مع التسليم بقى ينشد مزمور النصرة.

في تفسير القديس أغسطينوس للمزمور ١٨ الذي هو بعينه نشيد النصرة هنا يقول: [إن هذا المزمور يخص السيد المسيح نفسه الذي يتحدث باسمه واسم الكنيسة بكونه رأسها وهي جسده، ما يتمتع به من نصرة إنما لحسابها].

نستطيع الآن أن نقول إنه نشيد الكنيسة المنتصرة بالمسيح قائد موكبها الغالب حيث ترى في الله سرّ خلاصها ونورها وقوتها... به تجتذب الأمم إلى الإيمان ليختبروا بهجة الخلاص فيها.

١. مناسبة النشيد                     [١].

٢. الرب صخرتي                      [٢-٤].

٣. أمواج الموت اكتنفتني             [٥-٧].

٤. طأطأ السموات ونزل              [٨-١٦].

٥. تحقيق الخلاص                   [١٧-٢١].

٦. السلوك بالكمال                   [٢٢-٢٥].

٧. كما نفعل يُفعل بنا                 [٢٦-٢٨].

٨. الله سراج النفس                  [٢٩].

٩. الله قوة النفس وغلبتها            [٣٠-٤٣].

١٠. دعوة الأمم للخلاص             [٤٤-٥٦].

١. مناسبة النشيد:

مع كل نصرة يشعر داود النبي بمراحم الله كأنها جديدة كل صباح (مرا 3: 13)، يدرك قوة الله العجيبة العاملة في ضعفه، تهبه الحياة المقدسة، والنصرة على الشر، وتفتح قلبه للغير بالحب... لهذا يشعر أنه مدين بتقديم ذبيحة الشكر والتسبيح، كعمل طبيعي ناتج عن نفس متهللة في الداخل وجسد يهتز بكل أحاسيسه كأنه قيثارة الروح.

يبدو أن داود النبي كان يُكرر هذا النشيد مع غيره من أناشيد أو مزامير النصرة في كل غلبة، إذ قيل: "وكلم داود الرب بكلام هذا النشيد في اليوم الذي أنقذه فيه الرب من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول فقال..." [١-٢].

٢. الرب صخرتي:

"الرب صخرتي وحصني ومنقذي

 إلهي صخرتي به أحتمي

 ترسي وقرن خلاصي.

 ملجإي ومناصي، مخلصي من الظلم تخلصني

 أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي" [٢-٤].

إن كانت الحية القديمة – إبليس – هي العدو الحقيقي الذي يود أن يفترسنا، فإن الحية لا تقدر أن تتسلق الصخرة الملساء، لهذا يقدم السيد المسيح ربنا نفسه صخرة به نرتفع فلا تقدر الحية أن تقترب إلينا. لهذا فهو "الصخرة" (١ كو ١٠: ٤)، فيه نتحصن وبه نخلص من العدو.

إن كان شاول – كبقية الأعداء – قد بذل كل الجهد لقتل داود، فبالرغم من إمكانياته العسكرية وقدراته لم يستطع أن يلحق بداود أذى بل تحولت مقاومته إلى مجد وبنيان له... فالفضل في هذا يرجع إلى الله الصخرة والحصن والمنقذ لنفس داود.

v   لقد حاصرني الأعداء، فأنت إذن حصني.

القديس جيروم[127]

v   "(أنت) المدافع عني وقرن خلاصي".

أنت المدافع عني، فإني لا أعتمد على ذاتي متعاليًا بقرن الكبرياء ضدك، وإنما أجدك قرنًا حقًا، حيث علو الخلاص الأكيد، ولكي أبلغ هذا أنت تخلصني.

القديس أغسطينوس[128]

v   أيها القائد الإلهي قوني.

أنت تحتضن وجودي برعايتك إياي رعاية كاملة دفعة واحدة، وتحتضنني على الدوام، كأنك لا تتطلع إلى آخر سواي!

تسهر عليّ، وكأنك قد نسيت الخليقة كلها.

تهبني عطاياك، وكأني وحدي موضوع حبك.

القديس أغسطينوس

٣. أمواج الموت اكتنفتني:

الله – في محبته لداود – لم ينزع عنه مقاومة الأعداء له، وإنما على العكس يسمح له فتحل به الضيقات حتى يكاد الموت يحاصره، فيتجلى الله واهب الحياة والقيامة فيه، لهذا يصرخ قائلاً:

"لأن أمواج الموت اكتنفتني،

سيول الهلاك أفزعتني

جبال الهاوية أحاطت بي

شرك الموت أصابتني.

في ضيقي دعوت الرب وإلى إلهي صرخت فسمع من هيكله صوتي وصراخي دخل أذنيه" [٥-٧].

يتصاغر داود جدًا أمام ما حلَّ به من ضيقات مُرّة كادت تقتله، فحسب نفسه كمن حاصرته الأمواج وحطمت طاقته، وكمن جرفته السيول لتنحدر به إلى هاوية بلا نهاية، وأحاطت به جبال شامخة أغلقت حوله طرق الخلاص، وصار كفريسة في شباك الموت... لكنه لم يكن بلا معين، إذ سمع له الله الساكن في هيكل قدسه وأمال بأذنيه إلى صراخه كصديق شخصي!

إذ يتطلع القديس أغسطينوس إلى الحرب الداخلية بين النفس وعدو الخير     – إبليس – فإنه يرى الموت هنا ليس انفصال النفس عن الجسد وإنما موت النفس ذاتها. لذا تصرخ النفس إلى الله بكلمات وصرخات داخلية ليسمعها الله نفسه لا البشر، تبلغ إليه من أعماق النفس كقدس وهيكل الله.

v   يسمع صوتي الخارج من قلبي حيث يسكن هو!

v   صراخي الذي أنطق به لا في آذان الناس، وإنما هو صراخ داخلي أقدمه أمامه هو فيدخل إلى أذنيه.

القديس أغسطينوس[129]

٤. طأطأ السموات ونزل:

مقاومة شاول وغيره من الأعداء لداود كانت مجالاً رائعًا خلاله تلَّمس داود حب الله الفائق، بل وتعرَّف على الله أكثر فأكثر. خلال الضيق يتجلى الله بحبه في حياة الإنسان ليجده الأب المحب والمخلص.

خلال مقاومة الأعداء شاهد داود بروح النبوة ما حل بالإنسان من هلاك بحسد إبليس وكيف نزل الله الكلمة ذاته من السماء ليعلن حبه الناري نحو البشر، الأمر الذي أدهش المسكونة كلها: السماء والأرض. يقول: "فارتجت الأرض وارتعشت. أسس السموات ارتعدت وارتجت لأنه غضب" [٨]. لقد غضب لما فعلته الخطية بحياة الإنسان وبطبيعته وذلك بحسد إبليس، فارتجت الأرض وارتعدت السموات أمام هذا الحب الفائق، إذ "طأطأ السموات ونزل" [١٠]. يقول الرسول بولس: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (١ تي ٣: ١٦). إنه سر فائق للعقل لم تستطع الخليقة إدراك كنهه: "ضباب تحت رجليه". الضباب يعني الغموض والعجز عن الإدراك.

محبته نار آكلة، يرى داود نارًا تخرج من فمه لتأكل ودخانًا يصعد من أنفه [٩] ورآه يوحنا اللاهوتي "عيناه كلهيب نار" (رؤ 1: ١٤)... إنه الحب الفائق الذي يحرق عدو الخير ويحطمه، ويلهب القلب بالنار الإلهية فلا تقدر مياه العالم أن تطفئها (نش ٨: ٧) لذا يقول: "أكون لها سور نار من حولها" (زك ٢: ٥).

إنه شمس البر (مل ٤: ٢) يرسل شعاع روحه القدوس الناري علينا فيشعل فينا جمر نار كما حدث في يوم العنصرة (أع ٢: ٣).

كلماته على الصليب كالرعد والبرق أزعجت قوى إبليس (كو ٢: ١٤)، وكالسهام قتلته، وهي بعينها لنا مصدر حياة وعلة تسبيح  لا ينقطع.

يقدم لنا القديس أغسطينوس[130] تفسيرًا رمزيًا للنص الذي بين أيدينا فيرى الأرض التي ارتجت وارتعشت تمثل الخطاة الذين صاروا أرضًا فإنه إذ تمجد ابن الإنسان على الصليب يرتجون ويرتعدون.

نقول إن صليب ربنا يسوع المسيح – واهب النصرة – يهز كل كيان جسدنا بكل أحاسيسه ومشاعره لا ليحطمه بل ليقدسه كما يمس نفوسنا الداخلية مجددًا طبيعتها. هذا ما عناه المرتل داود بالأرض (الجسد) والسماء (النفس).

ما هو الدخان الذي يصعد من أنفه والنار التي من فمه؟ يقول القديس أغسطينوس: [إنها نار المحبة ونور البر اللذان كان الخطاة محرومين منهما إذ عاشوا زمانًا طويلاً في برود وظلام، فجاء المخلص يلهب قلوبهم بحب الصالحات ويهبهم استنارة داخلية بعد أن وهبهم الحياة الجديدة.

v   "طأطأ السموات ونزل"... اتضع البار ونزل إلى ضعف البشر.

"وضباب تحت رجليه"... الأشرار الذين يتلذذون بالأمور الزمنية – في ظلمة طمعهم – لا يعرفونه، فإنهم كالأرض تحت قدميه موطئ لقدميه.

"ركب على كاروب وطار ورُئي على أجنحة الريح"... تمجد فوق كل كمال المعرفة (كاروب)، لا يصل إليه أحد إلا بالحب، لأن "المحبة هي تكميل الناموس" (رو ١٣: 10)...

بهذه السرعة يظهر أنه غير مدرَك، فوق قوة النفوس وقدرتها، ولكنها (أي النفوس) بأجنحة (الروح) ترتفع من المخاوف الأرضية إلى هواء الحرية...

"أرسل سهامًا فشتتهم، برقًا فأزعجهم"... أرسل الإنجيليين الذين له يعبرون بأجنحه القوة، قوة من أرسلهم وليس قوتهم الذاتية... ليصيروا "رائحة حياة لحياة ورئحة موت لموت" (٢ كو ٢: ١٦). صنع بهم عجائب (بروق) فأزعجهم.

القديس أغسطينوس[131]

باختصار، نشيد النصرة يدور في جوهره حول عمل الله الخلاصي: كلمة الله يطأطئ السماء بتجسده لينزل إلينا، مشرقًا كشمس البر على الجالسين في الظلمة. أمامه يرتعد كل ما هو زمني فينا لتقديس سمواتنا الداخلية (النفس) وأرضنا (الجسد)، مبددًا ظلمة الجهل التي حلت فينا. ركب على السحاب كما على كاروب وصعد ليحملنا إليه ويجلسنا معه في السمويات. أرسل تلاميذه ورسله كسهام، تنفذ كرازتهم الإنجيليه إلى القلوب، وتبرق فيها بنور المعرفة فيهتز كل شر فيها وتقوم مملكة الرب داخلها.

٥. تحقيق الخلاص:

يعلن داود النبي في نشيد النصرة غاية نزول الرب من السماء أو تجسده، ألا وهي خلاص الإنسان من الضيق والارتفاع به إلى رحب السماء، إلى حضن الآب:

"أرسل من العُلى فأخذني، نشلني من مياه كثيرة. أنقذني من عدوي القوي... أخرجني إلى الرحب" [١٧-٢٠].

يرى القديس أغسطينوس أن كنيسة الأمم تتحدث هنا عن عمل الله معها، فقد دعاها العلي، المخلص السماوي، دعاها من بين مياه كثيرة إذ جمعها من بين الأمم والشعوب المتنوعة لتصير كنيسته المجيدة التي بلا عيب ولا دنس (أف ٥: ٢٧). خلصها من عدوها القوي إذ كانت ضعيفة قبل الإيمان وقد أسرها العدو القوي خاصة برباطات محبة العالم. الآن أخرجها المخلص إلى الرحب، أخرجها من ضيق الحياة الجسدانية إلى إتساع الإيمان الروحي، انطلقت إلى حرية الروح.

إن كان موسى قد انتُشل من مياه النيل حين وضعته أمه في سفط ضيق مطلي بالحمرة والقار، لتحمله ابنة فرعون إلى قصرها الرحب، فإن كنيسة العهد الجديد قد انتُشلت من مياه كثيرة، من وسط الأمم لتخلص من الضيق الداخلي وتنعم بالحياة السماوية المتسعة بعمل الروح القدس الذي حل فيها خلال المعمودية.

٦. السلوك بالكمال:

لا نَعجب أن نرى داود الذي عُرف باتضاعه الشديد حتى أمام شاول مطارده، فيدعو نفسه برغوثًا واحدًا وكلبًا مينتًا (١ صم ٢٤: ٤١)، نراه هنا يتحدث كبار، طاهر اليدين، حافظ طريق الرب، كامل لدى الرب...

نزل كلمة الله القدوس إلى العالم، حملنا فيه، لنصير أعضاء جسده المقدس، فنقف أمام الآب أولادًا له مبررين في الدم الثمين، كمن هم بلا عيب، نحمل كمال المسيح فينا. هذا هو الخلاص، وهذه هي رسالة الصليب أن يحملنا إلى المسيح لنختفي فيه، فيستر علينا بدمه ونتبرر ونتقدس فيه وبه.

من هو هذا البار، الطاهر اليدين، الحافظ طرق الرب، الذي لم يحد عن الأحكام الإلهية والفرائض، الطاهر أمام الآب إلا الابن الذي بلا خطية وحده... فداود يتحدث بروح النبوة على لسان المخلص! الآن صار لكنيسته – بكونها جسده المقدس – أن تنطق بذات كلماته لأنها مخفية فيه.

٧. كما نفعل يُفعل بنا:

إن كان الرب المخلص هو سرّ برّنا وتقديسنا، فإننا به وفيه ننال الطبيعة الجديدة المقدسة، نصير رحماء، وكاملين، وأطهارًا ومتواضعين فندخل في علاقات جديدة مع الآب، قائلين له: "مع الرحيم تكون رحيمًا، مع الرجل الكامل تكون كاملاً، مع الطاهر تكون طاهرًا ومع الأعوج تكون ملتويًا، وتخلص الشعب البائس وعيناك على المرتفعين فتضعهم" [٢٦-٢٨].

كأننا نقول: بك صرنا رحماء فنرحم الآخرين وأنت ترحمنا، وبك صرنا كاملين فتكون معنا كاملاً الخ... أما عدو الخير فهو أعرج ومرتفع لذا يبدو الله معه ملتويًا ينزل به من كبرياء مجده إلى الهاوية.

يرى القديس أغسطينوس أن الله القدوس في طبيعته يكون قدوسًا مع الإنسان القديس لأنه يقدسه. بمعنى أن من يطلب الكمال يهبه الله الكمال كمالاً أما الملتوي فالله لا يؤذيه إنما تؤذيه رباطات خطاياه (أم 5: 22).

٨. الله سراج النفس:

"لأنك أنت سراجي يارب. والرب يُضيئ ظلمتي" [٢٩].

كما يقول القديس أكليمندس الاسكندري وأيضًا العلامة أوريجانوس: [إن الظلمة قد حلت بالنفس، إذ صارت في جهالة، لذا جاء الكلمة – المعلم – مشرقًا عليها بالمعرفة الروحية المخلصة، فتستنير أعماقها الداخلية].

v   أيها النور غير المنظور، هب لي عينين تستطيعان معاينتك!

v   أيها النور الذي يضيئ للنفس. أيها الحق البهي، أيها البهاء الحقيقي الاستضاءة، يا من تُضئ لكل إنسان آت إلى العالم، أتيت إلى العالم والعالم لم يحبك.

إلهي... بدد الظلمة الكثيفة التي تخيم في نفسي، حتى تراك عند إدراكها إياك، وتعرفك عند تقبلها لك، وتحبك عند معرفتها لك.

القديس أغسطينوس

٩. الله قوة النفس وغلبتها:

"لأني بك اقتحمت جيشًا.

 بإلهي تسورت سورًا...

 ترس هو لجميع المحتمين به

 الذي يجعل رجليّ كالأيل وعلى مرتفعاتي يقيمني.

 الذي يعلّم يديّ القتال فتحني بذراعي قوس من نحاس...

تُوسع خطواتي تحتي فلا تتقلقل كعباي

 ألحق أعدائي فأهلكهم..." [٣٠-٣٩].

إن كان العدو قد صار كجيش قوي يقاومني فأنت هو قوتي، تصير لي سور نار تحميني وترسًا لي تصد كل سهام العدو، تشدد رجلي فأصير مسرعًا كالأيل وترفعني كما على المرتفعات العالية فلا يلحق بي أذى. تشدد يديّ للقتال ضد إبليس، وتوسع خطواتي فألحق بعدوي وأفنيه بالصليب.

v   آه. أسرع واجعل من نفسي مسكنًا لك، من قلبي مستقرًا! ...

تعال... فإني مريض حبًا. بُعدي عنك موت لي، وذكرك يحيي نفسي! ...

رائحتك تعيد لي قوتي، وذكرك يخفف آلامي، ظهورك شبع لي (مز ١٧: ١).

القديس أغسطينوس

١٠. دعوة الأمم للخلاص:

"وتنقذني  من مخاصمات شعبي وتحفظني رأسًا للأمم.

 شعب لم أعرفه يتعبد لي.

 بنو الغرباء يتذللون لي.

 من سماع الأذن يسمعون لي...

 لذلك أحمدك يارب في الأمم ولاسمك أرنم" [٤٤-٥٠].

يختم المرتل نشيد النصرة بدعوة الأمم للتمتع بالخلاص. هذا ما أفرح قلب داود، إن قتاله ضد إبليس لم يخلصه وحده وإنما خلص الأمم منه ليأتي إلى المسيَّا شعب لم يكن يعرفه، إذ لم يتمتع بالناموس ولم يتحدث مع الأنبياء ولا عرف المواعيد الإلهية... جاء هذا الشعب الذي من أصل وثني ليتعبد للرب وقد سمع بالأذن خلال كلمة الكرازة ولم ير بعينيه كاليهود الذين جاء المخلص من بينهم وصنع أمامهم عجائب بلا حصر وتحدث معهم فمًا لفم لكنهم خاصموه وجحدوه عوض الإيمان به.

<<

 

 

 

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الثالث والعشرون

كلمات داود الأخيرة

كان يمكن لداود النبي أن يقدم لنا الكثير في كلماته الأخيرة في كل جوانب الحياة. عاش تحت ظروف كثيرة: اختبر الغنى وذاق الفقر، تمتع بالمجد ولحقه الهوان، أحبه الكثيرون وحقد عليه البعض فصار طريدًا، سلك الحياة البارة واختبر السقوط فالتوبة والتأدب. عاش كنبي وملك وقاضٍ ورجل حرب وصاحب مزامير وكزوج وأب وكراعٍ لغنمات قليلة كما لمملكة ممتدة... لكنه اختصر الحديث الختامي جدًا، وذيّله بأسماء أبطاله الجبابرة وأعمالهم [٨-٣٩]، ولم يكن هذا بلا سبب. وإنما أراد الكتاب تأكيد أن من أهم سمات داود النبي هو تشغيله للطاقات التي بين يديه. هذا هو دور النبي وكل قائد روحي حقيقي، كما هو دور الأب والأم، حتى الشاب والطفل، يلزم أن يتدرب الكل على عدم التمركز بل على تشغيل الغير في غير انعزالية فكر أو انفرادية وأنانية!

١. داود المرنم الحلو                  [١-٢].

٢. سلطة خلال مخافة الله            [٣-٤].

٣. دخول في عهد أبدي              [٥].

٤. هلاك بني بليعال                   [٦-٧].

٥. أبطال داود الجبابرة                [٨-٣٩].

١. داود المرنم الحلو:

"فهذه هي كلمات داود الأخيرة. وحي داود بن يسىّ ووحي الرجل القائم في العلا مسيح إله يعقوب ومرنم إسرائيل الحلو" [١].

يدعو كلماته "وحيًا" إذ ترنم بها بوحي الروح القدس، أُعطيت لداود بن يسى للرجل القائم في العلا مسيح إله يعقوب؛ ماذا يعني هذا؟

إنه بن يسى، لن ينسى أصله ومركزه، أصغر الأبناء، عاش راعيًا لغنم أبيه مجهولاً من الناس وغير معتبر حتى في أسرته (١ صم ١٦: ١٠-١١). كان مجهولاً من الناس لكنه معروف لدى الله: "القائم في العلا"، له رسالته وعمله من قبل الرب. إنه مسيح إله يعقوب، فقد قال الرب لصموئيل: "قم امسحه لأن هذا هو" (١ صم ١٦: ١٢).

دُعي "مرنم إسرائيل الحلو"، فقد كان حلوًا في مزاميره، لأنها تسبيح وشكر وصلاة مقدمة بوحي الروح لتعيشها الكنيسة خلال العهدين القديم والجديد وتترنم بها في صلواتها. جاءت حياة داود في جملتها قيثارة روحية لعب على أوتارها روح الرب فقدم لنا فيض تسبيح يصلح أن يكون رصيدًا مفرحًا للمؤمنين، يبعث فيهم روح البهجة في الرب.

هكذا يبرز داود ثلاثة جوانب من شخصيته:

أ. أصله كابن يسى، حتى لا ينتفخ ولا يتعالى.

ب. مسحه لخدمة شعب الله "مسيح إله يعقوب"؛ إذ كان قد مسح ملكًا ونال مجدًا عظيمًا فهو من أجل شعب الله، من أجل بنيان الجمعاعة المقدسة، وليس للاستغلال لحساب نفسه أو بيته.

ج. له رسالة تقوية "مرنم إسرائيل الحلو"، يرتفع بالشعب إلى الحياة السماوية الدائمة التسبيح.

هذا وقد دعا الله العامل فيه والناطق به "روح الرب" إله إسرائيل، صخرة إسرائيل [٢-٣]، مبرزًا عمل الثالوث القدوس في حياته. الروح القدس الذي هو روح الرب الناطق في الأنبياء أوحى له بالمزامير، ليعلن له عن الآب "إله إسرائيل" بالابن "صخرة إسرائيل".

يقول القديس أثناسيوس: [لأنه من الآب نعمة واحدة تتم بالابن في الروح القدس. هناك طبيعة إلهية واحدة وإله واحد "على الكل وبالكل وفي الكل" (أف ٤: ٦)[132]].

٢. سلطة خلال مخافة الله:

إن كان داود قد تمجد ونال سلطانًا، ذلك من خلال مخافته للرب، الذي وهبه استنارة ليضيئ كشمس مشرقة في الصباح بعد فترة ظلام، وكتربة بدأت تنبت عشبًا رواه المطر الإلهي. ما فيه من قوة وعظمة وثمار إنما هو عطية شمس البر (السيد المسيح) والمطر الإلهي. (الروح القدس) التي تمتع بهما خلال مخافة الله، إذ يقول: "إذا تسلط على الناس بار يتسلط بخوف الله، وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس، كعشب من الأرض في صباح صحو مضيئٍ غب المطر" [٤].

بمعنى آخر لن يتمتع مؤمن بإشراق شمس البر فيه ولا بثمار الروح (المطر) ما لم يتمتع بمخافة الله. يحدثنا مار إسحق السرياني عن بركات مخافة الله قائلاً:

v   مخافة الله هي بدء الفضيلة ويقال إنها بنت الإيمان[133].

v   بدء حياة الإنسان الحقيقية هي مخافة الله. لكن مخافة الله لا تقبل السكنى في نفس مشتتة في أمور خارجية[134].

v   كن حكيمًا، عندئذ ضع مخافة الله كأساس لرحلتك، ففي أيام قليلة تُحضرك إلى باب الملكوت بدون منعطفات في الطريق[135].

v   الخوف هو العصا الأبوية التي تقود طريقنا حتى نبلغ الفردوس الروحي للصالحات. عندما يبلغ بنا إلى هناك يتركنا الخوف ويرجع. الفردوس هو حب الله![136]...

v   التوبة هي السفينة، الخوف هو ربانها، والحب هو الميناء الإلهي. هكذا يدخل بنا الخوف إلى سفينة التوبة، ويعبر بنا فوق بحر قاذورات هذه الحياة، ويقودنا إلى الميناء الإلهي الذي هو الحب[137].

مار اسحق السرياني

يميز الآباء بين الخوف النابع عن الحب، خوف البنين الذي لا يُريد أن يجرح مشاعر والديه، وخوف الأجير الذي ينبع عن تخوُّفه من فقدان المكافأة أو الأجرة، وخوف العبيد لسادتهم. باتحادنا بربنا يسوع المسيح نتمتع بخوف الابن، إذ قيل عنه إنه يحمل مخافة الله.

٣. دخول في عهد أبدي:

كان هدف رجال العهد القديم – الآباء والأنبياء – التمتع بعهد مع الله، هذا العهد كان رمزًا للعهد الأبدي الذي تحقق خلال دم المسيح، فبه تمت مصالحة أبدية بين الله والإنسان، وباستحقاقه صار الإنسان مسكنًا لله ومقدسًا له.

يقول داود في كلماته الأخيرة: "أليس هكذا بيتي عند الله لأنه وضع لي عهدًا أبديًا متقنًا في كل شيء ومحفوظًا؟! أفلا يثبت كل خلاصي وكل مسرتي؟!" [٥]. يترجمها البعض: "مع أنه ليس هكذا بيتي عند الله وضع لي عهدًا أبديًا..." إذ شعر داود النبي أنه لا يستحق التمتع بهذا العهد الأبدي مع الله فإن بيته – والديه وإخوته وربما قصد أولاده بالذات – لا يسلك بمخافة الله. العهد الإلهي هو هبة إلهية مجانية!

٤. هلاك بني بليعال:

"ولكن بني بليعال جميعهم كشوك مطروح لأنهم لا يؤخذون بيد، والرجل الذي يمسهم يتسلح بحديد وعصا رمح، فيحترقون بالنار في مكانهم" [٦-٧].

لقد خشى داود النبي أن يصير أحد من نسله أو ممن يخلفه على الكرسي ابنًا لبليعال، فإنه لن يشفع فيه نسبه لداود ولا مركزه كملك على شعب الله، إنما يُطرح خارجًا كالشوك لا يصلح لشيء بل يُحرق بالنار للخلاص منه. إنهم بعدل إلهي يهلكون.

ربما تحمل هذه الكلمات وصية للملوك خلفة والولاه وكل المسئولين أن يلتزموا بتأديب بني بليعال بيد من حديد وعصا كرمح...

يرى القديس جيروم أن أشرار الأرض (بني بليعال) يُقتلعون فلا يكون لهم موضع في الكنيسة مدينة الرب، فيقول: [مدينة الرب هي كنيسة القديسين، مجمع الأبرار[138]].

٥. أبطال داود الجبابرة:

إن كان داود في كثير من الأحداث يشير إلى السيد المسيح، فإن أبطاله يشيرون أيضًا إلى رجال الإيمان المنسوبين للسيد المسيح. وقد وردت أسماؤهم (تختلف من وقت إلى آخر) هنا للأسباب التالية:

أ. ذكرهم في الكتاب المقدس يعتبر أعظم مكافأة يتمتعون به، وذلك كما قال السيد المسيح عن المرأة التي سكبت الطيب على رأسه: "حينما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها" (مت ٢٦: ١٣)، وكما قال لتلاميذه: "افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السموات" (لو ١٠: ٢٠).

من يلتصق بربنا يسوع كجندي صالح ويجاهد قانونيًا يتمتع بهذه الكرامة: تسجيل اسمه في سفر الحياة.

ب. تعتبر هذه القائمة مجدًا لداود نفسه الذي دربهم على الجهاد والغلبة... كل نصرة لنا وكل غلبة إنما هي لحساب ملكنا الحقيقي ابن داود، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إنه هو الذي يدعونا للجهاد وهو الذي يعمل فينا مجاهدًا، يقدم لنا الإكليل وهو الذي يتقبله فينا! وعلى العكس فإن كل فشل وتراخٍ في حياتنا يصير علَّة تجديف عليه.

ج. تعتبر مجدًا وكرامة للأبطال أنفسهم الذين جاهدوا مع داود لكي يملك ولكي يثبت ملكه؛ وفي نفس الوقت تعتبر دعوة لحث كل إنسان عبر الأجيال لحياة الجهاد حتى يملك ابن داود في القلوب، وتثبت مملكته فينا.

د. ذكر هؤلاء الأبطال لا يعني مجرد تفوقهم الحربي أو العسكري وإنما ارتبط نجاحهم العسكري وشجاعتهم بإيمانهم فلا نعجب إن رأينا يوآب – الرجل الأول والقائد لجيش داود – غير مذكور هنا، فقد خسر إكليله بسبب غدره المستمر وغيرته الشريرة وحسده، إذ قتل أبنير وغدر بعماسا وكان متجاسرًا في أحاديثه وحواره مع داود.

ويلاحظ في قائمة هؤلاء الأبطال الآتي:

أ. أنهم من أسباط وقبائل مختلفة مثل يهوذا وبنيامين وجت وعمون... هكذا يظهر عظماء رجال الإيمان من أمم كثيرة وشعوب متنوعة؛ كما يوجد بينهم رجال ونساء وأطفال وشباب وشيوخ الخ...

ب. قُسِّم هؤلاء الأبطال إلى ثلاث درجات أو رتب:

« ثلاثة أولون: يوشيب وألعازار وشمة، وهم يشيرون إلى آباء وأنبياء وشعب العهد القديم.

« ثلاثة تالون لهم: أبيشاي وبناياهو والثالث لم يُذكر اسمه، يشيرون إلى الرسل والتلاميذ وشعب العهد الجديد.

« ثلاثون... يشيرون إلى عامة المؤمنين.

<<

 

 

 

 

 


 

الأصحاح الرابع والعشرون

الإحصاء والوباء

في الأصحاحات [١١-٢١] تحدث الكاتب عن سقوط داود بسبب تهاونه مع الخطية لمدة لحظات فبقي سنوات طويلة يجني ثمارها المُرّة وإن كانت هذه المرارة تحولت إلى مجده وبنيان الكثيرين خلال توبته المستمرة. الآن يُختتم السفر بخطأ خطير ارتكبه داود الملك وهو إحصاء الشعب لمعرفة عدد رجال الحرب دون استشارة الرب. فحلَّ على الشعب تأديب قاسٍ هزَّ أعماق نفس داود؛ غير أنه عرف كيف يغتصب مراحم الله.

١. إحصاء الشعب                    [١-٩].

٢. إدراك داود للخطأ                  [١٠].

٣. جاد يستعرض التأديبات            [١١-١٤].

٤. حلول الوباء                      [١٥-١٧].

٥. إرسال جاد لداود                  [١٨-٢٥].

١. إحصاء الشعب:

غضب الرب على داود ليس لأجل قيامه بالإحصاء في حد ذاته، فقد سبق أن أحصاهم موسى ثلاث مرات أو أكثر (خر ٣٨: ٢٦؛ عد ١: ٢-٣؛ عد ٢٦)، إلهنا إله نظام لا تشويش. إنما غضب الرب للأسباب التالية أو بعضها:

أ. لم يستشر الرب كعادته.

ب. بدأ داود يعتمد على عدد رجاله وإمكانياته مع أنه لو تطلع إلى حياته كلها منذ صبوته لوجد نفسه قد انطلق من رعاية الغنيمات القليلة التي لأبيه إلى استلام المملكة كلها بقوة إلهية، وليس بذراعه أو ذراع بشر. وفي مواقف كثيرة سواء لمقاومة الأعداء له أو المنشقين عليه كان الله يتدخل من حيث لا يدري أحد. وقد عبَّر داود النبي كثيرًا عن هذه الخبرة الطويلة.

ج. ربما قصد داود بهذا الإحصاء إثارة حروب جديدة لتوسيع مملكته وازدياد مجده.

د. لعله أراد تسخير الشعب بوضع جزية مالية ثقيلة لحسابه الخاص أو حساب الخزانة وليس لحساب خيمة الاجتماع.

هـ. يبدو أن الدافع الرئيسي هو الإعلان عن عظمته وقدراته وإمكانياته، كما كان يفعل ملوك الأمم حوله ليرعب الأمم المجاورة، وقد شاركه الشعب هذه الروح، لذلك كانت الخطية على الجميع وليس على داود وحده. لقد حاول داود في حبه أن ينسبها لنفسه ولبيت أبيه لكي يُصب التأديب كله عليه دون الشعب!

و. كان الشعب محتاجًا إلى تأديب، فالله يسمح أحيانًا بخطأ الراعي لتأديب الرعية، لأنها مستحقة للتأديب، إذ يقول الكتاب: "وعاد فحمى غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلاً امض وأحص ...".

ز. يرى البعض أن خطأ داود ينصب في إصداره أمرًا ليوآب أن يحصي الشعب بما في ذلك هم أقل من ٢٠ عامًا مادامت هيئتهم وطاقاتهم تناسب الحرب؛ هذا التصرف ضد الشريعة والناموس (١ أي ٢٧: ٢٣-٢٤).

ح. كما انصب الخطأ على عدم طلب نصف الشاقل الذي كان يجب دفعه للخيمة متى أُحصى الشعب كفدية عن نفوسهم (خر ٣٠: 12).

لقد أدرك يوآب خطأ داود فحاول تنبيهه إلى ذلك لكن داود أصر. قال له يوآب: "ليزد الرب إلهك الشعب أمثالهم مئة ضعف وعينا سيدي الملك ناظرتان. ولكن لماذا يُسر سيدي الملك بهذا الأمر؟" [٣]؛ فاشتد كلام الملك على يوآب وعلى رؤساء الجيش، فخضعوا لأمره.

٢. إدراك داود للخطأ:

لعل من أجمل سِمات داود النبي والملك أنه متى أدرك خطأه فلا يُغطي عليه، ولا يقدم لله مبررات، إنما في بساطة قلب مع صراحة وفي رجاء يعترف حالاً دون أي تردد. "فقال داود للرب: لقد أخطأت جدًا في ما فعلت، والآن يارب أزل إثم عبدك لأني انحمقت جدًا" [١٠]. هذا هو القلب النقي الذي لا يحتمل أي غبار، إنما في الحال يصرخ معترفًا بخطيته.

٣. جاد يستعرض التأديبات:

دفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك [٩]، وعوض أن يفكر داود في الرقم وغايته من التعرف عليه إذا بقلبه يضربه في داخله [١٠]، وبقى الليل كله في مرارة يترقب ثمار الخطأ الذي ارتكبه.

في الصباح جاءه جاد النبي يعرض عليه حق اختيار العصا التي يُضرب بها من قبل الله للتأديب: [سبع سنوات جوع، هروب ثلاثة شهور أمام أعدائه وهم يتبعونه، ثلاثة أيام وباء في أرضه].

عندما ترك الرب لداود النبي أمر اختيار التأديب الذي يسقط تحته ضاقت نفسه، ولكنه قال: "لقد ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان" [١٤]. فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى المساء، فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع ٧٠0٠٠ رجل. بسط الملاك يده ليهلك أورشليم، لكن الرب ندم وقال للملاك "كفى الآن رد يدك".

يرى البعض أن الملاك كان على ذات جبل المريا الذي قدم فيه إبراهيم وإسحق ذبيحة... وكأن توقف الهلاك كان من خلال ذبيحة الإبن الحبيب!

٤. حلول الوباء:

وسط التأديب القاسي المرّ كشف الكتاب المقدس عن حب داود الفائق لشعبه، فإنه إذ رأى شعبه تحت الضيق صرخ طالبًا أن تحل الضيقة به وببيت أبيه لا بالشعب. إنه مستعد كسيده (رب المجد يسوع) أن يتقدم الرعية ليحتمل المخاطر عنهم، لا أن يختبئ في وسطهم طالبًا عنايتهم به.

v   في اختيار العقوبات لم يختر المجاعة ولا الهروب أمام الأعداء بل الوباء المرسل من قبل الله؛ لقد ترجى أن يكون الجميع في سلام ويحتمل هو العقوبة دون غيره. وإذ لم يحدث هذا ناح وقال: "لتكن يدك عليّ"، وإن كان هذا لا يكفي "وعلى بيت أبي". يقول أيضًا: "أنا الراعي أخطأت" (الترجمة السبعينية). كأنه يقول: حتى إن كانوا هم قد أخطأوا فأنا هو الشخص الذي يجب أن يحتمل العقوبة لأنني لم أُصلحهم. إنها خطيتي أنا أيضًا لذا أستوجب العقوبة. ولكي يزيد من جريمته استخدم لقب "الراعي"... عظيمة هي قوة الاعتراف[139].

v   يقول: "أنا الراعي أخطأت". لقد أذنبت، أما هذا القطيع فماذا فعل؟ لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي.

إبراهيم (أيضًا) لم يطلب ما لنفعه الخاص بل ما هو لنفع الكثيرين، لهذا عرض نفسه للمخاطر، وسأل الله من أجل الذين لا ينتمون له (أهل سدوم وعمورة)[140].

v   ليتنا نطلب العقوبة لأنفسنا متى أخطأنا ضد ذاك الذي ينبغي ألا نخطئ في حقه... إن كنا نحب المسيح كما ينبغي يلزمنا أن نُعاقب أنفسنا عندما نخطئ[141].

القديس يوحنا الذهبي الفم

٥. إرسال جاد لداود:

سمع الله لصرخات داود المملوءة حبًا تجاه شعب الله واستجاب له، فقد أرسل إليه جاد النبي ليقيم مذبحًا في الموضع الذي ظهر له فيه الملاك، في بيدر أرونة اليبوسي، مؤكدًا له الآتي:

أ. قد تم التصالح بين الله وداود، لأن إقامة مذبح وتقديم ذبيحة وقبولها من جانب الله يعني تحقيق المصالحة.

ب. أن المصالحة تتم خلال الذبيحة، رمز ذبيحة المسيح الكفارية.

رأى أرونة وهو رجل أجنبي يبوسي الملاك، ثم عاد فرأى الملك قادمًا فارتبك جدًا وتحير، لذا سجد أمام داود الملك على وجهه إلى الأرض، وسأله عن سر مجيئه. طلب منه أن يشتري منه البيدر ليقيم المذبح فيه فتكف الضربة عن الشعب. أراد أرونة أن يقدم البيدر مجانًا لبناء المذبح وبقره محرقات ونوارجه وأدوات البقر حطبًا للمحرقات؛ لكن داود رفض أن يقدم تقدمات مجانية للرب وأصر أن يدفع الثمن ٥٠ شاقلاً من الفضة.

رقم ٥٠ يشير إلى الحرية التي يتمتع بها الإنسان داخليًا بالروح (اليوبيل، عيد العنصرة)، هكذا يرتبط المذبح والذبيحة بعمل الروح القدس واهب الحرية. على ذات الموضع أقيم فيما بعد هيكل سليمان.

كان أرونة أمميًا، لكنه تمتع برؤية الملاك، اتسم بالاتضاع والحب مع البذل والعطاء، لذا أقيم الهيكل في أرضه... ليت إنساننا الداخلي يكون كأرونة فيقيم الرب هيكله فينا.

<<

 

 

 

 


 

[1] In 2 Thes. Pg. 62: 498.

[2] St. Cassian: Conf. 17: 15.

[3] The Sayings of Desert Fathers, Anba Anoub

[4] Duties of the Clergy 3: 9 (61).

[5] Cf. Nelson: A New Catholic Commentary on Holy Scripture, 1969. p 318.

[6] راجع تعليقات على هذه المرثاة في كتاب "السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم": صموئيل الثاني.

[7] The Jerome Biblical Commentary, p 174

[8] In 2 Tim. hom. 7.

[9] Ibid

[10] Eccl. Hist. 1: 3.

[11] In 2 Cor. hom.3.

[12] On Sacraments 4: 1.

[13] St Jerome: Dialogue against Luciferians.

[14] New Westmister Dict. of the Bible, p. 580.

[15] Ibid, p. 329.

[16] Ibid, p. 66.

[17] ِEp. 55 (Oxford ed. Ep. 28).

[18] On Ps. hom. 55

[19] On Heb. hom. 23:9.

[20] On Acts. hom. 3

[21] New Westminster Dict. of the Bible, p. 89.

[22] J.L. Mckenzie: Dict. of the Bible, P. 77.

[23] Strong’s Exhaustive Concordance of the Bible, art. 1195

[24] Ibid, art. 7394.

[25] Ibid, art. 7416.

[26] Westminster Dictionary of the Bible, p. 99.

[27] The New Westminster Dict. of the Bible, p. 449

[28] Ibid.

[29] Antiq. 5: 2: 2.

[30] On Ps. 27.

[31] On Ps. 16.

[32] On Ps. hom. 16.

[33] The New Westminster Dict. of the Bible, p. 319.

[34] Ibid, p. 541-2.

[35] كتاب السنن القويم في تفسير العهد القديم- صموئيل الثاني 6.

[36] On Acts. hom. 12.

[37] Duties of the Clergy 1: 43: 23.

[38] On Ps. 30 (29).

[39] Ibid.

[40] راجع: من تفسير وتأملات الآباء الأولين: هوشع (الأصحاح الأول).

[41] On Exod. hom. 13.

[42] Ibid hom. 9.

[43] City of God 17:8.

[44] Lactantius: The Divine Institutes 4:13.

[45] City of God: 17:9.

[46] The Westminster Dict. of the Bible, p. 57.

[47] Ibid, p. 105.

[48] قاموس الكتاب المقدس، ص ٢٠٧.

[49] On Ps. 60.

[50] The Westminster Dict. of the Bible, p. 1023.

[51] Joseph Antiq. 7: 5: 5.

[52] The Westminster Dict. of the Bible, p. 788.

[53] Ibid p. 111.                                               

[54] Ibid p. 574.

[55] Ibid p. 954.

[56] The Ascetical homilies, hom. 22.

[57] hom . 37.

[58] hom . 48.

[59] hom . 62.

[60] On Ps. 50 (51).

[61] Constit. Of The  Holy Apostles 7: 1.

[62]  The Ascetical homilies, hom. 48.

[63] On Matt. hom. 75.

[64] Iren. Ad Haer. 4: 27: 1.

[65] hom. 32.

[66] On Ps. 51 (50)

[67] In 2 Cor. hom. 4.

[68] Institute 12: 11.

[69] Ad Marcion 2: 17.

[70] hom. 48.

[71] On Matt.

[72] On Colos. hom. 8.

[73] hom. 48.

[74] hom. 64.

[75] St. Augustine: On Ps. 127.

[76] راجع كتابنا: الحب، مفهومه ودرجاته (الحب والشهوة).

[77] McKenzie: Dict. of the Bible, p. 26.

[78] Unger’s Bible  Dictionary, Chicago 1966, p. 45.

[79] The Westminster Dict. of the Bible, p. 83.

[80] Origen’s Commentary on John. 33.

[81] hom. 64.

[82] The Ascetical Homilies of St. Isaac the Syrian, 1984, p. 395

[83] Paed. 3:1.

[84] Ibid.

[85] Ibid .3:2

[86] hom. 5.

[87] On Humility.

[88] On Ephes., hom. 15.

[89] Unger’s Bible Dictionary, p. 407.

[90] On Ps. 3.

[91] hom. 48.

[92] On Grace & Free-will ch. 41.

[93] Ibid .

[94] Institutes 8: 8.

[95] In Matt. hom. 3.

[96] Strong’s Exhaustive Concordance of the Bible, art. 302.

[97] من تفسير وتأملات الآباء الأولين: الانجيل بحسب مرقص، ص ٢٥١.

[98] On Ps. 12.

[99] Strong …, art. 2365.

[100] راجع أقوال الآباء في هذا الشأن في كتابنا: "الحب الجامع أو دور الشعب كنسياً".

[101] Strong, art 6659.

[102] Ibid .art 54.

[103] Ibid .art 3129

[104] Ibid .art 290.

[105] Ibid .art 5883.

[106] راجع كتابنا: دعوني أنمو، 1988، باب 3، 6.

[107] Strong, art. 980.

[108] Ibid .hom. 48.

[109] Strong, art. 6021.

[110] Ibid .art 7629.

[111] Ibid .art 4353.

[112] Ibid .art 5988.

[113] Ibid .art 1271.

[114] Conc. Virgins 2:29.

[115] adv. Jovinianus 2:3.

[116] On Ps. 22.

[117] الحب الإلهي، ص ٤٦٧، ٤٦٨.

[118] الحب الإلهي، ص ٤٦٩ .

[119] الحب الإلهي، ص ٤٦٩

[120] الحب الرعوي، ص ١٤٧.

[121] The Westminster Dict. of the Bible, p. 860.

[122] قاموس الكتاب المقدس، ص ١

[123] The Westminster Dict. of the Bible, p. 3.

[124] In Jerome Biblical  Commentary, p. 178.

[125] The Westminster Dict. of the Bible, p. 1020.

[126] In 2 Thess. hom. 4.

[127] On Ps. 90 (91).

[128] On Ps. 18.

[129] Ibid.

[130] Ibid.

[131] Ibid.

[132] Ep. ad. serap. 1: 14.

[133] hom. 1: 1.

[134] hom. 1: 10.

[135] hom. 1: 21.

[136] hom. 46.

[137] Ibid.

[138] On Ps. hom. 27.

[139] On  Rom. hom. 29.

[140] On  1Cor. hom. 25.

[141] On  2Cor. hom. 11

 

الصفحة الرئيسية