صفنيا

 القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

دعوة للحياة المقدسة

الله في حبه للبشرية ينشغل بكل إنسانٍ، كما ينشغل بالبشرية كجماعةٍ. يود أن يقيم منها أيقونة حية للقدوس، تتأهل للتمتع بالشركة في الأمجاد الأبدية، وتنعم بالفرح السماوي الذي لا ينقطع.

هذه الأيقونة لن تتحقق فينا ما لم نتمتع بالحياة المقدسة التي طريقها التوبة أو الرجوع إلى القدوس!

هذا هو غاية الكتاب المقدس كله، وغاية الخلاص الإلهي، وغاية هذا السفر، حيث يتجلى الله بكونه الإله القدوس الغيور. فهو يؤدب ليس إلاَّ لكي يُقدس، حتى لا يخلط الإنسان بين شركته مع الله وشركته مع الشر، الأمر الذي يستحيل تحقيقه أو قبوله من القدوس.

يفرح الله بالتوبة الجماعية، فكما يبسط يديه ليضم العالم كله كعروسٍ واحدةٍ مقدسةٍ، يود أن يفتح المؤمن قلبه ليتسع لكل إخوته، وتنعم البشرية كلها بالحياة الجديدة في الرب.

مسرة الله أن تتحول كل الشعوب إلى شفةٍ نقيةٍ تُسبح معًا بروحٍ واحدٍ، وتبتهج بالله مخلصها بفرحٍ دائمٍ، في حرية صادقة.


 

-

مقدمة في صفنيا

اَلأصحاح الأَوَّلُ (يوم الرب العظيم)

اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي (محاكمة الأمم)

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ (أورشليم المتهللة)


 

مقدمة في

صفنيا

صفنيا:

اسم عبري يعني "يهوه يستر أو يخفي أو يحمي"، ربما كان اسمه في ذهنه حين كتب: "اطلبوا التواضع. لعلكم تُستَرون في يوم سخط الرب" (2: 3). وأيضًا تعني "الذي فيه خوف الرب".

بدأ عمله النبوي في بداية حكم يوشيا بن آمون ملك يهوذا. وهو نفسه من سبط يهوذا. عاصر إرميا النبي في بدء خدمته، واتفق معه في الهدف وطريقة الكتابة، وكان له دوره الرئيسي في الإصلاح الذي قام به يوشيا.

لا نعرف عن حياة صفنيا النبي شيئًا سوى ما ورد في هذا السفر. وقد نسب نفسه للملك حزقيا، لهذا يُظن أنه من نسل الملك الصالح حزقيا. وُلد في اليهودية، ولكن لا تُعرف بلدة مولده.

الظروف المحيطة به:

خلف حزقيا الملك ثلاثة من نسله بالتسلسل (2 مل 20-21). اثنان منهم كانا شريرين وعابدين للأوثان، فامتلأت أرض يهوذا بالعبادة الوثنية وانتشرت الرجاسات من كل صنفٍ. حلٌ الفساد الأخلاقي والظلم الاجتماعي في كل موقعٍ، فكان الأغنياء يستغلون الفقراء بصورةٍ بشعةٍ، وإذ جاء الملك الصالح يوشيا الذي جلس عل العرش وهو في السادسة عشر من عمره تعهد بالقيام بحركة إصلاحٍ وتجديدٍ، فصار من أكثر ملوك يهوذا المحبوبين.

إذ عاصر فترة الإصلاح في يهوذا، في أيام الملك يوشيا انقسم الشعب إلى أكثر من فريق:

1. الغالبية العظمى سايروا حركة الإصلاح، لكنهم اهتموا بالمظهر الخارجي دون إصلاح النفس والحياة الداخلية وسلوكهم. وقد وصفهم إرميا النبي في الأصحاحات الأولى من سفره، حيث كان كل ما يشغلهم هو وجود الهيكل في وسطهم، دون الاهتمام بتمتعهم بسكنى الرب وحلوله وسط شعبه.

2. بقية قليلة جدًا أمينة في إصلاح حياتها، تتمسك بكلمة الله، وتطلب مجده. هذه البقية كانت موضع سخرية الأغلبية.

تاريخ كتابته:

 واضح ان صفنيا النبي بدأ خدمته قبل سقوط نينوى وظهور دولة بابل، ولم يكن إصلاح الملك يوشيا قد بدأ، هذا الإصلاح الذي لعب فيه صفنيا النبي دورًا هامًا. لهذا يرى البعض أن خدمته النبوية غالبًا ما بدأت حوالي عام 640 حتى سنة 625 ق.م. وأن هذا السفر سجله في أواخر هذه الفترة[1].

بدأ صفنيا النبي خدمته بعد حوالي خمسين عامًا من نبوة ناحوم.

مفتاح السفر:

 "الرب إلهك في وسطك جبار، يخلص، يبتهج بكِ فرحًا. يسكت في محبته. يبتهج بكِ بترنمٍ" (3: 17).

سماته:

1. غايته الحث على التوبة كطريقٍ للخلاص، موبخًا القادة على جميع مستوياتهم والشعب، معلنًا قرب حلول الضيق، أي سبي يهوذا بواسطة البابليين أو الكلدانيين. لكنه على الأرجح غاب عن المشهد قبل أن يحل الخراب الذي تنبأ به عن أورشليم.

2. بدأ السفر بالويلات وانتهى بالتسبيح، كغالبية الأنبياء الذين ينذرون مؤكدين تأديبات الله، ثم يفتحون باب الرجاء خاصة بالإعلان عن مجيء المسيا. هكذا يمثل السفر قطعة موسيقية لأغنية الحب الإلهي الجاد، ففي حزن يبدأ السيمفونية ليعلن محبته الجادة، وبتهليلٍ يختم السيمفونية، منشدًا إياها في عذوبة رائعة. إنها من أعذب التسابيح المفرحة في العهد القديم.

3. يحمل هذا السفر اتجاهًا مسكونيًا، فإن كانت مملكة يهوذا تسقط تحت تأديبٍ سريعٍ بعد طول أناة الله عليها إلى أجيالٍ، فإن الأمم أيضًا تدخل تحت المحاكمة لشرها نحو الله ونحو شعبه. ولكن ينتهي السفر بأورشليم الجديدة التي تضم الشعوب لتصير شعب الله المسكوني. فالسفر هو دعوة البشرية كلها لتستيقظ من نومها، وتتمتع بالشركة مع الله والحياة الجديدة الفائقة.

4. واضح من السفر أن النبي قدم أحاديث كثيرة، وأنه في آخر حياته جمع بعض هذه الأحاديث بوحي الروح القدس في هذا السفر.

5. ككثيرٍ من أسفار الأنبياء حمل في نهايته لغة إنجيلية مفرحة، وبشارة للأمم أنهم سيدركون الحق الإلهي ويتمتعون به. وقد سجل ذلك بطريقة سهلة، بسيطة، مفهومة جدًا ومباشرة.

6. بكونه من السلالة الملكية يعرف ما قد حلّ بالقصر الملكي من خطايا وآثام، فكان في مركزٍ يسمح له بالحديث معهم عن أخطائهم بكل صراحة.

7. تكررت كلمة "يوم" سبع مرات في هذا السفر. إذ سبق اليوم رقم معين غالبًا ما يقصد به 24 ساعة، أو سنة كاملة، أما إذا لم يسبقه رقم فيُقصد به وقت معين. وذلك كالقول الاحتفال بيوم رئيس معين، فيقصد به تذكار كل حياته. فالقول "يوم الرب"، يعني عمل الرب، سواء في مجيئه للتأديب أو يوم الدينونة أو يوم الخلاص.

أقسامه:

1.     يوم الرب العظيم        [ص 1].

2.     محاكمة الأمم                    [ص 2].

3.     أورشليم المتهللة       [ص 3].

تمثل هذه الأصحاحات الثلاثة أساس الشركة مع القدوس، وهو "الإيمان والرجاء والمحبة". ففي الأصحاح الأول يتجلى الإيمان، فبه ننال غفران الخطايا، إذ نؤمن بالله المحب العادل. في حنوه الشديد حازم لأجل بنياننا وشركتنا معه. وفى الأصحاح الثاني يعلن عن فتح باب الرجاء لكل الأمم والشعوب، فينتقل بنا من التأديب لأجل تقديسنا إلى قلبه المتسع المترقب خلاص العالم. وأخيرًا في الأصحاح الثالث تحول المحبة الإلهية قلوبنا إلى أورشليم المتهللة، إلى سماء مقدسة موضع سرور الله. إنه يقيم ملكوت السماوات في داخلنا، ويبتهج الله بنا حيث نحمل اسمه، ونتمتع بعمله الإلهي المفرح.

يوم الرب العظيم أو التأديب ص1:

v     يعتبره بعض الدارسين السفر التقليدي للإعلان عن محاكمة الله للأمم في العهد القديم.

v     الله في غيرته النارية [18] لا يطيق أن يرى الإنسان ملتصقًا بالشر: "نزعًا انزع الكل عن وجه الأرض" [2]، بسبب شر الإنسان لا يحتمل حتى الخليقة غير العاقلة التي خلقها من أجل الإنسان.

v     ينزع الكل عن وجه الأرض، فإن صِرتَ سماءً لا ينزع عنك شيئًا، بل يُقيم في داخلك مع ملائكته. أما إذا صرت أرضًا، فتفقد نفسك (الإنسان) وجسدك (الحيوان) وفكرك (الطيور) ومواهبك (أسماك البحر) [3].

v     يؤكد الرب أن يوم التأديب سريع جدًا [7، 14].

v     لا يطيق الله الخلط بين كهنة الله وكهنة البعل.

v     يريد القدوس قداسة شعبه، فيرفض حتى الثياب الغريبة غير المقدسة [7، 8].

v     يتنبأ صفنيا عن سبي يهوذا بواسطة الكلدانيين [15].

محاكمة الأمم أو التوبة طريق الخلاص ص 2 :

v     جاء الأصحاح الثاني مشرقًا في أكثر بهاءٍ، حيث ينتقل من التأديب إلى الرجاء في مراحم الله خلال التوبة الجماعية. "أطلبوا الرب يا جميع بائسي الأرض" (2: 3).

v     يفرح الله بالتوبة الجماعية: "تجمَّعي واجتمعي أيتها الأمة غير المستحية" [1]. على أن يقدم كل عضو توبته كعلاقةٍ شخصيةٍ تمس أعماقه مع الله.

v     هذه التوبة الجماعية تضم الرعاة مع الرعية. فالكل محتاج للتوبة، يسند كل أحدٍ الآخر.

v     أيضًا يحتاج المؤمن إلى توبة شاملة، تمس نفسه في الداخل، وجسده ليكون مقدسًا بالتمام.

v     التوبة في إيجابيتها هي تحول نحو الله، نطلب الرب وبرَّه وتواضعه، يسكن فينا ويهبنا سماته.

v     أخطر عائق للتوبة هو الاستكانة وعدم الشعور بالحاجة إلى الله، فإن نفس الإنسان تصير مربضًا للحيوان [15] أي يلتقي بها كل فكرٍ حيوانيٍ شهوانيٍ.

أورشليم المتهللة أو عودة الأمم للرب ص3:

v     يُقدم الأصحاح الثالث أروع صورة للرجاء في العالم كله، لإسرائيل مع كل البشرية، حيث يتمتع الكل بمراحم الله وخلاصه العجيب.

v     الله وهو يوبخ شعبه يقدم التوبة كطريقٍ لخلاصهم، فاتحًا باب الرجاء للبشرية كلها خلال المسيا المخلص: "لأني حينئذٍ أحول الشعوب إلى شفةٍ نقيةٍ، ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوهُ بكتفٍ واحدةٍ..." [9-10].

v     ماذا يعنى "يعبدوهُ بكتفٍ واحدةٍ" إلاَّ أن يحمل الكل صليب ربنا يسوع المسيح معًا كما بكتفٍ واحدةٍ.

v     ما هي التقدمة التي تقدمها الشعوب [10] سوى تقدمة المسيح ربنا الواحدة؟!

v     تنتهي نبوته بالفرح: "ترنمي يا ابنة صهيون الرب إلهكِ في وسطكِ جبار. يخلص. يبتهِج بكِ فرحًا".

v     إذ تحمل الكنيسة اسم عريسها وتصير حياتها تسبحة فرح يقول: "لأني أصيركم اسمًا وتسبيحة في شعوب الأرض كلها حين أرد مسبييكم قدام أعينكم قال الرب" [20].

 


 

من وحي سفر صفنيا

ردنيّ إليك، فأصير تسبحة لك!

v     أرى ذراعيك مبسوطتين ليّ أنا الخاطي.

أرجع إليك، فتحملني في أحضانك،

تقدسني بنعمتك يا أيها القدوس وحده.

أرجع إليك في مخدعي،

أتوب معترفًا بخطاياي وخطايا كل إخوتي.

التقي بك خفيةً كعريسٍ عجيبٍ،

والتقي بك مع إخوتي يا محب كل البشرية.

v     أؤمن أنك غافر الخطايا،

لا ترد نفسًا تأتي إليك،

بل تغسلها بدمك، وتطهرها، وتقدسها.

تبتر كل شرٍ فيها،

فإنك لن تقبل الشركة مع الشر والفساد!

v     أبواب الرجاء فيك مفتوحة،

من يقدر أن يغلقها أمامي؟!

لأدخل بالإيمان مملوء رجاءً وفرحًا وتهليلاً.

v     لتقم بحبك أورشليمك السماوية في داخلي.

ولتسكن أيها العريس الجبار في أعماقي.

تحول حياتي إلى عرسٍ لا ينقطع.

وتقدم ليّ عربون الأبدية هبة سماوية.

فأفرح مع إخوتي،

وأسبح معهم بشفةٍ واحدةٍ،

بك نصير جميعًا سيمفونية حب فريدة!

<<

 


 

اَلأصحاح الأَوَّلُ

يوم الرب العظيم

ظن الغالبية أن الله لن يسمح بالسبي ليهوذا كما حدث مع إسرائيل، لأن يهوذا تضم أورشليم مدينة الله، وبها الهيكل، مسكن الله. فخلطوا بين عبادة الله والعبادة الوثنية، وحتى عندما قام يوشيا بالإصلاح اكتفى الغالبية بالإصلاح الظاهري الشكلي، دون إصلاح القلب الروحي. لهذا جاءت نبوة صفنيا تؤكد مجيء يوم الرب الذي فيه يؤدب يهوذا، وتسقط أورشليم تحت السبي، ويتم خرابها.

1. مقدمة                   [1].

2. خراب يهوذا             [2 – 6].

3. يوم الرب قريب          [7 – 13].

4. يوم الرب العظيم         [14 – 18].

1. مقدمة:

كَلِمَةُ الرَّبِّ الَّتِي صَارَتْ إِلَى صَفَنْيَا بْنِ كُوشِي بْنِ جَدَلْيَا بْنِ أَمَرْيَا بْنِ حَزَقِيَّا،

فِي أَيَّامِ يُوشِيَّا بْنِ آمُونَ مَلِكِ يَهُوذَا. [1]

جاءت مقدمة السفر تؤكد أن ما يسجله صفنيا النبي ليس من كلماته، بل هي كلمة الرب، أُعلنت له من السماء.

يقدم لنا شجرة العائلة إلى أربعة أجيال سابقة تنتهي بحزقيا الملك، المذكور في ملوك الثاني (18: 1).

لقد بدأ يوشيا حركة الإصلاح في السنة الثانية عشر من حكمه، فإن كان صفنيا النبي بدأ نبوته مع بداية حكم يوشيا، فبالتأكيد كان له دوره الرئيسي في حركة الإصلاح.

لا نعجب من إصرار النبي على ذكر آمون عابد الأوثان، الذي جاء من نسله يوشيا الذي بذل كل ما في وسعه للإصلاح الديني والروحي. فمن جهة أراد تأكيد خطورة الشر. فمع كل الجهد الذي بذله يوشيا إلاَّ أن الشعب كانوا كما في حالة مرض مُستعصى، حيث تفحَّل الفساد بينهم بسبب آمون. ومن جانب آخر أراد أن يفتح باب الرجاء أمامنا، فإن كان الأب فاسدًا كمن لا يُرجى منه خير، إلاَّ أن الابن الشاب الصغير تحدى فساد أبيه وانطلق للعمل بروح القوة. وكما يعلن الرب نفسه على لسان حزقيال عن مسئولية كل إنسانٍ عن تصرفاته، لا عن استحقاقات والده: "ها كل النفوس هي ليّ، نفس الأب كنفس الابن، كلاهما ليّ، النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 4). "وإن ولد ابنًا رأى جميع خطايا أبيه التي فعلها فرآها ولم يفعل مثلها... فإنه لا يموت بإثم أبيه. حياة يحيا" (حز 18: 14، 17).

v     النفس التي لا تسكن في الله هي مصدر شرورها، فتخطئ، والنفس التي تخطئ هي نفسها تموت[2].

القديس أمبروسيوس

2. خراب يهوذا:

نَزْعاً أَنْزَعُ الْكُلَّ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، يَقُولُ الرَّبُّ. [2]

خلق الله الأرض لكي يتمتع بها الإنسان كسفيرٍ له ووكيلٍ للسماء، فتكون الأرض أيقونة السماء، أما وقد فسد الإنسان فالله ينزع هذه الأرض من الوجود. فالخطية أفسدت الإنسان كما أفسدت الأرض التي يعيش عليها. هذا وقد نزل كلمة الله السماوي إلى أرضنا، لكي يُقيم من قلوبنا سماءً ثانيةً، تتأهل بنعمته لسكناه. فمن يُصِّر أن يبقى أرضًا وترابًا لا يستحق البقاء، بل يسمع الصوت الإلهي: "نزعًا أنزع الكل عن وجه الأرض" [1]. أما إذا صرنا سماءً فنحيا مع الرسول بولس في السماويات، لا نُنزع، بل نتمتع بالأحضان الإلهية أبديًا.

هكذا مادام الإنسان يصر أن يبقى ترابيًا (أرضيًا) فإنه يشرب كأس مرارة الخطية الذهبي، فيسكر، ويفقد توازنه، بل وكل حياته. لذا لاق بنا أن نطلب من الله أن ينزع كل ما هو أرضي من قلوبنا.

v     "بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض" (إر 28: 7)... إن أردت أن تعرف كيف أن كل الأرض أصبحت سكرى بفعل كأس بابل، أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها. لكنك قد تقول ليّ إن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضًا (ترابًا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط، أي الخطاة وحدهم، هم الذين يسكرون. أما الأبرار، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلاَّ أن سكناهم في السماوات (في 3: 20). بالتالي لا يليق أن يُقال للإنسان البار: "أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود"، بل سيقول له الرب، طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1 كو 15: 49): "أنت سماء وإلى السماء تعود". لذلك فإن كأس بابل لن يُسكر إلاَّ الذين مازالوا أرضًا[3].

العلامة أوريجينوس

أَنْزِعُ الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ.

أَنْزِعُ طُيُورَ السَّمَاءِ وَسَمَكَ الْبَحْرِ،

وَالْمَعَاثِرَ مَعَ الأَشْرَارِ،

وَأَقْطَعُ الإِنْسَانَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، يَقُولُ الرَّبُّ. [3]

ينزع الإنسان والحيوان، إما بالسبي أو الأوبئة التي تقضي عليهما؛ ويفسد الهواء حتى تموت طيور السماء، وأيضًا تفسد المياه فيموت سمك البحر.

يصور الرب الخراب الكامل الذي يحل بالبشرية الجاحدة لخالقها، فإنه ينزع الإنسان والحيوان، فإن كان الإنسان يُشير إلى النفس البشرية العاقلة، والحيوان إلى الجسد الحيواني، فإن الخطية تدمر حياة الإنسان ككلٍ، تفقده طبيعته العاقلة، كما تُحطم جسده إذ يظن أن سعادته في الملذات الجسدية.

ينزع طيور السماء وسمك البحر، فإن ظن الإنسان أنه قادر أن يطير كما إلى السماء، أو ينزل كما إلى أعماق البحر مع السمك، فإنه لن يقدر أن يختفي من عين الله، ولا أن يهرب من التأديب الإلهي، وكما يقول المرتل: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فأنت هناك..." (مز 139: 7-8)، يليق به أن يهرب لا من الله بل إلى الله نفسه.

v     أين يهرب عبد الخطية؟ فإنه يحمل (سيدته، أي الخطية) أينما هرب.

لا يهرب الضمير الشرير من ذاته، لا يوجد موضع يذهب إليه.

نعم لا يقدر أن ينسحب من نفسه، لأن الخطية التي يرتكبها هي في داخله. يرتكب الخطية لكي يحصل على شيء من اللذة الجسدية. لكن تعبر اللذة وتبقى الخطية. ما يبتهج به يعبر، وتبقى الشوكة خلفها. يا لها من عبودية شريرة!...

لنهرب جميعًا إلى المسيح، ونحتج ضد الخطية إلى الله بكونه مخلصنا[4].

v     إنه يبحث عن موضعٍ إليه يهرب من غضب الله. أي موضع يحمي الهارب من الله؟... أي موضعٍ لا يوجد فيه الله؟ من يقدر أن يخدع الله؟ من الذي لا يراه الله.

v     لنهرب في رجاء وشوق بأجنحة الحب المزدوج (محبة الله ومحبة القريب)، فلا نجد راحة إلاَّ في أعماق بحر (المحبة)... لنهرب إلى الله في رجاءٍ، وفي رجاءٍ مملوء إيمانًا نتأمل في نهاية البحر[5].

القديس أغسطينوس

وَأَمُدُّ يَدِي عَلَى يَهُوذَا، وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ،

وَأَقْطَعُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ بَقِيَّةَ الْبَعْلِ،

اسْمَ الْكَمَارِيمِ،

مَعَ الْكَهَنَةِ. [4]

إذ ظن البعض أن الله لن يسمح بخراب يهوذا لوجود مدينة الله أورشليم والهيكل، يعلن الله القدوس أن ما يشغله لا أورشليم ولا الهيكل كمبنى، إنما القداسة، التي يُريدها لكل البشر، فإن فقد البشر الحياة المقدسة، فإنه مستعد أن يزيل الأرض كلها بكل ما عليها، هذه التي خلقها من أجل الإنسان.

إن كان الله يمد يده ليؤدب يهوذا بوجهٍ عامٍ، فإنه يؤدب بالأكثر أورشليم التي تكرست كمدينة الله التي تضم الهيكل المقدس، لأنها قد سمحت بالمزج بين عبادة الله والعبادة الوثنية. لقد أعلن إنه سيقطع اسم البعل وعبادته من الأرض، والكماريم (كهنة الأوثان 2 ملوك 23: 5) الذين كانوا يضلون الشعب. يقطعهم مع أصنامهم، وأيضًا يقطع الساجدين للكواكب، والذين كانوا يحلفون باسم ملكوم.

"البعل" الإله الفينيقي الحارس. وقد سقط إسرائيل في هذه العبادة الوثنية منذ عصر القضاة (قض 2: 13). وقد أقام الملك منسى تمثالاً للبعل في الهيكل نفسه (2 مل 21: 3، 5، 7).

كماريم[6]: الأصل العبري مشتق من كلمة التي معناها "أسود"، إذ كان الكهنة يرتدون ثيابًا سوداء، كما كانوا يضعون علامة سوداء على جباههم. يرى البعض أن كهنة ملوخ كانوا يدعون بالرجال السود، ذلك بسبب الدخان المستمر الذي كان يتصاعد من المذبح الذي يحرقون عليه الذبائح البشرية، حيث يُقدم البعض أطفالهم ذبائح. فكانت وجوه الكهنة سوداء. كما أن كلمة كماريم تعني "غيرة" لتعصبهم وغيرتهم على نشر الوثنية.

وَالسَّاجِدِينَ عَلَى السُّطُوحِ لِجُنْدِ السَّمَاءِ،

وَالسَّاجِدِينَ الْحَالِفِينَ بِالرَّبِّ،

وَالْحَالِفِينَ بِمَلْكُومَ. [5]

يرفض الله الخلط بين ما لله وما لإبليس، والشركة بين النور والظلمة. فإنه إذ يُسلم جزء من القلب لإبليس يقتحمه ليملك عليه تمامًا، وإذا تُرك جزء من القلب لله يرفضه تمامًا ويفارقه. إبليس بخداعه يتسلل ليملك تمامًا، والله بحبه لن يقحم نفسه ما لم يُسلم له القلب تمامًا ليُقيم فيه ملكوته.

اعتاد البعض أن يمزج بين عبادة الله الحيَّ وعبادة الأوثان، وأن يضيف في قَسَمِه بالله الحيَّ اسم أو أسماء آلهة وثنية.

كانت عبادة الشمس أو القمر أو أحد الكواكب أمرًا شائعًا وهي من أقدم العبادات الوثنية.

وَالْمُرْتَدِّينَ مِنْ وَرَاءِ الرَّبِّ،

وَالَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُوا الرَّبَّ وَلاَ سَأَلُوا عَنْهُ. [6]

هنا يقسم الشعب إلى فريقين، فريق استجاب لدعوة يوشيا الملك بالتوبة، لكن إلى حين، ثم ارتدوا من وراء الرب ليمارسوا الرجاسات الوثنية. هؤلاء وضعوا أيديهم على المحراث ونظروا إلى الوراء. أما الفريق الثاني، فلم يستجب لدعوة الملك ولم يشغلهم الرب في شيءٍ.

يُركز السفر على ثلاثة أخطاء رئيسية، وهي:

 1. عبادة الأوثان [4-5].

 2. التعريج بين الفريقين، تارة يقسمون بالله الحيَّ، وأخرى بملوك [5].

 3. إعطاء القفا لله [6].

3. يوم الرب قريب:

اُسْكُتْ قُدَّامَ السَّيِّدِ الرَّبِّ،

لأَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ قَرِيبٌ.

لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَعَدَّ ذَبِيحَةً.

قَدَّسَ مَدْعُوِّيهِ. [7]

إذ كان كثيرون يسخرون بكلمات الأنبياء التي تهدد بخراب أورشليم، قائلين بأنه قد عبرت أجيال وأجيال ولم يحدث شيء من هذا، وأن الأنبياء إنما يهددون بما لن يتم مطلقًا، لذا يقول صفنيا النبي: "يوم الرب قريب" [7].

يُعتبر الزمن الحاضر هي أيام البشر يفعلون ما يحلو لهم، أما اليوم الأخير حيث يعلن الله ملكوته الأبدي، فيضم إليه مؤمنيه الحقيقيين فهو يوم الرب، ويُحاسب كل إنسانٍ حسب أعماله. كما يعتبر يوم العبادة الأسبوعي هو يوم الرب، حيث يكرس المؤمن هذا اليوم للعبادة ليكون سرّ بركة للأسبوع كله. ويُحسب أيضًا يوم التأديب الذي يتحقق في هذا الزمن في الزمان المناسب لكل أحدٍ هو يوم الرب، وهو قريب.

سمح للبابليين أن يقتلوا ويذبحوا من اليهود عندما ينتصرون على يهوذا، وحُسب هؤلاء القتلى كما لو كانوا ذبيحة يقدمها الكهنة للرب. هنا يصور النبي قتلهم في مرارة، أنهم يُقتلون بلا رحمة ودون إثارة ضمير، بل يحسبهم قاتلوهم ذبيحة مقدمة للرب! يتهللون ويفرحون أثناء قتلهم بتقديم الذبائح البشرية كما في يوم عيدٍ.

جاءت كلمة الرب تصف ذلك اليوم: "فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه، فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم، لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات" (إر 46: 10). أيضًا قيل: "وأنت يا ابن آدم فهكذا قال السيد الرب: "قل لطائر كل جناحٍ، ولكل وحوش البر، اجتمعوا وتعالوا احتشدوا من كل جهة إلى ذبيحتي التي أنا ذابحها لكم، ذبيحة على جبال إسرائيل لتأكلوا لحمًا وتشربوا دمًا، تأكلون لحم الجبابرة وتشربون دم رؤساء الأرض" (حز 39: 17-18).

وَيَكُونُ فِي يَوْمِ ذَبِيحَةِ الرَّب،ِ

أَنِّي أُعَاقِبُ الرُّؤَسَاءَ وَبَنِي الْمَلِكِ

وَجَمِيعَ اللاَّبِسِينَ لِبَاساً غَرِيباً. [8]

إذ يؤدب الرب شعبه يبدأ بالرؤساء وأبناء الملك والأشراف والقيادات مثلهم كسائر الطبقات المخطئة بلا تحيز.

إذ سمح الله لنبوخذنصر بذبح عظماء يهوذا الأشرار، مقدمًا إياهم كذبيحة بدأ بالرؤساء أو الأمراء، إذ كان يجب أن يكونوا قدوة للشعب، فصاروا عثرة لهم. وقد تحققت هذه النبوة حيث قُتل أبناء صدقيا (إر 39: 6).

"جميع اللابسين لباسًا غريبًا"، يقصد بهم الأمراء ورجال الحاشية الذين كانوا يرتدون ثيابًا مستوردة من الخارج ثمينة جدًا، كنوعٍ من الترف والعظمة؛ ولعل هذه الثياب كانت خاصة بالوثنيين يتباهون بها أثناء العبادة الوثنية. باستخدام هذه الثياب حُسبوا كمن شاركوا في العبادة الوثنية. ويرى البعض أن الثياب الغريبة هي التي منعتها الشريعة كأن يرتدي الرجال ثياب النساء، والعكس أيضًا (تث 22: 5).

وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُعَاقِبُ كُلَّ الَّذِينَ يَقْفِزُونَ مِنْ فَوْقِ الْعَتَبَةِ،

الَّذِينَ يَمْلأُونَ بَيْتَ سَيِّدِهِمْ ظُلْماً وَغِشّاً. [9]

"الذين يقفزون من فوق العتبة"؛ تعبير غالبًا ما يقصد به اعتداء الإنسان على حقوق قريبه، كمن يقفز فوق العتبة ليغتصب شيئًا من بيت قريبه بالعنف كما بالخداع.

يرى البعض أنه يقصد هنا الذين يداهنون الحاشية الملكية، حيث كانوا يغتصبون ما للغير لحساب سادتهم، فيكونون أشبه بكلاب الصيد التي تقفز فوق العتبة لتغتصب مال الآخرين لحساب رجال القصر. ويرى آخرون أنه يُشير إلى الفلسطينيين الذي اغتصبوا تابوت الله وجاءوا به إلى أشدود، ودخلوا به بيت داجون ووضعوه بالقرب من الإله داجون، وإذ سقط الأخير على وجهه على الأرض أمام تابوت العهد ورأسه ويداه مقطوعة على العتبة كان الكهنة وجميع الداخلين يثبون لكي لا يطأوا العتبة بأقدامهم، وصار ذلك عادة بالنسبة لكل الداخلين إلى هيكل داجون (1 صم 5: 1-5). ويرى القديس جيروم أنه يُشير هنا إلى الصاعدين على درجات الهيكل في تشامخ وكبرياء.

وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ الرَّبُّ،

صَوْتُ صُرَاخٍ مِنْ بَابِ السَّمَكِ،

وَوَلْوَلَةٌ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي،

وَكَسْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الآكَامِ. [10]

باب السمك: أُشير إلى هذا الباب في نحميا (3: 3)، وهو مقابل يافا Joppa، وربما هو الباب الذي جاءت منه أخبار اقتحام الجيش الكلداني بعنف من منطقة الآكام. دُعي باب السمك لقربه من سوق السمك، ولأن صيادي السمك القادمين من بحيرة طبرية ونهر الأردن كانوا يعبرون من هذا الباب.

إذ صار الصراخ من باب السمك كان رد الفعل في القسم الثاني أو الجزء الأسفل من المدينة حيث ولولوا لسماعهم الصرخات القادمة.

إذ صارت الصرخات تدوي حول أسوار أورشليم قادمة من الجبال المحيطة، تدوي من بابٍ إلى بابٍ حتما حلّ الإحباط بكل السكان في أكثر المناطق أمانًا.

وَلْوِلُوا يَا سُكَّانَ مَكْتِيشَ،

لأَنَّ كُلَّ شَعْبِ كَنْعَانَ بَادَ.

انْقَطَعَ كُلُّ الْحَامِلِينَ الْفِضَّةَ. [11]

وُجد الشر في مكتيش، في مكانٍ سفليٍ بالمدينة عميقٍ أشبه بالهاون. يقطنها التجار ورجال الأعمال وهم مطمئنون، لكن الخراب حلّ بهم، ولم يعد من حامل فضة أو مال يدخل للتجارة! صار شعبها مطحونًا كما يُطحن القمح أو الدواء في الهاون. في سفر حزقيال يشبهها بالقدر التي يُوضع فيها كل قطعة طيبة: الفخذ والكتف مع خيار العظام، ويغليها حتى تُسلق أيضًا عظامها في وسطها (حز 24: 3-5).

يرى البعض أنه يُشير هنا لا إلى موقعٍ معينٍ في أورشليم، بل إلى المدينة كلها، حيث يُضرب الشعب ويُسحقون حتى الموت مثل الحنطة في الهاون.

مكتيش Maktesh أو مورتر Mortar أي هاون، وهو اسم ينطبق على وادي سلوام Siloam بشكله المجوَّف. هذا الوادي هو بين صهيون وجبل الزيتون Mount Olivet في أقصى الجانب الشرقي من جبل المريا Moria حيث يقطن التجار. ربما كانت بجوار باب السمك.

وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنِّي أُفَتِّشُ أُورُشَلِيمَ بِالسُّرُجِ،

وَأُعَاقِبُ الرِّجَالَ الْجَامِدِينَ عَلَى دُرْدِيِّهِمِ،

الْقَائِلِينَ فِي قُلُوبِهِمْ:

إِنَّ الرَّبَّ لاَ يُحْسِنُ وَلاَ يُسِيءُ. [12]

إذ يرى البعض الأبرار في ضيق بينما يتمتع الأشرار بنجاحٍ وازدهارٍ، كثيرًا ما يتساءلون قائلين: أين العدالة الإلهية؟ أين المكافأة التي ينالها الأبرار؟ وأين العقوبة التي تحلٌ بالأشرار؟ أين هي رعاية الله واهتمامه بالبشرية؟

هنا يصوَّر الله وهو يؤدب أورشليم على شرورها أنه ممسك بسرجٍ، يفتش حتى في الأماكن الخفية المظلمة، لكي لا يهرب شرير من التأديب الإلهي. هنا يفتش الرب أورشليم بسرجٍ لا ليبحث عن الدرهم المفقود (لو 15: 8-10)، فقد قدم فرصًا كثيرة للخطاة كي يرجعوا إليه، لهذا يستخدم السرج ليفرز الأشرار المُصرين على الاستهانة بإنذارات الله، لكي يؤدبهم.

يُعاقب الله ليس فقط الذين يسكرون بخمر محبة الترف والعالم، وإنما حتى الذين يشربون ما يتبقى من رواسب في زجاجات الخمر (التفل). هؤلاء في سكرهم يسقطون في الإلحاد العملي، حيث لا ينكرون وجود الله، إنما ينكرون عنايته بالعالم أو اهتمامه بالبشر، وكأنه لا يشغله الإنسان في شيءٍ.

في هذا الأصحاح يظهر الرب كمن هو في وسط يهوذا لكي يدينها أو يؤدبها، أما في الأصحاح الأخير فيعلن عن سكناه وسط البشرية لكي تتهلل به كما يبتهج هو بها، لأنها موضع سروره. هنا يعلن تأديبه ليهوذا المتعبدة للأوثان، الأمر الذي لا يطيقه الله بالنسبة لشعبه.

v     جاء الرب يسوع إلى أورشليم في الهيكل. وإذ نظر حوله على كل شيء،ٍ إذ كان الوقت متأخرًا ذهب إلى بيت عنيا مع الاثنى عشر (مر 11: 11). دخل الرب أورشليم في الهيكل. وإذ دخل ماذا فعل؟ تطلع إلى كل شيءٍ. كان في هيكل اليهود يطلب مكانًا لراحة رأسه فلم يجد...

تطلع إلى اليهود؛ وكان يود أن يكون في وسطهم، لكنه لم يجدهم...

كان يقيِّم كل ما هو حوله كمن يبحث بسرجٍ، لذلك يقول صفنيا النبي: "أفتش أورشليم بالسرج" (صف 1: 12).

بنفس الطريقة تطلع الرب أيضًا حوله في كل شيءٍ بضوء سراجٍ. كان يبحث في الهيكل فلم يجد ما طلبه. إلى أن جاء المساء وكان لا يزال يفحص كل شيءٍ... مادام يوجد نور، فقد بقي في الهيكل. أما وقد حلّ المساء، عندما حلَّت ظلال الجهالة، فأظلم هيكل اليهود، ذهب إلى بيت عنيا مع الاثنى عشر.

لقد بحث المخلص، وبحث الرسل، وإذ لم يجدوا شيئًا في الهيكل تركوه[7].

القدِّيس جيروم

v     هذا السؤال غالبًا ما يتردد في أذهان من ليس لهم إيمان عظيم ومعرفة، ظانين أن مكافأة القديسين التي لا توهب في هذا العالم بل في الحياة العتيدة، تُمنح لهم في هذه الفترة القصيرة من الحياة الزائلة. أما نحن فقد وضعنا رجاءنا في المسيح، لا في هذه الحياة، لئلا نصير كقول الرسول أشقى جميع الناس (1 كو 15: 19).

فالله لا يمنع التجارب عن المستقيمين، ولا يكافئ في هذا العالم الصالحين بأمورٍ نافعةٍ، والأشرار بأمورٍ شريرةٍ.

فإن قلنا بغير هذا نسقط في العقاب مع من ذكرهم صفنيا النبي: "القائلين في قلوبهم إن الرب لا يحسن ولا يسيءُ" (صف 1: 12). أو على الأقل نصير بين المجدفين على الله القائلين: "كل مَن يفعل الشرَّ فهو صالح في عيني الرب، وهو يُسَرُّ بهم. أو أين إله العدل؟" (مل 2: 17)، ونسقط في التجديف الذي وصفه (النبي) هكذا: "عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائرهُ وأننا سلكنا بالحزن قدام رب الجنود. والآن نحن مطوِّبون المستكبرين، وأيضًا فاعلو الشرّ يُبنَون بل جرَّبوا الله ونجوا" (مل 3: 14، 15)[8].

الأب ثيؤدور

فَتَكُونُ ثَرْوَتُهُمْ غَنِيمَةً وَبُيُوتُهُمْ خَرَاباً،

وَيَبْنُونَ بُيُوتاً وَلاَ يَسْكُنُونَهَا،

وَيَغْرِسُونَ كُرُوماً وَلاَ يَشْرَبُونَ خَمْرَهَا. [13]

إن كان الله في طول أناته لا يسرع بفرض عقوبةٍ على الأشرار، منتظرًا توبتهم خلال ترفقه بهم، لكن حتمًا إن لم يرجعوا فسيشربون من الكأس التي ملأوها.

يجردهم العدو من كل شيء، من ثروتهم، ومن بيوتهم التي من عمل أيديهم، كما من كرومهم التي غرسوها، إذ يستولى الغزاة على كل شيء. بهذا تتحقق النبوة الواردة في (تث 28: 30، 39) عن الذي لا يسمع لصوت الرب: "تخطب امرأة ورجل آخر يضجع معها، تبني بيتًا ولا تسكن فيه، تغرس كرمًا ولا تستغله... كرومًا تغرس وتشتغل وخمرًا لا تشرب ولا تجني، لأن الدود يأكلها".

يستخدم القدِّيس جيروم هذه العبارة مع عبارات أخرى من الكتاب المقدَّس ليوضِّح أنه ليس من شيء في هذا العالم يستطيع أن يشبع أعماق الإنسان. يقول: [يجب ألاَّ نطلب شهوة الممتلكات والمال؛ جاء في سليمان، في سفر الجامعة: "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة" (جا 5: 10). وفي الأمثال: "مُحتكر الحنطة يلعنه الشعب، والبركة على رأس البائع" (أم 11: 26). أيضًا في إشعياء: "ويل للذين يَصِلون بيتًا ببيتٍ، ويقرنون حقلاً بحقلٍ، حتى لم يبقَ موضع؛ فصرتم تسكنون وحدكم في وسط الأرض" (إش 5: 8). وأيضًا في صفنيا: "ويبنون بيوتًا ولا يسكنونها، ويغرسون كرومًا ولا يشربون خمرها؛ لأن قريب يوم الرب" (صف 1: 13-14). وفي الإنجيل بحسب لوقا: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟" (لو 9: 25)[9]].

v     بخصوص ذاك اليوم يقول عاموس النبي: "ويل للذين يشتهون يوم الرب. لماذا لكم يوم الرب؟ هو ظلام لا نور" (عا 5: 18). ويقول صفنيا النبي ذات الأمر: "صوت يوم الرب مروع ومرّ" (صف 1: 14-15). هذا هو السبب الذي لأجله يُقدم لنا الشخص النادم يطلب بغيرة في صلاته لكي لا يُدان على أعماله في ذاك اليوم للدينونة. أي شيء أكثر نفعًا وفيه بُعد نظر للشخص أكثر من أن يصلي لمحبة الله الأبويَّة وهو بعد في هذا العالم، حيث توجد فرصة للتوبة، هذا الذي لا يستطيع أن يكون له رجاء في استحقاقاته بسبب خطاياه التي ارتكبها؟[10].

كاسيودورس

v     يوجد نور يمكن إدراكه بالحواس، قيل عنه في موسى أنه جاء إلى الوجود في اليوم الرابع، ولكنه ليس بالنور الحقيقي، لأنه ينير الأشياء التي على الأرض. من الجانب الآخر، المخلص هو نور العالم الروحي، إذ يشرق على العاقلين والمفكرين، حتى ترى عقولهم رؤى لائقة. إني أقصد أنه نور النفوس العاقلة التي في العالم المحسوس، الذي يعلمنا عنه المخلص أنه هو الخالق، والموجِّه له... إنه شمس يوم الرب العظيم[11].

العلامة أوريجينوس

4. يوم الرب العظيم:

قَرِيبٌ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمِ.

قَرِيبٌ وَسَرِيعٌ جِدّاً.

صَوْتُ يَوْمِ الرّبِّ.

يَصْرُخُ حِينَئِذٍ الْجَبَّارُ مُرًّا. [14]

يقدم النبي هنا تحذيرًا ليهوذا وأورشليم عن قرب الدمار الذي سيحل بواسطة البابليين. إنه ليس يوم البابليين، بل "قرب يوم الرب العظيم"، لأن هذا الدمار إنما بسماحٍ من الرب لتأديبهم.

يؤكد النبي أن يوم التأديب قد صار قريبًا وسريعًا جدًا، ليس من وقت للتراخي أو التأجيل. هنا وهو يتنبأ عن يوم سبي يهوذا كيوم الرب العظيم، يتنبأ أيضًا عن يوم الدينونة العظيم، حيث تقف كل البشرية أمام الرب.

إنها صرخات مختصرة جدًا ومتكررة، لأن الخطر غاية في الخطورة، والوقت مقصر جدًا، ليس من مجالٍ للحوار. إنه يشبه إنسانًا يرى أسرته داخل البيت والنار بدأت تشتعل فيه، فصار يصرخ لعل الكل يسرعون إلى الخروج من أقرب باب لهم أو يقفزون من أقرب نافذة. وكما قيل بعاموس النبي: "إن الرب يزمجر من صهيون، ويعطي صوته من أورشليم، فتنوح مراعي الرعاة وييبس رأس الكرمل" (عا 1: 2).

بدأ هذا اليوم بموت الملك الصالح يوشيا الذي قتله فرعون نخو في موقعة مجدو Megiddo، واستمر اليوم حتى تم خراب أورشليم على يد نبوخذنصر البابلي.

ذهب العالم وفضته لا يستطيعان أن ينقذانا في اليوم الرب العظيم، أما ثروة المؤمن فهي الوصية الإلهية، من يحفظها تحفظه من الغضب الإلهي. الوصية كنز، نقتنيه بعمل النعمة الإلهية، فنحمل برّ المسيح.

ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُ سَخَطٍ،

يَوْمُ ضِيقٍ وَشِدَّةٍ.

يَوْمُ خَرَابٍ وَدَمَارٍ.

يَوْمُ ظَلاَمٍ وَقَتَامٍ.

يَوْمُ سَحَابٍ وَضَبَابٍ. [15]

يوم الرب العظيم هو يوم عرسٍٍ مفرحٍ للمؤمنين الذين تهيأوا للعرس خلال غنى نعمة الله الفائقة، ويوم سخطٍٍ وضيقٍٍ وخرابٍٍ ودمارٍٍ وظلامٍٍ وقتامٍٍ لمن لم يستعدوا له بالإيمان الحيَّ العامل بالمحبة.

لم تعد اللغات البشرية قادرة على التعبير عن مدى الخراب الذي يحل بيهوذا، فيقدم النبي مترادفات كثيرة لعلها تستطيع أن تصور مدى خطورة ذلك اليوم، فتدعوه يوم سخطٍ، كما يوم ضيقٍ وشدةٍ، وخرابٍ ودمارٍ، وظلامٍ وقتامٍ، وبوقٍ وقصفٍ الخ.

صورة خطيرة حيث تهب زوابع الغضب الإلهي، فيحل الضيق مع الخراب الشامل، ويصير الكل كمن هم في ظلامٍ ليس من لديه بصيرة ليرى طريقًا للخلاص، ولا من يقدر أن يُقدم مشورة نافعة. إنه يوم سحابٍ كثيفٍ وضبابٍ لا يقدر إنسان أن يقاومه، ويواجهه.

يَوْمُ بُوقٍ وَهُتَافٍ علَى الْمُدُنِ الْمُحَصَّنَةِ،

وَعَلَى الشُّرُفِ الرَّفِيعَةِ. [16]

أية قلعة أو حصن أو أسوار يمكن أن تقف في مواجهة سخط الله. يسمع الذين يظنون أنهم مختفون في مدن حصينة وشُرف رفيعة أصوات أبواق الحرب وهتافات الجيوش المعادية، فينهار كل كيانهم وتنحل قوتهم!

وَأُضَايِقُ النَّاسَ فَيَمْشُونَ كَالْعُمْي،

لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَى الرَّبِّ،

فَيُسْفَحُ دَمُهُمْ كَالتُّرَابِ،

وَلَحْمُهُمْ كَالْجِلَّةِ. [17]

يكون الأشرار في يوم الرب العظيم أشبه بالعميان، إذ يعجزون عن التمتع ببهاء مجد الله، يرون الله كديانٍٍ جبارٍٍ، لا كعريسٍٍ سماويٍٍ يهب شعبه شركة المجد معه.

الذين يسلكون في الشر، ويقاومون الحق، ولا يسمعون لصوت الرب ووصيته يشبهون عميانًا يتخبطون من هنا وهناك، دائمًا في شكٍ وفى خطرٍ! يبحثون عن مهربٍ، لكن بسبب عمى بصيرتهم لا يرون مهربًا ينقذهم.

كل ما يلمسونهم ويتأكدون منه أن السيف يضرب فيهم ودماءهم تتفجر، وأجسادهم تسقط تحت أقدام العدو، ليس من يضمد جرحًا، ولا من يرفع جثة من التراب!

لاَ فِضَّتُهُمْ وَلاَ ذَهَبُهُمْ يَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُمْ في يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ،

بَلْ بِنَارِ غَيْرَتِهِ تُؤْكَلُ الأَرْضُ كُلُّهَا،

لأَنَّهُ يَصْنَعُ فَنَاءً بَاغِتاً لِكُلِّ سُكَّانِ الأَرْضِ. [18]

إذ يشعلون نار الغيرة الإلهية بسبب عصيانهم ورجاساتهم ومقاومتهم لله، يحل الدمار على الجميع، وتصيب الضربة الأرض كلها، فلا يوجد فيها موضع خفي يهرب إليه أحد. هنا لا تستطيع كل الثروة التي اقتنوها ظلمًا أن تحميهم من الدمار. وكما يقول الحكيم: "لا ينفع الغنى في يوم السخط، أما البرّ فينجي من الموت" (أم 11: 4).

v     إني قلق ومضطرب إذ أتكلم عن كثرة الحليّ؛ وإني ملتزم أن أدهش كيف أن هؤلاء الذين يحتملون مثل هذا الثقل لا يضطربون من الموت. يا له من تعب فيه غباوة! يا له من خبلٍ سخيفٍ ينفضح!... الرجل الغني، إذ يملأ مخازنه يقول لنفسه: "لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنينٍ كثيرةٍ، استريحي وكلي واشربي وافرحي". وإذا بالرب في الأناجيل يدعوه بوضوح: "يا غبي" (لو 12: 20)، "هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" إذ رأى الرسَّام أبيليس Apelles أحد تلاميذه يرسم صورة لشخص مثقَّل بلون ذهبي ليقدمها لهيلانة، قال له: "يا صبي، إذ أنت عاجز عن أن ترسمها جميلة، صورتها غنية".عن هؤلاء يقول صفنيا النبي: "لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم في يوم غضب الرب" (صف 1: 18). فإن هؤلاء النسوة الذين يتدربن تحت يدي المسيح يليق بهن ألاَّ يتزيَّن بالذهب بل بالكلمة، الذي خلاله وحده يظهر الذهب في النور[12].

القدِّيس إكليمنضس السكندري

v     لنُظهر كمال الطاعة التي يُوحى بها إلينا بتوقع مجيئه. ليتنا لا نسرع كما يسرع العبيد، فندافع عن أنفسنا أمام الرب بطريقة مشينة ومخزية. بالحري ليتنا نثابر ونجاهد ونسهر بكل قلوبنا، ونثبت حتى النهاية. لنحفظ وصايا الرب حتى متى حلّ يوم الغضب والانتقام لا نُعاقب مع الخطاة والأشرار، بل نُكرم مع الأبرار وخائفي الرب[13].

 الشهيد كبريانوس


 

من وحي صفنيا 1

ليحل يومك العظيم!

v     كثيرًا ما تتساءل نفسي:

متى يحل يومك العظيم؟

حقًا، يظن الشرير أن كل الأيام يومه فيتجبر،

ويئن الصديق مترقبًا يوم مجيئك العظيم.

متى تأتي فتسند كل نفسٍ وسط أنينها؟

v     وعدت أنك قادم سريعًا لتؤدب.

لتؤدبني برحمتك، قبل مجيئك على السحاب.

فإنني لا أستطيع أن أهرب منك وإنما أهرب إليك.

أنت ملجأي، احتمي فيك، فلا يحلّ بيّ الغضب!

إن صعدت إلى السماء فأنت هناك،

وإن هبطت إلى الهاوية أجدك أمامي.

إني أهرب إليك يا أيها السماوي.

فلتنزع عني كل ما هو أرضي بروحك الناري.

فأصير لك سماءً ثانية، لن يقترب إليها الدمار!

v     ليحل يومك العظيم الآن،

فأنا أعلم أنك تحطم فيّ كل ما هو شر،

وتستر عليّ ببرّك وقداستك!

v     أترقب مجيء يومك الأخير العظيم!

أراك العريس البهي، لا الديان المخيف!

أرى عينيك حمامتين، أما الأشرار فيرونهما نارًا متقدة.

يوم مجيئك يوم نور وبهاء،

لا يوم ظلام وقتام.

مجيئك هو شهوة قلبي الدائمة،

وليس يوم ضيقٍ وشدةٍ وخرابٍ ودمارٍ.

لتأتِ على السحاب،

وتحملني معك، فأدخل بك إلى حضن الآب!

<<

 

 


 

اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي

محاكمة الأمم

في الأصحاح الأول يؤكد الرب أنه يؤدب شعبه في حزمٍٍ شديدٍ، إذ لا يقبل الشركة مع الشر، وهو في هذا استخدم أشور، وسيستخدم بابل لتأديب شعبه "إسرائيل ويهوذا" لكن وهو يؤدب شعبه لا يقبل من الأمم أن يشمتوا بهم أو يحملوا روح البغضة والكراهية ضدهم. فإنه يحاكمهم ويدينهم.

إذ يُقدم النبي وصفًا مرعبًا لمحاكمة الأمم، فإنه لا يهدف أن يسقط البشر في اليأس، بل أن يجتذبهم إلى الله كمصدر حياتهم وسلامهم وسعادتهم. إنه يدعوهم إلى إعادة تقييم حياتهم وأهدافهم ونياتهم، فيرتعبوا لا من الله بل من الخطية.

يبدو في محاكمة الله للأمم كما لو كان عدوًا لهم، وذلك لتأديبهم بحزمٍ على شماتتهم بشعبه الساقط تحت التأديب، لكن على ضوء السفر كله حيث يعلن التهليل برجوع الأمم إلى الله يظهر أن الله لا يعاديهم بل يعادي عداوتهم، ولا ينتقم منهم بل من الشر الذي ملك عليهم.

1. دعوة شعبه لطلب البرّ            [1-3].

2. محاكمة فلسطين                  [4-7].

3. محاكمة موآب وعمون           [8-11].

4. محاكمة كوش                              [12].

5. محاكمة أشور                              [13-15].

1. دعوة شعبه لطلب البرّ:

قبل أن يبدأ بمحاكمة الأمم الشامتة في شعبه الذي تحت التأديب، يطلب من شعبه أن يتوبوا، ويطلبوا البرّ والتواضع حتى يستر الرب عليهم ويرد لهم مجدهم. فهو لا يقوم بمحاكمة الشامتين في شعبه ما لم يُقدم الأخير توبة صادقة.

تَجَمَّعِي وَاجْتَمِعِي يَا أَيَّتُهَا الأُمَّةُ غَيْرُ الْمُسْتَحِيَةِ. [1]

يدعو هذه الأمة التي حسبت نفسها شعب الله المتميز عن بقية الأمم والشعوب، أن تراجع موقفها فإنها "أمة غير مستحية" أو "أمة غير راغبة في الله"، أو ليس لها ما يُزكيها أمامه، يطالبها أن تجمع نفسها وتجتمع معًا، فإن أحد ثمار الخطية الخطيرة هو فقدان الهدف الجماعي، فيعمل كل واحدٍ حسب هواه. وكما قيل عن فترة القضاة المظلمة: "في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحدٍ عمل ما حسن في عينيه" (قض 21: 25).

الخطية تجعل الإنسان كالعصافة التي ليس لها موضع استقرار، وتحول المجتمع كما إلى عاصفة تبدد الكل وتبعثرهم.

على العكس فإن عمل التوبة الصادقة هو رجوع الإنسان إلى أعماقه ليبصر بروح الحق إلى قلبه وفكره ومشاعره ونياته وإرادته... هنا يلتصق بالله فيقترب إلى إخوته بروح الوحدة، لا بمجرد الاجتماع الجسماني، بل يصير للكل الروح الواحد والفكر الواحد.

هنا الدعوة للاجتماع معها ربما لكي يراجع الجميع حساباتهم معًا، فيقدموا توبة جماعية، ويصرفوا العار والغضب الإلهي عنهم، بروح الصلاة والخشوع والرغبة في الرجوع إليه.

قَبْلَ وِلاَدَةِ الْقَضَاءِ.

كَالْعُصَافَةِ عَبَرَ الْيَوْمُ.

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ حُمُوُّ غَضَبِ الرَّبِّ.

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ يَوْمُ سَخَطِ الرَّبِّ. [2]

إن كان شعبه قد سقط تحت التأديب، فإنه ينذرهم بأنهم ما لم يرجعوا إليه يسقطون تحت الغضب الإلهي في يوم سخط الرب.

إن كانت الخطية تفسد حياة الناس، فتجعل منهم قشًا لا حنطة، فإن أقل هجوم من عدو يصير كالريح فيتناثر القش ويتبدد. أما التوبة فتجعل من القش حنطة، فلا تبعثرهم الرياح، بل تنقيهم من القش لتجتمع الحنطة معًا.

يطالبهم بالتوبة السريعة وفى غيرة، فقد اقترب جدًا يوم ولادة القضاء، أو يوم التأديب الإلهي؛ لقد صار على الأبواب.

لعله يشبه يوم الرب هنا بالعصافة، يأتي سريعًا حيث تهب رياح الغضب الإلهي، ومتى حلّ اليوم لا يجد الأشرار فرصة للهروب، فسيعبر كعصافة يصعب اللحاق بها، ويصيرون هم أنفسهم عصافة في مهب الرياح الشديدة! وكما يقول المرتل: "ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعصافة التي تذريها الريح" (مز 1: 4). وكما يقول الرب عن شعب أفرايم الأثيم: "لذلك يكونون كسحاب الصبح، وكالندى الماضي باكرًا. كعصافةٍ تُخطف من البيدر، وكدخانٍ من الكوة" (هو 13: 3).

هكذا لا يجد الأشرار موضع راحة، لا يستقرون على الأرض، ولا يبلغون السماء. إنهم كالعاصفة التي تحركها الريح في كل اتجاه.

يقارن القديس أغسطينوس[14] بين الودعاء والأشرار، فعن الودعاء قيل: "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض" (مت 5: 5)؛ أما الأشرار فإنهم كالتراب (والرماد) تطرحه الريح عن وجه الأرض (مز 1: 4). فإن الكبرياء ينفخ الشرير فيكون دومًا مطرودًا من وجه الأرض.

v     الأشرار "كالعصافة التي تذريها الريح" (مز 1: 4). يقول الكتاب المقدس إن الإنسان الشرير يكون غير سعيد، فلا يكون حتى مثل تراب الأرض. يبدو التراب كما لو كان ليس له كيان، لكن له نوع من الوجود في ذاته... إنه يتبعثر هنا وهناك وليس له أي موضع يستقر فيه، حيثما يجرفه الريح تتبدد قوته. هكذا هو الشرير، فإنه إذ يجحد الله، ينقاد بالضلال، حيثما ترسله نسمات إبليس[15].

القديس جيروم

v     "ليكونوا مثل العُصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرهم" (مز 35: 5)... الريح هو التجربة، والتراب (العُصافة) هم الأشرار. حينما تأتي التجربة يرتفع التراب ولا يقف أمام الريح ولا يصده[16].

القديس أغسطينوس

أُطْلُبُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ بَائِسِي الأَرْضِ الَّذِينَ فَعَلُوا حُكْمَهُ.

اطْلُبُوا الْبِرَّ.

اطْلُبُوا التَّوَاضُعَ.

لَعَلَّكُمْ تُسْتَرُونَ فِي يَوْمِ سَخَطِ الرَّبِّ. [3]

في دعوته لهم أن يجتمعوا لم يرد أن يبث كل منهم في الآخر روح الرعب والفزع، بل يجتمعوا معًا لكي يطلبون الرب. يطلبون الرب لكي يفيض عليهم بنعمته ويرحمهم، ويحقق وعودهم لهم. يدعوهم لكي يجتمعوا بروح الوداعة، كمرضى يسألون الطبيب السماوي أن يمد يده ليعالج ويشفي. لذا يدعوهم "يا جميع بائسي (وديعي) الأرض".

العجيب أنه يدعو ودعاء الأرض (بائسي الأرض) لكي يطلبوا الرب نفسه ويسألوه البرّ والتواضع؛ بهذا يُسترون في يوم سخط الرب. فليس من طريق للاختفاء من الغضب سوى الالتجاء إلى الرب والاختفاء فيه، والتمتع بالبرّ الإلهي فيستر على ضعفاتهم، وينالون التواضع فيصيرون حنطة عوض كونهم عُصافة في مهب الريح العاصف.

لقد أعلن الرب ذات النداء في سفر إشعياء: "هلَّم يا شعبي ادخل مخادعك، واغلق أبوابك خلفك. اختبئ نحو لحيظة حتى يعبر الغضب. لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب إثم سكان الأرض فيهم" (اش 26: 20-21). وفي عاموس: "لأنه هكذا قال الرب لبيت إسرائيل: اطلبوا فتحيوا... اطلبوا الرب فتحيوا، لئلا يقتحم بيت يوسف كنارٍ تُحرق ولا يكون من يطفئها من بيت إيل" (عا 5: 4، 6).

يرى البعض أن الحديث هنا موجه إلى طبقة البائسين الذين سقطوا تحت الظلم بسبب الفساد الذي حلّ في البلاد، واستغلال أصحاب السلطة والأغنياء الفرصة ضد الفقراء. غير أن هؤلاء الفقراء اشتركوا أيضًا في الفساد والرجاسات، لذلك يسألهم النبي أن يرجعوا إلى الرب ويلتمسوا رحمته بالتوبة في تواضعٍ والسلوك بالبرّ. فإن الظلم الحالّ عليهم لن يبررهم يوم سخط الرب ما لم يرجعوا إليه بكل قلوبهم.

ولعله يقصد بالبائسين هنا اليهود صالبي المسيح، فإن كانوا قد جدفوا عليه وصلبوه، فليتعرفوا عليه وبروح التواضع يطلبوه، فيحتضنهم ويحفظهم من الغضب الذي حلّ بهم بسبب جحودهم له. فقد قيل لهم بالنبي إشعياء : "اطلبوا الرب مادام يُوجد، ادعوه وهو قريب " (إش 55: 6).

يرى القديس كبريانوس في النداء "اطلبوا الرب" دعوة لترك كل شيء لنطلب الرب وملكوته وبرّه عندئذ كل شيء يزداد لنا كقول السيد المسيح نفسه (مت 6: 31-33)[17].

v     حيث يوجد زمن، تطلعوا إلى الخلاص الحقيقي الأبدي، وإذ صارت نهاية العالم على الأبواب حولوا أذهانكم بمخافة الرب إلى الله. لا تبتهجوا بسلطانكم الباطل الذي بلا قوة يسيطر في هذا العالم على الأبرار والودعاء... "اطلبوا الرب فتحيوا" (عا 5: 6). اعرفوا الرب حتى إن كان الوقت متأخرًا... آمنوا به، هذا الذي لن يخدعكم. آمنوا بذاك الذي سبق فأخبركم بحدوث كل هذه الأمور. آمنوا بالذي سيهب الحياة الأبدية للذين يؤمنون. آمنوا بذاك الذي بنيران جهنم يوقع عقوبة أبدية على غير المؤمنين[18].

الشهيد كبريانوس

هكذا ليس لنا ملجأ من غضب الرب إلاَّ الهروب إليه والاحتماء فيه.

v     قبل أن نطلب الرب كنا ضعفاء ومتقلبين، الآن إذ تستقر قلوبنا عليه فنحن أقوياء وشجعان[19].

القديس جيروم

2. محاكمة فلسطين:

لأَنَّ غَزَّةَ تَكُونُ مَتْرُوكَةً،

وَأَشْقَلُونَ لِلْخَرَابِ.

أَشْدُودُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ يَطْرُدُونَهَا،

وَعَقْرُونُ تُسْتَأْصَلُ. [4]

يؤدب الرب البلاد الهامة في فلسطين والتي كانت تعتز في كبرياء بقدرتها أو ازدهارها، وهي غزة وأشقلون وأشدود وعقرون. فتصير مدينة غزة متروكة أشبه ببرية جرداء، وقد قام الإسكندر الأكبر بتدميرها تمامًا حتى كاد أن يمحيها. وقد جاء اسمها في العبرية "كذوبة  Gazubah" تحمل هذا المعني، أي بلا وجود. والمدينة الثانية أشقلون، فإنها في العبرية Ekron teeaker.

أشدود تطرد في وقت الظهيرة، وقد عرف الشرقيون منذ القديم أنهم ينامون في الظهيرة بسبب الحر، فتعتبر فترة خمول، (2 صم 4: 5)، وكانت العمليات العسكرية تتوقف في تلك الفترة.

يلاحظ أن المدينة الخامسة في فلسطين المشهورة "جت" لم تُذكر هنا لأنها في ذلك الحين كانت خاضعة لليهود. لهذا كل من صفنيا هنا وعاموس (1: 6)، وإرميا (25: 20)، وزكريا (9: 5-6) لم يذكروا سوى الأربع مدن.

ما يتنبأ به هنا عن هذه المدن الأربع الرئيسية يُشير إلى ما يحل بالإنسان الأثيم غير التائب ألاَّ وهو أن يعاني من العزلة، حيث يصير متروكًا، ومن الخراب حيث لا يسكنه البرّ الإلهي، ومن الرعب حيث يعيش كطريد وليس من هو وراءه، وأخيرًا يُستأصل حيث تنتهي حياته بمصير عدو الخير نفسه.

هذا هو الإنذار الإلهي لكل إنسان يختار لنفسه مقاومة الحق الإلهي، وإعطاء ظهره لله واهب الحياة والشبع والسلام والسعادة. إنه يئن مع صهيون التي ظنت في مرارتها أن الرب تركها وسيدها نسبها (إش 49: 14)، فتقول: "هأنذا كنت متروكة وحدي" (إش 49: 21). وكما يقول إرميا النبي: "كل المدن متروكة، ولا إنسان ساكن فيها" (إر 4: 29). كما قيل بالنبي إشعياء: "وينظرون إلى الأرض، وإذا شدة وظلمة قتام الضيق، وإلى الظلام هم مطرودون" (إش 8: 22). كما قيل بالمرتل: "لتكن دارهم خرابًا، وفي خيامهم لا يكن ساكن" (مز 69: 25)؛ "كيف صاروا للخراب بغتة؟" (مز 73: 19). وجاء في المكابيين: "استأصل كل أثيم وشرير" (1 مك 14: 14).

v     "كيف صاروا للخراب بغتة؟" (مز 73: 19) إنه يتعجب منهم، مدركًا ما سيحل بهم في النهاية. "اضمحلوا"؛ حقًا صاروا كالدخان، إذ يصعد إلى فوق يضمحل، هكذا هم اضمحلوا... "فنوا بآثامهم". إنهم كحلمٍ عند التيقظ (مز 73: 20)... إذ يرى إنسان أنه قد وجد كنوزًا وهو نائم إنما يكون في وهم إنه غني، ولكن إلى أن يستيقظ... يبحث فلا يجد، ليس في يديه شيء، ليس شيء في سريره... هؤلاء (الأشرار) إذ يستيقظون يجدون البؤس الذي أعدوه لأنفسهم[20].

القديس أغسطينوس

إن كان الشر يهدم الإنسان ويفقده كل حيوية، فيكون كمن هو مهجور في عزلةٍ، يحل به الدمار، ويُستأصل، فإن الله الذي يسمح بذلك إنما ليستأصل ما فيه من شرٍ ولكي يغرسه من جديد، أي يجدد حياته وطبيعته بروحه القدوس. يحطم ما فينا من شر ليقيم برَّه فينا. وكما يقول المرتل: "أنت بيدك استأصلت الأمم وغرستهم" (مز 44: 2).

وَيْلٌ لِسُكَّانِ سَاحِلِ الْبَحْرِ أُمَّةِ الْكَرِيتِيِّينَ.

 كَلِمَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ: يَا كَنْعَانُ أَرْضَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ،

إِنِّي أَخْرِبُكِ بِلاَ سَاكِنٍ. [5]

يُقصد بساحل البحر كل المنطقة التي على ساحل البحر الأبيض المتوسط من مصر إلى يافا وغزة. الكلمة العبرية هي Ceroth وهي تطابق في صوتها "أحواض مياه dug cisterns".

وَيَكُونُ سَاحِلُ الْبَحْرِ مَرْعًى بِآبَارٍ لِلرُّعَاةِ وَحَظَائِرَ لِلْغَنَمِ. [6]

ساحل البحر الذي كان يُستخدم كميناء للسفن، يسكنه التجار، صار خاليًا من السكان. يتحول من بلدٍ تجاري مملوء نشاطًا وحيوية إلى مرعى غنم وحظائر.

يرى البعض أنه يُقصد بأمة الكريتيين جماعة من المتغربين أو المهاجرين من فينيقية، ورد ذكرهم في (1 صموئيل 30: 14 وعاموس 9: 7). وقد وردت في الترجمة السبعينية والسريانية تحت اسم "كريت".

وَيَكُونُ السَّاحِلُ لِبَقِيَّةِ بَيْتِ يَهُوذَا.

عَلَيْهِ يَرْعُونَ.

فِي بُيُوتِ أَشْقَلُونَ عِنْدَ الْمَسَاءِ يَرْبُضُونَ،

لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَهُمْ يَتَعَهَّدُهُمْ وَيَرُدُّ سَبْيَهُمْ. [7]

يتنبأ هنا أن بيت يهوذا، يسترد ملكيته لأشقلون. وأن البقية الراجعة من السبي ستستقر في آمان في بيوت أشقلون.

لقد دمَّر اسكندر الأكبر اشقلون، وتمم المكابيون Maccabees ما تنبأ به الأنبياء ضدها، حيث فقدت نظام حكمها تمامًا، وأُلزم الشعب أخيرًا أن يُختنوا، أي يدخلوا إلى اليهودية قسرًا.

3. محاكمة موآب وعمون:

قَدْ سَمِعْتُ تَعْيِيرَ مُوآبَ،

وَتَجَادِيفَ بَنِي عَمُّونَ الَّتِي بِهَا عَيَّرُوا شَعْبِي،

وَتَعَظَّمُوا عَلَى تُخُمِهِمْ. [8]

ارتبط بنو موآب وبنو عمون معًا، فكل من موآب وعمون هو ابن غير شرعيٍ للوط الساقط (تك 19: 33-38). هذان الشعبان يمثلان من هم نغول وليسوا أولادًا لله، حيث يرفضون الإيمان بالسيد المسيح، ولا يتمتعون بالميلاد الروحي الجديد.

سقط بنو موآب وبنو عمون تحت التأديب، لأنهم صاروا يسخرون بالشعب اليهودي أثناء تأديبه، ويجدفون على إلههم. في سخريتهم وشماتتهم بهم ظنوا أن إله إسرائيل لا يسمع ولا يقوى على مقاومتهم، لهذا يقول: "قد سمعت تعبير موآب وتجاديف بني عمون" وإن كان في طول أناته بدا كمن لا يسمع حتى يؤدب شعبه.

"تعظموا على تخمهم"، ففي عجرفة وكبرياء غاروا على حدود يهوذا (إر 48: 29؛ 49: 1).

فَلِذَلِكَ حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ،

إِنَّ مُوآبَ تَكُونُ كَسَدُومَ،

وَبَنِي عَمُّونَ كَعَمُورَةَ، مِلْكَ الْقَرِيصِ، وَحُفْرَةَ مِلْحٍ، وَخَرَاباً إِلَى الأَبَدِ.

تَنْهَبُهُمْ بَقِيَّةُ شَعْبِي،

وَبَقِيَّةُ أُمَّتِي تَمْتَلِكُهُمْ. [9]

يصير مصير الموآبيين والعمونيين كمصير سدوم وعمورة، حيث تنتهي كل ذكرى لهم، وتتحول بلادهم إلى خراب بلا ساكنٍ. أرضهم تصدر القرَّاص، وهو نبات ذو وبر شائك، عوض الحنطة، وينابيعهم تصدر مياهًا شديدة الملوحة عوض ينابيع المياه العذبة، ويصيرون غنائم لإسرائيل.

هَذَا لَهُمْ عِوَضُ تَكَبُّرِهِمْ،

لأَنَّهُمْ عَيَّرُوا وَتَعَظَّمُوا عَلَى شَعْبِ رَبِّ الْجُنُودِ. [10]

ما يحل بهم ليس جزافًا، إنما هو ثمر طبيعي لكبريائهم وتشامخهم على شعب رب الجنود.

الرَّبُّ مُخِيفٌ إِلَيْهِمْ،

لأَنَّهُ يُهْزِلُ جَمِيعَ آلِهَةِ الأَرْضِ،

فَسَيَسْجُدُ لَهُ النَّاسُ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَكَانِهِ،

كُلُّ جَزَائِرِ الأُمَمِ. [11]

يؤكد الله أنه ليست هناك عداوة في قلب الله من جهة شعبٍ معينٍ، أو أمة معينة، إنما يسقط الشعب المتكبر والمجدف تحت نير كبريائه وتجديفه وشره، أما الله فيحطم الأوثان، ويقيم من كل الأمم شعبًا له، تتعبد له كل أمة، بل وكل إنسانٍ في مكانه. فلا حاجة أن يصعد الكل إلى أورشليم، وأن يعبدوا في هيكل سلميان.

هذا ما كان الله يهيئ شعبه القديم على قبوله، وهو أن تصير الأرض وملؤها للرب ولمسيحه.

"يا ممالك الأرض غنوا لله، رنموا للسيد، سلاه" (مز 68: 32).

"فيُعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للربٍ نذرًا ويوفون به" (إش 19: 21).

"لأن من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي بين الأمم، وفي كل مكانٍ يُقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة..." (مل 1: 11).

إنه يحط من قدر الآلهة الوثنية، فتصير هزيلة للغاية كوحوشٍ مفترسةٍ هزلت جدًا لعدم وجود طعام لمدة طويلة. ليس من ذبيحة بعد تُقدم لهم، ولا من عبادة تقدم في هياكلهم.

v     لتسمع الآن نبيًا آخر الذي يقدم ذات النبوة قائلاً إن العبادة لله سوف لا تُحد بموضعٍ واحدٍ، إنما يحل الوقت حين يعرفه كل بشرٍ. إنه صفنيا القائل: "سيظهر الرب لكل الأمم، ويُهزل جميع آلهة الأمم، عندئذ كل أحد يعبده من مكانه" (صف ٢: ١١ LXX) غير أن هذا كان ممنوعًا على اليهود حيث أمرهم موسى أن يتعبدوا في مكانٍ واحدٍ[21].

v     تسمعون إن الأنبياء سبق فأخبروا متنبئين أن البشر لا يعودون بعد يُحدون بمكانٍ ما، فيأتون من كل الأرض ليقدموا ذبيحة في مدينةٍ واحدة (أو مكانٍ واحد)، بل يبقى كل واحدٍ في بيته (وطنه) ويخدم الله ويكرمه. أي وقت مثل الوقت الحاضر الذي أمكن فيه إتمام هذه النبوات؟ على أي الأحوال أصغوا ولتدركوا كيف تتفق الأناجيل والرسول بولس مع صفنيا. قال النبي: "سيظهر الرب"، وقال بولس: "قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الشعب". (تي 2: 11). قال صفنيا: "لكل الأمم"، وقال بولس: "لجميع الناس". (تي 2: 11) قال صفنيا: "يهزل آلهتكم"، وقال بولس: "معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبرّ والتقوى في عالم الحاضر". (تي 2: 12)[22].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إنكم لا تؤمنون أنه قد سبق فأخبرنا أن هذه الأمم ستأتي إلى مكان ما لله، كما قيل: "إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض" (إر 16: 19). لتفهموا إن أمكنكم ذلك، أن شعوب هذه الأمم يأتون إلى إله المسيحيين، الذي هو الله  السامي الحقيقي، لا بالمشي بل بالإيمان. فإن هذا الإعلان بعينه قدم بهذه الكلمات بواسطة نبي آخر: "الرب مخيف إليهم، لأنه يُهزل جميع آلهة الأرض، فسيسجد له الناس كل واحدٍ من مكانه كل جزائر الأمم" (صف 2: 11). يقول نبي: "إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض" والآخر يقول: "سيسجد له كل واحدٍ من مكانه". لهذا فهم ليسوا مُطالبين أن ينسحبوا من أماكنهم ليأتوا إليه، إذ يجدون في ذلك الذي يؤمنون أنه في قلوبهم[23].

v     سيأتون إليه، دون ترك أماكنهم، لأنه بالإيمان به يجدونه في قلوبهم[24].

v     إلى زمن طويل... احتفظت الشياطين بالصمت في معابدهم بخصوص الأمور التي ستحدث، مع أنه لم يكن ممكنًا أن يكونوا بغير معرفة عنها، وذلك بسبب منطوقات الأنبياء. ولكن مؤخرًا إذ بدأت الأحداث تقترب أرادت الشياطين أن تخبر مسبَّقًا بها، حتى لا يبدو أنهم جهلة أو مهزومون. ومع هذا لم يشيروا إلى بعض الأمور التي سبق فأعلن عنها وسُجلت منذ وقت طويل كتلك التي وردت في النبي صفنيا: "الرب يغلبهم ويطرد كل آلهة الأمم من الأرض. وسيسجد له كل إنسانٍ من مكانه، كل جزائر الأمم" (صف 2: 11). ربما لم تكن تلك الآلهة التي تُعبد في هياكل الأمم تعتقد أن هذه الأحداث ستتحقق بالنسبة لهم، ولهذا لم ترد أن تسبب ضجرًا بين الرائين والعرَّافين المتنبئين الذين يتبعونهم[25].

القدِّيس أغسطينوس

v     دعونا نتحدث أيضًا عن الكنائس كجزائر. أضف إلى هذه أن الكتاب المقدَّس يقول في موضع آخر: "جزائر كثيرة رجعت إليَّ" (إش 42: 10 LXX). يقول إشعياء النبي باسم الرب: "تكلم إلى سكان هذه الجزيرة"، "لتبتهج جزائر كثيرة". كما أن الجزائر تقوم في وسط البحر، هكذا تتأسس كنائس في وسط العالم، وتُضرب وتُصدم بأمواج متعددة من الاضطهادات. حقًا إن هذه الجزائر تُقذف بالأمواج كل يوم، لكنها لا تُغمر بالمياه. بالتأكيد هي وسط البحر، لكن أساسها هو المسيح، المسيح الذي لا يمكن أن يهتز[26].

القدِّيس جيروم

v     بالرغم من كل هذا، لم يستطيعوا بعد أن يقيموا الهيكل ويصلحوا الموضع الذي سمح لهم فيه أن يمارسوا طقوسهم حسب الناموس. فإن سلطان المسيح، السلطان الذي أسس الكنيسة هدم ذاك الموضع. وقد سبق فأنبأ النبي أن المسيح يأتي، وإن كان لا يأتي إلاَّ بعد السبي[27].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

4. محاكمة كوش:

وَأَنْتُمْ يَا أَيُّهَا الْكُوشِيُّونَ.

قَتْلَى سَيْفِي هُمْ. [12]

أخضع نبوخذنصر كوش (إر 46: 9-10؛ حز 30: 4). يقول الرب: "سيفي"، ويقصد به نبوخذنصر الذي استخدمه الله أداة في يده لتأديب الأمم.

5. محاكمة أشور:

وَيَمُدُّ يَدَهُ عَلَى الشِّمَالِ وَيُبِيدُ أَشُّورَ،

وَيَجْعَلُ نِينَوَى خَرَاباً يَابِسَةً كَالْقَفْرِ. [13]

لقد أباد الرب الإمبراطورية الآشورية، وجعل عاصمتها "نينوي" خرابًا.

فَتَرْبُضُ فِي وَسَطِهَا الْقُطْعَانُ،

كُلُّ طَوَائِفِ الْحَيَوَانِ.

الْقُوقُ أَيْضاً وَالْقُنْفُذُ يَأْوِيَانِ إِلَى تِيجَانِ عُمُدِهَا.

صَوْتٌ يَنْعِبُ فِي الْكُوى.

خَرَابٌ عَلَى الأَعْتَابِ.

لأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّى أَرْزِيُّهَا. [14]

تتحول أشور من إمبراطورية عظيمة ترهبها كل دول العالم إلى براري متسعة يوجد بها كل أنواع الحيوانات، أي الحيوانات المستأنسة كالغنم، والوحوش المفترسة. فتكون مراعٍ بلا قانون يضبطها، ولا أسوار تحمي القطعان. يصير دستورها الافتراس والموت! أما عن الطيور فلا يوجد فيها سوى ما كان يحسبه الشرقيون طيورًا كئيبة، أصواتها تبعث الانقباض والحزن والكآبة مثل القوق. طيورها لا تعرف الأغاني المبهجة بل النحيب في الكوى.

إذ يحل الخراب والدمار تصير نوافذ القصور مفتوحة فتقف عليها الطيور تندبها وترثيها. وبعوامل الطبيعة تنكشف أسقف القصور المصنوعة بخشب الأرز كقطع فنية رائعة، فتفقد هذه القطع جمالها، وتصير مأوى للطيور والحشرات. تصير عارية إذ يُنزع عنها ثوب جمالها البهي.

إن كانت نينوى، رمز القلب الشرير المصمم على عدم الرجوع إلى الرب، قد صارت مسكنًا للقوق الذي لا يكف عن النحيب والصراخ، فإن أورشليم الروحية، رمز القلب المقدس، مسكن لليمامة المتهللة على الدوام. "صوت اليمامة قد سُمع في أرضنا" (نش 2: 12). وكأن نصيب الشرير الكآبة المملوءة يأسًا، بينما نصيب الصديق التهليل المملوء رجاءً. فقلب الشرير يحمل عربون جهنم، وقلب الصديق يحمل عربون الملكوت الأبدي السماوي المُفرح.

أشور التي سبت إسرائيل، عُرفت بعنفها الشديد في التعامل مع الأسرى. إذ كان الملوك يجدون سعادتهم في بتر بعض أعضاء أجسام الأسرى، خاصة من الأغنياء والشرفاء، واستعراضهم في موكب ساخر أمام الشعب، لذا فهي تُشير إلي الإنسان الشرير العنيف المدنس بالرجاسات. هذه الدولة تتحول إلى مربض للحيوانات ولا يسكنها إلاَّ القوق والقنفذ وتصير خرابًا. أما النفس المقدسة فتصير فردوسًا مبهجًا مملوء من أشجار الفضيلة، ويُسمع فيها صوت اليمام.

فيما يلي تعليقات القديس غريغوريوس أسقف نيصص علي ما ورد في سفر نشيد الأناشيد (2: 12).    

v     إن صدى الصوت يجعل الفصل ممتعًا، ويتردد غناء الطيور في بساتين الفاكهة، ويصل صدى صوت اليمامة الشجي إلى آذاننا... جاء من منح الربيع لنفوسنا. فأمر ريح الشر التي أهاجت البحر أن تسكن: "وقال للبحر أسكت أبكم. فسكت الريح وصار هدوء عظيم" (مر 4: 39). فأصبح كل شيء هادئا وابتدأت حياتنا في الازدهار وازدانت بالبراعم والأزهار، وتمثل الأزهار الفضيلة في حياتنا التي تُثمر في مواسمها. لذلك يقول كلمة الله: "لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال. الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان القَضْب وصوت اليمامة سُمع في أرضنا" (نش 2: 11-12)...

يقول العريس: "انظروا فإن المروج مزدهرة بأزهار الفضيلة. هل ترى هذا النقاء في جمال النرجس العبق؟ هل ترى ورد التواضع والبنفسج الذي يمثل رائحة السيد المسيح الزكية؟ لماذا إذن لا تعمل تاجًا من هذه الزهور؟ فهذا هو موسم قَْضب الزهور! وتعمل فرعًا تاجًا لتزين به نفسك؟ قد حلّ موسم التقليم. يشهد بذلك صوت اليمامة، إنه يشبه، "الصوت الصارخ في البرية" (مت 3: 3) فيوحنا المعمدان هو اليمامة. هو الذي تقدم هذا الربيع المنير، الذي أنبت لبني البشر الزهور الرائعة للقضب، وقدمها لكل من رغب في جمعها. إنه هو الذي بيّن لنا "ويخرج قضب من جذع يسىَّ" (إشعياء 11: 1)، "هو حمل الله الذي حمل خطية العالم" (يوحنا 1: 29). وهو الذي أوضح لنا التوبة عن الخطية والحياة حسب الفضيلة. يقول النص: "سُمع صوت اليمامة في أرضنا": وهي تُنادى "يا أرض" هؤلاء الذين أُدينوا لخطيتهم، هؤلاء الذين يُطلِق عليهم الإنجيل العشارين والزناة، الذين سمعوا صوت يوحنا المعمدان بينما البقية لم تقبل تعاليمه[28].

القديس غريغوريوس النيسي

هَذِهِ هِيَ الْمَدِينَةُ الْمُبْتَهِجَةُ السَّاكِنَةُ مُطْمَئِنَّةً الْقَائِلَةُ فِي قَلْبِهَا:

أَنَا وَلَيْسَ غَيْرِي.

كَيْفَ صَارَتْ خَرَاباً، مَرْبِضاً لِلْحَيَوَانِ!

كُلُّ عَابِرٍ بِهَا يَصْفِرُ وَيَهُزُّ يَدَهُ. [15]

كانت نينوى مدينة مبهجة يشتاق الكثيرون أن يتطلعوا إليها، محيطها يبلغ 60 ميلاً، وارتفاع أسوارها حوالي 100 قدمًا، ويمكن لثلاث مركبات متجاورة أن تسير على أسوارها، يرتفع على الأسوار 1500 برج مراقبة. صارت خرابًا حتى صار يصعب على الإنسان أن يعرف موقعها.

في تشامخ كانت نينوى كما بابل فيما بعد وغيرها من البلاد المتشامخة تظن أنها سيدة العالم. يقول الرب في إشعياء: "فالآن اسمعي هذا أيتها المتنعمة الجالسة بالطمأنينة، القائلة في قلبها: أنا وليس غيري، لا أقعد أرملة ولا أعرف الثكل. فيأتي عليك هذا الاثنان بغتة في يوم واحد: الثكل والترمل!" (إش 47: 8-9).

مدينة نينوى تمثل النفس المعتدة بذاتها، والمكتفية بذاتها، لا بالله، فتلهو في العالم، وتظن أنها في سلامٍٍ وأمانٍ، ليس من يقدر أن يقف أمامها.

 


 

من وحي صفنيا 2

لتحطم شري، وتقيم برَّك فيَّ!

v     لتجتمع نفسي مع نفوس كل شعبك.

لنجتمع معًا بروحك القدوس.

يفضح أمام عيني تجاسري وتصلفي.

يحرق كل شر في داخلي وفي سلوكي،

ويهبني برّك ساترًا لأعماقي.

v     جعلتني الخطية كالعصافة في مهب الرياح.

لا أستطيع أن أقف أمام غضبك.

من يتبرر أمامك يا أيها القدوس؟

روحك الناري يجدد طبيعتي،

يحولني من عصافة إلى حنطة مقدسة!

v     إليك أهرب يا أيها المخلص،

تنزع بؤسي، وتهبني رحمتك.

عوض تشامخي تهبني وداعتك وتواضعك.

أنت هو حصني، فيك أختفي، فتستر على ضعفي.

v     انزع من داخلي كل أثر للوثنية.

حطم كل تمثالٍ أقمتة في غباوتي لنفسي.

ولتحتل أنت كل قلبي وكياني.

بدونك تصير نفسي متروكة، مهجورة، وخربة.

بدونك تستأصل كل حياة فيَّ.

لتدخل في أعماقي، وتقيم ملكوتك السماوي.

فلا أعود أصير قفرًا، مرعى للغنم.

يُسمع في داخلي صوت اليمامة، تترنم وتسبح اسمك.

ولا يكون للقوق وغيرها من الطيور الصارخة موضع في داخلي.

لا يسمع صوت نحيب، بل تهليل وفرح.

v     لتتجلَ في داخلي ببهاء مجدك.

فيهرب من داخلي كل كبرياء وتجبر.

لا أدين أحدًا، بل أدين نفسي.

ولا أشمت فيمن هم تحت التأديب،

فأنا مستحق لكل عقوبة حتى الموت!

v     بعبورك إلى أعماقي تفتح بصيرتي،

أراك مخلص العالم كله.

أرى كل الشعوب والأمم رذلت كل وثنٍ،

والتفت حولك كموكبٍ منتصرٍ.

صارت لك الأمم النجسة العروس المقدسة.

صارت الشعوب المعادية لك موضوع سرورك.

سماواتك تفرح وتتهلل بالبشرية المقدسة فيك.

<<

 

 

 


 

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ

أورشليم المتهللة

إذ تصمم أورشليم على مسلكها الشرير يدعوها: "المتمردة المنجسة، المدينة الجائرة". إنها لم تسمع لصوت الرب، ولم تقبل التأديب، ولا اقتربت إلى إلهها. تحولت القيادات فيها إلى فئات مدمرة عوض العمل لحساب ملكوت الله. لذلك تسقط مع بقية الأمم تحت السخط، ليقيم أورشليم جديدة متهللة، تضم الشعوب معًا كنيسة متعبدة بشفاه نقية، يسكن الرب في وسطها.

1. المدينة الجائرة                    [1-7].

2. سقوط الكل تحت السخط           [8].

3. قيام أورشليم المتعبدة             [9-10].

4. أورشليم المتواضعة               [11-12].

5. أورشليم الصادقة                 [13].

6. أورشليم المتهللة                 [14].

7. أورشليم مسكن الرب             [15-17].

8. أورشليم المتمتعة بالخلاص       [18-19].

9. أورشليم المجيدة                  [20].

1. المدينة الجائرة:

وَيْلٌ لِلْمُتَمَرِّدَةِ، الْمُنَجَّسَةِ، الْمَدِينَةِ الْجَائِرَةِ. [1]

يصف أورشليم بسمات مشينة للغاية، فيدعوها متمردة ونجسة وجائرة. فمن الخارج هي مدينة الله التي كان يليق بها أن تكون وكالة الله، لكن بسلوكها متمردة عليه، فتصير أشر من المدن الوثنية. وهي مركز العبادة، حيث فيها الهيكل المقدس، لكن في حياتها نجسة. هذه السمة في العبرية Moreah وهي تقترب من كلمة المريا Mariah، اسم التل الذي بُني عليه الهيكل. فعوض المريا صارت Moreah أي نجسة لا موضع لقدلسة الله فيها. وأخيرًا فهي جائرة لا تشهد لمراحم الله وترفقه بالفئات المحتاجة إلى عونٍ. بمعنى آخر اختارها مدينته فعوض الطاعة له صارت متمردة، وفيها أقام هيكله حيث العبادة، لكن عوض القداسة صارت نجسة. وقدم لها وصية الحب والرحمة نحو القريب، لكنها صارت جائرة لا تسمع للوصية الإلهية. يوصي الرب ملك يهوذا وسكان أورشليم قائلاً: "أجروا حقًا وعدلاً، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا، ولا تظلموا، ولا تسفكوا دمًا زكيًا في هذا الموضع" (إر 22: 3).

ثلاث سمات خطيرة تفقد الشعب كما الشخص شركته مع الله القدوس واهب الحياة والقداسة والحب. هذه السمات هي : التمرد أو عدم الطاعة، والنجاسة أو عدم القداسة، وأخيرًا الجور أو الظلم وعدم المحبة. هده السمات الثلاث تمس حياة الإنسان الداخلية وعلاقته بالله وعلاقته بأخيه. فالتمرد هو عدم طاعة لله وعدم حفظ لوصيته. والقداسة تمس بالأكثر أعماقه الداخلية. والجور يمس بالأكثر علاقته بإخوته. هذا وإن كان كل سمة لها انعكاساتها على هذه المجالات الثلاثة، إذ لا فصل بين الطاعة لله وتقديس الإنسان وحبه للقريب.

أ. التمرد أو عدم الطاعة: يرى القديس أغسطينوس في شرح لقول المرتل: "من وصاياك أتفطن، لذلك أبغضت كل طريق الشر " (مز 119: 104) ربطا بين هذه السمات الثلاثة. فهو يرى في طاعة وصايا الله تمتعًا بغنى معرفة الحكمة، وبهذا الغنى يشمئز من كل طرق الشر، ويحب البرّ ويبعض الظلم.

v     بالطاعة لوصايا الله يبلغ (المرتل) فهم الأمور التي يشتاق أن يعرفها... هذه هي كلمات أعضاء المسيح الروحية: "بوصاياك أنال فهمًا"... فالذين يحفظون الوصايا ينالون غنى أعظم في معرفة الحكمة... وبحب البرّ يبغض كل ظلمٍ... تُعطى الحكمة العلوية لمن يطيع الله، وينال فهمًا من وصاياه[29].

القديس أغسطينوس

v     ليس ما يسر الله مثل الطاعة[30].

القديس جيروم

ب. أما عن القداسة فقيل:

v     "اللهم في القداسة طريقك" (مز 77: 13). فإن كنت غير مقدس، فطريق الله ليس فيك. ما هو طريق الله؟ "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). إنه المخلص القائل بهذا. إذن الطريق هو ابن الله. طريق الله هو الإنسان المقدس وحده. إن أردنا أن يسكن المسيح فينا، فلنكن قديسين، لأن طريق الله هو القداسة[31].

v     إنسان القداسة لا يحتاج أن يخشى تلك النار "قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه حوله" (مز 97: 3) ليخشها الخاطي. فالنار تطهر القديسين، وتحرق الخطاة "قدامه تذهب نار". "الصانع ملائكته أرواحًا، وخدامه نارًا ملتهبة" (مز 104: 4)[32].

القديس جيروم

ج. بخصوص الظلم قيل:

v     كما أنه لا يمكن أن يوجد توافق بين المسيح وبليعال، وبين البّر والجور (2 كو 6: 14-15)، هكذا يستحيل لنفسٍ واحدةٍ أن تحب الصلاح والشر. يا من تحبون الرب لتبغضوا الشرير، الشيطان ؛ في كل عمل يوجد حب لواحدٍ وبغض للآخر[33].

v     الإنسان المتكبر، يقتني في كبريائه مصدر كل الشرور الأخرى، ولا يقدم ندامة، إذ يظن أنه موضع استحسان الله. الكبرياء ضد الله، إذ لا يخضع له، حيث يحسب المتكبر أنه بار. إنه لا يتوب عن شروره، إنما يتفاخر برياءٍ بأعماله الصالحة[34].

القديس جيروم

لَمْ تَسْمَعِ الصَّوْتَ. لَمْ تَقْبَلِ التَّأْدِيبَ.

لَمْ تَتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ. لَمْ تَتَقَرَّبْ إِلَى إِلَهِهَا. [2]

هنا يكشف عن مرض أورشليم المستعصي، وهو رفضها للإصلاح، وعدم ثقتها في الطبيب السماوي، وهروبها منه. يحمل مرضها ثلاث سمات خطيرة:

أ. رفضها لصوت طبيبها السماوي، وعدم رغبتها في الإصلاح.

ب. عدم اتكالها عليه، كمن يعجز عن أن يداويها ويشبع احتياجاتها.

ج. عدم اقترابها إليه، كأنها تطلب أن يرحل عنها، ولا يسكن في داخلها. يقول موسى النبي: "لأنه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه" (تث 4: 7). إنه يود أن ينسب نفسه إليها، فيُدعى إلهها لكنها تبتعد وتتغرب عنه.

v     كانت (أورشليم) هكذا من أجل رفضها إلى النهاية الاستماع لكلمة النبي المرسلة إليها، وعدم قبولها بأية وسيلة التعليم من المصدر. وإن بدت تتعهد بالتغيير إلى حين، لكنها عادت مرة أخرى إلى سماتها الشريرة. على أي الأحوال لم تبالِ بإرسال الله النبي لها، ولم تتخذ قرارًا أن تصغي إليه مؤخرًا، محتقرة مثل هذه الخبرة الرائعة. على العكس لقد نسيته تمامًا، وأعلنت الحرب ضده، مهاجمة أورشليم بعد إبادة العشرة أسباط، المدينة التي بها كان يوجد هيكل الله[35].

ثيؤدور أسقف المصيصة

العجيب أن الطبيب السماوي نزل إلينا واقترب منا، لكننا نحن نرفض الاقتراب منه. لذا لاق بنا أن نصرخ مع المرتل قائلين: "إليك يا رب أرفع نفسي. يا إلهي عليك توكلت" (مز 25: 1-2).

v     "إليك يا رب أرفع نفسي"؛ بالشوق الروحي أرفع نفسي التي انحطت على الأرض باشتياقات، جسدانية. "يا إلهي عليك توكلت، فلا أخزى" (مز 25: 2). إلهي باتكالي علي ذاتي بلغت إلى ضعف الجسد هذا. أنا الذي بهجري لله اشتقت أن أكون مثل الله، أخشى الموت من أصغر الحشرات. الآن في سخرية أخزى من كبريائي "عليك توكلت فلا أخزى"[36].

القديس أغسطينوس

v     "طوبى للرجل الذي تعلمه يا رب" (مز 94: 12). طوبى للرجل الذي يقبل الله معلًما له... طوبى للرجل الذي تدربه يا رب وتعلمه في شريعتك، في أسفارك المقدسة... فإنها تعطيه راحة في أيام الشدة، وتحفر حفرة للخاطي (الشرير)[37].

القديس جيروم

يقدم لنا النبي مفهومًا رائعًا للتدين، ألاَّ وهو التقرب إلى الله، فإنه يريدنا أن نلتصق به.

v     "الرب قد ملك، لبس الجلال" (مز 93: 1). الرب هو ملك، لبس جلال الآباء (البطاركة) والأنبياء والشعب المؤمن. إنه يلبس الجلال؛ وكأن البطاركة (إبراهيم واسحق ويعقوب) والأنبياء هم ثوب المسيح. إنهم المنطقة التي أشير إليها في إرميا. أتريدون أن تعرفوا أن القديسين يشبهون منطقة الله وثوبه؟ يقول الله نفسه: "لأنه كما تلتصق المنطقة بحقوي الإنسان هكذا ألصقت نفسي بشعبي" (راجع إر 13: 11). شعب الله ملتصقون به، كالتصاق ثوب الإنسان بجسمه. ولكن لأن هذه المنطقة، أو هذا المجد الذي يلتحف به الرب، قد طرح على الجانب الآخر من الفرات، واُلقي في شق بالصخرة فقد فسد (إر 13: 4-12)... الرب ليس عاريًا، فإنه لا يستطيع أن يبقى بلا منطقة، لا يمكن أن يكون بلا غطاء. فإذ فقد الشعب الأول صنع لنفسه ثوبًا من الأمم[38].

القديس جيروم

رُؤَسَاؤُهَا فِي وَسَطِهَا أُسُودٌ زَائِرَةٌ.

قُضَاتُهَا ذِئَابُ مَسَاءٍ لاَ يُبْقُونَ شَيْئاً إِلَى الصَّبَاحِ. [3]

قادتها أمثلة خطيرة في الشر والظلم والافتراس؛ هؤلاء كان يلزم أن يكونوا أطباء لها، يعالجون أمراضها، إذا بهم كأسودٍ زائرةٍ في وسطها وكذئاب مساءً يفترسون بالليل، ولا يتركون أثرًا للفريسة في الصباح. إنهم يفتكرون بكل من هم حولهم، غير مبالين بالشريعة الموسوية أو الناموس الطبيعي.

أما القضاء فمن أجل مجاملتهم للرؤساء المتشبهين بالأسود يسلكون في الظلمة كذئاب تظهر في المساء لكي تفترس وتأكل. يأكلون اللحم والعظم حتى لا يبقون من الفريسة شيئًا إلى الصباح.

أَنْبِيَاؤُهَا مُتَفَاخِرُونَ، َهْلُ غُدْرَاتٍ.

كَهَنَتُهَا نَجَّسُوا الْقُدْسَ. خَالَفُوا الشَّرِيعَةَ. [4]

لم يعد الأنبياء يقدمون مشيئة الله ويعلنون عن وصيته، إنما من أجل الكرامة الزمنية والملذات والمكاسب المادية يخدعون النفوس بالكلمات الناعمة الكاذبة ومحاباة الوجوه. لم يعودوا رسل السماء وسفارة الله، بل صاروا كعدو الخير الضال والمخادع، ليس للحق موضع فيهم، صاروا خائنين وغادرين، ليس من يثق بهم. وكما يقول الرب على لسان إرميا: "هأنذا على الأنبياء يقول الرب الذين يأخذون لسانهم ويقولون: قال. هأنذا على الذين يتنبأون بأحلامٍ كاذبة يقول الرب، الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم، فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب" (إر 23: 32).

هكذا ضل الأنبياء الكذبة، وضللوا الشعب، فنطقوا بما هو من عندهم ونسبوه لله. أما الكهنة فعوض الخدمة في الهيكل لأجل تقديس الشعب، صاروا هم أنفسهم علة نجاسة للقدس أو للهيكل. وعوض التعليم بالشريعة والوصية الإلهية، ليرجع الشعب إلى الله بالتوبة والطاعة، صاروا هم أنفسهم مخالفين للشريعة. خان الكهنة العهد الإلهي وأفسدوا العبادة وشكلوا الكلمة الإلهية حسب أهوائهم لخدمة أنفسهم ومداهنة العظماء والأغنياء.

اَلرَّبُّ عَادِلٌ فِي وَسَطِهَا لاَ يَفْعَلُ ظُلْماً.

غَدَاةً غَدَاةً يُبْرِزُ حُكْمَهُ إِلَى النُّورِ. لاَ يَتَعَذَّرُ.

أَمَّا الظَّالِمُ فَلاَ يَعْرِفُ الْخِزْيَ. [5]

لقد ظن اليهود أن سرّ تقديسهم ونجاحهم ونصرتهم على الأمم وجود أورشليم مدينة الله وقيام العبادة في هيكل سليمان. حقًا الله حاضر، لكن لا يظلل عليهم بجناحي حنوه ورحمته، بل لينظر ويحقق عدله الإلهي مؤدبًا شعبه على ما حلّ به من فساد دون رغبة في الرجوع إليه والتوبة عن الفساد،

كأنه يقول: أنتم تفتخرون بأن الله في وسطكم. فليكن، فإنه عادل، فلماذا لا تكونون أنتم عادلين مثله؛ إنه نور، فلماذا تمارسون أعمال الظلمة، وتفعلون الشر كما في الخفاء، كأن الله لا يراكم ولا يسمع كلماتكم ولا يدرك أفكاركم؟

وجود الله القدوس في وسطكم لا يبرركم، بل بالعكس يُدينكم على فسادكم. "لأن الرب إلهك سائر في وسط محلتك لكي ينقذك ويدفع أعداءك أمامك، فلتكن محلتك مقدسة لئلا يري فيك قذر شيء فيرجع عنك" (تث 23: 14). "قل لهم: تكونون قديسين، لأني قدوس الرب إلهكم" (لا 19: 2). "يتكلون على الرب قائلين: أليس الرب في وسطنا؟ لا يأتي علينا شر" (مي 3: 11).

"غداة (صباحًا) غداة يبرز حكمه إلى النور"؛ فإن كان الله في طول أناته لم يؤدب بعد، لكن مع كل صباح جديد فليترقبوا حكم الله في النور، أي علانية، حيث يؤدب وليس من يقدر أن يبرر نفسه أو يقاوم التأديب ويهرب منه. إنه لا يتعذر عليه تحقيق أحكامه.

النفوس التائبة تقول مع إرميا النبي: "مراحمه لا تزول؛ جديدة في كل صباح" (مراثي 3: 22-23)، أما المعاندون فيلزمهم أن يترقبوا التأديب الإلهي في كل صباح. إن كان الله يهدد الخطاة المتهاونين والمستهترين بأن يوم التأديب قادم سريعًا، فانه لا يود حزن البشر ومرارتهم، إنما وهو يهدد إنما ليفتح الباب ليتمتعوا بمراحمه الفائقة خلال توبتهم.

v      يمطر على الأشرار فخاخًا" (مز 11: 6). بدون أي شكٍ فإن الرب هو الذي يعد فخاخًا للخطاة أنفسهم لكي يصطاد الذين أساءوا استخدام حريتهم، ولكي يدفعهم إلى السلوك في الطريق المستقيم تحت لجامه، فيجعل في قدرتهم أن يتقدموا بذاك القائل: "أنا هو الطريق" (يو 14: 6). لذلك ففي إرميا (16: 16) يرسل الرب صيادي سمك وصيادي وحوش لينصبوا شباكهم من أجل السمك المفقود وسط الدوامات، ويصطادوا الوحوش الجائلة على الجبال والتلال لنتمتع بالخلاص... فهذه العبارة وما بعدها لا تعد باتوبة للخطاة كما يعتقد كثيرون، بل بالحري تقدم وعدًا بالشفاء[39].

القديس جيروم

قَطَعْتُ أُمَمًا.

خَرَّبْتُ شُرُفَاتِهِمْ.

أَقْفَرْتُ أَسْوَاقَهُمْ بِلاَ عَابِرٍ.

دُمِّرَتْ مُدُنُهُمْ بِلاَ إِنْسَانٍ، بِغَيْرِ سَاكِنٍ. [6]

كان يليق بشعب الله أن يتعظ بتأديبات الله للأمم الوثنية المحيطة بهم، فإنه أطال أناته عليهم، لكن في الزمن المحدد سقطوا تحت أحكامه الحازمة جدًا حتى زالت ممالك، وضربت قصور ملوكها، ودمرت مدنها العظيمة، وتحولت إلى قفر بلا ساكن.

ولعله يقصد هنا أمم كنعان السبع المذكورة في لاويين (18: 28)، أو الأمم المحيطة بهم، وقد سمح الله بخرابهم حتى تتعظ أورشليم ويرجع يهوذا إلى الرب بالتوبة.

يرى القديس جيروم وكثير من الآباء أن الأمم التي يقطعها الرب تُشير إلى الهراطقة الذين ينادون بالتعاليم الخاطئة، لكن سرعان ما يُقطعون.

v     "إلهي، اجعلهم مثل عَجَلةْ" (مز 83: 13) فلا يكون فيهم استقرار، بل يكونون دومًا غير مستقرين ليس لهم وضع ثابت، بل دومًا يكونون متحركين يتدحرجون (كالعجلة) إلى خلف وقدام. فكما أن العجلة ليست ثابتة في ذاتها هكذا الهراطقة لا يستقرون بثباتٍ في تعاليمهم وآرائهم، إنما دومًا يغيرونها[40].

v     إنهم لا يبحثون عن المعرفة لأجل الخلاص، وإنما يبحثون عن تعليمٍ جديدٍ ليتغلبوا على الخصم. ليسقطوا بآرائهم المتضاربة الكثيرة، وليكن لهم ملجأ واحد، هو أنت يا الهي![41]

 القديس جيروم

فَقُلْتُ: إِنَّكِ لِتَخْشَيْنَنِي.

تَقْبَلِينَ التَّأْدِيبَ. فَلاَ يَنْقَطِعُ مَسْكَنُهَا حَسَبَ كُلِّ مَا عَيَّنْتُهُ عَلَيْهَا.

لَكِنْ بَكَّرُوا وَأَفْسَدُوا جَمِيعَ أَعْمَالِهَا. [7]

يتحدث الله معنا بلغتنا، حيث قدم لشعبه مثلاً بالأمم المحيطة كان يتوقع منهم أن يحملوا مخافته ويقبلوا تأديبه ويرجعوا إليه، فلا يحل الخراب الذي تكلم به عليهم. فمع تهديدهم بالخراب يود ألاَّ يسقطوا فيه، بل يخلصوا منه. هدد بالأنبياء أنه سيقطع عنهم المسكن أو يزيله من أورشليم، لكنه بتهديده يود ألاَّ يزيله متى رجعوا إليه.

بقوله "مسكنها" ينسب الهيكل إلى أورشليم أو إلى الشعب لا إلى نفسه، فلم يقل "مسكني". هذا هو أسلوب الله في تعامله مع شعبه. فإن تقدسوا يحسبهم شعبه ويدعو أعيادهم أعياده، وسبوتهم سبوته، وهيكلهم هيكله، وإن لم يتقدسوا لا يحسبهم شعبه ولا أعياده ولا سبوته ولا مدينته ولا هيكله.

ما يحزن قلبه أنه وهو يتوقع امتثالهم بما حدث بجيرانهم فيتوبون ويرجعون إليه، إذا بهم في عنادٍ يبكرون لكي يغيظوا الله بإفسادهم كل أعمالهم. اجتهدوا بالأكثر في البحث عن توقيتٍ مبكرٍ ليمارسوا كل دنسٍ ونجاسةٍ.

العجيب في الإنسان، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، يريد أن يكون الله طويل الأناة معه، ومنتقمًا مع مقاوميه. فقد كان الشعب اليهودي يطلب النقمة من الشعوب الوثنية المقاومة لهم، وفى نفس الوقت يرتكبون هم ذات شرور الأمم ويسقطون في عبادة الأصنام ورجاسة الأمم، وهم يترقبون طول أناة الله عليهم.

v    

7.       Homily 95 On Obedience.

8.       On Ps 25 (24).

9.       On Ps 11 (10).

10.   Homily 62 on Ps 83 (82).

 
"حتى متى الخطاة يا رب، حتى متى الخطاة يفتخرون؟" (مز 94: 3) في عدم طول الأناة لا تريد البشرية أن يكون الله طويل الأناة مع الغير. كمخلوقات بالحق نود أن نكون موضع شفقة، فنطلب من الله طول الأناة علينا، وألاَّ يكون طويل الأناة على أعدائنا. عندما نخطئ نتوسل إلى الله أن يطيل أناته علينا، ولكن عدما يخطئ أحد ضدنا لماذا لا نتوقع طول أناة الله عليه؟[42] 

القديس جيروم

v     أنكم تتذمرون لأن الأشرار لا يُعاقبون (الآن)؛ لا تتذمروا لئلا تُعاقبوا معهم. هذا الإنسان ارتكب سرقة ويحيا؛ أنتم تتذمرون على الله لأن الذي ارتكب سرقة منكم لم يمت... فإن كنتم تودون إصلاح يد الغير (فلا تسرق) فلتصلحوا أنتم ألسنتكم. تريدون إصلاح القلب من جهة إنسان (فلا يسرقك)، فلتصلحوا أنتم قلوبكم من نحو الله، لئلا وأنتم تشتهون نقمة الله، فإنها إذ تحلّ تجدكم أنتم في البداية. فإنه سيأتي، سيأتي ويدين الذين هم مستمرون في شرهم، الجاحدين طول أناته وامتداد رحمته، فتكنزون لأنفسكم الغضب يوم الغضب[43].

القديس أغسطينوس

2. سقوط الكل تحت السخط:

لِذَلِكَ فَانْتَظِرُونِي يَقُولُ الرَّبُّ.

إِلَى يَوْمِي أَقُومُ إِلَى السَّلْبِ،

لأَنَّ حُكْمِي هُوَ بِجَمْعِ الأُمَمِ وَحَشْرِ الْمَمَالِكِ،

لأَصُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطِي، كُلَّ حُمُوِّ غَضَبِي.

لأَنَّهُ بِنَارِ غَيْرَتِي تُؤْكَلُ كُلُّ الأَرْضِ. [8]

كأن الله يتطلع إلى القلة القليلة المقدسة من شعبه ليحدثهم عن خطته حتى في لحظات غضبه. يسألهم أن يتطلعوا إلى أزمنة المجد القادمة. فإنه بعد أن يحل يوم العقوبة أو التأديب على كل الأمم، تأكل غيرته كل الأرض، ليقيم مملكته السماوية. ففي غيرته لا يطلب دمار الناس، بل دمار ما هو أرضي فيهم، ليصيروا هيكلاً مقدسًا له، يحمل سمات سماوية مقدسة.

"أقوم إلى السلب": بعد التأديب الحازم يحمل الرب غنائم النصرة حين ترجع الأمم وتؤمن به، فتصير غنائمه المفرحة.

3. قيام أورشليم المتعبدة:

لأَنِّي حِينَئِذٍ أُحَوِّلُ الشُّعُوبَ إِلَى شَفَةٍ نَقِيَّةٍ،

لِيَدْعُوا كُلُّهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، لِيَعْبُدُوهُ بِكَتِفٍ وَاحِدَةٍ. [9]

إذ ينزع عن الأمم ما هو أرضي ليهبهم مما عنده ما هو سماوي، فإنه ينزع عنهم ما حلّ بالبشرية أيام نوح حين بلبل ألسنتهم لكي لا يقيموا لأنفسهم برجًا رأسه في السماء. الآن يجعل كل الأمم تقدم ذبيحة الصلاة والتسبيح بشفةٍ (بلغةٍ) نقية. ما هي هذه اللغة النقية إلاَّ لغة الروح؟ في المسيح يسوع تجتمع الكنيسة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، تتعبد له بروح سماوي مقدس، بفكرٍ واحدٍ وقلبٍ واحدٍ. هذا ما أعلنه الله خلال الأنبياء بخصوص كنيسة العهد الجديد، نذكر على سبيل المثال: "في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان" (إش 19: 18). "ويكون الرب ملكًا على كل الأرض؛ في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده" (زك 14: 9).

إذ يصير للكل فكر واحد عمل الكل معًا حاملين نيره الهين أو الحلو كما بكتفٍ واحدةٍ؛ فيشترك الكل في عمل صليبه الواحد يفرحٍ وبهجة قلبٍ!

v     إذ نفذ صبر اليهود لم يعودوا بعد يحتملون (تسابيح الأطفال للسيد المسيح)، فحاولوا أن يسكتوا هؤلاء الأطفال الذين أشار إليهم الرب في إشعياء: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب" (إش 8: 18). حيث أن الكبار وشيوخ اليهود صمتوا، وأيضًا الفريسيين وهم يجزون على أسنانهم في حسدٍٍ مملوء حقدًا، صرخ الأطفال ومجدوا المسيح. فإنهم إن صمتوا، فالحجارة ذاتها تصرخ، أي الأمم الذين كتب عنهم في الإنجيل: "الرب قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم" (راجع مت 3: 9). تُشير هده الحجارة إلينا نحن الذين في وقت ما كنا قساة القلوب، والآن نومن بالمسيح يسوع، وتمتعنا بالبنوة بين أبناء إبراهيم، وصرنا أبناء الله القدير، الذي له المجد إلى الأبد الأبد، آمين[44].

القديس جيروم

v     حيث أن هذا النص (إش 11: 6) لا يُشير حرفيًا إلى حيوانات مفترسة، فليقل اليهود عندما يتحقق هذا بالفعل. فإن الذئب لا يرعى مطلقًا مع حملٍ. فإن كان هذا يحدث أنهما يرعيان معًا، فبماذا ينفع هذا الجنس البشري؟ فالنص لا يُشير إلى وحوشٍ مفترسٍة بل إلى شعبٍ مفترسٍ. إنه يُشير إلى السكيثيين وأهل تراسيا وأهل موريتانيا، والهنود والسامريين والفارسيين. لقد أظهر نبي آخر هذا بوضوح أن كل هذه الأمم سوف تأتي معًا تحت نيرٍ واحدٍ، وكل واحد يسجد له في مكانه (صف 3: 9؛ 2: 11). يقول أنه لا يعود الشعب يتعبد له في أورشليم، بل في كل موضع في العالم. لا يعود يؤمر الشعب بأن يذهب إلى أورشليم، بل يبقى كل واحدٍ في بيته ويقدم هذا العبادة[45].

القدَّيس يوحنا الذهبي الفم

مِنْ عَبْرِ أَنْهَارِ كُوشٍ الْمُتَضَرِّعُونَ إِلَيَّ،

مُتَبَدِّدِيَّ يُقَدِّمُونَ تَقْدِمَتِي. [10]

يُشير هنا إلى مجموعة من اليهود تشتتوا فذهبوا إلى كوش، لذا يدعوهم "متبددي" وهم يتضرعون إلى الله منتظرين الرجوع والإصلاح، هؤلاء إذ يقبلون الإيمان بالسيد المسيح يقدمون تقدمه الرب الروحية (رو 12: 1) خارج أرض إسرائيل، بكونهم كنيسة العهد الجديد. 

يرى العلامة أوريجينوس أنه إذ يتطلع إنسان ما إلى إسرائيل أنه سيخلص بقبولهم الإيمان بعدما يدخل ملء الأمم الإيمان (رو 11: 25)، فإنه يجتمع الأمم مع إسرائيل ليعبدوا الله كما تحت نيرٍ واحدٍ بكتفٍ واحدةٍ (صف 3: 9). ومن أقاصي إثيوبيا (كوش) يقدمون له ذبائح (صف 3: 10)، وكما جاء في المزامير: "تبسط إثيوبيا يدها لله، وإلى ملوك الأرض" (راجع مز 68: 31-32)[46].

كثيرًا ما تحدث القديس جيروم عن شعب الله المقدس بكوننه ثوب الجلال الذي يلتصق به الرب. يرى أن الرب قد لبس الجلال (شعبه المتمتع بجلال نعمته)، (مز 97: 1)، وإذ فقد الشعب الأول لم يبقَ الرب عاريًا بل صنع لنفسه ثوبًا من الأمم.

v     يقول: "الرب قد ملك، فلتبتهج الأرض، ولتفرح الجزائر الكثيرة" (مز 97: 1). لا تفرح جزيرة واحدة، أي اليهودية، بل جزائر كثيرة، أي العالم كله![47]

v     كل غايته في الصعود علي الصليب أن يرفعنا من الأرض. أظن أن صليب المخلص هو السلم الذي رآه يعقوب. على ذاك السلم تنزل الملائكة وتصعد. وعلى ذاك السلم الذي هو الصليب، كان اليهود ينزلون والأمم يصعدون[48].

القديس جيروم

4. أورشليم المتواضعة:

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لاَ تَخْزِينَ مِنْ كُلِّ أَعْمَالِكِ الَّتِي تَعَدَّيْتِ بِهَا عَلَيَّ.

لأَنِّي حِينَئِذٍ أَنْزِعُ مِنْ وَسَطِكِ مُبْتَهِجِي كِبْرِيَائِكِ،

وَلَنْ تَعُودِي بَعْدُ إِلَى التَّكَبُّرِ فِي جَبَلِ قُدْسِي. [11]

إذ يعلن عن الإصلاح الجذري بإقامة أورشليم الجديدة، وظهور كنيسة العهد الجديد، فإنها لا تعود تخزى بعملٍ شريرٍ، إذ ينزع المتكبرين الذين يفتخرون بالبركات التي كانت لشعب إسرائيل بطريقةٍ حرفيةٍ شكليةٍ قاتلةٍ. زال عن إسرائيل ما كانوا يظنون أنه سرّ جمالهم من اعتزازهم بهيكل سليمان وأورشليم كمدينة الله الخ، وقُدم للمؤمنين الجمال الداخلي حيث وهبهم روحه القدوس.

هذه القلة المقدسة تتسم بروح التواضع ولا تقبل الكبرياء.

v     ماذا إذن؟ هل هلك جميعهم، ونُزعوا من أصل داود ومن سبط يهوذا؟ لا، فإن بعضًا من هذا الجذر آمنوا، وفي الواقع عدة آلاف من الرجال من هذا الأصل آمنوا، وذلك بعد قيامة الرب. لقد هاجوا وصلبوه، وبعد ذلك بدأوا يرون معجزات تتم باسم المصلوب. ارتعبوا إذ رأوا قوة عظيمة تتم هكذا باسمه، هذا الذي كان بين أيديهم يبدو كمن هو عاجز عن فعلها. فنُخسوا في قلوبهم وأخيرًا آمنوا بأن اللاهوت كان مخفيًا فيه، هذا الذي ظنوا أنه كسائر البشر. لقد طلبوا مشورة الرسل، فأجابوهم: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم علي اسم يسوع المسيح" (أع 2: 38). لقد قام المسيح ليدين الذين صلبوه، فحول حضرته من اليهود إلي الأمم؛ وقد بدا الله كمن يعمل لصالح بقية إسرائيل. وقد قيل له من أجلهم: "من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك" (مز 132: 10). إن كان القش يُدان، فلتُجمع الحنطة معًا. لتخلص البقية كما يقول إشعياء: "تخلص البقية" (راجع إش 10: 21). فمنهم جاء الاثنا عشر رسولاً، ومنهم الخمسمائة أخ الذين أظهر الرب نفسه لهم بعد قيامته (1 كو 15: 6)، ومنهم اعتمد عدة آلاف (أع 2: 41)، الذين وضعوا ثمن ممتلكاتهم عند أقدام الرسل. بهذا تحققت الصلاة التي قدمت هنا لله: "من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك" (مز 132: 10)[49].

القديس أغسطينوس

وَأُبْقِي فِي وَسَطِكِ شَعْباً بَائِساً وَمِسْكِيناً،

فَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ. [12]

يرى القديس أغسطينوس هنا نبوة عن إسرائيل الذين صاروا كرمل البحر، فإن البقية منهم سوف تخلص بقبولهم الإيمان بالسيد المسيح[50].

إذ يُنزع عنهم الكبرياء ويمارسون التواضع يتكلون على الرب، ويثقون في عمله فيهم. هنا يربط بين التواضع الحقيقي والإيمان الحيّ المملوء ثقة في عمل الله.

v     بعض الذين صلبوا المسيح تحققت فيهم معجزات، حيث خرج منهم من صاروا مؤمنين، وُأعطي لهم دم المسيح. كانت أياديهم أثيمة وحمراء بسفك دم المسيح. أولئك الذين سفكوا دمه، قام هو بغسلهم. الذين اضطهدوا جسده المائت الذي رأوه، صاروا هم أنفسهم جسده، أي الكنيسة. لقد سفكوا فديتهم، حتى يشربوا منها، وبعد ذلك تحولوا إلى الإيمان به[51].

القديس أغسطينوس

5. أورشليم الصادقة:

بَقِيَّةُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَفْعَلُونَ إِثْمًا،

وَلاَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ

وَلاَ يُوجَدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ لِسَانُ غِشٍّ،

لأَنَّهُمْ يَرْعُونَ وَيَرْبُضُونَ وَلاَ مُخِيفَ. [13]

تتسم هذه البقية المقدسة التي تقبل الإيمان بالسيد المسيح بسمات فائقة: التواضع المصحوب بالإيمان العملي [12]، وقداسة السلوك وعدم فعل الإثم، والنطق بالحق وعدم التكلم بالكذب [13]. ليس للغش موضع في قلوبهم ولا في سلوكهم ولا في أفواههم! إنهم مخلصون في أفكارهم وأعمالهم وكلماتهم، صادقون في كل شيءٍ.

6. أورشليم المتهللة:

تَرَنَّمِي يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ. اهْتِفْ يَا إِسْرَائِيلُ.

افْرَحِي وَابْتَهِجِي بِكُلِّ قَلْبِكِ يَا ابْنَةَ أُورُشَلِيمَ. [14]

أما ثمر التواضع المرتبط بالإيمان الحيّ، والقداسة في الفكر والعمل والقول، فهو الفرح الداخلي الحقيقي. ليس للكنيسة عمل سوى الشكر الدائم لله والتسبيح والهتاف والبهجة غير المنقطعة. أنه فرح "بكل القلب"، الذي يحل فيه مصدر الفرح ولا يترك موضعًا فيه لغيره.

v     "رنموا للرب ترنيمة جديدة" (مز 96: 1). يُهدم الإنسان القديم ويُبنى الإنسان الجديد، لذلك تُرنم ترنيمة جديدة. "رنمي للرب يا كل الأرض" (مز 96: 1). الأرض التي تحولت بكل قلبها للرب، تترنم على الدوام بتسابيح الشكر بعذوبة صوتٍ شبابي[52]ٍ.

v     "السماوات تحمد عجائبك يا رب" (مز 5: 89)... إن كان يُقال للخاطي: "أنت تراب وإلى تراب تعود" (تك 19: 3)، فلماذا لا يقال للقديس أو البار: "أنت سماء والى سماء وتعود"؟ فإن القديسين كما الرسل "مواطنتهم في السماء" (راجع في 3: 20). بهذا فإن "السماوات تحمد عجائبك" تتنبأ عن التوبة التي يكرز بها الرسل والتي بها نقبل معرفة ربنا يسوع المسيح. فإن كنا نطيع نصيحتهم ونتبع مثالهم، نحن أيضا ندعي "سماءً" إذ نقتدي بالذين لهم مواطنة هناك... الفردوس هو موطن القديسين![53]

القديس جيروم

v     "افرحوا في الرب أيها الصديقون" (رجع مز 33: 1). افرحوا أيها الصديقون، لا في أنفسكم، فإن هذا ليس فيه أمان، بل افرحوا في الرب. "بالمستقيمين يليق التسبيح" (مز 33: 1). هؤلاء يسبحون الرب، إذ يخضعون له، وإلاَّ فإنهم ينحرفون ويضلون "أحمدوا الرب بالعود" (33: 2). سبحوا الرب، مقدمين له "أجسادكم ذبيحة حية" (رو 12: 1). رنموا له بربابة ذات عشرة أوتار" (مز 33: 2). لتكن أعضاؤكم خادمه لحب الله ولحب قريبكم... "غنوا له أغنية جديدة" (مز 33: 3) ؛ غنوا له أغنيه نعمة الإيمان. "أحسنوا العزف بهتافٍ" (مز 33: 3)، غنوا له بمهارةٍ بفرح[54]ٍ.

القديس أغسطينوس

7. أورشليم مسكن الرب:

قَدْ نَزَعَ الرَّبُّ الأَقْضِيَةَ عَلَيْكِ.

أَزَالَ عَدُوَّكِ.

مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الرَّبُّ فِي وَسَطِكِ.

لاَ تَنْظُرِينَ بَعْدُ شَرّاً. [15]

سرّ فرح الكنيسة أنه نزع عنها الأحكام وشطب قضاياها من القائمة، ولم تعد موضع اتهام، فقد احتل البار القدوس موضعها وقبل حكم الموت عنها، أخذ ما لها وأعطاها ما له بكونه الابن القدوس البار.

العدو إبليس، الذي احتل مركز القيادة على البشرية وصار رئيس هذا العالم، لم يعد له موضع في كنيسة المسيح الحقيقية. لقد أزال الرب العدو، وشهَّر به بالصليب علانية، وملك في وسطها، فصار دستورها برَّه وقداسته، لا يستطيع الشر أن يقتحمها.

v     لتعيشي يا أورشليم في فرحٍ تامٍ، تحيين في سعادة كاملةٍ وفي شبعٍ، فقد نزع الرب كل أعمالك الشريرة، وخلصك من قوة عدوكٍ، هذا الذي كنت خاضعة له تدفعين جزاء العقوبة. الآن الرب في وسطك، يظهر ملكوته برعايته لك،ِ فلا يعود يقدر ذلك الاضطراب أن يقترب إليك[55].

ثيؤدور أسقف المصيصة

v     إذ ننشغل بالمعنى الأعمق للعبارة، فإنها بوضوح تؤمر أورشليم أن تفرح متهللة، وأن تكون على وجه الخصوص سعيدة، وأن تبتهج بكل القلب، إذ تُمحى معاصيها بالمسيح. صهيون الروحية المقدسة – أي الكنيسة، جماعة المؤمنين المقدسة – يتبررون في المسيح، وفيه وحده. به وخلاله يخلصون، إذ يهربون من أذى الأعداء غير المنظورين، إذ لنا الوسيط الذي تجسد وأخذ شكلنا، ملك الجميع، أي كلمة الله الآب. شكرًا له، فإننا لا نعود نرى شرًا بعد، إذ نخلص من قوات الشر. إنه (الكلمة) درع الإرادة الصالحة، والسلام، والحصن واهب عدم الفساد، وسيط الأكاليل، الذي يبطل حرب الأشوريين غير المتجسدين، ويفسد خطط الشياطين[56].

القدِّيس كيرلس السكندري

v     أعرف أن بعض المفسرين يفهمون هذا النص عن العودة من بابل، وتجديد أورشليم، وأنا لا أعارض كلماتهم هذه. فالنص ينطبق أيضًا على ما حدث في ذلك الحين. لكن يمكنكم أن تجدوا محصٍّلة أكثر دقة، خاصة بتجسد مخلصنا. إذ شفى حزانى القلوب بغسل الميلاد الجديد حيث جدد الطبيعة البشرية، معلنًا حبه لنا، إذ سلم نفسه لأجلنا. فإنه "ليس حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبَّائه" (يو 15: 13). وأيضًا "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية"[57].

ثيؤدورت أسقف قورش

v     نحن في حرب ضد الشيطان إلي حين، وعندئذ نحتاج إلي مسكنٍ فيه ننتعش[58].

القديس أغسطينوس

فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُقَالُ لأُورُشَلِيمَ:

لاَ تَخَافِي يَا صِهْيَوْنُ.

لاَ تَرْتَخِ يَدَاكِ. [16]

إذ يسكن الرب وسط شعبه، ويحل في قلب المؤمن، يطلب رفع الأيادي الطاهرة بلا رخاوة، وبلا خوف. فإذ يزول عدو الخير، وتتبدد أعماله، فلا يكون لها موضع في كنيسة المسيح، في دالة ترفع الكنيسة يديها وتطلب بدالة من أجل أولادها كما من أجل كل البشرية.

أما سرّ عدم خوفها فهو ما تمتعت به من حرية مجد أولاد الله، فتتحدث معه كما الابن أو الابنة مع أبيها بلا خوف.

v     "الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟" (مز 27: 1). الرب يصد كل الهجمات ويعطل كل شباك عدوي، فلا أخشى إنسانًا. "عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي" (مز 27: 2) لا. بينما يقترب مني المجرمون ليتعرفوا عليّ ويؤذوني، حتى يتشامخوا علي، أتغير إلى ما هو أفضل. حتى أنهم بأسنانهم المهاجمة لن يفنوني بل يفنون شهواتي الجسدية[59].

القديس أغسطينوس

الرَّبُّ إِلَهُكِ فِي وَسَطِكِ جَبَّارٌ يُخَلِّصُ.

يَبْتَهِجُ بِكِ فَرَحاً.

يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ.

يَبْتَهِجُ بِكِ بِتَرَنُّمٍ. [17]

إذ ترجع البقية إلى الرب، ينسب الرب نفسه إليها معتزًا بها، فيُقال لها "إلهك"، كما يقال: "إله إبراهيم، إله اسحق، إله يعقوب".

إنه في وسط كنيسته الإله القدير، القادر أن يخلص إلى التمام. يدافع عنها ويهبها حياة النصرة. هذا هو موضوع بهجته وفرحه بحبه لها ويتأمل جمالها الروحي كمن يصمت لا في تجاهل لها، بل في محبته العظيمة نحوها. أنه يستريح في محبته لها.

يا للعجب، فإننا نعلم أن الله هو مصدر بهجتنا وتهليلنا وسعادتنا، أما أن نسمع عن الله أنه يبتهج ويُسر بنا ففي هذا نرى عجبًا! حقًا كما يقول ابن سيراخ "لذة الله في بني البشر"، وكما يقول السيد المسيح نفسه "يكون في السماء فرح بخاطى واحد يتوب" (لو 15). إنه الأب الذي يفرح باحتضان أبنائه، وتقديم أمجاد سماوية لهم.

v     بالتأكيد سيخلص، لكنه سيفعل هذا بحسب الطريقة التي وعد بها. ولكن بأية طريقة وعد بها؟ أن نريد الخلاص، وأن نستمع إليه. فإنه لا يقدم وعدًا لألواح خشبية[60].

القديس يوحنا الذهبي الفم

8. أورشليم المتمتعة بالخلاص:

أَجْمَعُ الْمَحْزُونِينَ عَلَى الْمَوْسِمِ.

كَانُوا مِنْكِ. حَامِلِينَ عَلَيْهَا الْعَارَ. [18]

لقد ملك الحزن على قلوب المسببين، فرفضوا الترنم بالقيثارات. وكما يقول المرتل: "على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون؛ على الصفصاف في وسطها علقنا قيثاراتنا. لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحًا قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون. كيف نُرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تُنسى يميني..." (مز 137). أما وقد رد الرب السبي، ودخل بهم إلى أورشليم الروحية، وصارت لهم حرية أولاد الله، صار كل كيانهم قيثارة روحية يعزف عليها روح الله القدوس تسابيح الخلاص والشكر والحمد. لقد زال عارها، وتبدد حزنها، وحملت مجدًا داخليًا وفرحًا سماويًا فائقًا.

هَئَنَذَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُعَامِلُ كُلَّ مُذَلِّلِيكِ،

وَأُخَلِّصُ الظَّالِعَةَ،

وَأَجْمَعُ الْمَنْفِيَّةَ،

وَأَجْعَلُهُمْ تَسْبِيحَةً وَاسْماً فِي كُلِّ أَرْضِ خِزْيِهِمْ، [19]

إذ تتمتع البقية المقدسة بالخلاص من سبي إبليس وعاره لا يقف ضعفها عائقًا في طريق مجدها الحقيقي. فالمخلص الساكن فيها يتعامل مع من سبق فأذلها، نازعًا سلطانه عليها وكاسرًا جبروته وقوته.

إن كان العدو قد جعلها عرجاء، عاجزة عن الحركة، فإن المخلص يتحرك لحسابها، فلا تشعر بعد بالضعف والعجز.

وإن كان العدو قد سباها ونفاها وشتتها بعيدًا عن وطنها، فإن المخلص يجمعها من المنفى، ويدخل بها كما إلى بيتها السماوي.

وإن كان العدو قد شوَّه صورتها وسكب عليها العار والخزي، فإنها تحمل اسم مخلصها في كل الأرض وتصير هي نفسها تسبحه، مصدر فرٍح لكثيرين.  

9. أورشليم المجيدة:

فِي الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ آتِي بِكُمْ،

وَفِي وَقْتِ جَمْعِي إِيَّاكُمْ.

لأَنِّي أُصَيِّرُكُمُ اسْماً وَتَسْبِيحَةً فِي شُعُوبِ الأَرْضِ كُلِّهَا،

حِينَ أَرُدُّ مَسْبِيِّيكُمْ قُدَّامَ أَعْيُنِكُمْ. قَالَ الرَّبُّ. [20]

يختم السفر بالإعلان عن كنيسة العهد الجديد ككنيسة مجيدة، تعكس في داخلها بهاء مجد عريسها السماوي. هذه التي كانت قبلاً موضع سخرية وهزء الآن صار اسمها في شعوب الأرض كلها، مصدر فرح لكل البشرية. الكل في دهشة يتعجب كيف صارت المسبية حرة، والتي في عار صارت في مجدٍ فائقٍ!

v     يتحقق خلاص البشرية بحنو الله وحده. لا نقتنيه كأجرة لبرنا، بل بالحري هو هبة وصلاح إلهي. لهذا يقول الرب: "لأجلكم أخلص وأُحيي"، وأرد الذي صار للغير إليَّ، وأجعله بارزًا، أكثر شهرة من الآخرين، وأحرره من العار السابق ومن سبيه وعبوديته. إني أجعلهم شعبًا حرًا ليّ. الآن، كما قلت، جعل كليهما هبة، للذين رجعوا من بابل في ذلك الحين، وما وهبه لكل الشعب فيما بعد. نحن الذين كنا قبلاً مستعبدين للشيطان، صرنا الآن أحرارًا من تلك العبودية العنيفة، والذين كانوا ساقطين في تعدد الآلهة بلا تعقل صاروا لله؛ صاروا أكثر شهرة من الوثنيين والبرابرة حسب النبوة. ونحن الذين كنا قبلاً بعيدين صرنا قريبين كقول الرسول الإلهي[61].

ثيؤدورت أسقف قورش

إذ يتمتع المؤمن بالخلاص يبتهج به الله كموضع سرورٍ له، وينعكس هذا على كل من يلتقي بهم المؤمن فيصير سٌر فرح لكثيرين، إذ يتلامسون مع السيد المسيح الساكن فيه، ينبوع الفرح. يصير مجرد اسمه تسبحة يتغنى بها الناس.

أينما حلٌ المؤمن الحقيقي يحٌول الموضع كما إلى سماءُ، وذلك بنعمة الله العاملة فيه. وما نقوله عن المؤمن نقوله عن الكنيسة ككلٍ، حيث يتحول اسمها إلى تسبحة يطوٌبها الكثيرون، كمصدر فرح وتهليل لهم.

هذه هي خبرة القديسة مريم التي حملت مخلصها في أحشائها، فصارت تسبحة في شعوب الأرض كلها، وكما قالت: "منذ الآن جميع الأجيال تطوبني".

 


 

من وحي صفنيا 3

أنت تهدم وتبني!

 

v     لست أأتمن يدًا على هدمي سوى يدك الإلهية، هي تهدم وتبني!

تهدم تمردي ونجاساتي وظلمي، تنزع كل عقوقٍ في داخلي.

تبدد كل تشامخ تسلل إلى أعماقي، تقتل كل فكر ذئبي مفترس.

v     عوض جفافي تهبني روح العبادة الحية،

فيجري في داخلي نهر روحك القدوس، يحول قفري إلى جنة وفردوس.

يهبني شركة الطبيعة الإلهية.

أجد مسرتي في التمتع بالطاعة والتواضع والوداعة.

أحمل طاعتك وأتمتع بتواضعك وأنعم بوداعتك.

لك المجد يا من تعمل في الخطاة، وتهب عبيدك برَّك ليختفوا فيه.

v     روحك العجيب يقيم مني أورشليم المتهللة،

ويحوِّل أعماقي إلى هيكل قدسك، فأصير مسكنًا لك،

لا يعرف إلاَّ فرح السماء، وتهليل الملائكة!

أتمتع بخلاصك وأنعم بعربون مجد الأبدية.

لك المجد يا واهب المجد لمحبيك!

<<

 

 


 

[1] Baker's Pictorial Introduction to the Bible, 1967, p .227.

[2] Isaac or the Soul 7:16.

[3] Homilies on Jeremiah., Homily  20:9.

[4]St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 3 – 4.

[5] On Ps. 139.

[6]  Cf. Jamison, Fausset Brown; Comm. on Zephaniah, chapter 1.

[7] Homilies on Mark, 82.

[8] St. Cassian: Conferences, 6:2.

[9] To Quirinus, Testimonies Against the Jews, 12:3:61.

[10] Cassiodorus: Exposition of the Psalms 6:1.

[11] Commentary on the Gospel of John, 1:161.

[12] Paedagogus, 2:13.

[13] The Good of Patience, 24.

[14]  Cf. On Ps. 1.

[15] On Ps. homily 1.

[16] On Ps. 35 (34).

[17] St. Cyprian: The Treatise of Cyprian, Book 1, 21.

[18]  To Demetrian, 23.

[19] On Ps. homily 31.

[20] On Ps 73 (72).

[21] Against Judaizing Christians, Discourse 5: 8.

[22] Discourses Against Judaizing Christians 5:12:9.

[23] On Faith in Things Unseen, 4.

[24] On Faith in Things Unseen, 7.

[25] On the Divination of Demons, 7.

[26] Homilies on the Psalms, 24.

[27] Demonstrations Against Pagans, 17:5.

[28] عظة 5 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[29] On Ps. 118 (119).

[30] Homily 95 On Obedience.

[31]  Homily 10 on Ps. 76 (77).

[32] Homily 24 On Ps. 96 (97).

[33] Homily 73 On Ps. 96 (97).

[34] Homily 95 On Obedience.

[35] Commentary on Zephaniah, 3:1-2.

[36] On Ps. 25 (24).

[37] Homily 22 On Ps. 94 (93).

[38] Homily 26 On Ps. 99 (98).

[39] On Ps. 11 (10).

[40] Homily 62 on Ps. 83 (82).

[41] Homily 2 On Ps. 2.

[42] Homily 22 On Ps. 94 (93).

[43] On Ps. 94 (93).

[44] Homily 64 On Easter Sunday.

[45] Demonstration Against the Pagans, 6:9.

[46] Cf. Homilies on Jeremiah 5:4:3.

[47] Homily 26 On Ps. 99 (98).

[48] Homily 21 On Ps. 92 (91).

[49] On Ps. 132 (131).

[50] Cf. City of God, 18:33.

[51] On Ps. 94 (93).

[52] Homily 72 On Ps. 96 (95).

[53] Homily 66 On Ps. 89 (88).

[54] On Ps. 33 (32).

[55] Commentary on Zephaniah, 3:11-15.

[56] Commentary on Zephaniah, 43.

[57] Commentary on Zephaniah, 3:16-18.

[58] On Ps. 15

[59] On Ps 27 (26).

[60] Homily on Thessalonians 3:4.

[61] Commentary on Zephaniah, 3:19-20.

 

الصفحة الرئيسية