التكوين

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

كلمة الله هي الغذاء الذي يقدمه الروح القدس لكنيسة المسيح لتعيش علي الدوام متجددة في شبابها الروحي، لا تعرف شيخوخة العجز أو الفناء. وقد سمح لي إلهي الصالح في السنوات الأخيرة أن أتمتع بدراسة كلمة الله كما اختبرها آباء الكنيسة الأولي، بكونها روحًا وحياة، وبدأت أسجل بعض التأملات والتفاسير التي عاشها هؤلاء الآباء لكي نعيش نحن أيضًا بروح الكنيسة الأولي وفكرها، متمتعين بالروح القدس بكلمة الله الحية الفعّالة فينا، حتى ترفعنا إلى عريسنا (الكلمة الإلهي) القادم علي السحاب ليهبنا شركة أمجاده ويدخل بنا إلى حضن أبيه، لنوجد معه أبديًا في سماواته.

إن كنت لم التزم في التفسير بترتيب الأسفار كما وردت في الكتاب المقدس، فإنني لم أهدف إلى مجرد إخراج سلسلة متكاملة للتفسير إنما أبغي الدخول مع كل نفس إلى حجال الكلمة والتمتع به كعريس أبدي يملأ القلب والفكر وكل الأعماق الداخلية.

القمص تادرس يعقوب ملطي

- مقدمة في أسفار موسى الخمسة

 

الأصحاح الرابع والعشرون (زواج إسحق)

1. وحدة الأسفار الخمسة.

 

الأصحاح الخامس والعشرون (عبور إبراهيم)

2. موسى والأسفار الخمسة.

 

- معاملات الله مع إسحق الأصحاحات [21-27]

3. محتويات الأسفار الخمسة.

 

- معاملات الله مع يعقوب الأصحاحات [25-50]

- مقدمة في التكوين

 

الأصحاح السادس والعشرون (تغرب إسحق)

- الباب الأول الأصاحات [1- 11]

 

الأصحاح السابع والعشرون (إسحق يبارك يعقوب)

الأصحاح الأول (خلقة العالم)

 

الأصحاح الثامن والعشرون (يعقوب والسماء المفتوحة)

الأصحاح الثاني (آدم في الفردوس)

 

الأصحاح التاسع والعشرون (زواج يعقوب)

الأصحاح الثالث (سقوط الإنسان)

 

الأصحاح الثلاثون (صراع في حياة يعقوب)

الأصحاح الرابع (هابيل وقايين)

 

الأصحاح الحادي والثلاثون (العودة إلى كنعان)

الأصحاح الخامس (الموت)

 

الأصحاح الثاني والثلاثون (الاستعداد لملاقاة عيسو)

الأصحاح السادس (فلك نوح)

 

الأصحاح الثالث والثلاثون (لقاء يعقوب مع عيسو)

الأصحاح السابع (الطـوفان)

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (دينة وأهل شكيم)

الأصحاح الثامن (خلاص نوح بالفلك)

 

الأصحاح الخامس والثلاثون (ارتحال يعقوب)

الأصحاح التاسع (تجديد العهد)

 

الأصحاح السادس والثلاثون (نسل عيسو)

الأصحاح العاشر (تعمير الأرض الجديدة)

 

- معاملات الله مع يوسف الأصحاحات [٣٧ – ٥٠]

الأصحاح الحادي عشر (برج بابل)

 

الأصحاح السابع والثلاثون (يوسف الابن والعبد)

- الباب الثاني  الأصحاحات [١٢ –٥٠]

 

الأصحاح الثامن والثلاثون (يهوذا وثامار)

- معاملات الله مع إبراهيم أصحاحات [١٢–٢٥]

 

الأصحاح التاسع والثلاثون (يوسف وامرأة فوطيفار)

الأصحاح الثاني عشر (دعوة إبرام)

 

الأصحاح الأربعون (يوسف في السجن)

الأصحاح الثالث عشر (اعتزال إبرام لوطًا)

 

الأصحاح الحادي والأربعون (يوسف الممجد)

الأصحاح الرابع عشر (موقعة كدرلعومر)

 

الأصحاح الثاني والأربعون (إخوة يوسف في مصر)

الأصحاح الخامس عشر (الميثاق الإلهي)

 

الأصحاح الثالث والأربعون (اللقاء الثاني مع يوسف)

الأصحاح السادس عشر (إبرام وهاجر)

 

الأصحاح الرابع والأربعون (طاس يوسف الفضي

الأصحاح السابع عشر (عهد الختـان)

 

الأصحاح الخامس والأربعون (يوسف يعلن ذاته)

الأصحاح الثامن عشر (الوليمة الفريدة)

 

الأصحاح السادس والأربعون (نزول يعقوب إلى مصر)

الأصحاح التاسع عشر (حرق سدوم)

 

الأصحاح السابع والأربعون (لقاء يعقوب وفرعون)

الأصحاح العشرون (ساراى وأبيمالك)

 

الأصحاح الثامن والأربعون (يعقوب يبارك أفرايم ومنسي)

الأصحاح الحادي والعشرون (ميلاد إسحق)

 

الأصحاح التاسع والأربعون (يعقوب يبارك أولاده)

الأصحاح الثاني والعشرون (ذبح إسحق)

 

الأصحاح الخمسون (دفن يعقوب)

الأصحاح الثالث والعشرون (موت سارة)

 

 

 

 

 

 فصل تمهيدي:

مقدمة في أسفار موسى الخمسة[1]

1. وحدة الأسفار الخمسة.

2. موسى والأسفار الخمسة.

3. محتويات الأسفار الخمسة.

 وحدة الأسفار الخمسة

تسميتها:

تسمي الأسفار الخمسة الأولي من العهد القديم في اليونانية Pentateuch، تعني "الأسفار الخمسة"، وقد استخدم هذا الاسم في المسيحية منذ عصر مبكر. حاول بعض الدارسين أن يربطوا بين الأسفار الأربعة الأولي في وحدة واحدة معًا تحت اسم Tetrateuch إذ نظروا إلى سفر التثنية بكونه أشبه بمقدمة لتاريخ إسرائيل منذ بدء دخوله إلى الموعد (سفر يشوع)، بينما حاول البعض ضم سفر يشوع إلى الأسفار الخمسة لتكوين وحدة واحدة بين الأسفار الستة الأولي تحت اسم Hexateuch، وأحيانًا حاول البعض ضم الثمانية أسفار الأولي باسم Octateuch لتشمل التاريخ حتى بدء عهد الملوك، لكن لا يزال الفكر التقليدي الأصيل يسود علي الباحثين في الربط بين الأسفار الخمسة الأولي كأساس تاريخي عليه قام شعب الله.

هذه الوحدة عرفها اليهود أيضًا، فالكتاب المقدس في العبرية ينقسم إلى ثلاث وحدات حسب واضعيها:

أولاً- الناموس أو التوراة: يحوي أسفار موسى الخمسة.

ثانيًا- الأنبياء: ينقسمون إلى أنبياء أولين وإلى أنبياء متأخرين. القسم الأول يضم يشوع والقضاة حتى الملوك، أما القسم الثاني فيشمل إشعياء وإرميا وحزقيال والاثنى عشر نبيًا الصغار.

ثالثًا- الكتوهيم وينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام: كتب شعرية مثل المزامير والأمثال وأيوب، وكتب ميحيلوت مثل النشيد وراعوث والمراثي والجامعة وأستير، وكتب تاريخية غير نبوية مثل دانيال وعزرا ونحميا وأخبار الأيام.

بهذا تظهر أسفار موسى الخمسة كوحدة تسمي "الناموس" وإن كانت قد حملت أسماء أخري مختلفة وردت في العهدين، منها:

    التوراة أو الشريعة أو الناموس (يش 1: 7، مت 5: 17؛ 12: 5).

    سفر الشريعة أو كتاب الناموس (يش 1: 8، غلا 2: 10).

    سفر توراة موسى (يش 8: 31).

    سفر شريعة الله ( يش 24: 26).

    كتاب موسى (2 أي 25: 4؛ مر 12: 26)

    ناموس (شريعة) الرب (2 أي 31: 3؛ لو 2: 23).

    شريعة موسى (1 مل 2: 3، عز 7: 6، لو 2: 22).

وحدة تاريخية:

تمثل هذه الأسفار وحدة تاريخية مترابطة معًا، تبدأ بخلق العالم من أجل الإنسان ثم خلق الإنسان نفسه، وإذ سقط الإنسان هيأ له الخلاص فاختار الله الآباء الأولين إبراهيم وإسحق ويعقوب، وفي مصر بدأت البذرة الأولي للشعب الذي هيأه الله ليتحقق خلاله خلال البشرية كلها، ثم أقيم موسى كأول قائد لهذا الشعب، أخرجه من عبودية فرعون وخلاله تمتعوا بالعهد عند جبل سيناء، وأخيرًا وقف بهم عند الشاطئ الشرقي للأردن ليسلمهم في يد قائد جديد هو يشوع، وكأنه بالناموس يسلمنا ليسوع قائد الحياة وواهب الميراث. هكذا تحقق هذه الأسفار حقبة هامة متكاملة في حياة البشرية من جهة علاقتها بالله، وتمثل دورًا هامًا يعيشه الإنسان، فيه يلمس رعاية الله له واهتمامه بخلاصه.

هذا ومما يجدر ملاحظته أن التاريخ في هذه الأسفار يمتزج بالإيمان، فلا انفصال بين الأحداث التاريخية والعقيدة الإيمانية.

بين التاريخ والإيمان في اليهودية والمسيحية:

في جميع الأمم القديمة ارتبط التاريخ بالدين، فكان الدين يمثل دورًا رئيسيًا في كل جوانب حياتهم اليومية والأسرية والاقتصادية وتحركاتهم السياسية، لكن مع هذا فالتاريخ وهو متأثر بالعقيدة لا يمثل جزءًا منها، أما بالنسبة لليهود فلا انفصال بين التاريخ والإيمان؛ فالتاريخ ليس فقط متأثرًا بالعقيدة وإنما يمثل جزءًا لا يتجزأ من عقيدتهم. بمعنى آخر ترتبط النظرة اللاهوتية للتاريخ بالنظرة اللاهوتية للعقيدة. تاريخ هذا الشعب يمثل جزءًا لا يتجزأ من كلمه الله، ويمثل تدبيرًا إلهيًا فائقًا لأجل خلاص البشرية كلها. بدأ التاريخ بخلق الإنسان حيث يظهر كسفير الله على الأرض يحمل سلطانًا وسيادة على كل ما على الأرض وما تحتها وما في أعماق البحار وما في الجو وحتى الفضاء، ليس له سيد من كل الخليقة بل هو سيد الخليقة الأرضية. وجاء التاريخ يعلن اختيار الله للآباء البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب... وفي كل تصرف وكل عمل ورد في تاريخهم يعلن الله ذاته لنا، بل وفي مفهومنا المسيحي تحمل حياتهم رموزًا متعددة عن مجيء السيد المسيح كمخلص وعمله الخلاصي.

ونحن كمسيحيين لا نرى في هذا التاريخ ماضيًا قد زال، إنما نرى فيه تهيئة إلهية لتدبير خلاصنا، ورموزًا بلا حصر لعمل الله معنا حتى هذا اليوم إنه ليس بالتاريخ في مفهومه العلمي العام، لكنه يقدم لنا سر علاقتنا مع الله وإدراكنا أسراره والتعرف على حكمته السماوية من نحونا. إنه تاريخ حاضر يحمل قوة الحياة خلال لقائنا بالسيد المسيح الذي أعلنه هذا التاريخ وهيأ لمجيئه!

سرّ الوحدة بين الأسفار الخمسة:

يرى[2] R. de Vaux وجود أربعة خيوط ذهبية تربط هذه الأسفار الخمسة معًا في وحدة متكاملة؛ هذه الخيوط هي: الوعد، الاختيار، العهود، الشريعة.

1. الوعد الإلهي: عصب هذه الأسفار تأكيد وعد الله للإنسان الذي أُبرز بصورة خاصة مع إبراهيم فصار أبًا للمؤمنين. فيه نرى الوعد إلهي لخلاص آدم وبنيه متجسمًا، وقد تجدد هذا الوعد خلال الأجيال المتعاقبة. حقًا إن شعب إسرائيل في بداية  انطلاقه لم يكن يحمل ثقافة حضارية ذات شأن إذا ما قورنوا بالشعوب المحيطة بهم مثل الفراعنة والبابليين، ولكنهم تمتعوا بنوال الوعد الإلهي عن طريق آبائهم البطاركة المتجولين وخلال هذا الوعد قام وجود الشعب الإسرائيلي.

2. الاختيار: ظهر الوعد الإلهي متجليًا في الاختيار، فلا فضل لآدم في اختياره كإنسان يحمل السيادة على الأرض كلها، ولا فضل للآباء البطاركة في اختيارهم كرجال الله، ولا للشعب في اختياره كأمُة مقدسة، إنما هي محبة الله الفائقة وتدبير حكمته (تث 7: 6) العاملة. إذن لله فضل الاختيار بلا تحيز ولا مجاملة على حساب الحياة المقدسة.

3. العهود: كانت العهود أساسية في المجتمعات الشرقية، كالعهد الذي أُقيم بين إبراهيم وأبيمالك (تك 21: 23)، وبين يعقوب وحميه (تك 31: 44)، وبين داود ويوناثان (1 صم 23: 28). وفي الأسفار الخمسة الأولى يبرز الوحي الإلهي تقدير الله للإنسان، فيرفع من شأنه ليقيم معه عهدًا بل ويدخل معه في عهود متتالية. دخل مع آدم في عهد غير معلن بطريقة مباشرة إن كان آدم في الفردوس قد أدرك محبة الله له فيرد له الحب بالحب. لكنه عصى الله فشوّه صورة العهد، لذلك أقام الله العهد من جديد مع نوح بعد تجديد الأرض خلال مياه المعمودية وسجل علامته في الطبيعة خلال قوس قزح (تك 9). وإذ لم يدرك إنسان مفاهيم هذا العهد أُعطى للعهد علامة في جسد كل ذكر، أي الختان؛ وأخيرًا عند جبل سيناء أقام الله عهده مع شعبه (خر 19). الذي ختمه بدم الذبائح الحيوانية إشارة إلى العهد الذي يسجله الآب على الصليب بدم ابنه الحبيب! هذا هو خيط الحب الذي ربط الأسفار الخمسة معًا ليدخل بنا إلى العهد الجديد.

4. ارتبط العهد بالشريعة: ففي سيناء التحمت الشريعة بقوانين أو شرائع العبادة ودون انفصال بين الوصية والعبادة، أو بين الشرائع والذبائح...

أسفار موسى الخمسة وسفر المزامير:

إذ تنقسم الشريعة إلى خمسة أسفار، يحمل سفر المزامير ذات التقسيم، كل قسم منها ينتهي ببركة:

الكتاب الأول: مز 1 - 41.           الكتاب الثاني: مز 42 - 72.

الكتاب الثالث: مز 73 – 89.         الكتاب الرابع: مز 90 – 106.

الكتاب الخامس: مز 107 - 150 (+ المزمور 151 في الترجمة السبيعنية).

<<

٢

موسى والأسفار

موسى كاتب الأسفار:

حوالي عام 1167م استلفت  نظر ابن عزرا Ibn Ezra كلمات الوحي: "وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض" (تك 12: 6). كأن الكاتب يتحدث بعد ترك الكنعانيين للأرض، الأمر الذي لم يتحقق في أيام موسى النبي، مما جعله ينادي بأن واضع هذه الأسفار آخر غير موسى. وجاءت القرون من السابع عشر حتى العشرين مشحونة بالدراسات النقدية المتطورة للبحث عن مدى علاقة موسى النبي بهذه الأسفار، إن كان هو خلال التقليد الشفوي أو الكتابي الذي تسلمه، أو لعله سجل ملاحظات على الشرائع التي تسلمها وأن شخصًا آخر اعتمد على مذكراته ليضع هذه الأسفار. وأيضًا إن كان هناك مصدر آخر غير ما سلمه موسى شفاهة أو كتابة لكتابة هذه الأسفار... الأمور التي لا أود الإطالة فيها. خاصة وقد ظهر اتجاه جديد مع بدء القرن العشرين بين الدارسين والنقاد يعود إلى تأكيد الفكر  التقليدي التاريخي أن واضع هذه الأسفار هو موسى النبي، لكننا قد فضلنا قبل استعراض تطور هذه  الدراسات أن نسجل الدلائل والشهادات على أن موسى هو واضع هذه الأسفار بوحي روح الله القدوس.

أولاً- شهادة العهد القديم:

يستطيع الدارس لأسفار موسى الخمسة أن يدرك وجود ثلاثة أجسام للناموس لابد أن يكون موسى النبي نفسه هو الذي سجلها، وهي:

أ. كتاب العهد (خر 20: 22 – خر 23)، والوصايا العشر التي تمثل حجر الزاوية في الشريعة (خر 20: 1-17؛ 24: 1-12؛ 31: 12-18؛ 34: 17-28). وجاء في سفر الخروج: "فكتب موسى جميع أقوال الرب" (خر24: 4).

ب. الشرائع الخاصة بخيمة الاجتماع والخدمة (خر25-31؛ 35-40)، وقد أكد السفر نفسه أن الرب أعلن هذه الشرائع بكل تفاصيلها المذكورة لموسى النبي (خر 25: 1).

ج. أُفتتح سفر التثنية بخطاب لموسى النبي وجهه للجيل الجديد قبل دخولهم أرض كنعان، يحوى مختصرًا تاريخيًا للطريق الذي قادهم الله فيه، مكررًا فيه أجزاء من الناموس. وجاء في هذا السفر: "كتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بنى لاوي حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل" (تث 31: 9، 24-26).

إن كانت الأسفار الخمسة تشهد أن موسى النبي هو كاتب هذه الأجسام الثلاثة الرئيسية للناموس، فإن العهد القديم ككل يشهد أن موسى هو واضع هذه الأسفار، نذكر بعض العبارات الواردة فيه:

"وقام يشوع بن يوصادق وأخوته الكهنة... وبنوا مذبح إله إسرائيل ليصعدوا علية محرقات كما هو مكتوب في شريعة موسى رجل الله" (عز 3: 2).

"وأقاموا الكهنة في فرقهم واللاويين في أقسامهم على خدمة الله التي في أورشليم كما هو مكتوب في سفر موسى" (عز 6: 18).

"اجتمع كل الشعب كرجل واحد... وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل" (نح 8: 1).

"في ذلك اليوم قرىء في سفر موسى في آذان الشعب" (نح 13: 1).

"كما كتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشر" (دا 9: 13).

يختتم العهد القديم بالعبارة التالية: "اذكروا شريعة موسى التي أمرته بها في حوريب على إسرائيل الفرائض والأحكام" (ملا 4: 4).

ثانيًا- شهادة العهد الجديد:

أ. أقتبس السيد المسيح من الأسفار الخمسة عبارات نسبها لموسى النبي، من ذلك ما جاء في الإنجيل: "فقال لهم يسوع: انظر لا تَقُـل لأحد، بل اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدّم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم" (مت 8: 4، راجع لا 14: 4، 10). قارن أيضًا (مت 19: 8، مر 10: 5 مع تث 24: 1؛ مر 7: 10 مع خر 20: 12؛ 21: 17؛ مر 12: 26، لو 20: 37 مع خر 3: 6).

ب. في حديث السيد المسيح عن الناموس نسبه لموسى النبي، وكان هذا هو رأى اليهود في عهده[3]. فلو أن السيد المسيح يعلم أنهم مخطئون لصحح مفاهيمهم، أو على الأقل حين يقتطف منه لا ينسبه لموسى. فيكون السيد المسيح هو الحق (يو 14: 6)، الذي جاء ليشهد للحق (يو 8: 37)، فإنه لا يقبل الخطأ ويصدق عليه.

ج. شهادة رجال العهد الجديد: فقد اعتبروا القراءة في الناموس هي قراءة في موسى (أع 15: 21؛ 2 كو 3: 15، راجع أيضًا رو 10: 5، 19؛ 1 كو 9: 19).

ثالثًا:

نحن نؤمن أن الوحي الإلهي يقدس الفكر الإنساني والثقافة البشرية، فهو لا يملي على واضع السفر كلمات معينة بحرفيتها، إنما يلهب قلبه بالكتابة ويتكلم فيه وبه ويحوط به حتى لا يخطئ، تاركًا إياه  يكتب خلال ثقافته الخاصة، فيكتب الإنسان البسيط كعاموس النبي بلغة البساطة، ويكتب الرسول بولس بفكر فلسفي روحي... وهنا إذ يستخدم روح الله موسى النبي نلحظ في أسلوبه ما يشير إلى موسى كرجل تربى في مصر وتعلم حكمة المصريين. فالكاتب يظهر كشخص له إلمام دقيق بمصر، الأمر الذي لا يتحقق مع آخر غير موسى ممن عاشوا في كنعان بعد الخروج بقرون. هذا ما لاحظه كثير من الدارسين في تفصيل، نوجزه في النقاط التالية:

1. جاءت الأسفار الخمسة تضم الكثير من الكلمات المصرية، من ذلك الاسم الذي أعطاه فرعون ليوسف: "صفنات فعنيح" (تك 41: 45) وهو اسم مصري يناسب يوسف الذي خلص مصر من المجاعة، معناه (الله يتكلم وهو يعيش[4]) (أو المولود حديثًا يعيش[5]) ، وذكر اسم زوجة يوسف "أسنات" (تك 41: 45)، وهو اسم مصري يعني (تنتمي للإلهة نيث Neith[6]). وذكر اسم مدينة هليوبوليس حيث كانت مركز عبادة إله الشمس باسمها المصري القديم "أون" (تك 41: 45، 50؛ 46: 20). وذكر أيضًا الاسم المصري لمدينة رعمسيس (تك 47: 11؛ خر 1: 11؛ 12: 37؛ عد 33: 3، 5)، وأيضًا فيثومPi-Tum  الاسم الذي أشير إليه في آثار الأسرة الـ 19، الأمر الذي يتفق تمامًا مع الخروج. ولقب كأس يوسف الذي أمر بوضعه في فم عدل بنيامين بالاسم المصري للكأس الإلهي "طاسى"، التعبير الذي لم يُستخدم في غير الأسفار الخمسة إلاَّ في (إر 35: 5)، وقد وُجد إرميا في مصر. وهناك كلمات أخرى كثيرة مصرية، أو مصرية عبرانية أي حملت مسحة عبرانية.

2. بجانب الكلمات المصرية سجلت لنا هذه الأسفار بعض العادات المصرية الدقيقة التي لا يعرفها إلا من عاش في مصر في ذلك الحين، منها عادة زواج الخصيان التي لم يُشر إليها في كل العهد القديم سوى في (تك 37: 36؛ 39: 1). ربما كلمة "خصي" هنا تشير إلى صاحب وظيفة كبرى لدى فرعون (تك 40: 20)، وهي عادة لم تعرف في إسرائيل، وإنما حدثت مرة واحدة في زمن متأخر مع هيرودس الملك (مت 14: 6؛ مر 6: 21). كذلك عادة تقديم الخاتم ووضع طوق ذهب في عنق من يوّد تكريمه بالسلطة (تك 41: 42) لم تعرف في إسرائيل، إنما وجدت في مصر وفارس وبابل (إش 3: 10، 12؛ 8، 10؛ دا 5: 29). أيضًا عزل إخوة يوسف عن يوسف والمصريين على المائدة (تك 43: 32) مع تقديم عبارة توضيحية أن المصريين لا يأكلون خبزًا مع العبرانيين إذ هو رجس عند المصريين. كذلك تقديم ملاحظة أن كل راعي غنم هو رجس عند المصريين (تك 46: 34). هذا وقد أوضح الكاتب أنه على دراية بأرض الكهنة في مصر (تك 47: 22).

3. من الناحية الجغرافية يعرف الكاتب سمات شاطئ نهر النيل كما يعرف رمل البرية (خر 2: 12)، والبردي المصري (خر 2: 3)، وموقع رعمسيس وسكوت (خر 2: 37) وإيثام (خر 13: 20) وفم الحيروث (خر 14: 2). ويظهر إدراكه لجغرافيتها من قوله: "قد استغلق عليهم القفر" (خر 24: 3).

رابعًا:

يرى كثير من الدارسين أن القوانين الخاصة باللآويين (خر20-23؛ 25-31؛ 35-40 ؛ عد 5؛ 6؛ 8-10 ؛ 15-19) والواردة في سفر اللآويين... تحمل علامات تشير إلى أنها وضعت في أيام موسى وليس في عصر متأخر عنه. ومن الدلائل التي قدمها Rawlinson على ذلك هي[7]:

1. يرى[8] Prof. Main أن هذه الشرائع بدائية تناسب عصر موسى إذ جاءت مزيجًا بين شرائع دينية وأخرى مدنية وسلوكية واقتصادية.

2. امتزجت الشرائع بالجنب التاريخي القصصي مما يدل على أنها كُتبت أثناء التجول في البرية.

3. جاءت بعض هذه الشرائع تناسب الرّحل ساكني الخيام.

4. يلاحظ في هذه الشرائع تجنب الحديث عن الشمس بطريقة مكرمة كما في العبادة (مز 19: 4)، مما يدل على أن الكاتب خشي عليهم لئلا يسقطوا في عبادة الشمس مثل المصريين...

خامسًا:

يرى بعض الدارسين أن سفر التثنية يحمل في داخله شهادة على أنه موضوع في موسى النبي وليس كما ادعى البعض أنه في عهد يوشيا الملك أو منسى، من ذلك طريقة معالجته لطرد الكنعانيين من مدن البلاد إذ جاءت تناسب أيام موسى لا أيام الملوك (تث 20: 10-20).

تطور الدراسات في أسفار موسى الخمسة:

قلنا أن ابن عزرا في القرن الثاني عشر لاحظ من (تك 12: 6) أن واضع السفر يتحدث عن طرد الكنعانيين كحدث ماضٍ، وكأن الكاتب جاء بعد موسى النبي.

وفي القرن السابع عشر قال Richard Simon (عام 1685) أن الأسفار الخمسة قد استخدمت ملاحظات موسى ومذكراته لكن الواضع أضاف إليها بعض الموارد. ورأى الفيلسوفThomas Hobbes  أن هذه الأسفار مع أسفار الملوك من وضع عزرا الكاتب.

وفيما يلي ملخص سريع لتطور الدراسات الخاصة بالأسفار الخمسة:

1. نظرية المصادر القديمة:   The Old Documents Hypothesis

ملخص هذه النظرية أن موسى النبي استخدم وثائق سابقة، اتسمت كوثيقة بذكر اسم الله بلقب مختلف عن الوثائق الأخرى. فقد لاحظ H.B. Witter  (عام 1711) أن اسم الجلالة في هذه الأسفار تارة يكتب ألوهيم Elohim وأخرى يهوهJehovah  هذا وقد ذُكرت الخليقة مرتين في سفر التكوين (1-3: 24) مما جعله يعتقد بوجود مصدرين سابقين استخدمهما موسى، يمثلان تقليدًا استلمه موسى شفاهة أو كتابة. وقد اتخذ الطبيب الفرنسيJean Astruc  (عام 1753) بنفس النظرية خلال دراسته المستقلة عن Witter، فقال إن موسى استقى معلوماته عن مصدر ألوهيميElohistic  (أي يستخدم كلمة ألوهيم) وآخر يستخدم اسم يهوهYahwistic ، هذا بجانب عشرة مصادر أخرى قدمت مقتطفات صغيرة، فروعها في أربعة أنهر، أخيرًا ظهر سفر التكوين.

أخذ أيضًاJ.G. Eichorn  بنظرية وجود مصدرين سابقين لموسى في كتابه Introl to the O.T.  (1780-1783)، أماK.D. Ilgen  (1798م) فنادى بوجود ثلاثة مصادر سابقة، أحد هذه المصادر استخدم تعبير "يهوه" والمصدران الآخران استخدما تعبير "ألوهيم".

2. نظرية المصادر غير الكاملة:  The Fragment Hypothesis

إن كانت النظرية السابقة قد قامت في جوهرها على وجود مصدرين أو ثلاثة استخدمها موسى النبي في وضع هذه الأسفار، فإن النظرية أو وجهة النظر التي مثلها Vater  (1805م) وHartman  (1831م) تقوم على استخدام مصادر غير كاملة (مجموعة متفرقات) تبلغ حوالي الثلاثين أو أكثر، كل منها مستقل عن الأخرى، لكن هذه النظرية لم تجد استجابة من الدارسين.

3. نظرية التكميل: The Supplementary Hypothesis

تقوم على أساس وجود عدة وثائق لاحقة لموسى النبي، قام واضع هذه الأسفار بتكميلها فيما بينها. اقترح هذه النظريةH.G. Ewald  (1831م)،وتبعةBleek (1836م)، ثم تبناهاJ.C.F. Tuch  (1938م) في تعليقاته على سفر التكوين، وأيضًاF. Delitzsch (1852م). اعتقد Ewald  بوجود مصدر ألوهيمي في عصر متأخر عن موسى أضيف إليه أجزاء أقدم منه مثل الوصايا العشر وكتاب العهد. وتلقف آخر هذا الإنتاج ليضيف عليه أجزاء من وثيقةYahwistic  تستخدم تعبير "يهوه". مع أنEwald  هو مؤسس هذه النظرية لكنه وصل بنفسه إلى هدمها، مناديًا في كتابةHistory of Israel  (1843- 1855) بوجود نهرين: ألوهيمي و Yahwistic.

4. نظرية الوثائق الحديثة:

قدمH. Hupfeld  (1853م) اتجاهًا جديدًا في الدراسات الخاصة بالأسفار الخمسة، خلال دراسته لسفر التكوين، جاء فيه أن الوثائق وهي متأخرة عن عصر موسى  ليست مكملة لبعضها البعض لكنها تمثل ثلاثة أنهر قصصية كاملة: ألوهيمية الأصل، وألوهيمية متأخرة، ويهودية، ثم قامت يد رابعة منقحة تربط بين هذه الوثائق معًا.

وفي عام 1805م نادىWette  بوجود وثيقة أخرى خاصة بالتثنية اكتشفت حوالي عام 621 ق.م، وأنها وضعت قبل ذلك بفترة قصيرة. وفي عام 1854 نادىE. Reuss  بوجود وثيقة رابعة دعاها بالوثيقة الكهنوتية Priestly Document، وقد أعطيت رموز لهذه الوثائق هي:

E   الألوهيمية Elohist                        J   اليهودية       Yahwistic

D    خاصة بالتثنية Deuteronomy              P الكهنوتية Priestly      

قامGraft  بنشر هذه النظرية عام 166، ودافع عنهاA. Kuenen  (1869-1870)، وفيما بعد أعطاهاJ.  Welhausen  (1878م) تعبيرات كلاسيكية في كتابة History Of Israel I، وقد عرفت النظرية باسمGraft. Welhausen  أو Welhausen  وحده، وأُدخلت عليها بعض التعديلات.

5. النقد التقليدي التاريخي: The Tradits - Historical Criticism

مع بداية القرن العشرين ظهر اتجاه قوي بضرورة العودة إلى الفكر التقليدي الأصيل: أن الكاتب هو موسى النبي نفسه، وإن كانت بعض العبارات القليلة قد أضيفت بعده مثل قصة موته.

تأسست هذه النظرية في إسكندنافيه في مدرسةUppsala  يمثلها 1. Engell عام 1945 الذي نادي بأنه من الخطأ التطلع إلى وجود وثائق متوازية معًا عند وضع هذه الأسفار، خاصة أنه لا أثر لهذه الوثائق.

الرد علي اعتراضات النقاد:

إن كانت الدراسات السابق الإشارة إليها تقوم علي أساس عقلي بحت بعيد كل البعد عن الجانب الإيماني وعن مفهوم الوحي الإلهي، فإنني إذ قدمت لها عرضًا سريعًا أقدم حجج المعترضين علي كون موسى هو واضع هذه الأسفار ورد الدارسين عليها.

الاعتراض الأول:

رأينا أن العامل الرئيسي لظهور هذه النظريات هو ذكر اسم الجلالة بألقاب كثيرة، خاصة اللقبين "ألوهيم ويهوه" مما جعل النقاد ينادون بوجود أكثر من مصدر لهذه الأسفار.

الـرد:

لو أن الكاتب مجرد منقح لأكثر من مصدر فإنه لم يكن يصعب عليه في التنقيح أستخدم لقب آخر لله، وأن أعطيته لقبًا آخر فلا يكون بكثرة ولا في نفس الموضع. ففي قصة الخليقة (تك1: 1؛ 2: 4) يُلقب الله بألوهيم، وفي تكملة القصة (تك 2: 4-25) يستخدم لقب يهوه. وهكذا أيضًا في قصة الطوفان (تك 6: 5؛ 9: 19) يستخدم أحيانًا ألوهيم وأحيانًا يهوه... مما يؤكد أن الوحي أراد تقديم الله للمؤمنين خلال أكثر من لقب ليعلن لهم عن عمله مع البشرية. فتارة يستخدم لقب: "ألوهيم" وهي جمع كلمة "الله" ليؤكد التثليث ليهيئ البشرية للعمل الخلاصي إذ يرسل الآب الابن فدية عنا ويقوم الروح القدس بالشركة بيننا وبين الله... وأخري يلقبه: "يهوه" معلنًا أنه فوق كل الادراكات[9]، وثالثة: "مشاداي" بكونه ضابط الكل المهتم بكل كبيرة وصغيرة في حياة أولاه، ورابعة: "الايليون" El Elyon أي العلي لكي يرفع قلوب مؤمنيه إلى الأعالي، وخامسًا: "الأولام" El Olam أي الأبدي لكي ينطلق بنا إلى ما هو فوق الزمن فنشتهي أن نوجد معه في الأبديات... في اختصار أن ألقاب الله ليست دليلاً علي وجود وثائق مختلفة للأسفار وإنما غايتها إعلان سر الله وسماته التي تمس إيماننا وتتفاعل مع حياتنا ومفاهيمنا وسلوكنا.

الاعتراض الثاني:

يعترض بعض الدارسين بقولهم أن موسى كان قائدًا عمليًا وليس كاتبًا[10].

الـرد:

إن كنا قد تعرفنا علي أعمال موسى النبي القيادية خلال الكتاب المقدس، فإن الكتاب يقدمه لنا أيضًا ككاتب[11]، لم يكن يوجد في عهده ولا من بعده من هو أقدر منه علي الكتابة، يستخدمه الروح القدس لتقديم كلمة الله الحية خلال تاريخ تلك الحقبة الزمنية ممتزجة بالشريعة الإلهية.

أولاً: إن كان موسى قد تعلم حكمة المصريين (خر 2: 10، أع 7: 21) التي تشمل الكتابة، فإن الله الذي يقدس المواهب البشرية أعطاه ما هو أعظم من الحكمة المصرية... ملأه من حكمته الإلهية، فسجل لنا هذه الأسفار المقدسة بوحي الروح القدس ليعمل الله بها عبر الأجيال.

ثانيًا: تسلم موسى النبي المعلومات الخاصة بالخليقة عن التقليد الذي يمكن أن يكون قد سُلم من آدم الرجل الأول حتى آخر من رآه من أحفاده، والأخير قدم ما سمعه بأذنيه من آدم إلى آخر حفيد له قد عاصره، وهكذا يكون موسى الشخص الخامس الذي تسلم التقليد نقلاً عن آدم. ويري بعض الدارسين أن يوسف إذ جاء إلى مصر وجاء بعده والده أودع في خزانة فرعون ما تسلمه عن آبائه، الأمر الذي تسلمه موسى عن القصر.

ثالثًا: حملت الأسفار الخمسة الوصايا العشر والشريعة الأمور التي تسلمها موسى نفسه، كما سجل دقائق أحداث الخروج والبرية الأمور التي لا يعرف أحد تفاصيلها مثله.

رابعًا: عاش موسى النبي نحو أربعين سنة في البرية، ومع انشغاله بالقيادة إذ سمع مشورة حميه يثرون (خر 18: 13-26) وزّع القضايا الصغرى علي شيوخ الشعب وتفرغ هو للأمور الكبرى، مما أعطاه الفرصة والوقت الكافي للكتابة.

خامسًا: فترة رعايته للغنم حوالي 40 عامًا أكسبته حيوية في التأمل في محبة الله وتدابيره، مما ألهب نفسه للكتابة بعد ذلك، فإن كان في اتضاع أعلن أنه ليس بصاحب كلام (خر 4: 10) لكنه بحق صار أداة مقدسة حية في يد الله للعمل القيادي الحيّ الملتحم بالكتابة المقدسة.

الاعتراض الثالث:

يعترض البعض علي نسبة هذه الأسفار لموسى النبي لما ظهر في الأسفار من عهد يشوع حتى السبي كأن الشريعة الخاصة باللآويين لم تكن موجودة، معتمدين علي بعض العبارات التي أهمها: "هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحمًا، لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة أو ذبيحة، بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلاً: اسمعوا صوتي فأكون لكم إلهًا، وأنتم تكونون لي شعبًا، وسيروا في الطريق الذي أوصيكم به ليحسن إليكم" (إر 7: 21-23 راجع عا 5: 21-25؛ مي 6: 6-8؛ إش 1: 11-15). فيقول النقاد لو أن موسى كان قد كتب الأسفار الخمسة التي حوت شرائع الذبائح وطقوسها لما قال إرميا وغيره من الأنبياء مثل هذه العبارة.

الـرد:

لا يفهم من كلمات إرميا النبي وغيره أنهم كانوا يجهلون طقوس الذبائح، ولا عدم كتابة سفر اللآويين... فإن هذه العبارات لا تفهم بطريقة حرفية قاتلة، وإنما تُفسر هكذا:

أولاً: خلط اليهود بين تقديم الذبائح لله وللأوثان، فظنوا أنهم يرضون الله بتقديم الذبائح له في الوقت الذي فيه يقدمون ذبائح وثنية لإشباع شهواتهم، لذا قيل: "ذبحوا لأوثان ليست الله" (تث 32: 17). وجاء في سفر حزقيال أن اليهود مارسوا العبادات الوثنية برجاساتها جنبًا إلى جنب مع الطقس اليهودي فحسب الله عبادتهم له إغاظة له وفارق مجده بيته ومدينته (حز 10: 18، 19؛ 11: 32، 33). الله لا يُغش بذبائح ولا يُرتش بتقدمات من أيد دنسة مصممة علي الشر... لهذا يعلن أنه لم يطلب ذبائح ولا في حاجة إلى تقدمات.

ثانيًا: صمت الأنبياء عن الجوانب الطقسية الواردة في سفر اللآويين لا يعني عدم معرفتهم بالسفر لعدم كتابته بعد وإنما لأن الارتداد في عصرهم لم يكن عن مخالفة للطقوس الدينية وإنما ارتداد في السلوك لهذا اهتموا بالجانب السلوكي العملي.

ثالثًا: لما كانت الذبائح مجرد رمز لذبيحة المسيا، فإن الله يحسب نفسه كمن لم يوصِ بها ما دامت قد انحرفت عن غايتها وصارت في شكلية تمارس إرضاءً للضمير دون شوق للمصالحة.

رابعًا: إن كان النقاد قد نادوا بأن الأنبياء عرفوا سفر التثنية واقتبسوا منه دون سفر اللآويين، فإن سفر التثنية إنما هو تذكره لشريعة قائمة فعلاً وردت في اللآويين. هذا وأن عاموس النبي قد أشار أيضًا إلى اللآويين (عا 4: 4، 5؛ 5: 21).

الاعتراض الرابع

يستخدم بعض النقاد مدلولات جغرافية يظنون أنها تؤكد بأن هذه الأسفار وضعت في عصر لاحق لموسى، من ذلك القول: "في عبر الأردن" (تث 1: 1، 5؛ 3: 8؛ 41-49). كأن الكاتب يتكلم في الضفة الغربية ليتحدث عن الضفة الأخرى (الشرقية) حيث كان موسى مقيمًا. لكن كما يقول: J. Raven أن هذا التعبير يمكن استخدامه من كان في شرق الأردن أو في غربة علي السواء، معطيًا أمثلة بذلك: (تث 3: 20، 25؛ يش 9: 1؛ عد 22: 1؛ 32: 32؛ تك 50: 10، 11).

من الدلائل الجغرافية الأخرى أن الأسفار الخمسة تذكر مدينة "دان" عوض "لايش" (تك 14: 14؛ تث 34: 1)، مع أن لايش لم تحمل هذا الاسم إلاَّ بعد نصرة الدانيين لها بعد عصر موسى. يجيب Raven بأنه ليس بالضرورة أن تكون دان الواردة في (تك 14: 14) هي لايش، إنما يحتمل أن تكون مدينة أخري تحمل اسم دان. أما ما ورد في (تث 34: 1) فنحن نعلم أن الفصل الأخير من سفر التثنية كتب بعد موت موسى.

وأيضًا المنطقة التي سميت "حووت يائير إلى هذا اليوم" (تث 3: 14)، تشير إلى أن واضع هذا السفر بعد موسى النبي، حيث أُعطي هذا الاسم متأخرًا (عد 32: 41؛ يش 13: 3؛ قض 10: 4). لكن Raven يجيب بأن هذا الاسم يعني (قري يائير) (عد 32: 4)، ويشير إلى تسمية يائير لبعض القرى في جلعاد علي اسمه، وقد صنع ذات الأمر في باشان (تث 3: 14)، هذا وأن يائير المذكورة في الأسفار الخمسة لا تعني بالضرورة يائير المذكورة في سفر القضاة.

أيضًا قول يوسف: "لأني قد سرقت من أرض العبرانيين" (تك 40: 15)... مع أن العبرانيين لم يكونوا بعد قد امتلكوا الأرض، ولا حتى في أيام موسى النبي. ويرد علي ذلك بأن كلمة "عبرانيين" كانت تشير إلى من هم غير مستقرين في أرضهم، فقد دُعي إبراهيم بـ "عابر" (تك 14: 13)، وقد عُرف كرئيس صاحب سلطان (تك 23: 6) وأيضًا إسحق (تك 26: 13) ويعقوب (تك 34)، فالأرض التي عاش فيها هؤلاء البطاركة الثلاثة قرابة قرنين ربما حملت اسم "أرض العبرانيين"، ولعله لذات السبب نجد امرأة فوطيفار تدعوا يوسف في أكثر من موضع عبرانيًا (تك 39: 14، 17).

الاعتراض الخامس:

استخدم بعض الدلالات الخاصة بالآثار القديمة Archeological في رفض نسب هذه الأسفار لموسى النبي من ذلك ما جاء في (خر 16: 36) "وأما العُمِر فهو عشر الايفة" مدعين أنه من الناحية الأثرية لم يعرف العُمر في عصر موسى. يرد علي ذلك بأن الايفة كلمة مشتقة عن المصرية، وأنه كان من السهل علي العبرانيين الخارجين من مصر أن يعرفوا الايفة، لذلك فسر الكتاب العمر بالايفة المعروفة لموسى ومعاصريه.

كذلك تعبير "شاقل القدس" (خر 30: 13؛ 38: 24-26) يفترض أن الهيكل قد أُقيم وطقوسه قد استخدمت لمدة طويلة[12]. يُرد علي ذلك بأن هذا التعبير كان جديدًا في ذلك الوقت بدليل إيضاحه ثلاث مرات (خر 30: 13؛ لا 27: 25؛ عد 3: 47) وأنه لم يكن بعد قد أُستخدم.

يتحدث موسى النبي عن أصل عوج ملك باشان وسريره الحديدي (تث 3: 11) لسامعيه كمن لم يعرفوه مع أن السامعين في أيام موسى غلبوا الملك وقتلوه[13]. فلماذا يشرحه لهم؟ يرد علي ذلك بأن موسى الني يكتب لعامة الشعب الذين لم يعرفوا عن عوج هذه الأمور حتى وإن كانوا قد غلبوه، كما يكتب للأجيال التالية.

الاعتراض السادس:

اعتمد النقاد علي بعض الجوانب التاريخية في افتراضهم أن الكاتب غير موسى. من ذلك ما ورد في (عد 21: 14، 15) من مقتطف شعري عن "كتاب حروب يهوه" الذي شرح الكاتب أن يخص أرنون... ولما كان هذا الكتاب معاصرًا لموسى فلم تكن هناك حاجة لهذا الشرح. ويجيب الدارسون أن الشرح ضروري لأن موسى لا يكتب لمعاصريه العارفين هذه الأمور وإنما يكتب للأجيال كلها.

اعتمدوا أيضًا علي كلمة "حينئذ" في القول بأن الكنعانيين كانوا حينئذ في الأرض (تك 12: 6؛ 13: 7) كدليل علي أن الكنعانيين لم يكونوا في الأرض أثناء وضع هذا السفر، الأمر الذي لم يتحقق إلاَّ بعد موسى. يجيب Raven J. بأن الكلمة "حينئذ" في (تك 12: 6) طبيعية ولازمة، بدونها ربما يتساءل القارئ: هل كان الكنعانيون قد تركوا الأرض عند كتابة السفر. فتأكيد وجودهم أيام إبراهيم بالرغم من وجودهم حتى في أيام موسى يعطي للوعد قوة أعظم، إذ يهبها لنسله بالرغم من وجودهم. أما ذكرها في (تك 13: 7) فيمثل شرحًا وتوضيحًا بأنه لم يكن هناك موضع كافٍ لغنم إبراهيم وغنم لوط خاصة لوجود الكنعانيين بغنمهم في الأرض.

جاء أيضًا (تك 36: 31): "وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما مَلَكَ ملِك لبني إسرائيل" وكأن الكاتب قد عاصر عهد الملوك. يُرد علي ذلك بأن الكاتب موسى النبي الذي وإن كان لم يعاصر عهد الملوك لكنه وهو يتحدث عن وجود ملوك لأدوم أدرك أنه سيتحقق وعد الله ويُقام ملوك لبني إسرائيل إذ قيل لإبراهيم: "وملوك منك يخرجون" (تك 17: 6)، كما نال يعقوب ذات الوعد (تك 35: 11)، وتنبأ عن قيامهم في بركته لابنه يهوذا (تك 49: 10)، وتنبأ بلعام في عصر موسى عن قيامهم (عد 24: 7). كان في ذهن موسى النبي قيام ملوك إسرائيليين لذا قدم وصايا خاصة باختيارهم وسماتهم (تث 17: 14-20). وكأن موسى النبي في عبارته السابقة (تك 36: 31) يعلن أنه وإن كان لأدوم ثمانية ملوك لكن الله سيقيم لشعبه المختار ملوكًا بالرغم من عدم تحقق الوعد حتى تلك اللحظات[14].

يسأل البعض: إن كان موسى النبي هو واضع هذه الأسفار فلماذا صمت عن ذكر اسم الأميرة التي انتشلته من الماء، واسم فرعون الذي ضايقه، وعن موت زوجته صفوره، وعن اسم زوجته الكوشية، وكيف يشير إلى نفسه كإنسان وديع؟ يُجاب علي ذلك بأن صمته عن ذكر اسمي الأميرة وفرعون أمر طبيعي، إذ كانا معروفين لمعاصري موسى النبي، ولو كان الكاتب في عصر متأخر عن موسى لالتزم بذكر الاسمين حسب التقليد المتداول بين اليهود. أما صمته عن موت زوجته الأولي صفوره واقتضاب حديثه عن الزوجة الكوشية وعدم ذكر اسمها، فإن النبي لم يرد الاسترسال في ذلك لأن الزواج الثاني غير مستحب واكتفي بالإشارة إليه بكونه رمزًا لدخول الأمم إلى الإيمان ممثلين في الكوشية. أما عن دعوة نفسه أنه وديع فلم يكتب علي سبيل الافتخار إنما ألزمه الوحي بذلك ليعلن بطريقة غير مباشرة أن المؤهل الرئيسي في القيادة الروحية السليمة هو الوداعة. وأننا نري المرتل أيضًا يدعو نفسه وديعًا (مز 9: 13، 14؛ 10: 17). إن كان رجل الله موسى لم يحذف أخطاؤه ولا قلل من شأنها ذاكرًا تأديبات الله له حتى حُرم من التمتع بالدخول إلى أرض الموعد فمن الإنصاف أن يبرز الوحي الجوانب الصالحة التي وهبه الله إياها.

<<

3

محتويات الأسفار الخمسة

عرضت لنا هذه الأسفار المقدسة حديثًا تاريخيًا ممتزجًا بالعقيدة يكشف عن خطة الله من جهة الإنسان، فكشفت عن الله كخالق للإنسان، يهتم بكل أموره الروحية والنفسية والجسدية. أقامه صاحب سلطان، لكنه إذ حرم نفسه بنفسه من هذا المركز الفريد اهتم الله بخلاصه فاختار الآباء البطاركة كتهيئة لاختيار شعبه ومساندتهم بكل إمكانية حتى ينطلق بهم من أرض العبودية ويرافقهم في البرية ويعولهم ماديًا ويهتم بتقديم شرائع مقدسة، حتى ينطلق بهم تحت قيادة موسى النبي إلى جبل موآب حيث يقف علي شاطئ نهر الأردن ويسلمهم لقائد جديد هو يشوع رمز يسوع المسيح واهب الميراث.

أولاً: الخليقة كمقدمة لتاريخ الخلاص          التكوين  1-11.

ثانيًا: اختيار البطاركة كتهيئة لاختيار شعبه              12-50.

v     إبراهيم.                                        12-25.

v     إسحق.                                         25-26.

v     يعقوب.                                         26-36.

v     يوسف.                                        37-50.

ثالثًا: اختيار شعبه وتحريره من العبودية       الخروج  1-18.

رابعًا: مساندته لشعبه                                             19-24.

v     بتقديم الشريعة والدخول معهم في عهد.        19-24.

v     بقبوله إقامة مقدس له في وسطهم وكهنة له. 25-31.

v     بتجديد اللوحين حتى بعد انتهاكهم المقدسات.   32-34.

v     بإقامة المقدس.                                35-40.

v     بطلبه ذبائح بطقوس متنوعة.         اللاويين  1-7.

v     بسيامة هرون وبنيه.                          8-10.

v     بالتطهير الناموسي.                            11-16.

v     بالقداسة الموسوية.                            17-26.

v     بقبوله نذورهم وعشورهم.                     27.

خامسًا: اهتمامه بشعبه في البرية

v      إحصاء الشعب وتدبير إقامتهم.         العدد  1-10.

v     الرحلة من سيناء إلى موآب          .                   11-22.

v     أحداث موآب.                                  23-36.

سادسًا: علي جبل موآب

v     موسى يستعيد الأحداث.                 التثنية  1-4: 33.

v     شرح معني العهد.                              4: 34-11.

v     الشريعة.                                       12-26.

v     البركات واللعنات.                              27-30.

v     اختيار يشوع.                                  31.

v     تسبحة النصرة.                                32.

v     مباركة الأسباط.                                33.

v     موت موسى ودفنه.                            34.

<<

مقدمة في التكوين

اسم السفر:

يُدعي في العبرية "بي راشيت" وهي الكلمة العبرية الأولي من السفر نفسه وتعني (في البدء)، أما تسميته "التكوين" فمترجمة عن السبعينية وتعني (الأصل) أو (بداية الأمور).

كاتبة:

موسى النبي، يظن أنه كتبه في مديان عندما كان يرعى غنم حميه يثرون، والأرجح أنه كتبه بعد استلامه لوحي الشريعة. وقد تعلم الكتابة من المصريين الذين تثقف بحكمتهم، وإن كان الذي علّم التلاميذ اللغات يوم الخمسين قادر أن يعلم موسى الكتابة.

غايته وسماته:

1. شغل موضوع الخلقية العالم القديم بكل دياناته وفلسفاته وأدبه الشعبي وكان يحمل مزيجًا من الأساطير والخرافات، لذا التزم موسى أن يسجل في شيء من البساطة التي يمكن أن يفهمها حتى الرجل العامي في شرحه للخليقة بعيدة كل البعد عن الخزعبلات القديمة. ومما يجدر ملاحظته أنه لم يقدم "لاهوتًا خاصًا بالخلق Ktisiology" إنما حدثنا عن الخلق كطريق لتفهم عمل الله الخلاصي. فالوحي الإلهي لم يهدف إلى عرض لاهوتيات وفلسفات خاصة بالخليقة وإنما أراد أن يدخل بنا إلى الخالق الذي يهتم بتجديد الخليقة بعد فسادها. وكما يقول أحد الدارسين: (في إسرائيل كان علم اللاهوت الخاص بالخليقة Ktisiology يعتبر ثانويًا معتمدًا علي علم اللاهوت الخاص بالخلاص Soteriology)[15].

يري القديس ديديموس الضرير في تفسيره لسفر التكوين أن غاية الوحي الإلهي من الحديث عن الخلق هو تصحيح الأفكار الخاطئة التي تسربت إلى إسرائيل في هذا الشأن من العبادات الوثنية المصرية. أما القديس باسيليوس فيؤكد أن عمل الكنيسة ليس دراسة طبيعة المخلوقات (أي الدراسات الفلسفية العقلية الجافة) وإنما النظر في أعمالها ونفعها[16]، وان موسى النبي كتب في بساطة ليؤكد بعض الحقائق التي شوهها بعض الفلاسفة الملحدين، فأكد أن العالم ليس وليد الصدفة[17]، وإنما هو عمل خالق ماهر، وانه ليس أزليًا مع الله ولا يشاركه أبديته إنما له بداية ونهاية[18].

2. أبرز هذا السفر جانبًا هامًا يمس علاقتنا بالله. فالإنسان في نظر الله ليس مجرد خليقة وسط ملايين من المخلوقات الأرضية والسماوية لكنه كائن فريد يحمل السمة الأرضية في الجسد والسماوية في الروح. له تقديره الخاص في عيني الله. وهبة الله الإرادة الحرة التي تميز بها عن سائر المخلوقات الأرضية، فالأرض بكل جبروتها والكواكب بكل عظمتها تسير حسب قوانين طبيعية موضوعة لها، والحيوانات تسلك حسب غريزة طبيعية، أما الإنسان فالكائن الحرّ له أن يختار الطريق ويسلك حسبما يقرر.

من أجل هذا خلق الله الإنسان سيدًا علي الأرض، ومتسلطًا علي كل ما عليها وما تحتها، ما في البحار وما في الهواء... حتى علي الفضاء! لقد وهبه صورته ومثاله وأقامه كسفير له.

وتبرز نظرة الله لنا واعتزازه بنا من شوقه أن ينسب نفسه إلينا متي تأهلنا لذلك، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب... يود أن يكون إلهًا خاصًا بكل ابن له.

3. أبرز هذا السفر أبوة الله الفائقة للإنسان، فلم يخلقه أسيرًا كما تخيلته بعض الفلسفات المعاصرة، ولا أقامه في مذلة يتحكم فيه كيفما أراد، وإنما أقامه ابنًا محبوبًا لديه، من أجله خلق المسكونة وقد هيأ له الأمجاد الأبدية ليرفعه إلى حيث يوجد الله أبوه ليعيش الإنسان شريكًا في المجد، متنعمًا بالأبوة الفائقة. قيل عن أحدهم أنه إذ كان يحتضر تبسم بفرح وهو يخاطب الله: "هل أنت خلقت العالم لأجلي، أم أنا الذي جبلته؟ الآن أستطيع أن أقول انك قادر أن تشبعني وترعاني!". هذا ما هدف إليه سفر التكوين: يقدم لنا الله الخالق للعالم المادي ومؤسس العالم الروحي. في أبوته الحانية خلق من أجلي السماء والأرض الماديتين لينطلق بي إلى مجيئه الأخير لأنعم بالسماء الجديدة والأرض الجديدة علي مستوي ملائكي أبدي!

 4. يري البعض في هذا السفر أنه أهم أسفار الكتاب المقدس، إن صح التعبير. إذ يضع الأساس لكل إعلان، يفتح لنا الباب لإدراك المفاهيم اللاهوتية السليمة، فيعرفنا عن الله وعلاقته، ووصيته الإلهية وعملها في حياتنا. حدثنا عن الأسرة البشرية في الرب كيف انطلق من خلق الإنسان إلى تكوين أسرة مقدسة، فعشيرة ثم شعب لله. كشف لنا عن مفهوم الزواج والحياة الأسرية، كما عرفنا علاقتنا بالجسد والخليقة غير العاقلة. فضح عدو الخير وأعلن خططه المهلكة وشهوته من جهة هلاك الإنسان. أخيرًا يضع السفر الأساس لتاريخ الخلاص والنبوة الخ...

 5. الله في حبه للإنسان قدم أسراره له - قدر ما يحتمل - لا للمعرفة العقلية الجامدة وإنما ليدخل معه في صداقة أبدية، وكأنه بالصديق الذي يفتح خزائن قلبه لصديقه حتى يدخل به من يوم إلى يوم إلى أعماق جديدة في الصداقة. فإن حدثنا الرب عن ألقابه الإلهية مثلاً إنما لكي نتعرف عليه خلال هذه الألقاب وننعم بعمله معنا وفينا. فلا نجد في السفر كتابات فلسفية نظرية ومبادئ جامدة وقوانين حرفية، لكننا نري الله متجليًا كصديق، فيتمشى صوته عند هبوب ريح النهار في الجنة ليلتقي بالإنسان الساقط، وفي الحقل يحاج قايين القاتل، وعند ثورة بابل ينزل ليري ماذا يفعل الإنسان، وفي وقت الظهيرة يتقبل مع ملاكيه ضيافة إبراهيم، وفي الطريق يلتقي مع يعقوب في صراع ليحطم اعتداده بذاته...

6. إذ أفسدت الخطية عيني الإنسان وأفقدته القدرة علي اللقاء مع صديقه الأعظم قدم لنا هذا السفر منهج العبادة لله بكونه يحمل شقين متلازمين: الذبيحة لأجل المصالحة والسلوك الحيّ لحمل سمات الله فينا... وهكذا عرفنا هذا السفر مفهوم العبادة كسر مصالحة مع الله خلال الذبيحة وحياة معه خلال شركة الحب العامل.

7. يمكننا القول بأن الكتاب المقدس كله جاء ليكشف ما ورد في هذا السفر عن حديث الله للحية: "وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يستحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (3: 15). فالكتاب المقدس إنما يعلن الصراع المرّ بين عدو الخير والإنسان الذي ينتهي بنصرة الإنسان خلال ذبيحة السيد المسيح (نسل المرأة) وإن كان البعض يهلك إذ يصير كعقب ينزل إلى التراب لتسحقه الحية وتبتلعه.

8. في عرضه لحياة الآباء البطاركة لم يقدم لنا السفر قصصًا مجردة لحياتهم إنما قدم معاملات الله معهم، مظهرًا أن كل تحرك في حياتهم وكل تصرف مهما بدا تافهًا يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية... بمعني أنه يستخدم أولاده في كل تصرفاتهم كالات برّ تعمل لحساب ملكوته في حياتهم الخاصة وفي حياة الجماعة. لكن ما أوضحه السفر هو تأكيد جانبين: الأول أن الله عامل في أولاده لكن ليس بدونهم، فإبراهيم ما كان يبقي إبراهيمًا بكل ما حمله من نعم وكرامات كأب الآباء بدون إبراهيم نفسه. الله يكرم الحرية الإنسانية ويقدسها، فيتعامل معنا علي مستوي الصداقة كما مع نِد - إن صح هذا التعبير - وليس كما مع آلات جامدة يحركها بطريقة آلية جامدة. أما الجانب الآخر فهو إبرازه لبطولات رائعة ومتنوعة كإبراهيم خليل الله ويعقوب مغتصب البكورية وسارة الزوجة المثالية... لكن خلال الواقع البشري العملي، فلم تخلُ حياة بطل من ضعف بشري. صوّرهم كما هم دون أن يطفي عليهم مسحه العصمة من الخطأ أو الضعف.

9. يبدأ هذا السفر بالحديث عن عمل الله كخالق، يوجد الحياة من العدم، لكنه ينتهي بيوسف في أكفانه بمصر (50: 26). فما أقامه الله من حياة أفسده الإنسان بشِره، إذ دخل بنفسه (الإنسان الحيّ) إلى أكفان الظلمة والدنس ليدفن في مصر. والعجيب أن السفر ينتهي بالدفن في مصر بالذات التي عرفت بالأهرامات وأبي الهول وفن التحنيط الذي لا يزال موضع بحث العلماء حتى يومنا هذا... وكأن الإنسان بفنه وقدراته وأعماله المجيدة مهما بلغت لا تقدر أن تخلصه من الأكفان. إنه يدفن في مصر حتى يأتي إليها المسّيا المخلص قادمًا علي سحابة خفيفة يقيمه من الأكفان ويحرره من ظلمة القبر.

كأن السفر يختتم بانتظار المؤمنين للمسيّا المخلص لينزل إليهم ويقيمهم من أكفانهم.

10. من جهة الأسلوب، سجله موسى النبي نثرًا لا شعرًا، بطريقة تاريخية، ليقدم لنا الحق في بساطة ووضوح بعيدًا عن الأساطير التي ملأت العالم في ذلك الحين.

النبوات في سفر التكوين:

يقدم لنا سفر التكوين بداية النبوات الخاصة بمجيء السيد المسيح كمخلص العالم، فقد وعد الله الإنسان بعد السقوط مباشرة أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (3: 15)، ولم يقل نسل الرجل لأن السيد المسيح جاء متجسدًا في أحشاء القديسة العذراء مريم بغير زرع بشر، هذا الذي سحق رأس الحية القديمة أي إبليس (رؤ 20: 2؛ رو 6: 20؛ 1 يو 3: 8).

لم يترك تحقيق الوعد عامًا بل خصص أنه يتحقق من نسل إبراهيم: "وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك 22: 18؛ أع 2: 25، غل 3: 16)، وأوضح يعقوب أنه يأتي من سبط يهوذا، قائلاً: "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تك 49؛ مت 2: 26؛ لو 1: 32، 33).

الرموز في سفر التكوين:

إن كان السيد المسيح كمخلص للعالم هو مركز الكتاب المقدس بعهديه، فقد قدم لنا هذا السفر الكثير عن المخلص لا خلال النبوات الصريحة فحسب وإنما خلال الرموز الكثيرة التي نتحدث عنها في شيء من التفصيل في مواضعها، وأهمها:

1. شجرة الحياة في وسط الجنة (تك 3: 22) تشير إلى السيد المسيح الذي يعلن ملكوته داخل القلب كشجرة حياة وسط الجنة التي تفرح قلب الآب كما تفرح قلبنا. إنه الشجرة واهبة الحياة للعالم كله (يو 3: 36).

2. بدأت العبادة بعد السقوط بتقديم ذبائح دموية إشارة إلى دم السيد المسيح بكونه الذبيحة الفريدة، به تُقبل عبادتنا رائحة سرور للآب وموضع رضاه.

3. فلك نوح والطوفان كرمز للسيد المسيح واهب التجديد للعالم لا خلال مياه الطوفان بل مياه المعمودية، أما فلكه الخشبي فهو الصليب الذي احتضن المؤمنين وحفظهم من الهلاك (1 بط 2: 20، 21).

4. تقدمة ملكي صادق (تك 14: 18-20) كرمز لذبيحة السيد المسيح في العهد الجديد خلال الخبز والخمر المتحولين إلى جسده ودمه واهبين التقديس (عب 8: 5-8).

5. طاعة إسحق لأبيه إبراهيم حاملاً الحطب مقدمًا نفسه حتى الموت (تك 22)، تعلن عن طاعة الابن المتجسد لأبيه حاملاً خشبة الصليب. (في 2: 8).

6. تحقيق الزيجات عند المياه بجوار الآبار كاختيار رفقه وراحيل إشارة إلى اختيار الكنيسة كعروس السيد المسيح خلال مياه المعمودية.

7. السلم الذي رآه يعقوب متصلاً من الأرض إلى السماء (تك 28: 12) والملائكة صاعدون ونازلون إشارة إلى صليب ربنا يسوع الذي فيه تمت مصالحة السماء مع الأرض (2 كو 5: 18؛ أف 2: 16؛ كو 1: 20، 21)، أما الملائكة الصاعدون فهي الكنيسة المقدسة المرتفعة به إلى حضن أبيه، أما النازلون فهم جماعة اليهود الذين رفضوه فنزلوا إلى الهاوية خلال جحودهم للصليب.

8. جاءت حياة يوسف غني يفيض بالرموز من جهة السيد المسيح جوانب متعددة منها:

أ. كان يوسف الابن المحبوب لدي أبيه، والسيد المسيح الابن الوحيد موضع سرور الآب.

ب. قدم له أبوه قميصًا ملونًا، وكأنه بالآب يقدم للابن كنيسة العهد المتباينة المواهب.

ج. نزول يوسف لافتقاد أخوته إنما يعلن نزول الكلمة الإلهي إلينا ليفتقدنا كأخوة له.

د. إلقاء يوسف في الجب وبيعه يرمزان لنزول السيد المسيح إلى الجحيم وخيانة يهوذا له.

هـ. سقوطه تحت العبودية في مصر بلا ذنب سوي كراهية أخوته له يعلن عن السيد المسيح وقد صار من أجلنا عبدًا.

ز. ترك الثياب في يدي المصرية إشارة إلى ترك الأكفان في القبر دون أن يمسك به الموت أو يحجبه عن القيامة التي هي فيه.

ح. لقاؤه في السجن مع رئيس السقاة الذي يخرج من السجن الخباز الذي يحكم عليه بالموت يشير إلى قيامته وموته.

ط. إنقاذه حياة أخوته إشارة إلى السيد المسيح الممجد مخلص البشرية وواهبها الحياة.

سفر التكوين والكتاب المقدس:

سفر التكوين كأول سفر في الكتاب المقدس يعتبر المدخل الحيّ لفهم كلمة الله، قدم لنا الخطوط العريضة التي تكشفت وتحققت في الأسفار التالية. ففي سفر التكوين إذ يعلن الله محبته للإنسان خلال الخليقة يبقي الله متحدثًا عن محبته خلال تجديد الخليقة حتى تظهر الأرض الجديدة والسماء الجديدة في سفر الرؤيا.

في سفر التكوين كانت الدعوة لإبراهيم أن يرث أولاده الملكوت، وفي العهد الجديد ظهر الملكوت معلنًا في أولاد إبراهيم... حتى يمكننا القول مع القديس أغسطينوس: [في العهد الجديد وحده ينكشف القديم، ويختفي العهد الجديد في القديم].

في سفر التكوين نتلمس شخصية ربنا يسوع المسيح كمخلص معلنة خلال نبوات صريحة ورموز كثيرة، ويبقي السيد المسيح كعصب الأسفار لنراه "هو هو أمس واليوم وإلى الأبد"، جاء ليخلص الخطاة ويعد بمجيئه الأخير ليضمنا إلى مجده كعروس مقدسة له.

أقسامه:

أولاً- التاريخ البدائي:

1. خلقة العالم وسقوط الإنسان.               ص 1-3.

2. قتل هابيل.                                      4.

3. نوح وتجديد العالم.                             5-10.

4. برج بابل.                                      11.

ثانيًا- البطاركة الأولون:

1. إبراهيم.                                        12-25.

2. إسحق.                                         21-27.

3. يعقوب.                                         25-36.

4. يوسف.                                         37-50.

<<

الباب الأول 

التاريخ البدائي

ص 1- ص 11

<<

الأصحاح الأول

 خلقة العالم

افتتح الوحيّ الكتاب المقدس بإعلان الله كخالق، هيأ كل شيء من أجل الإنسان، وانطلق به خلال الحب حتى يدخل به في النهاية إلي ملكوته الأبدي يتمتع بالأمجاد الأبدية.

مقدمة

1. الله الخالق                                  1.

2. روح الله والمياه                            2.

3. اليوم الأول: انطلاق النور                  3-5.

4. اليوم الثاني: الجلد                          6-8.

5. اليوم الثالث: إنبات الأرض                 9-13.

6. اليوم الرابع: الأنوار                        14-19.

7. اليوم الخامس: الزحافات والطيور          20-23.

8. اليوم السادس: الحيوان والإنسان           24-31.

مقدمة:

أود في دراستنا هنا الالتزام بروح الكنيسة التي تتطلع إلي الكتاب المقدس لا ككتاب علمي أو فلسفي وإنما كسرّ حياة مع الله يتمتع بها الإنسان ويعيشها، ولهذا عندما كتب القديس باسيليوس الكبير مقالاته عن أيام الخليقة الستة Hexaemeron أوضح أن عمل الكنيسة ليس البحث عن طبيعة الأشياء والمخلوقات وإنما دراسة عملها ونفعها. وكما أعلن القديس أغسطينوس: [كثير عليك إدراك كيف خلق الله هذه الأشياء، فقد خلقك أنت أيضًا لكي تطيعه كعبد وعندئذ تفهم كصديق له[19]]. وكأننا كخليقة الله نقبل عمله بفرح كعبيد وإذ يهبنا فهمًا وحكمة وإدراكًا لأسراره نعيش معه كأصدقاء وأحياء له.

نستطيع في إيجاز أن نقدم الملاحظات التالية عن حديث سفر التكوين عن الخليقة:

أ. قدم لنا السفر أحداث الخلق بطريقة مبسطة وصادقة، يفهمها الإنسان البسيط ويفرح بها ويجد العالم أيضًا فيها أعماقًا...

ب. حاول كثير من الدارسين الغربيين تأكيد أن ما ورد في سفر التكوين لا يتنافى مع الحقائق العلمية حسب الفكر الحديث، ورأي البعض أن ما ورد من تسلسل في الخليقة كما جاء في التكوين يطابق الفكر الخاص بتطور الخليقة بدقة بالغة... وقد صدرت أبحاث كثيرة في هذا الشأن كتب بعضها علماء ورعون، لكنني لست أود الدخول في تفاصيل تبعد بنا عن تفسير كلمة الله. وقد سبق فأصدرت كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج بحثًا مبسطًا للأستاذ الدكتور يوسف رياض، أستاذ بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، تحت عنوان: "التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس"، تعرض لهذا الموضوع في شيء من البساطة والإيجاز، كما قدمت أسقفية الشباب كتيبًا عن: "ستة أيام الخليقة" للدكتور فوزي إلياس.

ج. يلاحظ في كلمة "يوم" في الأصحاح الأول من سفر التكوين أنها لا تعني يومًا زمنيًا يُحصر في 24 ساعة، إنما تعني حقبة زمنية قد تطول إلي ملايين السنوات، فالشمس والقمر وبقية الكواكب لم تكن بعد قد خُلقت حتى الحقبة الزمنية الرابعة، وبالتالي لم يكن يوجد من قبل زمن مثل الذي نخضع له الآن، كما لم يكن للعالم نهار وليل بالمعنى المادي الملموس. هذا ما أكده كثير من الآباء منهم القديس جيروم[20]. وحتى بعد الخليقة كثيرًا ما يتحدث الكتاب المقدس عن "اليوم" بمفهوم أوسع من اليوم الزمني، من ذلك قول المرتل: "لأن يومًا في ديارك خير من ألف" (مز 84: 10؛ راجع مز 90: 4، 2 بط 3: 8).

لقد جاءت كلمة "يوم" في الكتاب المقدس بمفاهيم كثيرة، فأحيانًا يقصد بها الأزل حيث لا توجد بداية، كقول الآب للابن: "أنت ابني أنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7؛ أع 13: 32؛ عب 1: 5)، كما قيل عن الله: "القديم الأيام" (دا 7: 9) بمعني الأزلي. وجاء عن "اليوم" بمعني الأبدية التي فوق الزمن كالقول: "يوم الرب" (أع 2: 20)، أي مجيئه الأخير حيث ينتهي الزمن، كما قيل عن السيد المسيح: "ربنا يسوع المسيح له المجد الآن وإلي يوم الدهر" (2 بط 3: 18)...

د. ربما يعترض البعض علي ما ورد في سفر التكوين بخصوص خلق الإنسان الأول، فقد اثبت الحفريات بطريقة قاطعة وجود عظام إنسان منذ أكثر من مليون سنة كما وجدت نقوش قديمة عن أيام آدم... فبماذا نعلل هذا؟

أولاً: بحسبة رياضية بسيطة نجد أن سكان العالم حاليًا لا يمكن أن يكون ثمر أكثر من 6000 عامًا بافتراض أن كل عائلة تنجب حوالي 3 أطفال، هذا مع خصم نسبة مرتفعة من الموتى بسبب الموت الطبيعي والكوارث الطبيعية والحروب... لو أن تاريخ الإنسان يرجع إلي مليون سنة، فإن الإنسان الواحد في مليون سنة ينجب نسلاً لا تكفي آلاف مضاعفة من مساحة الأرض لوجودهم.

ثانيًا: قلنا أن كل حقبة زمنية يمكن أن تكون عدة ملايين من السنوات، فغالبًا ما تكون هذه العظام لحيوانات ثديية حملت شكل الإنسان ولها أيضًا قدرات لكن ليس لها النسمة التي من فم الله التي تميز بها آدم وحواء. هذه الكائنات لا تحسب بشرًا حتى إن حملت شيئًا من التشابه.

هـ. إن كان هذا السفر يقدم لنا فصلاً مختصرًا للغاية عن عمل الله في بدء الخليقة، فإن الله الذي كان يعمل ليقدم لنا العالم لخدمتنا يبقي عاملاً خلاقًا في حياتنا بلا انقطاع. ما سبق ففعله لا يتوقف، إذ يبقي الله نفسه يعمل في حياة الإنسان ليجعل من أعماقه سماءً جديدة وأرضًا جديدة يسكنها البر. وفي هذا يقول السيد المسيح: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). لهذا ففي تفسيرنا هذا نود أن نتلمس عمل الله المستمر في حياتنا الداخلية ليخلق فينا بلا انقطاع مجددًا أعماقنا. وإنني أرجو في المسيح يسوع ربنا أن أقدم التفسير الروحي جنبًا إلي جنب مع التفسير التاريخي أو الحرفي.

١. الله الخالق:

بدأ سفر التكوين بهذه الافتتاحية البسيطة: "في البدء خلق الله السموات والأرض" [١].

إن كان التعبير "في البدء" لا يعني زمنًا معينًا، إذ لم يكن الزمن قد أوجد بعد، حيث لم تكن توجد الكواكب بنظمها الدقيقة، لكنه يعني أن العالم المادي له بداية وليس كما أدعي بعض الفلاسفة أنه أزلي، يشارك الله أزليته. هذا ما أكده القديس باسيليوس في كتابه "الهكساميرون" أي "ستة أيام الخليقة"، إذ يقول أن تعبير "في البدء" لا يعني زمنًا وإلاَّ كان للبدء بداية ونهاية، وهكذا تكون لهذه البداية بداية وندخل في سلسلة لانهائية من البدايات، لكن "البدء" هنا يعني حركة أولي لا كّمًا زمنيًا، وذلك كالقول: "بدء الحكمة مخافة الله" (أم 9: 10)[21]. كما يقول: [لا تظن يا إنسان أن العالم المنظور بلا بداية لمجرد أن الأجسام السماوية تتحرك في فلك دائري ويصعب علي حواسنا تحديد نقطة البداية، أي متي تبدأ الحركة الدائرية، فتظن أنها بطبيعتها بلا بداية[22]]، ويقول: [الذي بدأ بزمن ينتهي أيضًا في زمن[23]]. هنا لا يعني وجود زمن في بداية الحركة للعمل إنما يؤكد انتزاع فكرة الأزلية، فمع عدم وجود زمن لكنه وجدت بداية قبلها إذ كان العالم عدمًا. وقد جاء العلم يؤكد عدم أزلية المادة[24].

ويأخذ كثير من الآباء بجانب هذا التفسير الحرفي أو التاريخي "في البدء" التفسير الرمزي أو الروحي، فيرون أنه يعني "في المسيح يسوع" أو "في كلمة الله" خُلقت السموات والأرض، وفيما يلي بعض كلمات الآباء في هذا الشأن:

v     الابن نفسه هو البدء. فعندما سأله اليهود: من أنت؟ أجابهم: "أنا هو البدء" (يو 8: 25). هكذا في البدء خلق الله السموات والأرض.                

القديس أغسطينوس[25]

v     من هو بدء كل شيء إلاَّ ربنا ومخلص جميع الناس (1 تي 4: 10) يسوع المسيح، "بكر كل الخليقة" (كو 1: 15)؟ ففي هذا البدء، أي في كلمته "خلق الله السموات والأرض"، وكما يقول الإنجيلي يوحنا في بداية إنجيله: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 1-3). فالكتاب لا يتحدث عن بداية زمنية، إنما عن هذه البداية التي هي المخلص، إذ به صُنعت السموات والأرض.          

العلامة أوريجينوس[26]

v      يفكر البعض أن "البدء" هو زمن، لكن من يتعمق في كلمة "البدء" يجد أنها لا تحمل معني واحدًا بل أكثر من معنى. فأحيانًا تعني العلة، فيكون المعنى هنا  أن السموات والأرض متواجدة في العلة... بالحقيقة كل شيء صنعها الكلمة؛ ففي المسيح يسوع خُلق كل ما علي الأرض وما في السماء، الأمور المنظورة وغير المنظورة.           

 القديس ديديموس الضرير[27]

في اختصار نقول أن الله خلق العالم في بداية معينة ولم يكن العالم شريكًا معه في الأزلية، ومن جانب آخر فإن كلمة الله هو البدء الذي بلا بداية خالق الكل!

"في البدء خلق ألوهيم السموات والأرض" [١].

جاءت كلمة "ألوهيم" بالجمع، أما الفعل "خلق" فمفرد، فالخالق هو الثالوث القدوس، الواحد في جوهره وطبيعته ولاهوته.

أكّد موسى النبي أن الله هو الخالق، نازعًا عن شعبه الأساطير الكثيرة التي ملأت العالم في ذلك الحين حول موضوع الخلق، كما نزع عنهم فكرة بعض الفلاسفة القائلين بأن العالم وليد ذاته جاء محض الصدفة، وقد تحدث الأستاذ الدكتور يوسف رياض في هذا الشأن[28].

أخيرًا فإنه يقول "خلق ألوهيم السموات والأرض"، إذ خلقْ السمائيين أولاً بكل طغماتهم وبعد ذلك الأرض وكل ما يخصها.

إن كانت السموات تشير للنفس البشرية التي يتقبلها الله مسكنًا له، أو سموات له، والجسد بتقديسه يكون أرضًا مقدسة، ففي المسيح يسوع نتمتع بهذه السموات والأرض، أي ننعم بنفس هي هيكل للرب وجسد مقدس لحساب مملكته.

٢. روح الله والمياه[29]:

"وكانت الأرض خربة وخالية، وعلي وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف علي وجه المياه" [٢].

قيل عن الأرض إنها كانت "خربة وخاوية"، وفي الترجمة السبعينية: "غير منظورة وغير كاملة"، ويعلل القديس باسيليوس الكبير أنها غير منظورة لعدم خلق للإنسان بعد لكي يراها، ولأن المياه كانت تغطيها تمامًا، أو لأن النور لم يكن بعد قد أشرق عليها فكان الجو غامضًا. أما كونها "غير كاملة" فبسبب عدم قدرتها علي الإنبات[30].

علي أي الأحوال إن كان الوحي قد أعلن أن الآب خلق السموات والأرض بكلمته [١]، فهنا يكشف عن دور الروح القدس الذي كان يرف علي وجه المياه ليخلق من الأرض الخربة والخاوية عالمًا صالحًا جميلاً. ولا يزال الروح القدس إلي يومنا هذا يحل علي مياه المعمودية ليقدسها فيقيم من الإنسان الذي أفسدته الخطية وجعلت منه أرضًا خربة وخاوية، غير منظورة لحرمانها من إشراقات الله وغير كاملة... سموات جديدة وأرضًا جديدة، أي يهبنا الميلاد الجديد فيه ننعم بنفس مقدسة علي صورة الله خالقنا وجسد مقدس أعضاؤه آلات برّ لله. نقتطف هنا بعض كلمات الآباء في هذا الشأن:

v     لقد أنجبت المياه الأولي حياة، فلا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة... كان روح الله محمولاً علي المياه، هذا الذي يعيد خلق من يعتمد. كان القدوس محمولاً علي المياه المقدسة، أو بالأحرى علي المياه التي تتقبل منه القداسة. بهذا تقدست المياه وتقبلت إمكانية التقديس. هذا هو السبب الذي لأجله إذ كانت المياه هي العنصر الأول لموضوع الخلق حصلت علي سر التقديس خلال التوسل لله[31].

العلامة ترتليان

v     تتم الخليقة الجديدة بواسطة الماء والروح وذلك كخلق العالم، إذ كان روح الله يرف علي المياه[32].

القديس أكليمنضس الإسكندري

v     المياه هي بدء العالم، والأردن هو بدء الإنجيل[33].

القديس كيرلس الأورشليمي

v     إن كانت المعمودية في ذلك اليوم قد سبق فأُعلنت خلال الظل، فإنه لم تكن هناك معمودية حقيقية أكيدة بدون الروح[34].

القديس جيروم

أما عن تعبير "يرف" فيقول القديس باسيليوس: [أن أحد السريان يري أنه الكلمة السريانية قادرة علي إعطاء معني أكثر من العبرية، فهي تترجم بمعني يحتضن، وكأن الروح يُشبه طائرًا يحتضن بيضًا ليهبه حياة خلال دفئه الذاتي[35]]. ويري القديس أمبروسيوس أن حركة الروح هنا علي وجه المياه إنما هي حركة حب مستمر لعمل خلاّق في حياة الإنسان، إذ يقول: [كيف يمكن لذاك الذي كان يتحرك قبل خلق الأرض أن يتوقف عن حركته بعد أن أوجدها؟‍![36]].

٣. اليوم الأول: انطلاق النور...

أول عمل يقدمه الله هو انطلاق النور: "وقال: ليكن نور، فكان نور، ورأي الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلاً، وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا" [3– 5].

ويلاحظ في هذا النص:

أولاً: إلي سنوات قليلة كان بعض العلماء يتعثرون في هذه العبارة قائلين كيف ينطلق النور في الحقبة الأولي قبل وجود الشمس، إذ كان الفكر العلمي السائد أن النور مصدره الشمس، لكن جاءت الأبحاث الحديثة تؤكد أن النور في مادته يسبق وجود الشمس، لهذا ظهر سمو الكتاب المقدس ووحيه الإلهي، إذ سجل لنا النور في الحقبة الأولي قبل خلق الشمس، الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد.

في اختصار يمكن القول بأن الرأي العلمي السائد حاليًا أن مجموعتنا الشمسية نشأت عن سديم لولبي مظلم منتشر في الفضاء الكوني انتشارًا واسعًا (السديم هو سحابة من الغازات الموجودة بين النجوم). ولذلك فمادة السديم خفيفة جدًا في حالة تخلخل كامل، لكن ذرات السديم المتباعدة تتحرك باستمرار حول نقطة للجاذبية في مركز السديم، وباستمرار الحركة ينكمش السديم فتزداد كثافته تدريجًا نحو المركز، وبالتالي يزداد تصادم الذرات المكونة له بسرعة عظيمة يؤدي إلي رفع حرارة السديم. وباستمرار ارتفاع الحرارة يصبح الإشعاع الصادر من السديم إشعاعًا مرئيًا، فتبدأ الأنوار في الظهور لأول مرة ولكنها أنوار ضئيلة خافتة. هكذا ظهر النور لأول مرة قبل تكوين الشمس بصورتها الحالية التي تحققت في الحقبة الرابعة (اليوم الرابع)... لقد ظهر النور حينما كانت الشمس في حالتها السديمية الأولي، أي قبل تكوينها الكامل.

والعجيب أن كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع جاءت مطابقة لاكتشافات القرن العشرين، إذ قال: [نور الشمس التي كانت في اليوم الأول عارية من الصورة وتصورت في اليوم الرابع للخليقة[37]].

ربما حمل القديس أغسطينوس نفس الفكر حينما قال إن النور هنا في اليوم الأول ليس بالصادر عن الشمس لكنه ربما يكون نورًا ماديًا يصدر عن أماكن علوية فوق رؤيتنا[38].

ثانيًا: من الجانب الرمزي يري القديس أغسطينوس[39] أن هذا النور خاص بالمدينة السماوية المقدسة التي تضم الملائكة القديسين، وفيها ينعم المؤمنون بالأبدية، هذه التي قال عنها الرسول إنها أورشليم العليا، أمنا الأبدية في السموات (غلا 4: 26)، والتي يكون لنا فيها نصيب، إذ قيل: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة" (1 تس 5: 5). يري القديس أن السمائيين تمتعوا بالنور الذي انطلق في اليوم الأول بمعاينتهم أعمال الله العجيبة خلال كل الحقبات، لكنه متى قورنت معرفتهم للخليقة بمعرفة الله حُسبت معرفتهم مساءً.

يمكننا القول بأن أعمال الله بدأت بانطلاق النور حتى تري الملائكة أعماله فتمجده، وهكذا في بداية الخليقة الجديدة أشرق الرب علينا بنوره الإلهي من القبر المقدس عند قيامته حتى إذ نقوم فيه يعلن مجده فينا. في خلقتنا الجديدة - في مياه المعمودية - ننعم بالنور الإلهي، نور قيامته عاملاً فينا، كأول عمل إلهي في حياتنا، وهذا هو السبب في تسمية المعمودية "سر الاستنارة".

ثالثًا: فصل الله بين النور والظلمة لكي نقبل النور كأبناء للنور وأبناء للنهار ونرفض الظلمة فلا نسقط تحت ليل الجهالة المهلك.

يهبنا الرب النور الداخلي ليبدد الظلمة القديمة، كقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة" (أف 5: 8). يهبنا أيضًا روح التمييز فنفصل بروح الله بين النور والظلمة، فلا نسقط تحت الويل النبوي: "ويل للقائلين للشر خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا، والنور ظلامًا، الجاعلين المر حلوًا والحلو مرًا" (إش 5: 20).

رابعًا: ليست "الظلمة" مادة مخلوقة أوجدها الله، بل هي حرمان من النور، فبظهور النور انفضحت الظلمة وعُرفت. ومع هذا فكما يقول القديس أغسطينوس: [أن الله يأمر النور الذي خلقه والظلمة التي لم يخلقها ويطيعانه[40]].

خامسًا: يري القديس هيبولتيس الروماني أنه [في اليوم الأول خلق الله الأشياء من العدم، أما في الأيام الأخرى فلم يخلق بقية الأشياء من العدم وإنما مما خلقه في اليوم الأول بتشكيله حسب مسرته[41]]. هذا وإن كان كثير من الآباء علق علي عبارة: "قال فكان" بأن الخلق كله خلال المراحل الست قد تم كثمرة للأمر الإلهي، فيقول القديس أمبروسيوس: [لم يخلق الله الأشياء بأدوات وفن، وإنما قال فكان (مز 33: 9)، إذ تكمن قوة العمل في الأمر الإلهي[42]]. ويقول القديس باسيليوس الكبير: [الأمر في ذاته عمل[43]].

سادسًا: يعلق القديس باسيليوس علي العبارة "ورأي الله ذلك (النور) أنه حسن" [٤، ١٢، ١٨، ٢١]... [الله لا يحكم بأن الشيء حسن خلال افتتان العين به ولا لتذوق الفكر لجماله كما نفعل نحن وإنما يراه حسنًا متي كان الشيء كاملاً، مناسبًا لعمله، نافعًا حتى النهاية[44]].

تحدث كثير من الآباء عن صلاح الخليقة... فقد "رأي الله ذلك أنه حسن"، لكن الإنسان بفساده أفسد استخدام الخليقة الصالحة. لذلك إذ جاء السيد المسيح يجدد طبيعتنا الساقطة وكأنه يخلقها من جديد، لا نعود نري في العالم شيئًا شريرًا. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الأشياء التي تبدو فاسدة كتلك التي استخدمت في العبارة الوثنية: [خليقة الله ليست دنسة، فإن كانت قد صارت هكذا فلديك العلاج: اختمها "بعلامة الصليب" وقدم لله شكرًا ومجدًا فيزول عنها الدنس[45]].

سابعًا: يختم حديثه عن اليوم الأول أو الحقبة الأولي بقول: "وكان مساء وكان صباح يوم واحدًا". بدأ بالسماء وختم بالصباح، وفي التقليد اليهودي يبدأ اليوم بالعشية ليليها النهار. فإن كان المساء في نظر القديس أغسطينوس [يشير إلي الجسد القابل للموت، والصباح يشير إلي خدمة البر أو النور فإن المساء يسبق الصباح بمعني أن يكون الجسد خادمًا للبر، لا البر خادمًا لشهوات الجسد[46]]. فإن كنا قد بدأنا حياتنا بالمساء فلننطلق بالروح القدس إلي الصباح فلا نعيش بعد كجسدانيين بل كروحيين.

ثامنًا: إذ نختم حديثنا عن انطلاق النور نورد ما قاله القديس أغسطينوس عنه: [انه قد يشير إلي خلق السمائيين أي الملائكة بطغماتهم فقد خلقوا أولاً، وأن فصل النور عن الظلمة يشير إلي سقوط جماعة من الملائكة بالكبرياء فصاروا ظلمة. ويري القديس أن هذا الفصل تم قبل السقوط بسابق معرفة الله لهم[47]]، وإن كان هذا الرأي غير مستحب، فالله لا يفصل إلا بعد السقوط.

٤. اليوم الثاني: الجلد...

ربما يقصد بالجلد المنطقة التي فوق الأرض مباشرة التي تطير فيها الطيور وليس الفضاء حيث الكواكب. ويمكننا أن ندرك طريقة تحقيق أمر الله إن علمنا أن الأرض كانت في غليان مستمر وبخار فكانت محاطة بغلاف بخاري كثيف. وفي الفترة ما بين الحقبة الأولي والحقبة الثانية أخذت درجة الحرارة تهبط، وبالتالي هدأ البخار وبدأ الجو يصير صحوًا. أما تسمية الجلد "سماء" فذلك من قبيل إطلاق هذه الكلمة علي ما هو سامٍ ومرتفع فوق الأرض[48].

هذا الجلد يفصل ما بين المياه التي من فوق أي السحب، والمياه التي من أسفل أي البحار والمحيطات. وقد حمل هذا الفصل بجانب تحققه الحرفي مفهومًا روحيًا يمس حياة الإنسان. فإن كان الإنسان الروحي يتقبل في البداية انطلاق الإشراقة الإلهية في أعماقه الداخلية، فإنه يليق به أن يحمل الجلد الذي يفصل بين مياه ومياه، فيتقبل مياه الروح القدس العلوية واهبة الحياة (يو 4: 14) ويسمو فوق المياه التي هي أسفل أي في الأعماق والتي يسكنها لويثان الحيّة القديمة والوحش البحري القتال للنفس البشرية (رؤ 12: 7؛ 20: 3) فمن ينعم بالانطلاق في الجلد يميز بين نعمة الروح وخداعات الشرير.

يقول العلامة أوريجينوس: [إذ يرتبط المؤمن بالمياه العليا التي هي فوق في السموات يصير سماويًا، ويطلب الأمور المرتفعة العلوية، فلا يكون له فكر أرضي بل كل ما هو سماوي؛ يطلب ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله (كو 3: 1)، فيستحق التمتع بمديح الله القائل: "رأي الله أنه حسن"[49]].

هاجم القديس أغسطينوس[50] ما قاله العلامة أوريجينوس في كتابه "المبادئ" أن المياه التي فوق هي الأرواح الصالحة التي خلقها الله وبقيت هكذا في صلاحها بسبب التصاقها بالله، وأنها إذ انعزلت عنه صارت منحطة فعاقبها الله بإنزالها إلي العالم وحملها أجسادًا. وكأن العالم الذي نعيشه هو عقوبة أوقعها الله علي ملائكة ساقطين لبسوا جسدًا كتأديب لهم. هذه النظرية رفضها أيضًا القديس أبيفانيوس وعارضها آباء الكنيسة إذ تشوه نظريتنا للعالم، وتدنس الجسد، وتقلل من شأن الإنسان وتوحي بفكرة تناسخ الأرواح.

٥. اليوم الثالث: إنبات الأرض...

نقتطف كلمات الأستاذ الدكتور يوسف رياض بخصوص الخلق: [نجد أن موسى النبي في بداية سفر التكوين قسم أعمال الله علي ست فترات من الزمن منتهيًا بخلق الإنسان، وقال موسى أن النباتات ظهرت أولاً علي شكل نباتات بسيطة وهي العشب، ثم تدرجت الحياة إلى ما هو أكثر تعقيدًا وهو البقل، ثم الشجر، وبعد ذلك ظهر الحيوانات، وواضح أن الحيوانات المائية ظهرت قبل الطيور وهذه ظهرت قبل الإنسان. هذا الترتيب هو نفس الترتيب الذي تضعه علوم الحياة للكائنات الحية. فهل كان موسى علي علم بمعلوماتنا عن الكائنات الحية في القرن العشرين؟ كلا. ربما يقول البعض إن هذا الترتيب جاء نتيجة للمصادفة ولكن الحقيقية أن الله هو الذي أرشده لهذه المعرفة].

كتب موسى أيضًا في سفر التكوين (1: 13): "وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضًا ومجتمع المياه دعاه بحارًا، ورأي الله ذلك أنه حسن".

كتب موسى بأن الله جمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، والمتأمل في خريطة العالم يلاحظ فعلاً أن ذلك صحيح علميًا، وإذ أن جميع المحيطات السبعة لها قاع واحد، إذ هي مشتركة مع بعضها في القاع. ولكن موسى كان حريصًا إذ ذكر البحار منفصلة، لأنه ذكرها بصيغة الجمع "بحارًا". وفي أيام موسى كان البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وربما بعض أجزاء من المحيط الأطلنطي معروفين لدي البشر، وأن المحيطات السبعة المعروفة الآن لدينا لم تكتشف إلاَّ بعد قرون طويلة حين بني الإنسان المراكب الضخمة، فكيف عرف موسى أن البحار مع كونها منفصلة إلاَّ أن قاعًا واحدًا لها! [51]].

يري البعض أنه في هذه الحقبة أمر الله حرارة الأرض أن تهدأ أكثر من ذي قبل مما أدي إلى تقلص القشرة الأرضية وتشققها، فنشأت المجاري العميقة وتكونت الأنهار والبحيرات والبحار. وقد تجمعت البحار والمحيطات معًا في مكان واحد، أما البحار المعزولة الآن فجاءت نتيجة لعوامل طبيعي مختلفة.

والآن إذ نترك التفسير الحرفي أو التاريخي وننطلق إلى التفسير الرمزي أو الروحي، نجد العلامة أوريجينوس يميز بين اليابسة والأرض، فاليابسة وقد غطتها المياه تشير إلى الإنسان وقد غطته الخطية والرذيلة فصار كأرض غارقة في المياه لا تصلح للإثمار، أما إذا انحسرت عنها الخطية فتتحول من يابسة عقيمة إلى أرض قابلة للإثمار تنتج عشبًا وبقلاً وأشجارًا، أي تأتي بثمر روحي ثلاثين وستين ومائة (مت 13: 8). يقول العلامة أوريجينوس: [إن لم ننفصل عن المياه التي هي تحت السماء، أي خطايا جسدنا ورذائله، لا يمكن للأرض أن تظهر في حياتنا، ولا أن نتمتع بالقدرة علي النمو في النور. "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله، وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة" (يو 3: 20، 21). لا توهب لنا هذه الثقة إن لم ننفصل عن مثل هذه المياه، وننزع عنا رذائل الجسد التي هي أساس خطايانا، وإلاَّ يبقي العضو اليابس فينا في يبوسته[52]].

ليتنا إذن نتقبل عمل الله فينا فيحول يابستنا الداخلية إلى أرض مقدسة تقدم ثمار الروح لتبهج الله، لا أن تحمل لعنة وتقدم شوكًا وحسكًا. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن كان البعض لا يزالون يابسين ليس لهم ثمر بل يحملون شوكًا وحسكًا (تك 3: 18)، هؤلاء يحملون "اللعنة التي نهايتها الحريق" (عب 6: 8؛ إش 9: 17، 18)، لكن بالاجتهاد والمثابرة إذ ينفصلون عن مياه الهاوية التي هي طريق الشيطان يظهرون أرضًا خصبة، عندئذ يليق بهم أن يترجوا الرب الذي ينقلهم إلى أرض تفيض عسلاً ولبنًا]. كما يقول: [لنرجع إلى أنفسنا، فإننا أرض، لسنا بعد يابسة! لنقدم للرب ثمارًا كثيرة ومتنوعة لكي نتبارك من الرب بالقول: "رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب" (تك 27: 27). ويتم فينا قول الرسول: "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله، ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق" (عب ٦: ٧، ٨)[53]].

ويري القديس أمبروسيوس[54] في إنبات الأرض علامة علي قيامة الجسد من الموت، فكما تخرج الأرض حياة بأمر الرب، هكذا بأمره يرد الحياة لجسدنا المائت. الطبيعة تطيعه، والعظام اليابسة تطيعه أيضًا في يوم الرب العظيم.

٦. اليوم الرابع: خلق الأنوار...

من أجل الإنسان خلق الله العوالم الشمسية في دقة نظامها الفائق، لا ليجعل منا رجال فلك وإنما لأجل خدمتنا وإعلان حبه لنا.

إن كان الله قد خلق الشمس لتنير له في النهار وتكون له عونًا في كل حياته، إنما يقدم لنا كلمته الحيّ شمس البر الذي يحول ظلمتنا إلى نهار لا ينقطع، واهبًا إيانا حياة جديدة داخلية. يسطع باشراقاته علي الكنيسة فيجعل منها قمرًا تضيء علي العالم، ويعمل في كل عضو ليجعل منه نجمًا له موضعه ليدور في الفلك الذي له ساكبًا نورًا وبهاء علي الأرض. يقول العلامة أوريجينوس: [المسيح هو نور العالم الذي يضئ الكنيسة بنوره. كما يستمد القمر نوره من الشمس فينير الظلام، هكذا تستمد الكنيسة النور من المسيح لتضئ علي الذين هم في ظلمة الجهل[55]]. كما يقول: [موسى أحد هذه الكواكب يلمع فينا، وأعماله تنيرنا. وبالمثل إبراهيم وإشعياء ويعقوب وإرميا وحزقيال، كل الذين شهد لهم الكتاب أنه أرضوا الله (عب 11: 5)]. وكما يقول أيضًا: [كلما ارتفعنا إلى فوق نتأمل الشروق من الأعالي، ويكون البهاء والحرارة بصورة أفضل. هكذا كلما صعد فكرنا وارتفع إلى المسيح اقترب من بهاء ضيائه، فنستضئ بنوره في أكثر روعة وجمال. وكما يقول بنفسه: "ارجعوا إليَّ يقول رب الجنود فأرجع إليكم" (زك 1: 3)... فإن كنا قادرين أن نرتفع معه إلى قمة الجبل مثل بطرس ويعقوب ويوحنا نستضيء بنور المسيح وبصوت الآب نفسه[56]].

خلق الكواكب بأنواعها المختلفة وأحجامها المتباينة ومواقعها المتباعدة تبعث في النفس شوقًا داخليًا للمسيح في سماء الكنيسة فترتفع النفس من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18)، لتكون كوكبًا أعظم بالمسيح يسوع.

يقول الكتاب: "وجعلها الله في جلد السماء لتنير علي الأرض" [١٧]. وكأن كل كوكب روحي يود أن يحتفظ بطبيعته ككوكب وعمله "إنارة الأرض" يلزمه أنه يبقي "في جلد السماء"، أي يبقي حاملاً الطبيعة السماوية. فإن سقط كوكب علي الأرض يفقد كيانه ككوكب ويُفسد الأرض عوض أن ينيرها. هكذا كل نفس تجامل الآخرين فتسقط معهم في محبة الأرضيات وتعيش بفكر زمني تفقد طبيعتها السماوية، ويظلم نور الرب فيها، وتهلك معها الكثيرين. إذن لنحب الأرض ببقائنا في جلد السماء، لا في كبرياء أو رياء، وإنما في حب نعكس نور شمس البر علي الآخرين، مدركين أن سر الاستنارة ليس فينا وإنما في شمس البر المشرق علي الجميع مجانًا!

إن كانت الأرض تشير إلى الجسد فإنه متي حملت النفس الطبيعة السماوية الجديدة وحلقت في جلد السماء ككوكب تعكس نور الرب علي الجسد فيستنير، ولا تكون أرضنا (الجسد) عائقًا في طريق خلاصنا إنما تحمل نور المخلص فيها؛ هكذا يسلك الجسد مع النفس في تناغم وتوافق، ويتحقق القول: "وجعلها الله في جلد السماء لتنير علي الأرض".

وللقديس ثاوفيلس أسقف أنطاكية من رجال القرن الثاني بعض التعليقات علي خلق الكواكب المنيرة في اليوم الرابع. ففي رأيه أن الأيام الثلاثة الأولي تشير إلى الله وكلمته وحكمته، وربما قصد الثالوث القدوس، وجاء اليوم الرابع يشير إلى البشرية التي خلقها الله ككواكب منيرة تخضع للوصية الإلهية. هذه الكواكب نوعان: كواكب بهية ثابتة لا تنحدر مثل الأنبياء ومن يتمثلون بهم؛ وكواكب سيارة تغير مركزها تشير إلى الذين ضلوا عن الله وتركوا وصيته[57].

٧. اليوم الخامس: خلق الأسماك والطيور...

إذ تهيأت الأمور لخلق الأسماك قال: "لتفض المياه ذات أنفس حيّة" [٢٠]، فكانت بداية الخلائق التي لها نفس حيّة في المياه، وكما يقول القديس أمبروسيوس أنه كما أنجبت المياه كائنات حية طبيعيًا بكلمة الله هكذا تلد المياه المقدسة الآن بكلمة الله كائنات حية حسب النعمة، إذ نعيش كالسمك متمثلين بالمسيح السمكة الحقيقية.

يري القديس أغسطينوس في خروج الزحافات ذات الأنفس الحية من المياه صورة حية لخروج الشعب القديم زاحفًا من البحر الأحمر يحمل حياة في داخله، وكأنه كان منطلقًا من مياه المعمودية[58]. وما حدث معهم رمزيًا يتحقق معنا واقعيًا، إذ يقول: [انظروا أنتم الذين أخرجتكم المياه تزحف فيكم أنفس حيّة[59]].

ويري العلامة أوريجينوس في الزحافات إشارة إلى الأفكار الشريرة التي تجعلنا كمن يزحف علي الأرض مرتبطة قلوبنا بالتراب، أما الطيور فتشير إلى الأفكار الصالحة التي تنطلق بنا إلى السمويات، إذ يقول: [فيما يخص ما هو أفضل أي الطيور لنتركها تحلق في جلد السماء ولا تزحف علي الأرض... لنعرف الزحافات التي تؤذينا. فإن نظرنا إلى امرأة لنشتهيها نكون كالحيّة (التي تزحف)، وإن كان لنا تعقل ورزانة فحتى إن عشقنا المرأة المصرية نكون كالعصفور، نترك بين يديها ملابسنا المصرية ونطير بأجنحتنا من مكائدها المخادعة (تك 39: 7). إن تركنا أنفسنا لفكر السرقة فإننا نتمم أعمال الحية، أما إذا قدمنا صدقة للآخرين فنكون كعصفور يرتفع فوق الأرضيات محلقًا في جلد السماء[60]].

يتساءل العلامة أوريجينوس إن كانت الزحافات تشير إلى الفكر الشيطاني، فلماذا يقال أن الله رأي كل شيء حسنًا؟ يجيب أنه حتى في مقاومة الشيطان لنا ننعم بالنصرة والإكليل فيكون لنا حسنًا[61].

أما القديس ثاوفيلس الأنطاكي فيري في الأسماك ما هو صالح حينما يشير إلى المتمتعين ببركات جرن المعمودية والذين لا يطلبون ما لهم، أي ليس لهم ملكية خاصة، ومن الأسماك ما هو شرير حين يكون الإنسان كالسمك يأكل الكبير الصغير، والقوي الضعيف. والطيور أيضًا منها الصالح ومنها الشرير: [الذين يرجعون عن شرهم ويعيشون بالبر في الروح يطيرون إلى أعلى ويسرون إرادة الله، أما الذين لا يعرفون الله ولا يعبدونه فيكونون كالطيور التي لها أجنحة لكنها عاجزة عن الطيران فلا تحلق في الإلهيات العالية[62]].

٨. اليوم السادس: الحيوانات والإنسان...

هيأ الله كل شيء لخلق الحيوان ثم خلق الإنسان، مقدمًا لهم الأمور المنظورة وغير المنظورة.

يري القديس ثاوفيلس الأنطاكي أن الحيوانات المفترسة لم تحمل روح الشراسة إلا بعد سقوط الإنسان، مما قدمه الإنسان لنفسه من فساد خلال عصيانه انعكس علي طبيعة الأرض لتخرج شوكًا وحسكًا وعلي الحيوانات ليحمل بعضها نوعًا من الشراسة، تزول بالنسبة لكثير من الأبرار، إذ يقول: [عندما يرجع الإنسان إلى حالته الطبيعية فلا يفعل شرًا تعود هذه الحيوانات أيضًا إلى لطفها الأصلي[63]]. وتاريخ الكنيسة يقدم لنا أمثلة بلا حصر لقديسين عاشوا وسط حيوانات مفترسة، وفي السنوات الأخيرة رأينا راهبًا مثل "الأب عبد المسيح الحبشي" لا يؤذيه أي حيوان مفترس بل يعيش في وسطها.

أخيرًا توّج الله خليقته الأرضية بخلق الإنسان لا كخليقة وسط مخلوقات بلا حصر، وإنما علي صورته ومثاله، وأقامه سيدًا علي الخليقة الأرضية... ويلاحظ في خلق الإنسان الآتي:

أولاً: إن ما يشد أنظارنا في خلق الإنسان قوله: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" [٢٦]، مؤكدًا: "فخلق الله الإنسان علي صورته، علي صورة الله خلقه" [٢٧]. الأمر الذي لم نسمع عنه قط في خليقة أخري، إذ أوجد النفس تحمل صورة الثالوث القدوس، وتتسم بالتمثل بالله...

قبل أن أقدم تعليقات آباء الكنيسة الأولي في هذا الشأن أود أن أشير باختصار إلى الفلسفات الإلحادية المعاصرة لنرى أنها تقوم عن عدم إدراك لحقيقة العلاقة التي تربط الله بالإنسان، وعدم فهم خلق الإنسان علي صورة الله.

نحن نعلم أن الإلحاد المعاصر هو رفض الله أكثر منه إنكارًا لوجوده، فالملحدون المعاصرون لا ينكرون وجود الله لكنهم يتجاهلون وجوده، أو بمعني أدق يريدون التحرر منه لأنه في نظرهم يستعبد الإنسان ويفقده إنسانيته. لذلك قال الملحد الألماني هنري هين: [فلنترك السماء للملائكة والعصافير]، وقال الشاعر الفرنسي بريفير: [أبانا الذي في السماوات، أبق فيها]. وجاء ماركس بإلحاده فتتلمذ جزئيًا علي كلمات الفيلسوف فووباخ (1804-1872) القائل: [أن نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون اللحظة التي سيعني فيها الإنسان أن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه Homo homini deus]. هكذا أراد فووباخ أن يكون الإنسان إلهًا لذاته، ليس من كبير يكتم أنفاسه، وجاء ماركس ينكر وجود الله لا لشيء إلاَّ ليؤكد وجود الإنسان. هكذا رأي ماركس خطأ أن الدين هو "تغرب عن الإنسان" بالهروب إلى ما يسمي "إله". والآن لا أريد مناقشة هذه الأفكار هنا وإنما يمكن الرجوع للبحث الشيق العلمي الذي كتبه الأستاذ كوستي بندللي[64]، وإنما ما أريد توضيحه أن ما أثار هؤلاء الفلاسفة الملحدين هو عدم إدراكهم لتقدير الله للإنسان. فالله ليس عدو الحرية الإنسانية كما كرر الماركسيون، ولا يقوم وجوده علي عجز الإنسان وذله، إنما خلق الإنسان علي صورته ليقبل خالقه صديقًا له، يتجاوب معه لا علي مستوي المذلة والضعف وإنما علي مستوي الحرية والحب والصداقة، وسنري في دراستنا للكتاب المقدس ككل أن الخط السائر فيه هو إقامة الإنسان علي صورة الله ومثاله ليكون وارثًا لله ووارثًا مع المسيح، شريكًا معه في المجد الأبدي. نري الله يجري وراء الإنسان ليضمه إليه لا ليحطمه، ويرفعه إلى ما فوق الحياة الزمنية. حتى بعد السقوط نسمع السيد المسيح كلمة الله يقول: "لا أعود اسميكم عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 15: 15).

وجود الله لا يقوم علي إهدار حياة الإنسان وكرامته، إنما ننزل الله إلينا لكي يرفعنا إليه، وقد جاء اللاهوت الشرقي في القرون الأولي ملخصًا في العبارة المشهورة التي كررها كثير من الآباء وإن كان بأسلوب مختلف: [صار الله إنسانًا، لكي يصير الإنسان إلهًا]. إن ما يحمله الملحدون المعاصرون من شوق نحو الألوهية إنما هو عطش داخلي نحو الأبدية يقوم خلال الصورة التي تمتع بها الإنسان دون سائر الخليقة الأرضية. وكما يقول كوستي بندللي: [أماني الإنسان اللامحدودة هي في الإنسان صورة الله غير المحدود الذي يدعوه إلى مشاركته حياته[65]].

لقد ظن ماركس أن يقيم من نفسه إلهًا لنفسه بإنكاره وجود الله، ولم يدرك أن ما في داخله من شوق نحو الألوهية إنما هو ثمرة خلقه علي صورة الله وإن كانت قد انحرفت في اتجاهاتها. وقد واجه ماركس "مشكلة الموت" في عجز لذا حاول عدم التعرض لها في إنتاجه الضخم إلاَّ مرة واحدة، بسبب ارتباكه أمام الموت وإدراكه أنه عندئذ يفقد ألوهيته التي أقامها لنفسه. وظهر ذلك في قوله: [إن موت ولدي آلمني كثيرًا حتى أنني لا أزال أشعر بمرارة فقده كما في اليوم الأول[66]]. هنا يتحطم كل رجاء له، ويفقد معني الحياة، لذلك بدأ الماركسيون يثيرون في مؤتمراتهم مشكلة "معني الحياة والموت" إذ يقفون في حالة ارتباك.

إن كان الملحدون المعاصرون يظنون في تحطيم العلاقة مع الله إقامة للكيان الإنساني، فإننا نقول أن اتحادنا مع الله الذي خلقنا علي صورته ومثاله، ومات لينجينا ويهبنا شركة طبيعته والتمتع بأمجاده فوق حدود الزمان والمكان. إننا نحمل صورته وكأننا عملته الخاصة التي لا يغتصبها آخر بل تنجذب إليه لتوجد الصورة مع الأصل، وكما قال السيد: "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 21). إذ نحمل صورته نشتاق أن نرجع إليه وننعم بأحضانه.

فيما يلي بعض تعليقات للآباء عن خلق الإنسان علي صورة الله ومثاله:

v     لاحظ كيف يوجد في خلق الإنسان أمر سام جدًا لا نجده في خلق آخر، فخلق الله الإنسان على صورته ومثاله، الأمر الذي لا نجده في خلق السماء أو الأرض أو الشمس أو القمر.

v     الذي صُنع علي صورة الله هو إنساننا الداخلي غير المنظور، غير الجسدي، غير المائت ولا فانٍ. بهذه السمات الحقيقية تتصف صورة الله وبها تُعرف[67].      

العلامة أوريجينوس

v     إني أقصد ما قاله الرب عندما رأي عملة قيصر: "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 12)، كأنه يقول: كما يطلب قيصر منكم ختم صورته هكذا يطلب الله، فترد العملة لقيصر وتُرد النفس لله مستنيرة ومختومة بنور ملامحه[68].

v     لقد طبعت ملامحك علينا! لقد أوجدتنا علي صورتك ومثالك! لقد جعلتنا عملتك، لكن لا يليق بصورتك أن تبقي في الظلام. أرسل شعاع حكمتك لتبدد ظلمتنا فتشرق صورتك فينا[69].       

v     لا تبحث كيف ترد له المكافأة... ردّ له صورته، فهو لا يطلب شيئًا غير هذا. إنه يطلب عملته... لا تعطه مكافأة من عندك، فالله لا يطلب ما هو لك، فإنك إذ تعطيه ما لديك إنما تقدم الخطية[70].    

القديس أغسطينوس

ثانيًا: خلق الله النفس البشرية علي صورته ومثاله، أي علي مثال الثالوث القدوس فهي كائن ناطق حيّ، ومع أنها جوهر واحد في كيانها وطبيعتها لكن الكيان غير النطق غير الحياة. هكذا مع الفارق الآب هو الوجود الذاتي له، والنطق هو كلمة الله، والحياة هو الروح القدس. فالله واحد في جوهر، موجود بذاته، ناطق بالابن، حيّ بالروح القدس.

ثالثًا: في خلق الإنسان وحده دون سائر الخليقة يقول الله: "نعمل" بصيغة الجمع، إذ يلذ للثالوث القدوس أن يعمل معًا بسرور من أجل هذا الكائن المحبوب.

رابعًا: خلق الله الإنسان في النهاية حتى يتوجه كملك علي الخليقة، وكما نقول في القداس الأغريغوري أنه لم يجعلنا معوزين شيئًا من أعمال كرامته. خلق كل شيء من أجله وأعطاه سلطانًا، إذ قال: "إملأوا الأرض واخضعوها وتسلطوا علي سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" [28]. لم يخلقه كائنًا خانعًا في مذلة إنما أراده صاحب سلطان علي نفسه كما علي بقية الخليقة.

 يقول العلامة أوريجينوس: [هذه تشير إلى ما ينبع عن النفس كما إلى أفكار القلب، أو ما ينتج عن شهوات جسدية وحركات الجسد. فالقديسون الذين هم أمناء في بركة ربنا يحملون سلطانًا علي هذه الأمور، فيسيطرون علي الإنسان بكليته حسب إرادة الروح، أما الخطاة فعلي العكس يسقطون تحت سلطان ما ينتج عن رذائل الجسد وشهواته[71]]. المسيحي الحقيقي كما يقول الآب مار إسحق السرياني ملك صاحب سلطان يقول لهذا الفكر اذهب فيذهب ولذاك أن يأتي فيأتي.

خامسًا: جاء خلق الإنسان في اليوم السادس أو الحقبة السادسة حتى إذ تكمل خلقته لا يري الله أن كل ما عمله حسن فقط بل "حسن جدًا" [21]، فيستريح في اليوم السابع، أي يفرح ويُسر بالإنسان موضع حبه. وكما خلق الإنسان في اليوم السادس، قدم السيد المسيح حياته فدية علي الصليب ليعيد خليقته أو يجددها روحيًا في اليوم السادس في وقت الساعة السادسة. ويري القديس أغسطينوس[72] أن السيد المسيح جاء إلى الإنسان في الحقبة السادسة ليجدد الإنسان ويرده إلى صورة الله، إذ يقسم تاريخ الخلاص إلى الحلقات التالية: الأولي من آدم إلى نوح، والثانية من نوح إلى إبراهيم، والثالثة من إبراهيم إلى داود، والرابعة من داود إلى سبي بابل، والخامسة من سبي بابل إلى كرازة يوحنا، والآن نحن في المرحلة السادسة أو في اليوم السادس حيث جاءنا السيد المسيح ليجدد خليقتنا حتى ينتهي العالم وندخل إلى راحته في يوم الرب أو اليوم السابع.

سادسًا: في حديثه العام عن الخلق تحدث هنا عن خلقه الإنسان في عبارة مختصرة ودقيقة للغاية، إذ يقول: "ذكرًا وأنثي خلقهم" [27]، مع أنه سيعود ويتحدث في شيء من التفصيل عن خلق آدم ثم حواء، لكنه من البداية أكد "ذكرًا وأنثي خلقهم" ليظهر أن لنا أبًا واحدًا وأمًا واحدة، فترتبط البشرية كلها برباط دم واحد... وليؤكد جانبًا آخر هو تقديس لسر الزواج بين الرجل والمرأة بكونه سرّ الوحدة بينهما. يقول العلامة أوريجينوس: [كل أعمال الرب تتم بعمل مجموعة متحدة معًا كالسماء والأرض، والشمس والقمر، وهكذا أراد الكتاب أن يظهر الإنسان كعمل الرب لا يتحقق بدون الملء والوحدة التي تناسبه[73]]. بمعني آخر الله خلق الإنسان ذكرًا وأنثي لكي تكون فيهما حركة حب كل نحو الآخر، لا بالمفهوم الشهواني الجسدي، إنما ما هو أعظم "الحب" كعلامة الحياة الداخلية التي تعطي ولا تنتظر مقابل. إن كان الثالوث القدوس هو ثالوث الحب الذي يتفاعل معًا أزليًا في حركة حب فإن الله يريد في البشرية أن تحمل حركة حب صادق من أجل طبيعة الحب الداخلية وليس انتظارًا لمكافأة. ولعل هذا هو الهدف الأول للحياة إنسانية بوجه عام، وهو أيضًا هدف الحياة الزوجية.

يقول الكتاب: "وباركهم الله وقال لهم: اثمروا واكثروا واملأوا الأرض واخضعوها وتسلطوا..." [٢٨]. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الإكثار والنمو لملء الأرض هما هبة من بركة الله، إنهما عطية الزواج الذي أسسه الله من البداية قبل سقوط الإنسان عندما خلقهما ذكرًا وأنثي، بمعني أنه خلقهما جنسين متمايزين[74]]. ويقول العلامة أوريجينوس: [لا يستطيع الرجل أن يثمر ويكثر بدون المرأة، (فأعطاه المرأة) لكي لا يشك في إمكانية البركة[75]].

 لقد خلق الله الإنسان ذكرًا وأنثى لينجبا - حتى ولو لم يسقطا في العصيان - وليس كما ظن البعض أن الإنجاب جاء ثمر للخطية. لذلك يؤكد القديس أغسطينوس[76] إن الإنجاب يتحقق لا كثمرة للشهوة وإنما كجزء من مجد الزواج الذي أسسه الله نفسه، كما يرفض القول بأن الخطية التي ارتكبها الأبوان الأولان هي الشهوة الجسدية وقد عرّتهما من الطهارة، وإنما يقول إن الشهوة جاءت ثمرة من ثمار العصيان.

أخيرًا فإن العلامة أوريجينوس[77] تفسيرًا رمزيًا أيضًا فيري في الرجل رمزًا للعقل وفي المرأة رمزًا للروح، وكأنه يلتزم اتحاد العقل مع الروح في حياة مقدسة كعنصرين متفقين معًا ينجبان أبناء لهما سلطان علي الأرض، أي علي الجسد وكل طاقاته. بمعني آخر أنه لا حياة روحية بدون العقل ولا بدون الروح، إنما يتناغم الاثنان معًا وينسجمان تحت قيادة الروح القدس ليثمرا في الرب ما يفرح قلبه.

في العهد الجديد إذ يرفعنا الله إلى الحياة السماوية الملائكية يشتهي البعض الحياة البتولية ليس احتقارًا للزواج ولا نهيًا عنه، ولكن تفرغًا للعبادة أو الخدمة لحساب ملكوت الله، كقول الرسول بولس: "لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا... أريد أن تكونوا بلا هم. غير المتزوج يهتم ما في للرب كيف يرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم ما في للعالم كيف يرضي امرأته" (1 كو 7: 33). في هذا لا يحقر الرسول من الزواج إنما يرفع من شأن البتولية، كما يقول القديس جيروم: [بينما نحن نسمح بالزواج نفضل البتولية النابعة عنه... هل تعتبر إهانة للشجرة إن فُضل تفاحها عن جذورها وأوراقها؟![78]].

<<

الأصحاح الثاني

آدم في الفردوس

بعد العرض السريع لخلق العالم كله وتقديس اليوم السابع حيث استراح الرب عرض الوحي الإلهي لحال الإنسان الأول في الفردوس، مظهرًا مدي اهتمام الله بسعادته.

1. تقديس السبت                     1-3.

2. آدم في الفردوس                  4-14.

3. وصية الله لآدم                    15-17.

4. خلق حواء                        18-25.

1. تقديس السبت:

"فأكملت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله في اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمله الله خالقًا" [١–٣].

ماذا يعني "استراح في اليوم السابع"؟ بلا شك الراحة هنا لا تعني التوقف عن العمل، وإنما استراح براحة خليقته، وكما يقول القديس أغسطينوس: [راحة الله تعني راحة الذين يستريحون في الله[79]]. راحته كأب سماوي أن يجد محبوبيه ينعمون بالراحة الداخلية الحقة، لذلك يقول القديس أغسطينوس: [إننا نستريح عندما نصنع أعمالاً صالحة. كمثال لذلك كُتب عن الله أنه "استراح في اليوم السابع"، وذلك عندما صنع كل أعماله وإذا بها حسنة جدًا. إنه لم يتعب ولا احتاج إلي راحة، كما أنه لم يترك عمله حتى الآن، إذ يقول ربنا المسيح بصراحة: "أبي يعمل حتى الآن" (يو 5: 17)[80]].

لقد ختم الرب حديثه عن أعمال الخلق بإعلان راحته في خليقته التي حملت آثار محبته خاصة الإنسان الذي حمل صورته ومثاله، ويبقي الله في راحته مادام الإنسان أيضًا يستريح في حضن أبيه السماوي. لهذا رأي كثير من الآباء أن وصية "حفظ السبت" والتي تعني في العبرية "الراحة" إنما هي رمز للثبوت في السيد المسيح بكونه راحة الآب، فيه يجد لذته من جهتنا، وراحتنا نحن إذ فيه ندخل إلي حضن الآب. وكأن السيد المسيح نفسه هو سبتنا الحقيقي[81]... هذا هو سر اهتمام الله بحفظ وصية السبت، وجعلها خطًا رئيسيًا في خطة خلاص شعبه، من يكسرها يكون قد نقض العهد الإلهي وحرم نفسه من عضويته في الجماعة المقدسة. لنحفظ إذًا السبت الحقيقي بقبولنا السيد المسيح القائم من الأموات كسر راحتنا الحقيقية، لنقبله قائمًا من الأموات فنحفظ السبت كل أيام حياتنا خاصة في اليوم الأول من الأسبوع، كما كان الرسل يجتمعون معًا في أول الأسبوع (الأحد) يمارسون العبادة الجماعية حول الأفخارستيا كموضوع راحتهم الحقة.

إن كان السيد المسيح هو "اليوم السابع" أو (السبت الحقيقي) الذي فيه تصالحنا مع الآب بدم صليبه، فإننا إذ نثبت فيه نحمل سماته فينا ونمتلئ ببره ونصير نحن أنفسنا موضع راحة فنحسب به "سبتًا" أو (يومًا سابعًا)، وكما يقول القديس أغسطينوس: [نصير نحن أنفسنا اليوم السابع عندما نمتلئ ببركات الله وتقديسه ونفعم بها[82]].

هذا ويلاحظ أن الكتاب المقدس لم يقل عن اليوم السابع: "وكان مساء وكان صباح يومًا سابعًا"، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لا نجد في السبت مساءً، لأن راحتنا بلا نهاية، إذ يضع المساء نهاية[83]].

2. آدم في الفردوس:

إن كان الله قد خلق للإنسان المسكونة كلها من أرض وجلد وفضاء وكواكب... إنما ليلمس فيها أبوة الله ورعايته الفائقة. وقد كشف عن هذه الأبوة بالحديث بعد ذلك في شيء من التفصيل عن خلق الإنسان وإقامة جنة عدن شرقًا لأجله.

 في القرن الثاني يبدو أن العلامة أوريجانوس تطلع إلي قصة آدم وحواء وما حدث معهما كقصة رمزية بحتة قدمها الوحي للكشف عن مفاهيم روحية تمس حياة الإنسان بالله، وان الجنة لم تكن علي الأرض بل في السماء الثالثة حيث كان آدم وحواء روحين بلا جسدين حقيقيين قبل السقوط، وأنهما هبطا من الفردوس أو الجنة إلي الأرض بسبب سقوطهما وأن ما نالاه من جسدين إنما هو من قبيل العقاب. هذه الأفكار هاجمها القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص في رسالته إلي القديس يوحنا أسقف أورشليم[84].

هذه الأفكار ترفضها الكنيسة تمامًا إذ تشوه من النظرة إلي العالم الذي خلقه الله كعلامة حب لنا، وتفسد نظرتنا لتقديس الجسد... هذا وقد أعلن السيد المسيح ورسله القديسين أحداث الخلق الأولي كأحداث واقعية لا رمزية:

أولاً: يقوم الكتاب بعهديه علي إعلان ذبيحة الخلاص التي احتاجت إليها البشرية بعد سقوط أبوينا آدم وحواء في جنة عدن... (راجع رو 5)، وأن سقوط آدم استلزم عمل المسيح الخلاصي لإقامة الإنسان ككل بروحه وجسده معًا، وليس لخلاص روحه وحدها فلو أن الجسد الإنساني وليد خطايا ارتكبها الروح قبلاً لما كانت هناك حاجة للتجسد الإلهي وخلاص الجسد مع الروح.

ثانيًا: حينما تحدث السيد المسيح نفسه عن الزواج قدم علي أساس ما حدث في بدء الخليقة كحقيقة تاريخية، مانعًا الطلاق (مت 19: 3-6؛ مر 10: 2-9).

ثالثًا: أشار السيد المسيح إلي قصة سقوط أبوينا في بدء الخليقة، موضحًا دور إبليس وخداعه (يو 8: 44).

رابعًا: حينما تحدث الرسول بولس عن الكنيسة كعروس السيد المسيح تحدث عن خداع الحية لحواء كقصة واقعية (1 كو 11: 3).

خامسًا: في نسب السيد المسيح ذكر الإنجيلي لوقا آدم كأول إنسان في الخليقة (لو 3)

سادسًا: تحدث الرسول بولس عن هابيل (ابن آدم وحواء) كشخصية واقعية وليس رمزًا (عب 11: 4).

 إن كنا لا ننكر حقيقة هذه الجنة كتاريخ واقعي عاشه آدم، لكننا نري أيضًا في هذه الجنة رمزًا للسيد المسيح الذي جاءنا من الشرق، فيه يدخل آدم ليجد شبعه وفرح قلبه. فإن كانت كلمة "عدن" تعني (بهجة) أو (نعيم)، فإن السيد المسيح ربنا هو البهجة الحقيقية وسر نعيمنا الأبدي.

إن كانت الجنة ترمز للسيد المسيح بكونه سر بهجتنا، فإنها من الجانب الأخر ترمز للكنيسة بكونها جسد المسيح، تحمل في داخلها "شجرة الحياة" في وسطها كرمز للسيد المسيح رأس الكنيسة وسر حياتها.

لقد نزل السيد المسيح إلي العالم ليعلن عن ذاته أنه شجرة الحياة المغروسة في كنيسته من ينعم به يتمتع بالحياة والحكمة، وكما يقول القديس جيروم: [يقول سليمان: "هي شجرة حياة لممسكيها" (أم 3: 18)، متحدثًا عن الحكمة. فإن كانت الحكمة هي شجرة الحياة، فالحكمة بالحقيقة هي المسيح... إذ غُرست هذه الشجرة في جنة عدن، نُغرس نحن جميعًا هناك[85]]. بمعني آخر ما كان يمكن أن يكون لنا نصيب كأشجار حية مغروسة في الفردوس لو لم ينزل شجرة الحياة في وسطه ويعلن ذاته كسر حياة لنا.

أما شجرة معرفة الخير والشر فتشير إلي "المعرفة" التي في ذاتها هي نعمة وبركة، ولكنها إن اتجهت إلي خبرة الشر تصير علة للهلاك. يقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [شجرة المعرفة في ذاتها صالحة، وثمرها صالح. ليست الشجرة هي التي حملت الموت كما يظن البعض، إنما العصيان هو الذي حمله في داخله، ليس شيء آخر في الثمرة سوي المعرفة وحدها، وهي صالحة إن استخدمت بفطنة[86]].

يروي الجنة نهر قيل عنه: "وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس" [١٠]. إن كانت شجرة الحياة تشير إلي السيد المسيح واهب الحياة، فإن النهر الذي يسقي الجنة هو الروح القدس الذي يفيض علي أرضنا خلال مياه الروح القدس فيحول قفرنا إلي جنة تفرح قلب الله. تحدث السيد المسيح عن هذا النهر، قائلاً: "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38). ويعلق الإنجيلي علي هذه الكلمات الإلهية بقوله: "قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد". أما انقسامه إلي أربعة رؤوس فيشير إلي فيض الروح علي الكنيسة في العالم من المشارق إلي المغارب ومن الشمال إلي الجنوب.

إن كان النهر يشير إلي الروح القدس الذي يحل علي المؤمنين لتقديسهم فإن انقسامه إلي أربعة رؤوس إنما يشير إلي تقديسه للجسد الذي يرمز له برقم 4، بكونه مأخوذًا من الأرض (أربع جهات المسكونة)؛ وكأن الإنسان في علاقته بالله يصير بالروح القدس جنة عدن الجديدة التي يقدسها الروح القدس، عاملاً في النفس البشرية كما في الجسد.

أما بالنسبة لموقع الجنة فللآن لم يستقر اللاهوتيون والجغرافيون علي الموقع، فالبعض يظن أنها كانت في أرمينيا لأن الفرات ودجلة ينبعان فيها، أما الرأي السائد فهو أن نهر عدن الذي تفرع إلي أربعة رؤوس ما هو إلا نهر الفرات - دجلة الذي يصب في شط العرب، (في الخليج الفارسي) منقسمًا إلي عدة فروع، فجنة عدن في رأيهم هي القسم الجنوبي من العراق، حيث الخصب. ويعللون ذلك بأن أرض الحويلة حيث الذهب [١١] هي جزء من جزيرة العرب الذي يجاور العراف في جنوبه الغربي؛ أما أرض كوش
[١٣] فغالبًا ما تعني أرض عيلام التي عُرفت إلي زمان طويل باسم كاشو "
Cashshu, Cossean" ، كما أن سهل بابل كان يدعي عدنو edinu[87].

3. وصية الله لآدم:

"وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها" [١٥].

 قبل أن يقدم الله لآدم وصية الحب والطاعة، وضعه في جنة عدن ليعمل ويحفظ الجنة؛ إن كان بإقامته الجنة لحسابه أعلن حبه ورعايته له، فإذ أقامه للعمل وحفظ الجنة إعلان عن تقدير الله للإنسان... لقد هيأ له كل وسائل الراحة وأعطاه إمكانيات الفكر والتعقل لهذا لم يقمه في الجنة ليأكل ويشرب ويلهو وإنما أقامه كائنًا له عمله وتقديره في عيني الله.

هكذا قدس الله العمل فأقام أكمل خليقته الأرضية لكي يعمل، ووهبه الحكمة لكي يحفظ الجنة، وكأن الله أقام وكيلاً له علي عمل يديه ليمارس العمل ببهجة قلب وبتعقل!

 إذ وهبه الله هذه العطية، عطية العمل في الجنة وحفظها، قدم له وصية: "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت" [16، 17].

 ربما يتساءل البعض: هل من حاجة لهذه الوصية؟ نجيب بأن الوصية تكرّم من شأن الإنسان إذ تعلن حرية إرادته؛ فقد أراد الله أن يتعامل معه علي مستوي فائق، فأعطاه الوصية ليفتح باب الحوار العملي معه، فتكون طاعة آدم لله ليست طاعة غريزية آلية تحكمها قوانين الطبيعة كسائر المخلوقات، وإنما تقوم علي إنسانيته المقدسة وحبه الحق الخارج من أعماقه بكمال حريته. فالوصية ليست حرمانًا للإنسان ولا كبتًا له، وإنما هي طريق للتمتع بقدسية الإرادة الحرة. وقد سبق لنا الحديث عن: "الوصية والحب" في كتيب مستقل.

يري البعض أن الله قدم للإنسان هبات عظيمة، لكنه حتى بعد إقامته في الجنة أراد أن يزكيه ويكرمه بعطايا أعظم - ربما خلال أكله من شجرة الحياة - لو أنه عاش في طاعة للوصية الإلهية يعلن حبه العملي لخالقه وصديقه الأعظم. يقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [أراد الله تزكية بخضوعه للوصية، وفي نفس الوقت أراد في الإنسان أن يبقي كطفل في بساطة وإخلاص إلي وقت أطول[88]].

لما كان جزاء العصيان "موتًا تموت" ظن البعض أن قصة سقوط أبوينا الأولين رمزية، قائلين بأن الجزاء صعب للغاية ولا يتناسب مع الوصية بعد الأكل من ثمرة شجرة معينة. لكن يجيب الدارسون علي ذلك بالآتي:

 أولاً: أن الجزاء ليس بسبب نوع الوصية إنما بسبب الفكر الداخلي الذي قابل محبة الله الفائقة ورعايته للإنسان بالجحود. العقوبة هي ثمرة طبيعية للخطية، أيًا كانت، كما أن الفردوس ببهجته الأولي يناسب حالة الإنسان الملتصق بإلهه.

ثانيًا: بشاعة العقوبة تتناسب مع عطية الحرية الإنسانية وتقدير الله للإنسان.

ثالثًا: بشاعة العقوبة تبرز قوة الخلاص الذي يقدمه الله للإنسان يبذل الابن الوحيد الجنس.

رابعًا: العجيب أن العقوبة سقطت بثقلها علي الأرض والحية، فلم يلعن الله آدم ولا حواء لكنه لعن الحية بسبب مخادعتها للإنسان، وللأرض بسبب الساكن فيها! الله في محبته أبرز مرارة الخطية، لكنه لم يلعن الإنسان... أي حب أعظم من هذا؟!.

4. خلق حواء:

"وقال الرب الإله: ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينًا نظيره" [١٨].

 إن كان خلق العالم ككل قد احتاج إلي ملايين السنوات، لكن الوحي سجله في أصحاح واحد باختصار شديد لكي يبقي الكتاب المقدس كله يعلن اهتمام الله بالإنسان علي وجه الخصوص، مركز العالم في عيني الله. أهتم بأموره المادية والنفسية كما الروحية... والآن إذ يراه وحيدًا في الجنة أراد أن يصنع له معينًا نظيره. جاء تعبير: "معينًا نظيره" يكشف عن مفهوم الحياة الزوجية، علاقة آدم بحواء، أو الرجل بالمرأة. فالزوجة معينة لرجلها، كما أن الرجل معين لزوجته، وهي نظيره لا تتشامخ عليه ولا هي أقل منه! كأن الحياة الزوجية تقوم علي أساس الوحدة الحقة التي تعين الاثنين خلال الاحترام المتبادل.

حدثنا عن خلقه حواء كزوجة وحيدة لآدم، جلبها له من جنبه بعدما أوقع عليه سباتًا فنام... فرأي آدم أنها عظم من عظامه ولحم من لحمه [23]، وقد دعاها امرأة لأنها من امرئ (إنسان) أُخذت. خلال هذا الموقف وضع الكتاب مبدأ الزواج: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونا جسدًا واحدًا" [24].

 جاءت قصة خلق حواء تحمل رمزًا لخلق الكنيسة عروس المسيح، التي من أجلها أخلي العريس ذاته ليلتصق بها وينطلق بها إلي سمواته. وقد جاءت كتابات الكنيسة الأولي تحمل فيضًا من الحديث عن خلق حواء وعلاقتها بالكنيسة عروس المسيح؛ نقتطف منها القليل من كلمات القديس أغسطينوس في هذا الشأن:

[متي خلقت حواء؟ عندما نام آدم!

متي فاضت أسرار الكنيسة من جنب المسيح؟ عندما نام علي الصليب[89]].

[إن كان المسيح يلتصق بكنيسته ليكون الاثنان جسدًا واحدًا، فبأي طريقة يترك أباه وأمه؟ لقد ترك أباه بمعني أنه "إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلي نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 6) بهذا المعني ترك أباه لا بأن نسيه أو انفصل عنه وإنما بظهوره في شكل البشر... ولكن كيف ترك أمه؟ بتركه مجمع اليهود الذي وُلد منه حسب الجسد، ليلتصق بالكنيسة التي جمعها من كل الأمم[90]].

[(في حديثه عن سر الوحدة بين السيد المسيح وكنيسته كعريس وعروسه) يقول الرسول عنه: "هذا السر عظيم ولكنني أقول من نحو المسيح والكنيسة" (أف 6: 32)... نحن معه في السماء بالرجاء، وهو معنا علي الأرض بالحب[91]].

 [يتحدث ربنا يسوع بشخصه بكونه رأسنا، كما يتحدث بشخص جسده الذي هو نحن كنيسته هكذا تصدر الكلمات كما من فم واحد، فنفهم الرأس والجسد متحدين معًا في تكامل غير منفصلين عن بعضهما البعض، وذلك كما في الزواج، إذ قيل: "ويكونا جسدًا واحدًا" [24][92]].

نختم حديثنا هنا بكلمات القديس أمبروسيوس الذي يري في "الجسد الواحد" وحدة الإرادة خلال الحب بين الرجل وامرأته، إذ يقول: [وضع الله مشاعر الإرادة الصالحة في الرجل والمرأة، قائلاً: "يكونا جسدًا واحدًا" ويمكن أن يُضاف "وروحًا واحدًا"[93]].

أخيرًا بعد أن تحدث عن خلق حواء والتصاقها بالحب مع آدم، قال: "وكان كلاهما عريانيين آدم وحواء وهما لا يخجلان" [٢٥]. كان عريانيين جسديًا، ومستورين روحيًا لهذا لم يجدا ما يخجلهما، لأن ما يخجل الإنسان ليس جسده بل الفساد الذي دب فيه بسبب الخطية. لهذا يري بعض الآباء في الدخول إلي جرن المعمودية عراة عودة إلي الفردوس حيث كان الإنسان في نقاوة قلبه عريانًا حسب الجسد ولا يخجل.

<<

الأصحاح الثالث

 سقوط الإنسان

إذ هيأ الله للإنسان كل إمكانيات الحياة كمتسلط علي الأرض بكل إمكانياتها وهبه أعظم عطية: الحرية الإنسانية، علامة تقدير من الله نحو أكمل خليقة علي الأرض؛ لكن سرعان ما سقط الإنسان بإرادته تحت غواية العدو إبليس متجاهلاً حب الله له:

1. الحيّة المخادعة                   1-6.

2. انفتاح أعينهما                    7.

3. اهتمام الله بالإنسان               8-13.

4. لعنة الحيّة                        14.

5. الوعد بالخلاص                   15.

6. تأديب الإنسان                     16-19.

7. القميص الجلدي                   20-21.

8. طرد الإنسان                      22-24.

1. الحيّة المخادعة:

 إذ قدم الله للإنسان كل شيء أقامه في الفردوس، ووهبه الوصية ليرد الحب بالطاعة. ولعله كان في ذهن الله هبات أعظم يود أن يقدمها للإنسان كمكافأة له عن طاعته المستمرة للوصية، لكن عدو الخير حسد الإنسان فأراد أن يهبط به إلى الموت مستخدمًا الحيّة ليدخل مع الإنسان في حوار مهلك.

يقول الكتاب: "وكانت الحيّة أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الله، فقالت للمرأة: أحقًا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟! فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا" [1– 3.]

 لقد استخدم العدو الخليقة الصالحة التي من عمل الله كوسيلة لتحطيم الإنسان، فكان العيب لا في الوسيلة، وإنما في الإنسان الذي قبل أن يدخل في حوار باطل مع الحيّة، خاصة وأن المرأة بدأت تحرّف كلمات الله إذ ادعت أنه طالبهما ألا يمسا الثمر، الأمر الذي كان فيه مبالغة! لهذا يسألنا الرسول بولس أن نهرب من مثل هذا الحوار المفسد للعقل والنفس، قائلاً: "المباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها" (2 تي 2: 23).

 كثيرًا ما أكد القديس يوحنا الذهبي الفم أنه ما كان يمكن للشيطان أن يتسلل إلينا ويغلبنا ما لم نعطه الفرصة بالتراخي أو الدخول معه في حوار باطل، فمن كلماته:

 [قد يقول قائلاً: ألم يؤذِ الشيطان آدم، إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟ لا إنما السبب في هذا يكمن في إهمال من أصابه الضرر ونقص ضبطه للنفس وعدم جهاده. فالشيطان الذي استخدم المكائد القوية المختلفة لم يستطع أن يخضع أيوب له، فكيف يقدر بوسيلة أقل أن يسيطر علي آدم، لو لم يغدر بنفسه علي نفسه؟[94]]

 [التراخي والكسل وليس إبليس هما اللذان يصرعان غير اليقظين... إنما هذان يسمحان لإبليس لكي يفرط في الشر[95].]

[لم أنطق بهذه الأمور لأبرئ الشيطان من الذنب، لكن لكي أحذركم من الكسل. فإن الشيطان يرغب في أن نلقي باللوم عليه عندما نخطئ... بهذا نغرق في كل صنوف الشر ونزيد علي أنفسنا العقوبة، ولا ننال العفو، إذ ننسب العلة إليه (دون أن نقدم توبة) [96].]

 أما عن الحوار الباطل الذي دخلت فيه حواء مع الحيّة، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان يجب عليها أن تصمت؛ كان يلزمها ألا تبادلها الحديث، ولكن في غباء كشفت قول السيد، وبذلك قدمت للشيطان فرصة عظيمة... انظروا أي شر هذا أن نسلم أنفسنا في أيدي أعدائنا والمتآمرين علينا؟‍! لهذا يقول السيد المسيح: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير (لئلا تدوسها بأرجلها) وتلتفت فتمزقكم" (مت 7: 6). هذا هو ما حدث مع حواء. لقد أعطت القدس للكلاب. والخنازير، فداست عليها بأرجلها والتفتت ومزقت المرأة[97].]

ليتنا لا نخاف الشيطان فإنه لا يستطيع أن يقتحم قلبنا بالعنف وإنما نخاف من أنفسنا إذ نقبل حيله وأضاليله، فنسمح له بالتسلل إلى أعماقنا ليتسلم قيادة إرادتنا ويسيطر علي القلب والفكر والحواس، ونسقط تحت عبوديته المرة.

في هذا الحوار الذي دار بين حواء والحيّة لم يقدم الشيطان للإنسان إلاَّ وعودًا، قائلاً: "لن تموتا، بل الله عالم أن يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر" [4، ٥.] مجرد وعد أنهما يكونان كالله (كبرياء!) وينالان معرفة، لكنه لم يقدم عملاً لصالحهما وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يظهر الشيطان عملاً صالحًا - قليلاً كان أو كثيرًا - بل أغوي المرأة بالكلام المجرد ونفخها برجاء باطل، وهكذا خدعها، ومع هذا نظرت إلى الشيطان كموضع ثقة أكثر من الله، مع أن الله أظهر إرادته الحسنة بأعماله[98].] كما يقول: [إذ لم يكن الشيطان قادرًا علي تقديم شيء عمليًا قدم بالأكثر وعودًا في كلمات. هكذا هي شخصية المخادعين[99].]

حقًا لقد كان يمكن لحواء أن تعرف خديعة العدو وتدرك مضاداته لله ومقاومته لكلماته، فبينما يقول الله لآدم: "موتًا تموت"، يقول الشيطان: "لن تموتا". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كيف يليق بالإنسان أن يدرك العدو والخصم إلاَّ من هذه الإجابة المناقضة لأقوال الله؟! كان يليق بحواء أن تهرب للحال من الطُعم وتتراجع عن الشبكة[100].] بمعني آخر ليتنا نقبل الله كقائد لحياتنا ونرفض إبليس كمخادع لنا ومهلك لنفوسنا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله هو قائدنا والشيطان هو مهلكنا، القائد يقدم وصيته، وأما المهلك فيقترح خدعة، فهل نصغي للوصية أم للخداع؟![101]]

حدثنا آباء الكنيسة عن خداع إبليس لآدم (وحواء)، وقد رأوا في هذا الخداع ثلاث خطايا رئيسية قدمها العدو لتحطيم البشرية كلها، وعاد ليحارب آدم الثاني (السيد المسيح) بذات الخطايا، حاسبًا أنه قادر علي اقتناصه في شباكه، وكما يقول الأب سرابيون: [كان يلزم بحق لربنا أن يُجرب بنفس الأهواء التي جُرب بها آدم حين كان في صورة الله قبل إفسادها، وهي النهم والطمع والكبرياء، التي تشابكت وأفرخت بعدما تعدي الوصية وأفسد صورة الله وشبهه. لقد جُرب آدم بالنهم حين أخذ الفاكهة من الشجرة الممنوعة، وجُرب بالطمع حين قيل له: "تنفتح أعينكما"، وبالكبرياء حين قيل: "تكونا كالله عارفين الخير والشر" (تك 3: 5) وأيضًا جُرب مخلصنا بالخطايا الثلاثة، بالفهم حين قال له الشيطان: "قل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت 4: 3)، وبالكبرياء حين قال له: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، وبالطمع حين رآه جميع ممالك الأرض ومجدها، وقال له: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9). لقد أعطانا الرب نفسه مثالاً كيف يمكننا أن ننتصر كما انتصر هو حين جُرب. لقد لقب كلاهما بآدم، أحدهما الأول في الهلاك والموت، والثاني كان الأول في القيامة والحياة، بالأول صارت البشرية كلها تحت الدينونة وبالثاني تحررت البشرية[102].]

وقد ركز كثير من الآباء علي خطية الكبرياء بكونها رأس الخطايا، خلالها تحطم إبليس وجنوده، مقدمًا ذات الوسيلة ليحطم البشرية. يقول القديس أغسطينوس عن الأبوين الأولين اللذين خدعهما الشيطان بروح الكبرياء: [لقد أنصتا لصوت المخادع: "تصيران كالله" فهجرا الله الذي أراد أن يجعلهما إلهين لا خلال عزلتهما عنه وإنما خلال شركتهما فيه[103].] كما يقول: [بالكبرياء نفشل في بلوغ هذا الخلود... إن كنا بالكبرياء قد جُرحنا فبالاتضاع ننال الشفاء. جاء الله في اتضاع لكي يشفي الإنسان من جرح الكبرياء الخطير[104].]

هكذا يكشف لنا الآباء خداع العدو إبليس، هذا الذي تسلل إلى حواء خلال الحيّة، لكي بدورها تسحب رجلها إلى السقوط معها، إذ قيل: "فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل" [٦.] وهكذا فقدت حواء رسالتها الأصيلة كمعينة (2: 18) بل صارت فخًا لرجلها ومحطمة لحياته.

يري القديس ديديموس الضرير أن إبليس أو الشيطان عمل خلال الحيّة التي أغوت المرأة، هذه التي بدورها سحبت معها رجلها، وكأن العدو في حربه يبدأ خلال الشهوة كحية تتسلل إلينا، لكي تخدع الحواس التي تمثل المرأة، والحواس بدورها يكون لها فاعليتها في العقل (الرجل)، فيفقد العقل اتزانه وحكمته وينحرف إلى الشر.

2. انفتاح أعينهما:

"فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" [7.]

ماذا يعني انفتاح العينين لتريا أن الجسد عريان، إلاَّ أن الإنسان بالخطية يدرك أنه دخل إلى حالة من الفساد تظهر خلال أحاسيس الجسد وشهواته التي لا تُضبط؟! بهذا يدخل الإنسان في معرفة جديدة، هي خبرة الشر التي امتزج بحياته وأفسد جسده تمامًا؛ إنه يتعرف علي جسده الذي صار عنيفًا في الشر بلا ضابط.

يقول القديس أغسطينوس: [لقد اختبرا إحساسًا جديدًا في جسديهما اللذين صارا عاصيين لهما كمكافأة حازمة لعصيانهما الله. فالنفس الثائرة علي خدمة الله محتقرة هذا العمل بكامل حريتها تفقد سيطرتها التي كانت لها قبلاً علي الجسد[105].] كما يقول: [انفتحت أعينهما لا لينظرا، فإنهما كانا ينظران من قبل، إنما ليميزا الخير الذي فقداه والشر الذي سقطا فيه[106]]، [لقد عرفا أنهما عريانان، عريانان من تلك النعمة التي حفظتهما من خزي عري الجسد، بينما قدمت لهما شريعة الخطية عدم ثبات لذهنهما[107].]

يقول القديس أمبروسيوس: [صار لك معرفة أنك عريان، لأنك فقدت ثوب الإيمان الصالح. هذه هي الأوراق التي بها تطلب أن تستر نفسك. لقد رفضت الثمر وأرادت الاختفاء وراء أوراق الناموس ولكنك خُدعت[108].]

هكذا إذ يري الإنسان نفسه عاريًا عن ثمرة النعمة الإلهية التي تعمل في أعماق القلب الداخلي يتستر وراء حرفية الناموس وشكليات ظاهرة دون التمتع بالتغيير الداخلي. ويري القديس ديديموس الضرير أن الإنسان يلجأ إلى أوراق التين يحيكها مآزرًا لنفسه لا تقدر أن تستره، بالتعلل بأعذار واهية لما يرتكبه، إذ يقول: [أحيانًا يحيك الخاطئ لنفسه أعذارًا عن خطاياه. أليس هذا هو ما نراه في كثير من الناس؟! فالغضوب مثلاً يخترع أعذارًا لكي يبرر غضبه مظهرًا أنه علي حق، مستعينًا أحيانًا بالكتاب المقدس، هذا هو معني "خاطا أوراق تين"، وذلك بإهمالهما للثمر وإقامة نوع من الحماية غير الكاملة كمآزر لهما. فالغضوب مثلاً نسمعه يقدم (إيليا) مثالاً بأنه غضب وأهلك رئيس الخمسين (2 مل 1: 9-12)[109].]

3. اهتمام الله بالإنسان:

إن كان الإنسان قد قابل حب الله بالعصيان، فالله يقابل حتى هذا العصيان بالحب لكي يسحب قلبه من مرضه الذي أصابه، ويقيمه من الموت الذي ملك عليه (رو 5: 14). لقد جاء صوت الله ماشيًا في الجنة ليلتقي مع الإنسان الساقط.

يقول الكتاب: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار" [٨.] لقد سمعا "صوت الرب" ماشيًا مع أن الصوت لا يمشي، لكنه هو "صوت الرب" أي (كلمته)، الابن وحيد الجنس الذي جاء مبادرًا بالحب ليقتنص الإنسان الساقط ويقيمه. جاء عند هبوب ريح النهار، إذ نلتقي به بالروح القدس، لأن كلمة "روح" و "ريح" في العبرية هي واحدة. جاء في وسط النهار لنتعرف عليه خلال نوره. وكما يقول المرتل: "بنورك يا رب نعاين النور" بمعني آخر لن نسمع صوت الرب متمشيًا فينا ما لم يهب بروحه القدوس علي جنته في أعماقنا ويضيء عليها بنوره الإلهي فنصير كمن في وسط النهار.

 لم ينتظر الله الإنسان ليأتي إليه معتذرًا عن خطاياه، إنما تقدم إليه لكي بالحب يجتذبنا إلى معرفة خطايانا والاعتراف بها. بنفس الروح يطالبنا ربنا يسوع أن نذهب نحن إلى أخينا الذي أخطأ إلينا ونعاتبه ولا ننتظر مجيئه إلينا (مت 18: 15). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المخطئ غالبًا ما يحجم عن المجيء بسبب خجله، لذا يليق بنا أن نذهب إليه أولاً بمفردنا لكي بالحب نربحه لأنفسنا كما يربح هو نفسه.

 هكذا بادر كلمة الله بالحب، فنادي آدم وقال له: "أين أنت؟" [9.] لم يكن يجهل موضعه لكنه أراد الدخول معه في حوار، كاشفًا له أنه قد صار غير مستحق أن يكون موضع معرفة الله، وكأنه قد صار مختفيًا عن النور الإلهي. يقول القديس أغسطينوس أن الشرير يخرج بشره من دائرة نور الله فيصبح كمن هو خارج معرفة الله، لا بمعنى أن الله لا يعرفه، وإنما لا يعرفه معرفة الصداقة والشركة معه، لهذا يقول للجاهلات: "الحق أقول لكن إني ما أعرفكن" (مت 15: 14). يقول القديس جيروم: [سمعنا أن الله لا يعرف الخطاة، لنتأمل كيف يعرف الأبرار؟!.]

الآن، ما هو موقف الإنسان تجاه هذه المبادرة الإلهية؟

أولاً: "اختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة" [٨.] هذا الهروب هو ثمر طبيعي للعصيان والانفصال عن دائرة الرب، إذ لا تطيق الظلمة معاينة النور، وكما يقول آدم: "سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت" [10.]

يحدثنا القديس أمبروسيوس عن سر هروب الخاطئ من وجه الرب بقول: [الضمير المذنب يكون مثقلاً حتى أنه يعاقب نفسه بنفسه دون قاضٍ، يود أن يتغطى لكنه يكون أمام الله عاريًا[110].] كأن الخطية تفقد الإنسان سلامه الداخلي وتدخل به إلى حالة من الرعب. ويعلل القديس ديديموس الضرير اختفاء آدم بقوله ان الإنسان قد طلب المعرفة خلال خبرة الشر فاختبأ من وجه الرب بابتعاده عن معرفة الله النقية. ويري العلامة أوريجانوس أن الأشرار يختفون عن وجه الرب إذ قيل" "حَوّلوا نحوي القفا لا الوجه" (إر 2: 27)، أما الأبرار فيقفون أمامه بثقة ليهبهم الحياة المقدسة (1 يو 3: 21)، قائلين مع إليشع النبي: "حيّ هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 مل 5: 16).

هكذا أختفي آدم بعد السقوط ولم يقدر أن يعاين الرب لا لأن الرب مرعب ومخيف وإنما لأن الإنسان في شره فقد صورة الله الداخلية التي تجتذبه بالحب نحو خالقه محب البشر، فصار الله بالنسبة له مرعبًا وديانًا لخطاياه، فالغيب في الإنسان الذي فقد نقاوة طبيعته وخسر استنارة بصيرته الداخلية. لذلك يعلق القديس ديديموس الضرير علي اختفاء آدم برعب، هكذا: [يعلل آدم عريه كسبب لخوفه، هذا العري الذي نجم عن فقدانه للفضيلة التي تستره، فالفضيلة بالحق هي ملبس إلهي. بهذا يعظ الرسول: "البسوا الرب يسوع" (رو 13: 14)، "البسوا أحشاء رآفات" (كو 3: 12)، أي زينوا أنفسكم بسلوك الرأفة حسب المسيح، أو "نلبس أسلحة النور" (رو 13: 12)، حتى نقدر أن نحارب الأعداء (الروحيين)[111].]

ثانيًا: عندما التقي الله بالإنسان خلال مبادرته بالحب بالرغم من هروب الأخير وتخوفه، فإن الأخير لم ينكر خطأه لكنه برر خطأه بإلقاء اللوم علي الغير، فقال آدم: "المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت" [12]، وقال المرأة: "الحيّة غرّتني فأكلت" [13.] هكذا ألقي آدم باللوم علي حواء بل علي الله الذي أعطاه حواء، وألقت المرأة باللوم علي الحيّة، ولم يعتذر أحد منهما عما ارتكبه. يعلق القديس ديديموس الضرير علي إجابة آدم بقوله: [كان يليق به أولاً أن يفكر بأنه استلم زوجته من الرب لخيره، وأنه لم يتسلمها لتعطيه دروسًا بل لتتمثل هي به[112].] كما يعلق علي إجابة حواء بقوله: [الآن تعترف أنها انخدعت... فإن هذا هو حال المخدوعين لا يدركون الشر إلاَّ بعد إتمامه، إذ تخفي الشهوة عنهم إدراكهم للحقيقة وتنزع عنهم المعرفة[113].]

4. لعنة الحيّة:

"فقال الرب الإله للحية: لأنكِ فعلتِ هذا ملعونة أنتِ من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك" [14.]

إذ حملت الحيّة خداعات إبليس للإنسان نالت اللعنة التي تصيب كل نفس تقبل سمات هذه الحيّة فيها وترتضي أن تكون آلة الحساب عدو الخير وإغراءاته. أما اللعنة فهي: "علي بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك". هكذا كل إنسان يقبل أن يكون أداة للعدو الشرير يصير كالحيّة، يسعى علي بطنه محبًا للأرضيات، ليس له أقدام ترفعه عن التراب، ولا أجنحة تنطلق به فوق الزمنيات. يصير محبًا أن يملأ بطنه بالتراب، ويزحف بجسده لتشبع أحشاؤه مما يشتهيه. هذا ومن جانب آخر فإن من يقبل مشورة الحيّة يشتهي الأرضيات فيصير هو نفسه أرضًا وترابًا، أي يصير مأكلاً للحية التي تزحف لتلتهمه. أما من له أجنحة الروح القدس فيرتفع فوق التراب منطلقًا نحو السماء عينها فلا تقدر الحيّة الزاحفة علي الأرض أن تقترب إليه وتلتهمه.

ويقول القديس أغسطينوس: [يلتصق (الأشرار) بالأرضيات، وإذ هم مولودون من الأرض يفكرون فيها، وبكونهم أرضًا يصيرون طعامًا للحية[114]]، كما يقول: [إذ يطأ العدو حياتي يجعلها أرضًا فتصير له طعامًا[115]]، [أتريد ألا تكون مأكلاً للحية؟!‍ لا تكن ترابًا ‍ تجيب: وكيف لا أكون ترابًا؟ إن كنت لا تتذوق الأرضيات[116].]

5. الوعد بالخلاص:

إذ لعن الحيّة التي أغوت الإنسان حتى نرفضها ونرفض سماتها فينا، قدم لنا أول وعد بالخلاص، قائلاً للحيّة: "واضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يسحق رأسكِ وأنتِ تستحقين عقبه" [١٥.]

صارت الحيّة تمثل إبليس نفسه، الذي دُعي "الحيّة القديمة" (رؤ 20: 2)، وقد وضع الله عداوة بين إبليس والمرأة حتى يأتي السيد المسيح من نسل المرأة - دون زرع بشر - يسحق رأس الحيّة التي سحقت عقب البشرية. سحق السيد المسيح - مولود الامرأة - بصليبه رأس الحيّة، كقول الرسول: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظاهرًا بهم فيه (في الصليب)" (كو 2: 14)، لكن الحيّة تسحق كل إنسان ينزل عن الحياة العلوية التي في الرب ليصير عقبًا يرتبط بالتراب.

يري القديس أغسطينوس أن رأس الحيّة هو الكبرياء الذي يحدر حياة الإنسان فيجعلها عقبًا، عندئذ تقدر أن تنفس فيه سمومها، إذ يقول: [تترقب الحيّة عقب الكبرياء، عندما تراك تسقط بالكبرياء وتنحدر. إذن فلتلاحظ أنت رأسها أي الكبرياء بكونه رأس كل الخطايا[117].] كما يري أن رأس الحيّة هو بداية انطلاق الخطية فينا خلال الفكر الشرير، لذا يليق بنا أن نسحقه في بدايته قبل أن يحدرنا إلى العقب ويقتلنا. إنه يقول: [ما هذه الرأس؟ إنها بداية كل اقتراح شرير. فعندما يقترح عليك (العدو) فكرًا شريرًا القه عنك قبلما تثور اللذة فيك وتقبله. لتتجنب رأسه فر يمسك بعقبك[118].]

6. تأديب الإنسان:

إذ قدم الوعد بالخلاص أعلن تأديبه للإنسان؛ فتح باب الرجاء بإعلان الخلاص قبلما يقدم التأديب المرّ حتى لا يسقط الإنسان تحت ثقل اليأس. وقد أعلن تأديبه للمرأة أولاً ثم للرجل.

أولاً تأديب المرأة: "تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون إشتياقك، وهو يسود عليك" [١٦.] هذا التأديب الذي سقطت تحته حواء بسبب الخطية، تحول بمراحم الله إلى بركة حينما قبلت الكنيسة - حواء الجديدة - أن تلد أولادًا روحيين لله خلال آلامها. يقول القديس أغسطينوس: [تحبل الكنيسة - عروس المسيح - بالأطفال وتتمخض بهم. كمثال لها دُعيت حواء أم كل حيّ [٢٠.] يقول أحد أعضاء هذه الكنيسة التي تتمخض: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غلا 4: 19). لكن الكنيسة لا تتمخض باطلاً، ولا تلد باطلاً، إنما تجد البذار المقدسة عند قيامة الأموات، تجد الأبرار الذين يتعثرون الآن (بالآلام) في العالم كله[119].]

 وما تحتمله الكنيسة - حواء الجديدة - من آلام في حبلها بالأولاد الروحيين وإنجابهم في الرب إنما تحتمله أيضًا كل نفس ككنيسة وهي تحبل بثمر الروح لتلد أولادًا يفرحون قلب الله. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [تنجب الكنيسة أولادًا وهي في العالم خلال الألم، لأن الفضيلة تستلزم الحزن، والندامة تنشئ توبة للخلاص بلا ندامة (2 كو 7: 10)... "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة؟!" (مت 7: 13)، لكنه "واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه". أما عن الدموع فهي ممدوحة[120].]

 وكما تحولت ولادة البنين بالتعب إلى بركة بقبول حواء الجديدة. الأتعاب لإنجاب أبناء في الرب، هكذا تحول أيضًا التأديب الآخر: "إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك" إلى بركة روحية حين تقدم كلمة الله المتجسد إلى حواء الجديدة كرجلها، يسود عليها بالحب الباذل، وتشتاق هي إليه لتنعم به كسر حياتها وتتمتع بسماته فيها لتدخل معه إلى أمجاده الأبدية.

ثانيًا تأديب الرجل: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود" [١٧- ١٩.]

خلق الله الأرض من أجل الإنسان، وبسببه باركها لتثمر له بركات، فإذ عصى الرب سقطت تحت اللعنة لتثمر له شوكًا وحسكًا يتناسب مع عصيانه أو فكره الداخلي. وما حدث للأرض بصورة حرفية تحقق في الأرض الرمزية أي الجسد، الذي بسبب عصياننا لله فقد اتزانه وخسر تقديسه فصار ينبت لنا شوكًا وحسكًا يفسد النفس ويحطمها. هكذا بقيت أرضنا بلا ثمر روحي. حتى جاءت القديسة مريم، فقدّسها الروح القدس بقبولها الوعد الإلهي، فأنتجت لنا الثمر البكر الذي يفرح قلب الآب ويبهج حياتنا. وكما يقول القديس جيروم: [أعطيت هذه الأرض غلتها، فما فقدته في جنة عدن وجدته في الابن[121].]

هكذا بتجسد كلمة الله أمكن لأرضنا أن تنتج ثمرًا عوض الشوك والحسك، خاصة وأن السيد حمل هذا الشوك علي جبينه عوض أرضنا حتى يرد لأرضنا بهجتها.

 حملت الأرض اللعنة بسبب خطايانا، فصارت الحياة بالنسبة للإنسان - بعد سقوطه - صعبة وقاسية، إذ قيل: "بعرق وجهك تأكل خبزًا".

 أخيرًا إذ يشتهي الإنسان الأرض أو التراب عوض السماء يقال له: "لأنك تراب وإلى التراب تعود"، وبهذا صار مأكلاً للحيّة التي قيل لها: "ترابًا تأكلين كل أيام حياتك" [14.] من أجل هذا جاء كلمة الله السماوي لينزع عنا الطبيعة الترابية واهبًا إيانا السمات السماوية. وكما يقول القديس جيروم: [كما يُقال للخاطي: أنت تراب وإلى التراب تعود، هكذا يُقال للقديس: أنت سماء وإلى السماء تعود[122].]

7. القميص الجلدي:

"ودعا آدم امرأته حواء، لأنها أم كل حيّ" [٢٠.]

 إن كان آدم وحواء قد سقطا تحت التأديب، فإنهما أبوانا الأولان، نجد في آدم أبًا لكل البشرية، وفي حواء أمًا للجميع... لكن خلال هذه الوالدية تسربت إلينا الخطية وسقطنا معهما تحت ذات التأديب حتى جاء آدم الثاني يهب الحياة الحقة للمؤمنين وصارت امرأته - حواء الجديدة - الأم الصادقة لكل حيّ. يقول القديس ديديموس الضرير: [الكنيسة هي أم المؤمنين، والمسيح هو أب لهم، الذي فيه تنبع كل أبوة ما في السموات وما علي الأرض (أف 3: 15)[123].] ويقول القديس جيروم: [كما توجد حواء واحدة هي أم كل الأحياء، هكذا توجد كنيسة واحدة هي والدة كل المسيحيين[124].]

 والآن إذ سقط الأبوان الأولان تحت التأديب الإلهي أعلن الله محبته لهم قبل طردهما من الجنة، إذ صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما [21] عوض أوراق التين التي صنعاهما لأنفسهما مآزر. هذه الأقمصة ربما تعلن عن كشف الله للإنسان الأول عن أهمية الذبيحة كرمز لذبيحة الخلاص... وكأن الله سلم آدم وحواء طقس الذبيحة الدموية. هذا والأقمصة الجلدية التي لا تجف ترمز إلى السيد المسيح الذبيح الذي نلبسه كساتر لخطايانا ونازع لفضيحة طبيعتنا القديمة.

 يري القديس امبروسيوس في الأقمصة الجلدية إشارة إلى أتعاب أعمال التوبة، إذ يقول: [ألبسهما الله أقمصة من الجلد لا من الحرير[125].]

8. طرد الإنسان:

 إذ صنع الله للإنسان قميصًا من جلد وألبسه، معلنًا رعايته الفائقة له خلال ذبيحة الصليب وستره لا بجلد حيوانات ميتة وإنما بالرب يسوع نفسه واهب الحياة، الذي يخفيه داخله ويستر عليه، قام بطرده من الفردوس... لماذا؟

 أولاً: إن كان الله قد طردنا من الفردوس، ففي حقيقة الأمر نحن طردنا أنفسنا بأنفسنا، إذ خلال العصيان صارت طبيعتنا الفاسدة لا تليق بالحياة الفردوسية المقدسة بل تناسب الأرض التي تخرج الشوك والحسك. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد وهبنا الله الفردوس، وهذا من صنع عنايته المتحننة؛ ونحن أظهرنا عدم استحقاقنا للعطية، وهذه نتيجة إهمالنا الخاص بنا، لقد نزع العطية من أولئك الذين صاروا غير مستحقين لها، وهذا نابع عن صلاحه... [126].]

 ثانيًا: طرد الإنسان من الفردوس لا يعني الله حرمانه من عمل يديه وإنما تهيئته للتمتع بفردوس أعظم وحياة أبدية لا تنتهي. فيقول القديس ثاوفيلس الأنطاكي: [أن الطرد وإن كان عقوبة لكنه حمل صلاحًا من جهة الله، إذ أراد معاقبة الخطية وإصلاح الإنسان ورده بعد إعادة تجديده[127].] ويقول القديس أمبروسيوس: [أعطي الموت كعلاج إذ يضع حدًا للشرور[128].]  بنفس الفكر يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تأمل ماذا يكون موقف قايين لو بقي في الفردوس وهو سافك دم؟!... لقد أعطي الفردوس للإنسان، وعندما أظهر الإنسان عدم استحقاقه طرده، حتى يصير ببقائه خارجًا وبإهانته إلى حال أحسن (بإظهار التوبة) فيقمع نفسه أكثر ويستحق العودة. وهكذا عندما صنع هذا وصار في حال أفضل أعاده مرة أخري، قائلاً: "إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 34). هل رأيت كيف أنه ليس فقط إعطاء الفردوس بل وطردنا منه هو علامة عظم اهتمام مملوءة ترفقًا؟! فلو لم يعانِ الإنسان الطرد من الفردوس ما كان يمكن أن يظهر مستحقًا له مرة أخري[129].]

لقد خشي الرب أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة وهو فاسد في طبيعته فيبقي في شره أبديًا، إذ يقول الكتاب: "وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منه عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد" [٢٢.]

 ويبدو أن المتحدث هنا هو الثالوث القدوس، إذ يقول: "قد صار كواحد منا" من جهة معرفة الخير والشر، لكن الإنسان نال المعرفة  خلال خبرة الشر القاتلة.

يعلق الأب شيريمون علي هذه المعرفة، قائلاً: [لا يمكننا أن نظن بأن الإنسان كان قبلاً جاهلاً الخير تمامًا، وألاَّ يكون مخلوقًا غير عاقل كالحيوان العجموات، وهذا القول غريب تمامًا عن إيمان الكنيسة الجامعة. علاوة علي هذا يقول سليمان الحكيم: "الله صنع الإنسان مستقيمًا" (جا 7: 29)، بمعني أنه علي الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، "أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا 7: 29)، إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما قيل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلاً، لكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه[130].]

 أخيرًا إذ طُرد الإنسان من الفردوس أقام الله كاروبًا للحراسة... حتى جاء الجالس علي الكاروبيم نفسه يحملنا في جنبه المطعون ليدخل بنا إلى فردوسه السماوي.

<<

الأصحاح الرابع

 هابيل وقايين

إن كانت الخطية قد انطلقت من حواء إلى آدم خلال غواية الحية فقد جاء النسل كله يحمل ميكروبها في طبيعتهم، وكما يقول الرسول: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). وقد ظهر ذلك بقوة في قايين الذي لم يحتمل قبول الله ذبيحة أخيه فارتكب أول حالة قتل في تاريخ البشرية. وقد اهتم كثير من الآباء بقصة هابيل وقايين بكونها قصة البشرية الساقطة التي حملت البغضة لبعضها البعض.

1. قبول تقدمة هابيل                           1-7.

2. قتل هابيل                                   8-16.

3. أولاد قايين                                 17-24.

4. ميلاد شيث                                 25-26.

1. قبول تقدمة هابيل:

"وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقال: اقتنيت رجلاً من عند الرب" [١].

يري فيلون اليهودي الإسكندري بأن قايين وهابيل توأمان، لكن هذا الرأي لم يجد قبولاً لدي آباء الكنيسة الأولي.

اعتمد بعض الأوريجانيين علي هذا النص الذي بين أيدينا ليعلنوا أن آدم عرف حواء كزوجة له بعد السقوط، وكأن العلاقة الزوجية الجسدية في نظرهم هي ثمرة السقوط؛ بل وبالغ البعض بالقول أن السقوط نفسه لم يكن إلاَّ ممارسة هذه العلاقة. هذا الرأي المتطرف رفضته الكنيسة بشدة منذ ظهوره، بل وهاجمته، فقد أكد آباء الكنيسة أن الله هو مؤسس الحياة الزوجية في صورتها الكاملة، وأنه بالسقوط أو بدونه كانت تتم العلاقة الجسدية بين أبوينا ويتحقق إنجاب الأطفال، لكن لا يتم ذلك خلال شهوة شريرة بل كثمرة حب زوجي طاهر. كما رفض الآباء فكرة أن سقوط أبوينا هو اتحادهم الجسدي، إذ يدنس هذا الرأي النظرة نحو الحياة الزوجية.

علي أي الأحوال أدركت حواء أن طفلها هو عطية إلهية لذا دعته "قايين"، أي (مُقتنى) وقالت: "اقتنيت رجلاً من عند الرب" [١]. ولعل سر فرحها به أنها ظنت مجيء المخلص الموعود به من نسلها قد اقترب جدًا، وربما انتظرت أن يتحقق ذلك في أيامها.

شعرت حواء أن ابنها مُقتنى من عند الرب، وكما يقول القديس أمبروسيوس في كتابه "قايين وهابيل": [يليق بنا أن ندرك أن الله هو الموجد والخالق، لذا نسبت حواء العمل لله، وعندما قالت: "اقتنين رجلاً (a man child) من عند الرب"، إنما قالت هذا لكي نتمثل نحن بها في المواقف المتشابهة، فلا نحسب أن النجاح هو من عندياتنا بل ننسبه بكامله لله[131]].

"ثم عادت فولدت هابيل" [٢]. وقد رأي القديس أمبروسيوس أن قايين يمثل الفكر العقلاني البحت أو المدرسة العقلية، وربما قصد الغنوسيين الذين وضعوا المعرفة العقلية وحدها كطريق للخلاص عوض الإيمان، حاسبين أن الإنسان قادر بعقله دون عون إلهي أن يبلغ معرفة الله ويدرك أسراره، مبدعًا في الفكر والإحساس والعواطف والمشاعر والانفعالات. أما هابيل فيرمز لمدرسة الإيمان التي تستند علي نعمة الله لكي تتمتع بأسرار الله خلال الإيمان المعطي للإنسان دون تجاهل لعقله. فالإيمان لا يناقض العقل إنما يرفعه خلال إعلانات الله له، ويسمو به؛ وإن المدرستين بالرغم من تناقضهما إلاَّ انهما متصلتان معًا، وكأنهما أخوان صدرا عن رحم واحد، وإن كانا لا يستطيعان السكني معًا لزمان طويل.

هذا وتقدم لنا قصة هابيل وقايين صورة حية لقصة بكورية الروح وبكورية الجسد، فإذ كان قايين بكرًا لآدم وحواء حسب الجسد لكنه فقد بكوريته خلال شره وظهرت بكورية هابيل الروحية بقبول ذبيحته بل وحياته كلها موضع سرور الله دون أخيه. هكذا يري القديس أغسطينوس في قايين رمزًا لآدم الأول، بكر البشرية جسديًا، وقد فقد باكوريته ليظهر هابيل الحقيقي، السيد المسيح، آدم الثاني بكرًا حقًا للبشرية، فيه يتقبلنا الآب رائحة سرور ورضي. فمن كلمات القديس أغسطينوس: [من هذه الأبوين الأولين للجنس البشري، كان قايين بكرًا منتسبًا لمدينة الناس، ووُلده بعده، هابيل منتسبًا لمدينة الله فصار هو بالحقيقة البكر أيضًا. وكما في حالة الفرد (هكذا يكون علي مستوي الجنس البشري) قيل بعبارة رسولية مميزة للحق: "لكن ليس الروحاني أولاً بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني" (1 كو 15: 46)، هكذا يحدث أن كل إنسان يُنزع عن اصله المُدان يولد أولاً من آدم الجسداني الشرير وبعد ذلك يصير صالحًا وروحانيًا عندما يُطعم في المسيح بالتجديد (بالمعمودية)، هكذا بالنسبة للجنس البشري ككل... إذ نجد سكان هذا العالم يولدون أولاً وبعد ذلك الغرباء عنه أي سكان مدينة الله الذين بالنعمة تعينوا، وبالنعمة اُختيروا، وبالنعمة عاشوا غرباء هنا أسفل، وبالنعمة عاشوا كمواطنين في الأعالي... الله كفخاري صنع من الطينة عينها إناءً للكرامة وآخر للهوان (رو 9: 21)، لكنه صنع إناء الهوان أولاً وبعد ذلك إناء الكرامة[132]].

لأننا كما أخذنا صورة الترابي أولاً بعدها حملنا أيضًا صورة السماوي إي المسيح فصرنا فيه خليقة جديدة مستحقين أن نكون إناء للكرامة.

[والعجيب أن قصة باكورية الجسد وباكورية الروح امتدت عبر الدهور، فنجد الله يختار إبراهيم أبًا لجميع الأمم ولم يكن بكرًا بين أخوته حسب الجسد، واختار إسحق الذي يصغر جسديًا عن إسماعيل، ويعقوب الذي يصغر عن أخيه عيسو. وجاء السيد المسيح من نسل فارص الذي ولدته ثامار وقد اقتحم فارص أخاه زارح وهو بعد في أحشاء أمه لينزع عنه البكورية (تك 38: 27-30)، وجاءت سلسلة نسب السيد المسيح تقدم مجموعة كبيرة من الآباء لم يكونوا أبكارًا  حسب الجسد... هذا وقد سبق لنا الحديث عن مفهوم البكورية وارتباطها بشخص السيد المسيح البكر خلال دراستنا لسفر العدد[133]].

يري القديس أمبروسيوس في قايين رمزًا لجماعة اليهود الذين حملوا بكورية معرفة الله لكنهم جحدوا الإيمان بالمخلص وتلطخ مجمعهم بسفك دم برئ، ليأتي هابيل ممثلاً لكنيسة العهد الجديد تضم أعضاء من الأمم، فتحتل البكورية الروحية وتحسب كنيسة أبكار (عب 12: 23) خلال التصاقها أو اتحادها بالرب البكر. يقول القديس أمبروسيوس: [نري في قايين الشعب اليهودي الملطخ بدم ربهم وخالقهم وأخيهم أيضًا، وفي هابيل نفهم الإنسان المسيحي الملتصق بالله كقول داود: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 72: 28)، أي ترتبط نفسه بالسمائيات وتتجنب الأرضيات. وفي موضع آخر يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك" (مز 119: 81)، مما يدل علي أن شريعة حياته كانت متجهة للتأمل في الكلمة (المسيح) وليس في ملذات العالم[134]].

عندما تحدث الكتاب عن الولادة الجسدية بدأ بقايين البكر جسديًا ثم هابيل، أما وقد تسلم كل منهما عمله المحبوب لديه احتل هابيل مركز الصدارة وكأنه يغتصب من قايين بكوريته، إذ قيل: "وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض" [٢]. وكما يقول القديس أمبروسيوس إن الكتاب المقدس لم يذكر هابيل أولاً بلا هدف بالرغم من مولده بعد قايين وإنما: [ذكر الأصغر أولاً عندما أشار إلى العمل والكفاءة والموهبة لكي ندرك الفارق بين مهنتيهما. فبحسب خبرتنا تأتي فلاحة الأرض وحرثها أولاً لكنها أقل في المركز من رعاية الغنم[135]]. لعل العمل في الأرض يشير إلى الإنسان الجسداني الذي يركز عينيه وكل طاقاته نحو الأرض والزمنيات، أما رعي الغنم فيشير إلى الإنسان المهتم بالرعاية والتدبير وقيادة الجسد بكل طاقاته (الغنم). لهذا يليق بنا ألا نكون عاملين في الأرض لحساب الجسد وشهواته بل رعاة ندبر الجسد ونرعاه روحيًا لحساب ملكوت الله.

يميز القديس ديديموس الضرير بين عمل هابيل وقايين، فيرى في هابيل كراع للغنم إنه مدبر لحواس جسده وضابط لها، أما قايين فكان عاملاً في الأرض وليس كنوح فلاحًا (تك 9: 20)؛ مميزًا بين العامل في الأرض والفلاح. فالفلاح هو الذي يدبر العمل الزراعي يعرف متي يحرث ومتي يبذر ومتي يحصد بحكمة وتدبير حسن، أما العامل في الأرض فيعمل بلا حكمة ولا تدبير (يقوم بعمل جسدي لا تدبيري). يقول القديس ديديموس: [لم يقل الكتاب عن قايين أنه فلاح بل عامل في الأرض. إذ لم يكن له دور قيادي كما كان لنوح الذي دُعي فلاحًا وليس عاملاً في الأرض (تك 9: 20)... كان هابيل راعيًا للغنم أي مدبرًا للحواس التي يقودها. هذا هو الراعي الممتاز الذي يُخضع لعصاه علمه ويضبط غضبه والشهوة، ويحمل فهمًا كقائد ومدبر. أما قايين فكان يدور في الأرض والأرضيات لا كفلاح بل كعامل في الأرض، كصديق للجسد يسلك بلا تعقل ولا تدبير... يمكن أن ينطبق عليه القول: "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 13؛ 1 كو 15: 32)، أما الذي يعمل هذه الأمور بتدبير إلهي فيطبق المبدأ القائل: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31)[136]].

"وحدث بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقدم هابيل أيضًا من أبكار غنمه من سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [3– 5].

لماذا لم ينظر الله إلى قايين وقربانه؟

 أولاً: يري القديسان ديديموس الضرير وأمبروسيوس أن تعبير: "وحدث بعد أيام" يشير إلى تراخي قايين في تقدمته أو ممارستها بدافع غير الحب. إذ يقول الأول: [قدم قايين تقدمته بإهمال، أما هابيل فقدمها بإخلاص[137]]، ويقول الثاني: [جاءت تقدمة قايين بعد أيام... وليست بسرعة واشتياق، لذا جاءت الوصية: "إذا نذرت نذرًا للرب إلهك فلا تؤخر وفاءه" (تث 23: 21)، "إذ نذرت نذرًا لله فلا تتأخر عن الوفاء به... أن لا تنذر خير من أن ينذر ولا تفي" (جا 5: 4، 5)[138]].

ثانيًا: لعل الله رفض تقدمة قايين لأنها كانت من ثمار الأرض، ولم يقل من "بكور الثمار"، فلم يقدم أفضل ما لديه، أما هابيل فقدم: "من أبكار غنمه من سمانها"... أعطي الله الأولوية‍!

ثالثًا: كانت تقدمة قايين من ثمار الأرض غير القادرة علي المصالحة بين الله والإنسان، أما تقدمة هابيل فكانت ذبيحة دموية تحمل رمزًا لذبيحة السيد المسيح القادر وحده علي مصالحتنا مع الآب خلال بذل دمه عنا.

 رابعًا: يري القديس چيروم في حديث الرب مع قايين (الترجمة السبعينية): "إذ لم تقسم بالصواب" أن قايين قدم لله ثمار الأرض ولم يقدم قلبه، أي قدم تقدمة خارجية دون الداخل، فكان التقسيم غير مصيب.

أما كيف عرف قايين أن الله قبل تقدمة هابيل دون تقدمته، فكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ربما نزلت نار أكلت التقدمة، كما حدث مع هرون وبنيه، إذ "خرجت نار من عند الرب وأحرقت علي المذبح المحرقة والشحم، فرأي جميع الشعب وهتفوا وسقطوا علي وجوههم" (لا 10: 24)، وكما حدث مع إيليا النبي (1 مل 18: 38-40)[139].

أما أول ثمار رفض التقدمة فهو: "اغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [٥]، إذ تفسد الخطية سلام الإنسان وتحطمه ليعيش في غيظ وضيق، كما تنحدر بوجهه ليسقط إلى التراب عوض أن يرتفع نحو السماء، وكما يقول الحكيم: "حكمة الإنسان تنير وجهه" (جا 8: 1)، "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا وبحزن القلب ينسحق الروح" (أم 15: 13). بالخطية يسقط وجه الإنسان مغمومًا، وبالمسيح يسوع يرتفع متهللاً ليقول: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف" (2 كو 3: 18).

الآن إذ سقط وجه قايين لم يتركه الله هكذا منهارًا بل تقدم إليه يسأله: "لماذا اغتظت؟ ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا رفع؟‍‍! وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها" [٧].

 حقًا لم يقبل تقدمته لأنها من قلب غير نقي، لكنه لا يتركه في سقوطه بل يتقدم إليه بالحب يحدثه في صراحة ووضوح: "إن أحسنت أفلا رفع؟‍" ، وكأنه يعاتبه، قائلاً: "إن أحسنت ما بداخلك أفلا أرفع وجهك من جديد؟‍ لماذا تستسلم للغيط، ولماذا تترك وجهك ساقطًا؟!‍" وفي تحذير يقول له: "إن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها"، وكأنه يقول له" "إني أري خطية القتل رابضة عند الباب تود أن تتسلل إلى أعماقك مع أنك أنت تسود عليها، أي صاحب السيادة والإرادة، لك أن تقبلها ولك أن ترفضها. أنت لا تزال سيدًا عليها، لكنك إن قبلتها تسود عليك وتحدرك إلى عبوديتها. مادامت عند الباب رابضة فهي ضعيفة، لكن إن تسللت تضعف أنت أمامها وتنحني لها بروح العبودية.     

٢. قتل هابيل:

"وكلم قايين هابيل أخاه، وحدث إذ كان في الحقل أن قايين قام علي هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقايين: أين هابيل أخيك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟‍  فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض" [ 8-10].

ظن قايين أنه قتل واستراح، ولكن الله جاء ليسأله كي يثير فيه التوبة، فهو لا يريد أن يستر علي خطايانا بغلاف خارجي بينما يبقي الفساد يدب في الأعماق، إنما كطبيب روحي يريد أن يكشف الجراحات ويفضحها لأجل العلاج. هذا ومن جانب آخر أراد الله أن يؤكد لقايين أنه إله هابيل لا ينساه حتى وإن مدّ أخاه يديه عليه ليتخلص منه، وكما يقول القديس ديديموس الضرير علي لسان الرب: [لا تظن أن جريمتك هربت من عيني، ومن رعايتي التي لا تغفل[140]]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تخلص منه إذ رآه محبوبًا، متوقعًا أن ينزعه عن الحب، لكن ما فعله جعله بالأكثر مثبتًا في الحب، إذ بحث الله عنه، قائلاً: أين هابيل أخوك؟[141]].

 أخفي قايين جسد أخيه، لكنه لم يقدر أن يكتم صوت النفس الصارخة إلى الله، والتي عبّر عنها الرب بقوله: "صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض"، إذ يشير الدم إلى النفس بكونه علامة لحياة. فإن سُفك الدم تبقي النفس صارخة خلال الدم المسفوك ظلمًا علي الأرض. هذا الصوت الصارخ هو صوت كل إنسان يُظلم من أجل الحق فيُحسب شاهدًا للحق أو شهيدًا، تبقي صرخاته تدوي فوق حدود الأرض (المكان) والموت (الزمان). عن هذا الصوت يقول القديس أمبروسيوس: [للدم صوت عال يصل من الأرض إلى السماء[142]]. فالظلم أو الضيق لا يكتم النفس ولا يلجم لسانها بل بالعكس يجعلها بالأكثر متحدة مع كلمة الله الحيّ المصلوب، فيصير لها الصوت الذي لا يغلبه الموت ولا يحبسه القبر. وكأن سر قوة صوت الدم المسفوك ظلمًا هو اتحاد الإنسان بالمصلوب الحيّ. وقد رأي القديس أكليمنضس الإسكندري في دم هابيل رمزًا لدم المسيح الذي لا يتوقف صوته الكفاري وعمله، إذ يقول: [لم يكن ممكنًا للدم أن ينطق بصوت ما لم تراه خاص بالكلمة المتجسد، فالرجل البار القديم (هابيل) كان رمزًا للبار الجديد (السيد المسيح كلمة الله)؛ وما يشفع به الدم القديم إنما يتحقق خلال مركز الدم الجديد. الدم الذي هو الكلمة يصرخ إلى الله معلنًا أن الكلمة يتألم[143]].

إن كان قايين قد حطم جسد هابيل بجسده فصمت لسانه تمامًا، لكنه لم يكن ممكنًا أن يلجم لسانه قلبه وصرخاته الداخلية التي يستجيب لها الله سامع التنهدات الخفية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان موسى متألمًا وصلي هكذا (بقلبه) وسُمع له، إذ يقول له الله: "لماذا تصرخ إليَّ؟" (خر 14: 15) ومع أنه لم يصرخ بفمه؛ وحنة أيضًا لم يكن صوتها مسموعًا، وحققت كل ما تريده، إذ كان قلبها يصرخ (1 صم 1: 13). وهابيل لم يصلِ فقط وهو صامت وإنما حتى عندما مات أرسل دمه صرخة كانت أكثر وضوحًا من صوت بوق[144]].

 استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذ به يستهين بالله نفسه في حديثه معه، فإن كل خطية تصوب نحو أخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. فبالحقيقة إن أزدري أحد بالأخر إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير... لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله[145]].

إن كان عصيان آدم وحواء قد حمل تأديبًا ملموسًا يذّكر البشرية مرارة عدم الطاعة، فإن جريمة القتل الأولى قدمت لقايين تأديبًا ماديًا ملموسًا يكشف له عما حلّ به في أعماقه، إذ قيل له: "متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها" [١٢]. بسبب جريمته حلّ بالأرض نوع من القفر لتكشف عن أرض الإنسان أي جسده الذي صار بالخطية قفرًا، لا يقدم ثمرًا روحيًا لائقًا. ويعلق القديس ديديموس الضرير على هذا التأديب الإلهي بقوله: [يحدث أحيانًا أنه بسبب خطايا الإنسان تصير الأرض قفرًا ولا تعطي ثمرًا، كالقول: "تنوح الأرض بسبب الساكنين فيها" (هو ٤: ٣). لقد وهبت الأرض لكي تثمر للذين يحتفظون بفهمهم بغير فساد... لكن الثمر يتناقص بأمر الرب (بسبب فساد الإنسان) حتى يتغير الناس عن حالهم[146]].

إن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذي يفقد عمله الأصيل فيصير بلا ثمر روحي، فإن النفس أيضًا تفقد سلامها الداخلي، إذ قيل له: "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" [١٢]. وكأن النفس التي خضعت للجسد الترابي الأرضي تجده قفرًا، فتعيش فيه بلا راحة ولا سلام، إنما في حالة تيه وفزع. هذا ما أكده الكتاب المقدس بقوله: "خرج قايين من لدن الرب، وسكن في أرض نود شرقي الأردن" [١٦]. أي تخرج النفس من حضن ربها مصدر سلامها لتسكن في "نود" التي تعني "التيه" أو "الاضطراب". وكما يقول القديس ديديموس الضرير: ["نود" تعني "اضطراب". هناك كان يجب أن يسكن من ترك الفضيلة الهادئة ودخل إلى الاضطراب[147]]. ويقول القديس چيروم: [ترجمة "نود" هو "تيه"، فإذ اُستبعد قايين من حضرة الله سكن بالطبيعة في نود وصار تائهًا. هكذا اليهود إذ صلبوا الله ربهم تاهوا هنا وهناك وصاروا يلتمسون خبزهم. لقد تفرقوا في العالم ولم يبقوا في أرضهم. انهم يشحذون الغنى الروحي إذ ليس لهم أنبياء، وصاروا بلا ناموس ولا كهنة ولا ذبيحة، صاروا شحاذين بمعنى الكلمة[148]]. أما سر التيه فهو الخروج من لدن الرب [١٦]؛ ليس خروجًا مكانيًا إنما هو خروج عن الشركة معه والتمتع به. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لا نفهم أن قايين خرج بعيدًا عن الرب مكانيًا، إنما نقول أن كل خاطئ هو خارج الرب بنفس المعنى الذي يحمله التعبير "أدخل نحو الرب" عندما يقول المزمور: "ادخلوا إلى حضرته بترنم" (مز ١٠٠: 2). فعندما ندخل إلى حضرته نترك عنا كل ما هو خارجي أي الخطايا وكل الملموسات، حتى ننعم بأمور أخرى ليست من هذا العالم، لنشترك في معرفة الله... الله ليس بخاضع لمكان بالرغم من إقامة هيكل له... لقد خرج قايين لأنه حسب نفسه غير مستحق لمعاينة وجه الرب، بمعنى أنه لم يعد له فكر الرب[149]]. ويرى القديس باسيليوس الكبير أن أقسى عقوبة يسقط تحتها الإنسان حرمانه من حضرة الرب: [أقسى أنواع العقوبة التي تفرض على ذوي القلوب الصالحة هي التغرب عن الله[150]].

أدرك قايين خطورة ما بلغ إليه حاله، فاعترف للرب: "ذنبي أعظم من أن يحتمل. إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض من وجهك اختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" [١٣– ١٥].

واضح من اعتراف قايين أنه شعر بالندم ليس كراهية في الخطية وإنما خوفًا من العقاب الأرضي، ومع هذا فقد فتح الرب باب الرجاء إذ لم يعده بألا يُقتل وإنما من يقتله يعاقب بمرارة شديدة كمن يُنتقم منه سبعة أضعاف، مقدمًا له علامة حتى لا يقتله كل من وجده، هكذا يبدأ الرب مع قايين بالحب لعل قايين يرتمي من جديد في حضن الله بالتوبة الصادقة والرجوع إليه.

يرى القديس باسيليوس الكبير[151] أن قايين أخطأ، واستحق أيضًا سبعة تأديبات، أم خطاياه السبع فهي: [ حسده لأخيه هابيل، كذبه على الله، خداعه لهابيل إذ استدرجه إلى الحقل، ما هو أبشع من قتل أخاه، قدم قدوة سيئة للبشرية في بدء تاريخها، أخطأ في حق والديه بقتل إبنهما]. أما التأديبات السبعة فهي: [بسببه لُعنت الأرض، صارت الأرض عدوة له يعيش عليها كمن مع عدوه، لا تعطيه الأرض قوتها، يعيش في تنهد، يصير في رعب، يُطرد تائهًا، يتغرب عن وجه الرب].

أما العلامة التي قدمها الله لقايين حتى لا يقتله كل من وجده فربما تشير إلى علامة الصليب التي فيها يختفي الخاطئ لجد أمانًا وسلامًا خلال مصالحته مع الله. هذه هي العلامة التي يوسم بها أولاد الله الذين لا يطيقون الرجاسات فتحفظهم من الهلاك المهلك كما رأى حزقيال النبي (حز ٩: ٦). ويرى القديس أغسطينوس أنها علامة العهد الذي وُهب لرجال العهد القديم كظل للصليب، معلنًا في ناموسهم وطقوسهم، إذ يقول: [هذه العلامة لليهود إذ أمسكوا بناموسهم واختتنوا وحفظوا السبوت وذبحوا الفصح وأكلوا خبزًا غير مختمر[152]].

٣. أولاد قايين:

إن كان الله قد فتح باب الرجاء أمام قايين بالرغم من بشاعة ما ارتكبه من شر ضد الله والناس، عوض الرجوع إليه بالتوبة ليسترد سلامه أقام مدينة دعاها باسم ابنه "حنوك" [١٧]، حتى لا يعيش أولاده مثله تائهين. وكأنه يكرر ما فعله والداه من قبله إذ خاطا لنفسيهما مآزر من أوراق التين (تك ٣: ٧). تستر عريهما مع بقاء الفساد الداخلي بلا علاج.

هذه هي أول مدينة بناها الإنسان لنفسه ليحتمي فيها من قرارات الله وتأديباته، بل بالحري يحتمي من التيه الذي جلبه لنفسه بنفسه لهذا يقول القديس چيروم: [المدينة العظيمة التي بناها قايين أولاً ودعاها باسم أبنه تؤخذ رمزًا لهذا العالم الذي بناه الشيطان بالرذيلة ودعمه بالجريمة وملأه بالشر[153]]. ويقول القديس أغسطينوس: [لقد سُجل أن قايين بنى مدينة، أما هابيل فكعابر لم يبن شيئا، لأن مدينة القديسين فوق، وإن كانت تنجب لها مواطنين هنا أسفل لكي يرحلوا في الوقت المناسب ويملكوا، عندما يجتمعون في يوم القيامة ويُعطى لهم الملكوت الموعود به، الذي فيه يملكون مع رئيسهم وملك كل الدهور، آمين[154]].

إن كان قايين قد أنجب "حنوك" مقدمًا له مدينة ترابية تحميه من التيه، عوض البركة الروحية، فإن الكتاب يسجل لنا سلسلة مواليد قايين حتى يصل إلى لامك ليقدمه لنا كزوج لامرأتين هما عادة وصلة. أنجب من الأولى يابال ويوبال، ومن الثانية توبال وأخته نعمة. ويرى القديس چيروم أن لامك لم تكن له حواء واحدة بل أول من تزوج بامرأتين إشارة إلى عمل الهراطقة الذين يقسمون الكنيسة إلى كنائس منحرفة عن الإيمان[155] على أي الأحوال إن كان قايين قد قدم أبشع مثل للجريمة في بدء تاريخ البشرية بقتله أخيه ظلمًا، فإن ثمرة الشر هي الهرطقة التي تفسد كنيسة الله وتحرف الإيمان، بل وتدفع إلى الإحاد، وكما يقول القديس أغسطينوس: [وراء كل إلحاد شهوة].

يرى البعض[156] في حياة لامك مع هاتين المرأتين أنها تمثل الحياة الوثنية أو البعد عن الله، فإن كانت "عادة" في العبرية تعني "جمال" أو "زينة"، و"صلة" تعني "ظل"، فإن الأولى تشير إلى شهوة العين، والثانية تشير إلى "شهوة الجسد". الأولى بجمالها أو زينتها تغوي العين عن التطلع إلى السمويات، والثانية كظل تسحب النفس للعبودية لشهوات الجسد الذي لا يمثل إلاّ ظلاً يختفي، أي تسحبها للأمور الجسدانية الزمنية المؤقتة.

في اللغة الأشورية "عادة" مأخوذة من "عدهاتو" وتعني "ظلام"، وأما "صلة" فمشتقة من "ظلاتو" وتعني "ظلال الليل"، وكأن لامك اختار في شره أن يتحد مع الظلام وظلال الليل خلال حياته الشريرة.

قبل أن نتحدث عن المثل الذي نطق به لامك لامرأتيه نذكر معاني الأسماء الواردة في هذا الأصحاح:

أ. عيراد بن حنوك؛ كلمة "عيراد" مشتقة من الكلمة العبرية "عير" وتعني "مدينة"، ربما لأن قايين كان يبني المدينة الأولى في العالم التي دعاها باسم أبنه حنوك. ويرى البعض أن كلمة "عير" في العبرية تعني "جحش" أو "حذر".

ب. محويائيل بن عيراد، أسمه يعني "مضروب من الله".

ج. متوشائيل بن محويائيل، إسمه عينه "بطل الله" أو "رجل الله".

د. لامك، يعني "قوي".

قدم لامك لامرأتيه أول قطعة شعرية في الأدب العبري، تسمى "أغنية السيف للامك"، جاء فيها "أسمعا لقولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي، فإني قتلت رجلاً لجرحي وفتى لشدخي. إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف وأمّا للامك فسبعة وسبعين" [٢٣، ٢٤]. خلال هذه الأغنية نشتم روح الافتخار والاعتداد بالذات بالدفاع عن النفس والثقة في قوة الإنسان وعنفه، إذ يرى البعض أن لامك يعلن لامرأتيه أنه يستخدم السيف الذي اخترعه ابنه توبال والذي قيل عنه "الضارب كل آلة من نحاس وحديد" [٢٢]، يستخدمه في دفاعه عن نفسه؛ لهذا فيحسب نفسه بريئا إن قتل إنسانًا مادام ليس بقصد القتل وإنما دفاعًا عن نفسه. إن كان قايين كقاتل أخيه ينتقم له سبعة إضعاف فإن لامك كمدافع عن نفسه ينتقم له سبعة وسبعين.

توجد تفاسير كثيرة لهذه الأغنية فالبعض يرى أن لامك شاخ جدًا وصار ضعيف البصر وإذ كان حفيده يقوده وكان محبًا للصيد أشار له حفيده عن صيد فضرب بالسهم فإذا به يقتل جده قايين عن غير قصد، وإذ صرخ الحفيد معلنًا قتل قايين ضرب لامك الفتى فقتله، لذلك قال "قتلت رجلاً (قايين) لجرحي، وفتى لشدخي". وأدرك إنه كقاتل لابد أن يُقتل، لكنه إذ قتل بغير عمد ينتقم له الرب سبعة وسبعين.

يرى البعض أن رقم ٧٧ يذكرنا بنسب السيد المسيح كما ورد في إنجيل لوقا (٣: ٢٣– ٣٨) فإنه ينتقم للخطية أو يُقتص العدل بمجيء المخلص الذي يدفع الثمن كاملاً على الصليب.

4. ميلاد شيث:

عندما اقتنت حواء "قايين" ظنت فيه بركة للأجيال كلها، لكن سرعان ما فسدت حياته وقتل أخاه البار... فلم يترك الله حواء منكسرة الخاطر، بل وهبها بداية جديدة بإنجاب "شيث" عوض "هابيل". معنى "شيث" في العبرية "عوض" أو "معيّن" وكأن الله جبله عوض هابيل وعينه رأسًا لجيل مقدس. وبالفعل انجب شيث "أنوش" الذي يعني "إنسانًا"، "وحينئذ أبتدئ أن يُدعى باسم الرب" [٢٦].

<<

الأصحاح الخامس

 الموت

بالخطية دخل الموت الروحي كما الجسدي إلى حياة الإنسان، فمهما طال عمر الإنسان على الأرض لا يستطيع الهروب من الموت... لأنه "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو ٥: ١٢). لكن وسط هذه الصورة القاتمة وُجد أخنوخ الذي انتقل إلى الله بكونه بارًا.

١. مواليد آدم (وموتهم)              ١ – ٢٠.

٢. أخنوخ البار                       ٢١ – ٢٤.

٣. متوشالح                          ٢٥ – ٢٧.

٤. نوح                               ٢٨ – ٣٢.

١. مواليد آدم (وموتهم):

قبل أن يبدأ الحديث عن تجديد العالم خلال الطوفان والفلك قدم لنا الوحي الإلهي سلسلة مواليد آدم، مبتدأ بآدم لينتهي بنوح حيث يبدأ العالم من جديد خلال معمودية الطوفان.

قدم إدرشيم Edershein الجدول التالي من آدم حتى تجديد العالم (نوح)[157]:

 

سنة موته بالنسبة لتاريخ العالم

سنة ميلاده بالنسبة لتاريخ العالم

عمره عند

موته

عمره عند ولادة الابن

الاسم

٩٣٠

١

٩٣٠

١٣٠

آدم

١٠٤٢

١٣٠

٩١٢

١٠٥

شيث

١١٤٠

٢٣٥

٩٠٥

٩٠

أنوش

١٢٣٥

٣٢٥

٩١٠

٧٠

قينان

١٢٩٠

٣٩٥

٨٩٥

٦٥

مهللئيل

١٤٢٢

٤٦٠

٩٦٢

١٦٢

يارد

٩٨٧

٦٢٢

٣٦٥

٦٥

أخنوخ

١٦٥٦

٦٨٧

٩٦٩

١٨٧

متوشالح

١٦٥١

٧٨٤

٧٧٧

١٨٢

لامك

٢٠٠٦

١٠٥٦

٩٥٠

٥٠٠

نوح

ويلاحظ في هذه السلسلة من الأنساب:

أ. لم يذكر هابيل الذي استشهد قبل أن يكون له نسل، فإن كان ذكره على الأرض قد انتهي بعدم الإنجاب، لكن صوته لم يتوقف بعد كقول الرسول: "وإن مات يتكلم بعد" (عب ١١: ٤). كما تجاهل ذكر قايين وذريته الذي حكم على نفسه بنفسه بالموت وهو حيّ.

ب. مع أن الإنسان بشر فقد شبهه لله، مع ذلك ففي بداية سلسلة الآباء يقول: "يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله" [١]. فإن كان الإنسان قد تدنس بالإثم، لكن الله يترجى أن يرده مرة أخرى إلى صورته الأصلية التي خلقه عليها... ولعل غاية هذه السلسلة أن تقدم لنا في النهاية شخص المخلص الذي يقوم بهذا العمل فينعم المؤمنون بهذه العطية، أي حملهم شبه الله فيهم.

ج. إذ يذكر ميلاد شيث يقول "وولد (آدم) ولدًا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثًا" [٣]، أي "إنسانًا". ولعله يقصد بحمله شبه صورة أبيه وصورته، إنه حمل نفس الرجاء الذي لأبيه آدم في التمتع بالخلاص الموعود به، وليس كقايين الذي عاش بلا رجاء تائهًا في الأرض.

د. يلاحظ أيضًا في سلسلة الآباء جاء أخنوخ من نسل شيث الذي "سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" [٢٤]، ولعله يقابل "حنوك (أخنوخ)" الله من نسل قايين، على أسمه بُنيت أول مدينة على الأرض... وكأن الله أقام نسلاً يحمل السمة السماوية عوض النسل المرتبط بالأرضيات. وبنفس الفكر نجد لامك هنا السابع من نسل شيث يلد نوحًا علامة النياح الروحي والراحة في الرب، عوض لامك السابع من نسل قايين الذي تزوج بامرأتين هما الظلمة وظل الليل كما رأينا وقد أتسم بالعنف... بمعنى آخر إن كان عدو الخير يبذل كل طاقاته لإفساد البشرية لحساب مملكته، فإن الله يقيم له شهودًا في كل جيل أحباء له ينعمون بشركة أمجاده.

هـ. من جهة أعمار هؤلاء الآباء: حاول كثير من الدارسين تقديم تفاسير مختلفة فمنهم من قال أن الأرقام في العبرية قديمًا كانت غامضة ويصعب ترجمتها، وآخرون قالوا أن الأعمار المذكورة لا يقصد بها الآباء وإنما تعني عمر عشائرهم... على أي الأحوال الكتاب المقدس ليس بالكتاب التاريخي ولا يهدف بكلماته الإلهية تسجيل تاريخ الإنسان بمفهومنا الحرفي، وإن كنا لا ننكر دقته وإمكانية الحياة الطويلة في بداية الخليقة.

و. لعل غاية هذه السلسلة تأكيد أن الإنسان وإن طال عمره لكنه يموت، مسلمًا ابنه الوعد بالخلاص ليترقب الحياة الجديدة التي لا يغلبها الموت.

٢. أخنوخ البار:

بين هذه السلسلة من الأنساب وُجد إنسان واحد لم تختم حياته بعبارة "ومات"، إنما قيل عنه "ولم يوجد لأن الله أخذه" [٢٤]، هذا الذي "قبل نقله شُهد له بأنه أرضي الله" (عب ١١: ٥). فإن كانت الأنساب الأخرى تمثل البشرية المؤمنة التي تمتعت بالرجاء في مجيء المخلص الموعود به لينقلها من الموت إلى الحياة، فإن "أخنوخ" يمثل أعضاء الكنيسة التي لا تعاين الموت عند مجيء ربنا يسوع بل ترتفع معه على السحاب لتنعم مع بقية الأعضاء بالحياة الأبدية المجيدة (١ تس ٤: ١٤– ١٧).

لعل ما ورد عن أخنوخ هنا وسط سلسلة الآباء، تأكيد أن سرّ سعادة الإنسان ليس طول بقائه على الأرض وإنما انتقاله إلى حضرة الرب ليعيش معه وجها لوجه.

وكأن "أخنوخ" يمثل استرداد الإنسان لحالته الأولى الفردوسية، بانطلاقه من الأرض التي فسدت إلى مقدس الله. وكما يقول يهوذا الرسول: "وتنبأ عن هؤلاء أيضًا أخنوخ السابع من آدم قائلاً: "هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليضع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجورهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها على جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار" (يه ١٤: ١٥). انتقال أخنوخ إلى الله هي نبوة عملية عن الحياة الأبدية وشهادة ضد الأشرار ودينونتهم العتيدة، بجانب نبوته النطقية التي تسلمتها الكنيسة اليهودية خلال التقليد الشفوي وسجلها الرسول يهوذا.

أخنوخ يمثل القلب الذي يتحد مع الذي ويصير موضع سروره ورضاه في المسيح يسوع الابن المحبوب، فلا يمكن للموت (الروحي) أن يجد له فيه موضعًا، بل يكون في حالة انطلاق مستمر نحو الأبدية، لا يقدر العدو أن يمسك به أو يقتنصه.

لم نعرف عن حياة أخنوخ شيئًا سوي هذه العبارة "وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" [٢٤]، إذ لم يذكر لنا الكتاب شيئًا عن تصرفاته أو مثلاً لمعاملاته، لكنه بحياته الخفية سحب قلوب الكثيرين عبر الأجيال نحو التوبة والحياة مع الله. يقول أبن سيراخ: "نُقل أخنوخ كمثال للتوبة لجميع الأجيال" (٤٤: ١٦). ورأى فيه القديس أمبروسيوس صورة للحياة الرسولية التي لا يهزمها الموت إذ يقول: [حقًا لم يعرف الرسل الموت كما قيل لهم: "الحق الحق أقول لكم إن كثيرين من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان قادمًا في ملكوته" (راجع مت ١٦: ٢٨). فمن ليس بداخله شيء يموت (يحيا أبديًا)، هذا الذي ليس فيه من مصر (رمزيًا) أي نعل أو رباط، إنما خلع عنه هذا كله قبل تركه خدمة الجسد. ليس أخنوخ وحده هو الحيّ ولا وحده أُخذ إلى فوق، إنما بولس أيضًا ارتفع ليلتقي بالمسيح[158]].

بنفس الفكر يرى القديس كبريانوس مثلاً حيًا للمنتقلين إلى الرب سريعًا إذ تركوا عنهم محبة الزمنيات: [إنك تكون (كأخنوخ) قد أرضيت الله إن تأهلت للانتقال من عدوى العالم. لقد علّم الروح القدس سليمان أن الذين يرضون الله يؤخذون مبكرين ويتحررون سريعًا لئلا بتأخيرهم في هذه العالم يتدنسون بوبائه. وكما قيل: "خطفه لئلا يغير الشر عقله، إنه كان مرضيًا لله فأحبه وكان يعيش بين الخطاة فنقله" (حك ٤: ١٠، ١١). وفي المزامير تسرع النفس المكرمة لإلهها نحوه قائلة: "ما أحلى مساكنك يارب الجنود، تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب" (مز ٨٤: ١)[159]].

ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن "أخنوخ" فاق هابيل في إيمانه، إذ يقول: [فاق هذا الرجل هابيل في إيمانه. ربما تسأل كيف؟ لأنه بالرغم من مجيئه بعده فإن ما أصاب هابيل كان كافيًا بصده عن سعيه... ومع هذا لم يدخل أخنوخ إلى اللامبالاة، ولا قال في نفسه: ما الحاجة إذن إلى التعب؟![160]]. كان أخنوخ عظيمًا في إيمانه، فمع عدم رؤيته أمثلة حية يحتذي بها، ومع سماعه ما حدث مع هابيل عاش مع الله يسلك بالبر فاستحق أن يأخذه الله.

٣. متوشالح:

"متوشالح" اسم سامي معناه "رجل السلاح"، ابن أخنوخ، مات في سنة الطوفان وكان عمره ٩٦٩ عامًا، أطول عمر ذكر في الكتاب المقدس... لكنه وإن طال عمره فقد انتهى بالموت. وكما يقول القديس چيروم: [حتى إن عشنا تسعمائة سنة أو أكثر كما كان الناس قبل الطوفان، ولو وُهب لنا أيام متوشالح لكن هذه الفسحة من الزمن الطويل عندما تعبر وتنتهي تُحسب كلا شيء. فإن عاش الإنسان عشرة سنوات أو ألفًا من السنين، عندما تنتهي الحياة ويتحقق الموت المحتوم يُحسب الماضي – طال أو قصر – واحدًا، غير أن الذي عاش مدة أطول يُثقل بخطايا أكثر يحملها معه[161]].

٤. نوح:

خلال نسب الآباء أعلن الوحي ميلاد "نوح" بكونه علامة "النياح" أو "الراحة" التي يتمتع بها العالم بتجديده بمياه الطوفان... الأمر الذي يعرضه الكتاب في الأصحاحات التالية بشيء من التفصيل. وقد جاء نسل نوح: "سام وحام ويافث" [٣٢] كرؤوس لكل شعوب الأمم بعد الطوفان.

<<

الأصحاح السادس

 فلك نوح

 إن كان الموت قد دب في الجنس البشري إنما ليكشف عن موت خفي أكثر خطورة هو موت النفس الداخلي وفسادها، الأمر الذي ظهر في انسحاب قلب أولاد الله نحو بنات الناس وفساد الأرض، فصارت الأرض في حاجة إلي تجديدها مرة أخرى خلال الطوفان وفلك نوح.

+ مقدمة عن الفلك والطوفان.

1. أبناء الله وبنات الناس             1-4.

2. نوح البار                         5-10.

3. فساد الأرض                      11-12.

4. فلك نوح                          13-22.

+ مقدمة عن الفلك والطوفان:

احتلت قصة الطوفان مركزًا رئيسيًا في تاريخ الخلاص وتجديد العالم بالمياه، إذ أعلن الله: "نهاية كل بشر قد أتت قدامي"، لا ليبيد الإنسان وإنما ليجدد العالم، فيحول كارثة الطوفان إلي خير أعظم للبشرية التي ألقت بنفسها في الهلاك الأبدي. هكذا جاء الطوفان في الخارج يكشف عن طوفان الخطية المدمر للنفس في الداخل.

توارثت البشرية هذه القصة وقدمتها الشعوب بصور مختلفة متباينة، انحرفت عن هدفها الحقيقي، وشابها الكثير من الأساطير. وفيما يلي صورة موجزة عن بعض التقاليد القديمة الخاصة بالقصة:

أ. آثار بابل: جاء في آثار بابل عن الكاهن المصري بيروسوس من رجال القرن الثالث ق.م أنه في عهد الملك أكسيسوثروس Xisuthras حدث طوفان، حيث بني الملك فلكًا أخذ فيه عائلته وأصدقاءه المقربين إليه، وجمع فيه من الطيور والحيوانات والمؤن حتى إذا انقطع المطر أرسل بعض الطيور فجاءته وأرجلها بها طين، وهكذا في المرة الثانية، وفي الثالثة لم ترجع، وقد رسى الفلك في أريدينا.

أما أقدم رواية عن الطوفان في بابل فهي "ملحمة جلكامش Gilgamesh" التي جاء فيها أن جلكامش سأل أثنافيشتيم عن سبب بلوغه الحياة اللانهائية، فروي له قصة الطوفان، كيف أن أربعة آلهة قرروا إهلاك العالم بالطوفان، لكن إله الحكمة "أيا" أمره أن يضع فلكًا ليدخل فيه مع أسرته. وأنه أرسل بعض الطيور ليتفقد أحوال الأرض فعاد بعضها يحمل غصنًا من الزيتون. بعد خروجه قدّم ذبائح شكر فجاء إله الحكمة يباركه هو وزوجته ويهبهما الحياة الخالدة.

ب. آثار الهند: وُجدت صورة في هيكل للبوذيين لنوح داخل الفلك، والآلهة كوانين تتطلع إليه بشفقة، كما رُسمت حمامة تطير إلي الفلك ومعها زيتون.

 ومن القصص الهندية أن الإله براهما ظهر لمانو في هيئة سمكة، وأمره أن يصنع له فلكًا يدخله مع سبعة من الأبرار. ثم ربط الفلك بقرني السمكة، فسبحت به في الطوفان أجيالاً طويلة، ولما خرج أمرته أن يخلق العالم من جديد.

ج. الآثار اليونانية: جاء أن الإله جوبتر أمر ديوكاليون البار أن يدخل الفلك مع امرأته وبقية عائلته. ولما رسا الفلك علي جبل بارتاسوس أرشدته الحمامة إلي نهاية الطوفان، فخرج يقدم ذبائح شكر.

د. آثار فريجية بآسيا الصغرى: قيل أن "أباخوس"، وهي كلمة يحتمل أن تكون محرفة عن "نوح"، عرف بأمر الطوفان فبكي من أجل الناس. وقد وجدت في أباميا بفريجية قطع من العملة عليها صورة الفلك بداخله أناس، وخارجه طيور يحمل أحدها غصن زيتون. وبجانبه صورة لنفس الأشخاص يقدمون ذبائح شكر لأجل نجاتهم. وقد نقش عليها اسم نوح، وكان اسم المدينة القديم "كبوتوش" أي (الفلك)، إذ كان أهلها يعتقدون أن الفلك استقر في مدينتهم.

هـ. وجدت قصص مشابهة لدي شعوب الفرس والصين والفينيقيين والسريان والأرمن وقبائل هنود المكسيك الخ...

هذه التقاليد القديمة وإن حملت أساطير لكنها تكشف عن وجود قصة حقيقية واقعية تسلمتها البشرية، انحرفت بها خلال عبادتها الوثنية.

1. أبناء الله وبنات الناس:

"وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون علي الأرض ووُلد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا" [1، 2].

إذ يتحدث القديس أغسطينوس في كتابه "مدينة الله" عن مدينتين إحداهما أرضية وأخري سماوية، الأولي تمثل جماعة الأشرار المرتبطين بالأرضيات، والأخرى جماعة المؤمنين المرتبطين بالسماويات، لذلك عندما تعرض للعبادة التي بين أيدينا رأي في زواج أبناء الله ببنات الناس الخلطة بين المدينتين، الأمر الذي يفسد مواطني المدينة السماوية. هذا الأمر حذرنا منه الرسول بولس بقوله: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟‍! وأية شركة للنور مع الظلمة؟‍! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟‍" (2 كو 6: 14، 15).

جاء تعبير "أبناء الله" في الترجمة السبعينية "الملائكة"، بينما الترجمة الحرفية للعبرية "أبناء الآلهة"... لهذا يتساءل القديس أغسطينوس وهو يعتمد بالأكثر علي الترجمة السبعينية: هل يتزوج الملائكة بنساء من البشر؟ وإذ أجاب علي السؤال بشيء من الإطالة اكتفي بعرض النقاط الرئيسية في شيء من الاختصار[162]:

أولاً: إن كلمة "أنجيلوس" في اليونانية تعني (رسول)، وكأن تعبير "ملائكة" هنا يشير إلي خدام الله، وكأن أولاد الله أو خدامه قد انشغلوا بالزواج بشريرات عوض انشغالهم بخدمة الله.

ثانيًا: يقول القديس أغسطينوس أن في عصره ظهرت خرافات كثيرة بين الوثنيين تدعي اعتداء بعض الشياطين علي النساء بطريقة جسدية دنسة، الأمر الذي لا يمكن قبوله خاصة بالنسبة لملائكة الله. لهذا فإن قول الرسول بطرس: "لأنه إن كان لم يشفق علي ملائكة قد أخطئوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء" (1 بط 2: 4)، لا يعني سقوطهم في شهوات جسدية مع نساء بشريات، إنما سقوطهم قبل خلق الإنسان في الكبرياء.

ثالثًا: جاء التعبير في ترجمة أكيلا "أبناء الآلهة" وهو ينطبق علي المؤمنين الذين قيل عنهم: "أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي كلكم" (مز 82: 6). بمعني آخر أن ما قصده الكتاب سواء ملائكة أو أبناء الآلهة إنما يعني أبناء شيث الذين كان ينبغي أن يعيشوا كملائكة الله وخدامه المشتعلين بنار الحب الإلهي، أو كآلهة، فإذا بهم ينجذبون إلي بنات قايين الشريرات لجمالهن الجسدي. بهذا اختلط الأبرار بالأشرار، وفسد الكل، فصارت الحاجة إلي تجديد عام لكل الخليقة خلال مياه الطوفان. لقد أعلن الرب عدم رضاه بقوله:

"لا يدين روحي في الإنسان إلي الأبد لزيغانه هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة" [٣].

إذ زاغ الإنسان إلي الشر أعلن الله أن روحه لا يدين في الإنسان إلى الأبد، أي لا يستقر فيه مادام يسلك في الشر، وأن أيامه تقصر إلي مائة وعشرين عامًا، وقد تحقق ذلك بالتدريج بعد الطوفان، وإن كان قد سمح للبعض أن يعيشوا أكثر من مائة وعشرين لكنهم بلا حيوية. وربما قصد بالمائة وعشرين عامًا الفترة التي فيها أنذر نوح الناس حتى دخل الفلك.

 ولعل قوله: "لا يدين روحي في الإنسان" يعني أنه مادام الإنسان مصرًا علي شره وعناده يُحرم من تبكيت الروح القدس فيه، إذ يسلمه الله لذهن مرفوض. ويري البعض أن كلمة "روحي" لا تعني (روح الله القدوس) وإنما الروح التي وهبها الله للإنسان، فإنها لا تبقي في الجسد أبديًا بل يسحبها بعد 120 عامًا، وإن كان هذا الرأي غير مقبول.

ويلاحظ أنه إذ زاغ الإنسان إلي شهوة الجسد دعاه الرب "جسدًا"، إذ قال عنه: "هو بشر" وفي الترجمة السبعينية "هو جسد"، وكأنه بسلوكه الجسداني صار كجسد بلا روح، لأن الجسد بشهواته يستعبد الروح أيضًا ويسيرها حسب أهوائه. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن الذين لهم أجنحة الروح يجعلون الجسد روحانيًا، هكذا الذين يخرجون عن هذا ويكونون عبيدًا لبطونهم وللذة يجعلون النفس جسدانية لا بمعني يغيرون جوهرها وإنما يفسدون نبل مولدها[163]]، كما يقول: [مع أنه لهم نفوسًا لكنها إذ صارت ميتة فيهم دعاهم "جسدًا" ، هكذا بالنسبة للأتقياء فمع أن لهم جسدًا لكننا نقول أنهم كلهم نفس أو كلهم روح... يقول القديس بولس الرسول عن الذين لم يتمموا أعمال الجسد: "وأما أنتم فلستم في الجسد" (رو 8: 9)، أما من يعيش في ترف فلا يعيش في النفس ولا في الروح بل في الجسد[164]].

 هكذا إذ انشغل أولاد الله بالجسديات فأحبوا بنات الناس، تحولوا إلي الجسد وصاروا غير روحيين. أما ثمر هذا العمل فهو إنجاب أولاد طغاة محبين للكرامة الزمنية، إذ يقول: "كان في الأرض طغاة في تلك الأيام... هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" [٤]. وكأن كل خطية تجلب أخري، أو كأن الإنسان إذ يستسلم لضعف يصير ألعوبة بين الخطايا، كل منها تلقفه لغيرها. فقد بدأ هنا بتطلع أولاد الله إلي جمال بنات الناس جسديًا، فتركوا رسالتهم الروحية وتحولوا إلي الفكر الجسداني، فصاروا جسدًا، وانجبوا العنف وحب الكرامة الزمنية عوض ثمار الروح من لطف ووداعة واتضاع!

2. نوح البار:

 "ورأي الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم" [5-7].

لم يكن ممكنًا لله القدوس أن يطيق الشر الذي كثر علي الأرض، ولا يتحمل الالتقاء مع النفس التي خلقها كمسكن له أن يري تصورها شريرًا كل يوم، لهذا حزن أنه صنع الإنسان في الأرض. وحينما يقول الكتاب: "حزن" أو "تأسف قلبه" أو "ندم" ، لا نفهم هذه التعبيرات كانفعالات غضب، إنما هي لغة الكتاب الموجهة لنا نحن البشر لكي نفهم وندرك مرارة الخطية في ذاتها وعدم إمكانية الشركة بين القداسة الإلهية والفساد الإنساني. يفسر لنا القديس أغسطينوس معني تأسف الله أنه عمل الإنسان بقوله: [غضب الله ليس انفعالاً يعكر صفاء عقله إنما هو حكم خلاله تقع العقوبة علي الخطية[165]]. كما يقول: [غير المتغير (الله) يغير الأشياء وهو لا يتأسف كالإنسان علي أي شيء عمله، لأن قراره في كل شيء ثابت ومعرفته للمستقبل أكيدة، لكنه لو لم يستخدم مثل هذه التعبيرات لما أمكن إدراكه بواسطة عقول الناس المحتاجين أن يحدثهم بطريقة مألوفة لهم (بلغة تناسبهم) لأجل نفعهم، حتى ينذر المتكبر ويوقظ المستهتر ويدرب الفضولي ويرضي الإنسان المتعقل. فما كان يمكن أن يتحقق هذا إن لم ينحنِ أولاً وينزل إليهم إلي حيث هم (يحدثهم بلغتهم) وبإعلانه موت كل حيوانات الأرض والجو المحيط ليكشف عن عظم الكارثة التي كادت تقترب؛ فهو لا يهدد بإبادة الحيوانات غير العاقلة كما لو كانت قد ارتكبت خطية[166]].

هكذا يري القديس أغسطينوس في إعلان الله عن تأسفه أنه خلق الإنسان إنما هو تنازل منه ليحدثنا بلغتنا لندرك مدي ما بلغناه من عدم إمكانية الشركة مع الله مصدر حياتنا، لا بتغير قلب الله من نحونا وإنما بتغيرنا نحن واعتزالنا إياه بقبولنا الفساد الذي هو غريب عن الله. أما تهديده بإبادة الحيوانات والطيور إنما من قبيل محبته الفائقة حتى نعيد النظر من جديد في موقفنا وندرك خطورة الموقف.

 العجيب أنه وسط هذه الصورة المؤلمة التي أعلنها الله من جهة بني البشر، لا يتجاهل إنسانًا واحدًا يسلك بالبر وسط جيل شرير، إذ يقول الكتاب: "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الله" [٨]. في وسط الظلام الدامس لا يتجاهل إشراقة جميلة مهما بدت صغيرة وباهتة، وفي كل جيل يفرح الله بقديسيه ولو كانوا بقية قليلة وسط فساد عام يملأ الأرض. لقد وجد نوح نعمة في عيني الرب الذي شهد له: "كان نوح رجلاً بارًا كاملاً في أجياله" [٩]. أما قوله: "في أجياله" فتكشف أن بره وكماله ليسا مطلقين، إنما أن قورنا بما يقدمه أجياله من فساد؛ فالإنسان بره نسبي.

3. فساد الأرض:

 "وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا... إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه علي الأرض" [11، 12].

 يلاحظ أن كلمة "الأرض" تكررت كثيرًا في هذا الأصحاح خاصة في العبارة
[5-13]، إذ فيها ذُكرت سبع مرات؛ ولكل تكرار الكلمة يكشف عن أن الله كان يشتاق أن يري في الحياة البشرية سمة سماوية، لكنه إذ فسد الإنسان صار أرضًا ترابية تحمل فسادًا. ولئلا نظن أن مادة الأرض قد فسدت أو ما حملته الأرض من موارد وثمار الخ... لذا أكد: "إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه علي الأرض"، وكأن فساد الإنسان هو الذي شوه المخلوقات غير العاقلة.

4. فلك نوح:

كشف الله لعبده البار نوح ما كان مزمعًا أن يفعله، إذ قال له: "نهاية كل بشر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض" [١٣]. كان يمكن لله أن يأمر نوحًا بصنع الفلك فيطيع في إيمان وثقة، لكن الله كمحب للبشر لا يشتاق أن يكون الآمر الناهي، إنما الصديق المحب الذي يحاور الإنسان ويكشف له حكمته وأسراره، وكما يقول المرتل: "سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم" (مز 25: 14). لقد كشف له أنه وإن كان يهلكهم مع الأرض، فإن الهلاك هو ثمرة طبيعية لفساد هم اختاروه، ويظهر ذلك من قوله: "نهاية كل بشر قد أتت أمامي"، وكأنه يقول: لم أكن أود هذا لكنهم صنعوا بأنفسهم هلاكًا يجلب نهايتهم، اختاروه بمحض إرادتهم.

الآن إن كان الأشرار قد فعلوا هكذا بأنفسهم مقدمين هلاكًا حتى للأرض، فالله لا يترك أولاده يهلكون معهم، لذا قدم لنوح أمرًا بعمل فلك لخلاصه، وقد عرض لنا الكتاب المقدس قصة الفلك بدقة شديدة وفي شيء من التفصيل لما حمله الفلك من عمل رمزي يمس خلاصنا بالصليب.

أولاً- أهمية الفلك: في دراستنا للمعمودية[167] لاحظنا كيف سلطت الليتورجيات الكنيسة وأقوال الآباء الضوء علي فلك نوح بكون الطوفان رمزًا لعمل التجديد الحق للطبيعة البشرية، والفلك رمزًا للصليب الذي حمل المسيح معلقًا لأجلنا، فحمل فيه الكنيسة التي هي جسده المقدس. كان لابد من هلاك العالم القديم (الإنسان العتيق) في مياه المعمودية ليقوم العالم الجديد أو الإنسان الجديد الذي علي صورة خالقه يحمل جدة الحياة أو الحياة المقامة في المسيح يسوع (رو 6: 3، 4). كأن الطوفان وهو رمز للمعمودية يضع حدًا فاصلاً بين الحياة القديمة المظلمة والحياة الجديدة المشرقة بنور قيامة الرب يسوع. وقد جاء هذا الفكر الكنسي الآبائي امتدادًا للفكر الرسولي، إذ يقول الرسول بطرس: "وكانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح إذ كان الفلك يُبني، الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء، الذي مثاله يخلصنا نحن الآن في المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1 بط 3: 20، 21).

وإذ سبق لنا عرض الفكر الليتورجي والآبائي في هذا الشأن[168] اكتفي ببعض كلمات قليلة:

v     خلق الله الإنسان من التراب، وجدده بالماء، ونماه بروحه، ودربه بكلمة للتبني والخلاص، موجهًا إياه بالوصايا المقدسة حتى يحول الإنسان مولود التراب إلي كائن مقدس سماوي عند مجيئه.

القديس أكليمنضس الإسكندري[169]

v     في الطوفان - أيام نوح - مات كل جسد أما نوح البار فُحفظ مع عائلته... فالإنسان الخارجي يفني، لكن الداخلي يتجدد. هذا يحدث ليس فقط في المعمودية وإنما أيضًا بالتوبة حيث تفني (شهوات) الجسد فتنمو الروح، كما يعلمنا السلطان الرسولي بالقول: "قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا هكذا... أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 3، 5).   

القديس أمبروسيوس[170]

ثانيًا- مادة الفلك: "اصنع لنفسك فلكًا من خشب جفرٍ" [١٤]، ربما يعني خشب السرو، وقد جاء في الترجمة السبعينية: "من عرائض مربعة"، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنه يشير إلي الكنيسة[171]، أو إلي حياة القديسين الثابتة والراسخة فإن العرائض المربعة أينما حركتها تبقي واقفة[172]].

يقول القديس أمبروسيوس: [إنكم ترون الماء والخشبة والحمامة، فهل تقفون أمام السر حيارى؟ فالماء هو الذي يُغمر فيه الجسد لكي تغسل فيه كل خطية جسدية، ويُدفن فيه كل شر، والخشبة هي التي عُلق عليها الرب عندما تألم لأجلنا، والحمامة هي التي نزل الروح القدس علي هيئتها كما قرأتم في العهد الجديد، ذاك الذي يهبكم سلام النفس وهدوء الفكر، والغراب هو رمز الخطيئة التي تذهب ولا ترجع، إذ حفظ فيكم البر في الداخل والخارج[173]].

 ويري العلامة أوريجانوس[174] في العرائض الخشبية المربعة التي تحمل شكلاً منتظمًا بزوايا قائمة إشارة إلي الأنبياء والرسل، خلالها تُقام مكتبة العلم الإلهي في النفس، إذ يري في الفلك رمزًا للدخول إلي أسرار معرفة الله وعلمه خلال كلمته الإلهية.

ثالثًا- أبعاد الفلك: إن كان الفلك يشير إلي التمتع بخلاص السيد المسيح المجاني والدخول في معرفة أسرار الله الفائقة خلال الصليب حتى دعاه العلامة أوريجانوس "مكتبة الكلام الإلهي" أو "مكتبة العلم الإلهي"، لذا جاءت أبعاده من طول وعرض وارتفاع تشير إلي الإيمان والمحبة والرجاء، إذ يقول: [من كان قادرًا أن يسمع كلام الرب والأمور الإلهية بالرغم من ثقل الشر وكثرة الرذائل، تاركًا عنه الأمور الفانية السريعة الزوال، فمثل هذا يبني في قلبه فلك الخلاص ويكرس في نفسه مكتبة الكلام الإلهي، فيعطى له الإيمان والمحبة والرجاء كطول وعرض وارتفاع. فالإيمان بالثالوث القدوس هو الطول الممتد إلي الخلود، والعرض هو المحبة التي تبسطها العواطف اللطيفة الرقيقة، وأما الارتفاع فهو الرجاء الذي يحمله إلي حيث الحق السماوي، إذ ونحن علي الأرض تكون "سيرتنا في السموات" (في 3: 20)[175]]. في أكثر تفصيل يقول بأن الطول 300 ذراعًا، لأن رقم 100 يشير إلي قطيع المسيح العاقل (لو 15: 4، 5) والذي يحرص السيد المسيح ألا يضيع منه خروف واحد. فإن هذا القطيع يتقدس خلال معرفته بالثالوث القدوس (100 × 3)، أو الإيمان به. أما عرض الفلك فهو 50 ذراعًا، وقد رأينا في دراستنا لسفر الخروج والعدد أن رقم 50 يشير إلي التمتع بغفران الخطايا[176]، كما كان يحدث مع اليوبيل (السنة الخمسين) حيث يتم عفو عام وشامل وتحرير للعبيد والأرض، وأيضًا كما حدث في يوم الخمسين حين حلّ الروح القدس علي التلاميذ في العلية ليهب الكنيسة طبيعة سماوية متحررة من الخطية. فالعرض يشير إلي المحبة، محبة الله الغافرة وحبنا الساتر لضعفات الآخرين. أما العلو فثلاثون ذراعًا يشير إلي ارتفاع الإنسان إلي الله كما انطلق يوسف في سن الثلاثين من السجن إلي القصر ليمسك بتدبير شئون المملكة... إذن ليُبْنَ الفلك الروحي فينا لتكون لنا المعرفة الحقة الاختبارية، طوله الإيمان الحيّ بالثالوث القدوس، وعرضه الحب الحق لله والناس، وارتفاعه الرجاء في السمويات.

ويري القديس أغسطينوس[177] في أبعاد الفلك رمزًا لجسد السيد المسيح، فالفلك أبعاده هكذا 300 × 50 × 30، والإنسان الكامل في نظر هذا القديس طوله من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ستة أضعاف عرضه من جانبيه (300: 50)، وعشرة أضعاف ارتفاعه (سُمكه) من الظهر إلي الصدر (300: 30). وكأن الفلك يشير إلي كلمة الله الذي صار جسدًا، فحملنا فيه ليعبر بنا خلال الطوفان إلي الأرض الجديدة التي له.

رابعًا- طلاء الفلك بالقار من الداخل والخارج: فكما يقول العلامة أوريجانوس: [يريدنا أن نكون قديسين من الخارج وأنقياء في الداخل في القلب، محفوظين من كل جانب، محروسين بفضيلة الزهد (القار الخارجي) والطهارة (القار في الداخل)[178]].

خامسًا- الباب الجانبي: يقول القديس أغسطينوس: [بابه الجانبي يشير بالتأكيد إلي الجرح الذي في جنب المصلوب بواسطة الحربة، خلاله يدخل القادمون إليه، ومنه فاضت الأسرار التي بها ينضم المؤمنون به إلي عضويته[179]].

سادسًا- الطوابق الثلاثة: يري القديس أغسطينوس[180] في هذه الطوابق الثلاثة صورة حية للكنيسة التي اجتمعت من كل الشعوب والأمم، إذ استكملت من نسل أبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وربما تشير هذه الطوابق إلي الفضائل الثلاث التي أمر بها الرسول: الإيمان والرجاء والمحبة. كما يري في هذه الطوابق الثلاثة المؤمنين الذين جاءوا وبثلاث كميات متباينة من المحاصيل مائة ضعف وستين وثلاثين (مت 13: 23، مر 4: 8)، أو يمثل المدينة السماوية أو الكنيسة الأبدية التي تضم في عضويتها متزوجين أطهارًا وأيضًا أرامل وبتوليين أنقياء.

ويري العلامة أوريجانوس[181] في الطوابق الثلاثة إشارة إلي طرق التفسير الثلاثة: التفسير الحرفي، التفسير السلوكي أو الأخلاقي، والتفسير الروحي. فمن يقف عند التفسير الحرفي يَكُنْ كمن استقر في الطابق الأسفل مع الحيوانات أما من يرتفع إلي السلوكي ثم ينعم بالروحي فيكون كنوح رجل الله وعائلته في لقاء مع الله.

سابعًا نوح وعائلته داخل الفلك: يقول العلامة أوريجانوس: [بصعودنا خلال أدوار الفلك المختلفة نصل إلي نوح نفسه الذي يعني (نياح) أو (بر)، فنوح هو يسوع المسيح، إذ لا ينطبق علي نوح القديم قول لامك أبيه: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب" (تك 5: 29)... انظروا إلي ربنا يسوع المسيح الذي قيل عنه: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29)، "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من علق علي خشبة" (غلا 3: 3)، وأيضًا قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). ها أنتم ترونه بالحقيقة يهب راحة للبشرية، ويخلص الأرض من اللعنة[182]].

هذا وقد لاحظ القديس بطرس الرسول أن عدد النفوس التي خلصت خلال الفلك ثمانية (1 بط 20، 21)، هذا الرقم يشير إلى الكنيسة المختفية في صليب ربنا يسوع المسيح، أو يشير إلي طبيعتها السماوية وسمتها الجديدة خلال تمتعها بالحياة المقامة في المسيح يسوع. نحن نعلم أن رقم 8 يشير إلي الحياة ما بعد الزمن، حيث يشير رقم 7 إلي أيام الأسبوع، فكأن رقم 8 يعني تعدى حدود الزمن.

<<

الأصحاح السابع

 الطـوفان

وسط فساد الأرض أعلن الرب خلاصه للبشرية خلال أحداث الطوفان وتجديد الأرض، الأمر الذي حمل رمزًا لعمل السيد المسيح الخلاصي.

١. اهتمام الله بنوح                   ١- ٥

٢. دخول الفلك                       ٦- ٩

٣. حدوث الطوفان                    ١٠- ١٦

٤. تعاظم المياه على الأرض         ١٧- ٢٤

١. اهتمام الله بنوح:

الله في رعايته الفائقة لأولاده يقول: "أدخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك لأني إياك رأيت بارًا لديّ في هذا الجيل" [1] ما أجمل أن يشهد الله لأولاده، فإنها بحق شهادة صادقة! إن كانت البشرية – في ذلك الحين – قد جلبت لنفسها وللعالم الدمار، لكن يبقى الله شاهدًا لنوح ببره ومن أجله يهتم به وببيته فيدبر له الخلاص خلال الفلك بدقة فائقة. حدد له أبعاده، ونوع الخشب الذي يستخدمه، وعدد طوابقه، وإقامة كوا له... وعدد الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة والطيور كما سأله أن يأخذ معه من دبابات الأرض، والمؤن اللازمة، كما حدد له سبعة أيام [٤] لإدخال هذا كله، وأربعين يومًا وليلة للطوفان [٤] الخ... هذا كله من أجل إنسان واحد بار ليقيم معه عهدًا (٦: 18). وهنا نلاحظ:

أ. يرى البعض أن نوحًا بقى مئة وعشرين عامًا في إنذار الأشرار، وهو يبني الفلك أمام أعينهم ليؤكد لكم صدق إنذارات الله. ويعتمد القائلون بهذا على العبارة: "وتكون أيامه مئة وعشرين سنة" (٦: ٣)، وقد أخذ بهذا الرأي كثيرون حتى في أيام القديس أغسطينوس[183]. على أي الأحوال كان نوح وهو في سن الستمائة موضع سخرية الناس، إذ يصنع فلكًا بهذا الحجم في شيخوخته ليهرب من طوفان في رأيهم من وحي خياله وللأسف اشترك كثيرون في صنعه لحساب هذا الشيخ البار لكنهم في غباوة طلبوا الأجرة عن تعب أيديهم ولم يفكروا في الدخول لخلاص أنفسهم، وهم في هذا يمثلون بعض خدام الكلمة الذي يكرزون بالحق الإنجيلي كعمل وظيفي يقتاتون به وإذ لا يعيشونه يهلكون بينما يخلص الذين يتقبلون الكلمة منه بإيمان! لهذا السبب كان الرسول بولس يسلك في كرازته بحذر، قائلاً: "أقمع جسدي واستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (١ كو ٩: ٢٧).

ب. حدد الله لنوح أن يدخل من الحيوانات الطاهرة سبعة ذكرًا وأنثى ومن غير الطاهرة أثنين ذكرًا وأنثى، ومن طيور السماء أيضًا سبعة سبعة ذكرًا وأنثى [٣]. يرى البعض أنه بهذا يكون العدد كبيرًا جدًا لا يسعه الفلك، لهذا قال بعض الدارسين أن الطوفان كان محليًا وليس شاملاً لكل الأرض في العالم، لهذا التزم نوح بالحيوانات والطيور التي في منطقته وحدها، أما القارات الشاسعة والبعيدة والتي لم يسكنها إنسان بعد فقد ضمت حيوانات وطيور بقيت إلى ما بعد الطوفان. أما القديس أغسطينوس فيرى أن الفلك كان ضخمًا جدًا، وأن الذراع المذكور هنا هو ذراع جغرافي يساوي ستة أضعاف الذراع العادي، لذا يمكن للفلك أن يسع كل الحيوانات والطيور الخ... [184].

ج. يرى البعض في عبارة "سبعة سبعة ذكرًا وأنثى" [٣]، أن نوحًا أخذ من كل نوع سبعة ذكور وسبع إناث، ربما لأنه سيقدم منها ذبائح للرب، لأنه سيأكل هو وبنوه وعائلاتهم من لحمها. غير إن البعض يرى أن العبارة يمكن تفسيرها بأنه يأخذ سبعة من كل نوع، ثلاثة ذكور وثلاث إناث والحيوان السابع لتقديمه ذبيحة.

د. لم يحدد الله لنوح ما هي الحيوانات الطاهرة والحيوانات غير الطاهرة، ولم تكن الشريعة الموسوية بعد قد أُعلنت، لهذا يرى البعض أن شريعة الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة تسلمها آدم شفاهًا من الله وسُلمت عبر الأجيال بالتقليد، ولما جاءت الشريعة الموسوية سجلت ما هو قائم فعلاً ولكن بشيء من التفصيل.

و. بقي الطوفان مستمرًا أربعين يومًا وأربعين ليلة، وهي ذات المدة التي قضاها السيد المسيح صائمًا وأيضا موسى وإيليا. وفي دراستنا للإنجيل بحسب متى البشير[185] رأينا رقم ٤٠ يشير إلى حياتنا الزمنية على الأرض، وكأنه ما دمنا على الأرض يلزمنا أن نختفي في الفلك من مياه الطوفان حتى نبقى محفوظين في كنيسة المسيح خلال الإيمان فلا نهلك. إن كان الطوفان يشير إلى المعمودية لهلك الإنسان القديم والتمتع بالإنسان الجديد، فإن بقاء الطوفان أربعين يومًا إنما يشير إلى التزام المؤمن أن يبقى كل أيامه على الأرض متفاعلاً مع بركات المعمودية خلال التوبة المستمرة حتى يمارس الحياة المجددة ليس دفعة واحدة إلى لحظات بل حياة مستمرة بلا انقطاع؛ إنسانه الخارجي يفنى كل يوم والداخلي يتجدد منطلقًا من قوة إلى قوة، ومن مجد إلى مجد!

٢. دخول الفلك:

دخل نوح وهو ابن ستمائة عام الفلك مع امرأته وبنيه ونساء بنيه وكل الحيوانات والطيور... "كما أمر الله نوحًا" [٩]. ربما لم يكن هناك أية إشارة طبيعية لحدوث فيضان، لكن بدأ الموكب يتحرك وبقي هكذا في تحرك مستمر نحو الفلك سبعة أيام بلا باعث سوى أمر الله لنوح، والطاعة للوصية بإيمان في مواعيد الله. كان العالم يسخر بنوح، وكان نوح يتمزق حزنًا على إخوته مشتاقًا أن يدخل بالكل إلى الفلك ليخلصوا. أما بقاؤه سبعة أيام في موكب متحرك، إنما يشير إلى الكنيسة التي تفتح أبواب الرجاء لكل إنسان كل أيام الأسبوع، أي كل أيام غربتنا على الأرض، فهي تستقبل كل إنسان ولو كان في النفس الأخير من حياته!

هذا ويلاحظ أن نوحًا وأولاده لم يكن لكل منهم إلاَّ زوجة واحدة كأبيهم آدم.

٣. حدوث الطوفان:

وصف الكتاب المقدس الطوفان وصفًا دقيقًا للغاية، حدد فيه مدته وروى دقائق أموره. فقد بدأ في السابع عشر من الشهر الثاني من سنة ٦٠٠ من عمر نوح [١٠]، التي توافق سنة ١٦٥٦ من تاريخ العالم وحوالي عام ٢٣٤٩ ق.م. حسب التقويم العبري، وكان يقع في منتصف أو أواخر شهر نوفمبر حسب شهور السنة الميلادية[186]. ظلت الأمطار على الأرض ٤٠ يومًا [١٢]، وتعاظمت المياه على الأرض ١٥٠ يومًا [٢٤]، ولم تجف الأرض إلاّ بعد ٣٧١ يومًا من بدء الطوفان يوم أمر الله نوحًا أن يخرج من الفلك (٨: ١٣–١٦)، وكان ذلك سنة ٦٠١ من عمر نوح في السابع والعشرين من الشهر الثاني (٨: ١٤)، باعتبار السنة ٣٦٠ يومًا بالأشهر القمرية.

ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:

أ. أن تعبير "تفجرت كل ينابيع الغمر العظيم" [١١] إشارة إلى أن الطوفان لم يحدث فقط من الأمطار الغزيرة حيث يقول: "وانفتحت طاقات السماء" [١١] وإنما صارت الأرض وكأنها مجموعة من العيون والينابيع تفجر ماء بلا حساب. على أي الأحوال إن كان المؤمن في حياته يحمل طوفانًا غير منقطع خلال حياة التوبة المستمرة فإن الله يخرج من أرضه (جسده) ينابيع غمر عظيم تجرف كل شر وتحطمه، ويهب سمواته (نفسه) أمطارًا روحية بلا انقطاع تعمل بذات الروح مع الجسد المقدس في الرب. هكذا يتفق الجسد المقدس بالرب مع النفس ليعملا بروح الله القدوس خلال التوبة الدائمة حتى تنتهي فيه كل ملامح الحياة القديمة وينعم على الدوام بقوة الحياة الجديدة في ربنا يسوع المسيح.

ب. يقول الكتاب: "وأغلق الرب عليه" [١٦]. بقي الباب مفتوحًا سبعة أيام يستقبل الموكب لينعم بتمام الخلاص، لكنه إذ ينتهي زمان غربتنا يُغلق الباب، فيبقى الذين في الداخل محفوظين لا يقدر الهلاك أن يعبر إليهم، ويُحرم الخارجون بعد من التمتع بأمجاد الداخل. هذا ما أعلنه السيد المسيح في حديثه عن ملكوت السموات مشبهًا إياه بالعذارى الداخلات إلى العريس، فإذ ينتهي الزمن بمجيء العريس يقول: "والمستعدات دخلن معه إلى العرس وأُغلق الباب" (مت ٢٥: ١٠).

والعجيب أن الله يقوم بإغلاق الباب بنفسه إذ قيل: "وأغلق الرب عليه"، فهو وحده "الذي له مفتاح داود، الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح" (رؤ ٣: ٧). فتح لنا أبواب الفردوس بمفتاح صليبه لكي ندخل معه وفيه بشركة أمجاده، وهو يغلق علينا معه أبديًا فلا يتسرب العدو الشرير إلينا.

٤. تعاظم المياه على الأرض:

كثيرًا ما يردد العبارة: "تعاظمت المياه على الأرض" أو ما يشبهها [١٧، ١٨، ١٩، ٢٠، ٢٤]... وبقدر ما تعاظمت المياه كان الفلك يرتفع ليسير على وجه المياه [١٨]، مرتفعًا فوق الجبال الشامخة التي تحت كل السماء [١٩]، وقد بقيت هكذا متعاظمة ١٥٠ يومًا.

إن كان الإنسان في حبه للأرضيات صار "أرضًا" و "ترابًا"، تستطيع مياه المعمودية أن تغطيه لتقتل فيه أعمال الإنسان العتيق مرتفعة بنفسه بالصليب إلى فوق يطلب السمويات. وإن كان الإنسان في كبريائه صار جبلاً شامخًا وصلدًا، فإن المياه تغسله تمامًا ليصير جبلاً مقدسًا يحمل رائحة الحياة التي في المسيح يسوع عوض الحياة العتيقة التي اتسمت بالكبرياء!

نستطيع أيضًا أن نقول بأنه كلما اشتدت التجارب على المؤمن وكأنها بمياه طوفان فإننا إذ نكون بحق في الفلك – كنيسة السيد المسيح – حتى وإن اهتز الفلك إلى حين، لكن التجارب تحيط بنا ولا تدخل فينا، تثور ضدنا لكنها ترفعنا كما رفعت المياه الفلك، ويبقى المؤمن خلال التجارب يرتفع في عيني الله، حتى متى انتهت الضيقات يستقر على أعلى قمة جبل ويبقى هكذا ممجدًا في الرب.

<<

الأصحاح الثامن

 خلاص نوح بالفلك

إذ غرق العالم القديم بمياه الطوفان قام العالم الجديد ممثلاً في أشخاص نوح وعائلته. لقد اهتم الله نفسه بخلاصهم وتجديد الأرض وقبل ذبيحة الإنسان رائحة رضا ليدخل معه في عهد جديد.

١. اجتياز ريح على الأرض                    ١-٥

٢. إرسال غراب وحمامة                      ٦-١٢

٣. كشف الغطاء عن الفلك                    ١٣-١٤

٤. خروج نوح إلى الأرض الجديدة             ١٥-١٩

٥. إقامة نوح مذبحًا للرب                     ٢٠ -٢٢

١. اجتياز ريح على الأرض:

"ثم ذكر الله نوحًا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك،

وأجاز الله ريحًا على الأرض فهدأت المياه...

وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال" [١، ٥].

إن كان الله قد أغلق على نوح فهو لا ينساه وسط المياه، إنما كالفخاري الذي يترقب الإناء الطيني داخل الفرن، يخرجه في الوقت المناسب إناءً للكرامة. من أجل نوح البار تفجرت ينابيع الغمر وانفتحت طاقات السماء لكي تغسل له الأرض وتجددها، فينعم بعالم جديد عوض القديم، ومن أجله أغلق عليه الرب حتى يكون محفوظًا من كل التيارات المحيطة به، ومن أجله أيضًا أرسل ريحًا على الأرض. نحن نعلم أن كلمة "ريح" وكلمة "روح" في العبرية هما كلمة واحدة... وكأن الله وسط مياه المعمودية يهب بروحه القدوس لتقديس أرضنا، فنتهيأ كأعضاء لجسد السيد المسيح ونصير هيكلاً لروحه القدوس. يقول القديس أكليمنضس الاسكندري: [أن المربي يخلق الإنسان من تراب ويجدده بالماء وينميه بالروح[187]].

الآن إذ هدأت المياه ورجعت استقر الفلك في اليوم السابع عشر من الشهر السابع على جبل أراراط بأرمينيا، أسمه مشتق من الكلمة الأكادية "أرارطو" وتعني "مكان مرتفع"، ولعلها القمة التي تدعى حاليًا بالتركية "أغرى داع" أي "جبل شاهق" يبلغ ارتفاعها ١٦٩١٦ قدمًا فوق سطح البحر.

في اليوم الأول من الشهر العاشر بدأت تظهر رؤوس الجبال الأقل ارتفاعًا إن كان رقم ١٠ يشير إلى الناموس فإذ يبدأ الإنسان حياته بالوصية (الناموس الروحي) تظهر في داخله رؤوس جبال الفضيلة التي سبقت فتغطت واختفت بسبب خطايانا. إن كان الفلك أي السيد المسيح يستقر في داخلنا كما على جبل أراراط، جبله الشاهق الصلد، فإنه يتجلى في داخلنا وتتراءى الحياة التقوية في أعماقنا كرؤوس جبال حية حينما نقبل ناموسه الروحي فنكون كمن في اليوم الأول من الشهر العاشر.

٢. إرسال غراب وحمامة:

مضى أربعون يومًا على ظهور رؤوس الجبال، عندئذ فتح نوح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل غرابًا، فكان الغراب مترددًا [٧]، ينطلق إلى حيث الجيف النتنة ليعود مرة أخرى إلى الفلك يقف خارجه، وهكذا كان يراه نوح مترددًا. عان نوح فأرسل حمامة وإذ لم تجد مقرًا لرجلها رجعت إليه إلى الفلك [٩]، فمد يده وأخذها عنده فلبثت أيضًا سبعة أيام وعاد فأرسلها فجاءته عند المساء معها ورقة زيتون خضراء في فمها. وبعد سبعة أيام أخر أرسلها فلم ترجع إليه.

إن كان الفلك يشير إلى الكنيسة، فقد وجد فيه الغراب والحمامة، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لقد أرسل نوح هذين النوعين من الطيور، كان لديه الغراب والحمامة أيضًا... إن كان الفلك هو الكنيسة فبالحقيقة تُرى خلال طوفان العالم الحاضر وقد ضمت بالضرورة النوعين: الحمامة والغراب. ما هي الغربان؟ الذين يطلبون ما لذواتهم. ما هو الحمام؟ الذين يطلبون ما هو للمسيح (في ٢: ٢١)[188]]

الغراب يشير إلى الخطية التي يجب أن تُطرد، تنطلق فلا تعود تدخل إلى الفلك؛ بل تبقى مترددة بين الجيف الفاسدة والفلك من الخارج، ولا يمد نوح يده ليدخلها عنده كما فعل مع الحمامة. يقول القديس أمبروسيوس: [الغراب هو رمز الخطية التي تذهب ولا ترجع، إذ حُفظ فيكم البر في الداخل والخارج[189]]. كما يقول القديس چيروم: [أُرسل الغراب من الفلك ولم يرجع، وبعده أعلنت الحمامة السلام للأرض؛ هكذا في عماد الكنيسة يُطرد الشيطان، أدنس أنواع الطيور، وتعلن الحمامة الروح القدس السلام لأرضنا[190]]. كما يقول: [إذ سقط العالم في الخطية لا يقدر أن يغسله من جديد إلاَّ مياه الطوفان. طارت حمامة الروح القدس نحو نوح بعد أن خرج الغراب بعيدًا، وصار كما لو كانت متجهة نحو المسيح في الأردن (مت ٣: ١٦). جاءت تحمل في منقارها غصنًا يرمز للإصلاح والنور، لتبشر للعالم كله بالسلام[191]].

إن كان الغراب وجد له طعامًا ومستقرًا على الجيف الفاسدة، لكن الحمامة (النفس المؤمنة) لا تستريح إلاّ في يدي نوح... خرجت من الفلك ثلاث مرات:

أ. في المرة الأولى لم تجد لرجلها مقرًا، إشارة إلى النفس الملتهبة بالروح القدس – الحمامة السماوية – التي لا يمكن أن تستقر أو تستريح على الجيف الفاسدة. إنها منجذبة في غربتها نحو الفلك، تجد يد مسيحها ممتدة لتحملها في حضنه كموضع راحة.

ب. في المرة الثانية خرجت إلى العالم لتعود تعلن سلام المسيح خلال العالم الجديد، بعد اختفاء الجيف ونزع الفساد بظهور الحياة الجديدة في المسيح يسوع. يرى القديس أغسطينوس في غصن الزيتون رمزًا للسلام من جوانب كثيرة منها أن شجرة الزيتون دائمة الاخضرار وكأنها تمثل الإنسان المملوء سلامًا لا تفقده العواصف اخضراره؛ ومن جانب آخر فإن زيت الزيتون متى سكب عليه سائل آخر كالماء ليس لا يفسد بل يطفو على الماء دون أن يمتزج به، وكأنه بالإنسان الذي متى صدمته مياه التجارب يعلو عليها ويطفو فوق الضيق.

ج. في المرة الثالثة خرجت من الفلك ولم تعد لا لتترك نوحًا وإنما إشارة لانطلاق الموكب كله إلى الأرض الجديدة، وكأنها تمثل الإنسان وقد انطلق إلى الأبدية كحياة جديدة، فلا يعود بعد بالجسد داخل الكنيسة المنظورة على الأرض، وإنما وهو عضو فيها انطلق إلى حيث يلتقي الموكب كله على السحاب ويدخل إلى الأمجاد.

٣. كشف الغطاء عن الفلك:

"فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر وإذا وجه الأرض قد نشف" [١٣]. كان ذلك في السنة الواحدة والستمائة من عمر نوح، في اليوم الأول من الشهر الأول... وكأن نوحًا ينهي الستمائة عامًا من عمره ليبدأ القرن السابع من عمره بكشف غطاء الفلك والتطلع إلى الأرض الجديدة من خلال الفلك. بهذا يشير إلى السيد المسيح – نوح الحقيقي–  قائد الكنيسة والحال في وسطها لنياحتها، يعمل الأيام الستة (٦) من أجل خلاص قطيعه المئة (لو ١٥: ٤) كل أيام تغرب الكنيسة (٦ × ١٠٠ = ٦٠٠)، حتى متى انقضى الزمن وجاء اليوم السابع الذي هو يوم الراحة ينزع الرب كل غطاء لنلتقي معه وجهًا لوجه. وكما يقول الرسول بولس: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، لكن حينئذ وجهًا لوجه؛ الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت" (١ كو ١٣: ١٢). هكذا مع كل ما تمتع به الرسول هنا من إعلانات إلهية وشركة مع الله وتذوق للحياة السماوية، حسب نفسه في هذا كله كمن هو في مرآة أو في لغز إن قورن بما يناله في اللقاء الأبدي مع الله وجهًا لوجه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان الله يسرع إلينا الآن لكي نلتصق به وعندئذ نعرف الكثير من الأمور التي تُحسب الآن سرًا، وننعم بالحياة المطوبة جدًا والحكمة[192]].

٤. خروج نوح إلى الأرض الجديدة:

في اليوم السابع والعشرين من الشهر الثاني جفت الأرض تمامًا وصدر الأمر لنوح أن يخرج، وكان ذلك بعد ثمانية أسابيع من رفع الغطاء عن الفلك، وفي ختام الأسبوع الثالث والخمسين من بدء الطوفان. فيما يلي جدول مبسط لأحداث الطوفان.

 

دخول نوح الفلك ونزول الطوفان (١٧/٢/٦٠٠ من عمره)

[بعد الأمر بجمع الحيوانات والطيور (١٧/٢/٦٠٠ بسبعة أيام)]

1.

 

٤٠ يومًا

مدة سقوط الأمطار وانفجار ينابيع الغمر

2.

 

١١٠ يومًا

تعاظم المياه على الأرض ١٥٠ يومًا بما فيها الأربعين يومًا للطوفان

3.

 

٧٤ يومًا

نقصت المياه حتى ظهرت رؤوس الجبال

(١/١٠/٦٠٠ - تك ٨: ٥)

4.

٤٠ يومًا

إرسال الغراب بعد ٤٠ يومًا (٨: ٦، ٧)

5.

٧ أيام

إرسال الحمامة للمرة الأولى بعد ٧ أيام

6.

٧ أيام

إرسال الحمامة للمرة الثانية 

7.

٧ أيام

إرسال الحمامة للمرة الثالثة 

8.

٢٩ يومًا

من إرسال الحمامة إلى كشف الغطاء (١/١/٦٠١)

9.

٥٧ يومًا

من كشف الغطاء إلى خروج نوح (٧/٢/٦٠١ - تك ٨: ١٤)

10.

مدة أحداث الطوفان من بدئه حتى خروج نوح من الفلك سنة و11 يومًا  371 يومًا

(360 + 11).

٥. إقامة نوح مذبحًا للرب:

أول ما صنعه نوح بعد خروجه من الفلك هو إقامة مذبح للرب على الأرض الجديدة التي غسلتها مياه الطوفان، وكأن الكنيسة لا تقدر أن تقدم ذبيحة السيد المسيح (الأفخارستيا) إلاّ بعد التمتع بالمعمودية. لهذا السبب أيضًا نجد الكتاب المقدس للمرة الأولى يعلن عن إقامة مذبحًا للرب، وإن كان بلا شك قد قدمت ذبائح للرب منذ الخروج من الفردوس...

أعلن الله رضاه على الإنسان بعد أن تنسم رائحة سرور خلال ذبيحة المصالحة، مؤكدًا أنه لا يعود يهلك البشرية معًا بسبب ضعفها. عجيب هو الله في صفحه وعفوه!

بدأت الحياة الجديدة بالعبادة خلال الذبيحة كما خلال الصليب، فانتزعت اللعنة عن الأرض [٢١]... وعندئذ صار الإنسان يعمل لاحتياجاته اليومية.

أخيرًا ما قدمه نوح كان رمزًا لعمل السيد المسيح الذبيحي في كنيسته، وكما يقول الكاهن: [الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمّه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة[193]].

<<

الأصحاح التاسع

تجديد العهد

إذ تنسم الله من الإنسان المتجدد في ذبيحته رائحة رضا بارك البشرية، مقدمًا لها ناموسًا تخضع له، وعهدًا يربطها به، وعلامة تسندها في أيام غربتها.

١. الله يبارك نوحًا وبنيه                       ١

٢. ناموس نوح                                ٢-٧

٣. تجديد العهد                                 ٨-١٧

٤. نوح وعريه                                ١٨-٢٣

٥. نبوة نوح عن كنعان وسام ويافث          ٢٤-٢٨

١. الله يبارك نوحًا وبنيه:

"وبارك الله نوحًا وبنيه، وقال لهم: اثمروا واكثروا واملأوا الأرض" [١]. إذ خرج نوح وبنوه إلى الأرض المتجددة بمياه الطوفان باركهم الله وقدم لهم ما سبق أن وهبه لآدم وحواء: "اثمروا واكثروا واملأوا الأرض"... وكأن الإنسان قد بدأ من جديد، أو كأن العالم قد انطلق انطلاقة جديدة خلال نوح عوض آدم الأول. هذه البركة في حقيقتها هي رمز للبركة التي نالتها الكنيسة في العهد الجديد خلال نوح الحقيقي، ربنا يسوع واهب النياح أو الراحة، فعوض آدم الأول صار لنا آدم الثاني رأسًا، وعوض حواء الأولى صارت لنا الكنيسة حواء الجديدة خلالها يولد أولاد الله ويتكاثرون وينمون جدًا. خلال آدم الأول صار لنا الميلاد الجسدي، وخلال آدم الجديد أو نوح الحقيقي صار لنا الميلاد الروحي.

وكما يقول القديس مار يعقوب السروجي: [أبونا الأول لدغته الحية، وانحدرت به إلى الجحيم، وها هو هناك داخل الهلاك مطروح في مذلة يحيط به الوحل، وأصناف الدود، صار السوس لباسه، والعنكبوت رداءه. الأرض من تحته والسوس فوقه. لقد انحط في التراب فاحتضن طينه وابتلى بالهاوية. هذا هو أبونا الأول، وهذه هي بلده. فلو لم يتغير هذا الميلاد لكنا في ذلٍ عظيمٍ... اهربوا أيها السامعون من هذا الذل العظيم، واطلبوا لكم أبًا آخر في السماء. أسرع والتجئ إلى المعمودية واطلبها أمًا لك، فهي تقدم لك أبًا غنيًا مملوءًا خيرات. إنها تلدك حتى وإن كنت شيخًا، فتجعلك صبيًا محبوبًا للملك أبيك[194]].

ويقول القديس أغسطينوس: [إن لنا ميلادين: أحدهما أرضي والآخر سماوي. الأول من الجسد والثاني من الروح. الأول صادر عن مبدأ قابل للفناء والثاني عن مبدأ أبدي. الأول من رجل وامرأة الثاني من الله والكنيسة. الأول يجعلنا أبناء الجسد، والثاني أبناء الروح. الأول يصيرنا أبناء الموت والثاني أبناء القيامة. الأول أبناء الدهر والثاني أبناء الله. الأول يجعلنا أبناء اللعنة والغضب، والثاني أبناء البركة والمحبة. الأول يقيدنا بأغلال الخطيئة الأصلية والثاني يحلنا من رباطات كل خطيئة[195]].

٢. ناموس نوح:

إن كان الله قد وهب البشرية خلال مياه المعمودية بركة لتبدأ بانطلاقة جديدة خلال نوح عوض آدم، فقد وضع الله لها ناموسًا عوض الوصية التي قدمها قبلاً لآدم، وقد جاء هذا الناموس الذي يمكن دعوته "ناموس نوح" يحوي البنود التالية:

أولاً: السماح بأكل لحوم الحيوانات والطيور والأسماك، إذ قال لهم "لتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض وكل أسماك البحر دُفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعامًا، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع" [3-4]. كان طعام الإنسان قبلاً العشب الأخضر، والآن سُمح له بأكل لحوم الحيوانات والطيور والأسماك... لماذا؟ لكي يهيئ الطريق لقبول الشريعة الموسوية التي بها يلتزم الكاهن أن يأكل من ذبيحة السلامة كرمز للتمتع بالتناول جسد ربنا يسوع ودمه، كقوله: "لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية" (يو ٦: ٥٤، ٥٥). فالذبيحة ليست كما يظن بعض الوثنيين لتهدئة غضب الله، إذ الله لا يُسر بالمحرقات ولا يأكل لحوم أو شحوم، إنما الذبيحة المقدسة وهي تعلن مصالحة الله مع الإنسان هي عطية للإنسان بها تشبع نفسه ويرتوي قلبه على مستوى روحي فائق للطبيعة.

ثانيًا: إذ سمح بأكل اللحوم حذر من أكلها بدمها، ليهيئ الطريق للكشف عن خطورة الدم المبذول عنا كعنصر أساسي للتكفير والفداء، إذ "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب ٩: ٢٢)، "دم كريم من حمل بلا عيب دم المسيح" (١ بط 1: 19).

من الجانب الجسدي منعه من أكل الدم أو شربه لأجل المحافظة على صحته، ومن الجانب السلوكي خشى عليه من التوحش والعنف، أما من الجانب الروحي فأراد تقديس الدم بكونه يمثل الحياة المبذولة من أجل خلاص الإنسان.

ثالثا: خشي الله من السماح للإنسان بأكل لحم الحيوانات فتمتد يده على أخيه الإنسان لذا حذر من سفك دم الإنسان.

٣. تجديد العهد:

أقام الله ميثاقًا مع نوح وبنيه، وجعل قوس قزح علامة للميثاق بينه وبينهم، وبينه وبين نسلهم من بعدهم. إذ جاء التأديب خلال الطبيعة (الطوفان) أقام الله العلامة في الطبيعة علانية (قوس قزح)، إما في العهد الجديد إذ حمل السيد المسيح تأديبنا في جسده جعل العلامة فيه خلال جراحات الصليب.

يظهر قوس قزح حول العرش الإلهي (رؤ ٤: ٣؛ ١٠: ١)، ذلك لأن مجد الله ليس جبروتًا وعظمة فحسب وإنما هو أيضًا حب بلا حدود. وقوس قزح علامة الحب التي قدمها الله حين أقام ميثاقًا مع نوح بعد الطوفان، ويبقى الله كمحب للبشرية يقدم لنا كل حب خلال ميثاقه معنا. هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسانات الله وعطاياه المتعددة. وهو كقوس يشير إلى القوس الذي كان مستخدمًا في الحروب، وكأن الله يدافع عنا بقوسه لكن بدون سهم لأنه غير محب لسفك الدماء، به نغلب الخطية وندوس على الشيطان[196].

والعجيب أن الله في حبه للإنسان يعتز بالميثاق معه، فيقول: "ميثاقي" [٩، ١١، ١٥]، "قوسي" [13].

٤. نوح وعريه:

إذ خرج إلى الأرض الجديدة التي غسلتها مياه الطوفان "ابتدأ نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا" [٢]. لم يكن "عاملاً في الأرض" (تك ٤: ٢) كما كان قايين بل فلاحًا يغرس كرمًا، فقايين يشير إلى الإنسان الذي يصب عمله في الأرض والأرضيات ويبذل كل طاقته في الزمنيات، أما نوح فيشير إلى السيد المسيح الذي جاءنا كفلاح يغرس كرمه من جديد، أي الكنيسة التي صارت كما في أرض جديدة ترتوي بمياه الروح القدس وتغتسل بدم السيد المسيح القدوس. وقد جاء في أسطورة يهودية أن نوحًا حصل على "عُقلة" من كرم سقطت من الفردوس فغرسها[197].

على أي الأحوال غرس نوح كرمًا غالبًا ما كان لا يدرك فاعلية عصير الكرم المختمر... لذا يرى بعض الآباء في نوح أنه أول من اختبر المسكر[198]. إن كان قد سكر بمعرفة أو غير معرفة فقد تعرى، وسجل لنا الكتاب المقدس هذا الضعف ليؤكد لنا أن الخلاص لم يكن بسبب بر نوح الذاتي فإن كان بارًا إنما بسبب النعمة التي كانت تسنده في جهاده.

كشف هذا الموقف عن الآتي:

أولاً: خطورة السكر الذي يُفقد الإنسان سترته، ويعريه حتى أمام بنيه. يقول القديس چيروم: [لا يجوز لأحد أن يقول بأن السكر ليس بخطية نقرأ عن نوح أنه سكر مرة، ولكن الله يحذرنا من أن نظن فيه أنه سكير ومدمن للخمر[199]]. كما يقول: [ساعة واحدة سكر فينا عرّت (نوحًا) الذي ظل مستترًا طوال ستمائة عام بالوقار[200]]. كما يقول: [بعد سكره تعرى جسده، فإن تدليل النفس يؤدي في النهاية إلى السقوط في الشهوة، فالبطن تتخم أولاً وعندئذ تثور الأعضاء[201]]. ويقول القديس أمبروسيوس: [يا لسلطان الخمر، فقد جعلت ذاك الذي لم تغلبه مياه الطوفان أن يصير عاريًا![202]].

إن كانت الخمر هكذا تسكر الإنسان، فتعري ذاك الذي استتر بالوقار أكثر من ستمائة عام، ذاك الذي لم تستطع أن تبلغ إليه مياه الطوفان، فإن الخطية هي بالحقيقة الخمر المسكر الذي يعري النفس ويفضحها، أما السيد المسيح فهو اللباس البهي الذي يستر النفس من فضيحتها الأبدية. يقول القديس چيروم: [نحن ثوب المسيح إذ يلبسنا خلال إيماننا به نلبسه نحن أيضًا (كثوب لنا)، وكما يقول الرسول أن المسيح هو لباسنا، نرتديه عندما نعتمد (غلا ٣: ٢٧). فإننا إذ نلبس المسيح يلبسنا هو أيضًا![203]].

ثانيًا: إذ تعرى نوح أبصر حام عورة أبيه، أما سام ويافث فبوحي الناموس الطبيعي حرصا ألا يبصروا عورة أبيهما. هنا تظهر وحدة الناموس الطبيعي والناموس المكتوب وتطابقهما، إذ يحذر الناموس الإنسان من كشف عورة الأب أو الأم (لا ٨: ٦– ١٨). هذا وكشف العورة لا يفهم فقط بالمعنى الحرفي البحت، إنما ربما يقصد به عدم الاعتداء على زوجة الأب أو ارتكاب الفتاة شرًا مع زوج أمها!... لكن ما فعله حام كان فيه سخرية بأبيه المتعري بالمعنى الحرفي لمعنى التعرية.

إن كنا نرى بالإيمان كل إنسان أبًا أو أمًا أو أخا أو أختًا لنا، فليتنا لا نعري أحدًا، إنما نستر بالحب قدر ما نستطيع في المسيح يسوع ساتر خطايانا!

ثالثًا: إن كان نوح قد أخطأ بشربه الخمر وسكره حتى تعرى، فإن الله في محبته لم يخف ضفعات رجاله بل يحول حتى الضعفات للخير، كما حول خطة إخوة يوسف لهلاك أخيهم لخيرهم وخيره. لقد رأى القديس چيروم في قصة نوح هذه صورة رمزية للسيد المسيح الذي شرب كأس الألم، ومن أجلنا تعرى على الصليب، فسخر به الأشرار (حام) بينما آمن به الأمم (سام ويافث). وكما يقول القديس چيروم: [قيل هذا كله كرمز للمخلص الذي شرب الألم على الصليب، قائلاً: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت ٢٦: ٣٩). شرب وسكر وتعرى جسده... فقد جاء الكبير (حام) أي اليهود وضحك، أما الأصغر أي الأمم فغطى آلامه... وكما سكر الأب بآلامه هكذا يسكر القديسون برائحة إيمانهم، يسكرون بالروح القدس. فقد كنتم بالأمس تجمعون الذهب والآن تلقونه عنكم، أما يُحسب هذا سكرٌ في عيني من لا يفهم هذه الأمور. أخيرًا، عندما حل الروح القدس على التلاميذ وملأهم وتكلموا بلغات كثيرة اُتهموا أنهم سكارى بخمر جديدة[204]]. ويلاحظ أن القديس چيروم حسب حامًا هو الأكبر، وربما يقصد أكبر من يافث أو من سام، أما الأصغر ممثل الأمم فربما قصد يافث أو سام. على كلّ فقد اختلفت الآراء في ترتيب أبناء نوح، فريق يرى ترتيبهم هكذا: سام ثم حام فيافث باعتبار أنهم ذكروا هكذا في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس، وفريق آخر يرى أن سامًا لم يكن بالبكر جسديًا لكنه ذكر أولاً لأن منه جاء الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب وظهر منه الشعب القديم الذي وُلد منه السيد المسيح حسب الجسد. وأن حامًا ذُكر بعده لمجاورته لأخيه سام، ثم يافث لبعده عن أخويه نسبيًا. ويؤيد هذا أنه في الأصحاح الحادي عشر جاءت مواليد يافث أولاً ثم مواليد حام وأخيرًا سام.

٥. نبوة نوح عن كنعان وسام ويافث:

"فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير" [٢٤]. يرى البعض أن المقصود بابنه الصغير هنا حفيده كنعان بن حام، لكن الأرجح أنه حام.

يرى العلامة أوريجانوس أن كنعان رأى عوره جده فأخبر أباه حامًا، وقال أن كنعان هزيء بجده كثيرًا... على أي الأحوال يبدو أن حامًا وابنه كنعان اشتركا في السخرية بنوح، فكانًا يمثلان الذي يصلبون السيد المصلوب لأنفسهم مرة ثانية ويشهرونه بسبب أعمالهم الشريرة (عب ٦: ٦). وقد لعن نوح حفيده كنعان، مباركًا إله سام وطالبًا الخيرات ليافث... وقد جاءت كلماته تحمل نبوة عن الأجيال المقبلة، ويلاحظ فيها الآتي:

أولاً: لم يلعن نوح ابنه حامًا بل حفيده كنعان، ولعل حفيده كان أكثر سخرية به من ابنه؛ هذا ويرى الشهيد يوستين أن الابن الذي باركه الله بفمه من قبل مع أخوته لا يمكن أن يُعلن، وقد حلت اللعنة بالابن الذي مارس خطية أبيه وربنا بصورة أبشع. هذا ومن ناحية أخرى فإن دعوة كنعان بعبد العبيد أي النزول إلى أدنى صور العبيد إنما هي نبوة عن الكنعانيين الذين عاندوا الله وانحرفوا إلى الرجاسات الوثنية مثل تقديم أبنائهم ذبائح للأصنام (لا ١٨: ٢٥– ٢٨؛ تث ٢٠: ١٧، ١٨).

ثانيًا: حين تحدث عن سام، بارك "إله سام" ، فقد نُسب الرب لنسل سام، إذ منهم خرج إبراهيم وإسحق ويعقوب، وكما يقول القديس أغسطينوس[205]: [أن النبوة تحققت بولادة السيد المسيح منهم حسب الجسد؛ فإن كان اسم "سام" يعني "سامٍ" أو "عالٍ" فأي أسم أسمى من السيد المسيح الذي فاح عبيره في كل موضع؟!

ثالثًا: جاءت النبوة عن "يافث" والذي يعني "توسع" أو "ملء" أن الله يفتح له فيسكن في مساكن سام، فقد اتسعت مساكن سام كنيسة (السيد المسيح) لتقبل ملء الأمم، أي تقبل يافث فيها.

<<

الأصحاح العاشر

 تعمير الأرض الجديدة

بعد تجديد الأرض بمياه الطوفان عمرّها الله بذرية نوح، ولكن بالرغم من التجديد الذي تم عاد الإنسان وتمسك بالشر فانتشر في العالم.

في هذا الأصحاح يقدم لنا الوحي الإلهي سلسلة مواليد نوح، تكشف عن أصل الأمم القديمة، وكما يقول الأستاذ كاتوتش من مدينة هال Prof. Kautysch of Haile [إنه سجل لا نظير له على الإطلاق لبيان أصل الأمم ومنشأها، وقد أيدته كل الاكتشافات الأثرية السالفة[206]]. في القديم ظن البعض في هذه السلسلة لبثًا أو خطأ من جهة أصل الشعوب لكن الاكتشافات الحديثة جاءت متفقة مع ما ورد في هذا الأصحاح.

هذا السفر لا يهدف إلى عرض نشأة الأمم إنما أراد أن يقدم لنا تميدًا لنشأة الشعب القديم الذي منه يخرج السيد المسيح مخلصًا للشعوب.

١. بنو يافث                 ١-٥

٢. بنو حام                  ٦-٢٠

٣. بنو سام                 ٢١–٣١

١. بنو يافث:

"يافث" إسم سامي يعني "ليكن فسيحًا أو رحبًا[207]".

وُلِدَ بعدما بلغ نوح حوالي ٥٠٠ عامًا (٥: ٣٢؛ ٦: ١٠). عندما تعرى والده بسبب السكر تصرف مع أخيه سام بحكمة ووقار فنال بركة تبدو غامضة (٩: ٢٧)، تعلن تحرك الشعوب غير السامية (من نسل يافث) لتسكن في مساكن سام. ويرى البعض أنها تشير إلى التحركات التي حدثت أكثر من مرة لبعض الأمم والشعوب إلى حضن السيد المسيح أو إلى كنيسته، هذا الذي جاء متجسدًا من نسل سام، وقد فتح أبواب كنيسته لكل الشعوب والأمم. يافث يمثل الشعب (الهندو أوربي) بوجه عام[208].

ذكر هنا سبعة بنين ليافث دعيت بأسمائهم عدة شعوب، كما تفرعت من بينه السبعة شعوب أخرى، لا يسع المجال هنا للحديث عنها. أما أولاده السبع فهم:

أولاً- جومر: كلمة "جومر" بالعبرية تعني "نهاية الكمال" خاصة كمال الفشل[209]، وقد حملت امرأة هوشع النبي ذات الاسم: "جومر بنت دبلايم".

سكن نسل جومر في الشمال حتى لقبهم هوميروس اليوناني Homer "أهل الشمال الأقصى[210]" وذكر هيرودت أنهم جاءوا إلى آسيا من مناطق ما وراء القوقاز[211]، واستوطنوا كبادوكية، وهددوا الإمبراطورية الأشورية لكن اسرحدون هزمهم. وإذ اتجهوا نحو الغرب احتلوا آسيا الصغرى ودخلوا في أكثر من معركة مع جيجس Guges ملك ليديا، وانتهت بقتله، ولعله هو الذي دعي في الكتاب المقدس باسم جوج[212]. انسحبوا بعد ذلك من آسيا (ليديا) بواسطة الألياتيس Alyattes[213].

ثانيًا- ماجوج: كلمة "ماجوج" عبرية تعني "أرض جوج". إقترن اسم ماجوج باسم جوج، وصار الاسمان رمزًا لمقاومة الإيمان المسيحي (رؤ ٢٠: ٧– ٩).

في القرون الوسطى دعا السوريون بلاد التتر ماجوج، أما العرب فسموا الأرض الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود ماجوج، لكن الغالبية حسبوا السكيثيين هم أهل ماجوج.

ثالثًا- ماداي: من نسله تكونت إمبراطورية مادي التي اتحدت مع فارس؛ وقد عرفت بلادهم باسم مادي أو ميديا، سكنوا جنوب وجنوب غربي بحر قزوين، تبلغ مساحتها حوالي 150.000 ميلاً مربعًا.

رابعًا- ياوان: هو أب اليونانيين، لذا فإن كلمة ياوان في الكتاب المقدس كما في (زك ٩: ١٣)، يقصد بها الشعب اليوناني أو المكدوني؛ كانت بلادهم تلقب أيضًا "أيوينا".

خامسًا- توبال: ذكر مع ياوان (إش ٦٦: ١٩) ومع ماشك في تجارة الرقيق (حز ٢٧: ١٣). كان جوج رئيسًا لماشك وتوبال، إذ أرتبط الشعبان معًا، وقد ظهرا في التواريخ الأشورية باسمي Mushbi, Tabali كمقاومين عنيدين ضد أشور في القرن الثاني عشر ق.م.

يرجح أن ذرية توبال كانت تسكن البلاد الواقعة شرق آسيا الصغرى.

سادسًا- ماشك: يظن أن ذريته قطنت الأراضي التي تقع بقرب ينابيع الفرات ودجلة (مز 120: ٥؛ حز ٣٢: ٢٦)، ثم انتقلت إلى جوار البحر الأسود وبحر قزوين. كان نسله يتاجر مع صور (حز ٢٧: ١٣).

سابعًا- يتراس: جاء من نسله الشعب الترسيني؛ قطنوا في جزر وسواحل بحر إيجية Aegean Sea ولعلهم هم قراصنة تروشا Turusha الذي غزوا مصر وسوريا في القرن ١٣ ق.م، وأُشير إليهم في سجلات رمسيس الثالث[214].

من هؤلاء الأبناء السبعة جاء نسل يقدم لنا أممًا وشعوبًا أخرى لا يسع المجال للحديث عنهم الآن.

٢. بنو حام:

كلمة "حام" تعني "حامٍ" أو "ساخن"، لذلك دعي إله الشمس "حامو" Hammu بسبب حرارة الشمس ودفئها.

وُلد حام بعدما بلغ نوح ٥٠٠ عامًا (تك ٥: ٣٢؛ ٦: ١٠؛ ٩: ٢٤). وقد تصرف هو وابنه الصغير كنعان مع نوح بغير حكمة فسقط كنعان تحت اللعنة (٩: ٢٢– ٢٧).

وقد قدم لنا حام خلال أولاده الشعوب التي قطنت جنوب العربية والنوبة وأثيوبيا ومصر وأرض كنعان. وإن كان أسم حام أحيانا يطلق على مصر في القطع الشعرية (مز ٧٨: ٥١؛ ١٠٥: ٢٣، 27؛ ١٠٦: ٢٢).

أولاً- كوش: كلمة "كوش" تعني بالعبرية "أسود".

كوش، بكر حام، أنجب خمسة أبناء قدموا خمسة شعوب: سبا "إنسان"، حويلة "دائرة أو مقاطعة"، سبتة "ضارب"، رعمة "ارتعاش"، سبتكا "ضارب"[215]. سكنت هذه الشعوب في وسط البلاد العربية وجنوبها، لكن سبا رحل إلى أفريقيا (أثيوبيا)، لذلك فإن كوش في العهد القديم غالبًا ما يقصد به أثيوبيا والنوبة (جنوب مصر)، وأحيانًا جنوب ووسط شبه الجزيرة العربية... وفي كثير من قواميس الكتاب المقدس تعتبر كوش هي أثيوبيا فقط.

وقد قدم نسل حام بوجه عام شعوبًا وأممًا مقاومة لعمل الله ولشعبه في العهد القديم، لذا جاء العهد القديم يعلن العقوبة الإلهية على هذه الشعوب بكونها تحمل رموزًا للشر، فكوش كانت تشير إلى ظلمة الجهالة، ومصر إلى محبة العالم التي تستعبد النفس وكنعان إلى العمل الشيطاني الخ... لكن النبوات في العهد القديم لم تترك هذه الشعوب بلا رجاء وإنما أعلنت رفض شعب الله للإيمان ودخول هذه الأمم إلى الميثاق الإلهي. هكذا الأمم التي كانت تحت اللعنة بسبب وثنيتها ورجاساتها صارت العروس المقدسة التي تتهيأ للحياة الأبدية في حضن الآب السماوي.

إن كان الكتاب المقدس قد قدم كشفًا عن عمله خلال نسل سام حيث يأتي كلمة الله متجسدًا من نسل إبراهيم... فإنه يكشف أيضًا عن عمل عدو الخير خاصة خلال نسل كوش الذي قدم نمرودًا، ومن نسل كنعان الذي قدم الشعوب الكنعانية المقاومة لعمل الله، أما بالنسبة لنمرود بن كوش فقيل: "الذي ابتدأ أن يكون جبارًا في الأرض، الذي كان جبار صيد أمام الرب، لذلك يُقال: كنمرود جبار صيد أمام الرب" [٨، ٩]. كان صيادًا جبارًا، أسس الأسرة الحاكمة في بابل وشعنار وأكاد، وربما كان هو نفسه جلجاميش الأكادي أو البابلي. على أي الأحوال لقد صارت بابل فيما بعد رمزًا لمعاندة الله والكبرياء، كما للزنى الروحي (رؤ ١٤: ٨؛ ١٦: ١٩؛ ١٧: ١- ٥). صارت بابل تشير إلى جماعة الأشرار كما يقول القديس أغسطينوس[216]: [كما إلى مملكة الدجال[217]].

كلمة "نمرود" تعني "جبار" أو "متمرد". أما القول "جبار صيد أمام الرب"، فربما تعني انه كان عنيدًا ومتمردًا يعتز بذاته في قدرته على الصيد وفي مقاومته للرب. والعجيب أن كثيرين من مقاومي الرب كانوا صيادين للوحوش مثل عيسو. لهذا السبب يقول القديس چيروم: [عيسو أيضًا كان صيادًا، وكان خاطئًا. في كل الكتاب المقدس لا نجد صيادًا عبدًا مؤمنًا إنما نجد صيادي السمك مؤمنين[218]].

كانت مملكة نمرود في أرض شنعار التي تعني "نهرين"، ربما لوقوعها بين نهري دجلة والفرات، وهي المناطق السهلة في بلاد بابل. وقد حوت هذه المملكة أربع مدن رئيسية في ذلك الوقت: بابل التي تعني باب الله (باب إيلو)، أرك أي مستديم، أكد أو أكاد أي مستقيم، وكلنة أي حصن.

لم يكتف نمرود أو قبيلته فيما بعد بهذه المنطقة بل انطلق إلى آشور، ونينوى (مأوى الإله نين)، ورحوبرت عير (المدنية الرحبة)، وكالح (شيخوخة)، ورسن (رأس عين).

ثانيًا- مصرايم: كلمة "مصرايم" في العبري مثنى، لذا ظن البعض أنها دعيت هكذا بسبب وجود الوجه البحري والوجه القبلي، أو لأن نهر النيل يقسمها إلى ضفة شرقية وأخرى غربية، لكن الرأي الأرجح أنها دعيت "مصر" بالعربية عن العبرية نسبة إلى مصرايم حيث سكن هو وأولاده فيها، وإن كان قد امتد نسله إلى البلاد المجاورة. أما أولاده فهم:

لوديم: منه جاء شعب لود أو اللوديون، وهم غير شعب لود من نسل سام [٢٢]. هؤلاء من نسل مصرايم، كانوا يقطنون غربي النيل نحو ليبيا.

عناميم: يبدو أن القبيلة التي من نسله سكنت في ليبيا.

لهابيم:  يبدو أن قبيلة لهابيم هي بعينها قبيلة لوبيم أو "اللوبيون"، وهم أفريقيون، نشأوا أصلاً في مصر.

نفتوجيم: نسله من سكان مصر الوسطى، قرب منف مركز الإله بتاح، وربما نزح بعضهم إلى أثيوبيا.

فتروسيم: سكنوا في فتروس بصعيد مصر. كلمة "فتروس" تعني "أرض الجنوب".

كسلوجيم: معناها "محصن"، نسله غالبًا سكنوا في "كسيونس" وهي منطقة جبلية شرق البلسم، في حدود مصر من جهة فلسطين. وقد خرج من كسولجيم فلشتيم الذي هاجر نسله إلى فلسطين، وهناك نشأ الشعب الفلسطيني القديم. ولعل كلمة فلسطين مشتقة من "فلشتيم"، وتعني "متغرب" أو "مهاجر". كما خرج من كسلوجيم كفتوريم، وتعني "أكاليل"، سكن نسله في كفتور ويظن البعض أنها كانت في كبدوكية بآسيا الصغرى، والآخر يرى أنها قبرص أو جزيرة كريت، وإن كان آخرون يرون أنها كانت في دلتا مصر بجوار منف، حيث وجدت مدينة تسمى "كابت هور" يغلب أنها "كفتور".

ثالثًا- كنعان: الابن الأصغر لحام، من نسله ظهرت القبائل الكنعانية، وقد تحدثنا في اختصار عن بعض هذه القبائل في مقدمة سفر يشوع[219].

٣. بنو سام:

"سام" اسم عبري يعني "سامٍ".

إذ تصرف سام مع يافث بحكمة عندما سكر أبوهما نوح وتعرى نال سام بركة من فم أبيه. وقد سكن أولاده الخمسة في الأرض الممتدة من عيلام غرب آسيا حتى شرق البحر المتوسط. ومن نسله جاء اليهود والآراميون والآشوريون والعرب، لذلك تُدعي اللغات التي ينطق بها نسل سام باللغات السامية مثل العربية والعبرية. أما أبناء سام الخمسة فهم:

عيلام: كلمة "عيلام" بالأكادية تعني "مرتفعات". إليه يُنسب العيلاميون والفرس. بلاد عيلام وهي تمتد وراء دجلة، شرق مملكة بابل وجنوب آشور وميديا وشمال الخليج الفارسي وجنوب غربي مملكة فارس. عاصمة المملكة شوشان أو شوشن لذلك سمي العيلاميون بالشوشانيين. كانت عيلام مركز إمبراطورية قديمة لها دورها الفعّال السياسي في تاريخ الإمبراطوريات الشرقية القديمة. مع أن عيلام ساهمت في إسقاط دولة بابل (إش ٢١: ٢) لكن الميديين ضموها إلى إمبراطوريتهم (فارس ومادي)، وجعلوا منها ولاية تابعة لهم، كما أقاموا شوشن عاصمة لهم (دا ٨: ٢). ونسمع عن بعض العيلاميين في يوم العنصرة (أع ٢: ٩)، والآن تمثل جزءًا من إيران، تسمى مقاطعة خوزستان.

أشور: هو أب الأشوريين. بلاد أشور تقع على الجزء الأعلى من نهر الدجلة... عاصمة المملكة هي أشور، التي تسمى اليوم "قلعة شرقات" على الشاطئ الغربي من نهر الدجلة بعد ذلك اتخذوا نينوى عاصمة لهم... وكانت أشور في صراع مستمر مع البابليين في الجنوب وضد الحيثيين في الشمال الغربي. وقد خضعت إسرائيل كما خضع يهوذا لأشور يدفع ملوكها الجزية. سقط إسرائيل تحت سبي أشور كما تنبأ عاموس (٥: ٢٧؛ ٦: ١٤)، وهوشع (١٠: ٦؛ ١١: ٥). وقد حارب الله عن حزقيا ملك يهوذا حينما هاجمه سنحاريب ملك أشور (إش ٣٦، ٣٧). أخيرًا حاربهم الماديون والبابليون وانتصروا عليهم بظهور مملكة بابل.

أرفكشاد: جد القبائل العربية اليقطانية. ويرى يوسيفوس أنه جد الكلدانيين أيضًا. موطن الكلدانيين هو المنطقة الجنوبية فيما بين النهرين (المصة).

لود: جد اللوديين، غير شعب لود أو اللوديين الذين من نسل مصرايم. فالآخرون سكنوا غرب النيل بشمال أفريقيا، أما الذين من نسل سام فغالبًا ما سكنوا في منطقة ليديا غرب آسيا الصغرى.

أرام: وتعني "الأرض المرتفعة"؛ اللغة الآرامية هي اللغة السورية القديمة. وقد كانت أرام مجموعة من الدويلات أو المقاطعات، منها أرام ما بين النهرين (٢٤: ١٠)، وأرام دمشق، وأرام صوبة (١ صم ١٤: ١٧)، وأرام معكة (يش ١٢: ٥)، وأرام بيت رحوب (يش ١٩: ٢٨) الخ...

اهتم موسى بذكر أولاد أرفكشاد إذ أنجب شالح، وشالح أنجب عابر، وعابر أنجب فالج، وفالج رعو، ورعو سروج، وسروج ناحور، وناحور تارح الذي أنجب أبرآم الذي تزوج ساراي. وهكذا بدأ بأول انطلاقة للشعب بظهور أبرآم (إبراهيم) أب الآباء. كما أوضح موسى النبي قرابة لوط لأبرآم بكونه ابن أخيه من هاران بن تارح.

ويفسر القديس أغسطينوس[220] العبارة: "أسم الواحد فالج لأن في أيامه قُسمت الأرض" [٢٥]. بأن هذا التقسيم إنما يشير إلى تعدد اللغات، ففي أيام فالج بدأ ظهور أكثر من لغة على الأرض، بعدما كان الكل يتحدث بما دعي فيما بعد بالعبرية.

<<

الأصحاح الحادي عشر

 برج بابل

إن كان الله قد تدخل لتجديد العالم بمياه الطوفان، فعوض أن يستجيب الإنسان بالحب والاتكاء على صدر الله اتكأ على ذاته، وأراد أن يقيم لنفسه برجًا من صنع يديه يحتمي فيه من قرارات الله نحوه. وكأن هذا البرج يمثل الفلسفات المعاصرة – خاصة الوجودية – التي ترى في الله أنه يكتم أنفاس الإنسان ويحرمه من حريته، وكأن مجد الله يقوم على مذلة الإنسان، وقوة الله على حساب كرامة بني البشر، فحسبوا أنه لا مناص من التخلص من هذا الإله بتأليه الذات والهروب من الله للتمتع بكمال الحرية.

١. برج بابل                ١-٩

٢. مواليد سام              ١٠-٢٦

٣. أبرآم ولوط              ٢٧-٣٣

١. برج بابل:

"وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة" [١].

إذ تحدث في الأصحاح السابق عن مواليد نوح وظهور الأمم والشعوب، كل أمة لها لسانها، يستعرض هنا كيف كانت الأرض كلها لسانًا وحدًا ولغةً واحدة، وكيف حدثت بلبلة الألسنة بعد ذلك وصار لكل شعب لسانه ولغته.

كان طبيعيًا أن ينطق الناس لغة واحدة، وقد ظن بعض العلماء أن هذه اللغة هي العبرية ويدللون على ذلك بأن الأسماء الأولى مثل آدم وحواء وعدن الخ عبرية. ونادى فريق آخر بأن اللغة الأولى للعالم هي الكلدانية (السريانية) ويعللون ذلك بأن اللغات الشرقية كلها مشتقة من مصدر واحد وأن العبرية ليست إلاّ فرعًا من فروع هذه اللغة، خاصة وأن الآباء الأولين سكنوا منطقة دجلة والفرات مقر الشعب الكلداني. على أي الأحوال يصعب تحديد لغة العالم الأولى، إنما ما نعرفه أن العالم كله كان يتحدث بلغة واحدة[221].

لا نعرف كيف بدأ الإنسان ينطق بلغة بشرية، لكن ما نعرفه أن الإنسان الأول كان ينطق بلغة الحب الذي لا يعرف الانقسام، وتفاهم آدم وحواء بروح الحب والوحدة خلال إتضاع الروح، فكان الإنسان معينًا لأخيه. خلال لغة الحب كان الإنسان الأول يعرف كيف يخاطب الله وملائكته وجميع السمائيين ويسمع أصواتهم السمائية؛ بل وخلال لغة الحب كان الإنسان منسجمًا حتى مع الخليقة غير الناطقة فينطق الكل معًا بروح الشكر لله والتسبيح له. أما وقد سقط الإنسان في العصيان خسر لغة الحب والوحدة، فانشق الإنسان حتى على نفسه فصار لجسده لغة غير لغة روحه، ودخل في صراع داخلي مرّ. لم يعد يستطيع الإنسان أن يتحدث مع الله بفرح وبهجة ولا أن يشترك مع السمائيين في ليتوچياتهم ولا أن ينسجم حتى مع الخليقة غير الناطقة. فقد الإنسان اللسان الواحد واللغة الداخلية الواحدة حتى وإن بقيت البشرية زمانًا تنطق بلسانها المادي لغة واحدة! لهذا كان لزامًا أن تنهار وحدة اللغة الظاهرة بعد أن انهارت وحدة لغة الداخل. وكأن ما حدث على أثر محاولة بناء برج بابل لم يكن إلاّ ثمرة طبيعية وكشفًا للأعماق الداخلية أن الإنسان فقد اللسان الواحد واللغة الواحدة. بمعنى آخر ما حدث من بلبلة للألسنة إنما جاء ليفضح البلبلة الداخلية، حتى متى ارتبك الإنسان بسبب البلبلة ينظر إلى الداخل أولاً طالبًا وحدة لغة القلب والروح قبل وحدة لغة اللسان الظاهر.

"وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًا، فكان لهم اللبن مكان الحجارة، وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض" [٢-٤].

بعد الطوفان حيث استقر الفلك على جبل أراراط ارتحلوا شرقًا حيث سهل شنعار، أي سهل دجلة والفرات الذي يقع جنوب شرقي الجبل. في السهل وجدوا المناخ مناسبًا لعمل اللبن الأحمر، بحرق اللبن بعد تجفيفه في الشمس كما يحدث حاليًا في مصر. أما الحمر الذي استخدموه فهو نوع من القار المعدني متى جمد يدعى بالزفت، وهو يكثر في منطقة الفرات.

كانت خطتهم البشرية هو تدبير إقامة مدينة وبرج مرتفع حتى إذا ما حلّ الطوفان مرة أخرى، يجدون لأنفسهم ملجأ من تأديبات الله القاسية، وكما قيل عن مدن الكنعانيون: "مدن عظيمة محصنة إلى السماء" (تث ١: ٢٨). لم يكن الشر في إقامة المدينة ذاتها أو الرغبة في بناء برج شاهق، وإنما غاية هذا العمل هو: "نصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض"، وكأنهم لم يثقوا في ميثاق الله مع أبيهم نوح وحسبوا الله غير أمين في مواعيده. هذا ومن جانب آخر كان يليق بهم عوض هذا الفكر أن يرجعوا إلى الله بالحب فيجدوا فيه مدينتهم السماوية، وحصنًا حقيقيًا، وبه ينالون اسمًا لا على وجه الأرض فحسب وإنما حتى في السماء!

برغبتهم في بناء مدينة أرضية تحميهم من غضب الله رفضوا المدينة السماوية، التي في جوهرها هي ارتماء في حضن أبيهم السماوي. ويرى القديس أغسطينوس أن نمرود هو الذي أسس هذه المدينة التي دعيت بابل (تك ١٠: ٩، ١٠)، قائلاً: ["بابل" تعني "بلبلة وارتباك"، التي تخلص نمرود الجبار كان مؤسسها كما سبق فألمح إلى ذلك؛ فحينما تحدث الكتاب المقدس عنه قال أن بداية مملكته كانت بابل (تك ١٠: ١٠)، وأنه كان لبابل السلطة على بقية المدن بكونها عاصمة أو مقرًا ملوكيًا بالرغم من أنها لم تبلغ المقياس الموضوع لها بكبرياء مؤسسها وشره. كانت الخطة أن ترتفع مبانيها لتبلغ السماء، سواء كان المقصود بذلك بناء برج عال أكثر من المباني الأخرى، أو إقامة كل الأبراج هكذا، وذلك كما نتحدث بصيغة الفرد عن "جندي" فنقصد الجيش كله... ولكن ماذا قصد هؤلاء المختالين بأنفسهم المتجاسرين؟ كيف ظن هؤلاء أن يقيموا عملاً مرتفعًا ضد الله، عندما يشيدوه فوق كل الجبال والسحاب المنتشر في الجو؟ أي تشامخ روحي أو مادي يقدر أن يؤذي الله؟ الطريق الآمن الحقيقي للسماء يشيد بالاتضاع الذي يرفع القلب لله وليس ضد الله كما قيل عن هذا الجبار: "كان جبار صيد أمام الرب" (١٠: ٩). لقد أساء البعض فهم هذا التعبير بسبب غموض الكلمة اليونانية والتي لم تترجم "ضد الرب" بل أمامه، مع أن الكلمة تحمل المعنيين "ضد" و "أمام". استخدمت في المزمور بمعنى "أمام" "هل نبكي أمام الرب خالقنا" (مز ٩٥: ٦)، وفي أيوب بمعنى "ضد" "حتى ترد على الله" (أي ١٥: ١٣). لذلك يفهم هنا أن الصياد كان "ضد الرب". ماذا يعني بالقول "الصياد" إلاّ المخادع والمقاوم ومهلك حيوانات الأرض؟ فإنه هو وشعبه أقاموا هذا البرج ضد الرب، معبرين عن كبريائهم الشرير، وبعدل عوقب شرهم بواسطة الله حتى وإن كانت خطتهم لم تنجح. ولكن ما هي طبيعة العقوبة (التي سقطوا تحتها)؟ إن كان اللسان هو آلة السيادة، لذلك حلت العقوبة عليه، حتى أن الإنسان الذي لم يرد أن يفهم الله مقدمًا الوصايا، يصير هو نفسه غير مفهوم عندما يصدر الأوامر[222]].

بسبب الكبرياء فقد الإنسان الوحدة الجامعة، كما يقول القديس أغسطينوس: [خلال المتكبرين انقسمت الألسنة، وخلال الرسل المتواضعين اتحدت الألسنة[223]]. وبسبب الكبرياء أيضًا فقد الإنسان وحدته الداخلية، فإن كان في كبريائه لم يفهم لغة الله المملوءة حبًا، فثمر هذا لا يفهم الجسد لغة الروح ويكون للروح لغة تضاد لغة الجسد، وكما يقول الرسول بولس عن الإنسان خارج دائرة الروح القدس واهب الوحدة: "لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلا ٥: ١٧).

أما قول الكتاب: "فنزل الرب لينظر المدينة والبرج الذين كان بنو آدم (البشر) يبنوها" [٥]، فيعلق القديس أغسطينوس قائلاً بأن الذين يبنون هم بنو البشر: [لم يكونوا أبناء الله، إنما كانت هذه الجماعة تعيش بطريقة بشرية، والتي ندعوها "مدينة أرضية"[224]]. أما عن القول "نزل الرب لينظر"، فلا يعني المفهوم الحرفي للعبارة، [فإن الله بكامله في كل موضع ولا يتحرك من مكان إلى آخر، إنما يُقال هكذا ينزل عندما يفعل شيئا غير عادي على الأرض، وكأنه بهذا تصير حضرته ملموسة. بنفس الطريقة، بالقول "لينظر" لا يعني أنه يتعلم شيئًا جديدًا، إذ لا يمكن أن يجهل الله شيئًا، إنما يُقال ينظر ويعرف بالمعنى الذي به يجعل الآخرين ينظرون ويعرفون[225]]. وكما سبق فقلنا أن الله من قبيل محبته يتحدث معنا بلغتنا البشرية لكي نستطيع أن نفهم تدابيره وأسراره قدر ما نحتمل. إنه يتنازل فيتفاهم معنا باللغة التي نستطيع نحن إدراكها.

يرى القديس أغسطينوس[226] أن الله ينزل خلال نزول الملائكة إلينا بكونهم مسكنًا له، وعاملين مع الله (١ كو ٣: ٩).

٢. مواليد سام:

يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا لذكر نسل سام بعد الحديث عن الطوفان وإنشاء مدينة بابل مباشرة إذ يقول، فكما جاء من نسل حام من يقيم بابل رمز المدينة الأرضية هكذا جاء من نسل سام من يقيم مدينة الله: [كان من الضروري أن تحفظ سلسلة الأجيال النازلة من سام لأجل الكشف عن مدينة الله بعد الطوفان، إذ سبق عرض الأجيال النازل من سام قبل الطوفان. والآن بعد أن كشف الكتاب المقدس عن المدينة الأرضية أي بابل أو البلبلة (الارتباك) يعود إلى الأب سام ليخلص الأجيال النازلة منه حتى إبراهيم، محددًا سن كل أب عند إنجابه الابن المذكور في السلسلة وسني حياته كلها[227]].

يرى القديس أغسطينوس[228] أن العالم كله كان يتحدث بلغة واحدة هذه التي دعيت فيما بعد بالعبرية، وإنه في أيام فالج انقسمت الأرض (١: ٢٥) فظهرت لغات أخرى بجانب العبرية، لكن بقى الخط الذي يصل بين سام وإبراهيم يتكلم العبرية بينما الفروع الأخرى اتجهت إلى لغات أخرى هؤلاء الذين يُقال عنهم: "وولد... بنين وبنات" [١٧، ١٩، ٢١، ٢٣، ٢٥]، فكان كل أب ينجب ابنًا يتسلم الميراث والرجاء في وعد الله واللغة بينما كان بقية البنين والبنات يسلكون بروح آخر وبلغة تغاير لغة أبيهم.

٣. إبرام ولوط:

بعدما عرض مواليد سام بلغ إلى إبراهيم وابن أخيه لوط اللذين وُجدا في أور الكلدانيين... وبظهور إبراهيم يظهر أب الآباء لينال وعدًا وميثاقًا من الله، بنسله تتبارك الأمم... الأمر الذي يتحدث عنه في الأصحاحات التالية.

ظهر إبراهيم في أور الكلدانيين ويبدو أن عائلته أيضًا كانت تعبد آلهة غريبة، ولم يكن في العالم كله من يعبد الله الحيّ غير إبراهيم، إذ قيل: "آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور وعبدوا آلهة أخرى، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان وأكثرت نسله وأعطيته إسحق" (يش ٢٤: ٢، ٣).

أما موضوع هجرة إبراهيم وسارة ولوط مع ناحور إلى حاران [٣١] فنتركه للحديث عنه في الأصحاح التالي إن شاء الرب.

<<

الباب الثاني

 البطاركة الأولون

ص ١٢ – ص ٥٠

عصر البطاركة

بدأ عصر البطاركة (الآباء) كطريق تمهيدي لدخول الله مع البشرية في عهود متتالية تختم بالعهد الذي يقيمه الله مع الإنسان في المسيح يسوع خلال الدم الذكي على الصليب. يبدأ العمل بدعوة إبراهيم كأب الآباء، خلاله أخذت البشرية كلها – أهل الختان وأهل الغرلة – الوعد بالبركة. فإيمانه تبرر وهو بعد في الغرلة (رو ٤)، وأخذ الختان كختم لهذا الإيمان، فحمل إبراهيم أبوة جسدية لأهل الختان وأبوة روحية لمن يسلك بإيمانه...

لقد أعلن السيد المسيح أن إبراهيم رأى يومه فتهلل (يو ٨: ٥٦)، لهذا ينعم بالبنوة لإبراهيم ويتمتع بتهليل قلبه كل من يقبل المسيح ويدرك عمله الخلاصي.

<<

أصحاحات ١٢–٢٥

معاملات الله مع إبراهيم

لكي نتتبع ما ورد في سفر التكوين (ص ١٢– ٢٥) يليق بنا أن نقدم الخطوط الرئيسية لمعاملات الله مع أبينا إبراهيم قبل دراسة كل أصحاح على حدة:

أولاً- حياته قبل بلوغه كنعان:

1. عاش مع أبيه تارح وأخوته في أور الكلدانيين، حيث تزوج بأخته من أبيه دون أمه (تك ٢٠: ١٢) ساراي، وقد خرج هو وزوجته وابن أخيه لوط تحت قيادة أبيه تارح متجهين نحو كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك (تك ١١: ٣١)، حيث مات تارح في حاران، ومهما كان الدافع لهذه الهجرة فقد أعلن اسطفانوس أنها قامت على دعوة الله لإبراهيم في أرض ما بين النهرين قبلما يسكن في حاران (أع ٧: ٢).

2. إذ بلغ إبراهيم ٧٥ عامًا دعي للرحيل إلى كنعان (تك 12: ١)، ويحتمل أن يكون قد اختار طريق دمشق لأن اليعازار الدمشقي الموكل على بيته كان من هناك (تك ١٥: ٢)، لأن الطريق بين أرض ما بين النهرين وكنعان خلال دمشق كان طريقًا ممهدًا. ويبدو أنه لم يتوقف كثيرًا في الطريق.

ثانيًا- حياته غير المستقرة في كنعان:

أقام أولاً في شكيم (١٢: ٦) ثم ذهب إلى إيل (١٢: ٨) واتجه جنوبًا إلى Negeb (١٢: ٨). وإذ حدث جوع ارتحل إلى مصر وقال عن ساراي أنها أخته خوفًا من فرعون (١٢: ١٠– ٢٠). عاد إلى أرض الجنوب في فلسطين (١٣: ١)، وذهب إلى بيت إيل (١٣: ٣) حيث افترق عن لوط وذهب إلى بلوطات ممرا في حبرون (١٣: ١٢– ١٨).

ثالثًا- إقامته في بلوطات ممرا:

أقام إبراهيم في بلوطات ممرا مابين ١٥ و ٢٥ عامًا، دخل في عهد مع ملوك الأموريين (١٤: ١٣)، وغلب كدرلعومر لينقذ لوطًا وماله (١٤: ١– ١٦)، وفي عودته باركه ملكي صادق ملك شاليم (١٤: ١٧– ٢٤).

هناك ظهر له الرب وثبت له الوعد أنه يرث الأرض (١٥: ٧)، وولدت هاجر إسماعيل (ص ١٦). وإذ بلغ إبراهيم ٩٩ عامًا ظهر له الرب ودخل معه في عهد (الختان) وأكد له ولادة إسحق من سارة (ص ١٧)، كما استضاف إبراهيم الله وملاكيه مؤكدًا ولادة إسحق (ص ١٨). هناك أيضًا دخل في حوار مع الله بسبب هلاك سدوم وعمورة (ص ١٨).

رابعًا- إقامته في أرض الجنوب:

أنتقل من بلوطات ممرا إلى أرض الجنوب، وهناك أرسل أبيمالك ملك جرار ليأخذ سارة زوجة والرب منعه (ص ٢١).

امتحن الله إبراهيم وسأله أن يذبح ابنه إسحق على جبل المريا، وإذ تزكى إبراهيم عاد مع ابنه إسحق ثم رحلا إلى بئر سبع (٢٢: ١– ١٩).

خامسًا- في حبرون:

رجع إبراهيم إلى حبرون وهناك ماتت سارة ودفنت في مغارة المكفيلة (تك ٢٣).

سادسًا- ربما في أرض الجنوب:

بعد موت سارة إذ بلغ إبراهيم ١٤٠ عامًا (تك ٢٤: ٦٧؛ ٢٥: ٢٠) أرسل إلى أرض ما بين النهرين ليحضر زوجة لإسحق إبنه (تك ٢٤). أتخذ إبراهيم قطورة زوجة، ومات وعمره ١٧٥ سنة، ودفن في مغارة المكفيلة (٢٥: ١– ٩).

<<

الأصحاح الثاني عشر

دعوة إبرام

اجتمعت البشرية حتى بعد الطوفان ضد الله تتعامل معه كخصم وليس كصديق محب، أما الله ففي حبه لم يعطها ظهره بل فتش بينها حتى وجد إنسانًا واحدًا استحق أن يتمتع بالدعوة ليكون أبًا لشعب الله، بنسله تتبارك الأمم. هذا الأب "إبرام" دُعي للخروج من أرضه وشعبه وبيت أبيه لينطلق بالبشرية في علاقتها مع الله ببداية جديدة.

1. دعوة إبرام                        1

2. إبرام بركة للأمم                  2

3. إبرام العملي في إيمانه            3-9

4. إبرام في مصر                    10-13

5. ساراى وفرعون                  14-20.

1. دعوة إبرام:

إبرام هو العاشر في تسلسل الآباء الذين ولدوا من سام بعد الطوفان. كلمة "إبرام" تعني (الأب مكرم)، وقد غيّر الله اسمه إلى "إبراهيم" التي تعني (أب جمهور) (تك 17: 5) إذ بدأ حياته كأب مكرم وسام، جعله الله أبًا لجمهور كثير، أب الآباء، أب لجميع المؤمنين.

 عاش إبراهيم مع أبيه تارح وبقية الأسرة في أور الكلدانيين، عادة تعرف بالمدينة المشهورة بالاسم أورشليم Uri جنوب بابل، مكانها خرائب تُدعي المغيّر. وتدل الاكتشافات الحديثة علي أنها قبل عصر إبراهيم بحولي 1000 سنة، وإنها كانت قبلاً علي ساحل الخليج. اشتهرت أيضًا بإلهها "نانار" إله القمر وما تبع عبادته من رجاسات مرّة.

عاش إبرام وسط هذا الجو الساحلي التجاري حيث الغني العظيم مع الرجاسات الوثنية لكنه بقي أمينًا في شهادة لله خلال حياته، وقد شهد له الرب: "آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور وعبدوا آلهة أخري، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان وأكثرت نسله وأعطيته إسحق" (يش 24: 2، 3). في هذه المنطقة عاش بنو سام ملتصقين ببني حام فتسرب الشر إلى بني سام حتى لم يوجد وسط المنطقة كلها، بل في العالم في ذلك الحين، من يعبد الله بالحق سوي إبرام، الذي بقي شاهدًا لله، اجتذب إليه ساراى امرأته ولوط ابن أخيه ليعيشا حياة مقدسة في الرب.

إذ رأى الله أمانة إبرام دعاه للخروج من أور الكلدانيين وعاد ليكرر الدعوة له في حاران بعد أن أقام فيها زمانًا طويلاً مع والده وزوجته وابن أخيه، ومات أبوه هناك (11: 31، 32). حقًا لم يذكر سفر التكوين الدعوة بالخروج في أور الكلدانيين مكتفيًا بالدعوة التي تلقاها في حاران، لكن الكتاب المقدس يؤكد الدعوة الإلهية له في أور الكلدانيين قبل دخوله حاران (أع 7: 2).

لم يتجاهل الله إنسانًا واحدًا أمينًا وسط المدينة بأكملها، بل وسط العالم كله في ذلك الحين، بل جعله صخرًا منه يُقطع المؤمنون، وكما قيل في إشعياء: "اسمعوا لي أيها التابعون البر الطالبون الرب؛ انظروا إلى الصخر الذي منه قطعتم وإلى نقرة الجب التي منها حفرتم. انظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم، لأني دعوته وهو واحد وباركته وأكثرته، فإن الرب عزى صهيون" (إش 5: 1-3). هكذا يطلب الله من تابعي البر وطالبي الرب أن يتطلعوا إلى أبيهم إبراهيم كصخرة قُطعوا منه ليكونوا بحق "أولاد إبراهيم". لينظروا كيف دعاه الرب "وهو واحد" غير مستهين بالواحد، بل جعله "كثرة" وعزاء لصهيون السماوية. لقد أحبه الله جدًا حتى كان يلذ له أن يدعو نفسه "إله إبراهيم" ويحسب فردوسه السماوي "حضن إبراهيم".

في وسط جو وثني مظلم رأى الله قلبًا واحدًا مشتاقًا أن يلتقي به فدعاه للخروج سواء من أور الكلدانيين أو من حاران حيث كانت المدينتان مركزين لعبادة إله القمر؛ دعاه للخروج حتى يقيم من نسله "كنيسة مقدسة".

 جاءت الدعوة الإلهية لإبرام هكذا: "وقال الرب لإبرام: "اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك" [١].

 يعلق القديس جيروم علي هذه الدعوة الإلهية، قائلاً: [ترك أور الكلدانيين وترك ما بين النهرين، ومضي طالبًا أرضًا لا يعرفها حتى لا يفقد ذاك الذي وجده (الله). لم يحسبه سهلاً أن يحتفظ بأرضه وبربه في نفس الوقت، فمنذ أيامه المبكرة كان مستعدًا لتحقيق كلمات النبي: "أنا غريب. عندك، نزيل مثل جميع آبائي" (مز 39: 12). لقد دعي "عبرانيًا" ومعناها (عابرًا)، إذ لم يكن راضيًا بالامتيازات (الزمنية) الحاضرة إنما كان ينسي ما هو وراء ويمتد دائمًا إلى ما هو قدام (في 3: 13)، جاعلاً كلمات المرتل أمامه: "يذهبون من قوة إلى قوة" (مز 84: 7). هكذا يحمل اسمه معني سريًا، إذ يفتح أمامك الطريق لتطلب ما هو للآخرين لا ما هو لذاتك...[229]].

كما يقول: [لقد طلب من أب الآباء أن يترك أور الكلدانيين، ويترك مدينة بابل (الاضطراب) ورحوبوت (تك 10: 11) والأماكن المتسعة، يترك أيضًا سهل شنعار حيث وجد برج الكبرياء المرتفع إلى السماء (11: 2، 4). كان يليق به أن يعبر أمواج هذا العالم ويجتاز أنهاره هذه التي جلس عندها القديسون وبكوا عندما تذكروا صهيون (مز 137: 1)... حتى يسكن في أرض الموعد التي تستقي بمياه من فوق وليس كمصر بمياه من أسفل (تث 11: 10)... تطلب المطر المبكر والمتأخر (تث 11: 14)[230]].

هذه الدعوة الإلهية موجهة إلى كل نفس بشرية لكي تنطلق لا من مكان معين أو عشيرة أو بيت ما وإنما تنطلق بالقلب خارج محبة العالم والذات (الأنا)، لكي تلتقي بالرب السماوي وتعيش معه في أحضانه. إنها دعوة للأجيال كلها، وقد سحبت قلوب الكثير من الآباء مدركين أنها دعوة إلهية تمس حياتهم الشخصية؛ نذكر موجزًا لبعض تعليقات الآباء عليها:

يري الآب بفنوتيوس أنها دعوة إلهية لممارسة الحياة النسكية، بها يتخلى الإنسان عن أرضه أي عن محبة غني العالم، وعن عشيرته أي عن حياته القديمة بعاداته الشريرة، وعن بيت أبيه الأرضي ليطلب بيت الآب السماوي. فمن كلماته [قال له: أولاً: "اذهب من أرضك"، أي من (محبة) ممتلكات هذا العالم وغناه الأرضي. ثانيًا: "من عشيرتك"، أي من حياتك السابقة بما فيها من عادات وخطايا تعلقت بك منذ الميلاد الأول وارتبطت بك كما لو كانت رابطة صداقة وقربى. ثالثًا: "من بيت أبيك"، أي من كل ما في العالم وتراه عيناك، فعن الأبوين (الأرضي والسماوي) ينبغي ترك أحدهما وطلب الآخر، إذ يقول داود في شخص الله: "اسمعي يا بنتي وانظري، أميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيك" (مز 45). فالقائل: "اسمعي يا بنتِ" بالتأكيد هو أب[231]].

يري هذا القديس أن الدعوة موجهة للتمتع بمراحل النسك الثلاثة: زهدي جسدي نبذ للسلوك القديم؛ تحرر للروح من المرئيات والانشغال بالسمائيات. فلا يكفي للإنسان أن يترك أرضه كأن يمارس الصوم وكل أنواع النسك المادي أو الجسدي، ولا أن يترك عشيرته، أي يتخلى عن عاداته الشريرة القديمة، لكن يلزمه أيضًا أن يترك بيت أبيه القديم ليدخل إلى حضن أبيه السماوي، قائلاً: "فإن سيرتنا نحن في السموات" (في 3: 2).

ويري الأب قيصريوس أسقف Arles أن هذه الدعوة الإلهية إنما تتحقق في مياه المعمودية بالروح القدس الذي ينزع عن أرضنا (الجسد) خطاياه، ويبيد عاداتها الشريرة (العشيرة)، ويغتصبنا من بيت أبينا القديم أي إبليس لنسكن في بيت أبينا الجديد. فمن كلماته: [إننا نؤمن وندرك أن هذه الأمور كلها قد تحققت فينا أيها الاخوة خلال سرّ المعمودية. أرضنا هي جسدنا، فتذهب بلياقة من أرضنا بتركنا عاداتنا الجسدية وتبعيتنا للمسيح. أفلا يُحسب الإنسان أنه قد ترك أرضه أي ذاته متى صار متضعًا بعد الكبرياء، وصبورًا بعد أن كان سريع الانفعال، وبتركه الانحلال ودخوله إلى العفة، وانطلاقه من الطمع إلى السخاء، ومن الجسد إلى الحنو، ومن القساوة إلى اللطف؟ حقًا أيها الاخوة من يتغير هكذا خلال حبه لله يكون قد ترك أرضه... أرضنا أي جسدنا قبل المعمودية تحسب أرض الأموات، لكنها بالمعمودية صارت أرض الأحياء، هذه التي أشار إليها المرتل، قائلاً: "أمنت أن أري جود الرب في أرض الأحياء" (مز 27: 13). بالمعمودية نصير أرض الأحياء لا الأموات، أي أرض الفضائل لا الرذائل... يقول الرب: "(وتعالَ) إلى الأرض التي أريك"، فنأتي بفرح إلى الأرض التي يرينا الله إياها، إن كنا بمعونته نطرد الخطايا والرذائل من أرضنا، أي جسدنا. "اذهب من عشيرتك"، هنا تفهم العشيرة بكونها الرذائل والخطايا التي وُلدت جزئيًا بطريقة ما معنا وتزايدت وانتعشت بعد الطفولة خلال عاداتنا الشريرة. إننا نترك عشيرتنا إن كنا خلال نعمة المعمودية نتفرغ من الخطايا والرذائل... ولا نعود كالكلب إلى قيئه. "اذهب من بيت أبيك"، لنقبل هذه العبارة بمفهوم روحي أيها الاخوة الأعزاء، فقد كان الشيطان أبانا قبل نعمة المسيح، عنه يتحدث الرب في الإنجيل عندما وبخ اليهود قائلاً: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو 8: 44)... لذلك يليق بنا أيها الاخوة أن نتأهل لنوال هذه الأمور خلال نعمة المعمودية وليس بقوتنا، فنترك أرضنا أي (شهوات) جسدنا، وعشيرتنا أي الرذائل والخطايا (العادات)، ونهرب من بيت الشيطان أبينا. لنبذل كل الجهد بمعونته لكي لا نعود إلى مصاحبة الشيطان أو مصادقته... بل بالأحرى نتمثل بإيمان إبراهيم ونعمل الأعمال الصالحة علي الدوام لا لننال الغفران فحسب وإنما لندخل مع الله في صداقة ومصاحبة. لنتأمل بخوف عظيم ومهابة ما قال الرب لموسى في هذا الشأن... "احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخًا في وسطك" (خر 34: 12). الآن نؤمن أننا بنعمة المعمودية ننزع عنا كل الخطايا والمعاصي، فإن عدنا وقطعنا معها عهدًا تصير لنا فخًا[232]].

لم يكن خروج إبرام سهلاً، إذ يعيش في مدينة ساحلية عُرفت بغناها وتقدمها وثقافتها بجانب ارتباطه بعائلته، خاصة وأن الدعوة جاءته في سن ليس بصغير، إذ خرج من حاران في سن 75 عامًا، أي في وقت يحتاج فيه إلى استقرار، هذا ولم يكن له ولد يرثه أو يهتم به في شيخوخته. نحن نعلم أن الإنسان يميل إلى التحرك بمرونة في سن صغير لكنه كلما كبر يصعب تحركه خاصة إن كان التحرك يعني تغييرًا شاملاً لمنهج حياته وطريقة سلوكه... ومع هذا فإبرام في مرونة الطفولة تحرك في طاعة لله. يقول القديس أمبروسيوس: [هوذا أبونا إبراهيم الذي تعين ليكون مثلاً للأجيال القادمة حينما أُمر أن يهجر أرضه وعشيرته وبيت أبيه بالرغم من كل الارتباطات الأُسرية التي كان ملتزمًا بها ألم يقدم برهانًا علي أنه يُخضع العاطفة للمنطق؟‍!... لقد قرر بكل تروٍ أن يجتاز الصعوبات دون أن يختلق لنفسه أعذارًا[233]].

هكذا قبل إبراهيم الدعوة الإلهية وأطاع متغلبًا علي الصعوبات والعواطف البشرية، والعجيب أن الله وهو يدعوه للخروج لا يحدد له الموضع الذي يستقر فيه، بل يقول: "اذهب... إلى الأرض التي أريك" [١]. ما هذه الأرض التي يرينا الله مقابل تركنا للأمور القديمة إلاَّ تمتعنا بالدخول إلى سمواته الجديدة وأرضه الجديدة، فهو لا يود أن يترك الإنسان في حرمان أو ترك لكنه يهب أكثر مما نترك، يعطينا أرضًا جديدة أو كما يقول القديس بفنوتيوس: [إنها أرض لا تقدر أن تعرفها ولا تكتشفها بمجهودك الذاتي بل الأرض التي أريك إياها، هذه التي لم ترها والتي تجهلها[234]]. ويري القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن غاية هذا الخروج هو دخول إلى أرض جديدة أي تمتع (بمعرفة الله)، إذ يقول: [إذ استطعنا بروح الرسول السامية أن نأخذ الكلمات بمفهومها الرمزي، فننفذ إلى المعني السري للتاريخ دون أن نفقد النظرة الحقيقية لوقائعه نجد بالتأكيد أن إبراهيم أب الإيمان قد ذهب، حسب الأمر الإلهي، من أرضه وعشيرته في رحلة تليق بنبي متعطش نحو معرفة الله. فإنني أظن أن البركات التي استحق أن ينالها لا تتناسب مع هجرة عادية من موضع إلى موضع؛ فخروجه من ذاته ومن أرضه كما أفهمه هو خروج من فكره الأرضي الجسداني وارتفاع به إلى أقصي ما يستطيع فوق حدود الطبيعة المعتادة، ونبذ لتعلق النفس بحواسها، حتى تنفتح عيناه علي الأمور غير المنظورة دون وجود أي عائق حسيّ. فلا يكون هناك منظر أو صوت يشغل الذهن عن عمله بل يسير "بالإيمان لا بالعيان" كقول الرسول. هكذا ارتفع (إبراهيم) عاليًا بسمو معرفته حتى بلغ إلى ما يعتبر قمة الكمال البشري، عارفًا عن الله كل ما يمكن أن تدركه إمكانيات الإنسان المحدودة...[235]].

2. إبرام بركة الأمم:

إن كانت الدعوة الإلهية تحمل صعوبات كثيرة لكن هذه الصعوبات لا تقارن بجانب وعود الله له، فمع كل دعوة أو وصية يقدم الله وعدًا. فحين يُقال: "أخرجوا من وسطهم واعتزلوا" يكون وعد الله: "أكون لكم أبًا وأنتم تكونون لي بنين وبنات" (2 كو 6: 17، 18). لقد دعي الله إبرام الذي ليس له ولد ووعده: "فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم أسمك" [٢]، وإذ طلب منه أن يترك غني أور الكلدانيين وعده: "وتكون بركة وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه"، وإذ سأله أن يترك عشيرته وبيت أبيه قال له: "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" [٣].

الله لا يقبل أن يكون مدينًا لإنسان إنما يطلب فرصة ليهبه بفيض؛ إنه يريد أولاده في حالة شبع حقيقي لا حرمان.

لعل إبرام استكان في أور الكلدانيين لوضعه بلا ابن من صلبه يرثه، لكن الله لا يعطيه ابنًا فقط بل ويجعله "أمة عظيمة مباركة". لا يعده بمباركة ممتلكاته والتي يفقد الكثير منها خلال تنقلاته وإنما يجعله بركة، ولا يعده بأقرباء وأصدقاء إنما فيه تتبارك جميع قبائل الأرض.

يشتهي الله أن يهب أولاده بلا كيل ولا حساب، فيجعل منهم لا أُناسًا مباركين بل يكون كل منهم "بركة"... نحمل الله فينا فتتحول حياتنا إلى "نور" يضيء في العالم، وخميرة قادرة أن تخمر العجين كله... إنه يشتهي أن يهبنا ذاته فنكون بركة، إن كنا بالحق كإبرام نترك أرضنا وشعبنا وبيت أبينا القديم، حتى اسمنا نتركه لنحمل اسم "إبراهيم" عوض "إبرام"، أي نتخلى عن الاسم الجسدي القديم لنحمل اسمًا جديدًا في الرب. يقول العلامة أوريجانوس: [لا يستطيع أن ينال العهد مع الله وعلامة الختان... ويتمتع بالحديث المملوء بالأسرار... وهو في بيت الله، ووسط عشيرته الجسدية، يحمل اسم إبرام... طالما هو مرتبط بالدم واللحم[236]].

والعجيب حين يتخلى الإنسان عن كل شيء لا يعيش محرومًا بل ليتمتع بوعود الله، فإنه لا يتمتع بما لنفسه فحسب وإنما بما هو لحساب الجماعة كلها، بل ولحساب البشرية، إذ قيل لإبرام: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض"، الأمر الذي تحقق بمجيء السيد المسيح من نسل إبرام الذي به تباركت الشعوب، ويمكن أن يتحقق بصورة أخري في حياة كل مؤمن ينعم بتجلي السيد المسيح علي جبل قلبه الداخلي فيكون بركة للكثيرين. هذا هو ما أعلنه السيد المسيح في موعظته المشهورة بقول: "أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم" (مت 5: 13، 14).

يتحدث القديس أغسطينوس عن هذه البركة التي نالها إبرام، قائلاً: [لنلاحظ أن إبراهيم نال وعدين، الأول أن نسله يرث أرض كنعان وقد أشير إلى ذلك بالقول: "... أجعلك أمة عظيمة"، أما الوعد الآخر فأعظم جدًا إذ هو ليس بالوعد الجسدي بل الروحي، خلاله يصير أبًا لا للأمة الإسرائيلية وحدها بل لكل الأمم التي تقتفي أثر إيمانه[237]].

3. إبرام العملي في إيمانه:

لم يكن إبرام في إيمانه يتوقف عند تعرفه علي الله بأفكار نظرية يحفظها ويدافع عنها، ولا يتوقف في ترجمته للمعرفة عند تقديم عبادات معينة، لكنه في إيمانه أطاع الله كصديق أعظم له. يقول الوحي الإلهي: "فذهب إبرام كما قال له الرب وذهب معه لوط، وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران، فأخذ إبرام ساراى امرأته ولوطًا ابن أخيه وكل مقتنياتهما والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان" [4-5].

يقول الرسول بولس: "بالإيمان لما دُعي إبراهيم أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا" (عب 11: 8). بالإيمان انطلق قلب إبراهيم خارج أور الكلدانيين كما خارج من حاران فيما بعد، إذ كان يتطلع إلى "المدينة التي لها الأساسات التي صناعها وباركها الله" (عب 11: 10).

حقًا لقد كانت طاعة إبراهيم كاملة في قلبه لكنها كانت جزئية في تنفيذها فخرج أولاً من أور الكلدانيين ومعه والده تارح، ولا ندري لماذا خرج تارح؟ هل كان متعلقًا بابنه إبراهيم؟ أم وجد الفرصة سانحة لترك العبادة الوثنية؟... علي أي الأحوال خرج تارح معه إبراهيم إلى حاران وتوقف الموكب في حاران حوالي 15 عامًا، إذ لم يكن إبراهيم قادرًا علي الانطلاق منها إلاّ بعد موت والده تارح الذي غالبًا ما استثقل التحرك نحو كنعان فأعاق الموكب كله.

ليته لا يكون لنا في خروجنا من أور الكلدانيين تارحًا مرافقًا لنا حتى لا نتوقف في حاران سنوات طويلة بل ننطلق مسرعين نحو كنعان السماوية، نتمتع بمواعيد الله بلا عائق.

إن كانت كلمة "أور" تعني (ضياء)[238]، وكلمة "تارح" غالبًا ما تعني (ماعز جبلي)، وكلمة "حاران" تعني (جبلي)[239]، فإنه يليق بنا أن نخرج من ضياء الكلدانيين وبريقهم الجذاب منطلقين دون الارتباط بالأمور التافهة مثل: "الماعز الجبلي" حتى لا ننطلق إلى حاران إي المناطق الجبلية بل نسرع نحو كنعان التي تفيض عسلاً ولبنًا.

أخيرًا إذ مات "تارح" بعد حوالي 15 عامًا في حاران استطاع إبرام أن يطيع الدعوة الإلهية لا علي مستوي جزئي وإنما بسرعة فائقة، متجهًا نحو كنعان، ويبدو أن الرحلة كلها لم تستغرق أكثر من سنة.

أول بلد بلغها إبراهيم في أرض كنعان هي "شكيم" التي تعني (كتف)، كان يقطنها الكنعانيون بكتف معاندة لله؛ وبكتف معاندة ترك إخوة يوسف شكيم منطلقين إلى دوثان التي تعني (ثورة) (تك 37: 14-17)... لكنها صارت فيما بعد تمثل الكتف المنحنية بالحب لله تحمل الأثقال، إذ صارت تمثل جزءًا من أرض الموعد، مدينة تابعة لسبط لأوي وإحدى مدن الملجأ.

شكيم مدينة لها سور (تك 33: 18؛ 34: 20) عند سفح جبل جرزيم (قض 9: 7)، في أيام يعقوب إذ عاد إلى كنعان فوجد الحويين يقيمون فيها (تك 34: 2) حيث ابتاع قطعة حقل نصب فيها خيمته (تك 33: 18، 19)، وفيها دُفن جسد يوسف (يش 24: 32). وإذ أساء شكيم بن حمور الحموي إلى دينة ابنة يعقوب، قتل أخواها شمعون ولأوي كل ذكر في المدينة (تك 34: 25-29). بالقرب من شكيم رعى اخوة يوسف غنمهم (تك 37: 12، 13). هناك عند جبل جرزيم وجبل عيبال قرأ يشوع سفر التوراة (يش 8: 30-35). وقد اختيرت كمدينة للملجأ (يش20: 7، 21: 21). هناك دعى يشوع الأسباط لسماع خطابه الوداعي (يش 24: 1). صارت شكيم عاصمة لإسرائيل في عهد يربعام الذي ثار بالأسباط العشرة ضد رحبعام (1 مل 12)، وبعد سقوط المملكة الشمالية بقيت شكيم (إر 41: 5)، وصارت عاصمة السامريين[240]].

 شكيم أو نابلس، تبعد حوالي 41 ميلاً شمال أورشليم، 5.5 ميلاً جنوب شرقي السامرة. وتقع في الوادي الأعلى المحاط بجبل عيبال من الشمال وجبل جرزيم من الجنوب، وكان الوادي معروفًا "مابارثا" أي (ممر)، بكونه ممرًا من الساحل إلى الأردن.

يبدو أن إبرام لم يدخل شكيم إنما خيم بجوارها وعبر إلى "بلوطة مورة" [6]، التي تعني (بلوطة المعلم) أو (بلوطة العرّاف)؛ يبدو أنها أخذت اسمها عن "معلم" أو "عراف" كان يسكن هناك، وكان الناس يلتقون به تحت شجرة البلوطة.

في هذا الموضع أقام إبرام "مذبحًا للرب" [7] لأول مرة في أرض كنعان، يُقال أنه هناك دفن يعقوب كل الآلهة الغريبة التي في أيدي عائلته والأقراط التي في آذانهم (تك 35: 4) التي جاءوا بها من حاران؛ وهناك "أخذ (يشوع) حجرًا كبيرًا ونصبه هناك تحت البلوطة التي عند مقدس الرب، ثم قال يشوع لجميع الشعب أن هذا الحجر يكون شاهدًا علينا لأنه قد سمع كل كلام الرب الذي كلمنا به فيكون شاهدًا عليكم لئلا تجحدوا إلهكم" (يش 24: 26، 27).

لقد تقدس الموضع إذ قدم إبرام ذبيحة شكر لله الذي دخل به أرض كنعان التي وعده أن تكون لنسله من بعده، حيث يتمجد الله وتدفن الآلهة الغريبة يتحول الموضع إلى مكان كرازة ليشوع الحقيقي فيسمع الشعب صوت الكلمة الإلهية.

هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها أن الرب ظهر إنسان [٧]، مؤكدًا وعده لإبرام: "لنسلك أعطى هذه الأرض" [٧]، ولم يكن أمام إبرام إلاَّ أن يبني مذبحًا للرب يقدم عليه ذبيحة شكر لذاك الذي دعاه ورافقه الطريق وأكد رعايته له.

انتقل إبرام نحو بيت إيل... "فبنى هناك مذبحًا للرب ودعا باسم الرب" [٨]. ثم ارتحل ارتحالاً نحو الجنوب "الـ Negeb ".

4. إبرام في مصر:

"وحدث جوع في الأرض فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك، لأن الجوع في الأرض كان شديدًا" [١٠].

كانت المجاعات تتكرر في أرض كنعان، وكان العلاج هو النزول إلى مصر حيث نهر النيل.

لم يكن بعد قد أقام إبرام الشيخ المسن في أرض الموعد كثيرًا حتى حدثت المجاعة، ومع هذا لم يشعر إبرام أنه أخطأ التصرف بخروجه من أرضه وعشيرته وبيت أبيه، ولا تذمر على الله، ولا استهان بوعد الله له انه يعطيه هذه الأرض لنسله بكونها أرضًا تتعرض لمجاعات.

لقد تباركت مصر باستقبال إبرام أب الأباء لتعوله وقت المجاعة، ولتستقبل حفيده يعقوب هو وعائلته لينطلق شعب إسرائيل من مصر، وأما ما هو أعظم من الكل فقد لجأ إليها السيد المسيح نفسه في طفولته يباركها (مت 2: 13) محققًا ما تنبأ عنه إشعياء النبي (إش 19). لكن كثيرين يشعرون أن إبراهيم أخطأ بانحداره إلى مصر، إذ جاء إليها دون رسالة صريحة من قبل الله كما حدث مع حفيده يعقوب، حيث قال له الرب: "أنا أنزل معك إلى مصر" (تك 46: 4). كان نزول إبراهيم يمثل الإنسان الذي دخل إلى أرض الموعد لكنه سرعان ما اتكل على الذراع البشرى فنزل لطلب العون الإنساني لا الإلهي، إذ قيل بإشعياء: "ويل للذين ينزلون إلى مصر للمعونة ويستندون على الخيل ويتوكلون على المركبات لأنها كثيرة وعلى الفرسان لأنهم أقوياء جدًا ولا ينظرون إلى قدوس إسرائيل ولا يطلبون الرب" (إش 31: 1).

وبقدر ما صوّر لنا الكتاب المقدس إبرام في أروع صوره وهو خارج في طاعة للدعوة الإلهية يتكئ على وعد الله بإيمان، إذ به يكشف عن ضعفه في صورة بشرية مؤلمة، فقد اتكأ على أرض مصر وقد عرف ما اتسم به المصريون في ذلك الحين من شهوات جسدية فخاف، مطالبًا زوجته أن تقول أنها أخته... "ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك!" [١٣].

هذا وعندما تحدث الكتاب هنا عن المجاعة قال: "وحدث جوع في الأرض" [١٠]، ولم يقل "اشتد الجوع على إبرام "كما قال عن المصريين: "لأن الجوع أشتد عليهم" (تك 47: 20). وما قيل عن المجاعة التي حدثت في أيام إبرام قيل عن تلك التي حدثت في أيام حفيده يعقوب: "وكان الجوع شديدًا في الأرض" (تك 43: 1) فالمؤمنون قد تحوط بهم المجاعات لكنها لا تمس إلا الأرض أي الجسد، أما غير المؤمنين فينحنون لها وينكسرون أمامها "لأن الجوع اشتد عليهم" (تك 47: 10). وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لم تشتد المجاعة على إبراهيم ولا على يعقوب أو أولاده، إنما إن اشتدت إنما تشتد "على الأرض". وفي أيام إسحق قيل أيضًا: "وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم" (تك 26: 1). لكن الجوع لم يكن قادرًا أن يغلب إسحق، حتى قال له الرب: "لا تنزل إلى مصر، اسكن في الأرض التي أقول لك، تغرب في هذه الأرض، فأكون معك" (تك 26: 2، 3). وفي رأيي، يتفق مع هذه الملاحظة قول الرسول فيما بعد: "كنت فتي وقد شخت ولم أر صديقًا تُخلي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزًا" (مز 37: 25). وفي موضع آخر: "الرب لا يجيع نفس الصديق" (أم 10: 3). كل هذه النصوص تعلن أن الأرض يمكن أن تعاني من الجوع، وأيضًا الذين لهم الفكر الأرضي (في 3: 19). أما الذين لهم الخبز الذي به يفعلون إرادة الآب السماوي (مت 7: 21) والذين تنتعش نفوسهم بالخبز النازل من السماء (يو 6: 51، 59) فلن يعانوا من حرمان مجاعة[241]].

لا نخف إذن من المجاعة، فإنها تصيب الأرض والأرضيين، أما من التصقوا بالرب وقبلوا جسده المقدس طعامًا روحيًا فلن يصيبهم جوع، إذ يأكلون من شجرة الحياة (رؤ 2: 7) ويشربون عصير الكرمة الحقيقية (يو 15: 1) جديدًا في ملكوت الآب (مت 26: 29).

لنكف عن أن نكون أرضًا فلا يصيبنا الجوع، ولننعم بالحياة السماوية فيكون لنا الشبع الأبدي.

5. ساراى وفرعون:

 أخطأ إبرام بنزوله إلى مصر دون الرجوع إلى الله أو انتظار إعلاناته له، وسحبه الخطأ إلى أخطاء متوالية... وكانت الثمرة الطبيعية أنه حُرم من زوجته إلى حين إذ سلبه فرعون إياها. والعجيب أن ما كان إبرام عاجزًا عن إعلانه بأن ساراى زوجته أعلنه الله لفرعون ليردها إليه دون أن يمسها بل ونال غني وكرامة.

العجيب أن الله لا يحاسب الإنسان حسب ضعفاته، فلو أن الله سمح لفرعون أن يمس امرأة إبرام لبقي الأخير معذب الضمير كل أيام حياته، مهما نال من بركات أو عطايا... لذلك حفظها الرب من يدي فرعون، بل وردّ لإبرام غني وكرامة... لنقول مع المرتل: "لم يصنع معنا حسب خطايانا ولم يُجازنا حسب آثامنا، لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته علي خائفيه" (مز 103: 10، 11). لقد كان إبرام أحد خائفي الرب ومحبيه، لذا تمتع بالمراحم التي تعلو علي الأرض، وتحقق فيه القول: "لا تمسوا مسحائي، ولا تُسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105: 15). وكما يقول القديس أغسطينوس[242] [بأن إبرام ينتظر عمل الله معه، وما كان إبرام يترجاه صنعه له الرب].

<<

الأصحاح الثالث عشر

اعتزال إبرام لوطًا

تدرب إبرام علي الترك من أجل الرب، والآن إذ عاد من مصر واغتني جدًا طلب من ابن أخيه لوط أن يعتزل مختارًا النصيب الذي يحسن في عينيه، محتملاً مفارقة لوط رفيق مسيرته الإيمانية لأجل السلام.

1. صعوده من مصر                 1-4

2. اعتزاله عن لوط                  5-9

3. اختيار لوط سدوم                 10-13

4. الرب يبارك إبرام                  14-18

1. صعوده من مصر:

"فصعد إبرام من مصر هو وامرأته وكل ما كان له ولوط معه إلي الجنوب (Negeb)" [١].

 إن كان إبرام قد نزل إلي مصر من اجل المجاعة وكاد أن يفقد زوجته ساراى، لكن من أجل نقاوة قلبه لم يتركه الله في مصر بل حفظ له زوجته وأعطاه نعمة في عيني فرعون الذي حثه علي الصعود من مصر، قائلاً له: "والآن هوذا امرأتك، خذها واذهب، فأوصي عليه فرعون رجالاً فشيّعوه وامرأته وكل ما كان له" (12: 19، 20). في هذه المرة لم يظهر له الرب لكي يدعوه للخروج. وإنما حدثه خلال فرعون الذي التجأ إبرام إلي أرضه، وكأنه يحدثه باللغة التي تناسبه في ذلك الحين. هذه هي معاملات الله مع الإنسان، إنه يحدث كل إنسان حسب ما يرتضي الإنسان لنفسه، فإذ كان إبرام بسيطًا للغاية في إيمانه ظهر له وكلمه مباشرة، وإذ لجأ لفرعون حدثه بفرعون، وعندما صار بلعام جاهلاً كالآتان حدثه خلال آتانه (عد 22: 28-30)، وعندما كان شاول الطرسوسي عنيفًا للغاية حدثه خلال لغة فقدان بصيرته المؤقتة (أع 9: 8، 9)، وإذ كان المجوس منهمكين بالدراسات الفلكية حدثهم  بالنجم... هكذا يخاطب الله الإنسان بلغته.

"صعد من مصر إبرام ومعه امرأته وكل ما كان له ولوط معه" [١]. هكذا يليق بنا حتى إن نزلنا إلي الاتكاء علي ذراع بشري (فرعون) ألا نبقي في الضعف بل نصعد، نصعد كل واحد ومعه امرأته وكل ما له وكل أقربائه، أي ينطلق بروحه كما بجسده (امرأته) وكل طاقاته، ولا يترك شيئًا مما له مرتبكًا بالأمور الزمنية البشرية. بمعني آخر ليكن صعودنا كاملاً منطلقين إلي أرض الموعد، نعيش تحت جناحي إلهنا!

خرج إبرام من التجربة التي كشفت عن ضعفه ببركات كثيرة فقد أدرك رعاية الله الفائقة له، إذ لم يستطع فرعون أن يمس امرأته، بل وصار إبرام "غنيًا جدًا في المواشي والفضة والذهب" [٢]. ما هو سر الغني؟ إن كان عن ضعف سقط إبرام، لكنه بقوة الروح لم يستسلم للسقوط، وكأنه يقول: "لا تشمتي بي يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي" (مى 7: 8) فالنفس المؤمنة المملوءة رجاءً تتحول حتى ضعفاتها إلي فرص لاقتناء غني أعظم. عندما سقط ثيؤدور في حب امرأة جميلة تاركًا الحياة الرهبانية أرسل إليه القديس يوحنا الذهبي الفم يؤكد له أن يأسه أكثر مرارة من الزنى، فبعث إليه برسالتين حتى تاب وصار قسًا فأسقفًا علي منطقة ما بين النهرين (المصيصة)، فمن كلمات القديس له: [إن كان الشيطان لديه هذه القدرة أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلي أبعد حدود الشرور فكم بالأكثر جدًا الله قادرًا أن يرفعك إلي الثقة السابقة ولا يجعلك فقط كما كنت، بل اسعد من ذي قبل. لا تيأس، ولا تطرح الرجاء الحسن، ولا تسقط فيما سقط فيه الملحدون، فإنه ليست كثرة الخطايا هي التي تؤدي إلي اليأس بل عدم تقوى النفس[243]]. مرة أخري يقول: [لأن الشرور التي ارتكبناها لا تغيظ الله قدر عدم رغبتنا في التغير. لأن من يخطئ يكون قد سقط في ضعف بشري، وأما من يستمر في الخطية فإنه يبطل إنسانيته ليصير شيطانًا. أنظر كيف يلوم الله علي فم نبيه العمل الثاني أكثر من الأول: "فقلت بعدما فعلتِ كل هذه ارجعي إليّ فلم ترجع" (إر 3: 7) [244]].

إن كان إبرام قد أضاع زمانًا بنزوله إلي مصر ورجوعه منها إلي أرض الجنوب ثم إلي بيت إيل "إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البدء بين بيت إيل وعاي" [٣]، أي رجع إلي حيث كان أولاً... لكنه خرج من التجربة منتفعًا وغنيًا جدًا! هكذا لا يتوقف أولاد الله عن النمو المستمر والدخول إلي الغني الروحي حتى إن تعرضوا في حياتهم لضعفات أو سقطات وظنوا أنهم فقدوا السنوات ليبدءوا من جديد من حيث كانوا قبلاً.

 يشهد الكتاب عن إبرام أنه كان: "غنيًا جدًا في المواشي والفضة والذهب" [٢]، هذا الغني لم يعفه عن غني النفس، إذ لم يكن قادرًا علي احتلال القلب الداخلي وارباك الفكر، إنما تمتع إبرام مع الغني الزمني بغني الروح المفرح. يقول القديس أغسطينوس: [لكي تعرف أن الغنى في ذاته لا يُلام، كان إبراهيم غنيًا له ذهب كثير وفضة ومواشي وغلمان، وقد حمل في حضنه لعازر الفقير (لو 16: 22). وُجد الفقير في حضن الغني، أليس الاثنان غنيين في عيني الله؟![245]].

2. اعتزاله عن لوط:

 "لوط السائر مع إبرام كان له أيضًا غنم وبقر وخيام، ولم تحتملها الأرض أن يسكنا معًا، إذ كانت أملاكهما كثيرة... فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي إبرام ورعاة مواشي لوط... فقال إبرام للوط: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوان. أليست كل الأرض أمامك؟! اعتزل عني، إن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا، وإن يمينًا فأنا شمالاً" [5-9].

يري البعض أن كلمة "لوط" تعني (غطاء) أو (حجاب) [246]، فإن كان لوط قد رافق إبرام في مسيرته الإيمانية، لكن الفارق بينهما أن إبرام يحمل قلبًا بسيطًا مكشوفًا، ما بداخله مُعلن خلال ما بخارجه لذا كان يغتصب الملكوت وينمو في المعرفة بلا توقف، أما لوط فكان يسير مع الموكب الإيماني بقلب مغلق، يحمل في أعماقه شيئًا من حبه للذات وارتباط بالعالم، أما في الخارج فيبدو كرجل إيمان ورفيق لأعظم أب، لهذا كان الزمن يفضح ضعفاته والتجارب تكشفه... وكان ينهار من يوم إلي يوم حتى فقد زوجته وممتلكاته وتدنس مع ابنتيه، وإن كنا لا ننكر بعض الجوانب الطيبة فيه.

كان لوط رفيقًا لإبرام، وصار الاثنان غنيّين، لكن لوطًا كان في غناه "له غنم وبقر وخيام" [٥]، "ولم يكن له فضة وذهب" كإبرام [٢]. فإن كانت الفضة تشير إلي كلمة الله والذهب يشير إلي الروح أو الحياة السماوية، فإن إبرام كان في غناه متمسكًا بكلمة الله أو الوصية كسرّ غني داخلي، وكما يقول المرتل: "بطريق شهاداتك فرحت كما علي كل الغني" (مز 119: 14). وكان أيضًا متمسكًا بالغني الروحي أو الحياة السماوية (الذهب)، فلم تشغله المواشي عن الأبدية!

كان إبرام غنيًا بمواشيه منفتحًا بقلبه علي وصية الله وملكوته السماوي، أما لوط فكان مهتمًا بالغنم والبقر والخيام الزمنية بقلب محتجب عن معاينة الملكوت السماوي.

 لقد شعر إبرام بما حدث بين رعاة مواشيه ورعاة مواشي ابن أخيه لوط، وفي محبة من أجل السلام الأخوي طلب من ابن أخيه أن يعتزل في الموضع الذي يروق في عينيه، وكما يقول القديس أغسطينوس: [ربما من هنا نشأت عادة مسالمة بين البشر أنه متي كانت قسمة في أمور أرضية يقوم الأكبر بالتقسيم والأصغر بالاختيار[247]].

إبرام وهو الأكبر ترك للأصغر حق الاختيار بفرح ورضي، الأمر الذي كشف قلبه المؤمن وفضح قلب لوط المادي... وكأن التجربة زكت إبرام وفضحت لوطًا. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن إبراهيم الذي كان متقدمًا في الكرامة كيف لم يقلق لأن ابن أخيه قبل أن يختار معطيًا لنفسه النصيب الأول وتاركًا لعمه النصيب الثاني الأصغر، إذ يقول: [عندما صار الحال إلي أردأ وفقد (هذا الأب) نصيبه الأول لم يغضب... بل كان مقتنعًا أن يتقبل الموضع الثاني، عندما أخطأ في حقه الأصغر وهو الكبير، بكونه العم مع ابن أخيه، لم يسخط عليه ولا تعلل، بل أحبه كنفسه وقدم له عونًا عند الحاجة[248]]. كما قال: [لم يطلب إبراهيم نفعه الخاص بل نفع الكثيرين، لذلك عرّض نفسه للمخاطر، وتضرع إلي الله من أجل من ليس له صلة بهم إطلاقًا... أما ابن أخيه فإذ سمع القول: "إن ذهبت يمينًا فأنا شمالاً" قبل حق الخيار، وسعي نحو نفعه الخاص، ففقد ماله إذ احترقت هذه المنطقة (تك 19) بينما ظلت بقية المناطق المحيطة لم يمسها ضرر[249]].

3. اختيار لوط سدوم:

 "فرفع لوط عينيه ورأي كل دائرة الأردن أن جميعها سقي قبلما أخرب الرب سدوم وعمورة، كجنة الرب كأرض مصر، حينما تجيء إلي صوغر، فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن... ونقل خيامه إلي سدوم، وكان أهل سدوم أشرارًا وخطاة لدي الرب جدًا" [10– 13].

 ربما وقف إبرام وابن أخيه لوط معًا علي إحدى مرتفعات بيت إيل... ورفع إبرام نظره ليذكر عدن التي حرم منها الإنسان بسبب حسد إبليس، فضم لوطًا إلي قلبه بالحب قائلاً: "لأننا نحن أخوان" [٨]، أما لوط فرفع عينيه ليري الأرض سقي [١٠]... منظر واحد يسحب قلب إبرام إلي الحب الأخوي وقلب لوط إلي الأنانية، الأول اشتهى الفردوس والآخر طلب الأرض السقي...

 رفع لوط عينيه ليري الأرض "كجنة الرب كأرض مصر"... تذكر "عدن" لكن لا في سلامها الداخلي ولقاء الإنسان مع الرب وإنما في زراعاتها وخصوبتها كأرض مصر... هكذا امتزجت الروحيات بالزمنيات بغير تمييز أو إفراز... إنه يمثل الإنسان المتدين، صاحب المعرفة النظرية والممارسات الشكلية، أما قلبه ففي محبة العالم غارقًا، وفي الأرض زاحفًا.

 أما الخطأ الثالث الذي ارتكبه لوط بجانب أنانيته وعدم تمييزه بين ما هو روحي وما هو زمني فهو عدم مبالاته بسكان المنطقة إذ كانوا "أشرارًا وخطاة لدي الرب جدًا"، الأمر الذي أفقده وعائلته الكثير، روحيًا وماديًا.

4. الرب يبارك إبرام:

 إن كان لوط بنظرته المادية انجذبت عيناه إلي الأرض السقي التي حسبها كجنة الرب كأرض مصر [١٠]، فباعتزاله إبرام تمتع إبرام بمواعيد الله الفائقة: "ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا... قم أمش في الأرض طولها وعرضها، لأني لك أعطيها" [١٧].

 لم يرد الله أن يحصر إبرام في اتجاه واحد وإنما طالبه بالتطلع نحو الاتجاهات الأربع، لكي يري محبة المسيح الفائقة في طولها وعرضها وعمقها وارتفاعها، تحصره (2 كو 5: 14؛ 3: 18). ولعله بالنظر إلي الاتجاهات الأربع يكون قد رأي الصليب بالإيمان الذي به يملك السيد المسيح الخارج من نسل إبرام علي الشعوب والأمم التي صارت خلال العبادة الوثنية أرضًا.

أما قوله: "قم امش في الأرض طولها وعرضها" فيكشف عن عمل الله في حياة القائمين بالرب القائم من الأموات، الذين لا يتراخون بل يمشون بلا توقف حتى يملكوا تمامًا وكما يقول القديس أمبروسيوس: [لم يعد بالمكافآت للذين ينامون والكسالى بل للمجاهدين[250]].

إذ نال إبرام وعدًا بميراث الأرض لنسله الذي لا يُعد... مع أنه لم يكن بعد قد أنجب ابنًا، بإيمان قبل المواعيد دون نقاش بل نقل خيامه "وأتى وأقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون وبنى هناك مذبحًا للرب" [١٨]... هناك عند بلوطات ممرا يستضيف الله وملاكين وينال وعدًا بميلاد إسحق (تك ١٨)، وإذ نترك الحديث عن بلوطات ممرا للأصحاح الثامن عشر، نود الإشارة إلى "حبرون" أنها تعني في رأي  العلامة أوريجانوس "اقتران" أو "زواج"، ويرى البعض أنها تعني "شركة"... فمع كل لقاء حقيقي مع الله وتمتع بوعوده ندخل إلى "حياة شركة" أعمق، خلالها نرفض كل اقتران بمحبة الزمنيات لذبح عريس نفوسنا ربنا يسوع.

رحل لوط إلى سدوم وعمورة ليعيش في الأرض السقي بين الأشرار، فيفقد كل شيء، ورحل إبرام إلى بلوطات ممرا التي في حبرون ليستضيف الله وملاكيه وينعم بحياة شركة مع الله على مستوى أعمق. حياتنا رحيل مستمر بلا توقف، إما نحو سدوم حيث الهلاك أو نحو بلوطات ممرا حيث اللقاء مع واهب الحياة!

<<

الأصحاح الرابع عشر

موقعة كدرلعومر

نجح إبرام في إظهار الطاعة لله بخروجه من أور الكلدانيين ومن حاران متجهًا نحو كنعان، وإذ ضاقت الأرض برعاته ورعاة أخيه ترك لابن أخيه حق الخيار، والآن إذ سقط ابن أخيه أسيرًا انطلق إبرام برجاله يخلصه هو من معه من يد كدرلعومر، رافضًا كل مكافأة بشرية، ليهبه الله ما هو أعظم.

١. سبي لوط وعائلته                ١-١٢

٢. إبرام ينقذ لوطًا                    ١٣-١٦

٣. لقاء مع ملكي صادق             ١٧-٢٠

٤. إبرام يرفض المكافأة البشرية     ٢١-٢٤

 ١. سبي لوط وعائلته:

أختار لوط منطقة سدوم الخاضعة في ذلك الحين لكدرلعومر ملك عيلام، تدفع له الجزية. وقد سبق الحديث عن عيلام[251].

أما كدرلعومر ملكها فأسمه يعني "عبد لعومر" أي عبد أحد آلهة عيلام؛ عُرف ببطشه وسطوته إذ اكتسح كل ممالك الجنوب، وأخضع لسلطانه كل بلاد وادي الأردن، وبسط حمايته على الطريق الرئيسي بين دمشق ومصر. خضعت له البلاد وبعد اثنتى عشر سنة إذ شعرت بالمذلة قام خمسة ملوك بالثورة ضده حتى لا يدفعوا له جزية، هم ملوك سدوم وعمورة وأدمة وصوبيم وبالع (صوغر)، فاضطر كدرلعومر أن يقوم بحملة ثانية لتأديب هؤلاء الملوك المتمردين، وقد تحالف معه ثلاثة ملوك آخرين هم ملوك شنعار والأسار وجوبيم... وقد اكتسح هؤلاء الملوك الأربعة المنطقة. وإذ تركزت الحرب بجوار سدوم فبالرغم من مناعتها الطبيعية ومرارة نفوس سكانها انهزمت بسبب الفساد الذي حطمها، واضطر الملك إلى الهرب بينما سقط لوط وعائلته أسرى وصارت ممتلكاتهم غنيمة.

٢. إبرام ينقذ لوطًا:

إذ نجا إنسان أخبر إبرام العبراني بسبي ابن أخيه، "فلما سمع إبرام أن أخاه سُبي جرّ غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان، وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التي عن شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطًا أخاه أيضًا وأملاكه والنساء أيضًا والشعب" [١٤– ١٦].

طلب لوط ما لنفسه فخسر كل شيء، وإذ تدرب إبرام أن يطلب ما للآخرين لم يحتمل أن يسمع عن هلاك لوط وعائلته... قلبه الناري في محبته لا يطيق أن يستريح بينما الغير متألم، لذلك قام بسرعة ومعه ٣١٨ من غلمانه المتدربين على الحرب ليغلب ذاك الذي غلب خمسة ملوك.

ليس عجيبًا أن يدعى إبرام هنا بالعبراني، فإذ عاش كعابر أي غريب استطاع بروح الغربة أن ينقذ سدوم وملكها ولوطًا وعائلته، أما لوط فإذ استوطن في سدوم لم يستطع أن ينقذ حتى نفسه. ما أحوج العالم لا إلى أُناس كلوط يعيشون مرتبطين بالأشرار في فكرهم بل كإبرام الذي يبدو منعزلاً وغريبًا لكنه يسند النفوس الساقطة خلال حياته المقدسة خلال حياته المقدسة في الرب.

عاش لوط في مدينة أحاطت فكره بالتراب والأرضيات، وعاش إبرام عند "بلوطات ممرا" أي "بلوطات الرؤيا"، يترقب رؤية الله... الأمر الذي لم يثنيه عن خدمة الآخرين بل بالعكس دفعه بالأكثر للعمل لخلاص الكل.

يرى القديس أكليمنضس الاسكندري[252] أن الكتاب المقدس ذكر عدد الغلمان الذين حاربوا مع إبراهيم (٣١٨) ليس بدون سبب، فإن رقم ٣٠٠ في اليونانية يبدأ بحرف اليوتا رمز علامة يسوع المسيح و١٨ بالإيتا التي تشير إلى أسم المخلص، وكأن خدام إبراهيم المحاربين معه هم الذين تمتعوا بخلاص ربنا يسوع، هربوا إلى علامته وأسمه.

٣. لقاء مع ملكي صادق:

سبق لنا الحديث عن هذا اللقاء في تفسيرنا للأصحاح السابع من الرسالة إلى العبرانيين، إذ رأينا أن قصة لقاء إبراهيم أب الآباء مع ملكي صادق بعد غلبة الأول على كدرلعومر تمثل لغزًا لدى اليهود لا يعرفون له تفسيرًا، إذ كيف يقدم أب الآباء إبراهيم الذي في صلبه كهنوت لاوي العشور لرجل غريب؟ ولماذا ظهر هذا الملك والكاهن في الكتاب المقدس واختفى فجأة ولا يعرف أحد أباه أو أمه أو نسبه؟ ولماذا لم يقدم ذبيحة دموية كما كانت عادة ذلك الزمان؟

أسئلة لا يجد لها اليهود إجابة، لكن الرسول يكشف عن سرها بإعلانه أن ملكي صادق وهو رمز للسيد المسيح قد فاق شخص إبراهيم الحامل للكهنوت في صلبه (سبط لاوي) ويمكننا الرجوع لتفسير العبرانيين (أصحاح ٧)، مكتفيًا ببعض العبارات للآباء:

v     من هو كاهن الله العلي أكثر من ربنا يسوع المسيح الذي قدم ذبيحة لله الآب، مقدمًا ذات الأمور التي قدمها ملكي صادق، الخبز والخمر، أي جسده ودمه؟! أما بخصوص إبراهيم فالبركة التي نالها إنما تخص شعبه.

القديس كبريانوس[253]

v     هذا هو ملكي صادقنا الذي قدم الذبيحة المقدسة التي لنا. إنه هو القائل: "من يأكل جسدي ويشرب دمي" (يو ٦: ٥٥)، معطيًا إيانا سره هذا على رتبة ملكي صادق.

القديس چيروم[254]

هذا وقد أوضح القديس أمبروسيوس[255] أن ملكي صادق كان إنسانًا مقدسًا وكاهنًا لله يرمز لربنا يسوع المسيح ولم يكن ملاكًا كما ادعى بعض اليهود.

في أيجاز نورد مقارنة بين السيد المسيح وملكي صادق:

أ. من جهة الاسم "ملكي صادق" يعني "ملك البر" (رو ٣: ٢٤).

ب. من جهة العمل "ملك ساليم" أي ملك السلام (يو ١٦: ٣٢).

ج. كان ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت الأمر الذي لا يتحقق عند اليهود، إذ كان الملوك من سبط يهوذا والكهنوت من سبط لاوي، أما في المسيح يسوع فتحقق العملان معًا.

د. تقدمة ملكي صادق فردية في نوعها تشير إلى ذبيحة السيد المسيح.

هـ. لم نعرف شيئًا عن أبيه وأمه ولا بداية ملكه أو نهايته، إشارة إلى السيد المسيح الذي بلا أب جسدي وبلا أم من جهة اللاهوت، بلا بداية أيام، أبدي.

ز. جاء السيد المسيح كاهنًا على رتبة ملكي صادق، وكأن الكهنوت اللاوي قد انتهى ليقوم كهنوت جديد.

ط. إبراهيم الذي في صلبه لاوي الذي يجمع العشور، يقدم بنفسه العشور لملكي صادق رمز السيد المسيح، فماذا يكون هذا الرمز؟ وكم يكون المرموز إليه؟

٤. إبرام يرفض المكافأة البشرية:

كان من حق إبرام أن ينال المكافأة عن تعبه، فإنه إذ سمع ملك سدوم أن إبرام أنقذ شعبه من كدرلعومر خرج من مخبئه ليستقبله [١٧]، وقال له "أعطني النفوس وأما الأملاك فخذها لنفسك. فقال إبرام لملك سدوم: رفعت يدّي إلى الرب الإله العلي مالك السماء والأرض، لا آخذن لا خيطًا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك، فلا تقول أنا أغنيت إبرام، ليس لي غير الذي أكله الغلمان، وأما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي عانر وأشكول وممرًا فهم يأخذون نصيبهم" [٢١– ٢٤].

يقول الأب ثيوناس: [فاق إبراهيم مطالب الناموس التي أعطيت فيما بعد، لأنه بعد انتصاره على الأربعة ملوك لم يلمس شيئًا من غنائم سدوم التي كانت له حقًا كمنتصر، والتي عرضها عليه ملك سدوم بنفسه الذي أنقذه إبراهيم[256]].

ويقول القديس أمبروسيوس: [كان أمينًا في الحرب، متضعًا في نصرته، مفضلاً ألاّ يغتني بهبات الآخرين بل بهبات الله[257]].

كان إبراهيم في شهامته يرفض المكافأة البشرية لنفسه منتظرًا المكافأة الإلهية، لكنه وهو يفعل هذا لا يحرم غلمانه من التمتع بحقهم (نوال الأكل من ملك سدوم) ولا حرم شركاءه في العمل من نوال نصيبهم. يرفض أن يأخذ لنفسه لكنه لا يلزم الغير أن يرفضوا المكافأة... صورة حية للنضوج الروحي والفكري!

<<

الأصحاح الخامس عشر

الميثاق الإلهي

في أمانة جاهد إبرام من أجل لوط ورفقائه، وإذ غلب رفض المكافأة البشرية التي كانت حقًا شرعيًا له، فكافأه الرب بما لا يستطيع البشر أن يقدموه، وهو التمتع بالدخول في عهد إلهي، فيكون نسله كنجوم السماء، من نسله يتبارك الأمم.

١. ظهور الرب له                    ١-٢

٢. الوعد بالبركة                     ٣-٨

٣. الحيوانات المشقوقة والطيور      ٩-١٧

٤. الرب يقطع معه عهدًا             ١٨-١٩

١. ظهور الرب له:

"بعد هذه الأمور صار كلام الرب إلى إبرام في الرؤيا، قائلاً: لا تخف يا إبرام، أنا ترس لك، أجرك كثير جدًا. فقال إبرام: أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي؟!" [١-٢].

جاء كلام الرب لإبرام في الرؤيا في الوقت المناسب... إذ يقول: "بعد هذه الأمور"، كأن ما تمتع به إبرام من كلام الرب ورؤيا إنما يطابق الأحداث السابقة. لقد قدم إبرام حياته وممتلكاته فدية عن ابن أخيه، معرضًا نفسه للخطر، فتمتع بالرب نفسه كترس له. وإذ رفض إبرام المكافأة سمع القول الإلهي: "أجرك كثير جدًا".

لم نسمع عن إبرام أنه خائف بل خرج من المعركة غالبًا، فلماذا يؤكد له الرب: "لا تخف يا إبرام، أنا ترسل لك"؟! بلا شك هذا التأكيد الإلهي إنما يمثل اقترابًا إلهيًا نحو إبرام. لقد اقترب إبرام إلى الله لا بالصلاة وتقديم الذبائح فحسب وإنما اقترب إليه بالعمل، خلال الجهاد من أجل نفع الآخرين، لذا يقترب إليه الرب حسب وعده: "اقتربوا إليّ يقول رب الجنود فأقترب إليكم" (زك ١). أقترب إبرام إلى الله خلال ترفقه العملي بأخوته فاقترب إليه الرب بإعلان أنه ترسل له يسنده. أقترب إبرام أيضًا إلى الله برفضه للمكافأة البشرية فاقترب إليه الرب بوعده إياه "أجرك كثير جدًا".

لنقترب للرب لا بالصلاة والدموع والمطانيات والتقدمات فحسب وإنما خلال الحياة كلها، خلال الحب له ولكل البشرية... فإننا إذ نقترب إليه بالعمل يقترب هو إلينا عمليًا.

أقترب الله منه زاد إبرام اقتراب إليه، إذ تقدم إليه يتحدث لا في شكليات أو رسميات وإنما في جرأة ودالة، يقول له: "أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا ومالك بيتي أليعازر الدمشقي؟" لم يطلب منه صراحة ابنًا لينزع العار عنه ويتمتع بالميراث، لكنه في دالة يسأله معاتبًا ما نفع العطايا الكثيرة لإنسان عقيم يرثه آخر؟... على أي الأحوال، معاملات الله مع إبرام أعطت الأخير الدالة ليتحدث معه بصراحة بقلب مفتوح حتى دُعى "خليل الله".

2. الوعد بالبركة:

في الحقيقة حياة إبرام هي سلسلة غير منقطعة من اللقاءات مع الله والتمتع بالوعود، ولم يكن هذا عن محاباة وإنما تأهل إبرام لهذه العطايا الإلهية غير المنقطعة بسبب أيمانه الحيّ العملي وطاعته للرب في كل شيء.

في عتاب تحدث إبرام مع الرب من أجل العطايا التي تُمنح له وليس له ابن يرثه... فكانت إجابة الرب له: "لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك ثم أخرجه إلى خارج وقال له: أنظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها، وقال له: هكذا يكون نسلك" [٤-٥]. "فآمن بالرب فحسب له برًا" [٦].

صار كلام الرب لإبرام... وبحسب الطبيعة يبدو الوعد مستحيلاً، لكن إبرام "آمن بالرب فحسب له برًا"؛ هذه هي المرة الأولى التي فيها نسمع كلمة "آمن". يقول معلمنا بولس: "ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله" (عب ٤: ٢٠)، وقد اقتبس رجال الله العبارة: "آمن بالرب" في أكثر من موضع (رو ٤: ٣؛ غل ٣: ٦؛ يع ٢: ٢٣)، وكأن إبرام أب الآباء قد فتح لنا نحن أولاده طريق البر خلال الإيمان، إذ يقول الرسول: "ولكن لم يكتب من أجله وحده أنه حسب له، بل من أجلنا نحن أيضًا الذين سيحسب لنا، الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات" (رو ٤: ٢٣، ٢٤).

٣. الحيوانات المشقوقة والطيور:

في دالة الصداقة الفائقة القائمة بين الله وإبرام، إذ نال الأخير وعدًا آمن فحسب له برًا، لكنه طلب علامة، قائلاً: "أيها السيد الرب بماذا أعلم أني أرثها؟" [٨]. لم يكن طلب العلامة يحمل شيئًا من التشكك في مواعيد الله، إنما يحمل علامة انفتاح قلب لإبرام ووجود دالة بينه وبين الله. وقد جاءت العلامة تكشف لنا "سر الكنيسة الخارجة من صلب إبرام". فإن كان الله قد وعده بنسل من صلبه كنجوم السماء لا تعد، الآن يكشف له عن هذا النسل الذي يصير كنيسة مقدسة للرب تضم أعضاءها من نسل إبراهيم من أهل الختان كما من أهل الأمم.

في اختصار طالبه الرب أن يشق عجلة سنها ثلاث سنوات وعنزة وكبشًا في ذات السن، ويضع كل شق مقابل الآخر، ويذبح يمامة وحمامة دون أن يشقهما... وإذ جاءت الجوارح على الجثث كان إبرام يزجرها. وعند الغروب وقع إبرام في سبات، وصار في رعبة مظلمة، وقيل أن نسله يُستعبد في أرض غريبة لمدة أربعمائة سنة... ثم غابت الشمس فصارت العتمة، وإذا تنور ومصباح نار يجوز بين تلك القطع.

ماذا يعني هذا كله؟ يرى الأب قيصريوس أسقف Arles أن هذه الرؤيا تخص الكنيسة الجامعة وقد ضمت أعضاء من كل الأمم، صاروا أولادًا لإبراهيم لا حسب الجسد وإنما بالإيمان، لكن للأسف يسلك بعضهم روحيًا والبعض جسديًا إذ يقول: [دعى إبراهيم أبًا لجمهور أمم (تك ١٧: ٥)، إذ تؤمن الأمم بالمسيح ويصيرون أولادًا لإبراهيم بامتثالهم بإيمانه وليس خلال ولادة جسدية. أما اليهود فإذ يجحدون الإيمان يصيرون أبناء إبليس، وقد لُقبوا في الإنجيل: "أولاد الأفاعي" (مت ٣: ٧)، بينما استحق الأمم المؤمنون بالمسيح أن يُلقبوا أولاد إبراهيم، فالعجلة والمعزة والكبش سنهم ثلاث سنوات يشيرون مع اليمامة والحمامة إلى كل الأمم. وصفوا بأن سنهم ثلاث سنوات لإيمانهم بسرّ الثالوث. لا تضم الكنيسة الجامعة أعضاء روحيين فقط بل وجسديين أيضًا. فإن كان البعض يعلن أنه يؤمن بالثالوث لكنهم جسديون إذ هم متراخون في التخلي عن الخطايا والرذائل. توجد أيضًا نفوس روحية مع الجسديين لهذا تضم اليمامة والحمامة، فيُفهم من الحيوانات الثلاثة وجود الجسديين ومن اليمامة والحمامة وجود الروحيين. لاحظ بدقة أنه قيل عن إبراهيم أنه يشق الحيوانات الثلاثة إلى شقين كل شق يوضع مقابل صاحبه، ويقول الكتاب: "وأما الطير فلا يشقه" [١٠]. لماذا هذا أيها الأخوة لأنه يوجد في الكنيسة الجامعة أُناس جسديون منقسمون، أما الروحانيون فلن ينقسموا. يقول الكتاب: "ينفصل كل واحد مقابل صاحبه"؛ لماذا ينفصل كل واحد مقابل صاحبه؟ لأن الأشرار محبي العالم لا يتوقفون عن الانقسامات والافتراءات فيما بينهم، لذلك فهم منقسمون كل واحد ضد الآخر، أما الطيور، أي النفوس الروحية، فلا تنقسم. لماذا لا تنقسم؟ لأن لها قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة في الرب (أع ٤: ٣٢)... بالتأكيد اليمام والحمام المشار إليه قبلاً هو هذه النفوس، ففي اليمامة تتمثل الطهارة وفي الحمامة تتمثل البساطة. كل خائفي الله في الكنيسة الجامعة هم الطاهرون والبسطاء، يقولون مع المرتل: "يا ليت لي جناحًا كالحمامة وأطير فأستريح" (مز ٥٥: ٦)، وأيضًا "السنونة (وجدت) عشًا لنفسها حتى تضع أفراخها" (مز ٨٤: ٣). فإن الجسديين المنقسمين على أنفسهم مثقلون بقيود الرذيلة الثقيلة، أما الروحيون فمرتفعون إلى الأعالي بأجنحة الفضيلة المتنوعة، كما بجناحين، أي بوصيتي حب الله وحب القريب، منطلقين نحو السماء. هؤلاء يستطيعون القول مع الرسول: "سيرتنا هي في السموات" (في ٣: ٢٠). وإذ يقول الكاهن: "ارفعوا قلوبكم" يجيبون بتأكيد وورع أنهم قد رفعوا قلوبهم للرب. على أي الأحوال، قليلون جدًا ونادرون هم الذين يستطيعون في الكنيسة أن ينطقوا هكذا بثقة وحق[258]].

كما يقول الأب قيصريوس أيضًا: [ليتنا نظهر بساطة الحمامة وطهارة اليمامة، لنُرفع إلى السماء بأجنحة الفضيلة الروحية، كقول الرسول: "سنخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء[259]].

الآن إذ نترك الحديث عن هذه الذبيحة ونتطلع إلى إبرام ونجد منظره أمام زوجته وعبيده غريبًا، إذ يقف الشيخ الوقور بجوار هذه الحيوانات والطيور المذبوحة بطريقة معينة وقد رتبها ترتيبًا خاصًا، دون أن يقدمها على مذبح أو يطلب طهيها، إنما يقف ليرى الطيور الجارحة تحوم حولها لتقتنص منها شيئًا، وهو يزجرها طول النهار. تُرى ماذا كانت مشاعر إبرام طوال اليوم؟ وما هي مشاعر المرافقين له؟

إن كانت هذه الذبائح تشير إلى الكنيسة الجامعة بنقاوتها كما بحملها للضعفاء فيها، كما تشير إلى حياة كل عضو فيها، فإن إبرام يشير إلى النفس الروحية اليقظة التي لا تستطيع أن تمنع الطيور الجارحة النجسة من أن تحوم حوله، لكنه يقدر أن يمنعها من أن تستقر عنده أو تخطف شيئًا من عندياته. هذا ما أكده كثير من آباء الكنيسة، أن المؤمن الحيُ لا يقدر أن يمنع حرب الخطايا من مهاجمته، لكنها إذ تجد إنسانًا يقظًا لا تقدر أن تدخل إليه أو تتسلل إلى فكره أو قلبه، إنما تبقى الحرب خارجه، تحوم حوله دون أن تنال منه شيئًا.

بقي اليوم كله في طاعة لله يزجر الجوارح دون أن يرى شيئًا أو يسمع صوتًا، وقبيل مغيب الشمس صار في سبات ووقعت عليه رعبة مظلمة وعظيمة... لماذا؟ لقد رأى ثمر الخطية في حياة الإنسان، كيف تفسده وتستعبده؟! فقد سمع أن نسله يكون مستعبدًا لأمة غريبة في مذلة أربعمائة عام... إنها صورة مؤلمة للنفس التي تسقط تحت الخطية فتصير في عبودية فرعون الطاغي ومذلته. لكن الله عند غروب الشمس، أي في ملء الزمان، يطلق البشرية بالصليب من هذه العبودية واهبًا إياهم غنائم روحية كثيرة، إذ يقول: "بعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة" [١٤]... "ثم غابت الشمس فصارت عتمة، وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع" [١٧]، إشارة إلى خلاص الناس في الرب واستنارتهم بالروح القدس الناري.

يمكننا القول أن ما حدث مع إبرام هنا يشير إلى عمل السيد المسيح الخلاصي، فقبيل غروب الشمس، في ملء الزمان، وقع على الرب سبات إذ أسلم الروح على الصليب، معلنًا مرارة الخطية التي حدرتنا إلى الجحيم ونزلت بنا إلى العبودية زمانًا، لكن الرب الراقد على الصليب إذ ينزل إلى الجحيم يحملنا على كتفيه ويخرج بنا كما بأملاك جزيلة، حاملاً غناه، وواهبًا إيانا غنى الروح، حتى متى جاء غروب العالم وانقضاء الدهر يُعلن خلاص أجسادنا، ويعلن يومه العظيم كما بنار.

يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رائعًا لهذه الرؤيا، جاء فيه: [يكفي أن نعرف أنه بعدما قال أن إبرام آمن بالله فحسب له برًا لم يفشل إبرام في الإيمان عندما قال "أيها الرب الإله بماذا أعلم أني أرثها؟" [٨]... فإنه لم يقل " كيف أعرف؟" كما لو كان لم يؤمن بعد أنه يرث، وإنما قال "بماذا أعلم؟" بمعنى يطلب علامة ليعرف الطريق الذي به يتحقق ما قد آمن أن يناله. إنه كالعذراء مريم التي ليس عن عدم أيمان قالت: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟" (لو ١: ٣٤)، فإنها تسأل عن الوسيلة التي بها يتحقق ما سيحدث فعلاً. لذلك عندما سألَت هذا أُخبرَت: "الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللكِ" (لو ١: ٣٥). هنا أيضًا أُعطي له رمز بدقة خلاله يتعرف على الطريقة التي يتحقق بها الأمر الذي لم يشك فيه. هذا الرمز يتكون من ثلاث حيوانات: عجلة ومعزة وكبش، ومن طائرين: يمامة وحمامة.

العجلة تشير إلى الشعب الذي سيخضع للناموس، والمعزة تشير إلى أنه شعب خاطي، وأما الكبش فيشير إلى أنهم سيملكون، (وقد قيل عن هذه الحيوانات أنها تبلغ ثلاث سنوات من جهة عمرها، وذلك لوجود ثلاث حقبات زمنية متمايزة: من آدم إلى نوح، ومن نوح إلى إبراهيم، ومن إبراهيم إلى داود الذي يقيم مملكة الأمة الإسرائيلية كإرادة الرب بعدما يُرفض شاول... ). وربما حملت هذه الحيوانات معانٍ أخرى أكثر مناسبة، فإنني لا أشك في أنها تحمل رموزًا لمعان روحية هي واليمامة والحمامة.

لقد قيل "أما الطير فلا يشقه" [١٠]، لأن الجسديين منشقين ضد أنفسهم أما الروحيون فليس بينهم انشقاق قط، سواء كانوا مثل اليمامة منعزلين عن المناقشات الكثيرة مع الناس أو كانوا كالحمامة يعيشون وسطهم، فكلا الطيرين بسيطان وغير ضارين...

أما الطيور الجارحة التي نزلت على الجثث فلا تمثل أمرًا صالحًا بل تمثل أرواح الهواء التي تطلب لنفسها بعض الطعام خلال إنشاقات الجسدانيين.

جلوس إبراهيم بجوارها يشير إلى أنه حتى وسط إنشقاقات الجسدانيين يُحفظ المؤمنون الحقيقيون حتى النهاية.

حلول الخوف العظيم بإبراهيم والرعب من العتمة الشديدة عن غروب الشمس هذا يشير إلى أنه في آخر الأزمنة سيكون المؤمنون في شدة وضيق، الأمر الذي تحدث عنه الرب في الإنجيل: "يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم" (مت ٢٤: ٢١).

أما ما قيل لإبراهيم أن نسله يكون غريبًا في أرض ليست لهم ويستعبدون ٤٠٠ عامًا، فواضح أنه نبوة عن شعب إسرائيل الذين يستعبدون في مصر...

أما ما قيل: "ثم غابت الشمس... وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع" [١٧]، فيشير إلى الجسدانيين سيحاكمون بنار في نهاية العالم[260]].

٤. الرب يقطع معه عهدًا:

"في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا، قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" [١٨].

إذ كشف الله لإبرام علامة الخلاص لكل الأمم، خلال سُبات الرب قبيل الغروب عند ملء الزمان، وحوّل له الظلمة إلى تنور دخان (إشارة إلى حرق الذبيحة) ومصباح نور يجوز وسط شعبه، أكد له الوعد أنه يهب نسله الأرض. وكأنه يؤكد له أن كل ما يتمتع به إبرام من لقاءات مع الله ورؤى وإعلانات إنما من أجل تمتع أولاده بالميراث الروحي في المسيح يسوع مخلص العالم.

هذا الميثاق يحمل جانبين متكاملين: تمتع أولاد إبراهيم بالأرض وطرد الأمم الوثنية منها، وقد حددهم بعشر أمم [١٩]. يرى الأب سرابيون[261] أن هذه الأمم المطرودة تشير إلى الخطايا الثمانية العظمى التي تنعم بالنصرة عليها: النهم، الزنى، محبة المال، الغضب، الغم، الفتور الروحي، حب الظهور، الكبرياء، مضافًا إليها عبادة الأوثان والتجديف.

<<

الأصحاح السادس عشر

إبرام وهاجر

دخل إبرام في صداقة مع الله نفسه الذي أكد له الوعد بأن نسله الخارج من صلبه يكون وارثًا للأرض التي أخرجه إليها، وإذ مرت سنوات دون حدوث تغير ظنت ساراى أنها تتمتع ببنين لها خلال هاجر جاريتها، فقدمتها لرجلها، وقبل إبرام الأمر حاسبًا أن الله يحقق وعوده خلال نسله من هاجر... لكنه إذ سلكت ساراى بتفكير بشري بحت خارج دائرة الإيمان نالت مرارة وخسارة.

١. ساراى تسلم هاجر لرجلها        ١-٥

٢. هروب هاجر من وجه ساراى    ٦-٧

٣. عودة هاجر إلى ساراى           ٨-١٤

٤. ميلاد إسمعيل                     ١٥-١٦

١. ساراى تسلم هاجر لرجلها:

إذ بقيت ساراى عشر سنين مع إبرام في أرض كنعان ولم تنجب بل كانت عاقرًا، استخدمت التفكير البشري المحض لتحقيق وعود الله، إذ طلبت من رجلها أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر، وإذ حبلت هاجر صغرت مولاتها في عينيها، فألقت ساراى باللوم على إبرام الذي أسلم هاجر بين يديها فأذلتها حتى هربت. هذا العمل يمثل اتكال الإنسان على ذاته يخطط لنفسه دون الرجوع إلى الله وطلب مشورته.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ساراى ظنت أن عدم الإنجاب يرجع إلى رجلها لذلك سلمته لتمتحن الأمر، وإذ رأتها قد حبلت اغتمت للغاية إذ أدركت أن سرّ العقم هو فيها...

على أي الأحوال، إن كان إبرام وساراى يسلكان بالإيمان فإنه حتى ضعفهما يستخدمه الله لمجد أسمه، إذ صارت ساراى تمثل كنيسة الأمم (العهد الجديد) التي كانت قبلاً عاقرًا لا تنجب أولادًا لله وهاجر تشير إلى اليهود الذين انجبوا عبيدًا برفضهم البنوة لله في المسيح يسوع... وفي ملء الزمان أنجبت ساراى إسحق إذ أتت بأبناء كثيرين الله. ولدت سارى ابنها ليس حسب الطبيعة إذ كانت عاقرًا وإنما حسب وعد الله فجاء ابنًا مباركًا، أما هاجر فأنجبته حسب الطبيعة فجاء عبدًا. هذا الفكر أعلنه الرسول بولس بوضوح، إذ قال للمسيحيين الذين يريدون العودة إلى الفكر اليهودي (حركة التهود)؛ "قولوا لي أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الناموس ألستم تسمعون الناموس؟! فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالموعد، وكل ذلك رمز، لأن هاتين هما العهدان، أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذي هو هاجر، لأن هاجر جبل سيناء في العربية، ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة، فإنها مستعبدة مع بنيها. وأما أورشليم العليا التي هي أمنا (جميعًا) فهي حرة، لأنه مكتوب: "افرحي أيتها العاقر التي لم تلد، اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج، وأما نحن أيها الأخوة فنظير إسحق أولاد الموعد، ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح هكذا الآن أيضًا، لكن ماذا يقول الكتاب، أطرد الجارية وابنها لأنه يرث ابن الجارية مع ابن الحرة، إذا أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة" (غلا ٤: ٢١– ٣١).

كانت ساراى أو سارة عاقرًا تمثل الأمم الذين عجزوا عن تقديم أولاد الله؛ لكنها أنجبت إسحق ليس ثمرة قانون الطبيعة ولا خلال الزواج الشرعي إذ كانت في عقرها كمن هي تحت حكم الموت، لكنها أنجبت ابنًا خلال وعد الله لها مع رجلها إبراهيم فأنجبت ابنًا في الرب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ولد إسحق لا حسب قانون الطبيعة ولا بزواج شرعي ولا بقوة الجسد ومع ذلك فهو أبنه حقًا. لقد جاء عن جسدين كانا ميتين، جاء عن رحم ميت، فلم يكن الحبل به حسب الجسد، ولا كان مولده عن زرع لأن الرحم كان ميتًا بسبب الشيخوخة والعقم لكن كلمة الله (الوعد الإلهي) شكله (خلال اتحاد إبراهيم وسارة كثمرة للوعد وهو أبنهما من زرعهما). لم يكن الأمر هكذا في ابن الجارية، إذ جاء ثمرة قوانين الطبيعة وخلال اقتران. ومع ذلك فإن الذي كان ليس حسب الجسد كان أكثر كرامة من الذي وُلد حسب الجسد[262]].

ومن كلماته أيضًا: [لم تكن الكنيسة عاقرًا فقط كسارة وإنما أيضًا صارت مثلها أمًا لأبناء كثيرين، وحبلت بهم بذات الطريقة كما حدث مع سارة، إذ لم تحبل خلال الطبيعة بل خلال وعد الله الذي جعل من سارة أمًا]. [من هذه التي كانت عاقرًا وموحشة؟ إنها كنيسة الأمم التي كانت محرومة من معرفة الله. ومن هي التي لها زوج؟ إنها مجمع اليهود. لكن العاقر فاقتها في عدد البنين إذ جمعت اليونانيين والبرابرة في البحر والبر وكل أرجاء المسكونة]. [وما دمنا أولاد العاقر فنحن أحرار، ولكن أية حرة هذه إن كان اليهود يقبضون على المؤمنين ويضطهدونهم؟ ليتنا لا ننزعج من هذا الأمر فمنذ البداية كان ابن الجارية يضطهد ابن الحرة[263]].

يرى القديس أكليمنضس الاسكندري أن هاجر تمثل الحكمة الزمنية وساراى تمثل الحكمة الإلهية أو معرفة الله، وأن ساراى سلمت هاجر لرجلها إشارة إلى معرفة الله التي تسلم الحكمة الزمنية أو الثقافة كصبية أو جارية تخدم الإنسان، أما حكمة الله فنكرمها كزوجة ورفيقة. لقد طردت ساراى هاجر إلى حين لتأديبها حتى تخضع لها، إشارة إلى الإنسان الذي يرفض حكمة العالم إن كانت ليست في الرب.

أخيرًا يقدم لنا القديس أغسطينوس تبريرًا لتصرف إبراهيم مع هاجر، إذ يقول: [لم يكن إبراهيم مذنبًا بخصوص السارية، فقد استخدمها لا لتحقيق شهوة بل من أجل الإنجاب فقط، لا ليسئ إلى زوجته وإنما في طاعة لها، هذه التي ظنت في هذا التصرف ما ينزع عنها عقرها باستخدام رحم جاريتها المثمر عوض طبيعتها (العاقرة). خلال الشرع يقول الرسول: "كذلك الرجل أيضًا ليس له تسلط على جسده بل للمرأة" (١ كو ٧: ٤)، فكزوجة استخدمت رجلها للإنجاب بواسطة أخرى حينما عجزت هي عن تحقيق هذا. هنا لا يوجد مجال للشهوة ولا للدنس الدنيء. لقد سُلمت الجارية للزوج بواسطة الزوجة لأجل الحمل، كل منهما لا يود أن يرتكب ذنبًا إنما يطلبان الثمر المتزايد. لذلك عندما احتقرت الجارية الحامل سيدتها العاقر ألقت سارة بغيرتها النسائية على رجلها إبراهيم لم يظهر حبًا أنانيًا بل أظهر أنه كان يطلب طفلاً وهو حرّ (من الشهوة) لذلك وإن كان قد التصق بهاجر ليس على حساب سارة امرأته محققًا إرادتها... لذا قال لها: "هوذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينيك" [٦][264]].

هكذا يبرر القديس أغسطينوس تصرف إبراهيم أب الآباء أنه لم يطلب الالتصاق بهاجر لشهوة جسدية وإنما لطلب الذرية وكطلب زوجته، وقد أظهر تمام حبه لزوجته بترك الجارية بين يديها تفعل بها ما تشاء، لكننا لا نقدر أن نقبل مثل هذا التصرف خاصة في ظل النعمة الإلهية، فإن كان إبراهيم وسارة قد سلكا هكذا من أجل الإنجاب انتظارًا لمجيء المخلص من نسلهما، لكننا الآن لا نطلب نسلاً أو أولادًا حسب الجسد. هذا من جانب آخر إن كان ليس للرجل تسلط على جسده بل لزوجته فإنه ليس من حقها تسليم جسد رجلها لأخرى أيًا كان الدافع، فقد تسلمت رجلها من الرب كما يتسلم الرجل امرأته من الرب ليعيش الاثنان جسدًا واحدًا في الرب، لا يدخل جسد غريب في الوسط!

٢. هروب هاجر من وجه ساراى:

يرى القديس أغسطينوس[265] أن "هاجر" أو "غريب" تشير إلى النفس الغريبة غير المواطنة بين شعب الله، وتمثل كل فكر غريب عن الإيمان. لقد حبلت هاجر واحتقرت مولاتها، لذا استحقت التأديب، حتى متى خضعت لها قلبيًا ترجع إليها.

ما أكثر هاجر في حياتنا الداخلية، إي ما أكثر الأفكار الغريبة عن الإيمان التي تحتقر مولاتها (الفكر الإيماني) أو (معرفة الله)... لنطرد عنا هاجر، أي كل فكر غريب ونذله حتى يتأدب فيرجع خاضعًا للحياة الإيمانية التقوية.

هربت هاجر، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور" [٧].  لعلها كانت متجهة إلى مصر موطنها الأصلي، فنزلت إلى برية فاران حيث لاقاها ملاك الرب عند عين ماء، ربما "عيون موسى" القريبة من السويس، في طريق شور أي سور، وهو طريق قوافل في البرية...

لم يكن ممكنًا لهاجر أن ترجع إلى ساراى وإبرام وتنجب ابنًا ما لم تلتق بملاك الرب عند عين ماء في طريق شور، فإن كان ملاك الرب يشير إلى السيد المسيح فقد نزل إلينا في بريتنا القاحلة لكي يلتقي بنا عند مياه المعمودية ويكون لنا سورًا "شور" فيردنا من الاتجاه نحو مصر أي محبة العالم إلى كنعان السماوية. لقد طُردنا من كنعان أي الفردوس بسبب خطايانا، وصرنا في مرارة وعزلة، في برية هذا العالم، لكن الرب لا يتركنا بل يردنا إليه بتجديدنا في المعمودية. وكما يقول القديس يعقوب السروجي في ميمر المعمودية: [المعمودية باب يردنا إلى الفردوس، فيها يدخل الإنسان إلى الله ليكون معه. المعمودية سفينة جديدة حاملة للأموات، بها يقومون ويعبرون إلى بلد الخالدين. وُضعت المعمودية في العالم الجديد، فيها يعبر الإنسان من عند الأموات إلى بلد الحياة[266]].

٣. عودة هاجر إلى ساراى:

طلب ملاك الرب من هاجر أن ترجع إلى مولاتها ساراى، وكأنها تشير إلى الحكمة الزمنية التي إن تقدست تخدم الإيمان بخضوعها له. إنها تمثل الفلسفات الزمنية إن قبلها المؤمن بروح تقوى وبفكر إيماني، فإنها تصير خادمة له في الرب وليست محطمة لإيمانه بروح الكبرياء والعجرفة...

لعل هاجر أيضًا تشير إلى الإنسان الجسداني، إن احتقر الروح (ساراى) كان محطمًا لنفسه، لكنه إن تقدس في مياه المعمودية، وقبل عمل الروح القدس فيه، وعاد إلى ساراى خاضعًا للروح، يكون خادمًا للرب. في هذا يقول القديس أغسطينوس: ["أرجعي إلى سيدتك" أيتها النفس الجسدانية، كجارية متعجرفة. إن كنت قد احتملتي شيئًا من التعب إنما لأجل التأديب، فلماذا تثورين؟ أرجعي إلى سيدتك وتمتعي بسلام الكنيسة[267]].

طالبها ملاك الرب بالخضوع والطاعة لسيدتها [٩] التي يبدو أنها لم تظلمها في طردها بل هاجر كانت عنيفة في ازدرائها بسيدتها. مقابل هذا الخضوع وعدها بكثرة النسل لكنه يكون ابنها وحشيًا لا يتوقف عن مقاومة اخوته، وهم أيضًا يقاومونه.

رأت هاجر "ملاك الرب"، وكما يرى كثير من المفسرين أنها إحدى رؤى ابن الله، وقد وعدته هاجر "أنت إيل رئى" أي "إله رؤية، إله يرى"، بمعنى أنه الرب الذي ظهر لها ورأى مشقتها. وأما البئر التي توقف عندها فدعتها "بئر لحى رئى" وتعني البئر التي رؤى فيها الله الحيّ.

٤. ميلاد إسمعيل:

ولدت هاجر ابنها ودعته "إسمعيل" كقول ملاك الرب، ويعني "الله سمع" ودعاه إبرام بذات الاسم إذ حسب أن الله سمع له وأعطاه ابنا يرثه (١٧: ١٨)... إذ لم يكن يظن أن سارة تلد له ابنًا.

كان إبرام ابن ٨٦ سنة حين ولدت هاجر إسمعيل، وكان ابن مئة سنة حين ولد إسحق، وكأن إسمعيل يكبر إسحق بحوالي ١٤ عامًا.

<<

الأصحاح السابع عشر

عهد الختـان

كانت سارة تتعجل الأمور بطريقة بشرية إذ ترى الغنى الذي يفيض عليهما وقد شاخت هي ورجلها وليس لهما من يرثهما إلاّ العازر الدمشقي فالزمت رجلها أن يدخل على جاريتها، الأمر الذي صار لها مرارة نفس هي ونسلها من بعدها. أما الله فكان يتطلع إلى إيمان إبرام ليدخل معه في عهد جديد أبدي بعلامة تقام في جسد كل ذكر (الختان)، كطريق للتمتع بالعهد الجديد الذي يقيمه ربنا يسوع المسيح بجسده على الصليب مصالحًا إيانا مع أبيه السماوي.

١. وعد الله لإبرام                    ١-٨

٢. علامة الختان                     ٩-١٤

٣. تمتع سارة بالبركة                ١٥-١٧

٤. بين إسحق وإسمعيل              ١٨-٢٢

٥. تحقيق الختان                     ٢٣-٢٧

 ١. وعد الله لإبرام:

"ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لإبرام وقال له: أنا الله القدير، سر أمامي وكن كاملاً، فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرًا جدًا" [١-٢].

قصة الله مع الإنسان هي قصة عهود مستمرة ومتجددة خلالها يعلن الله حبه للإنسان، ويتوق أن يقبل الإنسان هذه الحب بالحب، وفي هذا كله يطلب الله الإنسان لا عن عوز إلى شيء ولا رغبة في التسلط وإنما في أبوته يفتح أحضانه له وتقبله ابنا ينعم بشركة أمجاده.

في بدء خلق الإنسان - قبل السقوط – كان العهد مقامًا على أساس الحب دون أية علامة ظاهرة، إذ كان الإنسان كصورة الله متجاوبًا مع خالقه بالحب، يشتاق إليه، ويجري نحوه ليسمع صوته ويفرح برؤيته. أما بعد السقوط إذ ارتبك الإنسان داخليًا وحلت اللعنة بالأرض لتخرج شوكًا وحسكًا صارت الحاجة ملحة لإقامة ميثاق بين الله والإنسان يتجدد بين الحين والآخر، فعند تجديد العالم بمياه الطوفان أعلن الله: "لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان... ها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم" (تك ٨: ٢١؛ ٩: ٩). معطيًا علامة الميثاق في الطبيعة "قوس قزح". الآن إذ يدخل الرب مع إبرام في ميثاق يجعل العلامة ثابتة في جسم كل ذكر "الختان"... وبقى الإنسان عبر الأجيال يرى خلال هذه العلامة ظلاً لميثاق أعظم يقدمه لنا ربنا يسوع المسيح في جسده للمصالحة على مستوى أبدي. فيقول النبي: "أميلوا آذانكم وهلموا إليّ، أسمعوا فتحيا أنفسكم وأقطع لكم عهدًا أبديًا مراحم داود الصادقة، هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب وموصيًا للشعوب، ها أمة لا تعرفها تدعوها وأمة لم تعرفك تركض إليك من أجل الرب إلهك وقدوس إسرائيل لأنه قد مجدك" (إش ٥٥: ٣– ٥). وقد تحققت هذه الدعوة لدخول الأمم إلى العهد الإلهي حينما قدم السيد المسيح دمه عهدًا جديدًا لغفران الخطايا (مت ٢٦: ٢٨؛ لو ٢٢: ٢٠؛ ١ كو ١١: ٢٥).

ويرى القديس أكليمنضس الاسكندري[268] أن الله لم يطلب من إبرام مجرد أن يدخل معه في عهد وإنما قدم نفسه عهدًا له، إذ يقول الكتاب: "هوذا أنا هو عهدي معك" [٤]. فالعهد في عيني القديس أكليمنضس ليس تعهدات مكتوبة أو مقولة إنما هو قبول الله نفسه، الذي فيه نجد سلامنا وشبعنا وكل احتياجاتنا.

حينما نقول أن السيد المسيح قدم جسده ودمه المبذولين عهدًا جديدًا لغفران خطايانا، إنما قدم نفسه لنا فنجد فيه رضى الآب عنا، ويجد الآب فيه سرورنا به، وهكذا في المسيح يسوع يجد الآب والبشر فرحهم الحق. يرانا الآب في ابنه متبررين بدمه، نراه نحن فيه أبًا سماويًا يفتح أحضانه لنا... وهكذا يكون الرب نفسه عهدًا أبديًا لنا.

يعلق القديس چيروم على قول الرب: "لا يدعى أسمك بعد إبرام بل يكون أسمك إبراهيم" [٥]، قائلاً: [دعى الله إبرام إبراهيم، وكان أسمه في أور الكلدانيين "إبرام"، أما في السماء فيسمى إبراهيم، فقد تغير أسمه إلى إبراهيم حين صار نجمًا[269]].

يرى القديس أغسطينوس أن تغيير أسمي إبرام وساراى جاء مع الختان كعلامة للتجديد الشامل، إذ يقول: [ماذا يعني الختان سوى تجديد الطبيعة البشرية بنزع الإنسان القديم؟ وماذا تعني الأيام الثمانية (للختان) سوى المسيح الذي قام بعدما أكمل الأسبوع، أي بعد "السبت"؟ لقد تغير اسما الوالدين، وكل شيء قد أُعلن جديدًا[270]].

٢. علامة الختان:

"هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختتن منك كل ذكر، فتختتنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، ابن ثمانية أيام يُختن منكم كل ذكر في أجيالكم... فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًا، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك الأنفس من شعبها. انه قد نكث عهدي" [ ٩-١٤].

كان للختان أهمية كبرى فهو الذي يميز أولاد إبراهيم أصحاب العهد من الأمم، وتبدو أهميته في كلمات الرب عن الأغلف الذي لا يختن: "تقطع تلك النفس من شعبها؛ انه قد نكث عهدي". وكان الختان قاصرًا على الذكور، لأن المرأة مقدسة في الرجل إن كان قد تقدس للرب. فعدم ختان المرأة لا يعني استخفاف الله بها أو عدم اهتمامه بقطع العهد معها، إنما أراد تأكيد وحدة الأسرة البشرية، مما يفعله الذكر إنما باسم الاثنين معًا (الذكر والأنثى). والدليل على ذلك أن الله أمر بختان العبيد "وليد البيت والمبتاع بفضة"
[١٣]، ولا يمكن أن يكون العبيد أفضل من الزوجات سادتهن، إنما يريد قطع العهد مع الجميع: أغنياء وفقراء... خلال ختان كل ذكر. ومن الجانب الطبي فإن ختان الرجل صحّي وختان الفتيات ضار.

وتظهر أهمية الختان أيضًا في العهد القديم أنه في كل مرة يقدم الشعب توبة يُعلن هذا الرجوع إلى الله خلال ثلاثة أمور: ختان كل ذكر لم يسبق ختانه، قراءة الشريعة، حفظ السبت.

وكان موضوع الختان يشغل ذهن اليهود بصفة قوية، حتى كانوا يُدعون "أهل الختان"، وعندما قبلوا الإيمان بالسيد المسيح رأى بعضهم ضرورة اختتان الأمم قبل دخولهم في العضوية الكنسية، الأمر الذي لأجله أفرد الرسول بولس الكثير من الأصحاحات في رسائله مؤكدًا أنه في المسيح يسوع لا حاجة لختان الجسد بل ختان الروح، وأن الختان يتحقق خلال المعمودية بخلع الإنسان القديم والتمتع بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه (كو ٣: ٩، ١٠).

يتم الختان في اليوم الثامن من ميلاد الطفل، لأن رقم ٨ يشير إلى "الحياة الأبدية"، أو إلى "الحياة الأخرى"، بكون رقم ٧ يشير إلى حياتنا الزمنية (سبعة أيام الأسبوع)، فالثامن يعني الدخول إلى ما وراء حياتنا الزمنية. فالختان هو عبور الحياة الأبدية بخلع محبة الزمنيات وقبول عمل المسيح الأبدي وملكوته السماوي.

إن كان الشعب قد اهتم بختان الجسد، لكن الرب كان يحثهم على ختان القلب الروحي وختان الأذن... (تث ٣٠: ٦؛ ١٠: ١٦؛ أر ٤: ٤)، وفيما يلي بعض كلمات الآباء عن الختان الروحي الذي يمس كل حياتنا.

v     ينال شعب الله علامة الختان في قلبهم من داخل، لأن السيف السماوي يقطع فضلة العقل يعني غلف الخطية النجسة

القديس مقاريوس الكبير

v     في خطة إله الناموس أن يكون الختان للقلب لا للجسد، بالروح لا الحرف (رو ٢: ٩)... حتى قال موسى: "اختنوا قساوة قلوبكم" (تث ١٠: ١٦ الترجمة السبعينية).

العلامة ترتليان[271]

v     تختن أذنكم إن كانت لا تسمع الشتائم وكلمات المجدفين والنمامين، إذا كانت قد انغلقت أمام الوشاية الخاطئة والكذب والغضب، "يسد أذنيه عن سمع الدماء" (إش ٣3: ٥)، ولا تنفتح لسماع الأغاني الفاسقة وأهواء المسارح، ولا تطلب الأمور السفلية، بل تبتعد عن كل تجربة زائلة. هذا هو ختان الأذن الذي تقدمه الكنيسة لأولادها، وفي رأيي أن هذه الأذن هي التي تحدث عنها المسيح في قوله: "من له أذنان للسمع فليسمع" (مت ١٣: ٩). إذ لا يستطيع أحد أن يسمع كلام الرب النقي، كلام الحكمة والحق بأذن غير مختونة ولا طاهرة.

v     عندما نمتنع عن كلام النميمة ونمسك لساننا ونقمعه، يكون لنا الفم المختون.

v     عندما نشتعل بشهوات شهوانية، أقول باختصار، عندما نزني في قلوبنا (مت ٥: ٢٨) نكون غير مختوني القلب. عندما نرحب في داخلنا بأفكار الهراطقة، وعندما نهيج أفكار التجديف في قلبنا ضد معرفة المسيح، نكون غير مختوني القلب. أما عندما نحتفظ بنقاوة الإيمان في استقامة الضمير فنكون مختوني القلب، ونستحق سماع الصوت: "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت ٥: ٨).

v     يمكننا القول بأن أيدينا وأرجلنا ونظراتنا وحواسنا ولمساتنا تحتاج أيضًا إلى ختان. لكي يكون رجل الله كاملاً تمامًا يلزم اختتان كل أعضائه، فتمتنع اليدان عن السرقة والقتل وتمتدان لعمل الرب. يليق بالرجلين أن يُختنا فلا تسرعان إلى سفك الدم (مز ١٤: ٣)، ولا إلى حيث مشورة الأشرار (مز ١: ١)، ولا يهدفان إلاّ إلى بلوغ ربنا والوصول إليه. يجب ختن العينين فلا تحسدان الأقرباء على الخير ولا تنظران إلى امرأة لتشتهياها (مت ٥: ٢٨)... وهكذا حتى إن كنا نأكل أو نشرب أو نفعل  شيئا لمجد الله (١ كو ١٠: ١٣). أنظر كيف يطلب الرسول الختان حتى في المذاق؟...

في الحقيقة عندما تخدم أعضاؤنا الظلم تكون غير مختتنة، ولا تكون في عهد مع الله، أما إن كانت تخدم البر (رو ٦: ١٩) لتبلغ القداسة فيتحقق فيها الوعد المعطى لإبراهيم.

العلامة أوريجانوس[272]

ليتنا إذن نحن الذي قبلنا الختان الروحي بالروح القدس في مياه المعمودية نجاهد أن نبقى مختونين في كل أعضائنا وحياتنا الداخلية، حتى ننعم بالوعد الإلهي ونكون في عهد أبدي مع الله.

يرى العلامة أوريجانوس أننا إذ اعترفنا بالمسيح يسوع بشفاهنا ولم نظهر عهده في لحمنا خلال حياتنا العملية نكون كاليهود الذين يفتخرون بختان الجسد وينكرونه بأعمالهم[273]. ويعلق أيضًا على العبارة الإلهية: "فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًا" بقوله: [إن استطعنا أن ننجح في إيجاد توازن بين الأعضاء وإقامة وحدة بينها، فتكون حركتنا كلها متفقة مع ناموس الرب، بهذا يكون عهد الرب في لحمنا... أبحث كيف يكون عهد ربنا عاملاً في الجسد ومتحققًا فيه؟ إن أمتنا أعضاءنا التي على الأرض (2 كو ٣: ٥) نحقق عهد الرب في جسدنا. إن كنت حاملاً في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع (٢ كو ٤: ١٠) يكون عهد المسيح في جسدي. إن كنا نصبر معه فسنملك أيضًا معه، بهذا أظهر عهده في لحمي[274]].

٣. تمتع سارة بالبركة:

إن كان إبرام قد غير أسمه إلى إبراهيم، فإن ساراى أيضًا تمتعت بتغيير أسمها إلى سارة. كان إبرام إنسانًا مكرمًا في الرب، إذ كلمة "إبرام" معناها "أب مكرم"، لكنه إذ دخل مع الله في عهد الختان باسم الكنيسة كلها دُعي "إبراهيم" أي "أب الجمهور" [٤]. وساراى أيضًا كان أسمها يعني "أميرتي"، والآن إذ حملت أمومة للمؤمنين دعيت اسمها "سارة" أي "أميرة". فلم تعد خاصة بإبراهيم (أميرتي) إنما يعتز بها جميع المؤمنين كأم لهم وكأميرة للكل.

لأول مرة يعلن الله صراحة أن الوارث لإبراهيم يكون من سارة زوجته: "وأباركها وأعطيك أيضًا منها ابن، أباركها فتكون أممًا وملوك وشعوب منها يكونون" [١٦].

لم يحتمل إبراهيم هذا الوعد: "فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مئة سنة وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟!" [١٧]. إن ضحكه لا يعني عدم إيمانه، وإنما يعلن شدة دهشته لعمل الله معه، الذي يقيم نسلاً لشيخ بلغ المئة من عمره وزوجته العاقر ابنة تسعين سنة... أما علامة إيمانه فهو سقوطه على وجهه يقدم الشكر. لم يشك إبراهيم في وعد الله، بل كما قال الرسول: "فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أبًا لأمم كثيرة كما قيل هكذا يكون نسلك، وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتًا إذ كان ابن مئة سنة ولا مماتية مستودع سارة، ولا بعدم إيمان أرتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله" (رو ٤: ١٨–٢٠). لقد كان مستودع سارة أي أحشاؤها في حكم الموت وكان هو شيخًا، وعلى خلاف الرجاء آمن مترجيًا في مواعيد الله أن يقيم نسلاً حيًا من هذا الموت. وبهذا كان إيمان البعض أن أحشاء سارة كانت أشبه بالحجارة التي بلا حياة وغير قادرة على الإنجاب، لكن الله أقام من الحجارة أولادًا لإبراهيم. لعله لهذا السبب قال القديس يوحنا المعمدان للفريسيين والصدوقيين: "لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت ٣: ٩)، في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أن هذا التشبيه جاء عن ولادة هذا الشعب خلال إسحق الموهوب لإبراهيم خلال رحم سارة العقيم كما لو كان متحجرًا[275]].

٤. بين إسحق وإسمعيل:

"وقال إبراهيم لله: ليت إسمعيل يعيش أمامك" [١٨].

لم يتذمر إبراهيم على الله قط حينما كان يدرك أن كل غناه يرثه غريب الجنس... وعندما ولدت هاجر حسبه ابنها الوارث له... والآن إذ بلغ الابن ثلاث عشرة سنة جاء الوعد بابن له من سارة لم يتشكك إبراهيم في الأمر، وإن كان قد حسبه عظيمًا للغاية فضحك، والآن يصلي لله معلنًا اقتناعه بما وهبه خلال الجارية كوارث له... أما الله الذي راعى ظروف إبراهيم بكونه أول ما نال وعدًا كهذا أن ينجب في هذا السن وامرأته مسنة وعاقر، عاد ليؤكد له: "بل سارة تلد لك ابنا وتدعو أسمه إسحق وأقيم عهدًا أبديًا لنسله من بعده" [١٩]. أكد له الوعد وحدد له أسم الابن حتى ينزع من أفكاره أن الابن الطبيعي حسب قوة الطبيعة (الجسد) يكون وارثًا، إنما الذي يرث هو ابن الموعد الذي لم يكن ممكنًا أن ينجبه الجسد حسب الطبيعة، وإن كان من أجل صلاة إبراهيم عن الأول وعده بالبركات الزمنية وأقامته أمة عظيمة.

يقارن القديس أغسطينوس بين الابنين، قائلاً: [هنا وعود أكثر دقة بإقامة الأمم في اسحق، أي في ابن الموعد، حيث يُشار إلى النعمة لا الطبيعة. فالابن وُعد به لشيخ مسن وامرأة مسنة عاقر. فإن كان الله هو العامل حتى في الولادة الطبيعية، لكن حينما يظهر ضعف الطبيعة أو فشلها يظهر دور الله، وتعلن النعمة بالأكثر[276]].

إسحق إذن يمثل لا المولود حسب الجسد بل حسب الروح خلال التجديد بواسطة نعمة الله في مياه المعمودية، لهذا إن كانت نفوسنا لا تزال تسلك حسب الجسد، فالأمر يحتاج إلى من يصرخ إلى الله كإبراهيم أب الآباء: "ليت هؤلاء يعيشون أمامك! ليتهم يتمتعون بالميلاد الجديد بنعمتك، فيصيرون "إسحق" الجديد!"

إن كان الله قد وهب إبراهيم "إسحق" ابنا له، الذي يعني "ضحك" إذ ضحتك سارة في شيء من الشك وضحك إبراهيم من فرط الدهشة، فإن إنساننا الجديد الذي نلناه في مياه المعمودية هو إسحق الحقيقي، نقبله كضحك من فرط العطية الموهوبة لنا!

٥. تحقيق الختان:

دخل إبراهيم في العهد مع الله واختتن هو وإسمعيل وكل ذكر في بيته... وكان الختان ختمًا للعهد.

<<

الأصحاح الثامن عشر

الوليمة الفريدة

إذ دخل إبراهيم في عهد مع الله إنما دخل إلى صداقة أعمق يعتز الله بها فيدعوه خليله، ففي حديثه مع إسرائيل يقول: "وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته نسل إبراهيم خليلي" (إش ٤١: ٨)، اللقب الذي استخدمه يهوشفاط في حديثه مع الله حينما سأله العون لشعبه (٢ أي ٢٠: ٧)، أعلنه يعقوب الرسول بقوله عن إبراهيم:: "دعى خليل الله" (يع ٢: ٢٣).

هذه الصداقة الفريدة تظهر في مواقف كثيرة تكشف عن حب الله ومعاملاته مع أولاده. الآب يظهر الله بملاكيه لإبراهيم ليستضيفهم عند الظهيرة في بلوطات ممرا، فيعده الله بإسحق، ويدخل معه في حوار مفتوح من جهة سدوم وعمورة.

١. عند بلوطات ممرا                 ١-٢

٢. إبراهيم السخي                    ٣-٥

٣. إعداد الوليمة                     ٦-٨

٤. تمتع سارة بالثمر                 ٩-١٥

٥. حوار مع الله                      ١٦-٣٢

 ١. عند بلوطات ممرا:

"وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حرّ الظهيرة، فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض" [١-٢].

جاء هذا اللقاء التاريخي يمثل لقاءً روحيًا حقيقيًا تتمتع به كل نفس تتمثل بأب الآباء إبراهيم، تدخل مع الله في صداقة حب صادقة، وتجلس عند باب خيمتها عند بلوطات ممرا، لتستقبل في داخلها رب السماء وملائكته، فتكون هيكلاً لله تعلن ملكوت السموات في داخلها.

لكي نتقبل الرب فينا، لنخرج إلى باب الخيمة ونجلس هناك عند بلوطات ممرا في وقت الظهيرة نستظل بأشجار البلوط. ما هو الخروج من الخيمة إلاَّ انطلاق النفس خارج شهوات الجسد، فلا تحبس الشهوات الشريرة النفس في داخلها لترتبك بالملذات والاهتمامات، بل تنطلق كما في حرية ليعيش الإنسان روحانيًا لا جسدانيًا، يخضع الخيمة لنفسه لا تخضع نفسه لثقل الخيمة.

لا يكفي الخروج إلى باب الخيمة إنما يلزم الجلوس عند شجر البلوط أي عند الصليب في وقت الظهيرة لنتأمل جراحات الرب المرتفع على الصليب وقت الساعة السادسة، مرددين ما نقوله في القداس الإلهي: "ارسمي يا نفسي جراحاته أمامك، واحتمي فيها عندما يهيج العدو عليكِ". أمام "ممرا" فتعني "رؤية" أو "بصيرة"، فبخروجنا بالروح القدس من ثقل شهوات الخيمة التي لنا، وجلوسنا عند البلوطة المقدسة، قائلين: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي" (نش ٢: ٣)، ننعم بممرا أي برؤية الله واستنارة البصيرة الداخلية.

يعلق الأب قيصريوس أسقف Arles على لقاء الله مع إبراهيم عند بلوطات ممرا، قائلاً: [أترى أي موضع يمكن أن تُقام فيه وليمة للرب؟ لقد استنارت رؤية إبراهيم وبصيرته (ممرا = رؤية أو وبصيرة)، فكان قلبه نقيًا يرى الله. إنه في مثل هذا الموضع وفي مثل هذا القلب يمكن للرب أن يجد وليمة[277]].

يرى بعض مفسري اليهود أن هذا اللقاء تم بعد الختان بثلاثة أيام، وأن الرب جاء ليشفي إبراهيم من جرحه؛ إن صح هذا القول فإن الختان وهو رمز المعمودية التي نتممها باسم الثالوث القدوس إنما هو طريق دخولنا إلى الصداقة الإلهية، خلالها يشتهي الله أن نستقبله في خيمتنا التي تتقدس بروحي القدوس فيجد فينا وليمته المبهجة، ويسمع صوتنا: "ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش ٤: ١٦). بفرح يدخل إلى قلوبنا ليقول: "قد دخلت جنتي يا أختي العروس، قطفت مري مع طيبي، أكلت شهدي مع عسلي، شربت خمري مع لبني؛ كلوا أيها الأصحاب، أشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش ٥: ١). هكذا تتحول خيمتنا إلى مركز راحة للرب يجد لذته في بني الإنسان. يقول القديس مقاريوس الكبير: [القلب هو قصر المسيح، فيه يدخل الملك لكي يستريح، ومعه الملائكة وأرواح القديسين، هناك يقطن ويتمشى في داخله ويقيم مملكته[278]]. تتحول خيمتنا إلى جنة يفرح بها الرب العريس، وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هذا هو الذي أعدت له العروس مائدتها. أما المائدة فهي جنة مغروسة، أشجار حية، وأما الأشجار فهي نحن، والثمر الذي نقدمه هو نفوسنا... الطعام المعد هو خلاصنا، والثمر هو إرادتنا الحرة التي تقدم لله نفوسنا كأنها ثمر يُجنى من الغصن[279]].

ليتنا نقف مع إبراهيم عند باب الخيمة لنستضيف الرب إلى خيمتنا بكونها قصره وجنته، لنقدم له بإرادتنا الحرة (حياتنا المقدسة فيه) طعامًا يفرح قلبه!

هذا واستضافة إبراهيم للرب وملاكيه جذبت أنظار رجال الله القديسين، فقال الرسول بولس: "أضاف أُناس ملائكةً وهم لا يدرون" (عب ١٣: ٢). وتحدث الآباء بفيض عن عمل "إضافة الغرباء" كطريق حيّ لاستضافة الرب في خليقته. يقول القديس أمبروسيوس: [ربما يكون المسيح قادمًا في شخص الغريب، إذ هو يأتي في شخص الفقير كقوله: "كنت مسجونًا فزرتموني، كنت عريانًا فكسوتموني" (مت ٢٥: ٣٦)[280]]. ويقول القديس چيروم: [الهيكل الحقيقي للمسيح هو نفس المؤمن، فلنزينه ونقدم له ثيابًا، لنقدم له هبات، لنرحب بالمسيح الذي فيه! ما نفع الحوائط المرصعة بالجواهر إن كان المسيح في الفقير في خطر الهلاك بسبب الجوع؟![281]].

٢. إبراهيم السخي:

كشف هذا اللقاء عن طبيعة إبراهيم السخية في العطاء، فكان يقدم قلبه قبل طعامه، ويستضيف الآخرين في داخله قبل أن يفتح لهم خيمته. ظهر ذلك بوضوح إذ "ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض" [٢]، أي جرى إليهم وهو شيخ وسجد للتحية، إذ كان ينتظر من يستضيفه. في أتساع قلب قال: "يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك، ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم، فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت" [٣-٥].

لقد ظنهم إبراهيم أناسًا مسافرين، فسألهم أن يقبلوا غسل أقدامهم وأن يسندوا قلبهم بكسرة خبز بعد أن يستريحوا تحت ظل الشجرة ثم يرحلون... هكذا يتحدث في حب وشوق للعطاء بروح اتضاع، فيطلب أن يغسل أقدامهم وحسب أن ما يقدمه لهم إنما هو كسرة خبز علامة محبة بسيطة لا تُرفض.

بدأ إبراهيم بغسل الأقدام، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لقد عرف أن أسرار الرب لا يمكن أن تجد كمالها إلاّ إن كنا على الأقل نغسل الأقدام[282]]. ويقول القديس أمبروسيوس: [حسن هو سر الإتضاع فإنني إذ أغسل أدناس الآخرين أغسل أدناسي[283]]. وكأن بداية الاستضافة هو غسل لا الأقدام وإنما الأدناس بغفران أخطاء الآخرين التي ارتكبوها ضدنا، بهذا إذ نغسل أدناسهم إنما نغسل أدناسنا نحن.

٣. إعداد الوليمة:

"فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميذًا، واعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام فأسرع لعمله" [٦-٧].

ويلاحظ في هذه الوليمة الآتي:

أولاً: عندما رأى إبراهيم الرجال "ركض" مع أنه كان شيخًا، لكنه في عمل الخير يركض مسرعًا كطفل يفرح بالعمل. وإذ قبل الرجال الدعوة أسرع إلى سارة وسألها أن تسرع في عمل الخير، وإذ أعطى العجل لغلامه أسرع لعمله... هكذا كان إبراهيم وزوجته وغلمانه، الكل يتسم لا بعمل الخير وحسب وإنما بالسرعة فيه، وكأنهم ينتهزون الفرصة لئلا تفلت من أيديهم. يقول العلامة أوريجانوس: [إبراهيم يجري، وزوجته تتعجل، والغلام يسرع، إذ لا يوجد كسل في بيت الحكيم[284]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد درَّب إبراهيم خدمه حسنًا أيضًا... لنفكر نحن أيضًا في خلاصهم، فمن واجبنا الاهتمام بمن يخدمونا أن يكونوا صالحين ويمارسوا الأعمال الإلهية[285]].

هكذا كان بيت إبراهيم مباركًا، يعمل هو وزوجته وخدمه لحساب الرب بروح متيقظة وقلب ملتهب لا يعرف الخمول.

إن كان إبراهيم يمثل النفس البشرية التي تنطلق خارج الخيمة لتجلس عند الصليب تستضيف الكل بالحب، فإن سارة تمثل الجسد المقدس في الرب الذي يقدم خبز ملة يفرح قلب الله. لقد اشتركت سارة مع إبراهيم في الضيافة، وهكذا يشترك الجسد مع النفس في حياة الاتحاد مع الله والسير بروحه القدوس. أما الخدام فيشيرون إلى طاقات الإنسان ومواهبه التي تقدم ذبائح حب لله كما قدم غلام إبراهيم!

ثانيًا: سأل إبراهيم زوجته سارة أن تعجن ثلاث كيلات من الدقيق السميذ أي الدقيق الفاخر، فلا يقدم إبراهيم لضيوفه من الخبز القديم وإنما يود دائمًا أن يهب أفخر ما لديه، ومن عمل زوجته المسنة، وبكمية وافرة. أما الثلاث كيلات فربما تشير إلى "الإيمان والرجاء والمحبة"، هذه الأمور الثلاثة التي تعجنها الكنيسة لتقدم للرب في حياة أولادها خبزًا فاخرًا يُسر الله به. هذه هي تقدمة الكنيسة المستمرة، خاصة وأن هذه الأمور إنما تعجن بمياه الروح القدس. فبالروح القدس إذ يمتلئ القلب إيمانًا تنطلق النفس نحو عريسها السماوي، وبالرجاء تتخطى كل صعوبة وتمتلئ فرحًا، أما بالمحبة فتدخل إلى حيث عرش الله "الحب ذاته". هذا هو عجيننا الروحي غير المنفصل، الذي به نوجد في حضن الله كتقدمة حب له.

"الخبز الملة" هو خبز يُصنع على حجارة محماة ويعتبر من الخبز النفيس (١ مل ١٩: ٦)، فإن كانت سارة (الكنيسة) تقدم حياتنا عجينًا من ثلاث كيلات (الإيمان والرجاء والمحبة) فإن هذا العجين لا يصلح للأكل ولا يكون مفرحًا للرب إلاَّ خلال الحجارة المحماة، أي شركتنا مع الرب في آلامه، لنصير فيه خبز ملة. الآلام مرة وقاسية، لكنها مع الرب تتحول إلى أمجاد أو إلى تقدمة خبز نفيس لله.

ثالثًا: إذ وضع إبراهيم الطعام أمامهم "كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة" [٨]. لم يسرع إبراهيم وزوجته وغلمانه للعمل بسرعة وتقديم أفضل ما لديهم في استضافة الغرباء وإنما أيضًا وهو شيخ... كان لديه غلمان وعبيد وجواري، لكنه يقف بنفسه لخدمة الغرباء، أي حب مثل هذا؟!

لنقف مع إبراهيم تحت شجرة الصليب نخدم الآخرين في اتضاع وبفرح، فإننا نخدم الرب نفسه فيهم!

٤. تمتع سارة بالثمر:

بالحب قدم إبراهيم وسارة أفضل ما لديهما للرب، وبالحب تنازل الرب ليقبل من الإنسان العطية التي في حقيقتها هي من عنده، وكما قال سليمان الحكيم أن ما يقدمه هو مما لله. وإذ لا يقبل الرب أن يكون مدينًا ردّ الحب بالحب، إذ سأل عن سارة، فقيل له: "ها هي في الخيمة" [٩]، "فقال إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة إبن" [١٠]. لقد استضافا الرب، وها هو الرب يهب لهذين الشيخين المتقدمين في الأيام [١١] ابنًا، وكأنه يقيم من الموت حياة، ومن الحجارة أولادًا لإبراهيم... وهبهما "إسحق" الذي يعني "ضحكًا". حقًا إنه ضحك، إذ يُقال عن سارة وهي عاقر ومسنة أنها أم، وأما ما هو أعظم فإنه خلال إسحق يأتي المسيّا المخلص حاملاً الجسد كابن له وهو ربه، فتتبارك به كل الأمم! إنه عمل إلهي فائق، وسرّ لا يمكن إدراكه! هذا هو الثمر الذي تمتع به إبراهيم أب الآباء وسارة خلال إيمانهما العامل بالمحبة.

لقد سأل الرجال: "أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة" [٩]. كان إبراهيم عند باب الخيمة، أما سارة فكانت في الخيمة وراء إبراهيم [١٠]، كان إبراهيم يمثل النفس المنطلقة في حرية الروح القدس خارج الخيمة أي فوق كل ضغوط الجسد، أما سارة فتشير إلى الجسد الذي يلزم أن يكون خلف النفس وليس أمامها، فيخضع الجسد لمطالب النفس في الرب، لا أن تخدم النفس مطالب الجسد. حينما يخضع الجسد للنفس المقدسة في الرب، يتحد الاثنان معًا لينجبا إسحق الذي يعنى "ضحكا" أو "فرحا"، فيكون الإنسان بكليته متهللاً، حاملاً ثمر الروح فيه.

يكمل الوحي الحديث: "وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام" [١١]...؛ مع أن إبراهيم وسارة لم يعيشا سنوات طويلة كآبائهم السابقين، لكن هذه هي المرة الأولى التي فيها يوصف إنسان كشيخ متقدم في الأيام. يقول العلامة أوريجانوس أنهما شيخان أي مملوءان حكمة، ومتقدمان في الأيام إذ لم يضيعا يومًا واحدًا من حياتهما بلا ثمر روحي، أيامهما نهار بلا ليل كلها نور، سُجلت لحسابهما بلا فقدان، لذلك قيل "متقدمين في الأيام"

يقول العلامة أوريجانوس: [الخاطي غير متقدم في الأيام إذ لا يفعل هذا: ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في ٣: ١٣)، وإنما على الدوام ينظر إلى الوراء (لو ٩: ٦٢)، لهذا فهو لا يصلح لملكوت الله (لو ٩: ٦٢). على العكس إذ نمتد إلى قدام ونسعى نحو الكمال نكون متقدمين في الأيام[286]].

حمل إبراهيم وسارة الشيخوخة الحكمة وتقدم الأيام في النعمة لا شيخوخة العجز وتقدم الأيام الذي يدفع إلى الموت... لقد تمتعا بهذه النعمة ونالا هذا اللقب، لأنهما استضافا كلمة الله والملاكين، فصارت حياتهما سماءً، وتأهلاً للوعد بإسحق رمز المسيح، فحُسبا بحق شيخين حكيمين في الرب.

سمعت سارة بالوعد، "فضحكت سارة في باطنها، قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟! فقال الرب: لماذا ضحكت سارة قائلة أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت، هل يستحيل على الرب شيء؟! في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن. فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت. فقال لا: بل ضحكت" [١٢-١٥].

يرى القديس أكليمنضس الاسكندري أن سارة ضحكت ليس لعدم تصديقها للوعد، وإنما خجلت من الموقف، كيف تكون بعد أمًا لابن[287]، ويرى القديس أغسطينوس[288] أنها ضحكت من الفرح لكنها لم تكن مملوءة إيمانًا.

لقد ضحك إبراهيم حين سمع الخبر وسجد للرب على وجهه (١٧: ١٧)، وضحكت سارة في باطنها (١٨: ١٣)، فانجبا إسحق، الذي يعني "ضحكًا"، حتى يذكرا عمل الله معهما كلما ناداه باسمه ممجدين الله الذي وهبهما نعمة تفوق حدود الطبيعة.

٥. حوار مع الله:

إذ قابل إبراهيم حب الله بالحب، تحدث الله معه كصديق، إذ يقول: "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض...؟!" [١٧-١٨].

الله في صداقته مع الإنسان يود إلا يخفي عنه أسراره... "سرّ الله لخائفيه" (مز ١٥: ١٠)، وكما قيل في عاموس: "إن السيد الرب لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء" (عا ٣: ٧). إن كان الله يقيم إبراهيم كأمة كبيرة ويتمتع بمجيء السيد المسيح من نسله، هذا الذي به يتبارك جميع أمم الأرض، لذلك يتحدث معه في صراحة وانفتاح قلب، حتى يتعلم أولاده حياة الشركة مع الله وانفتاح قلبهم له.

أعلن الرب آثام سدوم وعمورة لإبراهيم، قائلاً: "إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدًا، أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إليَّ، وإلاَّ فأعلم" [٢٠-٢١].

يظهر بشاعة ما بلغه الإنسان في شره، إذ صارت الخطايا تصرخ لتطلب القصاص من فاعليها، أو أن الأرض – الخليقة الجامدة – لم تعد تحتمل هذا الفساد فصارت تئن إلى الله ليقتص من الإنسان، ذلك كما فعل دم هابيل الصارخ إلى الله بسبب قسوة قايين (تك ٤: ١٠)، وكصوت أجرة الحصادين المنجوسة حين تصرخ من ظلم أصحاب الحقول (يع ٥: ٤).

كانت سدوم وعمورة مدينتان بجوار البحر الميت أقام في أحدهما لوط؛ الأولى تعني "احتراق"، والثانية تعني "فيض (طوفان)[289]". هكذا صارت سدوم وعمورة رمزًا للخطية التي تدفع الإنسان كما إلى الاحتراق بالنار أو الغرق بالطوفان.

أما تعبير "أنزل وأرى" فلا يُفهم بالمعنى الحرفي، فإن الله كائن في كل مكان، لكنه تعبير يناسب بشريتنا يكشف عن عدالة الله، لا يعاقب سريعًا إنما كمن ينتظر حتى ينزل ويرى بنفسه ما يفعله الإنسان... إنه مشغول بكل الحياة البشرية.

نزل الله إلينا ليرى خطايانا... وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لكي يحملها إذ يأخذ شكل العبد (في ٢: ٧)[290]]. إنه ينزل إلينا لكي يحمل أثقالنا المرة ويدفع ديننا، ويرفعنا معه كما فعل على جبل التجلي (مر ٩: ٢).

بعد هذا الحديث انصرف الملاكان إلى سدوم وعمورة وبقي إبراهيم أمام الرب... وفي دالة الحب "تقدم إبراهيم وقال: افتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارًا في المدينة..." [٢٣-٢٤]. لم يتحدث مع الرب فيما يخصه هو أو زوجته في إنجابهما إسحق حسب وعد الله لهما، لكن كل مشاعر إبراهيم قد اُمتصت في هؤلاء الذين يتعرضون للهلاك، فيقف شفيعًا فيهم! إنها صورة حية للحب الناضج الذي فيه ينشغل الإنسان بخلاص أخوته، ويطلب عنهم أكثر مما لنفسه!، حتى وإن كان هذا الغير شريرًا ومستحقًا للموت. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ظهر إبراهيم بحق كمن يطلب من أجل أبرار مع أنه كان يطلب عن الجميع. إن نفوس القديسين رقيقة جدًا ومحبة للغير، محبة لخلاص نفسها كما لخلاص الغرباء[291]].

إن كان الله قد فتح باب الحوار مع خليله إبراهيم، فإن إبراهيم بدوره التزم بروح الاتضاع في حديثه مع الرب. وكما يقول القديس أغسطينوس: [عندما تحدث إبراهيم مع إلهه وأغلق باب الحديث أمامه في أمر حرق سدوم قال: "أنا تراب ورماد". عظيم هو هذا الاتضاع الذي يتسم به القديسون العظماء![292]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لنتضع لكي نرتفع، فإن المجد الباطل يهوى بالإنسان تمامًا. هكذا انحط فرعون عندما قال: "الرب لا أعرف" (خر ٥: ٢)، فصار أقل من الذباب والضفادع والجراد، وبعد هذا غرق هو وجيشه وخيله في البحر. على العكس إذ قال إبراهيم: "أنا تراب ورماد" غلب أممًا بربرية، وإذ سقط في يد المصريين (فرعون وحاشيته) رجع يحمل نصرة أكثر مجدًا من الأول، بالتصاقه بهذه الفضيلة نما مرتفعًا نحو العلو[293]]. ويقول القديس أمبروسيوس: [جلس أيوب في التراب فاقتنى كل ما فقده (أي ٢: ٨؛ ٤٣: ١٠)[294]].

<<

الأصحاح التاسع عشر

حرق سدوم

تمتع إبراهيم باستضافة الله مع ملاكين، أما لوط فاستضاف الملاكين وحدهما اللذين أنقذاه من الدمار الذي يحل بسدوم وإن كان قد فقد امرأته كما ارتكب معه أبنيته خطأ.

1. استضافة الملاكين                          1-3

2. هياج الشعب على الملاكين                 411

3. إنقاذ لوط وعائلته                          1222

4. هلاك سدوم وعمورة                       2325

5. هلاك امرأة لوط                            26     

6. تطلع إبراهيم إلى سدوم وعمورة           2729

7. خطأ ابنتى لوط مع أبيهما                   3038

1. استضافة الملاكين:

"فجاء الملاكان إلى سدوم مساءً، وكان لوط جالسًا في باب سدوم فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض وقال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما، ثم تبكران وتذهبان في طريقكما فقالا لا بل في الساحة نبيت فألح عليهما جدًا، فمالا إليه ودخلا بيته، فصنع لهما ضيافة وخبز فطيرًا فأكلا" [1-3].

لا يستطيع أحد أن يتجاهل ما أتسم به لوط من حياة إيمانية وفضائل وإن كان قد تصاغر جدًا أمام رجل الإيمان إبراهيم... فإن كان لوط يمثل عهد الناموس فإن إبراهيم يمثل عهد النعمة. يليق بنا أن نقدم مقارنه بين ما ورد في الأصحاح السابق عن استضافة إبراهيم للرب وملاكيه وما ورد هنا عن استضافة لوط للملاكين:

أولاً: كان إبراهيم ذا نفس كبيرة تأهل بالإيمان الحيّ أن يستضيف كلمة الله وملاكيه وقت الظهيرة وكأنه برجال العهد الجديد الذين التقوا مع المخلص عند الصليب (وقت الظهيرة) ليروا السماء مفتوحة والمصالحة قد تمت بين الأرضيين والسمائيين، وأما لوط فبضعف إيمانه وليس بعدم إيمانه بالكاد التقى به ملاكان وقت المساء ليخلصاه من الدمار الذي كان يلحق بالمدينة التي اختارها مسكنًا له ولعائلته.

يقول العلامة أوريجانوس: [جاء ثلاثة رجال لإبراهيم وسط النهار (18: 1)، وجاء اثنان للوط في المساء (19: 1)، إذ لم يكن ممكنًا للوط أن يحصل على ملء نور الظهيرة، أما إبراهيم فكان قادرًا على التمتع ببهاء النور... لاحظوا بالنسبة لإبراهيم جاء الرب مع الملاكين أما بالنسبة للوط فلم يجد إلاَّ ملاكان. لوط استقبل المدمرّين (19: 13) لا المخلص، أما إبراهيم فاستقل المخلص والمدمر معًا[295]].

اقتبس الأب قيصريوس بعض عبارات العلامة أوريجانوس كعادته، فقال: [لم يكن لوط قادرًا أن يحتمل قوة شمس الظهيرة، أما إبراهيم فاستطاع أن يقف في كمال البهاء[296]].

لم يقلل الآباء من قدر لوط، فهو مع تصاغره أمام إبراهيم كان يحمل بعضًا من فضائله وكما يقول القديس أمبروسيوس: [كان لوط ابن أخ إبراهيم قريبًا منه لا خلال قرابة الجسد فحسب وإنما خلال الفضيلة أيضًا. فبسبب استعداده لاستضافة الغرباء خلص هو وعائلته من العقوبة التي حلت بسدوم[297]]. وفي تعليق للقديس يوحنا الذهبي الفم عن استضافة لوط للملاكين، قال: [قاد الملائكة لتنزل للبشرية والبشر ليرتفعوا إليهم[298]].

ثانيًا: إذ يقارن الأب قيصريوس بين وليمة إبراهيم ووليمة لوط يقول أن ثلاثة رجال جاءوا إلى إبراهيم "وقفوا لديه" (18: 2)، أما بالنسبة للوط فجاء الرجلان ووقفا في الطريق.

يمكننا القول بأن الرب وملاكيه وقفا لدى إبراهيم بجوار خيمته، أو قل كان رب السماء وجنوده قد وجدوا في إبراهيم حياة سماوية فحلّوا لديه، أما بالنسبة للوط فالتقوا به وهو جالس "في باب سدوم" أي في مدخل المدينة.

ليتنا نكون كأبينا إبراهيم نتأهل أن نلتقي بالرب وطغماته لا عند مدخل المدينة كلوط، وإنما في أعماقنا الداخلية بكونها سمواته المحبوبة لديه.

ثالثًا: شتان ما بين إبراهيم ولوط، الأول إذ طلب من الرب وملاكيه أن يستضيفهم، قالوا في الحال: "هكذا تفعل كما تكلمت" (18: 5)، أما الثاني فقد ألح على الملاكين جدًا وإذ كانا يريدان أن يبيتا في الساحة أي الميدان العام كغريبين ليس لهما من يستضيفهما قبلا أن يميلا إليه ويدخلا بيته [٣].

رابعًا: عرف إبراهيم سرّ الثالوث القدوس فلم يلتق فقط بثلاثة رجال وإنما طلب من سارة أن تسرع بثلاث كيلات دقيق سميذ وكأنه يطلب من الكنيسة أن يتمتع أولادها بالإيمان بالثالوث القدوس حتى يستحقوا كثلاث كيلات دقيق فاخر أن يصيروا خبزًا سماويًا.

خامسًا: انتهى لقاء إبراهيم بنوال البركة مع سارة إذ وعدهما الرب بابن لهما، أما اللقاء مع لوط فانتهى بالكاد بخلاص لوط وابنتيه دون زوجته. الأول نال وعدًا أن يتمتع نسله بأرض الموعد، أما الثاني فخرج من المدينة فارغ اليدين، لا يعرف له مأوى!

سادسًا: في هذا اللقاء وقف إبراهيم بدالة كشفيع عن الآخرين، أهل سدوم وعمورة، أما لوط فكان يتوسل لأجل نفسه وابنتيه لعله يسمح لهما الملاكان بالسكنى في مدينة صوغر.

2. هياج الشعب على الملاكين:

إذ استضاف لوط الرجلين (الملاكين) أحاط رجال المدينة من أحداث وشيوخ يطلبونها ليعرفونها، أي يصنعوا بها قباحة وشرًا...صورة تكشف عن مدى ما وصل إليه الشعب كله من نجاسة مع جسارة مرة، حتى صارت هذه الخطية تنسب إليهم إذ تدعى بالسدومية، نسبة إلى سدوم مدينتهم.

حاول لوط أن يحمى ضيفه فطلب أن يخرج لهم ابنتيه يفعلون بهما ما يشاءون، ربما لأجل تخجيلهم. وإذ أصر الكل على إخراج الرجلين، مدّ الرجلان أيديهما وأدخلا لوطًا إليهما إلى البيت وأغلقا الباب، وضربا الرجال الواقفين بالعمى فلم يستطيعوا أن يجدوا الباب.

إن كان لوط قد اتسم بحب الضيافة، وفي نضوج أصر ألا يسلم الرجلين للشر، لكنه يُلام على عرضه أن يسلم ابنتيه فديه للضيفين... على أي الأحوال تطلع الله إلى قلب لوط محب الغرباء، فلم يترك لوطًا يحفظ الغريبان إنما قام الغريبان بحفظه وأهل بيته من الأشرار.

لم نسمع عن هياج حدث عن ظهور الرب وملاكيه لإبراهيم، لأن إبراهيم يمثل عهد النعمة أما لوط فيمثل السقوط تحت الناموس. الأول ينعم بلقاء مفرح مع الله فيه ترتفع النفس فوق كل الآلام وتتمتع بحياة على مستوى سماوي، أما الثاني فيدخل في صراع مر وضيق ويعرض طاقاته ومواهبه (البنتان) للفساد، لكنه حتى في عهد الناموس تدخلت السماء ودخلت بالإنسان إلى بيته لتغلق عليه من الأشرار.

الأول جلب لجسده - سارة - ضحكًا أو فرحًا روحيًا في الرب، أما الثاني فدخل في مرارة نفس.

أخيرًا إن كان الله قد حكم على سدوم وعمورة بالإبادة، فإنه فعل هذا بعدما قال: "أنزل وأرى" (18: 21)، وكأنه حكم بتدقيق شديد، ولعله سمح بوجود لوط في وسطهم لكي يكون لهم مثلاً حيًا عمليًا وشاهدًا عليهم، والآن إذ جاء الملاكان وأساء الشعب التصرف معهما لم يعد لهم عذرا!

إن كان إبراهيم في حواره مع الله قال: "أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟!" (18: 25)، فقد أظهر الله عدله ومحبته... فأرسل ملاكيه يشهدان على شر الأشرار وينقذان لوطًا وعائلته! إنه لا يهلك البار مع الأثيم.

3. إنقاذ لوط وعائلته:

أعلن الملاكان خطة الله الخلاصية وطلبا من لوط أن يخرج ومعه زوجته وبنتاه وأصهاره، لكنه كان "كمازح في أعين أصهاره" [١٤]. كان يمكن لأصهاره أن يخلصوا حتى في اللحظات الأخيرة لكنه في كل جيل يرى الأشرار في إنذارات الله هزلاً ومزاجًا، يستخفون بها. أخيرًا إذ طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطًا قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة... كانت دعوة الملاكين له في الفجر "قم". وكأنها دعوة السماء لنا أن نقوم مع السيد المسيح القائم من الأموات في فجر الأحد، تقوم نفوسنا ومعها أجسادنا (امرأته) وأيضًا تقوم طاقاتنا ومواهبنا (ابنتاه) بتقديسها في الرب.

كان لوط متوانيًا أو متباطئًا ربما بسبب بناته المتزوجات ورجالهن وبسبب بيته وممتلكاته... لكن الملاكين أخرجاه مع زوجته خارج المدينة وسألاهم أن يهربوا لحياتهم.

لقد طلب الملاكان من لوط أن يهرب إلى الجبل، لكنه لم يكن قادرًا على الانطلاق إلى الجبل فسأل أن يهرب إلى مدينة صغيرة قريبة منه دعيت صوغر، لأنها كانت أصغر مدن الدائرة، وقد كان اسمها قبلاً "بالع"، يغلب أنها على الشاطئ الشرقي لبحيرة لوط. لقد قبل الله طلبه ولم يلزمه بالذهاب إلى الجبل بل إلى مدينة صوغر، لكن لوطًا فقد في هذا الكثير! الله يريدنا أن نهرب إلى الجبل المقدس، لنرفع بروحه القدوس إلى القمم العالية، ونحن في ضعفنا نكتفي بصوغر!

يتحدث القديس جيروم عن صوغر التي اختارها لوط لنفسه، فيقول: [دُعيت صوغر بسبب الإيمان الصغير الذي كان للوط. فإنه وإن كان قد عجز عن إنقاذ الأماكن العظيمة لكنه على الأقل حفظ الأماكن الصغيرة. فإن الذي ذهب بعيدًا ليعيش في عمورة لم يستطيع أن يبلغ إلى أرض الظهيرة التي بلغها إبراهيم خليل الله (يع 2: 23) وصديق ملائكته (تك 18: 1)[299]].

لعل القديس جيروم قد تأثر بكلمات القديس أوريجانوس في عظته الخامسة على سفر التكوين: [لم يكن لوط قادرًا قط على السكنى في المرتفعات مع إبراهيم].

ما هو هذا الجبل المقدس الذي نهرب إليه لحياتنا إلاَّ الكتاب المقدس، فيه نجد حصنًا منيعًا ضد هجمات العدو الشرير إبليس؟! لهذا السبب عندما اجتاز السيد المسيح التجربة على الجبل لحسابنا وكمثال لنا، كان يصد كل هجوم شيطاني بعبارات من الكتاب المقدس، وكأنها بالجبل المقدس الذي يرفعنا إليه فلا يقدر العدو بحيله أن يتسلق إلينا. والجبل أيضًا يشير إلى كلمة الله ذاته الذي تحدث عنه دانيال النبي: "قُطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما... أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها" (دا 2: 34، 35). فالسيد المسيح - كلمة الله - هو الحجر الذي قطع بغير يدين، إذ هو ليس من زرع بشر، يقدر أن يسحق تمثال الشر القائم في أعماقنا، وإذ يحتل أرضنا الداخلية يملأها كجبل عظيم يملأ القلب كله!

4. هلاك سدوم وعمورة:

"وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر، فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء" [23-24].

ما أن أشرقت الشمس على الأرض حتى دخل لوط إلى صوغر، فإن كانت صوغر تعنى (صغير)، فإننا لا نستطيع أن ننعم بروح الاتضاع ونشعر بحجمنا كأحد الأصاغر ما لم يشرق شمس البر على أرضنا الداخلية، ويعلن ملكوت اتضاعه ومحبته فينا.

والعجيب أن الله لم يمطر على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عنده إلاَّ بعد دخول لوط إلى صوغر... إذ كان حريصًا كل الحرص على لوط كإنسان بار.

يظهر هنا سر التثليث بالقول: "أمطر الرب... من عند الرب"، كأن الابن الكلمة أمطر من عند الآب.

5. هلاك امرأة لوط:

"ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح" [٢٦].

فسر البعض صيرورتها ملحًا بتحول حرفي أو أنها اختنقت من الكبريت والدخان ثم غطى الملح جسدها فصار لها قبرًا. يرى البعض أنه بحدوث زلازل قذفت صخور ملح فقط بعضها على امرأة لوط فصارت عمود ملح. بهذا صارت كما يقول سفر الحكمة: "عبرة لغير المؤمنين" (حك 10: 7)، وكما قال السيد المسيح لتلاميذه: "اذكروا امرأة لوط" (لو 17: 32).

فيما يلي بعض تعليقات للآباء عن امرأة لوط:

v     إذ نظرت إلى الوراء صارت نصبًا تذكاريًا للنفس غير المؤمنة.

                                                                             القديس جيروم[300]

v     فقدت امرأة لوط طبيعتها ذاتها لأنها تطلعت إلى الوراء، تطلعت إلى ما هو دنس ولو بعينين نقيتين.

                                                                             القديس أمبروسيوس[301]

v     خلصت امرأة لوط من سدوم لكنها تطلعت في الطريق إلى الوراء، في الموضع الذي تطلعت فيه هناك بقيت.

                                                                             القديس أغسطينوس[302]

v     "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9: 62). امرأة لوط عندما خلصت نظرت إلى الوراء مخالفة للوصية ففقدت ما انتفعت به من هروبها.

ليتنا لا نتطلع إلى الوراء حيث يدعونا الشيطان للتراجع، إنما ننظر إلى ما هو قدام حيث يدعونا المسيح. لنرفع أعيننا إلى السماء لئلا تخدعنا الأرض بمباهجها وباغراءاتها.

                                                                             القديس كبريانوس[303]

6. تطلع إبراهيم إلى سدوم وعمورة:

"وبكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب، وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون. وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطًا من وسط الانقلاب" [27-29].

بالأمس تمتع إبراهيم باستضافة الرب وملاكيه ونال وعدًا بإنجاب ابن، الأمر الذي لم يشغله عن الشفاعة عن سدوم وعمورة، إذ هو صاحب القلب الكبير الأبوي لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين. وفي شفاعته التزم بالجانب الموضوعي فلم يشفع عن أقربائه "ولوط وعائلته" بل عن الدائرة كلها. ويبدو أن الأمر قد شغل فكره طول الليل... لذا بكر ليقف في ذات الموضع الذي التقى فيه أمام الرب لينظر نحو سدوم وعمورة. لم ينطق إبراهيم بكلمة بخصوص لوط وعائلته لكن كان يتكلم بقلبه وفكره وعواطفه وأحاسيسه التي لا يسمعها إلاَّ الرب نفسه، وقد استجاب له، إذ يقول: "الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطًا من وسط الانقلاب"، وكأن ما قد تمتع به لوط كان بسبب إبراهيم!! النفس الكبيرة في عيني الله تظلل على النفوس الصغيرة بالحب، والصلاة وتنهدات القلب الخفية، وتكون سرّ بركة لها. نذكر على سبيل المثال نفس يوسف العبد الشاب، كانت في عيني الله عظيمة ومباركة بسببها بارك حتى بيت فوطيفار المصري، "وكان بركة الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحقل" (تك 39: 5). إنها ليست بركة إبراهيم في ذاته ولا يوسف في ذاته إنما هي بركة الرب التي تملأ القلب!

7. خطأ ابنتيْ لوط مع أبيهما:

يسدل الكتاب المقدس آخر فصل عن حياة لوط بحدث مؤلم للغاية، هو ثمرة طبيعية اجتناها لوط من الزرع الذي غرسه، فقد اختار سدوم مسكنًا له فشربت بنتاه من أهلها روح الشر.

إن كان كنعان قد سقط تحت اللعنة لأنه سخر بنوح عندما سكر فتعرى، فإن ابتني لوط قد اسكرتا والدهما لا ليتعرى فحسب وإنما لتنجبا منه نسلاً. وقد حاول بعض المفسرين تقديم الأعذار لهاتين الابنتين منها أنهما رأتا العالم كله - في نظرهما - يحترق، ووالتهما صارت عمود ملح، فلا علاج للموقف إلاَّ بإنجابها نسلاً من أبيهما حتى تنقذا العالم من الفناء. وكأنهما لم تلتصقا بأبيهما عن شهوة جسدية وإنما لتعمير الأرض. يقول العلامة أوريجانوس: [أن كثيرات من النساء لا تضبطن أنفسهن مع رجالهن حتى في أيام حملهن. أما هاتان الفتاتان فلم تطلبا الشهوة]، ويحاول القديس ديديموس الضرير أن يجد لهما عذرًا قائلاً: [بأنهما لم تطلبا العلاقة بقصد شهواني بدليل أن الكبرى طلبت من الصغرى في اليوم الثاني أن تدخل مع أبيها، وأنهما لم تطلبا الالتصاق بأبيهما مرة أخرى بعد حملها].

هذه النظرة رفضها كثير من الآباء إذ كان يلزمها ألا يستخدما الطريق البشرى لحل المشكلة مع تجاهل لعمل الله القادر أن يقيم أولادًا من الحجارة. في عدم إيمان سقطتا في أبشع خطية حتى صارتا رمزًا لفساد إسرائيل ويهوذا عندما رفضا الرب. وحسبتا كأهولة وأختها أهوليبة اللتين تحدثنا عنهما في سفر حزقيال (حز 23).

يرى القديس أغسطينوس أن هاتين الابنتين تمثلان صورة مرّة لمن يُسيء استخدام الناموس (الأب) فيرتبط جسديًا أو حرفيًا لا روحيًا لينجب ثمارًا ليست في الرب، كما أنجبت هاتان الابنتان موآب وعمون من أبيهما كرأسين لأمتين شريرتين، سبق لنا الحديث عنهما في سفر حزقيال (حز 25) وما يرمزان إليهما. ويلقى القديس جيروم باللوم على لوط حتى وإن كان ما قد ارتكبه بغير إرادته.

v     خير لنا أن نبقى بغير ثمر ولا نصير أمهات بطريقة كهذه!

كان هذا رمزًا للذين يفسدون الناموس... الذين يسيئون استخدامه فينجبون الموآبيين الذين يرمزون للأعمال الشريرة.

          القديس أغسطينوس[304]

v     بالحقيقة لم يكن لوط يعرف ماذا كان يفعل، ولا كانت خطيته بإرادته، ومع هذا فخطأه عظيم إذ جعله أبًا لموآب وعمون عدوّى إسرائيل.

          القديس جيروم[305]

وفي النهاية نقول أن لوطًا يمثل العقل الناضج الهارب من الشر ولكن كما بتضرر، أما امرأته فتشير إلى الجسد المرتد إلى الوراء بسبب الشهوات، والبنتان إلى المجد الباطل والغرور.

<<

الأصحاح العشرون

ساراى وأبيمالك

إذ أنتقل إبراهيم إلى جرار قال عن سارة امرأته إنها أخته، فأرسل أبيمالك ملك جرار يطلبها زوجة له، لكن الرب منعه من الاقتراب إليها:

1. أبيمالك وسارة                    17

2. أبيمالك يستدعى إبراهيم          813

3. أبيمالك يكرم إبراهيم              1418

1. أبيمالك وسارة:

بعد حوالي 23 عامًا ترك إبراهيم بلوطات ممرا وذهب إلى جرار، ربما لأنه قد تأثر بصورة سدوم وعمورة وهما تحترقان فأراد ترك الموضع كله، أو لأن مواشيه كانت قد كثرت فصار يطلب مرعى آخر، أو لعل مجاعة قد حلت بالمنطقة. أيًا كان السبب أنتقل إبراهيم إلى جرار وهناك قال عن سارة إنها أخته، فأرسل أبيمالك ملك جرار يأخذها لنفسه زوجة وكانت قد بلغت في ذلك الحين التسعين من عمرها. فجاء الله "الوهيم" إلى أبيمالك في حلم الليل يوبخه: "ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها فإنها متزوجة ببعل" [٣]. وكان أبيمالك لم يقترب إليها، وقد أجاب الله: "يا سيد أ أمة بارة تقتل؟! ألم يقل هو لي إنها أختي، وهى نفسها قالت: هو أخي. بسلامة قلب ونقاوة يدّي فعلت هذا" [٥] "فقال له الله في الحلم: أنا أيضًا علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا. وأنا أيضًا أمسكتك عن أن تخطئ إليَّ، لذلك لم أدعك تمسها. فالآن رد امرأة الرجل فإنه نبي يصلي لأجلك فتحيا. وإن كنت لست تردها فأعلم أنك موتًا تموت أنت وكل من لك"
[6-7].

كلمة "أبيمالك" تعني (أبى ملك)، وكان أبيمالك ملكًا للفلسطينيين وثنيًا، وقد اتسم بصفات جميلة ولطف عجيب في حديثه مع الله الذي ظهر له في حلم، وفي لقائه مع سارة وأيضًا إبراهيم.

لقد طلب أبيمالك سارة زوجة له، لكنه طلبها بسلامة قلب ونقاوة يد... لهذا يقول الله: "وأنا أيضًا أمسكتك عن أن تخطئ إليَّ لذلك لم أدعك تمسها" [٦]. ربما ضربه الله بمرض أصابه لكي لا يقدر أن يلتقي بسارة، وكان هذا المرض ليس غضبًا إلهيًا عليه، بل من قبيل رعاية الله حتى لا يخطئ في حق الله نفسه باجتماعه مع سارة امرأة إبراهيم خليل الله. لقد سبق فأقام إبراهيم معاهدة مع زوجته أن تخفي حقيقة ارتباطها به كزوجة [23]، ومنذ سنوات طويلة حين نزل إبرام إلى مصر أخذها فرعون ليجعلها لنفسه زوجة (12: 14-20) والرب ضرب فرعون وبيته ضربات عظيمة حتى لا يمس سارة، وقد وبخ فرعون إبرام بسبب إخفائه حقيقة زواجه بسارة، ومع ذلك بقى إبراهيم ضعيفًا في هذا الأمر، فتكرر حتى في شيخوخته مع أبيمالك. كأن الله يحذرنا من أنفسنا أننا وإن بقينا عشرات السنوات لا نرتكب ضعفًا معينًا لكنه ربما في سن الشيخوخة نسقط فيما سقطنا فيه قبلاً! إن كان رجل الله إبراهيم بعد كل هذه المعاملات مع الله سقط، أفلا يليق بنا نحن أن نحذر من أنفسنا؟!

إبراهيم الذي رأي خلاص الله ورعايته واضحين في إنقاذ سارة من يدي فرعون، والذي وهبه الله شهامة لينقذ ابن أخيه لوطًا من أيدي الملوك (تك 14)، وقد نال وعدًا إلهيًا أن ينجب ابنًا من سارة ينعم بالميراث والبركة بعدما رأي الله وملاكيه واستضافهما... كان يليق به أن يكون واضحًا ولا يخفي علاقته الزوجية مع سارة! على أي الأحوال لم يخف الكتاب ضعف إبراهيم بالرغم من إبراز حياته كأب لجميع المؤمنين واتساع أحضانه لتضم كل أولاد الله...

نعود إلى أبيمالك ملك جرار فإن كلمة "جرار" تعنى (جرة) أو (إناء خزفي)[306]. وهى مدينة قديمة على الجانب الجنوبي من حدود فلسطين تبعد حوالي 5 أو 6 أميال من غزه، سكنها الفلسطينيون في وقت مبكر (تك 26: 1). ربما كانت المكان المعروف الآن بخربة أم جرار (مواقع الجرار) أو بجوارها، ويرى البعض أنها تبعد 13 ميلاً جنوب غربي قادش، بينما آخرون يرون أنها تبعد حوالي 19 ميلاً جنوبي غرب بيت جبرين (ايليتروبوليس) وحوالي 14.5 ميلاً من تل جمعة... ويبدو أن كلمة "أبيمالك" لم تكن اسم الملك وإنما كان لقبًا لأغلب ملوك جرار، كفرعون لمصر.

يقدم لنا العلامة أوريجانوس تفسيرًا رمزيًا لهذا الحدث رابطًا إياه بالحدث السابق (أخذ فرعون سارة عنده). فيرى في "سارة" رمزًا للفضيلة الروحية أو الحكمة الإلهية التي أقتناها له إبراهيم كزوجة له، والتي لم يستطع فرعون ولا أبيمالك أن يقتنيها، الأول بسبب عد نقاوة قلبه والثاني لأن رجلها حيّ. فإن كان إبراهيم يمثل الناموس فانه لا يستطيع أحد أن يقتني الحكمة الروحية مادام الناموس حيًا، وكما يقول الرسول بولس: "إن الناموس يسود على الإنسان مادام حيًا، فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحيّ، ولكن إن مات الرجل فقط تحررت من ناموس الرجل" (رو 7: 1-2).

من كلمات العلامة أوريجانوس في هذا الشأن: [أظن أن سارة تمثل الفضيلة الروحية. فالرجل الحكيم الوفي هو الذي يرتبط بهذه الفضيلة ويتحدث بها. هذا هو الحكيم الذي يقول عنه سفر الحكمة: "ابتغيت أن أتخذها لي عروسًا" (حك 8: 2). وأيضًا يقول الله لإبراهيم: "وكل ما تقول لك سارة اسمع لقولها" (تك 21: 12)... عندما تكون الفضيلة الروحية فينا (كزوجة وعروس لنا)، إذ نصير كاملين نقدر أن نعلم الآخرين... فنقدمها كأخت لنا يشتهيها الآخرون كزوجة لهم... هؤلاء الذين يُقال لهم: "قل للحكمة أنتِ أختي" (حك 7: 4). لهذا السبب قال إبراهيم عن سارة أنها أخته، وكأنه يمثل الإنسان الكامل الذي يقدم الفضيلة لمن يشتهيها. قديمًا أراد فرعون أن يأخذ سارة لكنه لم يطلبها "بنقاوة قلب" (20: 5)، لكن الفضيلة لا يمكن لإنسان أن يقتنيها هكذا بدون نقاوة قلب. لذا يقول الكتاب أن الرب ضرب فرعون وبيته ضربات عظيمة (تك 12: 7)، إذ لا يمكن للفضيلة أن تقطن مع المدمرين (فرعون)... أما أبيمالك فبقلب نقي أراد أن تكون له الفضيلة كزوجة، فلماذا يقول الكتاب أن الله لم يدعه يمسها؟... يبدو لي أن أبيمالك يمثل الحكماء في العالم ومحبي الفلسفة دون التقوى... كان إبراهيم يود أن يعطي الفضيلة الإلهية (سارة) للأمم الحكماء (أبيمالك) لكن الوقت لم يكن قد حان لنوال النعمة الإلهية... لقد بقيت الفضيلة مع إبراهيم، بقيت مع أهل الختان، حتى يأتي الوقت الذي تعبر فيه الفضيلة الكلية والكاملة إلى كنيسة الأمم[307].

2. أبيمالك يستدعي إبراهيم:

بالرغم من أن أبيمالك ورجاله كانوا وثنيين لكن قلوبهم كانت مستعدة لقبول كلمه الله، ففي الصباح المبكر دعا أبيمالك جميع عبيده واخبرهم بإعلان الله له: " فخاف الرجال جدًا" [٨].

إن كان الله قد كرم إبراهيم جدًا في عيني أبيمالك، قائلاً: "فإنه نبي فيصلي لأجلك فتحيا" [٧]، لكنه سمح لأبيمالك الوثني أن يوبخ نبيه ويعاتبه، قائلاً له: "ماذا فعلت بنا؟ وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت عليَّ وعلى مملكتي خطية عظيمة؟! أعمالاً لا تعمل عملت بي" [٩]. وكأنه يقول له: ماذا قصدت بي، فإني لم أسيء حتى خدعتني وجلبت عليَّ غضبًا إلهيًا؟! لو أنك قلت الصدق إنها امرأتك لبقيت معك وما حل بنا هذا كله.

والعجيب أن إبراهيم عوض أن يعترف بالخطأ الذي ارتكبه قدم عذرًا: "قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة، فيقتلونني لأجل امرأتي" [١١]. حكم على أهل المنطقة أنهم بلا مخافة قط، وأنهم يقتلونه، وهكذا سقط في خطية الإدانة والتسرع في الحكم على الآخرين، مع أنه قد ظهر في أبيمالك ورجاله خوف الله واضحًا. أما السبب الثاني فهو أنه لم يكذب لأن سارة أخته من أبيه دون أمه، وإن كان هذا لا يبرر إخفاءه حقيقة علاقته بها كزوج لها، مادام هذا الإخفاء يعرض الآخرين للخطأ معها.

3. أبيمالك يكرم إبراهيم:

كان إكرام أبيمالك لإبراهيم عظيمًا لا في الهدايا التي قدمها فحسب وإنما في إعلان محبته وتقديره له بقوله: "هوذا أرضي قدامك، اسكن في ما حسن في عينيك" [١٥].

إن كان قد وبخه لأنه عرّض حياته ومملكته للخطر لكنه أظهر سخاءه في العطاء لا حين أخذ منه امرأته كما فعل فرعون (12: 16)، وإنما حين ردها إليه مقدمًا له قلبه كما أرضه! لقد رّد الإساءة إليه بالحب العملي، الأمر الذي يصعب على بعض المؤمنين تحقيقه.

في عتاب مملوء حبًا قال لسارة: "إني قد أعطيت أخاكِ ألفًا من الفضة. ها هو لك غطاء عين من جهة كل ما عندك وعند كل أحد، فانصفت" [١٦]. دعى إبراهيم أخاها بتوبيخ رقيق، وقد وهبه ألفًا من الفضة ليكون ذلك غطاء عين لك، أي تكريمًا لك ورد شرف، تقديرًا لكِ ولزوجكِ أمام الجميع. ويرى البعض أن قوله: "ها هو لكِ غطاء عين" لا يعني بها الفضة بل إبراهيم نفسه يكون حاميًا لها وساترًا إياها من كل عين تتطلع أو تفكر في أخذها.

أخيرًا إذ صلى إبراهيم عن أبيمالك وامرأته وجواريه شفاهم الرب.

<<

الأصحاح الحادي والعشرون

ميلاد إسحق

إن كان إبراهيم قد ترك سارة في يدي الملك الوثني أبيمالك بعدم إعلانه عن العلاقة الزوجية التي تربطها معًا، فقد حفظها الرب دون أن يمسها أحد، وردها مكرمة لكي تنجب إسحق ابن الموعد، بنسله تتبارك الأمم.

1. ولادة إسحق                      1-3

2. ختان إسحق                      4-7

3. فطام إسحق                       8

4. ابن الميراث وابن الجسد          9-13

5. هاجر وبئر الماء                  1421

6. ميثاق بين إبراهيم وأبيمالك       22-34

1. ولادة إسحق:

"وافتقد الرب سارة كما قال، وفعل الرب لسارة كما تكلم، فحبلت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلم الله عنه" [1-2].

إن كان إسحق من زرع إبراهيم ومن صلبه، لكنه في الحقيقة هو عطية الله له ولسارة، هو ثمرة افتقاد الرب لسارة ووعوده لها ولرجلها، لهذا يتطلع الآباء إلى إسحق ليس كابن طبيعي لإبراهيم بل هو "ابن الموعد"، لهذا يؤكد الكتاب: "افتقد الرب سارة"، كما يعلن أنها "ولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته"، بمعنى أنه ابن إبراهيم حقًا لكنه جاء في شيخوخته بعد أن نزع الرب بافتقاده لسارة عقرها. كما سبق أن قلنا كان رحم سارة شبه ميت أو أشبه بحجر منه جاء إسحق رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي ولدت من سارة الجديدة، وجاء أعضاؤها من الأمم كما من الحجارة. وكما يقول القديس كبريانوس: [نجد في الإنجيل أبناء إبراهيم قد قاموا من الحجارة (مت 3: 9) إذ جُمعوا من الأمم[308]].

لقد بقي إبراهيم ومعه سارة عشرات السنين بلا طفل، لكن الله افتقدها بطفل على مستوى لائق بالوعد الإلهي يفرح شيبتهما، بل ويفرح قلوب البشرية كلها... إنما جاء "في الوقت الذي تكلم الله فيه". مواعيد الله صادقة وأمينة تنالها في حينها إن بقينا أمناء ننتظر بإيمان، لهذا يؤكد الرسول بولس: " لا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل" (غل 6: 9). سنحصد اسحقنا الحق أي تجلي السيد المسيح داخلنا، إن كنا لا نكل في جهادنا الروحي المنبعث عن الإيمان الحيّ الذي لا يفتر.

2. ختان اسحق:

في اليوم الثامن ختن إبراهيم إسحق: "كما أمره الله" [٦]. وكأن سارة تمثل الكنيسة التي تمتلئ فرحًا بولادة بينها روحيًا، بختانهم ليس حسب الجسد وإنما حسب الروح، خلال مياه المعمودية. حينما يخلع الإنسان بالروح القدس الإنسان العتيق ويلبس الجديد الذي على صورة خالقه تمتلئ الكنيسة ضحكًا روحيًا... إذ صار لها ابنا مفرحًا للسماء!

3. فطام إسحق:

"فكبر الولد وفطم، وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحق" [٨].

لم يصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم ولادة إسحق، إنما يوم فطامه. إن كنا لا نستطيع أن ننكر الفرح الشديد الذي ملأ قلب إبراهيم وسارة وكل محبيهما يوم ولادته، لكن إبراهيم يود أن يرى إسحق ناميًا ينتقل من مرحلة إلى أخرى ليبلغ كمال النضوج.

ليتنا نكون كإبراهيم لا نفرح لولادة إسحق فحسب وإنما بفطامه أيضًا ونضوجه، أي نفرح بكل نمو روحي لإنساننا الداخلي الذي يتجدد بلا انقطاع لعله يبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).

يعلق العلامة أوريجانوس على فطام إسحق بقولة: [إسحق يعني الضحك أو فرح من يستطيع أن يلد ابنا كهذا ؟! فقد قال الرسول للذين ولدهم في الإنجيل: "لأنكم أنتم مجدنا وفرحنا" (1 تس 2: 20). يُفطم هؤلاء المولودين فنصنع وليمة ويكون فرح عظيم، إذ لا يعود هؤلاء يحتاجون إلى اللبن بل إلى الطعام القوى (عب 5: 12)، و"قد صارت لهم الحواس مدربه على التميز بين الخير والشر" (عب 5: 14). لهذا تقام وليمة عظيمة يوم فطامهم. لكن لا يمكن أن تقام وليمة لا يكون فرح بالنسبة للذين يقول عنهم الرسول: "سقيتكم لبنًا لا طعامًا لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الآن أيضًا لا تستطيعون، لأنكم بعد جسديون... لم أستطيع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين، كأطفال في المسيح" (1 كو 3: 2، 1)[309].

4. ابن الميراث وابن الجسد:

الوليمة العظيمة التي أقامها إبراهيم يوم فطام إسحق ألهبت مشاعر هاجر وابنها بالضيق والغيظ، فتذكرت هاجر مرارة هروبها من وجه ساراي (16: 6)، وكانت إلى وقت قريب تتطلع إلى ابنها بكونه الوارث الوحيد لإبراهيم. هذه المشاعر تجسمت في حياة ابنها الذي صار يمزح مع إسحق (21: 9) مزاحًا سخيفًا يكشف عن مرارة نفسه التي لم يكن من السهل أن يخفيها، حتى دعى الرسول بولس هذا المزاح اضطهادًا (غل 4: 29)، الأمر الذي أثار نفس سارة فطالبت إبراهيم بطرده مع أمه، قائلة "لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق" [١٠]. قبح الكلام جدًا في عيني إبراهيم إذ حسبه ظلمًا من سارة، هذا مع عدم تجاهله لابنه حتى وإن كان من جارية. وكان صوت الله له: "لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها، لأنه بإسحق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة لأنه نسلك" [١٢-١٣].

بلا شك كان قلب إبراهيم قد تعلق بابنه الذي حسبه لسنوات طويلة الوحيد له حتى متى جاء إسحق لم يكن سهلاً أن يطرد الأول، لكن الأمر الإلهي جاء صريحًا أنه لا يرث. وقد فسر لنا الرسول بولس ما حمله هذا الأمر من نبوة رمزية. فالابن الأول والأكبر سنًا جاء حسب الجسد، أما الثاني فجاء حسب وعد الله يمثل الأبناء بالروح، وكأن الأول يشير إلى اليهود الذين تمسكوا بحرف الناموس وشكلياته وعاشوا على مستوى الجسد لا الروح، فصاروا مطرودين، أما كنيسة العهد الجديد فجاءت ثمرة النعمة الإلهية لها حق الميراث. في وضوح يقول الرسول: "الذي من الجارية وُلد حسب الجسد وأما الذي من الحرة فبالموعد. وكل ذلك رمز، لأن هاتين هما العهدان: أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذي هو هاجر... وأما نحن أيها الأخوة فنظير إسحق أولاد الموعد، ولكن كما كان إلى وُلد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح هكذا الآن أيضًا. لكن ماذا يقول الكتاب: "أطرد الجارية وابنها لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذًا أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد حرة" (غل 4: 23-31).

وإذ قبلنا الإيمان بالسيد المسيح صرنا بالروح القدس أولاد سارة ( كنيسة العهد الجديد ) الحرة، أما إن سلكنا خلال الحرف الناموسي القاتل والشكليات بلا روح فنرتد إلى روح العبودية لننتسب للجارية. يقول العلامة أوريجانوس: [أن سلكتم حسب الجسد تكونون أبناء هاجر، وبالتالي تتعارضون مع الذين يعيشون بالروح[310].

إن سلكنا حسب الحرف القاتل وعشنا في أعماقنا كجسديين نكون كالابن الجسد الذي يمثل الإنسان الأول الترابي، أما إن سلكنا بالروح فنصير أبكارًا لا حسب الجسد بل حسب الروح ونحسب روحيين وكما يقول الرسول بولس: "ليس الروحاني أولاً بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني، الإنسان الأول من الأرض ترابي، الإنسان الثاني الرب من السماء. كما هو الترابي هكذا الترابيون، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضًا. وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كو 15: 46-49).

إذ يوجد إسحق في داخلنا، أي نحمل روح الإنجيل الحيّ، يطرد حرف الناموس القاتل!

5. هاجر وبئر الماء:

بناء على الأمر الإلهي صرف إبراهيم هاجر وابنها بعد أن زودهما بالخبز وقربة ماء وودعهما في الصباح الباكر لعلهما يجدان مأوى قبل الظهيرة. وكان الولد يبلغ حوالي 16 عامًا من عمره... فخرج الاثنان إلى البرية متجهين نحو الجنوب وقد تاها في البرية التي دعيت بعد ذلك "بئر سبع". وإذ فرغ الماء من القربة خار الولد من العطش فتركته أمه مطروحًا في الظل تحت الأشجار، إذ قالت "لا أنظر موت الولد" [١٦]. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت.

بينما كان الطفل إسحق يرتوي من ينابيع حب أبويه بلا توقف، شرب ابن هاجر من القربة المصنوعة من جلد حيوانات ميتة، فلم تستطع أن تروه إلا قليلاً ليبقى في حالة ظمأ وإعياء ويقترب جدًا من الموت. إنها صورة تكشف عن الفارق بين روح الحياة الإنجيلية والفكر الجسداني النابع عن حرفية الناموس. فإن قبلنا روح الإنجيل نسكن في الخيمة لنرتوي من ينابيع محبه الله أبينا والكنيسة أمنا، فنكون كإسحق المرتوي بحب إبراهيم وسارة، أما إن سلكنا بالحرف القاتل فندخل إلى البرية في حالة تيه، نشرب من الجلد الميت ماءً ينضب وتتعرض نفوسنا الداخلية للموت الروحي.

العجيب أن هاجر رفعت صوتها وبكت أما الولد فكان في إعياء شديد غير قادر على الكلام، ومع ذلك فكان صمت الغلام صوتًا مسموعًا لدى الله أكثر من بكاء هاجر، إذ قيل: "سمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء، وقال لها: مالك يا هاجر، لا تخافي لآن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو" [١٧]. إن كانت هاجر تمثل حرفية الناموس فإن الساقطين تحت الناموس إن أدركوا الموت الذي يحل بهم وصرخوا في قلوبهم يُسمع لهم،، يفتح عن أعينهم ليبصروا بئر ماء [١٩] ليشربوا من الماء الحيّ الذي حرموا أنفسهم منه. يقول الكتاب "وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماءً وسقت الغلام" [١٩]. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [اليوم اليهود بجانب الآبار لكن أعينهم منطمسة فلا يستطيعون الشرب من آبار الناموس والأنبياء[311]]. كما يقول: [انفتحت أعيننا نحن، وارتفع برقع حرفية الناموس، لكنني أخشى أن نغلق أعيننا بأنفسنا من جديد خلال نوم عميق، وعدم يقظتنا للمعنى الروحي، وإهمالنا في السهر، ونزع النوم عن أعيننا حتى نتأمل الروحيات ولا ننخدع، فنكون بهذا كشعب جسداني نجلس بجوار المياه (ولا نراها). إذن لنسهر مع النبي قائلين: "لا أعطي وسنًا لعيني ولا نومًا لأجفاني، أو أجد مقامًا للرب، مسكنًا لعزيز يعقوب" (مز 132: 4، ٥)[312].

أخيرًا سكن إسماعيل في برية فاران كصياد وقد تزوج من أرض مصر، إذ أزوجته أمه من بنات شعبها.

6. ميثاق بين إبراهيم وأبيمالك:

أكرم أبيمالك ملك جرار إبراهيم جدًا وسمح له بالبقاء في أرضه لكنه إذ رآه يعظم جدًا، أدرك أن "الله" هو سر عظمته. ونجاحه فخاف منه، لذلك جاء ومعه رئيس جيشه فيكول ليقيما معه ميثاقًا حتى لا يغدر إبراهيم به أو بنسله وذريته.

سبق فتحدثنا عن أبيمالك الملك الوثني كيف كان رقيقًا للغاية في معاملته مع إبراهيم، وحين أخذ سارة لم يغتصبها قهرًا وإنما طلبها بنقاوة قلب، وكان كريمًا معهما، يخاف الله. والآن إذ رأى إبراهيم ينجح وينمو نسب كل نجاح لعلاقته بالله، وعوض الحسد أو الغيرة جاء يطلب ميثاقًا. اتسم بالحكمة وحسن التصرف!

قلنا أن كلمة "أبيمالك" غالبًا كان لقبًا لملوك جرار، حتى يدرك الشعب أن الملك هو أب لهم، إذ اللقب "أبيمالك" يعنى (أبى ملك). أما رئيس الجيش فكان يلقب "فيكول" ويعني (فو الكل) أو (فم الكل). ويبدو أن رئيس الجيش كان أشبه برئيس الوزراء أو الوزير الأول الذي يتكلم بلسان كل الشعب أو فمهم.

طلب أبيمالك إقامة ميثاق مع إبراهيم، فعاتبه الأخير بسبب اغتصاب عبيد أبيمالك بئر ماء لإبراهيم. في حكمة وباتساع قلب أخبره أبيمالك أنه لم يعلم عن البئر شيئًا.

قدم إبراهيم غنمًا وبقرًا لأبيمالك كهدية محبة عند قطع العهد، كما أفرز سبع نعاج وإذ سأل أبيمالك عن هذه النعاج قال له: "لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذه البئر" [٣٠]. فقد سميت ببئر سبع حتى أن كل من يسأل عن الاسم يقال أنها نسبه للسبع نعاج التي قدمها إبراهيم... ولازال اسمهما هكذا إلى اليوم. وإذ أراد تثبيت ملكيته غرس أشجار اتل هناك يستطل بظلالها ويقيم خيامه تحتها. "ودعا هناك باسم الرب الإله السرمدي" [٣٣]. "وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة" [٣٤].

نعرف عن إبراهيم سخاءه الشديد وشعوره بالغربة فلا يطلب أن يملك شيئًا، فلماذا عاتب أبيمالك في أمر البئر ؟ لماذا أصر على استلامها ؟ ولماذا دعيت بئر سبع، وغرس حولها أشجار الأتل؟

بلا شك تشير "البئر" إلى الكنيسة التي تفيض بمياه الروح القدس الذي يهبه السيد المسيح من عند الآب، لذا قدم إبراهيم النعاج السبع شهادة لاقتنائه البئر، وكأنه يبيع كل شيء ليقتني العضوية الكنسية وينهل من مياه الروح القدس. أما دعوتها ببئر سبع فتشير إلى عمل الروح القدس في الكنيسة خاصة في الأسرار السبعة. وغرس الأشجار حولها يشير إلى المؤمنين الذي يلتفون حول مياه الروح القدس وينعمون به فيهم (حز 48: 7). بهذا يتمجد الله السرمدي فيهم ويدعى اسمه عليهم، حتى إن تغرب المؤمنون مع إبراهيم في العالم أياما كثيرة.

لا نعرف كيف بدأت اللغة البشرية في حياة الإنسان.

<<

الأصحاح الثاني والعشرون

ذبح إسحق

إن كان نجم إبراهيم أب الآباء قد تلألأ في سماء الروح إنما من أجل إيمانه الذي رفعه فوق الأحداث، فكانت العطايا تزيده شكرًا لله دون تعلق بها، والضيقات تزكية أمام الكل... لقد عاش سنوات غربته سلسلة من النصرات غير المتقطعة. الآن إذ فرح مع امرأته سارة من أجل إسحق ابن الموعد اللذين قبلاه في شيخوختهما عطية إلهية فائقة. فقد طلبه الرب منه ذبيحة حب. وبقدر ما قست التجربة جدًا تمجد إبراهيم وإسحق ابنه، فصارا يمثلان صورة حية لعمل الله الخلاصي خلال ذبيحة الصليب وإعلان قيامة المسيا.

1. امتحان الله لإبراهيم               1-2

2. إسحق في الطريق                3-8

3. إقامة المذبح وتقديم الذبيحة       9-14

4. تجديد الوعد الإلهي                15-19

5. أولاد ناحور                       20-24

1. امتحان الله لإبراهيم:

إن كانت الكنيسة تعتز بيوم "الخميس الكبير" أو "خميس العهد" الذي فيه نذكر تقديم السيد المسيح ذبيحة العهد الجديد لتلاميذه قائمة على الصليب، لم تجد الكنيسة صورة أوضح من تقدمه إبراهيم إسحق ابنه محرقة للرب كصورة حية لعمل الصليب، حيث يقدم الآب ابنه فدية عن خلاص العالم، لهذا جاءت "قسمة قداس خميس العهد" منصبة على ذبح إسحق. وستبقى الأجيال كلها ترى في هذا العمل الإيماني مثلاً حيًا وفائقًا يكشف عن ذبيحة السيد المسيح.

يقول الكتاب: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم. فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، وإذهب  إلى أرض المريا واصعده هناك على أحد الجبال الذي أقول لك" [1-2].

امتحان الله لإبراهيم لا يعني عدم معرفة الله قلب إبراهيم، فإنه عارف بكل أسرارنا الداخلية، لكنه إنما سمح بالتجربة لكي يذكّيه أمام الكل ويعلن إيمانه التقوى الخفي، فيكون مثلا حيًا للآخرين. وكما يقول القديس أغسطينوس: [جُرب إبراهيم بتقديم ابنه الحبيب إسحق ليزكي طاعته الورعة، ويجعلها معلنة لا لله بل للعالم. ليست كل تجربة هي للومنا وإنما يمكن أن تكون لمدحنا[313]]. ويرى العلامة أوريجانوس أن هذه التجربة كشفت أعماق إبراهيم  وأفكاره الخفية من جهة إيمانه بالقيامة، إذ يقول: [بالروح عرف الرسول بولس - على ما أظن - عاطفة إبراهيم وأفكاره، معلنًا إياها بقوله: "بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مُجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل بإسحق يدعى لك نسل، إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات" (عب 11: 17). لقد سلمنا الرسول أفكار هذا الرجل المؤمن، إذ كانت أفكاره هكذا من جهة إسحق، وهذه هي أول مرة يظهر فيها الإيمان بالقيامة، فقد ترجى إبراهيم قيامة إسحق[314]]. هكذا كشفت التجربة عن قلب إبراهيم أب الآباء كإنسان يؤمن بالقيامة من الأموات.

إن كان إبراهيم قد دخل ليجرب أقسى تجربة يمكن أن يجتازها إنسان شيخ وهى تقديم الابن الوحيد المحبوب محرقة بيديه، فإن إبراهيم تمتع وسط التجربة برؤية ربنا يسوع المسيح قائمًا من الأموات خلال علامة معينة ملأت قلبه تهليلاً كقول الرب نفسه: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56). فإن كان بالإيمان انطلق بابنه نحو المذبح، فقد رجع من التجربة يحمل إسحق وكأنه قائم من الأموات، رمزًا للسيد المسيح الذبيح القائم من الأموات.

يبدأ الكتاب عرض التجربة بالقول: "وحدث بعد هذه الأمور" [١]، وكأن الله لم يسمح لإبراهيم بالتجربة إلاَّ بعد أن ظهر له في بلوطات ممرا وأكد له الوعد من جهة إسحق، وبعدما صنع ميثاقًا مع أبيمالك مظهرًا له كيف أعطاه مهابة ورهبة حتى أمام الملوك. بمعنى آخر أعده لها بطرق كثيرة، وكما يقول الرسول: "لكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كو 10: 13). هيأ قلبه وفكره وأعد كل حياته لقبول التجربة، كما رافقه أثناء التجربة أيضًا بطريقة خفية وكان سندًا له، وفي النهاية تجلى في حياته بطريقة أو أخرى. وهكذا مع كل تجربة يقوم الرب نفسه بمساندتنا قبل لتجربة وأثناءها وبعدها، حتى يحقق غايته فينا إن قبلنا عمله في حياتنا.

لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، مع أن الشريعة الموسوية فيما بعد حرمت الذبائح البشرية ؟

بلا شك كان الوثنيون يقدمون أبكارهم ذبائح لآلهتهم، وكانت هذه التقدمات لا تحمل حبًا من جانب مقدميها بقدر ما تكشف عن روح اليأس الذي يملأ قلوبهم، إذ كانوا يودون غفران خطاياهم بأي ثمن، كما كانوا يودون استرضاء آلهتهم المتعطشة إلى الدماء! لهذا فإن الله طالب إبراهيم خليله بهذه التقدمة ليعلن للوثنيين قلب إبراهيم المحب لله، إذ هو مستعد أن يقدم أثمن ما لديه، وفي نفس الوقت إذ قدم الله كبشًا عوض إسحق أعلن عدم قبوله الذبائح البشرية، ليس عن جفاف في محبة المؤمنين لله، وإنما في تقدير الله للإنسان، إذ لا يطلب سفك دمه وهلاكه! الله لا يطيق الذبائح البشرية، إذ هو محب للبشر، يشتهى حياتهم لا هلاكهم، مقدمًا ابنه الوحيد فديه عنهم، هذا الذي وإن صار إنسانًا لكنه وحده لا يقدر الموت أن يملك عليه ولا الفساد أن يقترب منه!

يقول القديس أغسطينوس: [لم يكن إبراهيم يؤمن قط بأن الله يقبل الذبائح البشرية ومع ذلك عندما دوى صوت الوصية الإلهية (بتقديم إسحق) أطاع بغير جدال. كان إبراهيم يستحق المديح إذ كان يؤمن تمامًا أنه إذ يقدم ابنه محرقة يقوم ثانية، كقول الرب له عندما كان إبراهيم غير راغب في تحقيق رغبة امرأته بطرد الجارية وابنها "بإسحق يدعى لك نسل" (21: 12)... لذلك إذ كان الأب متمسكًا بالوعد منذ البداية الذي يتحقق خلال هذا الابن الذي أمر الله بذبحه لم يشك قط أن ذاك الذي كان قبلاً لم يترج ولادته يمكن أن يقوم بعد تقديمه محرقه[315]]. بمعنى آخر أدرك إبراهيم الفارق بين تقديم ابنه ذبيحة وبين الذبائح البشرية التي كانت تقدم للأوثان. هو آمن بالله الذي وهبه إسحق بعدما كان رحم سارة مماتًا وحسب ولادته أشبه بقيامة  من الأموات فلا يصعب عليه أن يقيمه بعد تقدمته محرقة؛ أما الوثنيون فكانوا يقدمون أبكارهم استرضاءً لآلهتهم المحبة لسفك الدماء، يقدمونهم بلا رجاء!

أخيرًا طلب إليه أن يقدمه محرقة على أرض المريا في الموضع الذي يظهره له... ويرى البعض أن الجبل الذي أقام فيه إبراهيم المذبح ليقدم عليه ابنه هو بيدر أرونه اليبوسي (2 صم 24: 24،1 أي 21: 24)، أي في المكان الذي بُني عليه الهيكل حيث كانت الذبائح تقدم بلا انقطاع تنتظر مجيء الذبيحة الفريدة التي لحمل الله ربنا يسوع المسيح. وفي التقليد السامري أن أرض المريا في منطقة جبل جرزيم شمال أورشليم. ويقول الأب قيصريوس أسقف Arles أن جيروم الكاهن يؤكد خلال لقاءاته مع شيوخ اليهود أن السيد صُلب في ذات الموقع الذي فيه قُدم إسحق محرقة[316].

أما كلمة "مريا" فتعني (الرب راء أو معد)، حيث أعد الرب كبش المحرقة؛ وربما تعني (الرب معلم)... فقد علمنا عن الحب العملي خلال ذبيحة ابنه الوحيد!

2. إسحق في الطريق:

"فبكَّرَ إبراهيم صباحًا وشّد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه ومعه إسحق ابنه وشقق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله" [٣].

إذ سمع إبراهيم الأمر الإلهي مع ما بدا كمتناقض لمواعيده السابقة في طاعة قام لينفذ الأمر. انطلق للعمل "باكرًا" في الصباح دون تراخ من جانبه، وبغير جدال أو شك في مواعيد الله.

كان إبراهيم عجيبًا في طاعته كما كان ابنه أيضًا " الشاب " عجيبًا في استسلامه بين يدي أبيه... فقد أسرع إبراهيم للعمل حسب الأمر الإلهي وإسحق معه لا يعارضه في شيء.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على عدم استشارة إبراهيم لزوجته سارة في هذا الأمر، بقوله: [إبراهيم الذي كانت له زوجة عجيبة عندما أراد تقديم ابنه أخفي ذلك عنها، مع أنه لم يكن يعلم ماذا حدث، لكنه قد صمم أن يقدم ابنه... إن كان لنا شخص عزيز لدينا كعضو في العائلة ليتنا لا نظهر له أعمال محبتنا ما لم تحتم الضرورة[317]].

أما عن دور إسحق الإيجابي بطاعته لأبيه في الرب فيعلق عليه القديس أمبروسيوس، قائلاً: [خاف إسحق الرب إذ كان بالحق ابن إبراهيم، فخضع لأبيه حتى لم يرد أن يرفض الموت حتى لا يخالف إرادة أبيه، يوسف أيضًا مع أنه حلم بأن الشمس والقمر والكواكب تسجد له مع ذلك خضع لإرادة أبيه في طاعة كاملة (تك 37: 12)[318]].

هكذا إذ كان إبراهيم مطيعًا للرب بحب فائق بلا جدال وهبه إسحق مطيعًا له بحب حقيقي بلا جدال، وكأن الله كافأ إبراهيم في ابنه قبل أن يمتعه بالمكافأة الأبدية.

والعجيب في إبراهيم إنه شقق الحطب في الصباح الباكر قبل أن يخرج، حتى لا يوجد عائق يمنعه عن تحقيق أمر الرب له. هذا الحطب إن كان يشير إلى الصليب الذي يعلق عليه إسحق الحقيقي، فإذ شققه إبراهيم بيديه قبل خروجه إنما يرمز لإعلانات الآب عن الصليب خلال الرموز والنبوات في العهد القديم قبل أن يحمله السيد المسيح، ويرتفع هو عليه كمحرقة! لقد كشف الله عن سر الصليب بطرق متنوعة وإن كانت عيون الكثيرين قد انطمست عن معاينته.

"وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد" [٤].

سار إبراهيم لا يومًا ولا يومين بل ثلاثة أيام حتى رأى الموضع من بعيد، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [أن اليوم الثالث إنما يشير إلى قيامة السيد المسيح، وكأن إبراهيم قد دخل مع الرب في القبر وعاش معه آلامه حتى انبثق نور قيامته في فجر الأحد (اليوم الثالث) فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد. كانت عيناه قبلاً منخفضتين نسبيًا ومتذللتين، ربما حاربه العدو بسارة التي تركها الآن في الخيمة ولم يخبرها عن خروجه مع ابنه ليذبحه، ربما حاربه بابنه... لكن على أي الأحوال لم يتوقف إبراهيم عن السير في الطريق ثلاثة أيام، وكأنه ببني إسرائيل الذين طلب إليهم الرب أن يقدموا ذبيحة على مسيرة ثلاثة أيام (خر 5: 3)، إذ لا تقبل ذبيحة خارج دائرة قيامة ربنا يسوع المسيح. هكذا في اليوم الثالث رأى إبراهيم علامة القيامة بطريقة أو بأخرى فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد. ما هو هذا الموضع إلا السيد المسيح نفسه الذي فيه يرى إسحق ابنه قائمًا من الموت معه وبه أيضًا!

سبق لنا الحديث عن سرّ الأيام الثلاثة[319] التي خلالها ننعم لا بذبيحة إسحق بل ذبيحة السيد المسيح القائم من الأموات. ويرى القديس أكليمنضس الإسكندري أن هذه الأيام الثلاثة التي يليق بنا أن نجتازها لنعاين الموضع من بعيد إنما هي: التطلع إلى الأمور الصالحة، شهوات النفس الحسنة، أدرك النفس للأمور الروحية. وكأن النفس لا تقدر أن تعاين سر ذبيحة الصليب ما لم تتطلع إلى الصالحات وتشتهيها في أعماقها وتدركها، أما الذي يفتح العينين لمعاينة هذا السر فهو السيد المسيح نفسه، إذ يقول: [تنفتح عينا الفهم بواسطة المعلم الذي قام من الأموات[320]].

هكذا وسط التجربة وبين ضغطات الألم، وعند كثرة الهموم، امتلأت نفس إبراهيم تعزية انفتاح بصيرته الداخلية في اليوم الثالث لمعاينة سرّ المصلوب القائم من الأموات، فتهلل في داخله إذ رأى يوم الرب (يو 8: 56). تحول أتون التجربة إلى ندى سماوي بظهور السيد المسيح المصلوب القائم من الأموات أمام بصيرة إبراهيم أب الآباء.

"فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما" [٥].

يقول الأب قيصريوس: [الخادمان اللذان أمرهما إبراهيم بالبقاء مع الأتان يشيران إلى الشعب اليهودي الذي لم يسطع أن يصعد ويبلغ إلى موضع الذبيحة، إذ لم يريدوا الإيمان بالمسيح. الآتان تشير إلى المجمع اليهودي، والكبش الموثق في الغابة بقرينه يبدو أنه يرمز إلى الرب، لأن المسيح أوثق بين الأشواك بقرون إذ علق على خشبة الصليب وسُمر بالصليب[321]].

لقد شاهد الغلامان إسحق ورأيا الخشب يشققه إبراهيم لكنهما لم يستطيعا الانطلاق إلى حيث قُدم إسحق ذبيحة، وكأنهما بالشعب اليهودي الذي رأى السيد حسب الجسد ونظر الصليب لكنه لم يقدر إدراك قوة الصليب. وكما يقول الرسول بولس: "نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود عثرة ولليونانيين جهالة... لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 23، 25).

لقد جلس الغلامان مع الحمار ولم ينطلقا مع إبراهيم وإسحق لينظرا سرّ الله، وهكذا كل إنسان يرتبط بالفكر الترابي ويحيا لحساب بطنه وشهوات جسده يكون كمن يجلس مع الحمار، لا يقدر أن ينطلق لمعرفة أسرار الله الروحية التي ترفعه إلى السمويات.

"فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحق ابنه وأخذ بيده النار والسكين وذهب كلاهما معًا" [6].

كان إسحق شابًا، يرى البعض أن عمره حوالي 25 عامًا، لذا وضع إبراهيم الحطب عليه وذهب كلاهما معًا إلى الموضع الذي أظهره له الرب. وكما يقول الأب قيصريوس: [عندما حمل إسحق الخشب للمحرقة كان يرمز للمسيح ربنا الذي حمل خشبه الصليب إلى موضع  آلامه. هذا السر سبق فأعلنه الأنبياء، كالقول: "وتكون الرئاسة على كتفيه" (إش 9: 5، 6). فقد كانت رئاسة المسيح على كتفيه بحمله الصليب في اتضاع عجيب. إنه ليس بأمر غير لائق أن يعني بالرئاسة صليب المسيح، إذ به غلب الشيطان، ودعى العالم كله لمعرفة المسيح والتمتع بنعمته[322]]. ويقول القديس أغسطينوس: [حمل إسحق الخشب الذي يقدم عليه محرقة إلى موضع الذبيحة كما حمل المسيح صليبه[323]].

أما القول: "فذهب كلاهما معًا" فتشير إلى أن هذه الذبيحة هي ذبيحة إبراهيم كما هي ذبيحة إسحق. قدم إبراهيم ابنه الوحيد خلال الحب الفائق، وقدم الابن ذاته خلال الطاعة الكاملة، فحسبت الذبيحة لحساب الاثنين معًا. هكذا مع الفارق نقول أن ذبيحة السيد المسيح هي ذبيحة الآب الذي قدم ابنه فديه عنا. وهى ذبيحة الابن الذي أطاع حتى الموت موت الصليب... هذه ذبيحة الحب التي قدمها الآب في ابنه الوحيد الجنس، هذا ما أكده السيد المسيح نفسه بقوله: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16)، وأيضًا يقول الرسول بولس: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!" (رو 8: 32). وكما أن السيد المسيح في صلبه قدم ذبيحة الآب في ابنه، فإنه قدم أيضًا نفسه، إذ قيل: "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل 2: 20)، "كما أحبنا المسيح أيضًا وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أف 5: 2)، "كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها" (أف 5: 25).

إن كان القول: "وذهب كلاهما معًا " يشير إلى انطلاق الآب والابن إلى الصليب ليقدما ذبيحة الصليب، يقدمها الآب بإرادته المحبة للبشر، ويقدمها الابن المحب بطاعته العملية، فإن العبارة أيضا تشير إلى انطلاق الله والكنيسة معًا نحو الصليب، فالله يعلن حبه للإنسان بتقديم ابنه فديه عن البشرية، والكنيسة تعلن حبها للآب خلال رأسها المبذول، فيشتم الآب في ذبيحة الصليب رائحة سرور ورضا هذه ذبيحة الكنيسة التي تبذل حياتها أيضًا خلال اتحادها بالمسيح يسوع الباذل حياته!

إذ سار إسحق مع إبراهيم نحو المذبح، بدأ الابن يسأل أباه: "يا أبي... هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟!". وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في هذه اللحظة تتجسم في كلمة الابن (يا أبي) أقسى مواقف التجربة. تصوروا إلى أي درجة يستطيع صوت الابن الذي سيذبح أن يثير أحشاء أبيه؟! لكن إيمان إبراهيم الثابت لم يمنعه من الإجابة بكلمة رقيقة: "هأنذا يا ابني"!![324]].

في الإيمان بالقادر أن يقيم من الأموات قال إبراهيم: " الله يرى له الخروف يا ابني" [٨]. وقد رأى الآب الحمل الحقيقي، يسوع المسيح، الذي قدمه ليس فديه عن إسحق وحده بل عن العالم كله. في قوله: "الله يرى" يوضح إبراهيم ثقته الكاملة في خطه الله الخلاصية التي ليست من صنع إنسان لكنها بتدبير إلهي، الله وحده يراها، بطريقته الخاصة الفائقة.

3. إقامة المذبح وتقديم الذبيحة:

كل شيء قد أعد فقد بلغ إبراهيم الموضع الذي رسمه الله، والمذبح قد بنى، والحطب الذي حمله إسحق قد رتب، وربط إسحق بيدي أبيه ووضع على المذبح فوق الحطب، ومدّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه... كانت الأمور تسير في جو من الهدوء الداخلي، إبراهيم يؤمن بالله الذي لن يتخلى عن مواعيده، وإسحق في طاعته يمتثل للذبح ولم يبق إلاَّ لحظات ليُذبح الابن ويُقدم محرقة.

لقد حُسب إبراهيم أنه قدم ابنه إذ كان مسرعًا في العمل بلا خوف، وقبلت تقدمته حتى وإن لم تتحقق بطريقة حرفية، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [بحق قدم الأب ابنه، فإن الله لا يطلب الدم بل الطاعة اللائقة[325]].

وحُسب إسحق ابنًا للطاعة إذ قبل الصليب بإيمان، وكما يقول القديس جيروم: [إسحق في استعداده للموت حمل صليب الإنجيل قبل مجيء الإنجيل[326]].

وفي اللحظة الحاسمة وسط الهدوء الشديد إذ بملاك الرب ينادى إبراهيم: "إبراهيم إبراهيم"... "لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني" [11-12]. قول الرب "الآن علمت"، كما يقول القديس أغسطينوس: [لا تعني أن الله لم يكن له سابق علم بما في قلب إبراهيم، إنما أراد أن يعلن لإبراهيم نفسه أعماقه الداخلية [327] فصار إبراهيم مكشوفًا لنفسه كمحب لله، ومكشوفًا للأجيال كلها أن سرّ عظمة إبراهيم عدم تعلقه بالحياة الزمنية.

رأى إبراهيم كبشًا موثقًا بقرنيه في الغابة، واصعده محرقة عوضًا عن ابنه، وكأنه رمز للسيد المسيح الذي علق على خشبة الصليب وسُمر بذراعيه المفتوحين لأجل خلاص العالم.

دعي إبراهيم الموضع " يهوه يرأه " أي (الله يُرى)، هكذا ترأى الله لإبراهيم في موضع الذبيحة، إذ فيه تمت المصالحة بين الله والإنسان، وصار لنا حق رؤيته كأبناء لنا موضع في حضن الآب خلال الذبيحة يرفعنا الروح القدس وينطلق بنا إلى الأحضان الإلهية لننعم برؤية إلهية، لا على مستوى البصيرة الزمنية، إنما رؤية الاتحاد مع الله والتمتع بشركة أمجاده أبديًا. من هنا صار المذبح في كنيسة العهد الجديد يمثل السماء عينها... موضع لقاء الله مع الإنسان في الابن الذبيح.

4. تجديد الوعد الإلهي:

خلال الذبيحة تمتع إبراهيم برؤية الرب كما تمتع بتحديد الوعد بطريقة فاقت المرات السابقة:

أولاً: يرى العلامة أوريجانوس أن الوعود السابقة كانت بالأكثر تميل إلى تأكيد أبوة إبراهيم لأهل الختان وإن كانت لم تتجاهل أبوته الروحية لجميع المؤمنين من كل الأمم والشعوب، أما الوعد هنا فأبرز بالأكثر أبوته الروحية. إذ يقول: ["إذ كان يليق به أن يكون أبًا للذين هم من الإيمان" (غل 3: 9) ويدخل الميراث خلال آلام المسيح وقيامته... كان الوعد الأول يخص الشعب الأول حيث كان (الصوت الإلهي) في الأرض، إذ يقول الكتاب: "ثم أخرجه إلى خارج - خارج الخيمة - وقال له أنظر إلى السماء وعّد النجوم إن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك" (تك 15: 1). أما في تجديد العهد فيُظهر الكتاب أن الصوت جاء من السماء (22: 11). الأول جاء من الأرض والثاني من السماء. ألا يبدو في هذا وجود رمز لحديث الرسول: "الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15: 47)؟ الوعد الخاص بشعب الإيمان يأتي من السماء أما الخاص بالشعب الآخر (اليهودي) فمن الأرض[328]].

ثانيًا: إن كان الوعد الإلهي يشير بالأكثر لميراث الأرض فجاء الصوت من الأرض، والثاني يمس رجال العهد الجديد لميراث أبدى فجاء الصوت من السماء... فإن الأخير جاء مثبتًا بقسم إلهي، الأمر الذي أثار مشاعر الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (عب 6: 17).

ثالثًا: إن كان الله يجدد العهد معنا إنما لكي يعلن التزامنا نحن أيضًا بتحديد العهد معه كقول العلامة أوريجانوس[329]: [فالمؤمن إذ يدخل مع الله في ميثاق داخل مياه المعمودية، فيه يجحد إبليس وكل أعماله ويعلن قبوله لله وأعماله الخلاصية وعضويته الحقة للكنيسة وانتظاره الحياة الأبدية، يجدد هذا العهد يوميًا بالتوبة المستمرة، قائلاً في صلاة باكر: "لنبدأ بدءًا حسنًا "، حاسبًا كل صباح بداية جديدة لحياة أعمق مع الله مخلصه.

إذ جدد الله وعوده لإبراهيم رجع إلى غلاميه وذهب معهما إلى بئر سبع ليسكن هناك إن كانت بئر سبع كما رأينا تشير إلى مياه المعمودية وعمل الروح القدس خلالها وفيها، فإذ قدم إبراهيم الذبيحة وتمتع بالوعود الإلهية انطلق إلى غلاميه كما إلى جسده الخاضع له بطاقاته ومواهبه ليستقر كل أيامه عند مياه المعمودية، متذكرًا عمل البنوة الإلهية، ومتجاوبًا مع عمل الروح القدس. كأن المعمودية ليست طقسًا يمارس في بداية الطريق لينتهي وإنما هي حياة يعيشها المؤمن كل أيام تغربه، يدخل إلى المياه ليلتقي مع السيد المسيح المدفون القائم من الأموات فيحيا كل أيامه بالروح القدس ينعم بهذه الحياة، وكأنه يسكن في بئر سبع مع إبراهيم، أي في مياه المعمودية.

حين نُسبى بالخطية نجلس كما على أنهار بابل لنبكى متذكرين صهيون، تعجز ألسنتنا عن النطق بكلمات التسبيح والترنم بترنيمات صهيون (مز 137)، أما وقد قبلنا الإيمان بذبيحة إسحق الحقيقي وتمتعنا بالوعد الإلهي الجديد فنسكن في بئر سبع عند مياه المعمودية مع غلماننا نسبح الرب بالقلب كما باللسان.

لعل انطلاق الغلامين إلى بئر سبع مع إبراهيم وإسحق في نهاية المطاف يشير إلى عودة اليهود إلى الإيمان بالسيد المسيح الذي لم يستطيعوا قبلاً معاينة سرّ ذبيحته... فينطلقوا في آخر العصور إلى مياه المعمودية ويقبلوا من قد جحدوه.

5. أولاد ناحور:

ذكر الكتاب أولاد ناحور أخ إبراهيم من زوجته ملكة ليكشف عن قرابة رفقة لزوجها إسحق، والدها ابن أخ إبراهيم، أي هي ابنة ابن عمه، فإن كان الكتاب يهتم برجال الإيمان ونسبهم فهو يهتم بالمؤمنات ونسبهن ودورهن في تاريخ الخلاص.

<<

الأصحاح الثالث والعشرون

موت سارة

إن كانت سارة كزوجة تمثل الجسد في ارتباطه بالنفس، فإن سارة كرفيقة لرجلها في جهاده الروحي، لا تمثل ثقلاً يعطل نموه بل معينًا له تسنده كل أيام غربته، تنطلق معه من أور الكلدانيين لتعيش كغربية، وتشاركه استضافته الغرباء، تسمع له وتتجاوب معه، إنما تمثل الجسد الذي بتقديسه بالروح القدس لا يعوق النفس في انطلاقها نحو السماء بل يسندها خلال الممارسات الحية من صلاة وأصوام وتعبدات الخ.... الآن ماتت سارة ليدفنها إبراهيم رجلها على رجاء القيامة.

1. موت سارة              1-2

2. شراء مغارة المكفيلة    3-20

1. موت سارة:

رجع إبراهيم ومعه إسحق حيًا وكأنه قائم من الأموات. آمن إبراهيم بالقادر على الإقامة من الأموات فنال في ابنه تأكيد الوعد الإلهي بقسم أن يكون نسله كنجوم السماء... لكن كان لابد للموت أن يجتاز هذه العائلة المباركة فيقتنص جسد سارة إلى حين يبقى قلب إبراهيم ونسله متعلقًا بالرب القادر على إقامة النفس والجسد معًا.

مما يلفت نظرنا أن الكتاب المقدس اهتم بتحديد عمر سارة والحديث عن شراء قبر في أرض كنعان لدفنها... إذ يقول "وكانت حياة سارة مئة وسبعًا وعشرين سنة سني حياة سارة. وماتت سارة في قرية أربع التي هي حبرون في أرض كنعان، فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكى عليها" [1-2].

عاشت سارة 127 عامًا، كلها أعوام مثمرة في الرب، بدت في سنواتها التسعين الأولى عقيمة من جهة الإنجاب، لكن بالإيمان ظهرت أمًا للمؤمنين (إش 51: 2)، تشارك رجلها إبراهيم (أب المؤمنين) كل أيام جهاده، تحمل معه المشقات وتتقبل معه الوعود الإلهية... كما سلكت بروح الطاعة حتى طلب الرسول بطرس من المؤمنات أن يتمثلن بها: "كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها، التي صرتنَّ أولادها صانعات خيرًا وغير خائفات خوفًا البتة" (1 بط 3: 6).

يبدو أن إبراهيم كان متغيبًا عن خيمته في لحظات موتها، وإذ جاء وسمع بالخبر وقف أمامها يذكر عشرات السنوات التي عاشتها معه، وقد بقيت الوحيدة من أهله التي خرجت معه من أور الكلدانيين لتعيش متغربة حيثما حلّ. وقف أمام جثمانها لا ليسترجع ذكريات طويلة، إنما كان يتلامس مع شريكة حياته، وجزءًا لا يتجزأ من كيانه، فصار يندبها ويبكها. وهذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن إبراهيم الشيخ الوقور يندب ويبكى. فلم نسمع انه بكى أو حزن عند مفارقته أهله بأور الكلدانيين، ولا عند سبى لوط، ولا عن انطلاقه ثلاثة أيام ليذبح ابنه، لكنه يقف الآن أمام سارة يندبها ويبكها.

إن كان إيمان إبراهيم قد رفعه فوق الأحداث، فبالإيمان حارب الملوك لينقذ ابن أخيه لوط، وبالإيمان أخذ ابنه إسحق إلى أرض المريا ليذبحه... لكن هذا الإيمان لا يتعارض مع المشاعر الإنسانية الرقيقة التي فجرت ينابيع دموعه أمام جثمان سارة! الإيمان لا يجردنا من الاحساسات، بل يقدسها وينميها في الرب. هذا ما نراه في أبينا إبراهيم رجل الإيمان، وما نلمسه في التلاميذ والرسل، بل وفي السيد المسيح نفسه الذي لم يحتمل دموع مريم ومرثا على أخيهما لعازر فبكى (يو 11: 35) حتى قال اليهود: "انظروا كيف كان يحبه؟!" (يو 11: 36). وقد جاءت رسائل معلمنا بولس الرسول مشحونة بالمشاعر الإنسانية المقدسة، فنراه يذكر دومًا منظر تلميذه تيموثاوس وهو يبكى عند فراق الرسول أو عند سجنه (2 تي 1: 3، 4).

2. شراء مغارة المكفيلة:

في هذه اللحظات المرة التي فيها تفجرت ينابيع دموع إبراهيم تعلن مشاعره من نحو زوجته سارة سلك إبراهيم بحكمه وإيمان، فنلاحظ في تصرفاته الآتي:

أولاً: لم يفكر إبراهيم في دفن زوجته بجوار أسلافه، فإن كان بالإيمان قد خرج مع سارة من أور الكلدانيين، بقى سالكًا بالإيمان حتى النفس الأخير، فلم يدفن زوجته هناك بل اقتنى مغارة في كنعان لتدفن سارة ويدفن هو وإسحق ورفقة ويعقوب وليئة.

ثانيًا: يقول الكتاب: "وقام إبراهيم من أمام ميته وكلم بنى حثِ، قائلاً: أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي. فأجاب بنو حث إبراهيم، قائلين له: اسمعنا يا سيدي أنت رئيس من الله بيننا، في أفضل قبورنا ادفن ميتك... فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبنى حث..." [3-7].

يبرز الكتاب المقدس اتضاع إبراهيم النابع عن شعوره بالتغرب...، فبينما يتطلع إليه بنو حث كسيد ورئيس (أمير) من الله بينهم، إذ به يدعو نفسه غريبًا ونزيلاً عندهم، لا يحتمل حبهم وكرمهم فيسجد أمامهم علامة الشعور بالجميل. حقًا إن أولاد الله ظاهرون لا بحب السلطة والاعتداد بالذات إنما بروح الحب والوداعة والاتضاع. بهذا يتحقق القول: "لا يمكن أن تخفي مدينة قائمة على جبل" (مت 5: 14)، لا جبل التشامخ بل جبل الله، القائمة والمؤسسة على السيد المسيح نفسه واهب الاتضاع!

عاش إبراهيم سنوات طويلة بين قبيلة بنى حث، وهى من نسل حث بن كنعان (تك 10: 15) التي أسست دولة الحثيين، وقد حسبوه رئيسًا عليهم من قبل الرب لا بإقامته ملكًا أو تسلمه مركزًا قياديًا مرموقًا وإنما خلال إدراكهم بالخضوع له من أجل ما تمتع به من شركة مع الله. أما هو فكان يشعر بالغربة في أعماق قلبه، الأمر الذي تكشف في لحظات موت سارة. بهذه الروح عاش أولاد إبراهيم الحقيقيون، فقال داود النبي في أيامه الأخيرة إذ أعدّ كل شيء لابنه سليمان لبناء الهيكل: "من أنا ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا، لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك، لأننا نحن غرباء أمامك، نزلاء مثل كل آبائنا، أيامنا كالظل على الأرض وليس رجاء" (1 أى 29: 14، 15). ويلخص الرسول بولس حياة رجال الإيمان، أولاد إبراهيم، قائلاً: "في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروا وصدقوها وحيوّها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض" (عب 11: 13).

ثالثًا: تأثر بنو حث جدًا بالشيخ الذي فقد زوجته، فأعلنوا حبهم له وتكريمهم إياه، واشتياقهم أن يقدموا له أفضل مدفن لهم ليكون بين يديه، أما هو فلم يستغل هذا الحب بل في نقاوة قلب سألهم أن يقبل صاحب المغارة الثمن. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [مع أن سكان هذا الموضع دعوه رئيسًا إلا أنه وضع في نفسه أن يدفع ثمن القبر[330]].

ليت كل خادم للرب وكل راعٍ في الكنيسة إذ يرى الشعب يشتاق أن يقدم حبًا، لا يستغل هذه المحبة، إنما في نقاوة قلب يسلك بروح عفيفة لا تشتهي شيئًا!

رابعًا: يبرز القديس إيرنييؤس الفكر الإيماني الذي عاشه أبونا إبراهيم وأعلنه بقوة برفضه استلام المقبرة كهبة مجانية من يدي إنسان، منتظرًا بصبر أن يتقبل نسله الأرض كلها - أرض الموعد - من يدي الله، إذ يقول: [هكذا إذن فإن وعد الله لإبراهيم قد بقى ثابتًا، إذ قال له: "ارفع عينيك وأنظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" (تك 13: 14، 15). وأيضًا قال: "قم امشِ في الأرض طولها وعرضها، لأني لك أعطيها" (تك 13: 17). ومع ذلك "لم يعطه فيها ميراثًا ولا وطأة قدم" (أع 7: 5)، بل ظل غريبًا ونزيلاً هناك على الدوام. وعند موت سارة زوجته لما أراد الحثيون أن يمنحوه موضعًا ليدفنها فيه رفض أن يأخذه كهبة بل اشترى بأربعمائة شاقل فضة مقبرة من عفرون بن صوحر الحثي. وهكذا فقد انتظر بصبر تحقيق وعد الله ولم يقبل أن يظهر كمن يتقبل من الناس شيئًا وعده الله أن يهبه إياه، عندما قال له أيضًا: "لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (تك 15: 18). فإن كان الله قد وعده بأن يرث الأرض، ولكنه لم ينلها طوال أيام رحلته، فلابد أن ينالها في قيامة الأبرار هو ونسله معًا، أي خائفوا الله والمؤمنون به. نسله هذا هو الكنيسة التي تمتعت بالنبوة لله في الرب، كقول يوحنا المعمدان: "الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9). هكذا أيضًا يقول الرسول في الرسالة إلى أهل غلاطية: "وأما نحن أيها الأخوة فنظير إسحق أولاد الموعد" (غل 4: 28). وفي نفس الرسالة يعلن بوضوح أن الذين آمنوا بالمسيح يقبلون المسيح بكونه الوعد الذي أُعطى لإبراهيم، إذ يقول: "وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله؛ لا يقول في الإنسان كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد في نسلك الذي هو المسيح" (غلا 3: 16)... هكذا إذن الذين هم من الإيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن، وهم أولاد إبراهيم[331]].

خامسًا: يرى القديس باسيليوس الكبير أن إبراهيم كرجل إيمان لم يقتن شيئًا، إنما اقتنى في كل حياته مقبرة يُدفن فيها مع زوجته وأولاده... وكأنه يعلن أنه لا يطلب من الأرض إلا ما يدفن فيه الجسد على انتظار القيامة من الأموات!

سادسًا: اشترى إبراهيم المغارة التي يُدفن فيها مع زوجته وأولاده بالفضة، فإن كانت الفضة تشير إلى كلمة الله (مز 12: 6)، فانه مُصرّ ألا تكون له ملكية في العالم سوى الموضع الذي يقتنى بكلمة الله.

أخيرًا فإن مغارة المكفيلة أي الكهف (المزدوج) إنما هي مغارة تضم مغارتين معًا، إحداهما داخلية والأخرى خارجية، في مدينة الخليل. كانت ملكًا لعفرون ( أي شبيه بالآيل) بن صوحر (بياض أو لماّع)، ويبدو أن إبراهيم لم يكن يعرفه حين أراد شراء المغارة كما يظهر من سياق الحديث بين إبراهيم وبنى حث [١٣]، أما عفرون فكان يعرف إبراهيم تمامًا وقد اشتاق أن يقدمها هدية مجانية له [١١]. بل ويهبه أيضًا الحقل المجاور للمغارة.

<<

الأصحاح الرابع والعشرون

زواج اسحق

حمل تتابع الأحداث صورة رمزية لأحداث الخلاص، فإن كان ذبح إسحق بكر سارة يشير إلى صليب المسيح وقيامته، فإن موت أمه سارة يحمل من جانب رفض الأمة اليهودية التي أنجبت السيد المسيح حسب الجسد ولم تقبل الإيمان به، أما إرسال كبير بيت إبراهيم لإحضار رفقة زوجة لإسحق من مدينة ناحور بحاران فيشير إلى عمل الروح القدس الذي اجتذب الأمم من أرضهم الشريرة - عباد الأوثان - ليقيمها عروسًا لإسحق الحقيقي ربنا يسوع المسيح عوض سارة.

1. إرسالية كبير بيت إبراهيم                   1-9

2. في مدينة ناحور                            10-14

3. لقاء مع رفقة                              15-27

4. في بيت رفقة                               28-49

5. نجاح مهمة كبير بيت إبراهيم               50-60

6. رفقة زوجة إسحق                         61-67

1. إرسالية كبير بيت إبراهيم:

ماتت سارة وعمرها 127 عامًا، أما إبراهيم فكان قد بلغ 137 عامًا... ويبدو أنه بعد ثلاث سنوات من موت سارة استدعى إبراهيم عبده كبير بيته مدبر كل أمواله وسأله أو يضع يده تحت فخده ليحلف بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا يأخذ زوجة لابنه من نبات الكنعانيين الذين يسكن في وسطهم بل يذهب إلى عشيرته في منطقة ما بين النهرين (الميصة) ويأتي إليه بزوجة من عشيرته. سأله الرجل وإن رفضت المرأة أن تتبعه إلى هذه الأرض (كنعان) فهل يرجع بابنه إلى حيث عشيرته، فأجاب إبراهيم معلنًا إيمانه بالله الذي وعده بالأرض أنه يرسل ملاكه ليعد لابنه الزوجة، محذرًا الرجل من الرجوع بابنه إلى الأرض التي خرج منها إبراهيم.

ماذا يعني وضع اليد تحت فخذ إبراهيم ؟ يقول القديس أغسطينوس: [إنها تشير القسم بالمتجسد من نسله[332]]. وكأن إبراهيم قد تحدث بروح النبوة معلنًا أن الرب إله السماء وإله الأرض إنما يحمل جسدًا من صلبه.

خرج إبراهيم من أور الكلدانيين، من وسط عشيرته، ووضع في قلبه خلال طاعته للدعوة الإلهية ألا يرجع ثانية ولا يدفن فيها زوجته أو يرد إليها ابنه ليتزوج. حقًا لقد طلب أن يتزوج ابنه من عشيرته حتى لا يرتبط بكنعانية تسحب قلبه عن محبة الله وتشوه أفكاره وتفسدها، لكنه في إصرار رفض أن يذهب ابنه إلى هناك، مؤمنًا بأن الله الذي دعاه هو يرسل لابنه الزوجة التي تعينه في طريق الرب كما كانت سارة معينة له.

لم يهتم إبراهيم في اختيار زوجة لابنه أن تكون غنية أو جميلة إنما كان هدفه الأول أن تكون مقدسة ومؤمنة تعين ابنه في حياته الروحية ولا تكون عائقًا له في الطريق... لذلك أعطى الرب إسحق رفقة، امرأة جميلة المنظر والروح، كانت سرّ تعزية وفرح له كل أيام غربته.

2. في مدينة ناحور:

مدينة ناحور قريبة من حاران في شمال غربي الميصة. (ما بين النهرين)، عرفت في الوثائق الأشورية ووثائق مارى. لعل الاسم قد أخذ من ناحور جد إبراهيم (تك 11: 22-25) أو من أخيه جد رفقة (تك 11: 27-31)، أو من اسم القبيلة ككل. هذا وان ناحور يظهر كسلف لعدد من القبائل الآرامية (تك 22: 20-24) [333].

يقول الكتاب: "ثم أخذ العبد عشرة جمال من جمال مولاه ومضى وجميع خيرات مولاه في يده، فقام وذهب إلى آرام النهرين إلى مدينة ناحور، وأناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء وقت المساء وقت خروج المستقيات، وقال: أيها الرب إله سيدي إبراهيم يسر ليَّ اليوم واصنع لطفًا إلى سيدي إبراهيم..." [10-12].

إن كان رئيس بيت إبراهيم يشير إلى الروح القدس الذي أرسله الابن وحيد الجنس من عند الآب، فقد جاءنا إلى حياتنا كما إلى مدينة ناحور لينطلق بنا من أرضنا على جمال سيدنا إلى أرضه، أي يحملنا إلى سمواته لنوجد مع العريس السماوي إلى الأبد.

إن كان رقم 10 يشير إلى الوصايا العشر، فإن الروح القدس يعمل فينا ليحملنا خلال الوصية الإلهية الروحية، مقدمًا لنا خلال "جميع الخيرات" أي غنى الروح وسلام العقل وشبع النفس حتى نقبل الروح فينا، منطلقًا بنا من مجدً إلى مجدً.

ربما رقم 10 أيضًا يشير إلى حياتنا الزمنية كما أن رقم 1000 يشير إلى حياتنا السماوية، فالروح القدس وهو منطلق بنا إلى أرض الموعد، أورشليم العليا، يقدم لنا في حياتنا الزمنية من الخيرات الأبدية ما نقدر أن نقبله وننعم به هنا كعربون للتمتع بالخيرات الأبدية في كمالها. إننا ننعم بنصيب من المهر لا بالمهر كله، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ أقام المسيح معنا عقدًا (زواجيًا) عين لي مهرًا، لا من المال بل بالدم، هذا المهر هو عربون الصالحات: "ما لم تره عين ولم تسمع به أُذن ولم يخطر على بال إنسان" (1 كو 2: 9). عين لي الأمور التالية مهرًا: الخلود، تسبيح الملائكة، الخلاص من الموت، التحرر من الخطية، ميراث الملكوت العظيم، البر، التقديس، الخلاص من الشرور الحاضرة، اكتشاف البركات المقبلة. عظيم هو مهري!... جاء وأخذني، وعين لي مهري،  قائلاً: أعطيك غناي. هل فقدت الفردوس؟ أرده لك... ومع هذا لم يعطني المهر كله هنا: لماذا ؟ لكي أعطيه لك عندما تدخل الوضع الملوكي. هل أنت أتيت إليَّ؟ لا، بل أنا الذي جئت إليك.... لا لكي تمكث في موضعك، إنما آخذك معي، وأرجع بك. فلا تطلب منى المهر وأنت هنا في هذه الحياة، بل كن مملوءًا رجاءً وإيمانًا![334]].

يأتينا الروح القدس كما على عشرة جمال لكي يقدم للكنيسة من غنى الله ويسحبها على الدوام نحو السماء لتنعم بكمال المجد. والعجيب أن الرجل جاء إلى بئر الماء وقت المساء ليطلب لإسحق عروسًا. ما هذا البئر إلاَّ مياه المعمودية التي فيها يلتقي السيد المسيح بكنيسة كعروس له. وكما يقول الآب قيصريوس أسقف Arles: [لو أن الكنيسة لم تأت إلى مياه المعمودية لما ارتبطت بالمسيح[335]]. كما يقول: [انظروا أيها الاخوة خادم إسحق، فقد وجد رفقة عند البئر وبدورها وجدت رفقة إسحق عند البئر [٦٢]. فالمسيح لا يجد الكنيسة ولا الكنيسة تجد المسيح إلاَّ بسر المعمودية [336]].

ويرى العلامة أوريجانوس في البئر إشارة إلى الكتاب المقدس الذي فيه تلتقي النفس بعريسها، إذ يقول: [كانت رفقة تذهب إلى البئر كل يوم لتستقى ماءً فالتفت مع خادم إبراهيم وتزوجت باسحق... تعلموا أن تأتوا إلى بئر الكتاب كل يوم لتستقوا مياه الروح القدس بلا انقطاع[337] كما يقول: [أتريدون أن تخطبوا للمسيح؟ إنه يرسل لكم الخادم، أي الكلام الموحيّ به الذي بدونه لا تقدرون أن تنالوه ولا أن تتزوجوا به[338]].

نعود إلى كبير بيت إبراهيم فنراه كسيده يثق في الله كمدبر لكل الأمور، لهذا عندما بلغ البئر بدأ يصلى مسلمًا الأمر بين يدي الله، وبعد الاختيار نجده يقدم الشكر لله الذي أنجح طريقة [٤٨]. هذا الرجل كما قلت يشير إلى الروح القدس الذي حلّ على الكنيسة في ملء الأزمنة ليقدسها عروسًا مقدسة للسيد المسيح، وإن كان البعض يرى في هذا الرجل رمزًا للرسل الذين جاءوا يكرزون بين الأمم لتقديمهم عروسًا للرب بالروح القدس العامل فيهم.

3. لقاء مع رفقة:

ما أن فرغ كبير بيت إبراهيم من حديثة الإيماني مع الله حتى وجدت الاستجابة الفورية، فقد ظهرت رفقة حفيدة ناحور أخي إبراهيم عند الماء جاءت لتستقى، وقد امتازت بجانب جمالها الجسدي بلطفها في الحديث ومروءتها، فإذ طلب الرجل أن تسقيه ماء من جرتها حتى أسرعت وأنزلت جرتها على يدها لتسقيه وتطلب منه أن تسقى جماله دون أن يطلب منها. لقد رأت عليه علامات الإرهاق، فاشتاقت أن تخدمه لتمارس حبها لاستضافة الغرباء. خلال هذا الروح المملوء حبًا انطلقت رفقة من فتاة تعيش في بلد وثنى لتصير زوجة اسحق وأما ليعقوب أب جميع الأسباط. بالحب والوداعة ارتفعت رفقة وتمتعت بما لم يخطر على بالها ولا كان يمثل شيئًا من أحلامها.

إذ كان الرجل يتأمل عمل الله صار "يتفرس فيها صامتًا ليعلم أ أنجح الرب طريقة أم لا؟!" [٢١]. وإذ أدرك العمل الإلهي "أخذ خزامة ذهب وزنها نصف شاقل وسوارين على يديها وزنها عشرة شواقل ذهب" [٢٢].

يرى البعض أن كلمة "رفقة" مشتقة من الفعل العبري الذي يعني (ربك)، وربما يعني تقيد مرتبكًا بالجمال [339]، ويرى القديس أكليمنضس الإسكندري إنها تعني (مجد الله)[340]. وهى ابنة "بتوئيل" الذي يعني (رجل الله)، وأمها "مِلكة" التي تعني (ملكة) أو (مشورة). بمعنى آخر أن رفقة وهى تمثل كنيسة السيد المسيح وعروسه، إنما تحمل فيها "مجد الله" وتتمتع بجمال فائق يربك ناظريها، أما سر جمالها فإن والدها هو رجل الله ووالدتها المشورة المقدسة. وقد ظهر جمالها بحق حينما تقلبت عطايا عريسها الخزامة الذهبية في أُذنيها والسوارين الذهبيين في يديها.

إن كان الذهب يشير إلى السمة الروحية أو الطبيعة السماوية، فإن الكنيسة إذ تتقبل عمل الله خلال خدامه تصير أُذناها سماويتين وأيضًا يداها فلا تسمع إلاَّ لما هو إلهي ولا تعمل إلاَّ لحساب مملكة السموات.

يقول الأب قيصريوس: [الخزامة الذهبية تشير إلى الكلمات الإلهية، والسواران الذهبيان يشيران إلى الأعمال الصالحة، إذ يشار للأعمال باليدين. لنرى أية الإخوة كيف قدم المسيح هذه العطايا للكنيسة؟! [341]].

ويقول العلامة أوريجانوس: [لا تجد رفقة جمالها إلاَّ إذا جاء خادم إبراهيم ليزينها. فيداها لا تتزينان إلا بما يبعثه إليها إسحق. إنها تود أن تتمتع في أُذنيها بالكلام الذهبي وفي يديها بالأعمال الذهبية. لكنها ما كانت تستطيع أن تتمتع بهذه الأمور ولا أن تتأهل لها ما لم تأتِ لتستقى ماءً من البئر. يا من لا تريدون أن تأتوا إلى الماء ولا أن تضعوا في آذانكم كلمات الأنبياء الذهبية، كيف تقدرون أن تحملوا زينة التعاليم وجمال الحياة؟![342]].

إذ سألها الرجل إن كان في بيت أبيها مكان لهم ليبيتوا، فأجابته: "عندنا تبن وعلف كثير ومكان لتبيتوا أيضًا" [25]، "فحرَّ الرجل وسجد للرب" [٢٦]. ليس شيء يمجد الله في حياتنا مثل اتساع القلب للناس، فيجدون فيه طعامًا لهم ولجمالهم وموضعًا يستريحون فيه. لنقل للعالم كله: "عندنا تبن كثير وعلف وكثير ومكان لتبيتوا أيضًا". لسنا نطلب من العالم شيئًا، إنما نود أن نعطى شبعًا وراحة للجميع. ما فعلته رفقة كممثلة لكنيسة العهد الجديد مارسه الرسول بولس كعضو فيها، إذ يقول: "فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون، قلبنا متسع" (2 كو 6: 11).

4. في بيت رفقة:

إذ رأى لابان أخته رفقة وقد تزينت بالخزامة والسوارين وقد أخبرته بكل ما حدث أسرع إلى الرجل يقول له: "أدخل يا مبارك الرب، لماذا تقف خارجًا وأنا قد هيأت البيت ومكانًا للجمال؟!" [٣١]... وإذ دخل الرجل وحلّ عن الجمال وقدم له طعامًا للجمال وماء لغسل رجليه وأرجل الذين معه ووضع قدامه ليأكل، قال "لا آكل حتى أتكلم كلامي" [٣٣]. وبدأ الرجل يروى لأهل رفقة عن عظمة سيده إبراهيم وعن ابن شيخوخته الذي من سارة والوصية التي قدمها له إبراهيم من جهة زواج ابنه إسحق؛ وعمل الله معه حين جاء عند البئر والتقى برفقة، وختم حديثه بقوله: "والآن إن كنتم تصنعون معروفًا وأمانة إلى سيدي فأخبروني، وإلاَّ فأخبروني لأنصرف يمينًا أو شمالاً " [٤٩].

هنا نقف في دهشة أمام عمل الله العجيب، فانه ليس فقط رفقة قد اتسمت باللطف والكرم في العطاء، وإنما حمل أخوها لابان ذات السمتين! كان لطيفًا كل اللطف، سخيًا كل السخاء! يدعو خادم إبراهيم "مبارك الرب"، ويصر ألا يتركه خارجًا مقدمًا له موضعًا في قلبه بيته! وكأن الله كان يهيئ هذا الجو الروحي العجيب وسط بلد وثني مملوء بالرجاسات والجحود، كان الله يهيئ من أجل إبراهيم أب الآباء ليستريح قلبه من جهة ابنه إسحق؛ أو كان الله يعد رفقة كزوجة روحية لإسحق تتأهل للأمومة لكل شعب الله! وسط ظلام المدينة الحالك بل ظلمة المنطقة كلها كان الله يعد فتاه تقوم بدور على مستوى فائق!

إن كنا ندهش من تصرفات رفقة وعائلاتها فلن نتجاهل دور رئيس بيت إبراهيم، فقد رأى بعينيه كيف أنجح الله طريقة عند البئر، والآن إذ يدخل البيت يخشى لئلا تلهيه المجاملات مهما كان باعثها عن رسالته، لهذا أصر ألا يأكل حتى يعرض عليهم أعمال الله ويأخذ منهم كلمة من جهة رفقة وإلاَّ يصرفوه فيذهب يمينًا أو يسارًا. أنه كرمز لروح القدس الذي يعمل في العالم لجلب كنيسة السيد المسيح وعروسه، يعمل دومًا بهدف إلهي واضح... أو بكونه رمزًا للرسل والتلاميذ الكارزين بالروح القدس للدخول بكل نفس إلى العضوية في جسد المسيح، عروسه المقدسة، لا ينشغلون بالمجاملات البشرية بل يطلبون تحقيق غاية الرب فيهم. لهذا السبب أوصاهم السيد المسيح، قائلاً: "لا تنتقلوا من بيت إلى بيت" (لو 10: 7) "لا تسلموا على أحد في الطريق" (لو 10: 4).

5. نجاح مهمة كبير بيت إبراهيم:

مع كل خطوه يشعر فيها الرجل بنجاح يسجد للرب إلى الأرض [٥٢] مقدمًا ذبيحة شكر لله الذي يرتب الأمر بيديه.

أدرك الكل أن الأمر قد صدر من قبل الرب [٥٠]، وقدم العبد آنية فضة وآنية ذهب وثيابًا أعطاها لرفقة [٥٣]، وأعطى تحفًا لأخيها ولأمها... ومع ذلك عندما بدأ الموكب يتحرك قالوا: "ندعو الفتاه ونسألها شفاها، فدعوا رفقة وقالوا لها: هل تذهبين مع هذا الرجل، فقالت أذهب" [57-58]، فقد آمنوا بحرية الاختيار، ليس من يلزم فتى أو فتاه على الزواج بشخص معين مهما كانت الظروف! إن كان الله يكرم الإنسان ويقدس حرية إرادته، فيليق بنا أن نؤمن بحرية أولادنا وإخواتنا فلا نلزمهم بشيء إنما نشير عليهم ونسندهم بغير إجبار.

في كمال الحرية قالت: "أذهب"... لقد قبلت العمل الإلهي وخرجت من بين أهلها وبيت أبيها لتسمعهم يباركونها: "أنتِ إختنا، صيري ألوف ربوات، وليرث نسلكِ باب مبغضيه" [٦٠]. طلبوا من الله النمو والإثمار فيكون نسلها ألوفًا ألوفًا وربوات ربوات، كما طلبوا لنسلها القوة فلا يحطمهم عدو " ليرث نسلكِ باب مبغضيه".

انطلقت رفقة مع مرضعتها المحبوبة لديها جدًا، التي تدعى دبورة (35: 8)، إذ قد ترتب على يديها لتعيش كالنحلة (دبورة) النشيطة التي تجمع رحيق التعاليم المقدسة من كل سفر فيحوله الله في أعماقها عسل شهد يشبع حياتها ويهبها عذوبة.

6. رفقة زوجة إسحق:

انطلقت رفقة نحو عريسها إسحق بعد أن تركت عشيرتها وبيت أبيها، وكأنها بكنيسة العهد الجديد التي تركت ما ورثته قبلاً عن العالم الوثني لتتقبل السيد المسيح عريسًا لها. وكما التقى العبد بها عند البئر، خرج إسحق إليها ليلتقي بها عند بئر لحيْ رئي، كما في مياه المعمودية.

خرج إسحق عند إقبال المساء يتأمل في الحقل [٦٣]، وكما يرى بعض علماء اليهود أنها كانت عادة بعض اليهود يخرجون عند الغروب ليصلوا لله في مكان طلق يتأملون أعمال الله معهم كل اليوم، وهي عادة لا تزال قائمة بين كثير من رهبان مصر.

كان إسحق يمثل السيد المسيح الذي ترك أمجاده وانطلق إلى الحقل خلال التجسد ليتقبل رفقة المتواضعة التي تراه فتنزل هي بدورها عن الجمل ليلتقيا معًا بعد أن تغطت ببرقع الوداعة والحياء... وهكذا دخل بها إسحق إلى خباء أمه سارة، فصارت له زوجة وأحبها، فتعزى إسحق بعد موت أمه [٦٧].

يعلق الأب قيصريوس على هذا التصرف، قائلاً: [أخذ إسحق رفقة وادخلها إلى خباء أمه، والمسيح أخذ الكنيسة وأقامها عوض المجمع. خلال الجحود انفصل المجمع عن الله ومات، وبالإيمان ارتبطت الكنيسة بالمسيح وقبلت الحياة. وكما يقول الرسول إنه بالكبرياء نزعت أغصان الزيتونة (رو 11: 17) لكي تطعم الزيتونة البرية المتواضعة. لذلك قيل: "أخذ رفقة وأحبها، فتعزى إسحق بعد موت أمه". أخذ المسيح الكنيسة وأحبها جدًا حتى بحبه لها تعزى عن حزنه بسبب موت أمه أي المجمع. جحود المجمع أحزن المسيح وإيمان الكنيسة أبهجه![343]].

<<

الأصحاح الخامس والعشرون

عبور إبراهيم

في هذا الأصحاح يسجل لنا الوحيّ الإلهي عبور إبراهيم عن هذا العالم بعدما تزوج قطورة وانجب أبناءً كثيرين لكنه وإن قدم عطايا لكل ابن من أبنائه وهب الميراث كله لابنه إسحق، سلمه رجاءه في الخلاص وتمتعه بالميثاق الإلهي،  ليسلم إسحق بدوره ذات الميراث لابنه يعقوب.

1. زواج إبراهيم بقطورة             1-6

2. إبراهيم يسلم الروح               7-11

3. مواليد إسماعيل                   12-18

4. ميلاد عيسو ويعقوب              19-26

5. يعقوب يشترى البكورية           27-34

1. زواج إبراهيم بقطورة:

تزوج إبراهيم بقطورة بعد موت امرأته سارة وأنجب أبناءً صاروا رؤساء أمم، لكنهم لم ينالوا ما ناله إسحق، إذ يقول الكتاب: "وأعطى إبراهيم إسحق كل ما كان له، وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحق ابنه شرقًا إلى أرض المشرق وهو بعد حيّ" [٦]. لم يترك إبراهيم أولاده من السراري بلا عطايا، لكنه صرفهم عن ابنه إسحق الذي تمتع بكل ما كان لأبيه: أعطاه إيمانه الحيّ وسلمه المواعيد وبعث فيه روح الرجاء بالخلاص الإلهي الخ... هذا هو التقليد (التسليم) الكنسي الذي ننعم به كميراث حيّ نعيشه.

مات إبراهيم لكنه لم يخسر ما قد جمعه في الرب إذ أودعه في قلب ابنه إسحق ليحمل ذات فكرة ويكون له ذات الإيمان العملي في الرب. بهذا وإن مات إبراهيم بالجسد لكنه يتهلل من أجل ما ناله ابنه.

ليتنا لا نكون كأبناء السراري نطلب من أبينا عطايا مادية إنما لنكن كإسحق ابن الموعد ننعم بكل ما في قلب أبينا، فنعيش أيامنا على الأرض كأولاد الله حاملين الغنى الروحيّ الذي لا يستطيع أحد أن يسلبه منا.

نعود إلى "قطورة" التي تزوجها إبراهيم في شيخوخته؛ فإن كلمة "قطورة" في رأى العلامة أوريجانوس[344]  تعني (رائحة ذكية)، وان إبراهيم يرمز للمؤمن وقد انطفأ جسده وكأنه يمارس إماتة الأعضاء (كو 3: 5)، أي تموت شهوات الجسد لينطلق الجسد مقدسًا في الرب حاملاً رائحة المسيح الذكية، فنقول: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة، ومن هو كفء لهذه الأمور؟!" (2 كو 2: 15، 16).

يرى البعض في زواج إبراهيم من قطورة التي تعني (رائحة ذكية) بعد موت سارة نبوة إلى كنيسة العهد الجديد الحاملة لرائحة المسيح الذكية بعدما فقد اليهود (سارة) حياتهم برفضهم للإيمان بالسيد المسيح مخلص العالم.

2. إبراهيم يُسلمَ الروح:

"وهذه أيام سني حياة إبراهيم التي عاشها: مائه وخمس وسبعون سنة، وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخًا وشبعان أيامًا وانضم إلى قومه" [7-8].

إن كان إبراهيم قد مات لكنه حيّ بالله، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [بالنسبة لموضوع موت إبراهيم نضيف ما حواه الإنجيل من كلمات الرب: "وأما من جهة الأموات أنهم يقومون، أفما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلاً: أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب؟! ليس هو إله أموات بل إله أحياء (مر 12: 26)، "لأن الجميع عنده أحياء" (لو 20: 37). إننا نشتهي موتًا كهذا: "نموت عن الخطايا فنحيا للبر" (1 بط 2: 24). إذ يليق بنا أن نفهم موت إبراهيم هكذا، أن أحضانه تتسع لتضم كل القديسين الذين يأتون من أربع جهات العالم، إذ تحملهم الملائكة إلى حضن إبراهيم (لو 16: 22)[345]].

بمعنى آخر يمكننا القول أن الموت لم يحطم إبراهيم أبانا وإنما بالعكس جعل أحضانه متسعة لتُضم فيها نفوس القديسين عبر العصور!

أسلم إبراهيم روحه وانضم إلى قومه لكي يتقبل في الرب أرواح أبنائه في الإيمان ويدخل معهم إلى الفردوس في المسيح يسوع ربنا، بعد أن تمتع بشيبة صالحة وكان شبعان أيامًا، وكما يقول القديس جيروم: [كانت حياته كلها أيامًا بلا ليال[346]].

انضم إبراهيم إلى قومه، إذ انطلقت نفسه لتحيا مع آبائه وأجداده، أما جسده فقد دفن مع جثمان سارة امرأته في مغارة المكفيلة التي اشتراها من بنى حث.

"وكان بعد موت إبراهيم أن الله بارك إسحق ابنه، وسكن إسحق عند بئر لحيّ رئي" [١١]. هذه هي البركة التي نالها إسحق؛ أنه سكن عند بئر الرؤيا. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [استحق إسحق أن يستمر في حالة رؤيا ويسكن هناك. ونحن أيضًا إذا استنرنا برحمة ربنا يمكننا أن نفهم بعض الرؤى وندركها، وننعم بإشعاعات رؤيا ربنا في عقولنا، عندئذ نقول أننا قضينا يومًا بالقرب من بئر الرؤيا. إن استطعت أن أقتنى شيئًا من الكتاب الإلهي حسب الروح لا الحرف، يمكنني القول إنني قضيت يومين بجوار بئر الرؤيا. فأنا لا أستطيع أن أفهم كل الكتاب الإلهي، لكنني على الأقل أداوم على سماعه وألهج فيه ليلاً ونهارًا (مز 1: 2)، ولا أتوقف قط عن البحث فيه والتأمل مصليًا للرب وطالبًا منه أن يهبني الفهم، إذ هو واهب العلم للإنسان، بهذا يمكنني القول أني أنا أيضًا أسكن بالقرب من بئر الرؤيا. أما من يسلك بالعكس فلا يسمع لكلمات ربنا في كنيسته ولا يأتي إلى الكنيسة إلاَّ في الأعياد وحدها، فمثل هؤلاء لا يسكنون عند بئر الرؤيا ولا يشربون من بئر الرؤيا. إذن أسرعوا وجاهدوا لكي تحل عليكم بركة ربنا فتجعلكم قادرين على السكنى بالقرب من بئر الرؤيا. ليفتح الرب أعينكم لتتأملوا بئر الرؤيا وتأخذون منها ماء الحياة (يو 4: 14)، ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية. اتركوني أريكم من الذي لا يبتعد عن بئر الرؤيا قط: بولس الرسول القائل: "ونحن جميعًا ناظرين مجد ربنا" (2 كو 3: 18). وأنتم أيضًا إن تعمقتم في الرؤيا على الدوام وطلبتم ما هو لنفعكم باستمرار، وتأملتم فيها بغير انقطاع تنالون من الرب بركة وتسكنون عند البئر، فيظهر لكم يسوع في الطريق ويفتح لكم الكتب لتقولوا: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!" (لو 24: 32)، إذ يهتم الله بالذين يلهجون في ناموسه نهارًا وليلاً[347]].

3. مواليد إسماعيل:

ولد إسماعيل اثنى عشر ابنًا صاروا رؤساء لقبائل أو لشعوب كوعد الله لإبراهيم (17: 20). فإن الله لم ينس إسماعيل وأولاده، وإن كان لم ينعم بما ناله إسحق الذي جاء السيد المسيح من نسله متجسدًا، لكنه يذكر نسل إسماعيل حيث يأتي السيد ليضم كل الشعوب والأمم ويجعلهم واحدًا فيه.

4. ميلاد عيسو ويعقوب:

يروى لنا الكتاب المقدس أن إسحق تزوج في سن الأربعين من رفقة بنت بتوئيل الأرامي، وإذ كانت عاقرًا صلى لأجلها إسحق، فاستجاب له الرب وحبلت رفقة امرأته بعد حوالي 20 عامًا وإذ كان في أحشائها جنينان تزاحما معًا فقالت: "إن كان هكذا فلماذا أنا؟" [٢٢].

كان تزاحمهما عنيفًا حتى جاءت في بعض الترجمات "تصارعًا"، وقد سبب ذلك آلامًا شديدة لرفقة خشيت على أثرها أن تموت أو يموت الجنينان، لذا قالت: "إن كان هكذا فلماذا أنا؟"، بمعنى إن كان هذا حال الجنينين فما الحاجة لهذا الحمل أو ما لحياتي من طعم بعد؟!

هذا الصراع بين عيسو ويعقوب ظهر وهما بعد جنينان وكأن الأحشاء الواحدة لم تحتملهما معًا، وقد تجسم بالأكثر بعد ولادتهما، وتزايد جدًا بين نسلهما: إسرائيل وأدوم. ويرى بعض الآباء في هذا الصراع صورة للصراع المستمر بين الشر والخير حتى في داخل أحشاء الكنيسة. يقول الأب قيصريوس: [تود النفوس الصالحة أن تغلب الشر، لكن الأشرار يشتاقون إلى تحطيم الأبرار. رغبة الصالحين هي إصلاح الأشرار، أما الأشرار فيسمعون لتحطيم الأبرار... الأعضاء التي في الكنيسة الجامعة وتنتمي لعيسو هي التي تميل إلى حب امتلاك الأرضيات، تحب الأرض وتشتهيها وتضع كل رجائها فيها. أيضًا الأعضاء التي ترغب في خدمة الله بقصد النمو في الكرامات الزمنية أو التمتع بمنافع مادية فهي تنتمي لعيسو أي للسعادة الأرضية. ففي عيسو تفهم النفوس الجسدانية أما النفوس الروحية فتفهم في يعقوب[348]].

إذ شعرت رفقة بالآلام وضاقت نفسها جدًا " مضت لتسأل الرب" [22]. بمعنى أنها كرست وقتًا أطول للصلاة ربما في مخدعها، تسأل الرب أن يعطيها سلامًا ويكشف لها الأمر. ويرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "مضت" لا تعني تحركًا ماديًا ملموسًا، إذ يقول: [أين ذهبت رفقة لتسأل الرب؟... ألا يوجد الله في كل مكان؟! ألم يقل بنفسه: "أما أملأ أنا السموات والأرض؟!" (إر 23: 24). إذن أين ذهبت رفقة؟ لست أظن أنها ذهبت موضعًا آخر، لكنها عبرت من حياة إلى حياة أخرى، ومن عمل إلى عمل آخر، مما هو جيد إلى ما هو أفضل، تقدمت من المهم إلى الأهم، ومن القداسة إلى قداسة أعظم[349]]. بمعنى آخر إن أردنا الله أن يسمع لنا فلنذهب لنسأل الرب بالانطلاق نحو حياة أفضل والسلوك حسبما يرضيه فيسمع لنا.

كانت إجابة الرب لها: "في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يُستعبد لصغير" [٢٣]. كشف لها الرب سر المصارعة، إذ حملت في داخلها شعبين، أحدهما ينشأ عن الطفل الأصغر - يعقوب - لكنه يقوى على الآخر روحيًا، ويكون سيدًا له... أما سر القوة والسيادة فهو قبول وعد الله والتمتع بالبركة الإلهية، فيخرج من صلبه الأنبياء، ومن نسله يتجسد كلمة الله.

الأكبر هو البكر جسديًا لكنه بسبب فساد قلبه يخسر بكوريته وبركته، الأصغر بسبب جهاده واشتياقاته الروحية بإيمان ينعم ببكورية الروح ويتمتع بالبركة.

ويرى بعض الآباء في هذه العبارة الإلهية إشارة إلى كنيسة العهد الجديد، التي إن قورنت باليهود في معرفتها بالله تحسب الأصغر، إذ تعرفت عليه في آخر الأزمنة، لكنها صارت الأقوى روحيًا اغتصب منهم باكورة الروح وسحبت النبوات والعهود والمواعيد الإلهية والشرائع السماوية لحساب أبنائها. وكما يقول الأب قيصريوس: [الشعب الأكبر والأقدم هم اليهود الذين يخدمون الشعب الأصغر أي يخدمون المسيحيين. فقد عرف اليهود كخدام للمسيحيين إذ حملوا لهم الشريعة الإلهية في العالم لتعليم الأمم[350]]. يقول القديس أغسطينوس: [أنتم يعقوب الشعب الأصغر الذي يخدمه الشعب الأكبر[351]]، وأيضًا: [لقد تحقق هذا الآن أيها الاخوة، إذ يخدمنا اليهود بكونهم حاملين قمطرنا (شنطة الكتب). نحن ندرس وهم يحملون لنا كتبنا[352]].

ويقدم لنا العلامة أوريجانوس نفس الفكر وإن كان يضيف إليه تفسيرًا آخر رمزيًا يمس حياتنا الداخلية إذ يرى كل نفس أشبه برفقة تحمل في داخلها شعبين، شعب الفضائل يصارع مع شعب الرذائل في أعماق النفس، إذ يقول: [أعتقد أنه يمكن القول بأنه يوجد في كل أحد أمتان أو شعبان، فإن كان يوجد فينا شعب الفضيلة فانه يوجد أيضًا مثله شعب الرذيلة، لأنه من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنى، فسق، شهادة زور، تجديف (مت 15: 19)، وأيضًا يخرج منه بطر وأمثال هذه (غل 5: 20). ها أنتم ترون كيف أن الشعب الشرير فينا كبير. لكننا قد تأهلنا للنطق بما يقول القديسون: "هكذا كنا قدامك يارب حبلنا تلوينا، كأننا ولدنا ريحًا. لم نصنع خلاصًا في الأرض" (إش 26: 18). يوجد أيضًا شعب آخر هو جيل روحيّ، لأن "ثمر الروح فهي: محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان" (غل 5: 22). تجدون فينا هذا الشعب الآخر، وهو صغير أما الأول فكبير. الأشرار دائمًا كثيرون بالنسبة للأبرار، الرذيلة أكثر من الفضيلة. لكننا إن تشبهنا برفقة وكان لنا إسحق أي كلمة الله (عريسًا)، يقوى شعب على شعب، والكبير يُستعبد للصغير، فيخدم الجسد الروح، وتتراجع الرذائل أمام الفضائل[353]].

نعود إلى رفقة التي إذ كملت أيام ولادتها "خرج الأول أحمرًا، كله كفروة شعر فدعوا إسمه عيسو، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب، وكان إسحق ابن ستين سنة لما ولدتهما" [25-26].

دُعي الأول عيسو أي (كثير الشعر أو خشن) لأن جسمه كان مغطى بالشعر، ودُعي الأصغر يعقوب إذ كان ممسكًا بعقْب أخيه، وقد بقى كل عمره يتعقبه ليختلس منه البكورية والبركة.

يحمل هذان الطفلان رمزًا للإنسان الجسدي والإنسان الروحيّ، الأول مشعر أي كثير الشعر إشارة إلى ارتباطه بالجسد، يحب الجسديات ويعيش لأجلها. وقد دعي أيضًا "أدوم" من كلمة "دم" لأنه كان أحمر اللون... وكان يعيش كصياد محبًا لسفك الدماء وعنيفًا هذا ما اتسم به عيسو أو أدوم وأيضًا نسله "بنو آدوم"، إذ كانوا أرضيين في فكرهم قساة في تصرفاتهم، محبين لسفك الدم. أما يعقوب فيرمز للإنسان الروحي الذي يتعقب الكل لأجل اقتناء الأبديات. انه إنسان مصارع ومجاهد من أجل الروحيات، وكما يقول القديس جيروم: ["يعقوب" معناها (متعقب) أي شخص يبقى مصارًا على الدوام[354]].

كان عيسو رجل البرية محبًا للصيد، أما يعقوب فكان إنسان كاملاً يسكن الخيام [٢٧]. وقد أحب إسحق عيسو بسبب ما يقدمه له من صيد، أما رفقة فوجدت في يعقوب إنسانًا وديعًا تستريح له.

5. يعقوب يشتري البكورية:

ظهر عيسو كإنسان جسدي إذ باع بكوريته لأخيه يعقوب من أجل طبق عدس أحمر، وبسبب ذلك دعي إسمه أدوم. وقد ظهر استهتاره من قوله: "ها أنا ماضٍ إلى الموت فلماذا لي البكورية؟!" [٣٢]، ويعلق الكتاب: "واحتقر عيسو البكورية" [٣٤]... أما يعقوب وإن كان قد استغل إعياء أخيه وساومه في أمر البكورية، لكنه كإنسان روحيّ لم يبع طبق العدس بصيد مادي أو مال بل باقتناء البكورية. إن كان عيسو يمثل الإنسان المستهتر الذي يفرط في النعم الروحية والأمجاد الأبدية من أجل لقمة العيش وشهوات الجسد فإن يعقوب يمثل الإنسان المحب للروحيات.

صاحب البكورية يمثل رئيس العائلة الذي يرث عن أبيه حق ممارسة العمل الكهنوتي، إن صح هذا التعبير، فهو الذي يقدم الذبائح عن الأسرة... لهذا خرج من صلب يعقوب سبط لاوي الذي قام بالدور الكهنوتي.

يقول القديس أغسطينوس على سقوط عيسو انه ليس بسبب طبق العدس في ذاته إنما بسبب استهتاره، إذ يقول: [لكي يجعلنا نعرف أن الخطأ لا يكمن في خليقة الله بل في العصيان العنيد والشهوة المفرطة فإن الإنسان الأول لم يجد الموت في لحم خنزير بل في تفاحة (تك 3: 6)؛ وليس بسبب أكلة طيور بل بطبق عدس خسر عيسو بكوريته[355]].

إن كنا ننعم نحن بالبكورية باتحادنا مع الله في ابنه البكر، ليتنا لا نستهين بها من أجل لقمة العيش أو مباهج الجسد، بل نبيع كل شيء لنقتني البكر في حياتنا.

<<

الأصحاحات 21-27

معاملات الله مع إسحق

إن كان الله قد تجلى في حياة إبراهيم كأب للمؤمنين وزوجته سارة كأم لهم، فقد ورث ابنهما إسحق هذا التراث إذ حمل في قلبه إيمان والديه تقليدًا حيًا عاشه كل أيام غربته وسلمه لابنه يعقوب (إسرائيل). وقد سبق لنا في دراستنا للأصحاحات السابقة أن لمسنا معاملات الله مع إسحق الذي هو ثمرة وعد إلهي:

1. إسحق ابن الموعد، كسر فرح لوالديه                تك 21

2. إسحق ابن الطاعة، محرقة حب لله                   تك 22

3. الله يختار رفقة لإسحق زوجة مقدسة تعزيه         تك 24

4. إسحق ينجب عيسو ويعقوب (أمتان)                 تك 25

5. تغرب إسحق في جرار ونبشه آبار الماء             تك 26

6. يعقوب يغتصب بركة أبيه إسحق                      تك 27

<<

الأصحاح السادس والعشرون

تغرب إسحق في جرار

إذ حدث جوع في الأرض لم ينزل إلى مصر كأبيه إبراهيم بل تغرب في جرار كطلب الرب، وكما فعل أبوه هكذا سلك إسحق قائلاً عن رفقة إنها أخته فوبخه أبيمالك ملك جرار. وإذ تزايد إسحق طمس الفلسطينيون آباره، فمضى إلى وادي جرار ومنها إلى بئر سبع حيث ظهر له الرب وباركه مجددًا معه العهد الذي وهبه لأبيه، كما أعطاه نعمة في عيني الملك ورئيس جيشه.

1. وعد الله أثناء المجاعة                     1-6

2. دعوته رفقة أختًا له                        7-11

3. حسد الفلسطينيين له                        12-25

4. قطع عهد مع أبيمالك                       26-33

5. زواج عيسو من الحيثيين                  34-35

1. وعد الله أثناء المجاعة:

مرّ إسحق بذات التجربة التي مر بها أبوه إبراهيم: "وكان في الأرض جوع غير الذي كان في أيام إبراهيم" [١]. لقد حدث جوع، لكن الجوع "كان في الأرض" ولم يقع عليه، مسّ أرضه أي جسده دون أن يدخل إلى أعماقه. وكما سبق فقلنا أن المؤمن يخضع بجسده (بأرضه) للتجربة دون أن تمس حياته الداخلية، أما غير المؤمن فيسقط بكليته تحت الضيق، يفقد سلامه الداخلي ويخسر رجاءه ويتحطم تمامًا.

إذ حدث جوع في أيام إبراهيم ذهب أبونا إلى مصر دون استشارة الله فكاد أن يفقد زوجته لولا تدخل الله، أما إسحق فيبدو أنه استشار الله الذي ظهر له وقال له: "لا تنزل إلى مصر، اسكن في الأرض التي أقول لك. تغرب في هذه الأرض، فأكون معك وأباركك، لأني لك ولنسلك أعطى هذه البلاد وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك، وأكثر نسلك كنجوم السماء وأعطى نسلك جميع أمم الأرض" [2–4].

إن كان إبراهيم قد أخطأ بنزوله إلى مصر أثناء المجاعة فقد طلب الله إسحق ألاَّ يتصرف كأبيه بل يبقى في أرض كنعان حتى وقت المجاعة علامة قبوله وعود الله لأبيه... كل ما فعله أنه انتقل من عند بئر لحيّ إلى جرار، التي تبعد حوالي 6 أميال جنوب شرقي غزة، تقع في الموقع الذي لا يُدعى الآن "خربة أم جرار"، وقد رأينا أن الاسم مشتق من كلمة "جرة" أو (إناء خزفي) [356]].

إذ سمع لصوت الرب لم ينطلق إلى مصر بل بقى في جرار تمتع إسحق بتجديد العهد الإلهي وظهور الله... حقًا إن كنا وسط الضيق نسمع للصوت الإلهي ننعم بتجليه فينا وتجديد العهد معه!

2. دعوته رفقة أختًا له:

حمل إسحق ذات الضعف لأبيه، فإذ خاف أن يقتله أهل الموضع من أجل امرأته رفقة إذ كانت حسنة الصورة دعاها "أخته". وفي هذه المرة نجد أبيمالك - وهو غالبًا غير أبيمالك الذي كان في أيام إبراهيم، إذ قلنا أنه "أبيمالك" هو لقب ملك جيرار وليس اسمه - تطلع من الكوة ونظر إسحق يلاعب رفقة امرأته، فاستدعاه وصار يعاتبه بنبل، وقد أوصى الملك: "الذي يمس هذا الرجل أو امرأته موتًا يموت" [١١].

إن كان الكتاب المقدس يبرز ضعفات الأبرار مثل إسحق فيظهر خوفه من أهل جرار وكذبه عليهم من جهة زوجته، الأمر الذي يجعلنا حذرين من كل ضعف أو خطية ويبعث فينا عدم إدانة أحد، إذ لكل مؤمن ضعفاته مهما بلغت قداسته، فمن الناحية الأخرى يبرز أيضًا الجوانب الطيبة حتى في الوثنيين كأبيمالك الذي يخشى لئلا يسقط أحد من شعبه في الاعتداء على زوجة إسحق فيجلب على الشعب كله ذنبًا [١٠]، الأمر الذي يجعلنا لا نحتقر أحدًا حتى إن كان وثنيًا.

3. حسد الفلسطينيين له:

يعلن الكتاب مباركة الله لإسحق بقوله: "وزرع إسحق في تلك الأرض (شعير حسب الترجمة السبعينية) فأصاب في تلك السنة مائة ضعف وباركه الرب، فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيمًا جدًا. فكان له مواشٍ من الغنم ومواشٍ من البقر وعبيد كثيرون فحسده الفلسطينيون" [12–14].

إن كان إسحق في ضعف قد أخطأ أرسل الله له ملكًا وثنيًا يعاتبه ويوبخه... لكن هذا لا يمنع بركة الرب عنه ولا تحقيق وعود الله له، فإذ زرع شعيرًا (حسب الترجمة السبعينية) أصاب مائة ضعف بجوار الغنم والمواشي الكثيرة والعبيد أيضًا، الأمر الذي أثار سكان المنطقة ضده، إذ خشوا منه.

يعلق العلامة أوريجانوس على زراعته للشعير أنه يشير إلى الناموس أو الوصايا السهلة الذي يقدم للفقراء روحيًا أما القمح فيشير إلى الإنجيل الذي يقدم للروحيين، إذ يقول: [لماذا زرع إسحق شعيرًا؟ ولماذا باركه الرب إذ زرع الشعير؟ لماذا اغتنى جدًا ؟ الشعير عادة هو غذاء الحيوانات والعبيد العاملين في القرية... إسحق يعد  القمح للكاملين والروحيين كما يعد الشعير للمبتدئين، إذ هو مكتوب: "الناس والبهائم تخلص يا رب" (مز 36: 7)... وربنا الذي هو إسحق الكامل يقدم الكمال (القمح) للتلاميذ، ويقدم الأمور البسيطة والسهلة (الشعير) للجماهير. أتريدون دليلاً أنه يقدم شعيرًا كغذاء للمبتدئين؟ جاء في الإنجيل أنه طعم الجموع مرتين؛ في المرة الأولى "أعطاهم أرغفة شعير" (يو 6: 98) للمبتدئين، وإذ تقدموا في الكلام والتعليم أعطاهم خبز قمح (مت 15: 34) [357]]. ليتنا إذن نتقبل كروحيين خبز قمح، وإلاَّ فلنقبل كمبتدئين أرغفة شعير من يديّ إسحق الحقيقي !

إذ زرع إسحق شعيرًا أصاب في تلك السنة مئة ضعف وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيمًا جدًا. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن كان الشعير يشير إلى الناموس فقد كان إسحق الحقيقي صغيرًا خلال الناموس، وتعاظم أكثر فأكثر خلال النبوات. خلال الناموس كانت معرفتنا عن المسيح كما خلال ظلال، لكن الأنبياء كشفوا عنه فقد ظهر السيد المسيح عظيمًا. والآن إذ ننزع عن الشعير قشه أي ننزع عنه حرفيته يظهر "الناموس الروحي" (رو 7: 14)، عندئذ يصير إسحق عظيمًا جدًا... بمعنى آخر خلال الشعير تعاظم إسحق جدًا وظهر غناه، باقتنائها للناموس بعد نزع قشه أي حرفيته والدخول إلى روحه وأعماقه[358]].

وللعلامة أوريجانوس[359] تعليق آخر على خبزات الشعير التي أظهرت عظمة إسحق وغناه، فإنه إذ كانت الخبزات غير مكسورة لم يشبعها منها أحد، لكنه إذ أمر بكسرها وتوزيعها على الجموع شبع الآلاف من الجماهير وتبقى أيضًا من الكسر. هكذا إذ نقدم كلمات الكتاب المقدس للعالم كله ونكسر عنها الحرف لينعموا بأعماقها يشبع الكل ويتبقى أيضًا ما نجمعه حتى لا يضيع شيئًا (يو 6: 12).

أمام هذا الغنى والعظمة اللذين ظهرا خلال زراعة الشعير يقف العدو حاسدًا فيطمر الآبار التي حفرها إبراهيم بالتراب، ويطلب أبيمالكَ من إسحق أن يترك الموضع، قائلاً له: "اذهب من عندنا لأنك صرت أقوى منا جدًا" [١٦].

يعلق العلامة أوريجانوس على طمر الآبار بالتراب وعودة إسحق لنبش الآبار التي حفروها في أيام إبراهيم أبيه وطمسها الفلسطينيون بعد موت أبيه [١٨]، قائلاً: [يحتقر الفلسطينيون المياه ويحبون الأرض، أما إسحق فيحب المياه ويبحث عن الآبار ويخلص الآبار القديمة كما يحفر آبارًا جديدة. لنتأمل في إسحق الذي "أسلم نفسه لأجلنا" (أف 5: 2)، فقد جاء إلى وادي جرار الذي يعني (الحائط) أو (الحاجز) (أف 2: 14)، جاء لينقض حائط السياج المتوسط، أي الخطية التي تفرق بيننا وبين الله ؛ ينقض الحاجز الذي بيننا وبين الفضائل الروحية، وبهذا "جعل الاثنين واحدًا" (أف 2: 14)، حاملاً الخراف الضالة على كتفيه على الجبال ليضمهم مع التسعة وتسعين غير المفقودين (15: 6؛ مت 28: 12). إسحق هذا. مخلصنا، إذ يكون في وادي جيرار يريد قبل كل شيء أن يحفر الآبار التي سبق فحفروها في أيام أبيه، أي يكشف آبار الناموس والأنبياء التي طمسها الفلسطينيون... لكن من هم هؤلاء الذين يملأون الآبار ترابًا ؟ إنهم بلا شك الذين يقدمون الناموس بفكر أرضي جسداني، مبتعدين عن الغنى الروحي السرائري، فلا يشربون ولا يدعون الآخرين يشربون. اسمعوا ما يقوله إسحق مخلصنا، يسوع المسيح، في الإنجيل: "ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم" (لو 11: 52)[360]].

لقد حفر السيد المسيح بخدامه الآبار القديمة إذ كشف عن أسرار الناموس وإعلانات الأنبياء معطيًا لنا مفاهيم روحية عميقة كان قد أفسدها محبو الحرف القاتل. ولم يقف عمل السيد عند هذا الحد بل حفر لنا برسله وتلاميذه آبارًا جديدة بالرغم من مقاومة عدو الخير ومحاولته طمر كل بئر روحي. يقول العلامة أوريجانوس: [حفر إسحق وخدامه آبارًا جديدة. حفر متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبطرس ويعقوب ويهوذا وبولس الرسول آبار العهد الجديد، وإن كان قد أرتفع ضدهم الذين يفكرون في الأرضيات (في 3: 19)[361]].

روى لنا الكتاب المقدس عن حفر ثلاثة آبار، الأولى دعيت "عشقًا" أو (خصامًا)، والثانية "سطنة" أي (نزاعًا)، إذ تنازع عليها رعاة جرار مع رعاة إسحق، فتركها إسحق لرعاة جرار، أما الثالثة فلم يحدث عليها شجار لذا دعاها "روحوبوت" أي (الأماكن الرحبة أو المتسعة)، وهي في المنطقة التي تدعى حاليًا "وادي الرحيبة"، تقع على بعد حوالي 19 ميلاً جنوب غربي بئر سبع. وقد شعر إسحق أن الله قد أعطاه مكانًا رحبًا ومتسعًا وجاد عليه بالبركات بغير نزاع. ويرى العلامة أوريجانوس في البئر الثالثة إشارة إلى الإيمان بسر الثالوث القدوس الذي به أعلن أتساع الملكوت للعالم كله، إذ يقول: [بعد ذلك حفر إسحق بئرًا ثالثًا دعاها "رحوبوت"، وقال: "الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" [٢٢]. حقًا لقد صار إسحق في رحب وتعظم اسمه في الأرض كلها عندما ملأنا بمعرفة الثالوث. قبلاً كان الله غير معروف إلاَّ في يهوذا وكان اسمه عظيمًا في إسرائيل (مز 76: 1)، أما الآن فخرج في الأرض منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلمته (مز 19: 4). وانتشر خدام إسحق على كل الأرض، وحفروا الآبار مظهرين مادة الحياة للجميع، إذ قيل: "عمدوا جميع الأمم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19)، لأن للرب الأرض وملؤها (مز 24: 1)[362]].

4. قطع عهد مع أبيمالك:

سبق فطلب أبيمالك أن يقطع عهدًا مع إبراهيم إذ قال له: "الله معك في كل ما أنت صانع" (تك 21: 22)، والآن يقطع أبيمالك - ليس بالضرورة ذات الملك - عهدًا مع ابنه إسحق، وقد جاء إليه مع مستشارين له هما صديقه أحزات الذي يعنى (مُلك)، ورئيس جيشه فيكول، قائلين: "إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك، ونقطع معك عهدًا، أن لا تصنع بنا شرًا كما لم نمسك وكما لم نصنع بك إلاَّ خيرًا وصرفناك بسلام. أنت الآن مبارك الرب" [٢٨-٢٩].

إن كان نجاح إسحق قد سبب لأهل المنطقة خوفًا وأثار فيهم روح الحسد، لكنهم إذ رأوا فيه عمل الله صاروا شهود حق، فدعوه "مبارك الرب"، وسألوه أن يقطع معهم عهدًا. ما أجمل أن يكون للمؤمن شهادة من الذين في الخارج، فيدركون أنه رجل الله ويشعرون بهيبة الله تحوط به.

إن كان نجاح المؤمن يثير في البداية حسدًا لكنه يبعث في النهاية نعمة في أعين الجميع!

قابل إسحق مخاوفهم بالحب، فصنع لهم ضيافة وأكرمهم بعد أن أقام معهم ميثاق صُلح ومحبة وسلام.

يرى العلامة أوريجانوس في أبيمالك الذي تارة يبغض إسحق [٢٧]. وأخرى يطلب الصلح معه، رمزًا لفلسفة هذا العالم؛ تارة تناقض الإيمان وأخرى تتجاوب معه. إن كانت الفلسفة ليست في تعارض مع ناموس الرب على طول الخط، فهي أيضًا لا يمكن أن تكون معه في اتفاق تام[363]. ويعطى العلامة أوريجانوس أمثلة، فيقول: [إن بعض الفلاسفة يتفقون مع الناموس بل ومع الإنجيل حينما ينادون بوجود إله واحد خالق الكل، صنع كل شيء ودبره بكلمته الإلهية، لكنهم يتعارضون معنا في الإيمان باعتقادهم بأزلية العالم وأبديته، فيحسبون المادة شريكة مع الله في السرمدية.

أبيمالك ورفيقاه: أخزات صديقه وفيكول رئيس جيشه، الثلاثة - في رأى العلامة أوريجانوس يشيرون إلى فروع الفلسفة الثلاثة: المنطق أي الفلسفة المعتمدة على العقل وحده (أبيمالك)، والفلسفة التي تقوم على قوة الطبيعة (أحزات)، والفلسفة الأخلاقية أو السلوكية (فيكول). هذه الفروع الثلاثة بالرغم مما تحمله من أخطاء لكنها إن تقدست تخضع للإيمان، قائلاً: "قد رأينا أن الرب معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك، ونقطع معك عهدًا".

ويرى العلامة أوريجانوس أيضًا في هؤلاء الرجال الثلاثة الغرباء الذين جاءوا يقطعون عهدًا مع إسحق ويطلبون المصالحة رمزًا للمجوس الثلاثة الذين جاءوا من الشرق، قائلين: "رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (مت 2: 2).

أما الضيافة التي صنعها إسحق لهم والمصالحة التي وهبهم إنما تشير إلى اتساع الإيمان ليمتص كل فلسفة وكل فكر لحساب المسيح، وكما يشير إلى استضافة السيد المسيح للمجوس كرمز لكنيسة الأمم. ولعل استضافته لثلاثة رجال إنما يشير إلى استضافة الرب لكل الشعوب والأمم التي تسلسلت عن سام وحام ويافث، أي لكل البشرية.

5. زواج عيسو من الحيثيين:

تزوج عيسو بامرأتين من بنى حث، كانتا مرارة نفس لإسحق ورفقة [34-35]. لم يكن حكيمًا في تصرفه إذ التحم بوثنيتين أفسدتا علاقته بوالديه وحرمتاه ونسله من السلام.

<<

الأصحاح السابع والعشرون

إسحق يبارك يعقوب

استطاع يعقوب أن يختلس البكورية من أخيه عيسو بأكله عدس، والآن تدبر له أمه الأمر ليغتصب البركة من أبيه إسحق عوض عيسو.

1. إسحق يستدعي عيسو                      1-4

2. رفقة تسند يعقوب                          5-25

3. يعقوب يتمتع ببركة أبيه                    26-29

4. عيسو يُحرم من البركة                     30-40

5. عيسو يحقد على أخيه                      41-49

1. إسحق يستدعي عيسو:

"وحدث لما شاخ إسحق وكلّت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال: يا ابني... إني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي، فالآن خذ عدتك جعبتك وقوسك وأخرج إلى البرية وتصيد لي صيدًا، واصنع لي أطعمة كما أحب وآتي بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت" [١-٤].

لقد سبق فعرف إسحق أن الكبير يستعبد من الصغير (25: 23)، وسمع أن عيسو في استهتار باع بكوريته بأكله عدس مستهينًا بها، ولمس في حياته ارتباطه بزوجتين وثنيتين بعيدتين عن إيمان أبيه كانتا علة مرارة له ولرفقة زوجته، ومع هذا فقد استدعاه ليأكل من صيد يديه وتباركه نفسه قبل أن يموت، يورثه البركة التي نالها عن أبيه إبراهيم. ترى هل كان مدفوعًا بعواطفه الأبوية البشرية أم حمل عملاً نبويًا بغير إرادته؟!

إن كنا نلوم رفقة لأنها تدخلت بطريقة بشرية لينال يعقوب المحبوب لديها البركة عوض أخيه عيسو، حتى وإن كان في ذلك تحقيق للصوت الإلهي بأن الكبير يستعبد للصغير، فنحن لا نستطيع إنكار ضعف إسحق إذ أراد أن يبارك إنسانًا كعيسو سبق فأعلن الله أنه يكون مستعبدًا للصغير، لكن القديس جيروم يقدم لنا تفسيرًا رمزيًا مختصرًا اقتبسه عن القديس هيبوليتس يكشف فيه عما حمله هذا الأصحاح من عمل نبوي رمزي يعلن عن العصر المسياني، يمكننا أن نستعرضه هكذا: إسحق في دعوته لابنه عيسو كي يباركه عندما شاخ وكلت عيناه إنما يشير إلى الآب السماوي الذي دعي في أواخر الدهور جماعة اليهود بكونهم الابن البكر، مشتاقًا أن يهبهم البركة الإنجيلية وأن ينعموا بالخلاص الأبدي فيملكون مع السيد المسيح ويحفظون السبت الجديد. أما رفقة فتشير للروح القدس الذي يدرك أن الكبير يستعبد للصغير فاهتم بجماعة الأمم (الابن الأصغر) لكي تقتنص البركة الإنجيلية عوض اليهود بعدما رفض اليهود الإيمان بالمسيا المخلص. وإن كان الجدي يشير إلى خلاص الخطاة، فإن الجديين الجيدين من المعزى اللذين قدمهما يعقوب طعامًا لأبيه إنما يشيران إلى اجتماع بعض اليهود مع الأمم. ألبست رفقه يعقوب ثياب أخيه عيسو، إشارة إلى رجال العهد الجديد الذين اقتنوا بالروح القدس الكتب المقدسة، وسحبوا من اليهود الناموس والعهود والنبوات التي كانت لباسًا لهم وخلعوها عنهم خلال جحودهم بالمسيح يسوع. أما جلود المعزى التي لبسها يعقوب في يديه وعنقه فتشير إلى الخطية التي حملها السيد المسيح عنا، مع أنها ليست خطاياه إذ هو القدوس حامل خطايانا. الطعام الذي قدمه هو الذبيحة الفريدة التي تفرح قلب الآب فتنال الكنيسة خلال بركة الله، أما عيسو فنال اللعنة بسبب الجحود. هروب يعقوب إلى حاران من وجه عيسو كان رمزًا لانطلاق الإيمان إلى الغرباء أي الأمم بعد أن قاومه اليهود.

خلال هذا المفهوم الآبائي يمكننا إدراك السر الحقيقي لدعوة عيسو لينال البركة فيغتصبها يعقوب منه بتدبير أمه رفقة.

2. رفقة تسند يعقوب:

كانت رفقة تسمع ما قاله إسحق رجلها لعيسو، وربما كانت حاضرة، والآن في محبتها لابنها يعقوب أخبرته بما حدث... والعجيب أن رفقة ويعقوب لم يشعرا أنهما أخطأ قط، ولا وبخهما إسحق على تصرفهما بعد اكتشافه الخدعة، بل أكد بركته ليعقوب، ولعل إسحق أدرك أنها على حق وإن استخدما وسيلة غير سليمة!

ويرى القديس أغسطينوس[364] أن الكتاب المقدس أراد أن يوضح أن تصرف يعقوب لم يكن عن مكر واحتيال إنما كان في بساطة قلب وإيمان، إذ سبق فأعلن "وكان عيسو إنسانًا يعرف الصيد إنسان البرية ويعقوب إنسانًا كاملاً (بسيطًا) يسكن الخيام" (تك 25: 27)، وإن الكلمة اليونانية المترجمة كاملاً (بلا عيب) تعنى بلا عيب أو بسيطًا أو بلا تظاهر، لهذا استحق نوال البركة.

كنا نتوقع في رفقة كأم حكيمة وزوجة محبه لرجلها أن تصارح إسحق بما في قلبها وتذكره بالصوت الإلهي الخاص بمباركة الأصغر، لكن الله استخدم حتى ضعفها للخير، وإن كانت قد ذاقت مرارة تصرفاتها المتسرعة.

أتقنت رفقة الدور تمامًا فقد هيأت إسحق الطعام الذي يحبه، وأعطيت ليعقوب أن يلبس ثياب أخيه الحاملة لرائحته، وأن يضع جلدا على يديه وعنقه، هكذا يجد إسحق الطعام والرائحة واللمس فيبارك ابنه. من جهة الثياب فيرى البعض أن عيسو كبكر كان له ثوب كهنوتي يرتديه في شيخوخة أبيه ليقدم الذبائح عن العائلة، أما الجلد الذي وضُع حول ذراعي يعقوب فكما يقول القديس أغسطينوس: [يشير إلى حمله خطايا الآخرين [365]].

بلا شك كان يعقوب هنا يمثل السيد المسيح رأس الكنيسة الذي قدم حياته ذبيحة حب، طعامًا سماويًا يفرح قلب الآب، وليس زيّنا وملابسنا، وحمل خطايانا، لكي يقبل باسمنا ولحسابنا المجد الأبدي ورضا أبيه السماوي!

قال إسحق: "الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو"... فباركه! إنها صورة حية للسيد المسيح، صوته صوت الابن وحيد الجنس، لكن يديه هما أيدينا إذ حمل طبيعتنا فيه! صار كعيسو يحمل ضعفاتنا وخطايانا وهو يعقوب البار!

3. يعقوب يتمتع ببركة أبيه:

"فقال له إسحق أبوه: تقدم وقبلني يا ابني. فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه، وقال: أنظر، رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب. فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر. ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل. كن سيدًا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين" [٢٦–٢٩].

أكل إسحق وشرب خمرًا وطلب من ابنه أن يتقدم ويقبله قبلة الحب والاحترام، لينال البركة الأبوية خلال فيض الشبع الذي ملأ حياة إسحق والرائحة الذكية التي عاشها كل أيام غربته.

اشتم رائحة ثيابه، فقد كانت ثياب عيسو الثمينة وسط روائح طيبة وقد أثارت فيه رائحة الحقول بزهورها وثمارها المبهجة، لهذا بدأ البركة يقول: "رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب"، طالبًا له ندى السماء الذي يحول الأرض القفر إلى جنة، ودسم الأرض أي خصوبتها، وأن يمنحه الرب حنطة وخمرًا علامة الشبع والفرح، كما سأل من أجله أن يخضع له الشعوب والقبائل ويسجد له اخوته. هنا يقول القديس إيريناؤس: [لا يمكننا قبول البركة بالمفهوم الحرفي وإنما بالمفهوم الرمزي الروحي الذي تحقق خلال بركات العهد الجديد.

يشرح القديس إيريناؤس هذه البركة هكذا:

[إن كان أحد لا يتقبل هذه الأمور بكونها تشير إلى الملكوت المعين (المسياني) يسقط في تناقض كما حدث مع اليهودي صاروا مرتبكين في الأمر. فإنه ليس فقط لم تخدم الأمم يعقوب في حياته وإنما حتى بعد نواله البركة هو نفسه ترك بيته وخدم خاله لابان السرياني عشرين عامًا (تك 31: 41)، وليس فقط لم يصر سيدًا لأخيه إنما انحنى وسجد أمام عيسو أخيه عند عودته من بين النهرين إلى بيت أبيه مقدمًا له هدايا كثيرة (تك 3: 33). أضف إلى هذا بأي طريقة ورث حنطة وخمرًا كثيرًا هنا، ذاك الذي هاجر إلى مصر بسبب المجاعة التي حلت بالأرض التي سكنها، وسار خاضعًا لفرعون الذي كان يحكم مصر في ذلك الحين؟![366]]. إذن لا يمكن أن تُفهم هذه البركة على أساس حرفي، إنما تحققت روحيًا بمجيء السيد المسيح حيث تمتع يعقوب أي الكنيسة بالملكوت الروحي. وكما يقول القديس أغسطينوس: [بركة يعقوب هي إعلان المسيح لكل الأمم. الأمر الذي تحقق الآن... إسحق هو الشريعة (الناموس) والنبوة، فإنه حتى خلال فم اليهود أعلنت بركة المسيح خلال النبوة كما بشخص لم يعرفها ولم يدركها. العالم يشبه حقلاً مملوءًا برائحة اسم المسيح الذكية. بركته هي الندى الذي من السماء أي أمطار الكلمات الإلهية، ودسم الأرض أي جمع الشعوب معًا. بركته هي فيض الحنطة والخمر أي الجموع التي تجمع الخبز والخمر في سرّ جسده ودمه إياه تخدم الأمم ويتعبد له الرؤساء. إنه سيد اخوته إذ يحكم شعب اليهود. إياه يتعبد له أبناء الآب، الذين هم أولاد إبراهيم حسب الإيمان، إذ هو نفسه ابن إبراهيم حسب الجسد. من يلعنه يصير ملعونًا، ومن يباركه يتبارك[367]].

في المسيح يسوع ربنا يصير كل منا يعقوب الذي يسمع البركة من فم أبيه، هكذا: رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر... كن سيدًا لأخوتك. حقًا في المسيح يسوع يصير قلبنا حقلاً بل جنة تحمل رائحة طيبة تفرح قلب العريس القائل: "قد دخلت جنتي يا أختي العروس، قطفت مري مع طيبي، أكلت شهدي مع عسلي، شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، أشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 4: 1). يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص في تفسيره سفر النشيد: [إنه يأتي إلى جنته... ويقطف أطيابها المملوءة من ثمر فضائلها، عندئذ يتحدث عن تمتعه بالوليمة وتلذذه بها، قائلاً لعروسه: قد نزلت إلى جنتي يا أختي العروس[368]].

ما هو ندى السماء إلاَّ تقديس النفس التي تصير كسماء تحمل نعمه الله كندى يستخدمه الروح القدس لإثمار أراضٍ كثيرة، أما دسم الأرض فيشير إلى خصوبة الجسد الذي يتقدس بالروح القدس فتنطلق كل طاقاته وأحاسيسه ومواهبه للعمل منسجمًا مع ندى السماء. أما كثرة الحنطة فتكشف عن شبع النفس بعريسها الخبز النازل من السماء. وكثرة الخمر يشير إلى فيض الفرح الروحي الداخلي. أخيرًا التمتع بالسيادة إنما يشير إلى حالة الإنسان الروحي كملك صاحب سلطان وسيد يقول لهذا الفكر أن يأتي فيأتي وأن يذهب فيذهب، له سلطان بالرب على أفكاره كما على حواسه وكل أعماقه!

4. عيسو يُحرم من البركة:

ربما يتساءل البعض: وما ذنب عيسو ليُحرم من بركة اختلسها أخوه بتدبير أمهما رفقة؟ ألم يصرخ صرخة عظيمة ومرّة جدًا عندما سمع من أبيه أن أخاه اختلس البركة طالبًا أن يباركه هو أيضًا؟!

يُجاب على ذلك بأن عيسو كان متهاونًا فيما بين يديه - البكورية - ففقد بغير إرادته البركة. هذا وأن تصرفاته بوجه عام هي التي حرمته من نوال البركة.

إن صرخة عيسو العظيمة والمرة جدًا تعنى أنه طلب البركة بدموع كما قال الرسول (عب 12: 17) لكنه لم يطلبها بمفهومها الروحي، بل طلبها لأجل البركات الزمنية، والدليل على ذلك أنه سأله أن ينال هو أيضًا بركة، قائلاً: "أما أبقيت لي بركة ؟!" [36]. هي بركة واحدة خلالها ينعم بأن يأتي من نسله السيد المسيح، فكيف يمكن أن تكون لآخين؟!

5. عيسو يحقد على أخيه:

إن كان عيسو قد حقد على أخيه لكننا لا ننكر شهامته، فقد رفض أن يقتل أخاه من اجل كرامة شيخوخة أبيه... متوقعًا سرعة موت أبيه ولم يعلم أن أباه يعيش بعد ذلك سنوات طويلة.

ربما خشيت رفقة أن تفاتح إسحق في أمر حقد عيسو على يعقوب فسألته أن يطلب من يعقوب أن يذهب إلى حاران يتزوج من هناك ولا يتخذ له زوجة من بنات حث كما فعل عيسو أخوه... وبهذا وجدت المنفذ لأبنها لينال البركة من أبيه قبل هروبه من وجه أخيه.

أخيرًا حُرمت رفقة من ابنها يعقوب كثمرها لتخطيطها البشرى وخداعها لرجلها. وإن كان القديس أمبروسيوس يرى في تصرف رفقة الأخير الحكمة، فقد تغلبت مشاعر الأمومة الطبيعية حتى تصرف الغضب عن ابنها عيسو ولا تفقده هو ويعقوب أخاه، إذ يقول: [أرادت والدته أن يعيش غريبًا حتى يصرف غضب أخيه. المشورات الصالحة تعلو على المشاعر الطبيعية[369]].

<<

الأصحاحات 25-50

معاملات الله مع يعقوب

تجلى الله في حياة إبراهيم وسارة، وتسلم ابنهما إسحق بركة الرب لهما وتمتع برجائهما في الخلاص وجاء الرب نفسه يؤكد له مواعيده مع أبيه... والآن يتسلم يعقوب بركة والديه إسحق ورفقة، أو قل بركة الرب التي حلت بهما ليعيش حاملاً إيمانهما ومتنعمًا برجائهما فيه، مجاهدًا كل أيام غربته من أجل الرب.

1. يعقوب المصارع في أحشاء أمه            تك 25

2. يعقوب يغتصب بركة أبيه                   تك 27

3. يعقوب ينعم بالسماء المفتوحة              تك 28

4. يعقوب المجاهد عن خاله                   تك 29-30

5. الله يسنده ضد خاله                         تك 31

6. يعقوب يصارع الملاك                      تك 32

7. يعقوب يغلب بالحب عيسو                  تك 33

8. اعتداء شكيم على دينة ابنة يعقوب         تك 34

9. ارتحال يعقوب إلى بيت إيل                  تك 35

10. يعقوب وابنه المحبوب يوسف             تك 37-50

<<

الأصحاح الثامن والعشرون

يعقوب والسماء المفتوحة

إذ بارك إسحق ابنه يعقوب أوصاه - كطلب رفقه - أن ينطلق إلى خاله لابان ليتزوج من بناته زوجة له تقدر أن تسنده في طريق إيمانه ولا يرتبط كأخيه ببنات حث الوثنيات... وفي الطريق انفتحت السموات ليرى يعقوب سلمًا رأسه في السماء وملائكة الله صاعدون ونازلون عليه، والرب واقف عليه... وإذ استيقظ من نومه مسح الحجر الذي كان مستندًا عليه ليكون عمودًا في بيت الله.

1. وصية إسحق ليعقوب                       1-5

2. عيسو يتزوج ابنة إسماعيل                 6-9

3. السلم السماوي                             10-15

4. يعقوب وبيت الله                            16-22

1. وصية إسحق ليعقوب:

إن كانت رفقة سألت يعقوب أن يهرب من وجه أخيه عيسو حتى يهدأ غضبه، فقد تيقنت هي وزوجها إسحق أن يعقوب هو وراث البركة، وفيه تتحقق المواعيد، لهذا في حديثها معه كانت متأكدة من عودته إلى أرض كنعان (27: 44، 45) ليرث أرض الموعد... الأمر الذي أوضحه أيضًا إسحق بقوله له: "يعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك معك، لترث أرض غربتك التي أعطاها الله لإبراهيم" [٤]. حقًا كان يمكن لإسحق أن يرسل عبدًا يأتي إليه بزوجة ليعقوب كما فعل إبراهيم عند زواج إسحق، لكن بسبب حقد عيسو فضل إسحق ورفقة أن ينطلق ابنهما إلى خاله ويقيم عنده " أيامًا قليلة"، هذه الأيام القليلة امتدت حوالي 40 عامًا... خلالها ماتت رفقة ولم تنظر ابنها يعقوب.

بارك إسحق ابنه يعقوب قبل انطلاقة إلى لابان خاله الذي وصفه الكتاب هكذا: "أخ رفقة أم يعقوب وعيسو" [٥]. هنا تدعى رفقة أم يعقوب إذ حُسب البكر والمتمتع ببركة إبراهيم.

2. عيسو يتزوج ابنة إسماعيل:

رأى عيسو أن أخاه قد نال البكورية فالبركة، وتثبت ذلك بإرساله إلى فدان آرام ليتزوج من بنات خاله، كما شعر أن زواجه ببنات حث الوثنيات حرمه من الكثير لهذا عزم أن يتزوج من نسل إبراهيم ليسترضى والديه فأخذ لنفسه زوجة ثالثة هي محله بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت.

3. السلم السماوي:

والآن انطلق يعقوب هاربًا من وجه أخيه عيسو، محرومًا من عاطفة والديه واهتمامهما، صار في الطريق عند غروب الشمس وحده معرضًا لمخاطر كثيرة... وسط هذا الضيق وضع يعقوب رأسه على حجر واضطجع في ذلك الموضع ليرى السموات مفتوحة، وسلمًا سماويًا منصوبًا على الأرض رأسه يمس السماء، الأمر الذي لم يكن ممكنًا أن يشاهده حين كان مدللاً في الخيمة تهتم به والدته وتضع الوسائد الناعمة تحت رأسه! وسط الضيق والحرمان يتجلى الله ليسد كل عوز ويعطى بفيض أكثر مما نسأل وفوق ما نطلبه. كما يقول القديس جيروم: [الحجر الذي تحت رأسه هو المسيح، إذ لم يكن له من قبل حجر تحت رأسه، إنما صار له في ذلك الوقت الذي هرب فيه من مضطهده. عندما كان في بيت أبيه مستريحًا حسب الجسد لم ينعم بحجر تحت رأسه. لقد ترك بيته كفقير وصار كوحيد، ليس لديه سوى عصا، فوجد في نفس الليلة حجرًا يضعه تحت رأسه. وإذ صارت له وسادة من هذا النوع استراحت رأسه خلال الرؤيا التي شاهدها[370]].

إن كان الحجر هو السيد المسيح فإننا لا ننعم به في حياتنا، يسند رأسنا بالرؤى السماوية والمعرفة الإلهية الفائقة مادمنا نعيش مدللين نطلب الاتكاء على الآخرين...

يرى الأب قيصريوس[371] أسقف Arles أن يعقوب يشير إلى السيد المسيح، وأن أباه إسحق الذي طلب منه أن يترك بنات المنطقة يشير إلى الآب الذي طلب منه أن يترك المجمع اليهودي ليذهب إلى موضع بعيد حيث يقتنى كنيسة الأمم عروسًا له. هذا قد تحقق عندما قال الرسولان لليهود: "كان يجب أن تُكلموا أنتم بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46).

كما يرى الأب قيصريوس في الحجر رمزًا للسيد المسيح أيضًا، الذي عليه تقوم الكنيسة، وقد مسحه الآب للعمل الخلاصي،  فبينما ظهر السيد المسيح على السلم في أعلى السماء بكونه السماوي، إذا به تحت رأس يعقوب كحجر الزاوية الذي عليه تتأسس الكنيسة بتجسده. يتحدث القديس أغسطينوس عن هذا الحجر، قائلاً: [في هذا الحجر نفهم المسيح... وضعه عند رأسه بكونه رأس الرجل (1 كو 11: 3). وقد مُسح الحجر، لأن "المسيح" دعي هكذا إذ هو "ممسوح"[372]].

أما السلم الذي رآه يعقوب فهو صليب ربنا يسوع المسيح الذي بالإيمان نرتفع خلاله لننعم بالسماء عينها، وخلال الجحود به انحدر اليهود إلى الهاوية، وكما يقول القديس جيروم: [أظن أن صليب المخلص هو السلم الذي رآه يعقوب. على هذا السلم كانت الملائكة نازلة وصاعدة. على هذا السلم، أي على الصليب كان اليهود نازلين والأمم صاعدين[373]]. كما يقول: [لقد رأى ملائكة يصعدون، إذ رأى بولس صاعدًا؛ ورأى ملائكة ينزلون، إذ رأى يهوذا الخائن ساقطًا إلى التمام. رأى ملائكة يصعدون،إذ رأى قديسين يرتفعون من الأرض إلى السماء، كما رأى ملائكة ينزلون أي الشيطان وكل جيشه ينحدرون من السماءّ[374]].

إذ نرى السلم لا نستصعب الصعود خلاله، فإن الرب واقف عليه يسندنا ويرفعنا إليه، كما يقول القديس جيروم: [لا تنظر إلى الدرجات بل تطلع إلى فوق حيث الرب[375]]. ويشجعنا القديس جيروم على الاستمرار في الصعود بلا توقف، قائلاً: [إن كان واحد منا واقفًا على الدرجة الأولى فلا ييأس من بلوغ الثانية، ومن كان على الثانية فلا يفقد رجاءه في بلوغه الثالثة. يا لغبطة الشهداء إذ تأهل الكثير منهم إلى الصعود حتى الدرجات النهائية، إلى القمة عينها. نحن الذين نعيش في العالم لا نقدر على صعود كل الدرجات دفعة واحدة من أسفل إلى أعلى، لكنه ليتنا لا نكتفي بالوقوف على الدرجة الأولى إنما يليق بنا أن نجاهد صاعدين درجات أعلى[376]]. كما يقول: [الدرس الذي نتعلمه من السلم أنه لا يليق بالخاطي أن ييأس من الخلاص، ولا البار أن يستكين مطمئنًا لفضيلته[377]].

ويعلل الأب قيصريوس توقيت ظهور هذه الرؤيا في الطريق بقوله: [لماذا حدث هذا في الطريق قبل أن يقتنى يعقوب زوجته؟ لأن ربنا يعقوب الحقيقي - انحني أولاً على السلم أي الصليب وبعد ذلك شكل الكنيسة لنفسه. في الوقت الذي فيه قدم لها دمه مهرًا لملكوته![378]].

4. يعقوب وبيت الله:

في دراستنا للكنيسة كبيت الله تحدثنا عن بيت إيل[379] بكونه أول بيت لله أقامه الإنسان بعدما تمتع بالسماء المفتوحة ورأى السلم المنصوب على الأرض رأسه يمس السماء، والملائكة صاعدين ونازلين عليه كما سمع الرب الواقف عليه يقول له: "ها أنا معك". فبكر يعقوب وقال: حقًا، إن الرب في هذا المكان!... ما أرهب هذا المكان!... ما هذا إلاَّ بيت الله، وهذا باب السماء ! ثم أخذ الحجر وأقامه عمودًا وصب عليه زيتًا، ودعي الموضع "بيت إيل" أي (بيت الله).

أراد الله أن يقدم للجماعة المقدسة خلال أبيهم يعقوب حقيقتين إيمانيتين، هما: معييته معهم، وانفتاح السماء على الأرضيين.

فمن جهة معييته مع شعبه، نجد تأكيد الرب "ها أنا معك"، في الوقت الذي لم يجد فيه يعقوب من يقدر أن يسنده...

ومن جهة انفتاح السماء على الأرضيين، فقد تمت المصالحة خلال السلم الحقيقي، وصارت الكنيسة بيت الله ومسكن ملائكته. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يرسل الله الملائكة إلى البشر، عندئذ يقود البشر إلى السمويات. هوذا السماء تُقام على الأرض، حتى تلتزم السماء بقبول الأرضيين[380]].

وقد سبق لنا الحديث عن الكنيسة (بيت إيل) وارتباطه بالجماعة المقدسة والسماء[381].

<<

الأصحاح التاسع والعشرون

زواج يعقوب بليئة وراحيل

إذ تمتع يعقوب بسلام الله خلال السلم أسرع نحو فدان آرام، وهناك التقى براحيل عند بئر الماء، وإذ خدم خاله لابان تزوج ابنتيه ليئه وراحيل.

1. لقاء مع راحيل                    1-14

2. يعقوب يخدم خاله                 15-20

3. زواجه بليئة وراحيل              21-30

4. أولاد ليئة                         31-35

1. لقاء مع راحيل:

"ثم رفع يعقوب رجليه وذهب إلى أرض بنى المشرق" [١]. تعبير "رفع رجليه" ربما يعني (الإسراع في الطريق)، فقد بعثت فيه الرؤيا الحميمة لينطلق في طمأنينة مسرعًا نحو خاله في أرض فدان آرام، شرقي كنعان، وكأنه كلما انفتحت أعيننا نحو السمويات، وتمتعت آذاننا الداخلية بمواعيد الله انه معنا. أسرعنا في الطريق لا للزواج بليئة أو راحيل وإنما بالاتحاد مع الله في ربنا يسوع المسيح.

"ونظر وإذا في الحقل بئر وهناك ثلاثة قطعان غنم رابضة عندها، لأنهم كانوا من تلك البئر يسقون القطعان، والحجر على فم البئر كان كبيرًا" [٢]. اقترب يعقوب من حاران وإذا به يرى بئرًا في الحقل وثلاثة قطعان من الغنم رابضة تنتظر من يرفع الحجر الكبير الذي يغطى البئر حتى يسقى الكل منه. إن كان يعقوب يشير إلى السيد المسيح الذي جاء إلى العالم ليقتني راحيل الحقيقية - كنيسة العهد الجديد - عروسًا له. فإنه جاء إلى الحقل أي إلى العالم وكأن في الحقل بئرًا هي المعمودية المغلقة، إذ تحتاج إلى يعقوب ينزع عنها الحجر الكبير ويكشف سرها بحلوله فيها. أما القطعان الرابضة بجوار البئر تترجى مياهه وتنتظر من يرفع لها الحجر فهي ثلاثة جماعات راقدة على رجاء الخلاص هم: الآباء السابقون للناموس الموسوي مثل هابيل وأخنوخ وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف ومن سلك بإيمانهم، ورجال الناموس الموسوي الذين تلمسوا المسيا المخلص خلال الرموز والوصايا، والأنبياء الذين انفتحت أعينهم ليروا يعقوب الحقيقي قادمًا خلال روح النبوة. بمعنى آخر هذه القطعان الثلاثة التي جلست بجوار البئر تنتظر المسيا المخلص إنما هي: الناموس الطبيعي، والناموس الموسوي برموزه، والنبوات، جلس الكل عند البئر يدعون البشرية للتمتع بمياه المعمودية لنوال النبوة لله والدخول إلى الملكوت السماوي، لكنهم عاجزون عن تقديمهم. يشيرون إلى الملكوت بإصبعهم مترقبين مجيء المخلص مشتهى كل الأمم، العريس السماوي!

إذ كان يعقوب يتحدث مع الرعاة أبصر راحيل قادمة ومعها غنم خاله لابان، فتقدم ودحرج الحجر عن فم البئر وسقى غنم خاله لابان. وقبّل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى وأخبرها أنه أخو أبيها وأنه ابن رفقة، فركضت وأخبرت أباها... وإذ جاء لابان قال له: "إنما أنت عظمى ولحمى فأقام عنده شهرًا".

حديث يعقوب مع الرعاة والحجر قائم على فم البئر يشير إلى حديث كلمة الله مع رجال العهد القديم بطرق متنوعة، خلال الأحداث والرموز والنبوات، حتى إذ رأى مجيء كنيسة العهد الجديد قد حان، تقدم ودحرج الحجر عن فم البئر، مقدمًا للكنيسة أسراره الإلهية المقدسة. ولعل دحرجة الحجر أيضًا تذكرنا بما تم في يوم قيامته إذ قام والحجر على فم القبر، لكنه بعث بملاكه يدحرج الحجر لنشرب من ماء بئر قيامته، بدفننا معه وقيامتنا أيضًا معه، وكما يقول الرسول "مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقُمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات" ( كو 2: 12).

قبّل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى... أيّة قبله هذه إلاَّ قبّل الحب العملي التي أعلنها حين صرخ على الصليب وأسلم نفسه لأجلها. هذه القبلة التي تشتهيها راحيل قائلة: "ليقبلني بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر" (نش 1: 2). أما إخباره لها أنه أخو أبيها إنما يشير إلى إعلان قرابته لنا خلال الصليب، إذ تمت المصالحة وصرنا أبناء أبيه السماوي! دخلنا مع السيد المسيح في قرابة خلال نعمة صليبه!

أقام يعقوب عند لابان شهرًا، إذ كانت العادة أن يستضيف الإنسان الآخرين بحد أقصى هو شهر، بعده يُعامل الضيف كأحد أفراد العائلة، فلا يعامل معاملة الضيف بل يشاركهم الحياة اليومية العادية بما فيها من عمل وإن كان ينال أجرة عن عمله.

في اختصار التقى يعقوب براحيل على مستوى يختلف عن لقائه مع الرعاة الجالسين بجوار البئر، من جوانب كثيرة:

   ·   التقى بها بعد رفع حجر الظلال والرموز ليدخل بها إلى كمال الحق!

   ·   التقى بها عند المياه لتدخل معه في علاقة القربى خلال سر المعمودية وتتمتع بالبنوة لله!

   ·   قبّلها ورفع صوته وبكى قبلة الصليب أي قبلة الحب العملي الذي فيه أسلم روحه من أجلها!

   ·   أعلن ذاته لها فقبلته ودخلت به إلى بيت أبيها!

   ·   سكن في بيت أبيها شهرًا... علامة الشركة معه كل أيام غربتنا حتى يدخل بنا إلى سمواته.

2. يعقوب يخدم خاله:

إذ قضى يعقوب شهرًا كضيف وكان يعمل في بيت خاله لابان، "قال لابان ليعقوب ألأنك أخي تخدمني مجانًا؟! أخبرني ما أجرتك؟!... فقال أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى. فخدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها" [٢٥-٢٠].

كان يمكن ليعقوب أن يقضى الشهر الأول كضيف لا يقوم إلاَّ بعمل بسيط، لكنه كرجل جهاد كان يبذل كل طاقته حتى شعر لابان أنه لا يستغني عنه فسأله أجرته... وكانت أجرته هي طلب ابنته الصغرى راحيل. كان يعقوب يمثل السيد المسيح الذي نزل إلى العالم كضيف وهو خالقه، وكان لا يزال يعمل في العالم من أجل الابنة الصغرى راحيل أي كنيسة العهد الجديد ليقتنيها لنفسه عروسًا.

إذ كانت "ليئة" تعني (معياه) ربما بسبب مرض عينها، وراحيل تعني (شاه)، فإن يعقوب الحقيقي، حمل الله يطلب الشاه التي تقدست بدم الحمل. أما ليئة فقد فقدت جمالها بسبب ضعف عينها الداخليتين أو ضعف بصيرتها الروحية.

قيل عن سنوات العمل التي قدمها يعقوب أنها: "كانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها" [٢٠]، وكما يقول القديس جيروم: [الحب يجعل لا شيء صعبًا، فالعمل صعب لمن يشتاق إليه[382]].

إن كان من أجل زواجه براحيل احتمل يعقوب سبع سنوات عمل وكانت كأيام قليلة، ثم عاد ليقضي سبع سنوات أخرى، فكم بالأحرى يليق بنا أن نقدم من أجل التمتع بملكوت الله بالاتحاد مع ربنا يسوع المسيح؟!

3. زواجه بليئة وراحيل:

إذ أكمل يعقوب سبع سنين العمل كأيام قليلة طلب راحيل كزوجة حسب وعد أبيها، وإذ أقام لابان وليمة، قدم له في المساء ليئة ابنته وأعطاه زلفة جارية لها، وفي الصباح إذ اكتشف يعقوب خداع خاله له اعتذر له خال: "لا يفعل هكذا في مكاننا أن نعطي الصغيرة قبل البكر، أكمل أسبوع هذه فنعطيك تلك أيضًا نظير الخدمة التي خدمتني أيضًا سبع سنين أخر" [٢٦-٢٧].

إن كان يعقوب قد خدع أباه اسحق في شيخوخته فأخذ منه البركة عوض عيسو، حتى وإن كانت بقصد حسن وهدف روحي لكنه بالكيل الذي به كال لأبيه يُكال له... لهذا خُدع في زوجته من خاله، كما خدعه أولاده في أمر يوسف، وقضى يعقوب أغلب أيام حياته مرّ النفس!

لم يكن الخداع صعبًا، إذ كانت العروس تزف في وليمة الزواج وهي مرتدية برقعًا أحمر... وفي الليل لم يكن سهلاً أن يميزها حيث النور الخافت أو الظلام...

على أي الأحوال ما قد تم في أمر زواج يعقوب حمل عملاً رمزيًا نبويًا، وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [هاتان الامرأتان اللتان تزوجهما يعقوب أي ليئة وراحيل تشيران إلى الشعبين. ليئة تشير لليهود وراحيل للأمم. والمسيح كحجر الزاوية ربط الشعبين كحائطين جاءوا من اتجاهين مختلفين... فيه وجدا السلام الأبدي، كقول الرسول: "لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا" (أف ٢: ١٤)[383]]. هذا ويلاحظ أن السيد المسيح جاء من سبط يهوذا الذي ولدته ليئة [٣٥]، إذ جاء السيد المسيح من الأمة اليهودية متجسدًا.

لم تكن الشريعة بعد قد سُلمت، التي حرمت الزواج بأختين (لا ١٨: ١٨)، ولم يكن يعقوب يطلب تعدد الزواج، لكنه جاء من بيت أبيه يطلب زوجة واحدة، وفي خدمته للابان كان ينتظر راحيل كزوجة واحدة، أما التصاقه بالجواري فلم يكن عن شهوة جسد وإنما بسبب الحاجة إلى الأولاد إذ كان العالم في ذلك الوقت به قلة قليلة بالنسبة لحجمه.

٤. أولاد ليئة:

ليس بدون هدف فتح الرب رحم ليئة لتنجب ليعقوب رأوبين فشمعون ولاوي ثم يهوذا لتتوقف عن الولادة فقد نظر الله إلى مذلتها إذ كان يعقوب يحب راحيل، فأعطى ليئة فرصة الالتقاء برجلها ليحبها من أجل أولادها. ومن جانب آخر فإن ليئة إذ تمثل اليهود فقد كان اليهود مخصبين في معرفة الرب، منهم خرج الآباء أو لأنبياء والكهنوت الخ... أما راحيل فتمثل الأمم الذين كانوا قبلاً "عاقرًا" بلا ثمر روحي بسبب الوثنية.

من ليئة جاء رأوبين البكر... إذ كان اليهود كبكر في عيني الرب حتى سحب الأمم منهم البكورية الروحية؛ ومنها جاء لاوي حيث الكهنوت، وأيضًا يهوذا إذ جاء السيد المسيح من اليهود... وهنا توقفت عن الولادة، إذ رفض اليهود السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا فحدث توقف عن الإنجاب الروحي، ويبدو أن يعقوب قد هجرها إلى حين حتى أنجبت فيما بعد، ربما إشارة إلى رجوع اليهود عن جحدهم للسيد المسيح وقبولهم الإيمان المسيحي في أواخر الدهور.

<<

الأصحاح الثلاثون

صراع في حياة يعقوب

إن كان يعقوب قد دخل مع أخيه عيسو في صراع وهما بعد في الأحشاء (٢٥: ٢٢)، فقد قضى حياته كلها سلسلة لا تنقطع من الصراعات، فقد صارع مع عيسو واختلس منه البكورية والبركة، والآن هذا هو في أرض الغربة يعيش في جو عائلي مملوء صراعًا بين زوجتيه ليئة وراحيل، ويدخل في صراع مع أبيهما بسبب أجرته، ويبقى هكذا كل حياته مصارعًا.

١. صراع بين ليئة وراحيل           ١-٢٤

٢. يعقوب يطلب أجرته               ٢٥-٤٣

١. صراع بين ليئة وراحيل:

إذ كانت ليئة ضعيفة العينين، أكبر سنًا من راحيل وأقل منها جمالاً أعطاها الرب أولادًا حتى ينزع كراهية يعقوب لها (٢٩: ٣١)، الأمر الذي أثار غيرة راحيل أختها فقالت لرجلها: "هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت" [١]. فتمررت نفس يعقوب إذ يود رضى راحيل التي يحبها، وها هي تطلب منه ما لا يستطيع، لذا في غضبه قال: "ألعلي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن" [٢]. وإذ قدمت له جاريتها بلهة لينجب لها بنينًا خلالها دخل في صراعات مستمرة بين راحيل وليئة... كل منهما تود أن يكون لها بنين أكثر من الأخرى. أما سر الصراع فهو:

أولاً: ربما سمعت الزوجتان من يعقوب الكثير عن وعود الله لإبراهيم وإسحق ويعقوب وما يتمتع به نسلهم من ميراث لأرض الموعد وبركة بمجيء المخلص من نسلهم، فكان الصراع يقوم على أساس شوق كل منهما أن يحظى نسلها بالوعد الإلهي، ويتحقق فيه المواعيد الزمنية والروحية.

ثانيًا: من جانب ليئة كانت تشعر أنها مكروهة، وأن يعقوب رجلها من حقها وحدها، لكن راحيل اغتصبت قلبه، فتشعر أن كثرة البنين يفتح قلب رجلها نحوها. هذا ما ظهر واضحًا عندما طلبت راحيل من ليئة أن تعطيها من لفاح ابنها [١٤] إذ أجابتها: "أقليل انك أخذتِ رجلي فتأخذين لفاح وبني أيضًا؟!" [١٥]... وكأن ليئة كانت تشعر بأن راحيل أخذت منها رجلها. ويبدو أن يعقوب كان قد هجر ليئة إلى حين إذ قبلت أن تعطي راحيل لفاح ابنها رأوبين مقابل ترك يعقوب ليلة، كطلب راحيل نفسها [١٥]. أما موضوع اللفاح الذي وجده رأوبين في الحقل وجاء به إلى أمه [١٤] فهو نبات يسمى "تفاح الجن" أو "تفاح المحبة"، شكله كالتفاح يسمى أيضًا "اليربوح" وكان الاعتقاد سائدًا أنه يجلب محبة الزوج لزوجته إذا أكلت منه.

ثالثًا: من جهة راحيل فقد امتلأت من جهة أختها التي أنجبت أربعة بنين بينما هي عاقر... وقد سمح الله بعقر راحيل ليعطي فرصة لانفتاح قلب يعقوب من جهة ليئة، ولتكون رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي جاءت من الأمم الذين كانوا قبلاً بلا ثمر روحي، وقد وهبها أبناء، إذ يقول الكتاب: "وذكر الله راحيل وسمع لها الله وفتح رحمها، فحبلت وولدت أبنًا فقالت: قد نزع الله عاري، ودعت أسمه يوسف قائلة: يزيدني الرب أبنًا آخر" [٢٢-٢٣]. صارت رمزًا لكنيسة العهد الجديد التي أنجبت يوسف، ويعني "نمو" أو "زيادة" إذ تطلب حياة النمو بلا انقطاع، وتشتاق أن تثمر على الدوام!

وفي وسط هذا الصراع المرّ بين راحيل وليئة بلا شك تمررت نفس يعقوب محاولاً الرضاء بين الطرفين، فعرف مرارة نفس أخيه الذي صارع معه ليأخذ منه البكورية والبركة... وهنا لا ننكر الأخطاء التي ارتكبتها راحيل في صراعها حتى أنجبت يوسف، ألا وهي:

أولاً: سقطت راحيل في اليأس عوض إلقاء رجائها على الله، وطلبت من رجلها ما هو من حق الله وحده إذ قالت له: "هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت" [١]، كأنها تقول له: هب لي بنين وإلا فأحسب كميته... ما فائدة حبل لي وأنا بلا نسل أو أبن يرثنا؟!

ثانيًا: تسرعت راحيل فألزمت رجلها أن ينجب لها خلال جاريتها ففتحت لنفسها مجالاً للصراع من جديد مع أختها ليئة وجاريتها هي أيضًا.

ثالثًا: اتكلت على المعتقدات العامة الخاطئة، فظنت في أكل اللفاح ما يجلب حب رجلها لها، ربما لأنها خشيت أن يتركها رجلها إن شاخت ولم تنجب له بنين!

أخيرًا يبدو أنها ألقت رجاءها على الله عندما فشلت الطرق البشرية البحتة خارج دائرة الإيمان، عندئذ فتح الله رحمها ووهبها أبنًا دعته: "يوسف" أي "النمو" أو "الزيادة"، واثقة في الله الذي يعطي ولا يتوقف.

فيما يلي بيان بأبناء يعقوب ومعنى أسمائهم وعلة التسمية:

علة التسمية

معناه

الإسم

الأم

الرب رأى مذلة ليئة (٢٩: ٣٢).

إبن الرؤيا

رأوبين

ليئة

الرب سمع أنها مكروهة (٢٩: ٣٣).

مستمع

شمعون

ليئة

الآن يقترن بها رجلها لأنها ولدت ٣ بنين (٢٩: ٣٤).

مقترن بي

لاوي

ليئة

أحمد الرب لأنه وهبها ٤ بنين (٢٩: ٣٥).

يحمل (يعترف)

يهوذا

ليئة

قضي الرب لراحيل وأعطاها أبنًا من جاريتها (٣٠: ٦).

يدين (يقضي)

دانا

بلهة

أعطاها الرب غلبة (أتساعًا) بإنجاب جاريتها ثانية (٣٠: ٨).

متسع

نفثالي

بلهة

صارعت ليئة بكثرة البنين (٣٠: ١١).

متشدد

جاد

زلفة

صارت ليئة مغبوطة (٣٠: ١٣).

سعيد (مغبوط)

أشير

زلفة

أعطاني الله جزائي (أجرتي) (٣٠: ١٨).

جزاء

يساكر

ليئة

الآن يساكنني رجلي لأني ولدت له ٦ بنين (٣٠: ٢١).

مسكن

زبولون

ليئة

يزيدني الرب أبنًا آخر (٣٠: ٢٤).

يزيد

يوسف

راحيل

دعته أمه وهي تلد "أبن أواني" أي "أبن حزني" بسبب شدة الألم (٣٥: ١٨)، أما يعقوب فدعاه "بنيامين" ... وكأن أبن الألم والحزن إنما ينعم بيمين الله.

أبن اليمين

بنيامين

راحيل

هكذا بدأ نسل يعقوب بالبكر جسديًا رأوبين الذي يعلن أن الله رأى مذلتنا فوهبنا ثمرًا، ويظل يهبنا حتى ننعم ببنيامين، أي نبلغ خلال الألم إلى يمين الله شركاء في المجد الأبدي.

وقد لاحظ بعض الآباء على أبناء يعقوب الآتي:

أولاً: جاء الترتيب هنا بحسب السن، فبدأ بالبكر جسديًا وانتهى بالأصغر بنيامين، أما في التعداد الوارد في سفر الرؤيا فجاء الترتيب هكذا: أبناء ليئة فأبناء راحيل ثم أبناء الجاريتين دون التزام بتاريخ ميلادهم. وكأن الله أراد أن يؤكد أن الأمجاد الإلهية لا تُعطي بحسب السن إنما حسب النمو الروحي والاتحاد العملي مع الله[384].

ثانيًا: رأى بعض الآباء أن لأثنى عشر أبنًا كان لهم أخت واحدة "دينة" من ليئة [٢١]، أو على الأقل لم يذكر الكتاب سواها، فإن كان الأبناء الذكور يشيرون إلى ثمر الروح فإن الابنة تشير إلى ثمر جسدي. دينة هذه وهي وحيدة بسببها دخل يعقوب وأولاده في صراع مع أهل شكيم (ص ٣٤)، وكأن الجسد ما لم يضبط ويتقدس يفسد سلام الروح ويفقدها ثمرها المتكاثر.

٢. يعقوب يطلب أجرته:

ما أنجبت راحيل حتى بدأ شيء من الاستقرار العائلي بين الزوجتين، فصارت ليئة تشعر باقتران رجلها بها بسبب كثرة البنين وراحيل قد انطفأت غيرتها بهذا الابن "يوسف".  هنا بدأ يعقوب يفكر في العودة إلى أرض كنعان، قائلاً للابان خاله: "اصرفني لأذهب إلى مكاني وإلى أرضي، أعطني نسائي وأولادي الذين خدمتك بهم فأذهب، لأنك أنت تعلم خدمتي التي خدمتك" [٢٦]. كانت هذه الكلمات تحمل عتابًا حازمًا ورقيقًا في نفس الوقت، فقد قضى ١٤ سنة يخدمه ليتزوج بنتيه، وحوالي ست سنوات لا يأخذ شيئًا سوى طعام زوجتيه وأطفاله، والآن يخرج ومعه إحدى عشر أبنًا وأيضًا ابنة ومعه زوجتاه لا يملك شيئًا من الغنم.

كان لابان يدرك بركة الرب العاملة في بيته بسبب يعقوب، إذ يقول له: ليتني أجد نعمة في عينيك، قد تفاءلت فباركني الرب بسببك" [٢٧]. "وقال: عين لي أجرتك فأعطيك" [٢٨]. هنا طلب يعقوب أن تكون له كل شاه بلقاء (أي تكون النقط السوداء والبيضاء منتشرة بالتساوي تقريبًا) ورقطاء (أي سوداء يشوبها نقط بيضاء) وسوداء، وأيضًا كل معزى بلقاء ورقطاء... وهذه الأصناف كانت قليلة في الشرق، فاختار لنفسه القليل ليترك الكثير للابان.

إذ أفرز يعقوب ما اتفق عليه مع لابان وصار بين قطيعه وقطيع خاله "مسيرة ثلاثة أيام" [٣٦]، أي حوالي ٤٠ ميلاً. هذا يكشف مدى الغنى الذي وصل إليه لابان حتى اضطر الأمر إلى عزل القطيعين كل هذه المسافة، هذا الذي لم يكن يملك إلا قطيعًا صغيرًا تقوده أبنته الصغرى راحيل لتسقيه في يوم مجيء يعقوب من بيت أبيه.

كان لكي يغتني يعقوب يلزمه أن يعتزل خاله مسيرة ثلاثة أيام، وكما سبق فقلنا أن الثلاثة أيام تشير إلى شركة القيامة مع السيد المسيح القائم في اليوم الثالث[385]، وكأنه لكي ينعم الرب بالبركة يلتزم أن يمارس الحياة المقامة أو الحياة الجديدة التي له في المسيح يسوع الذي يحرم منها لابان.

إن كان يعقوب قد استخدم مكرًا بوضع القضبان المخططة من نباتات اللبني (وهو نبات له لبن كالعسل يسمى الميعة) واللوز والدلب (ويسمى بالعبرية عرمون وهو نبات يوجد في السهول وعلى شواطئ الأنهار) عندما يأتي القطيع ليشرب متى كان القطيع سمينًا وقويًا أو في فترة الربيع حيث المراعي الغنية، لكي في وحمها تنجب أغنامًا رقطاء وبلقاء... فإن سر غناه الحقيقي هو بركة الرب.

لنخرج خارج محبة العالم ملتصقين بالرب القائم من الأموات فنكون كيعقوب الذي أنطلق مسيرة ثلاثة أيام، فقيل عنه: "فاتسع الرجل جدًا، وكان له غنم كثير وجوار وعبيد وجمال وحمير" [٣٤]. بالحياة الجديدة التي لنا في المسيح يسوع يكون لنا غنى روحي وفيض بتقديس حواسنا وعواطفنا ومواهبنا وكل طاقاتنا لحساب مملكته!

<<

الأصحاح الحادي والثلاثون

العودة إلى كنعان

إن كان يعقوب يشير إلى السيد المسيح فإنه يضم إليه كنيسة العهد الجديد (راحيل) بأبنائها وكنيسة العهد القديم (ليئة) بأبنائها ليحمل الكل معًا إلى كنعان السماوية... لكن لابان الوثني الذي يمثل إبليس لا يستطيع أن يقبل هذا الموكب السماوي فينطلق بجنوده ليعوقه فيفشل تمامًا.

١. هروب يعقوب                     ١-٢١

٢. لابان يسعى وراء الموكب        ٢٢-٢٥

٣. لابان يطلب ماله فينا              ٢٦-٤٢

٤. قطع العهد                        ٤٣-٥٤

٥. انصراف الفريقين                 ٥٥

١. هروب يعقوب:

شعر بنو لابان أن يعقوب أخذ كل ما كان لأبيهم وصنع لنفسه كل هذا المجد [١]، الأمر الذي جعل وجه لابان يتغير بالنسبة ليعقوب... في ذلك الوقت "قال الرب ليعقوب ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك، فأكون معك" [٣].

بلا شك كان قلب يعقوب ملتصقًا بأرض كنعان كأرض الموعد التي وعد الله إبراهيم أن تكون لنسله، فكان يشتاق أن يتزوج راحيل ليعود فيرث، وقد مرت السبع سنوات الأولى فالثانية، الآن له عشرون عامًا، وكان لابد أن يخرج من حاران وينطلق... لقد صارت له الزوجة المحبوبة ولديه الأولاد ومعه غنم ومواشي كثيرة له عبيد وجوارٍ، فكيف يخرج؟ لقد حدثه الرب بلغة العمل إذ سمح بإثارة لابان وأولاده ضده ليشعر بالغربة وينطلق، وفي نفس الوقت تحث معه على ما يبدو خلال رؤيا في حلم يأمره بالخروج [١٢-١٣]. وقد أدرك يعقوب أن ما يمر في حياته ليس جزافيًا أو محض الصدفة إنما بتدبير إلهي وسماح إلهي حتى تتحقق غاية الله فيه. إن كان ما أظهره لابان وبنوه كان بدافع الحسد بروح شرير لكن يعقوب تلمس أن ما حدث جاء في الوقت المناسب. ليس شيء في حياتنا يسير هكذا إلاَّ لصالحنا إن سلمنا حياتنا في يديه، الأمر الذي لمسه الرسول بولس فقال: "نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو ٨: ٢٨).

أرسل يعقوب ودعا زوجتيه راحيل وليئة إلى الحقل إلى غنمه حتى إذ تدركان غناه يقبلان مشورته منطلقين بأولادهما معه... لقد كشف لهما بروح التفاهم عن تغير وجه أبيهما من نحوه وذكر لهما كيف خدم أباهما بأمانة وكان أبوهما يغدر به أي يحنث بوعده مرارًا كثيرة، وكيف امتدت يد الله لتسلب مواشي أبيهما وتعطيه... وأخيرًا فقد دعاه الله للعودة إلى أرض ميلاده وهو ملتزم بالطاعة. ويظهر من حديثه معهما أنهما تعرفان قصة الحلم الذي رآه عند هروبه من وجه أخيه ومسحه للعمود في بيت إيل ونذره نذرًا [١٣]... وكأن يعقوب بأحاديثه السابقة مع زوجتيه قد هيأ قلبيهما وذهنيهما لقبول الخروج طاعة لله... إذ كان ختام حديثهما معه: "كل ما قال الله لك افعل" [١٦].

يمكننا القول أن طاعة راحيل وليئة ليعقوب وتحاملهما على أبيهما لم يكن وليد ساعة معينة، إنما هو ثمرة إدراكهما لمعاملات الله المستمرة مع رجلهما، وتفاهمهما معه قبلاً حول نوال البركة وتمتعه بمواعيد الله واشتياقه للرجوع إلى الموعد وتقديم نذره في بيت إيل... فجاء الحديث الأخير متجاوبًا مع فكر داخلي يملأ عقليهما. بمعنى آخر، نجح يعقوب في كسب عائلته لحساب الرب وتهيئة حياتها للطاعة لله بفرح.

شعت راحيل وليئة أن أباهما عاملهما كغريبتين، فعوض أن يهبهما مما له باعهما بخدمة رجلهما الأمين سبع سنوات فسبع أخر... فصارتا مشجعتين ليعقوب على الرحيل.

للحال "قام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال، وساق كل مواشيه وجمع مقتناه الذي كان قد اقتنى، مواشي اقتنائه التي اقتنى في فدان آرام ليجئ إلى إسحق أبيه إلى أرض كنعان... فهرب هو وكل ما كان له وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد" [١٧–٢١].

إن كان يعقوب يمثل السيد المسيح الذي جاء إلى أرضنا كما إلى حاران وأخذنا من أبينا القديم أي إبليس – لابان عابد الأوثان – فإنه اقتنانا كعروس له، سواء كنا من الأمم كراحيل أو من اليهود كليئة، ليحملنا بأولادنا أي ثمار الروح وغنمنا أي ثمار الجسد المقدس وكل ما أقتناه فينا من تقديس للحواس والفكر والمواهب والطاقات. ينطلق بنا من أرضنا من فدان آرام ليعبر بنا لا نهر الفرات كيعقوب وإنما نهر المعمودية المقدسة وقد جعل وجهه لا نحو إسحق إنما نحو حضن الآب لنوجد معه في سمواته أبديًا! هذا هو يعقوبنا الجديد الذي جاء إلينا ولا يستريح حتى ينطلق بنا إلى حيث أمجاده السماوية، يحملنا لكن ليس قسرًا إنما بإرادتنا كما فعلت راحيل وليئة مع يعقوب.

لنشعر نحن أيضًا بذات شعور هاتين الزوجتين، لنقل معهما أن أبينا القديم عدو الخير قد عاملنا كغرباء، وباعنا إذ سلبنا حياتنا وحريتنا وأمجادنا ها هو يحتال لكي يأسرنا في ملكوته... لنهرب مع يعقوبنا من سلطانه، ولننطلق بالروح القدس عابرين مياه المعمودية لندخل إلى أبينا الجديد الآب السماوي القدوس فننعم بميراثه عوض ميراث أبينا القديم المهلك!

٢. لابان يسعى وراء الموكب:

إن كان يعقوب قد انطلق كهارب من وجه لابان، لكنه كان يقود موكب الكنيسة المجاهدة والمنتصرة بي وفيه، وكما يقول الرسول بولس: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (٢ كو ٢: ١٤). هذا الموكب كما يقول الأب قيصريوس[386] أسقف Arles: [يثير عدو الخير الذي لا يحتمل أن يرى السيد المسيح حاملاً البشرية، بل يتعقبه. فإن كنا قد قبلنا السيد المسيح كقائد روحي يحملنا فيه للنصرة منطلقًا بنا إلى أحضان أبيه، لا يقف عدو الخير متفرجًا بل يتعقب حياتنا لعله يجد في داخلنا له شيئًَا فيمسك بنا ويطالب بنا كأننا له، أو أولاده!].

والعجيب أن لابان إذ كان قد مضى ليجز غنمه [١٩]، سرقت راحيل أصنامه أي الترافيم التي كان يقيمها في خيمته أو بجوارها، ولم يشعر بهروب يعقوب ومن معه إلاَّ في اليوم الثالث [٢٢].

كان لابان – كممثل لعدو الخير – يجز غنمه، فإن كان إبليس يبذل كل الجهد ليقتني كل نفس كغنيمة له إنما ليجزها ويأخذ صوفها لحساب مملكته، إنه مستغل لتابعيه! أما راحيل فتشير لكنيسة الأمم التي استطاعت أن تسرق آلهته منه إذ حطمت أوثان أبيها التي عاشت تتعبد لها زمانًا طويلاً قبل مجيء السيد المسيح. وأما عدم شعوره بهروب يعقوب إلاَّ في اليوم الثالث إنما يشير إلى عدم إمكانية عدو الخير أن يتعرف بحق على سر عمل المسيح الخلاصي إلاَّ بقيامة السيد من الأموات (في اليوم الثالث). لم يدرك العدو غلبة السيد المسيح ونصرته على الصليب إلاَّ حين عرف أنه القيامة، واهب الحياة!

إذ عرف لابان بهروب يعقوب في اليوم الثالث "أخذ أخوته معه وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام، فأدركه في جبل جلعاد، وأتى الله إلى لابان الأرامي في حلم في الليل، وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو بشر" [٢٣-٢٤].

إن كان العدو قد أدرك موكب نصرتنا حينما عرف عن السيد المسيح كواهب القيامة، فإنه عوض أن يتراجع أخذ أخوته معه وانطلق وراءنا سبعة أيام، كأن العدو يستخدم كل وسيلة ويستغل كل أحد ليحارب موكب النصرة، ويبقى في تعقبه سائرًا سبعة أيام، أي يحاربنا كل أيام الأسبوع بلا راحة. يحاربنا مادمنا في العالم لم نخلع بعد الجسد ولا يستريح قط آملاً أن يقتنصنا لحساب مملكته ويردنا عن طريق خلاصنا.

لم تكن الحرب أو الخصومة بين يعقوب ولابان، فهي ليست خصومة شخصية، بل هي بين مملكة الله ومملكة إبليس، لذلك تدخل الله نفسه في الوقت المناسب وأنذر لابان حتى لا يمس رجله يعقوب.

٣. لابان يطلب ما له فينا:

عاتب لابان يعقوب لأنه أخذ بنتيه كسبايا الحرب وهرب بهما ولم يدعه يقبلهما مع أولادهما، متهمًا إياه بالغباوة أو الحماقة، إذ كان يود أن يودعه بالأغاني والدف والعود... لكنه من الواضح أن لابان لم يكن يترك يعقوب وعائلته ينطلقون هكذا ربما كان يعوقه كما قال يعقوب نفسه.

على أي الأحوال كان السؤال الرئيسي بعد إعلانه انه عاجز عن أن يصنع بيعقوب شرًا بسبب ظهور الله له في حلم وتحذيره... هو: "لماذا سرقت آلهتي؟" [٣٠]. وكانت إجابة يعقوب: "الذي تجد آلهتك معه لا يعيش، قدام اخوتنا انظر ماذا معي وخذه لنفسك" [٣٢].

لم يعلم يعقوب أن راحيل كانت قد سرقت آلهة أبيها... والآن قد وضعتها في رحل الجمل أو حداجه وجلست عليها مدعية أنها غير قادرة على الوقوف بسبب مرضها الشهري. وكما قلنا أن راحيل تمثل الكنيسة القادمة من الأمم حيث العبادة الوثنية وقد حطمت الأوثان تحت قدميها!

لقد طلب يعقوب أن يفتش لابان في أمتعته وأمتعة أسرته، فمن وجد آلهته عنده لا يعيش بل يأخذه كعبد له... وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [ليت مراحم الله تدركنا وتمنحنا ألا يجد الخصم فينا شيئًا مما له، فإنه بهذا لا يقدر أن يعوقنا عنده ولا أن يردنا عن الحياة الأبدية[387]].

احتج يعقوب على لابان مشهدًا القوم على أمانته له في خدمته كل هذه العشرين عامًا، إذ يقول: "الآن عشرين سنة خدمتك، نعاجك وعنازك لم تسقط، وكباش غنمك لم آكل. فريسة لم أحضر إليك، أنا كنت أخسرها، من يديَّ كنت تطلبها، مسروقة النهار ومسروقة الليل. كنت في النهار يأكلني الحرّ وفي الليل الجليد طار النوم من عيني... وقد غيرت أجرتي عشر مرات" [٣٧–٤١]. هكذا يعلن يعقوب مدى أمانته في خدمته للابان على مدى عشرين عامًا، مقدمًا صورة حية لا لراعي الخراف غير العاقلة فحسب إنما لكل إنسان خاصة المؤتمن على رعاية النفوس، كيف يحتمل حرّ النهار وجليد الليل كي لا يسمح بافتراس نفس واحدة أو سرقة قلب واحد!

أقول تبقى عبارات يعقوب توبخ كل خادم في كرم الرب... فإن كانت الخراف غير الناطقة هكذا ثمينة في عيني يعقوب، فكم بالأولى أن تكون كل نفس في أعيننا؟!

لقد غير لابان الأجرة عشر مرات أي مرات كثيرة أما يعقوب فلم يتغير عن أمانته... وهكذا يليق بنا ألا نرعى من أجل الأجرة أيًا كانت: مادة أو كرامة! لنبق أمناء من أجل خلاص كل نفس. ما أجمل الكلمات التي سجلها لنا القديس يوحنا الذهبي الفم بخبرته العملية كما بقلمه:

[إني أب مملوء حنوًا... أسمعوا ما يطلبه بولس: "يا أولادي الصغار الذي أتمخض بهم" (غل ٤: ١٩). كل أم تصرخ وهي تتمخض في ساعة الولادة، هكذا أفعل أنا أيضًا[388]].

٤. قطع العهد:

رأى لابان أنه من الحكمة أن يقيم عهدًا مع يعقوب صهره حتى لا يسئ أحدهما إلى الآخر، وقد أقام يعقوب عمودًا، ثم عملوا رجمة (كومة) من الحجارة ليأكلوا عليها وليمة مصالحة، ويكون العمود والرجمة شهادة وتذكارًا للميثاق الذي قطعاه. دعى لابان الرجمة بالسريانية يجر سهدوثا، ويعقوب بالعبرية جلعيد، وكلا التعبيرين يعنيان "رجمة الشهادة"، كما دعيت بالعبرية مصفاة بمعنى "برج المراقبة"، كأن الله يكون رقيبًا عليهما.

إن كان يعقوب ولابان قد أقاما عمودًا ورجمة كشهادة للصلح وأكلا هناك معًا علامة السلام، أي اشتركا معًا في خبزة واحدة كما في دم واحد، فإن هذا العمود يشير إلى صليب ربنا يسوع الذي ارتفع على جبل الجلجثة مقدمًا جسده ودمه ذبيحة حب لنا. صالحنا السيد المسيح مع الله أبيه في جسده ببذله عنا وتقديمه طعام حب فائق، قادر أن يرفعنا إلى الإتحاد مع الله الآب بالثبوت فيه! ويبقى الصليب وتبقى جراحات الرب ويبقى جسده ودمه الأقدسين شهادة حق لهذه المصالحة على مستوى أبدي، وعلامة الميثاق الجديد الذي صار لنا الذي ندعوه "بالعهد الجديد" (مت ٢٦: ٢٨؛ لو ٢٢: ٢٠؛ ١ كو ١١: ٢٥). هذا العهد قبلناه ونلتزم به، وكما يقول الرسول بولس: "كم عقابًا تظنون انه يحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟!" (عب ١٠: ٢٩)[389]].

٥. انصراف الفريقين:

"ثم بكر لابان صباحًا وقبل بنيه وبناته وباركهم ومضى ورجع لابان إلى مكانه" [٥٥].

في نهاية الموقف رجع لابان إلى مكانه، وذهب يعقوب في طريقه... لقد وضع لابان قلبه في حاران، ووضع يعقوب قلبه في أرض الموعد، فأعطى الله لكل واحد سؤال قلبه، الله لا يحابي إنسانًا، من وضع قلبه في التراب يسمع الصوت الإلهي: "لأنك تراب وإلى التراب تعود" (تك ٣: ١٩)، أو "لأنك أرض وإلى الأرض تعود"، أما من وضع قلبه في السماء فيسمع الصوت الإلهي: "لأنك سماء وإلى السماء تعود". إنه يعطينا حسبما يشتهي القلب وأينما ينطلق، فإن انحدر هابطًا إلى الزمنيات تحولت حياتنا إلى الفساد الزمني، وإن أنطلق مرتفعًا نحو السماء تتحول حياتنا كلها إلى السمويات!

<<

الأصحاح الثاني والثلاثون

الاستعداد لملاقاة عيسو

إن كان يعقوب قد ارتبك جدًا وخاف من لقائه مع أخيه عيسو، لكن الله هيأ قلبه لهذا اللقاء بظهوره لخاله لابان مؤكدًا له أنه هو الحافظ له والمدبر لحياته، وفي الطريق ظهر الله له وسمح له بمصارعته ليهبه اسمًا جديدًا تحمله كنيسة العهد القديم عبر الأجيال.

١. يعقوب مع ملائكة الله             ١-٢

٢. يعقوب يبعث رسلاً لأخيه          ٣-٨

٣. يعقوب يلجأ لله إله أبيه            ٩-١٢

٤. يعقوب يرسل هدية لأخيه         ١٣-٢٣

٥. يعقوب يصارع مع الله            ٢٤-٣٢

١. يعقوب مع ملائكة الله:

"وأما يعقوب فمضى في طريقه ولاقاه ملائكة الله، وقال يعقوب إذ رآهم: هذا جيش الله، فدعا أسم المكان محنايم" [١-٢].

إن كان لابان قد عاد مع أخوته إلى أرضه التي وضع قلبه فيها، فإن يعقوب بدوره انطق مع أسرته وكل ممتلكاته نحو الكنعان، وكأنه منطلق نحو كنعان السماوية، نحو أرض الموعد، لذا لاقته ملائكة الله. يعقوب يمثل الكنيسة المتغربة على الأرض تنطلق بقلبها وبأعضائها وبكل ما لها نحو حضن الآب بالروح القدس خلال اتحادها في المسيح يسوع رأسها وثبوتها فيه، تسير مختفية في مسيحها ومستندة أيضًا. بجيشه (ملائكة الله). هذا ما نظره يعقوب، إذ قال: " هذا جيش الله"... فنحن نسير في موكب إلهي ترافقنا الملائكة المحبين لخلاصنا.

يبدو أن عدد الملائكة كان ضخمًا حتى دعاهم يعقوب "جيش الله"، وقد دعى الموضع "محنايم" ويعني "معسكرين" أو "محلتين"، إذ كان يعقوب بقومه يمثل جيشًا منظورًا، والملائكة الحافظة لهم تمثل جيشًا إلهيًا غير منظور. يرى العلامة أوريجانوس أن الكنيسة وهي تضم خائفي الرب إذ تجتمع معًا تجتمع أيضًا ملائكة الله التي تحوط بخائفيه، فيكون مع الكنيسة المنظورة الكنيسة من الملائكة غير منظورة... يجتمع الكل معًا في المسيح يسوع حجر الزاوية، الذي يوّحد الأرضيين مع السمائيين. هكذا تصير الكنيسة "محنايم" أي تصير معسكرين (أو محلتين) متحدين معًا.

٢. يعقوب يبعث رسلاً لأخيه:

إن كان الله قد أعطى يعقوب درسين، الأول خلال ظهوره للابان القادم إليه ليصنع به شرًا إذ أوقفه عن هذا العمل، والثاني بظهور ملائكة الله له، فإن يعقوب في ضعفه البشري كان يخاف غضب أخيه فأرسل أليه رسلاً ليختبر شعوره نحوه. وكان عيسو في أرض سعير في بلاد أدوم، والاسمان يخصان عيسو نفسه، كان يُدعى سعير أي كثير الشعر، وأدوم تعني أحمر أو دموي (تك ٢٥: ٢٥). وربما دعيت المنطقة سعير بسبب كثرة الأشجار كأنها أشبه بالشعر الذي يغطي الجسم، وقد امتدت بلاد سعير من خليج العقبة إلى البحر الميت، وكانت ملكًا للحويين (تك ١٤: ٦)، استولى عليها عيسو.

أرسل يعقوب الرسل وبعث معهم رسالة استعطاف دون استشارة الرب أو طلب عون له... وإن كان في رسالته استخدم روح المحبة والاتضاع، ملقبًا أخاه "سيدي".

سمع عيسو الرسالة وكان غنيًا جدًا حتى خرج للقاء أخيه ومعه أربعمائة رجل من عبيده، الأمر الذي أرعب قلب يعقوب فضاق به الأمر [٧]، ففكر في تقسيم موكبه إلى جيشين حتى إذا هاجم عيسو الجيش الأول يهرب الآخر، كما فكر في تقديم هدية محبة استرضاءً لأخيه.

لا يُلام يعقوب في تدبيره للأمر، خاصة وأنه عمل بحكمة وفي إتضاع، لكنه يُلام على عدم استشارته للرب!

٣. يعقوب يلجأ لله إله أبيه:

إذ ضاق الأمر بيعقوب وخشى أخاه عيسو التجأ إلى الله بالصلاة وجاءت صلاته قوية وفعالة، إذ اتسمت بالآتي:

أولاً: يتحدث مع الله خلال العلاقة الشخصية فيدعوه: "يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحق" [٩]. لا يتحدث مع الله بكونه إلهًا معتزلاً البشرية، ولا كمحب للبشر بوجه عام، بل كآب له ولعائلته. ما أجمل أن يشعر الإنسان أنه على مستوى العلاقة الشخصية مع الله، الأمر الذي وضح في حياة القديس أغسطينوس حتى قال في إحدى مناجاته أنه يتخيل كما لو لم يوجد في العالم غير الله وهو؛ يهبه الله كل الحب، ويرد هذا الحب بتقديم كل قلبه لله.

ثانيًا: يُذكر الله بمواعيده: "الرب الذي قال لي أرجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأحسن إليك" [٩]. يفرح الله بأولاده الذي يصرون على تحقيق المواعيد الإلهية ويتمسكون بها في دالة البنوة.

ثالثًا: يشعر في صلواته بالضعف أمام غنى محبة الله الفائقة، وكأنه يخجل أن يطلب بعد شيئًا، إذ يقول: "صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك" [١٠]. فما يطلبه الآن إنما هو امتداد للتمتع بغنى محبة الله العملية التي ذاقها وذاب فيها! لا يطلب كمن له حق أو كمن يسأل الله أن يرد له شيئًا عن عمل صالح فعله، إنما يسأله أن يعطيه كما قد عوده كل أيامه السابقة، إذ كان ولا يزال غنيًا وسخيًا في عطائه له.

رابعًا: يقول يعقوب: "فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين" [١٠]. حين ترك يعقوب بيت أبيه خرج فارغ اليدين لا يملك سوى عصا في يده، والآن يرجع بجيشين عظيمين. وكأنه بالمؤمن وقد أنطلق من العالم يحمل في قلبه عصاه أي صليبه كسر قوته، خلال هذه العصا الإلهية التي صارت له يصير في عيني الله كجيشين عظيمين، إذ يتقدس بروحه كما بجسده، وتقدم الروح كل طاقاتها كما يقدم الجسد كل حواسه مقدسة في الرب!

ويرى الأب قيصريوس في منظر يعقوب وهو خارج بعصا ليعود بجيشين صورة رمزية للسيد المسيح، إذ يقول: [استخدم يعقوب عصاه ليقتني زوجته، أما المسيح فحمل خشبة الصليب ليخلص الكنيسة[390]].

أخيرًا: بعد أن نسب الله لنفسه وعائلته، وبعد أن ذكره بمواعيده الإلهية، وأعلن حقه في المواعيد لا عن بر صنعه إنما عن غنى محبة الله المتزايدة، وبعد أن تحدث عن الجانب الإيماني الخاص بفاعلية الصليب (عصاه) أخيرًا سأله أن ينجيه! ليتنا لا نعرض مشاكلنا ومتاعبنا واحتياجاتنا إلاَّ بعد تقديم ذبيحة شكر لله والتمتع بحديث وديّ معه واستعراض أعماله العجيبة معنا!

٤. يعقوب يرسل هدية لأخيه:

بحكمة بعث يعقوب إلى أخيه هدية محبة يطفئ بها لهيب الغضب الذي اشتعل منذ حوالي عشرين عامًا، مقتنيًا محبته مقابل حوالي ٥٨٠ رأس غنم وبقر وآتان الخ... وقد أرسل الهدية مجزئة، كل هدية تليها هدية حتى يأسر قلب أخيه.

ومع الهدية قدم اتضاعًا، إذ سأل حاملي الهدايا أن يقولوا: "لعبدك يعقوب هو هدية مرسلة لسيدي عيسو، وها هو أيضًا وراءنا" [١٨]، "وتقولون: هوذا عبدك يعقوب أيضًا وراءنا، لأنه قد استعطف وجهه بالهدية السائرة أمامي وبعد ذلك أنظر وجهه، عسى أن يرفع وجهي" [٢٠].

ليتنا إن أمكن نسالم جميع الناس، فنكسب كل واحد كصديق لنا بأمور هذا العالم الزائل، وبروح الاتضاع الذي يرفعنا في عيني الله والملائكة والناس أيضًا!

أخيرًا أخذ يعقوب امرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر وعبر مخاضة يبوق، أي نهر يبوق، ويعني "المتدفق" هو أحد روافد نهر الأردن يبعد حوالي ٢٣ ميلاً شمالي البحر الميت، يدعى الآن الزرقاء.

٥. يعقوب يصارع الله:

"فبقى يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر" [٢٤].

إذ اجتاز يعقوب وأسرته نهر يبوق انفرد للخلوة، وكأنه كان يستعد للقاء عيسو خلال لقائه مع الله، وقد ظهر له إنسان، يرى غالبية الدارسين أنه ملاك على شكل إنسان، وليس كلمة الله، لكنه يمثل الحضرة الإلهية، إذ يقول يعقوب: "لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي" [٣٠]، كما قيل له: "لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" [٢٨].

"ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه" [٢٥]. بمعنى رأى الملاك أن يعقوب في جهاده لم يستسلم بل صار يصارع طول الليل... الأمر الذي بدا فيه الملاك كمن هو مغلوب والإنسان كغالب، فضربه على حق فخذه ضربة خفيفة حتى جاءت في بعض الترجمات "لمس حق فخذه"، وكان يعقوب يصر "لا أطلقك إن لم تباركني" [٢٦]. إذ أدرك أنه كائن سماوي.

يعلق القديس أغسطينوس على هذا التصرف فيقول: [لماذا صارع يعقوب معه وأمسك به؟ لأن "ملكوت السماوات يُغصب والغاصبون يختطفونه" (مت ١١: ١٢). لماذا صارع؟... لكي يمسك به بتعب، فما نناله بعد جهاد نتمسك به أكثر[391]]. كما يقول: [الإنسان غلب والملاك أنهزم. الإنسان الغالب يمسك بالملاك ليقول: لا أطلقك إن لم تباركني. يا له من سر عظيم! فالمهزوم يقف ليبارك الغالب! إنه منهزم لأنه أراد ذلك لكي يظهر في الجسد ضعيفًا، وإن كان بعظمته قويًا، فقس صلب في ضعف وقام في قوة (٢ كو ١٣: ٤)[392]]. وكأن ما حدث مع يعقوب قبيل لقائه مع عيسو ليغلبه بالحب إنما يشير إلى عمل السيد المسيح الذي جاء كضعيف يحمل طبيعتنا، ويحتل آخر الصفوف، فيحصى مع الآثمة، ويحمل عار الصليب كمغلوب، لكنه هو القائم من الأموات يبارك طبيعتنا ويجددها فيه!

ويرى القديس أمبروسيوس أن ما حل بيعقوب حيث انخلع فخذه إنما يشير إلى شركة آلامه مع السيد المسيح الذي يأتي متجسدًا خلال نسله، إذ يقول: [في نسله يتعرف على وارث جسده، وبه يسبق فيعرف آلام وارثه خلال خلع حق فخذه[393]].

انتهى الجهاد بسؤال مشترك، سأل الملاك يعقوب عن اسمه لا لجهله بالاسم وإنما لكي يغيره إلى اسم جديد يليق به كمجاهد، إذ يقول له: "لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" [٢٨]. وكما يقول القديس أكليمنضس الإسكندري: [قدم له الاسم الجديد للشعب الجديد[394]]، وكأن هذه العطية لم توهب ليعقوب في شخصه وإنما لكل شعب الله علامة جهادهم الروحي.

دعى يعقوب الموضع الذي تم فيه هذا الصراع: "فنيئيل" أي "وجه الله"، إذ حسب نفسه مغبوطًا أن يرى الله وجهًا لوجه وتنجو نفسه... وإذ أشرقت الشمس انطلق يعقوب ليلحق بأسرته متشددًا بهذه الرؤى وهذا الجهاد.

<<

الأصحاح الثالث والثلاثون

لقاء يعقوب مع عيسو

إن كان يعقوب قد دبر الأمر لملاقاة أخيه عيسو بالصلاة وتقديم هدايا وتقسيم أسرته إلى جيشين، فإن الله من جانبه هيأ قلب عيسو فأشعل فيه مشاعر الأخوّة وألهب فيه الحنين نحو لقاء أخيه.

١. لقاء الأخوين                      ١-١٦

٢. يعقوب في سكوت وشكيم         ١٧-٢٠

١. لقاء الأخوين:

تطلع يعقوب فرأى أخاه قادمًا من بعيد ومعه رجاله فخاف، وقسم عائلته هكذا: يبدأ الموكب بالجاريتين وأولادهما ثم ليئة وأولادها وأخيرًا راحيل وأبنها يوسف، أما هو فتقدم الكل وسجد إلى الأرض سبع مرات قبل لقائه بعيسو. هذا التدبير كشف عن قلب يعقوب فمن جهة وضع راحيل المحبوبة لديه مع أبنها في آخر الموكب ليعطيهما فرصة أكبر من الجميع أن يهربا إن قام عيسو ورجاله بالهجوم، وأما هو فتقدم الكل وكأنه يقدم نفسه فدية عن الجميع حتى عن جاريتيه. هكذا يليق بالمسيحي أن يحمل هذا الروح، روح البذل عن الجميع، فيكون كسيده السيد المسيح الذي تقدم الخراف بكونه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف الناطقة.

قاد يعقوب الموكب لا بروح التشامخ والعنف بل بروح الإتضاع إذ كان يسجد لأخيه سبع مرات علامة كمال الخضوع. أما السيد المسيح عريس الكنيسة السماوي ورأسها فقاد موكب النصرة باتضاعه إذ أخلى ذاتي وأخذ شكل العبد وأطاع حتى الموت موت الصليب (في ٢: ٦– ٨)، وهو ابن الله الوحيد الجنس تعلم الطاعة مما تألم به (عب ٥: ٥). وإذ هو واحد مع أبيه صام وصلى وركع مقدمًا الخضوع له باسمنا ولحسابنا فتُقبل عبادتنا فيه.

إن كان يعقوب قد اغتصب البكورية والبركة وتمتع بمواعيد الله لأبيه إبراهيم وأبيه إسحق، لكن الكتاب لم يتجاهل ما حمله أخوه من طيبة قلب ورقة شعور، الأمر الذي ظهر خلال التصرفات التالية:

أولاً: إذ رأى عيسو أخاه حنت أحشاؤه نحوه، إذ يقول الكتاب: "فركض للقائه ووقع على عنقه وقبله وبكيا" [٤]... وكأنه نسى الماضي بما يحمله من حقد وحسد!

ثانيًا: كشف عن حبه بسؤاله بدالة أخوية عن هذا العدد الكبير الذي قدم مع يعقوب، وهنا يعترف يعقوب أنها نعمة الله الواهبة كل شيء.

ثالثًا: يبدو أن عيسو لم يسترح لاستلام الهدية التي قدمها له يعقوب، بل أراد أن يستضيفه هو وعائلته وعبيده بكل قطيعه... وقد قابل يعقوب هذه المشاعر بروح الاتضاع والحكمة، إذ قال له: "إن وجدت نعمة في عينيك تأخذ هديتي من يدي" [١٠]. وكأنه يعتذر عن الماضي ويسأله أن يعلن رضاه عنه بقبوله الهدية. وبحكمة يقول: "لأني رأيت وجهك كما يُرى وجه الله فرضيت عليَّ" [١٠]، رأيت فيك صورة الله الذي يقابلنا بالحب ويعلن رضاه ومحبته لعبيده. وقد ألحّ يعقوب على عيسو ليقبل الهدية فقبلها.

رابعًا: إذ اعتذر يعقوب بأن أولاده صغار وغنمه مرهقة فهو مضطر إلى الإبطاء في الحركة، سائلاً عيسو أن يتقدمهم، أراد عيسو أن يترك من رجاله من يسندونه ويرشدونه.

٢. يعقوب في سكوت وشكيم:

أرتحل يعقوب إلى "سكوت" وتعني "مظال"، وقد وجدت بلاد كثيرة تحمل هذا الاسم، مثل سكوت التي أقام فيها اليهود المظلات بعد خروجهم من مصر بالقرب من رعمسيس (خر ١٢: ٣٧)، وسكوت بغرب الأردن، أما سكوت هنا فتقع شرقي الأردن جنوب نهر يبوق بحوالي ميل.

بعد سكوت انطلق إلى شكيم في أرض كنعان (راجع ١٢: ٦). وفي بعض الترجمات قيل: "أتى يعقوب إلى ساليم مدينة شكيم" [١٨]، أي إلى ساليم على حدود أراضي شكيم بن حمور. وهناك اشترى حقلاً من بني حمور بمئة سقيطة (السقيطة عملة مرتفعة القيمة (أي ٤٢: ١١)، ويترجمها البعض "خروف" ربما لأنه قد رسم صورة خروف على هذه العملة).

على أي الأحوال إن أول عمل قام به يعقوب عند عودته أرض كنعان هو إنشاء مذبح للرب، إذ قيل: "وأقام هناك مذبحًا للرب ودعاه إيل إله إسرائيل" [٢٠]. أي دعاه: "الله إله إسرائيل" فقد جاء ليستقر في حضن الله خلال الذبيحة المقدسة.

ليكن لنا في قلبنا مذبح للرب، فتكون أعماقنا كنعان الروحية التي يتجلى الله فيها خلال ذبيحة الصليب!

<<

الأصحاح الرابع والثلاثون

دينة وأهل شكيم

عاد يعقوب إلى كنعان ومعه أحد عشر أبنًا كما كان معه دينة من زوجته ليئة، إذ خرجت دينة لتنظر بنات الأرض، اعتدى عليها شكيم بن حمور الأمر الذي أثار نفس أولاد يعقوب فقتلوا أهل شكيم وسبوا نساءهم وأطفالهم وسلبوا أموالهم، فتكدر يعقوب جدًا.

١. اعتداء شكيم على دينة            ١-٢

٢. حمور يطلب دينة لابنه            ٣-١٢

٣. إجابة بني يعقوب بمكر            ١٣-٣١

١. اعتداء شكيم على دينة:

"وخرجت دينة ابنة ليئة التي ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض، فرآها شكيم بن حمور الحوي رئيس الأرض وأخذها واضطجع معها وأذلها" [١-٢].

في حديثنا عن أبناء يعقوب (ص ٣٠) رأينا إن الأحدى عشر (فيما بعد الأثنى عشر) يشيرون إلى ثمر الروح أما دينة كابنة له فتشير إلى ثمر الجسد، الذي يبقى مقدسًا ومتجاوبًا مع ثمر الروح ما دام الجسد مضبوطًا تحت تدبير حسن، أما إن يُترك العنان لدينة لتخرج وتنظر بنات الناس، فإنها تفقد قدسيتها وتفسد سلام أبيها وأخوتها وتسبب هلاكًا وقتلاً لكثيرين. لهذا السبب يقول الرسول الروحي بولس: "أقمع جسدي واستعبده لئلا بعدما كرزت للآخرين أصير أنا نفسي مرفوضًا".

كانت سارة في الخيمة وراء إبراهيم حتى عندما التقى بالله وملاكيه (تك ١٨: ٩، ١٠) تمثل الجسد المضبوط في الرب السائر وراء شهوات الروح القدس، لذا تمتع الاثنان بالوعد الإلهي أن ينجبا إسحق، أما دينة فخرجت إلى الأرض تنظر بنات الأرض تمثل الجسد المدلل الذي يحطم النفس ويفقدها سلامها.

خرجت دينة كفتاة ترى بنات العالم لتتمثل بهن في تصرفاتهن العالمية ففقدت بتوليتها وحريتها، وأذلها العالم.

٢. حمور يطلب دينة لابنه:

توجه حمور إلى يعقوب يطلب أبنته دينة زوجة لأبنه شكيم، بعد أن أفسدها هذا الأخير، الأمر الذي صدم يعقوب فصمت [٥] منتظرًا مجيء أخوتها من الحقل ليخبرهم بالأمر، فحسبوا ذلك نجاسة في إسرائيل، أي الاعتداءً على أسرة إسرائيل (يعقوب)، وفكروا أن ينتقموا لا من شكيم وحده الذي أرتكب الإثم ولا من والده معه بل من كل أهل المدينة، فتزعم شمعون ولاوي عملاً بعيدًا عن الإنسانية.

ظن حمور أنه يعوض يعقوب عن شرفه بتقدمه لتزويج شكيم من دينة، مقدمًا عرضًا سخيًا في عينيه، أن يدخلوا في علاقات عائلية ومصاهرات ليصير الكل أسرة واحدة، فيسكنوا في الأرض ويتاجروا ويتملكوا... وفي نفس الوقت سأل حمور يعقوب وبنيه أن يكثروا المهر كما يشاءون فإنه مستعد أن يدفع برضا وفرح من أجل محبة ابنه لدينة!

إن كان "شكيم" تعني "كتفأ"، وحمور مشتقة من كلمة "حمار"، فإن ما فعله شكيم ووالده إنما يشير إلى عمل إبليس الذي يثير الخليقة لتكون لها الكتف المعاندة لله، وأن تسلك بفكر حيواني جسداني (كالحمار). فإبليس هذا يعتدي على النفس البشرية كما على دينة ليفسدها بروح معاند وأفكار شهوانية، وإذ يتظاهر بحل هذه المشكلة يتقدم كما بلطف زائد وسخاء، فيعلن رغبته في المصاهرة مقدمًا أرضه وتجارته وممتلكاته كمهر يسحب النفس من يعقوبها الحقيقي! هذه هي خداعات العدو في كل جيل، يود أن يسحب القلب من الإيمان خلال مظاهر اللطف والرقة والعطاء بسخاء والمصاهرة. لهذا السبب يحذرنا الرسول بولس، قائلاً: "أية شركة للنور مع الظلمة" (٢ كو ٦: ١٤).

٣. إجابة بني يعقوب بمكر:

إن كان حمور قد أخطأ إذ حسب الزواج صفقة تجارية، يستطيع بأرضه وماله أن يقتني دينة، فإن بني يعقوب خاصة شمعون ولاوي قد أخطأوا بمكرهم واستغلالهم الدين كفرصة للانتقام بطريقة غير إنسانية. طلب شمعون ولاوي من حمور أن يختتن هو وأبنه وكل رجال المدينة حتى يحق لهم الدخول معهم في مصاهرات ويصير الكل عائلة واحدة. وإذ اختتنوا استل شمعون ولاوي سيفيهما وقتلوا كل المختونين في اليوم الثالث، وأخذا دينة أختهما من بيت شكيم وخرجا، وقد استغل أخوتهما الأمر فقاموا بقتل الكثيرين ونهب المدينة وسبي الأطفال والنساء.

إنها بلا شك جريمة وحشية أزعجت نفس يعقوب وكدرته، إذ خاف لئلا تجتمع الأمم المجاورة معًا وتنتقم لأهل شكيم، خاصة وأنه غريب ويمثل نفرًا قليلاً.

إن كان يعقوب قد ألقى اللوم على أبنيه لمكرهما، ففي الواقع إنما يشرب من ذات الكأس التي مزجها، لقد سبق فاستخدم مكره في اغتصاب البركة من أبيه، فصارت حياته سلسلة لا تنقطع من المرارة بسبب مكر الآخرين وغدرهم به، حتى وإن كان هؤلاء الآخرون هم أبناءه. تصرف يعقوب بمكر فغدر به لابان عشر مرات، والآن يتكدر بسبب مكر أبنيه، ويبقى يعقوب حتى الشيخوخة يحصد ما زرعه.

<<

الأصحاح الخامس والثلاثون

ارتحال يعقوب إلى بيت أيل

بلا شك عاش يعقوب كل أيامه في فدان آرام يحلم باليوم الذي يعود فيه إلى بيت أيل، حيث رأى السلم السماوي وأحس برهبة بيت لله ونذر لله نذرًا... والآن يحقق له الله شهوة قلبه إذ يدعوه للصعود إلى بيت إيل.

١. ارتحال يعقوب إلى بيت إيل        ١-١٥

٢. ولادة بنيامين وموت راحيل       ١٦-٢٠

٣. خطية رأوبين                     ٢١-٢٦

٤. موت إسحق                       ٢٧-٢٩

١. ارتحال يعقوب إلى بيت إيل:

"ثم قال الله ليعقوب قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع هناك مذبحًا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك" [١].

في الوقت الذي كان فيه يعقوب مرتبطًا في شكيم بسبب ما فعله أولاده، وكان خائفًا من الأمم والشعوب المحيطة، إذا بالله نفسه يدعوه للصعود إلى بيت أيل ليقيم هناك ويصنع مذبحًا لله. وبالفعل ذهب إلى مدينة "لوز" التي في كنعان والتي صارت بيت إيل، وقد سبق لنا الحديث عن هذه المدينة (تك ٢٨: ١٦-٢٢). ويلاحظ في هذا العمل الآتي:

أولاً: طلب يعقوب من بيته أن يعزلوا الآلهة الغريبة مثل الترافيم التي سرقتها راحيل من لابان أبيها، والآلهة التي ربما كانت مع عبيده قبل أن يدخلوا في العهد الإلهي، والتماثيل التي يحتمل أن يكون أولاده قد نهبوها من شكيم... فإنه لا يمكن أن يُعلن تقديس بيت الله (بيت إيل) مادامت الجماعة غير مقدسة! فإن قداسة بيت الله تتناغم مع قداسة الجماعة، فيكون كلاهما – المبنى والجماعة – أيقونة حية للسماء التي بلا عيب.

ثانيًا: طلب يعقوب أيضًا من بيته أن يبدلوا ثيابهم، فإن كان نزع الآلهة الغريبة يشير إلى تقديس النفس، فتطير الثياب يشير إلى نقاوة الجسد.

ثالثًا: قدم الكل الأقراط التي في آذانهم مع الآلهة الغريبة ليطمرها يعقوب تحت البطمة التي عند شكيم. يرجح أن هذه الأقراط لم تكن تستخدم للزينة فحسب وإنما كانت تستخدم لأغراض دينية خرافية كجلب الخير وأبعاد الحسد الخ...[395]. أما طمر الأقراط مع الآلهة الغريبة تحت البطمة، فتشير إلى دفن كل عمل شيطاني وكل فكر شرير تحت خشبة الصليب. فإن كان بيت الله في جوهره هو سكنى الله وسط شعبه، فإننا إذ نتلقي بالله يلزمنا أن ندفن كل ما هو من إبليس بقوة الصليب.

رابعًا: رأينا أن "بيت أيل" أي "بيت الله" كانت تدعى قبلاً مدينة لوز، وأن "اللوز" يشير لكلمة الله[396]، وكأن ثمة علاقة وثيقة بين الكنيسة كبيت الله وبين كلمة الله، فإن كان بيت الله هو الدخول بنا إلى حضن الله لنوجد فيه ننعم بحياته، فإن غاية كلمة الله هي ثبوتنا في الله وتمتعنا بالإتحاد معه في ابنه الوحيد الجنس.

خامسًا: إذ انتقل يعقوب إلى بيت إيل لم يجسر أحد من الأمم المجاورة أن يقتفي أثره، إذ "كان خوف الله على المدن التي حولهم" [٥] شعت الأمم برهبة الله في حياة يعقوب المختفي في بيت الله فلم تقدر أن تطارده.

سادسًا: إذ أنطلق موكب يعقوب إلى بيت إيل قيل: "وماتت دبورة مرضعة رفقة ودفنت تحت بيت إيل تحت البلوطة فدعا أسمها ألون باكوت" [٨]. لم يحدث هذا مصادفة، ولا سجل الكتاب هذا الحدث بلا معنى، فقد أراد الله أن تدفن دبورة مرضعة رفقة في بيت أيل تحت البلوطة التي سميت ألون باكوت أي بلوطة البكاء. فإن كان بيت إيل يضم جماعة المؤمنين في الرب الساكن في وسطهم، فمن بين هؤلاء المؤمنين الراقدين الذين سبقوهم فجاهدوا كنحلة (دبورة) وأرضعوا كثيرين وربّوهم في الرب كما فعلت دبورة مع رفقة. بمعنى آخر في بيت الرب يجتمع الكل المجاهدون الذي لا زالوا على الأرض يكملون أيام غربتهم مع اخوتهم الذين سبقوهم في الجهاد، ليكون الكل كنيسة واحدة، بيتًا واحدًا للرب.

دفن يعقوب مربية أمه رفقة التي قدمتها لها عائلتها كهدية يوم خطبتها (تك ٢٤: ٥٩)، وكان للمرضعات منزلة كبيرة واحترام يقترب من منزلة الأم واحترامها. يرى البعض أن دبورة قد ماتت في سن المئة والثمانين، أحضرها يعقوب من بيت أبيه إسحق في حبرون، ويبدو أن يعقوب زار أباه أكثر من مرة واستأذنه أن يأخذ دبورة لينال بركتها كأم لوالدته التي يحتمل أن تكون قد ماتت قبل مجيئه إلى كنعان من عند خاله لابان.

يبدو أن الكل بكاها كثيرًا حتى دعى موضع دفنها "ألون باكوت"، تحت بيت إيل، أي في مكان منخفض في بيت إيل أو بجوارها.

سابعًا: إذ عزل يعقوب الآلهة الغريبة وطمرها مع الأقراط تحت البطمة كما تحت الصليب وانطلق إلى بيت إيل في نقاوة الملابس أي طهارة الجسد، وقد حوط الله حوله بمهابة فلم تقدر الشعوب أن تقترب إليه، وصار موت دبورة ودفنها هناك إشارة لوحدة الجماعة المقدسة على مستوى الأحياء والراقدين، الآن ينعم يعقوب بظهور إلهي وتأكيد لتجديد اسمه وتجديد الوعود الإلهية، إذ يقول الكتاب: "وظهر الله ليعقوب...، وقال له الله: أسمك يعقوب، لا يُدعى أسمك فيما بعد يعقوب بل يكون أسمك إسرائيل... وقال له الله: أنا الله القدير، أثمر وأكثر، أمة وجماعة أمم تكون منك، وملوك سيخرجون من صلبك، والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحق لك أعطيها، ولنسلك من بعدك أعطي الأرض" [9-١١].

في بيت إيل، أي الكنيسة المقدسة، نلتقي بالله القدير "إلشداي" لا بكونه القادر على كل شيء فحسب بل يهبنا فيه القدرة، فنعيش به أقوياء وقادرين، نترنم مع الرسول بولس، قائلين: "أستطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويني" نلتقي بالله القدير واهب القوة الروحية ليجعل فينا كل شيء جديدًا، ونحمل اسمًا جديدًا، فلا ندعى بعد "يعقوب" بل "إسرائيل". نثمر ونكثر كوعده فتنطلق مواهبنا وطاقاتنا وكل أحاسيسنا بالروح القدس تحمل ثمر الروح المتزايد، ونصير في عيني الله أمة بل جماعة أمم إذ تتحول حياتنا إلى طاقات روحية بلا حصر. ويخرج من صلبنا ملوك، فيكون لنا العقل لملك له سلطان على كل فكر، وتكون النفس كملكة تدبر كل أمور الجسد وأحاسيسه بدقة وسلطان، لا يفلت منها إحساس، ولا تتسلل من ورائها نظرة غير مقبولة الخ... وأخيرًا يهبنا نحن ونسلنا الأرض التي أعطاها لأبينا إبراهيم وأبينا إسحق، إي يكون لنا الجسد (الأرض) المقدس كميراث يفرح قلبنا وليس كمقاوم لعمل روح الله.

ثامنًا: أخيرًا قام يعقوب بتدشين أول بيت لله بعد السقوط، إذ قيل: "فنصب يعقوب عمودًا في المكان الذي فيه تكلم معه، عمودًا من حجر وسكب عليه سكيبًا، وصب عليه زيتًا" [١٤]. قدم يعقوب عمودًا حجريًا وسكيبًا من الخمر وزيتًا... فتقبلهم الله من يدي يعقوب ليجعل من الموضع مسكنًا له ولملائكته، هذا الذي لا تسعه السماء ولا الأرض. إنه من قبيل تنازله يقبل هذا الموضع كعلامة حلوله وسط شعبه والتصاقه بأولاده ودخوله بالحب في حياتهم.

هذا العمود يشير أيضًا للسيد المسيح، حجر الزاوية، الذي وسط آلامه المُخلصة أعلن سكيب الخمر، أي تقدمة الفرح ببهجة قيامته، كما قبل زيت المسحة بكونه المسيّا مخلص العالم، فيه وحده ندخل إلى السكنى في حضن أبيه كبيت أبدي يضم الكنيسة كلها بالحب الإلهي.

٢. ولادة بنيامين وموت راحيل:

إذ رحل يعقوب وكل موكبه من بيت إيل متجهًا نحو افراته، على بعد حوالي ميل واحد شمالي افراته ولدت راحيل وتعسرت في الولادة، وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت دعت أبنها "ابن أوني" أي "ابن حزني" بسبب شدة ما قاسته من آلام وأحزان، أما أبوه فدعاه بنيامين، الذي يعني "ابن اليمين". وقد دفنت راحيل هناك بجوار بيت لحم، فنصب يعقوب عمودًا على قبرها، ولا يزال قبرها موجودًا للآن.

بلا شك كان قلب راحيل ملتهبًا بالشوق أن يكون لأبنها يوسف أخ من أبيه وأمه... وعاشت أيام حملها متهللة من أجل هذه العطية... فلماذا سمح الله بموتها عند ولادته؟

أولاً: أراد الله أن يؤكد للإنسان أن الولادة والموت يسيران في حياة البشرية جنبًا إلى جنب، وأفراحنا تمتزج بأحزاننا ما دمنا في الجسد.

ثانيًا: كانت راحيل تمثل كنيسة الأمم ويعقوب يرمز للسيد المسيح، فقد بقيت الكنيسة تتمخض بأولادها متوجعة حتى متى كمل المختارون ترحل الكنيسة كلها لتستريح أبديًا... وما يؤلم الكنيسة هنا، حتى تدعوه "ابن أوني" يفرح به الرب فيدعوه "بنيامين". إنها تتألم إلى حين وتحزن، لكن حزننا يتحول إلى فرح حين ننطلق جميعًا مع الرب على السحاب ونكون عن يمينه.

٣. خطية رأوبين:

بعد موت راحيل رحل إسرائيل إلى وراء مجدل عدر أي برج عدر أو برج القطيع، وهو موضع يقع في سهل الرعاة شرقي بيت لحم بنحو ميل... في ذلك الحين تجاسر رأوبين الابن البكر ليضطجع مع بلهة جارية راحيل التي أعطتها ليعقوب لينجب لها بنين... وبسبب هذا الدنس فقد رأوبين بركة الباكورية... الأمر الذي يذكره يعقوب بمرارة وهو على فراش الموت (تك ٤٩: ١٤).

ما فعله رأوبين الابن البكر، أي صعوده إلى فراش أبيه بجسارة، إنما يشير إلى عمل عدو الخير الذي كان قبلاً كوكب الصبح وقد وهبه الله إمكانيات وهبات فائقة، لكن في كبرياء قلبه غرر بالإنسان ليسحب من قلبه، مسكن الله، ليحتله إبليس كمغتصب ومدنس للفراش!

بعد ذكره خطية رأوبين قدم لنا حصرًا لأولاد يعقوب الاثنى عشر، وقد سبق لنا الحديث عنهم (الأصحاح ٣٠).

٤. موت إسحق:

"مات إسحق وعمره مئة وثمانون سنة... وانضم إلى قومه شيخًا وشبعان أيامًا" [٢٩].

إن كان إسحق قد عاش هذا العمر لكنه قدم ثمار سنوات كثيرة، فالعمر لا يحسب بالسنوات وإنما بالحياة العملية التقوية.

<<

الأصحاح السادس والثلاثون

نسل عيسو

إذ مات إسحق ودفنه عيسو ويعقوب ابناه قدم لنا الكتاب المقدس قوائم بنسل عيسو والأمراء الخارجين منه، ونسل سعير وملوك آدوم... وقد جاءت القوائم مختصرة حتى يمكن للمؤمن أن يتفهم الأحداث الواردة بعد ذلك عبر العصور بمعرفته لأصل كل شعب أو أمة. هذا وقد دخلت الشعوب في الإيمان عندما جحد إسرائيل القديم مسيحه.

١. نساء عيسو                      ١-٣

٢. مواليد عيسو في كنعان           ٤-٥

٣. ارتحال عيسو إلى سعير          ٦-٨

٤. مواليد عيسو في سعير           ٩-١٤

٥. أمراء بني عيسو                  ١٥-١٩

٦. بنو سعير                         ٢٠-٢٨

٧. أمراء سعير                       ٢٩-٣٠

٨. ملوك أدوم                        ٣١-٣٩

٩. قائمة أخرى بأمراء عيسو        ٤٠-٤٣

١. نساء عيسو:

سبق أن ذكرت أسماء نساء عيسو في (تك ٢٦: ٣٤، ٣٥؛ ٢٨: ٩)، أما سبب الاختلاف بين القائمة الواردة هنا وما ورد قبل ذلك فهو حمل بعضهن أكثر من أسم، وهذه عادة كانت سائدة بين الرجال والنساء كدعوة عيسو أدوم، وساري سارة الخ...

يلاحظ هنا:

أولاً: أهوليبامة بنت صبعون الحوي غالبًا هي يهوديت، والدها عني الحوّي وهو بعينه بيري الحثي، ذلك لأن والد حوي وأمه حثية، خاصة وأن الحويين والحثيين من القبائل المتناسلة من كنعان (١٠: ١٥، ١٧) وكانوا يصاهرون بعضهم بعضًا.

ثانيًا: عدا أو عادة بنت إيلون الحثي هي بسمة (٢٦: ٣٤).

ثالثًا: بسمة بنت إسماعيل أخت نبايوت كانت تدعى محلة (٢٨: ٩)

٢. مواليد عيسو في كنعان:

قٌدِّمَ لنا قائمة بالأولاد الذين أنجبتهم نساء عيسو حين كان لا يزال في مع أبيه إسحق في كنعان، وهم:

أولاً: ابن عدا: أليفاز (إلهي قوة).

ثانيًا: ابن بسمة: رعوئيل (رعاية الله).

ثالثًا: أبناء أهوليبامة: يعوش (يهوه يسرع)، يعلام (يهوه يعلم)، قورح (نبات القرع).

٣. ارتحال عيسو إلى سعير:

إذ اغتنى يعقوب وعيسو جدً لم تعد أرض كنعان تسعهما، فسكن يعقوب بعد موت أبيه في أرض كنعان ليرث هو ونسله ما وعده به الرب، أما عيسو فارتحل إلى بلاد سعير، كانت تمتد من البحر الميت إلى خليج العقبة وهي تضم سلسلة من الجبال بها مناطق وعرة كما بها مناطق زراعية.

يرى البعض أن أسم سعير ينسب لعيسو نفسه بكونه مملوءًا شعرًا، ويرى آخرون أنه نسبة إلى وجود أشجار كثيرة فتشبه الأرض الجسد المشعر، وآخرون يرون انه نسبة إلى سعير أحد أمراء الحوريين [٢٠]، الذي صاهره عيسو بزواجه أهوليبامة ابنة صبعون وقد ارتحل عيسو وامتلك الأراضي هناك.

٤. مواليد عيسو في سعير:

قدم لنا الكتاب المقدس قائمة بأبناء عيسو وأحفاده الذين صاروا له في جبل سعير، بعد رحيله من كنعان... وإن كانت القائمة قد ضمت بعضًا ممن ولدوا في كنعان.

٥. أمراء بني عيسو:

يقصد بالأمراء هنا رؤساء قبائل، وقد جاءت الكلمة العبرية بمعنى "ألف" أي رؤساء ألوف، وكان دورهم أقرب إلى شيوخ القبائل.

٦. بنو سعير:

يذكر هنا أولاد سعير الحوري السبعة وأحفادهم.

٧. أمراء سعير:

دعي أبناء سعير السبعة أمراء باعتبارهم رؤساء قبائل.

٨. ملوك أدوم:

يذكر هنا ملوك أدوم، وكان هؤلاء الملوك أشبه بالقضاة في إسرائيل، فلم يكن يُورث وسلطانه أشبه برئيس قبيلة.

سبق لنا في مقدمة السفر أن علقنا على العبارة "قبلما مََلََك مُلِك لبني إسرائيل" [٣١]، ورأينا أنها لا تعني بأنها كُتبت في عصر ملوك إسرائيل، إنما كتبها موسى النبي الذي كان يعلم أنه سيملك ملوك على إسرائيل في عصور مقبلة كوعد الله لآبائه مثل قول الرب ليعقوب: "وملوك سيخرجون من صلبك" (٣٥: ١١).

٩. قائمة أخرى بأمراء عيسو:

يرى البعض أن بعض هؤلاء الأمراء تولوا الإمارة بالقوة لا الوراثة.

<<

الأصحاحات ٣٧ – ٥٠

معاملات الله مع يوسف

في لقائنا مع آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب نشعر بآباء شيوخ ارتسمت في حياتهم معاملات الله بغنى لتخرج من صلبهم كنيسة العهد القديم كخميرة كان يجب أن تخمر العجين كله، والآن إذ نلتقي بيوسف يرتسم في ذهننا شخص ربنا يسوع، إذ جاء كرمز له في جوانب كثيرة:

١. يوسف الابن والعبد               ص ٣٧

٢. يوسف وامرأة فوطيفار            ص ٣٩

٣. يوسف السجين                             ص ٤٠

٤. يوسف الممجد                    ص ٤١

٥. لقاء يوسف مع أخوته            ص ٤٢

٦. اللقاء الثاني مع يوسف                    ص ٤٣

٧. استدعاء إخوة يوسف             ص ٤٤

٨. يوسف يعلن ذاته                  ص ٤٥

٩. يعقوب يبارك يوسف وابنيه       ص ٤٨

<<

الأصحاح السابع والثلاثون ‏

يوسف الابن والعبد

إن كان الكتاب المقدس قد أبرز حياة إبراهيم أب الآباء بكونه قد نال الوعد: "يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (٢٢: ١٨)، إذ جاء السيد المسيح مخلص العالم ومشتهى الأمم من نسله، وهكذا بالنسبة لإسحق ويعقوب، ربما توقع البعض أن يعرض حياة يهوذا الذي من نسله يأتي السيد، لكننا نجده يتحدث عن يوسف في شيء من الإفاضة فقد حملت حياته صورة رمزية حية عن شخص المسيّا وسماته وعمله الخلاصي وأمجاده حتى أستحق أن ينعم بنصيب ضعفين إذ صار دون إخوته سبطين هما أفرايم ومنسي، هذا وتعتبر حياة يوسف حلقة الوصل بين عصر الآباء ونشأة اليهود كشعب أو أمة، إذ فتح يوسف الطريق لأبيه وأخوته أن يعيشوا في مصر.

في الأصحاح الذي بين أيدينا نرى يوسف رمز السيد المسيح بكونه الابن المحب والعبد المحب لأخوته، يقدم حياته فدية عنهم:

١. يوسف في بيت أبيه               ١-٣

٢. صاحب الأحلام                    ٤-١١

٣. إرسالية محبته                    ١٢-١٧

٤. المفترى عليه                     ١٨-٣٠

٥. غمس قميصه بالدم               ٣١-٣٥

٦. يوسف العبد                       ٣٦

١. يوسف في بيت أبيه:

"وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه في أرض كنعان. هذه مواليد يعقوب: يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع أخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه، وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم، وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه، لأنه ابن شيخوخته" [١–٣].

سكن يعقوب كنعان كأرض غربة كأبيه إسحق حتى يتسلمها أحفاده فيما بعد كأرض موعد يعيشون فيها لا كغرباء في خيام وإنما كمواطنين يبنون المدن والمنازل... وكأن يعقوب يمثل النفس المصارعة روحيًا لحساب الملكوت تعيش بالإيمان في كنعان السماوية حتى ترثها فيما بعد وتستوطن هناك إلى الأبد.

لم يجد الوحي الإلهي ما يسجله عن مواليد يعقوب أي نسله أعظم من الحديث عن الشاب يوسف الذي كان يبلغ السابعة عشر عامًا، كغلام يساعد أولاد الجاريتين بلهة وزلفة. إنه عظيم في عيني الله ومحبوب لدى أبيه، وإن عمل غلامًا لدى أولاد الجواري! فالعظمة الحقيقية لا تنبع عن نوع العمل الذي يمارسه الإنسان ولا عن مركزه وإنما عن حياته الداخلية وسلوكه الروحي. لقد استطاع يوسف أن يغتصب قلب أبيه أكثر من جميع أخوته وحسبه ابن شيخوخته مع أنه يوجد اخوة أصغر منه.

قلنا كان يوسف رمزًا للسيد المسيح، فهو الابن المحبوب لدى أبيه، وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [أحب يعقوب أبنه لأن الآب يحب ابنه الوحيد الجنس، إذ يقول: "هذا هو ابني الحبيب" (مت ٣: ١٧)[397]].

إن كان يوسف يصير عبدًا في مصر بسبب أخوته وسجينًا ليدخل إلى القصر فيشبع احتياجات أخوته فقد أعلن الكتاب أنه الابن المحبوب لدى أبيه... أقول أنها صورة حية لحياة ربنا يسوع المسيح الذي نزل إلى مصرنا كعبد ودخل من أجلنا تحت المحاكمة ليرفعنا معه إلى قصره السماوي، وهو الابن وحيد الجنس. وما أقوله عن السيد المسيح أقوله عن كل مؤمن حقيقي إذ يليق به أولاً أن يدخل إلى البنوة لله ويكون موضع حبه خلال ثبوته في المسيح يسوع، بهذه البنوة نتقبل بالحب أن نصير عبيدًا وندخل تحت الحكم من أجل اخوتنا لكي نرفعهم معنا بالمسيح يسوع ليذوقوا شركة مجده ويشبعوا من الخبز السماوي. هذا ما عبرّ عنه الرسول بقوله: "فإني إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثيرين" (١ كو ٩: ١٩). في مياه المعمودية تمتع بالحرية في المسيح يسوع، هذه الحرية المملوءة حبًا دفعته أن يصير عبدًا للجميع ليربح الأكثرين في مجد ربنا يسوع المسيح.

إذ أحب إسرائيل أبنه أكثر من أخوته: "صنع له قميصًا ملونًا" [٣]. ما هو هذا القميص الملون إلاَّ الكنيسة المتعددة المواهب التي تقبلها السيد المسيح من يديّ أبيه ثمنًا لحبه للبشرية ودخوله إلى العبودية من أجلها؟! هذا ما أكده القديس أغسطينوس والعلامة أوريجانوس فالقميص الملون هو الكنيسة التي التصقت بالسيد المسيح كثوب له. ففي تجليه "صارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت ١٧: ٢). إشارة إلى الكنيسة التي أقتناها الرب لنفسه وسكن فيها بكونه شمس البر الذي ينيرها. هذا الثوب ذيله الرسول بولس القائل عن نفسه أنه: "آخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا، وآخر الكل" (١ كو ١٥: ٨، ٩). هذا الهدب لمسته نازفة الدم (أي جماعة الأمم التي تنجست بالعبادات الوثنية) فبرأت من نزف دمها. أما كونه ملون، فيقول الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد" (١ كو ١٢: ٤، ٥).

إنه القميص الواحد صاحب الألوان الكثيرة، إن نُزع عنه لون ما قد فقد جماله بل وفقد متانته، وهكذا تعلن الكنيسة حاجتها لكل عضو فيها أيًا كان لونه أي مركزه أو عمله أو مواهبه.

في مقارنة يوسف بالسيد المسيح يقول أوستيريوس أسقف أماسيا: [صنع أبوه قميصًا ملونًا ليوسف، وقيل عن المسيح: "تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة (بإكليل)" (إش ٦١: ١٠)[398]].

٢. صاحب الأحلام:

لم يحتمل إخوة يوسف محبة أبيهم لأخيهم يوسف فكانوا يحقدون عليه حتى "لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" [٤]. هذه المشاعر المرة التي أحاطت بيوسف من إخوته في بيت أبيه لم تكن قادرة أن تغلق قلبه نحوهم ولا أن تؤذي مشاعره أو تفقده سلامه، لهذا انفتحت السماء قدامه لتؤكد له بحلمين متتاليين يحملان معنى واحدًا هو "دخوله إلى المجد، وخضوع الكل له". كأنه يمثل السيد المسيح الذي يفتح قلبه بالحب للبشرية التي حملت العداوة بلا سبب، مقدمًا حياته فدية حتى لصالبيه!

حلم يوسف أن حزمًا قد أحاطت بحزمته وسجدت لها، كم حلم أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا قد سجدت له، فأدرك إخوته أنه يملك عليهم، وهم يخضعون له... وعوض أن يسمعوا لصوت السماء فينفتح قلبهم له "ازدادوا أيضًا بُغضًا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه" [٨] وامتلأوا حسدًا [١١]، وكأنهم بالكرامين الأشرار الذين "لما رأوا الابن قالوا بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت ٢١: ٣٨). أعلنت السموات مجده فازداد الأشرار من نحوه شرًا، فإذا بالله الصالح يخرج من الشر خيرًا، ويحوّل تصرفاتهم إلى طريق لإتمام خطته الإلهية.

"حسده إخوته وأما يعقوب فحفظ الأمر" [١١]. أدرك يعقوب أنه يخضع لأبنه في مجده... وربما كان الأمر يمثل سرًا لم يكن قادرًا على إدراكه في ذلك الحين، فحفظ الأمر في قلبه مترقبًا في صمت وتأمل أعمال الله وتحقيق مواعيده. هكذا يعيش أُناس الله يحفظون في قلبهم وفكرهم إعلانات الله ويتأملون معاملاته كما قيل عن القديسة مريم: "وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها" (لو ٢: ٥١).

٣. إرسالية محبته:

مضى إخوة يوسف إلى شكيم ليرعوا غنم أبيهم، ويغلب أن يكون هذا الغنم قد ضم الأغنام التي استولوا عليها بعد قتل أهلها انتقامًا لأختهم دينة (ص ٣٤)، لذلك أرسل يعقوب يوسف لينظر سلامة إخوته وسلامة الغنم خشية أن تكون بعض القبائل الكنعانية قد اعتدت عليهم انتقامًا لأهل شكيم.

أنطلق يوسف في طاعة لأبيه المحب لأولاده بالرغم مما اتسموا به من أعمال النميمة الرديئة [٢] وما حملوه من بغضة وحسد لأخيهم المحبوب والمحب يوسف؛ لكنها لم تكن طاعة الخوف كالعبيد ولا طاعة الأجير المنتظر الأجرة إنما طاعة الابن المحب لأبيه ولأخوته الحاسدين له. في حب أنطلق من وطاء حبرون إلى شكيم، وإذ لم يجدهم لم يرجع بل بحث عنهم وذهب وراءهم إلى دوثان.

إرسالية يوسف تمثل إرسالية الابن وحيد الجنس، وكما يقول الأب قيصريوس أسقف Arles: [أرسل يعقوب أبنه ليعلن قلقه عليهم، وأرسل الآب ابنه الوحيد ليفتقد الجنس البشري الذي كان ضعيفًا بالخطية، قطيعًا مفقودًا. عندما كان يوسف يتطلع على إخوته جال في البرية، والسيد المسيح إذ بحث عن الجنس البشري جال في العالم... يوسف بحث عن إخوته في "شكيم" التي تعنى "كتفًا" فقد أعطى الخطاة ظهورهم في وجه البار وجعلوا أكتافهم من خلف[399]]

٤. المفترى عليه:

إذ نزل يوسف من بيت أبيه بالحب يبحث عن أخوته الضالين يقول الكتاب: "فلما أبصروه من بعيد قبلما اقترب إليهم احتالوا عليه ليميتوه، فقال بعضهم لبعض: هوذا هذا صاحب الأحلام قادم، فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله، فنرى ماذا تكون أحلامه" [١٨-٢٠].

تشفع فيه رأوبين فلم يقتلوه بل خلعوا عنه القميص الملون وألقوه في بئر ماء فارغ. وإذ جلسوا يأكلون رأوا قافلة إسمعيليين قادمة من جلعاد محملة كثيراء وبلسانًا ولاذنًا لينزلوا بها إلى مصر فأشار عليهم يهوذا ببيعه عبدًا لهم، فباعوه بعشرين من الفضة. وإذ رجع رأوبين إلى إخوته لم يجد يوسف في البئر فمزق ثيابه ولم يعرف كيف يتصرف.

لم يحتملوا رؤيته حتى من بعيد، إذ جاءهم في إرسالية محبة لهم أما هم فكانوا يزدادون حسدًا من أجل عمل الله معه وإعلاناته له (صاحب الأحلام). وكما يقول الأب بيامون: [لم يكن يوسف أخوهم قادرًا أن يخفف من حدة حسد إخوته الأحد عشر، الراغبين في موته مع أنه لم يؤذهم في شيء. ومن الواضح أن الحسد هو من أسوأ الخطايا وأصعبها شفاءً، لأنه يلتهب بنفس الأدوية التي بها تهلك بقية الخطايا... ماذا تفعل لإنسان تزداد معصيته كلما ازددت إتضاعًا ورحمة، هذا لا يغضب طمعًا في رشوة ينالها... أو خدمات يحصل عليها، وإنما يغضب بسبب نجاح الآخرين وسعادتهم؟![400]].

ما فعله إخوة يوسف هنا حمل رمزًا لما فعله اليهود مع السيد المسيح في جوانب متعددة منها:

أ. يقول الأب أوستريوس أسقف أماسيا: [لقد كدّس إخوة يوسف تعنيفًا مرًا لأخيهم وقدم اليهود لومًا للرب قائلين: "إننا لم نولد من زنا" (يو ٨: ٤١)... أُرسل يوسف لأخوته كطبيب يفتقدهم فكان عندهم كعدو مخطط مكائد، وأُرسل المسيح راعيًا رحيمًا فنظروه كلص مصلوب... [401]]. ويقول الأب قيصريوس: [كما حمل إخوة يوسف لأخيهم حسدًا فأعطوا للحب الأخوي ظهورهم لا أوجههم، هكذا للأسف فضّل اليهود الحسد على الحب نحو مقدم الخلاص الذي جاء إليهم. عن مثل هؤلاء قيل في المزامير: "لتُظْلم عيونهم عن البصر، وقَلْقِلْ متونهم دائمًا" (مز ٦٩: ٢٣)[402]].

ب. لم يقف الأمر عند الحسد الداخلي لكنه تُرجم إلى ثورة وخطة وخيانة. يقول الأب قيصريوس: [وجد يوسف اخوته في دوثان التي تعنى "ثورة"، فقد كان الذين يطلبون قتل أخيهم في ثورة عظيمة بحق. عند رؤيتهم يوسف ناقشوا موته، وذلك كما فعل اليهود بيوسف الحقيقي، المسيح الرب، إذ صمم الجميع على خطة واحدة أن يُصلب. اغتصب إخوة يوسف ثوبه الخارجي الملون، ونزع اليهود عن المسيح ملابسه عند موته على الصليب. إذ نُزع الثوب عن يوسف أُلقي يوسف في جب أي حفرة، وإذ حطموا جسد المسيح نزل إلى الجحيم. رُفع يوسف من الجب وبيع للإسماعيليين أي للأمم، والمسيح إذ عاد من الجحيم اشتراه الأمم بثمن الإيمان[403]]. هكذا كان يوسف رمزًا للسيد المسيح والمشاورة ضده، وفي إلقائه في الجب، وفي خلع ثيابه، وفي بيعه للأمم.

ج. كما أشار يهوذا ببيع يوسف هكذا باع يهوذا السيد المسيح؛ بيع الأول بعشرين من الفضة، وفي الترجمة السبعينية "بعشرين من الذهب" وأما سيده فبيع بثلاثين من الفضة. ويعلق الأب قيصريوس على ذلك بقوله: [بيع العبد بأكثر من سيده، لكن بالتأكيد خدعت الحسابات البشرية الإنسان في حالة ربنا الذي لا يُقدر بثمن![404]].

د. إذ ألقى الاخوة يوسف في البئر الفارغة من الماء "جلسوا ليأكلوا طعامًا" [٢٥]، وهكذا إذ دبرّ اليهود قتل السيد المسيح جلسوا يأكلون الفصح القديم كطعام يشبع أجسادهم لا نفوسهم.

هـ. كانت جمال الإسماعيليين الذين اشتروا يوسف محملة بالكثيراء. وهو نوع من أنواع الصمغ يستخدم في الطب وفي التغرية (لصق الأشياء) من أشجار شوكة المعزي Astraaglus، وبالبلسان وهو دهن طيب الرائحة يسيل من شجرة البلسان متى جُرح ساقها يستخدم في الطب والتحنيط، وباللاذن وهو نوع من الصمغ شجرته تسمى Cistus Creticus كان يستخدم في الطب. هذه الخيرات التي حملتها جمال الإسماعيليين عند شراء يوسف إنما تشير إلى مواهب الأمم وقدراتهم التي تقدموا بها عند أيمانهم بيوسف الحقيقي فتقدست واُستخدمت لحساب ملكوته.

٥. غمس قميصه بالدم:

حاول إخوة يوسف خداع أبيهم بغمس قميص يوسف الملون بدم تيس وتقديمه له ليتحقق إن كان هو قميصه، معلنين أن وحشًا رديئًا افترسه. فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحًا على حقويه وناح على ابنه أيامًا كثيرة.

لقد خدع يعقوب أباه إسحق في اغتصابه البركة... ومن أجل نقاوة قلبه وجهاده نال البركة دون عيسو، إذ جاء السيد المسيح من نسله، لكن نال تأديبًا عن خداعه لأبيه. ما كاله لأبيه كُيل له من أبنائه يعيش أيامًا كثيرة في نوح بلا عزاء حتى يلتقي بابنه في مصر.

لم يستطع يعقوب أن ينظر قميص ابنه الملون قد تلطخ بالدم، مع أن القميص وهو يشير إلى الكنيسة لا يمكن أن يكون له كيانه وجماله إلاَّ بالغمس في دم الذبيح ربنا يسوع، الذي أسلم جسده للموت بإرادته ليسكب دمه الطاهر على مؤمنيه واهبًا لهم قوة قيامته.

إذ ظن يعقوب أن ابنه مات قال في مرارة: "إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية" [٣٥]. وكما يقول القديس چيروم: [نزل إلى الهاوية لأن الفردوس لم يكن بعد قد أُفتتح باللص[405]]. كان الكل يخشى الموت لأنه عبور إلى الجحيم انتظارًا لمجيء السيد المسيح ليحمل غنائمه في فردوسه، في مقدمتهم اللص الذي آمن بالرب المصلوب.

٦. يوسف العبد:

"وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة" [٣٦].

الابن المدلل بيع كعبد في مصر، يحمل قلبًا حرًا ونفسًا كريمة لا تستطيع العبودية الخارجية أن تدخل إلى أعماقه الداخلية، إنما بحريته الداخلية رفع من شأن العبيد وكرّم الإنسانية الحرة أيًا كان وضعها الاجتماعي. يقول القديس چيروم: [نقرأ عن يوسف الذي قدم برهانًا عن نزاهته عندما كان في عوز كما وهو غني، والذي أكدّ حرية النفس وهو عبد كما وهو سيد[406]].

يوسف الابن صار عبدًا وكأنه يحمل صورة ربنا يسوع المسيح الابن الوحيد الذي صار من أجلنا عبدًا (في ٢: ٧). يقول الأب قيصريوس: [نزل يوسف إلى مصر، ونزل المسيح إلى العالم! أنقذ يوسف مصر من عدم وجود الحنطة وحرر المسيح العالم من مجاعة كلمة الله. لو لم يُبع يوسف من إخوته لما أُنقذت مصر، حقًا فإنه لو لم يصلب اليهود المسيح لهلك العالم].

بيع لفوطيفار، أسمه يعني "المنتسب إلى رع (إله الشمس)"، أما كلمة "خصي" فلا تعني أنه مخصي وإنما تعني وظيفة رئيس من رؤساء الحرس لدى فرعون، وكان له أن يحكم أحيانًا على المذنبين ويشرف على السجون (٣٧: ٣٦؛ ٣٩: ١، ٢٠).

<<

الأصحاح الثامن والثلاثون

يهوذا وثامار

إذ يأتي السيد المسيح من نسل يهوذا كان لابد للكتاب المقدس أن يعرض لنا سلسلة مواليد يهوذا حتى نتتبع أنساب السيد.

حقًا لقد أشار يهوذا – في محبته للمال – على إخوته أن يبيعوا أخاهم يوسف، لكن الله حول خطأه إلى تحقيق مقاصده الإلهية، فصار يهوذا للأمة اليهودية التي خانت يوسف الحقيقي. والآن ينطلق يهوذا ليتزوج بكنعانية، لكن نعمة الله الفائقة حولت حتى هذا العمل لإعلان تدبير الله الخلاصي...

١. أولاد يهوذا                        ١-٥

٢. عير وثامار                       ٦-١١

٣. يهوذا وثامار                      ١٢-٢٦

٤. ولادة فارص وزارح              ٢٧-٣٠

١. أولاد يهوذا:

"وحدث في ذلك الزمان أن يهوذا نزل من عند أخوته ومال إلى رجل عدلامي اسمه حيرة، ونظر يهوذا هناك ابنة رجل كنعاني اسمه شوع، فأخذها ودخل عليها، فحبلت وولدت ابنًا ودعى أسمه عيرا" [١-٣].

أنفصل يهوذا عن إخوته ومال إلى حيرة العدلامي، ربما كان صديقًا له، وهناك اقترن بابنة رجل كنعاني يدعى "شوع" أي "غنى". وكأنه يمثل الأمة اليهودية التي جحدت يوسف الحقيقي وانطلقت خلال محبتها لغنى العالم تقترن بالفتاة الوثنية أي عدم الإيمان.

حبلت ابنة شوع ثم ولدت أونان، وللمرة الثالثة أنجبت شيلة وكان في كزيب حين ولدته. هذا الالتصاق والإنجاب من الكنعانية إنما يشير إلى إصرار الأمة اليهودية على رفض الإيمان بالمخلص، وفي المرة الثالثة تم الإنجاب في كزيب التي تعني "كاذبًا"، إذ تحمل الأمة ثمارًا كاذبة خلال التصاقها بالجحود.

هذا وعدلام التي ينسب إليها حيرة والد شوع هي إحدى مدن كنعان الكبرى، معناها "مخبأ أو ملجأ"، وهي تقترب من مغارة داود المشهورة في وادي إيله الممتد من حبرون إلى فلسطين على غاية ميلين أو ثلاثة أميال جنوب شوكوة و١٥ ميلاً تقريبًا شمال غربي حبرون. أما كزيب فقد دعيت في نبوة ميخا "إكزيب" (مي ١: ١٤، ١٥)، تقع عند عين كذبة شمال عدلام وبالقرب منها.

٢. عير وثامار:

أخذ يهوذا لبكره عير ثامار زوجة له التي يعني أسمها "نخلة".

إن كان يهوذا قد أخطأ باقترانه بامرأة كنعانية، فإن ثمر هذا الخطأ قد تجلى في أولاده، فيروي لنا السفر عن ابنه البكر عير أنه قد مات قبل أن ينجب ليكون درسًا لعائلته وليتعظ بالأكثر يهوذا وبقية أولاده. لكن الدرس لم يكن له أثره في حياة إخوته، فعندما ألزم يهوذا ابنه أوثان أن يتزوج ثامار لينجب طفلاً باسم الميت عير تصرف بطريقة غير إنسانية في حياته الزوجية حتى لا تنجب ثامار. ولعله كان يهدف بهذا أن ميراث والده يوزع عليه وعلى أخيه الأصغر شيلة ولا يكون للميت (عير) نصيب. هكذا من أجل الطمع في النصيب الأكبر رفض أن ينجب طفلاً باسم أخيه الميت... لذلك أماته الرب أيضًا [١٠].

كان يليق بيهوذا أن يراجع حساباته، ويدرك أنه فشل في تربية أولاده، وها هو قد فقد عيرًا وأوثانًا ولم يبق سوى شيلة... فعوض التفاهم مع شيلة ليسلك بروح آبائه يعقوب وإسحق وإبراهيم طلب من ثامار أن ترجع إلى بيتها تحت ستار صغر سن ابنه الثالث، أما في قلبه فقال "لعله يموت هو أيضًا كأخويه" [١١]. ما أحوجنا في علاج أمورنا أن ندخل إلى العمق، فنرى السبب الحقيقي للفساد وننزعه، عوض التصرف بطريقة شكلية خارجية. لو أن يهوذا انتزع الخطية من أسرته لما كانت هناك حاجة للمخاوف التي ملأت فكره وقلبه ولما كانت هناك ضرورة لرد ثامار إلى بيت أبيها.

٣. يهوذا وثامار:

كبر شيلة ولم يف يهوذا بوعده، إذ لم يقدمه زوجًا لثامار... وإذ كان يهوذا صاعدًا إلى تمنة ليجز غنمه، خلعت ثامار ثياب ترملها وتغطت ببرقع وجلست في مدخل عينايم التي على طريق تمنة، وإذ حسبها يهوذا زانية دخل عليها بعد أن قدم لها خاتمه وعصاه رهنًا حتى يرسل لها جدي معزي من الغنم. وإذ أرسل يهوذا جدي المعزي لم يجدها الرسول فرده إلى يهوذا. وبعد ثلاثة أشهر أُخبر يهوذا بأن ثامار حامل، فقال يهوذا: "أخرجوها فتحرق" [٢٤]، أما هي فأخرجت الخاتم والعصا، وإذ تحققهما يهوذا أدرك خطأه، فقال: "هي أبر مني، لم أعطها لشيلة ابني" [٢٦].

ويلاحظ في هذه القصة الآتي:

أولاً: "تمنة" بالعبرية تعني "النصيب المعين[407]"، يوجد أكثر من موضع يحمل هذا الاسم، أما المذكورة هنا فتبعد حوالي ٧ أميال من عدلام حيث كان يهوذا وحيرة، وهي تقرب من بيت لحم، وتسمى حاليًا تبنة.

لقد انطلق يهوذا إلى تمنة أي نصيبه الخاص به بعد أن تعزى إذ كانت ابنة شوع قد ماتت... ولم يكن يهوذا يفكر في نصيب غيره، يهتم بما لنفسه ولا يهتم بما لثامار كنته الأرملة... لهذا صدق في قوله: "ثامار أبر مني".

ثانيًا: ثامار التي كانت تشتهي ككل سيدة عبرانية أن يأتي من نسلها المسيا المخلص قبلت أن تعرض حياتها للخطر، فخلعت ثياب ترملها وارتدت برقعًا على وجهها ولم تخجل من أن تظهر كزانية ليس من أجل شهوة الجسد إنما من أجل الإنجاب. فقد التصقت بحميها وهو رجل قد كبر في السن... وتظهر طهارتها أنها إذ كشفت الأمر لم تطلب بعد الزواج بأخي رجلها إنما عاشت مع حميها، وقد قيل "لم يعد يعرفها أيضًا" [٢٦].

من أجل إيمانها اشتهت أن تنجب أما يهوذا ففي كبر سنه أرتكب الزنا... لذا يقول: "هي أبر مني" [٢٦]... وقد صارت ثامار مثلاً حيًا يمنعنا من الإدانة مهما كانت علامات الخطية تبدو واضحة وملموسة. وقد علق القديس أمبروسيوس كثيرًا على هذه العبارة "هي أبر مني" في حديثه عن التوبة، سائلاً كل إنسان – حتى الأسقف – ألا يدين أحدًا بل يترفق ويحنو على الخطاة، فمن كلماته:

[يارب هب لي أن تكون سقطات كل إنسان أمامي، حتى أحتملها معه، ولا أنتهره في كبرياء، بل أحزن وأبكي، ففي بكائي من أجل الآخرين أبكي على نفسي، قائلاً "هي أبر مني".

لنفرض أن فتاة قد سقطت، إذ خدعتها وجرفتها ظروف مثيرة للخطايا – حسنًا، ونحن الأكبر سنًا قد نسقط أيضًا – إنه فينا نحن أيضًا ناموس الجسد يحارب ناموس أذهاننا، ويجعلنا أسرى للخطية، حتى أننا نفعل ما لا نريده (رو ٧: ٢٣). قد يكون صباها عذرًا لها، لكن ما هو عذري أنا؟! إنه يجب عليها أن تتعلم، أما أنا فيلزمني أن أعلم إنها "هي أبر مني".

إننا قد نسب طمع الآخرين، لكن لنتأمل إن كنا لم نطمع قط. وإن الطمع أو محبة المال أصل كل الشرور، يعمل في أجسادنا كالأفعى المخيفة في وكرها. لذلك ليقل كل منا: "هي أبر مني".

عندما نحتد بشدة على إنسان، يكون هذا العلماني أقل تهورًا مما أرتكبه الأسقف، لذلك يجب علينا أن نتمعن في الأمر، قائلين بأن ذاك الذي انتهرناه أبر منا. فإنه إذ نقول ذلك قد حفظنا أنفسنا مما قاله لنا الرب يسوع... "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها... يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك" (مت ٧: ٣، ٥).

ليتنا إذن لا نخجل من أن نعترف بأن خطأنا أبشع من خطأ من نرى أنه مستوجب الانتهار، لأن هذا هو ما صنعه يهوذا الذي وبخ ثامار، فإذ تذكر خطيته قال: "هي أبر مني"... لقد أتهم نفسه قبل أن يتهمه الآخرون[408]].

ثالثًا: بهذا العمل الإيماني تأهلت ثامار أن تكون جدة للسيد المسيح، دمها يجري في عروقه، حتى سجل الإنجيلي متى أسمها في نسب السيد المسيح (مت ١: ٢٣) بينما لم يسجل أسم سارة ولا رفقة ولا غيرهما من الأمهات المباركات.

كانت ثامار رمزًا لجماعة الأمم التي صارت كنيسة مقدسة للرب، هذه التي كانت قبلاً بلا ثمر كثامار، أشبه بأرملة مهجورة ليس من يسندها ولا من يعينها. لم يتزوجها وليها الأول شيلة بل التصقت بالولي الثاني يهوذا... هكذا لم تلتصق جماعة الأمم بالوليّ الأول أي بالناموس الموسوي ولا التزمت بالختان والتهود إنما التصقت بالوليّ الثاني أي يهوذا الحقيقي، ربنا يسوع المسيح الخارج من سبط يهوذا.

والعجيب أن تصرفات ثامار حملت الكثير من الرموز التي تطابق ما تمتعت به كنيسة الأمم نذكر منها:

أ. خلعت ثامار ثياب ترملها لكي تلتصق بيهوذا، وهكذا خلعت الأمم ثياب الإنسان القديم لتلبس الإنسان الجديد الذي يليق باتحادها مع العريس الأبدي، بل صار السيد المسيح نفسه ثوبها الجيد.

ب. غطت ثامار وجهها ببرقع، والأمم إذ قبلوا الإيمان يعيشون هنا كما في لغز حتى يلتقون بالعريس وجهًا لوجه فيرونه في كمال مجده وعظمة بهائه ويتعرفون على سمو أسراره الفائقة.

ج. جلست ثامار في مدخل عينايم أي مدخل ينبوعين، وكأنها بكنيسة الأمم التي لم تنعم بينبوع العهد القديم وحده بل وأيضًا بينبوع العهد الجديد معه.

د. تمتعت ثامار بخاتم يهوذا وعصابته وعصاه، أي بخاتم البنوة لله والإكليل السماوي مع خشبة الصليب المحيية.

هـ. ظهر علامات الحمل بعد ثلاثة شهور، وكأنها بكنيسة الأمم التي حملت ثمارًا روحية خلال إيمانها بالثالوث القدوس (٣ أشهر) وتمتعها بالحياة المقامة في المسيح يسوع الذي قام في اليوم الثالث.

رابعًا: يرجح بعض الدارسين أن الزانية العادية لم تكن تتغطى ببرقع، إنما تفعل ذلك المرأة التي تنذر نفسها للزنا لحساب الآلهة خاصة العشتاروت إلهة القمر، تفعل ذلك لتجمع من كل رجل جدي معزي تقدمه لهيكل الآلهة. لذلك جاءت كلمة "زانية" في النص العبري "قدشه" أو قديسة أو نذيرة للآلهة.

بفعلها هذا احتلت ثامار مركز الفتاة الأممية المتعبدة للوثن لتمثل جماعة الأمم الذين انغمسوا في النجاسات وقد التصقوا بالإيمان بيهوذا الجديد لينعموا بالحياة المقدسة الطاهرة ويكون لهم نصيب في الرب.

٤. ولادة فارص وزارح:

أخرج زارح يده فربطت القابلة يده بخيط قرمزي أحمر، لكنه أدخل يده ليخرج فارص أولاً وبعده زارح. ويرى بعض الآباء في زارح مثلاً للشعب اليهودي الذي كان يجب أن يكون البكر، وقد مدّ يده واستلم الشريعة التي تركزت حول الذبيحة (الدم القرمزي) لكن خلال عدم الإيمان خرج فارص ممثلاً الأمم الذين صارت لهم باكورية الروح عوض نازح (اليهود)[409]].

<<

الأصحاح التاسع والثلاثون

يوسف وامرأة فوطيفار

إن كان يهوذا الابن الحرّ قد استعبد نفسه لشهوة الجسد فتزوج بالكنعانية ابنة شوع، فإن يوسف العبد أعلن حريته الحقة إذ لم تستطع امرأة سيده أن تقتنص قلبه أو تدنس جسده بالرغم من كل الظروف المرة التي يعيش فيها هذا الشاب.

حقًا إن كان "يوسف" يعني "نمو" أو "تزايد"، فقد حمل في حياته نموًا بلا توقف، نجح في حبه لأخوته بالرغم من بغضهم له وها هو ينجح في التمتع بالطهارة في بيت العبودية.

١. يوسف في بيت فوطيفار           ١-٦

٢. يوسف وامرأة سيده               ٧-١٠

٣. يوسف والثوب                    ١١-١٨

٤. يوسف في السجن                ١٩-٢٣

١. يوسف في بيت فوطيفار:

لم نسمع عن يوسف وهو في بيت أبيه يعقوب أن البيت تبارك بسببه ولا قيل: "كان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحًا" [٢]، ليس لأن يوسف لم يكن "بركة" في بيت أبيه ولا لأنه لم يكن ناجحًا... لكنه إذ كان مدللاً في أحضان أبيه يتمتع بالقميص الملون دون أخوته لم يكن محتاجًا إلى كلمة تشجيع... أما وقد بيع كعبد في أرض غريبة وحرم من كل عاطفة أسرية أعلن الوحي أن الرب نفسه كان معه يهبه النجاح ويعطيه نعمة في عيني سيده، حتى قيل: "الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، وكانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحقل، فترك (فوطيفار) كل ما كان له في يد يوسف، ولم يكن معه يعرف شيئًا إلاَّ الخبز الذي يأكل، وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر" [٥-٦].

كان يوسف أشبه بقارورة طيب كثيرة الثمن محفوظة ومغلقة في بيت يعقوب، لا يشتم أحد رائحتها كما هي عليه، لكنها إذ كُسرت بآلام العبودية والحرمان من الحب العائلي فاحت رائحتها في بيت فوطيفار، وملأت حقوله أيضًا فأحب يوسف جدًا ورأى فيه عمل الرب فسلمه كل شيء، رآه الكل حسن الصورة وحسن المنظر، إذ كشفت الضيقة عن جمال وجهه الداخلي وسلام قلبه وفكره.

ما حدث مع يعقوب أبيه تكرر معه، فما استطاع يعقوب أن يتمتع بالسلم السماوي ولا أن يدرك إسرار الصليب وأمجاده وهو في خيمة أبيه وبين أحضان أمه رفقة إنما نال ذلك عندما صار طريدًا في الطريق بلا عون بشري، يسند رأسه على المسيح (حجر الزاوية). هكذا لم تنكشف بركة الرب ليوسف ونجاح أعماله وجمال ملامحه الداخلية إلاَّ في بيت العبودية في أرض الغربة.

إن جاز لنا القول أننا ما كنا نستطيع التعرف على يوسف الحقيقي بكونه "أبرع جمالاً من بني البشر" (مز ٤٤: ٣) إلاَّ برفعه على الصليب واجتيازه المعصرة وحده من أجلنا، لذا تناجيه الكنيسة قائلة: "أسمك دهن مهراق" لذلك أحبتك العذارى" (نش ١: ٣).

٢. يوسف وامرأة سيده:

تقف الكنيسة في كل أجيالها أمام يوسف الطاهر الذي عرض حياته للموت حتى لا يدنس جسده بكل إجلال وتكريم. فالقلب الذي امتلأ بالحب الحق حتى لإخوته المبغضين له ليس فيه فراغ لشهوة جسدية ولا عوز إلى عاطفة امرأة غريبة! لقد نجح يوسف في تجربته التي نصبها له العدو خلال امرأة سيده لا من أجل شهامة إنسانية ولا من أجل تربية نشأ عليها وإنما بالأكثر من أجل الحب الذي ملأ قلبه. هذا ما أكده القديس يوحنا الذهبي الفم  حين قارن يوسف وامرأة فوطيفار معلنًا أن يوسف أحبها بحق عمليًا، ففي حديثه معها لم يجرح مشاعرها بكلمة قاسية... لم يتفوه بكلمة أنها تزني، بل في إتضاع قال: "هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ما له قد دفعه إلى يديّ، ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئًا غيرك لأنك امرأته" [٩]. إنه يذكرها بأنها سيدته، وأنها امرأة سيده... كما يعلن عن إكرامها له فكيف يرد إكرامها بهذه الخيانة؟! يعلن أنه العبد الذي يخدم ولا يخون، وأنه موضع ثقة سيده فلا يقدر أن يجحده! لقد أوضح أنه علاقته بهما إنما هي في الرب: "فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" [٩]. لقد أحبها في الرب وخضع لها في الرب... أما علامة حبه الصادق أنه لم يشهر بها في السجن ولا انتقم منها حين سلمه فرعون كل شيء! وعلى العكس كانت امرأة فوطيفار تحبه جسديًا أو بمعنى آخر تحب شهوات جسدها، وعلامة ذلك إنها سلمته للسجن وعرضته للموت بعد أن شهرّت به، فهل حملت حبًا له؟!

يقول الأب قيصريوس: [أظن أنها لم تكن تحبه ولا تحب نفسها. لو كانت تحبه لماذا أرادت تحطيمه؟! ولو كانت تحب نفسها لماذا أرادت أهلاك نفسها؟!... إنها لم تكن تحب لكنها كانت محترقة بسم الشهوة، ولم تكن مشرقة بلهيب الحق[410]].

في حديثه مع من أحبته بعنف لا يستنكف من دعوة رجلها "سيدي" فأنه لا يستغل مشاعرها الشريرة ليسيطر عليها أو يحدثها كمن هو ند لها، إنما زيّن نفسه بروح الإتضاع، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [مع أن يوسف كان من أسرة البطاركة العظام لم يخجل من العبودية المنحطة بل بالحري زينها باستعداده للخدمة، وجعلها مجيدة بفضائله. لقد عرف كيف بتواضع ذاك الذي كان بين أيدي الشاري والبائع ويدعوهما "سيدي"[411]].

٣. يوسف والثوب:

إذ كان بمفردهما في البيت أمسكت به، للحال "ترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج" [١٣]. كان يعرف ثمن هروبه: العري والفضيحة والافتراء عليه والسجن وربما الموت، لكنه قبل هذا كله ثمنًا لعلاقته مع الله وطهارته. بهذا صار يوسف الشاب مثلاً حيًا للطهارة، وكما يقول الأب قيصريوس: [يوجد في الكنيسة ثلاثة نماذج للطهارة يجب أن نتمثل بها: يوسف وسوسنة ومريم. يتمثل الرجال بيوسف والنساء بسوسنة والعذارى بمريم[412]].

إن كان قد قيل عن يوسف أنه: "حسن الصورة وحسن المظهر" [٦]، فبتركه الثوب في يديّ سيدته كشف عن طهارته وجمال نفسه وعذوبة قلبه، وكما يقول الأب قيصريوس: [كان يوسف جميلاً في الداخل أكثر من الخارج، بهيًا بنور قلبه أكثر من جمال جسده، حيث لم تكن عينا هذه المرأة تقدران أن تحترقا وتتمتعا بجماله[413]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم[414]: [أن يوسف قد تعرى فصار أكثر بهاءً من غيره، وكأنه قد عاد إلى حال آدم العريان في الفردوس ولا يخجل، من أجل طهارته].

صار يوسف مثلاً حيًا وشجاعًا للهروب من الشر، فمن كلمات الآباء في ذلك الشأن:

v     إن كنت طاهرًا حتى الآن فلتكن أكثر طهارة بتجنب مثل تلك المناظر. لا تبتهج بالمناقشات الباطلة ولا تحتج بالأعذار غير النافعة وإنما ليكن لك عذر واحد... أترك الزانية المصرية كمن يهرب من يديها عاريًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم[415]

v     هرب يوسف وترك ثوبه حتى لا يسمع شيئًا يضاد عفته. من يلتذ للسماع إنما يحث الآخر على الكلام.

القديس أمبروسيوس[416]

v     إن استعطت أن تتمثل بيوسف وتترك ثوبك في يد سيدتك المصرية، فبعريك تتبع ربك ومخلصك القائل في الإنجيل: "من لا يترك كل ما له ويحمل صليبه ويتبعني لا يكون لي تلميذًا".

القديس چيروم[417]

v     حينما تقف على السطح لا تفكر في الثوب الذي في الداخل (مت ٢٤: ١٧، ١٨)، فلكي تهرب من سيدتك المصرية أترك الثوب الذي يخص هذا العالم... فإن حتى إيليا في انتقاله السريع إلى السماء لم يكن ممكنًا أن يأخذ معه ثوبه بل ترك ثياب العالم في العالم (٢ مل ٢: ١١، ١٣).

القديس چيروم[418]

يرى الأب أوستريوس أسقف أماسيا أن ما فعله يوسف حمل ما تحقق بقوة في المسيح يسوع ربنا، إذ يقول: [أمسكت امرأة مصرية بيوسف فترك لها ثيابه ورحل، والمسيح رحل من الموت الذي أمسك به، تاركًا الثياب في القبر. أمسكت المصرية بثياب يوسف ولم يكن ممكنًا لها أن تمسك به هو، وكانت الأكفان في القبر الذي لم يعق الرب إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك به[419]]

٤. يوسف في السجن:

إذ لم تستطع امرأة فوطيفار أن تغتصب قلب يوسف وأمسكت بثيابه صرخت لتتهمه بالشر، فحمي غضب رجلها: "فأخذ يوسف سيدهُ ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، وكان هناك في بيت السجن. ولكن الرب كان مع يوسف وبسط إليه لطفًا وجعل نعمة له في عينيّ رئيس بيت السجن" [٢٠-٢١].

لقد نجح يوسف في بيت أبيه كابن محب لمبغضيه فدخل به الرب إلى العبودية ليعلن نجاحه كعبد غريب، وإذ نجح في عبوديته وزينها بفضائل دخل به إلى السجن ليتمجد الله فيه وسط المجرمين. لقد أعطاه الرب نعمة في عيني رئيس بيت السجن فسلمه كل شيء؛ وإذا بالرب معه "ومهما صنع كان الرب ينجحه" [٢٣].

ما أجمل الكلمات التي قالها القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان يوسف أكثر مجدًا من كل منتصر مكلل وهو مستمر تحت القيود، وكانت (امرأة فوطيفار) أكثر بؤسًا من أي سجين حتى وإن قطنت المساكن الملوكية[420]].

يؤكد الوحي الإلهي "الرب كان مع يوسف"... بهذا تحول السجن إلى سماء، لأنه حيث يوجد الرب يصير الموضع سماءً! التقى يونان بالرب المدفون في القبر وهو في جوف الحوت وسط تيارات المياه ولجج البحر الثائرة، وظهر كلمة الله ليحيط بالثلاثة فتية وهم في أتون النار... بينما حُرم الفريسي من اللقاء مع الله داخل الهيكل حين وقف متشامخًا يعدد فضائله! لست أقلل بهذا من قدسية الهيكل، لكنني أود أن نتلقى بربنا أينما وجدنا! إن غاية بيت الرب أن نصير مقدسًا للرب وهيكلاً لروحه القدوس، أينما حللنا إنما نحمله في داخلنا. هكذا تحول السجن في حياة يوسف إلى لقاء جديد مع الرب على مستوى ربما أعمق مما كان عليه وهو في بيت أبيه أو في بيت سيده.

على أي الأحوال ألقت المرأة الشريرة بيوسف في السجن لتحطمه، فإذا به ينال نجاحًا في السجن ونعمة، ويتحول السجن إلى طريق للمجد. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا هي طرق الله في التدبير، أن الأمور التي تضرنا هي بعينها التي تنفعنا. هذا ما حدث مع يوسف، فقد أرادت سيدته أن تحطمه، وبدت بالحقيقة تصارع معه لتحطيمه لكنها فيما هي تفعل ذلك كان عملها يدخل به إلى الأمان. فالبيت الذي كان فيه هذا الوحش (المرأة) محفوظًا كان بالنسبة ليوسف جبًا، أما السجن فكان بالنسبة له لطفًا. عندما كان في البيت محفوفًا بالإكرام والتودد (مغازلتها له) كان في رعب يخشى أن تقتنصه سيدته. كان في حالة خوف أقسى مما كان عليه وهو في السجن. أما بعد الاتهام فصار في سلام وأمان، إذ تخلص من هذا الوحش وفسقه وتدابيره المهلكة، لذا كان الأفضل له أن يُحفظ في موضع بائس (السجن) وسط خليقة بشرية عن أن يكون في صحبة سيدة مجنونة... بالحقيقة لم يُلق في سجن إنما انطلق من سجن. لقد جعلت من سيده عدوًا له، لكنها جعلت من الله صديقًا له؛ دخلت به إلى علاقة أوثق مع الله الذي هو الصديق الحق[421]].

<<

الأصحاح الأربعون

يوسف في السجن

دخل يوسف السجن لا لذنب ارتكبه وإنما ثمنًا لشهوة امرأة فوطيفار، وهكذا نزل الرب إلينا واجتاز المعصرة لا عن شر ارتكبه إنما فدية للبشرية التي تنجست. وفي السجن التقى بخصيى الملك وكأنه بالسيد المسيح بين لصين.

١. الخصيان في السجن              ١-٤

٢. حلمًا الخصيين                    ٥-١٩

٣. تحقق الحلمين                    ٢٠-٢٣

١. الخصيان في السجن:

إذ سخط فرعون على خصييه رئيس السقاة ورئيس الخبازين ووضعهما في حبس بيت رئيس الشرطة في بيت السجن، ولم يجدا من يخدمهما بأمانة ورقة مثل يوسف. لقد عاش يوسف في السجن - كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم – كما في بيته، يهتم بالمسجونين كأعضاء معه في بيت واحد. أتسم بالوداعة والرقة والطاعة. لم يخجل من عبوديته ولا من سجنه بل كان مترفقًا بالجميع يخدم حتى قساة المسجونين. هكذا نجح يوسف أينما وجد[422].

٢. حلما الخصيين:

قلنا قبلاً أن "الخصي" هنا لا يعني المعنى الحرفي وإنما يشير إلى مركز سام في بلاط فرعون. لقد حلم الاثنان في ليلة واحدة وفي موضع واحد، وكان الاثنان مغتمان... لكن يوسف استطاع بالله أن يفرز بينهما، قائلاً: "أليست لله التعابير؟! قُصَّا عليّ" [٨].

ماذا يعني هذا؟

أولاً: لعل الخصيين يشيران إلى اللصين الذين كانا حول السيد المسيح المصلوب[423] - يوسف الحقيقي – يعيرانه، لكن اللص اليمين عاد فأعلن توبته واغتصب الفردوس ليبقى مع الرب، إما اللص الذي على اليسار فبقي في شره وتعييره فخسر حياته الزمنية وأبديته. الخصيان يشيران إلى جنس البشرية الساقط، لكن قسمًا بالإيمان يجتاز الغضب ويعبر إلى الملكوت والآخر في جحوده يفقد حياته أبديًا.

من هو الذي أغتصب مراحم الله إلاَّ رئيس السقاة الذي حمل عصير العنب في الكأس ليقدمه للملك، كأنه بجماعة المؤمنين الذين يقبلون دم السيد المسيح في كأس حياتهم ويجتازون بالإيمان معه المعصرة فيسر الآب بذبيحة ابنه القادرة على الخلاص. أما رئيس الخبازين فقد حمل من جميع طعام فرعون من صنعة الخباز وكان الطيور تأكله من السّل الذي على رأسه. يبدو لي أن هذا الطعام الذي تختطفه الطيور إنما يشير إلى أعمال الناموس التي اتكأ عليها اليهود خلال عبادتهم الحرفية أو أعمال البر الذاتي، الأعمال التي لا ترتبط بالإيمان فيخطفها عدو الخير ولا تكون موضع سرور الله.

ثانيًا: يشير الخصيان إلى العذارى الحكيمات والجاهلات (مت ٢٥: ١–١٣)، فرئيس السقاة كان خصيًا أي كالعذراء وقد قدم في كأسه عصير الكرمة، وكأنه بالعذارى الحكيمات الحاملات مصابيحهن ممتلئة بزيت الإيمان الحي العامل بالمحبة[424].

ثالثًا: رأى رئيس السقاة كرمة ذات ثلاثة قضبان وقد أفرخت وطلع زهرها ونضج عناقيدها عنبًا [١٠]، ورأى رئيس الخبازين في الحلم ثلاث سلال حواري على رأسه... وفسر يوسف رقم "٣" بثلاثة أيام في نهايتها يتمتع الأول بالتكريم والثاني بالموت.

في دراستنا لسفري الخروج ويشوع رأينا أن رقم ٣ يشير إلى القيامة من الأموات مع السيد المسيح القائم في اليوم الثالث[425]، وكأن الحلمين بالنسبة لرئيس السقاة يشير إلى قيامة السيد المسيح (وقيامتنا معه) وما تحقق بالنسبة لرئيس الخبازين يشير إلى موت السيد المسيح (إذ ندفن أيضًا معه)، وقد بدأ بالقيامة حتى لا نرتعب من الموت والدفن، كما فعل الرسول بولس حينما قال: "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته" (في ٣: ١٠).

ولعل رئيس السقاة يشير إلى جماعة المؤمنين الحقيقيين الذين قبلوا سمات القيامة فيهم رائحة حياة، أما رئيس الخبازين فيشير إلى الذين صار لهم عمل المسيح رائحة موت بسبب جحودهم. وكما يقول الرسول: "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان، لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياه لحياة" (٢ كو ٢:١٤–١٦).

ومع ما وصل إليه يوسف من هذا السمو الفائق فصار رمزًا للسيد المسيح في موته وقيامته، ورمزًا له في صلبه بين اللصين لكنه في ضعف بشري أتكل على ذراع بشرية، طالبًا من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون، وإن كان قد تحدث في أدب لم يجرح مشاعر فوطيفار أو امرأته، إذ قال: "لأني قد سُرقت من أرض العبرانيين، وهنا أيضًا لم أفعل شيئًا حتى وضعوني في السجن" [١٥].

الله في محبته ليوسف أدّبه على هذا التصرف، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إذ كان يوسف متعجلاً في الهروب من السجن تُرك هناك زمانًا... حتى يتعلم ألا يضع رجاءه أو ثقته في البشر وإنما في الله وحده[426]].

٣. تحقق الحلمين:

تحقق الحلمان في اليوم الثالث كقول يوسف، يوم ميلاد فرعون، حيث صنع وليمة لجميع عبيده، ونال رئيس السقاة العفو والعودة إلى عمله بينما عُلق رئيس الخبازين كما عبر يوسف. إنه يوم ميلاد جديد فيه يحيا الإنسان الجديد (رئيس السقاة) المجتاز المعصرة بينما يموت الإنسان العتيق المتعجرف إذ وضع الخبز على السلة العليا.

<<

الأصحاح الحادي والأربعون

يوسف الممجد

تخرج يوسف في مدرسة المحبة الصادقة، فقد أتسع قلبه بالحب لإخوته المبغضين له، ونجح في بيت فوطيفار كعبد يخدم في محبة طاهرة، وأخيرًا كسجين وسط المذنبين، وفي الوقت المناسب رفعه الله إلى القصر وكأنه بالسيد المسيح الذي نزل من أجلنا إلى سجن الجحيم لكي يرفعنا معه إلى قصره السماوي واهبًا إيانا خبزًا سماويًا.

١. حلما فرعون                      ١-٨

٢. إحضار يوسف                    ٩-١٦

٣. الحلمان وتفسيرهما               ١٧-٣٢

٤. مشورة يوسف                    ٣٣-٣٦

٥. يوسف وختم فرعون              ٣٧-٤٦

٦. يوسف وتخزين القمح             ٤٧-٤٩

٧. أبنا يوسف                        ٥٠-٥٢

٨. يوسف يشبع مصر                ٥٣-٧٥

١. حلما فرعون:

طلب يوسف من رئيس السقاة أن يذكره أمام فرعون دون أن يمس سمعة امرأة فوطيفار في شئ، لكن إذ اتكل يوسف على هذا الذراع البشري تركه بعد ذلك سنتين في السجن، حتى متى جاء الوقت المحدد من قبل الله تكلم الله نفسه في قلب فرعون خلال حلمين أزعجاه.

رأى فرعون نفسه واقفًا عند نهر النيل، وإذا بسبع بقرات حسنة المنظر وسمينة خرجت من النهر لترتع من مرج أخضر وخصيب، ثم خرجت سبع بقرات أخرى قبيحة المنظر ورقيقة اللحم أكلت البقرات الأولى وقد بقيت كما هي في قبح منظرها [٢١]. وإذ استيقظ فرعون ونام رأى سبع سنابل في ساق واحدة سمينه وحسنة، ابتلعتها سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها...

لقد فسر يوسف الحلمين بكونهما يشيران إلى أمر واحد أراد الله تأكيده، هو حدوث رخاء عظيم لمدة سبع سنوات يفسده جوع شديد وقحط ليس له مثيل لمدة سبع سنوات تالية.

إن كان النيل يشير إلى مياه المعمودية التي من خلالها أنطلق الرب بكنيسته المقدسة مرموزًا إليها بالسبع بقرات الحسنة المنظر والسمينة فإن عدو الخير ينطلق كوحش بحري معه أتباعه الأشرار القبيحو المنظر روحيًا والرقيقو اللحم، غايتهم افتراس الكنيسة في أواخر الدهر... إذ يقول السيد المسيح: "لو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد" (مت ٢٤: ٢٢)؛ "حتى يضلوا لو أمكن المختارون أيضًا، هذا أنا قد سبقت وأخبرتكم" (مت ٢٤: ٢٥). وقد قدم لنا السيد المسيح وصفًا مرًا لمجيء المسيح الدجال في أواخر الدهور، سبق لنا عرض أقوال الكثير من الآباء في تفسيره[427].

تكرر الأمر بالنسبة لسنابل الحنطة، فإن كانت الكنيسة تمثل سنابل القمح المتحدة في ساق ملفوحة بالريح الشرقية، التي يقول عنها القديس هيبوليتس الروماني[428]: [أنها المسيح الدجال، يهب من الشرق كريح ساخنة تحرق الزرع المقدس. هكذا يهاجم المسيح الكذاب بأتباعه الكنيسة المسيح ليفسدها في أواخر الدهور].

يبدو أنها ستكون أيام مريرة عند ظهور ضد المسيح، الذي قال عنه الرسول بولس: "يستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله (كإله) مظهرًا نفسه أنه إله" (٢ تس ٢: ٤). وإذ يتعرض العلامة أوريجانوس لضد المسيح في عظاته على سفر أرميا يشكر الله أنه لا يعاصر هذه الأيام القادمة إذ يتساءل: "هل يا ترى سيوجد مؤمن واحد في كل كنيسة؟!  بهذا يعكس العلامة أوريجانوس فكر الكنيسة في القرن الثاني عن المسيح الدجال.

٢. إحضار يوسف:

إذ أنزعج فرعون أحضر جميع سحرة مصر وحكمائها وقص عليهم حلمه فعجزوا عن تقديم تفسير للحلم. هنا تذكر رئيس السقاة ما حدث له ولرئيس الخبازين في السجن وكيف فسر لهما الغلام العبراني يوسف الحلمين. أخبر رئيس السقاة فرعون، فاستدعى يوسف الذي حلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون... وإذ أخبره فرعون بالأمر، أجاب: "ليس لي، الله يجيب بسلامة فرعون" [١٦].

إن كان إطلاق الشعر وارتداء ملابس السجن يشيران إلى التجسد الإلهي، حيث حمل السيد المسيح طبيعتنا لكن بغير فساد وارتدى جسدنا، فما فعله يوسف إذ حلق شعره وأبدل ثيابه ليدخل على فرعون يشير إلى السيد المسيح الذي يرتفع بنا إلى مجده، إلى حضن أبيه بعد أن ينزع عنا عارنا ويبدل طبيعتنا الأولى إلى طبيعة تليق بتمتعنا بحياته. في المسيح يسوع نخلع إنساننا القديم لنلبس الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.

٣. الحلمان وتفسيرهما:

قص فرعون ليوسف الحلمين وأخبره أن السحرة لم يستطيعوا أن يخبروه بتفسيرهما. هنا فرعون يمثل العالم الذي كان الله يتحدث معه خلال الأحلام والرموز خاصة في العصر الموسوي... حتى يأتي السيد المسيح نفسه – يوسف – الذي يكشف لنا الرموز، ويحدثنا فمًا لفم، ويهبنا المشورة الصالحة باستلامه قيادة حياتنا، وإقامة مخازن قمح روحي في أعماقنا.

ما أحوجنا أن ننطلق من الحكماء والسحرة إلى يوسف الحقيقي، فلا نعود نتكل على فهمنا البشري بل بالإيمان نلتقي بربنا يسوع، يكشف لنا الأسرار الإلهية ويقود حياتنا في أيام الشبع كما في أيام الجوع، ويتسلم تدبيرنا الروحي حتى يخرج بنا من ضيق هذا العالم إلى كمال مجده الأبدي!

٤. مشورة يوسف:

لم يقف عمل يوسف عند تفسير الحلمين بل قدم لفرعون مشورة صالحة بحسب الحكمة الإلهية: "فالآن لينظر فرعون رجلاً بصيرًا وحكيمًا يجعله على أرض مصر. يفعل فرعون فيوكل نظارًا على الأرض، ويأخذ خُمس غلة مصر في سبع سني الشبع، فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحًا تحت يد فرعون طعامًا في المدن ويحفظونه، فيكون الطعام ذخيرة لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر، فلا تنقرض الأرض بالجوع" [ ٣٤–٣٦].

لقد تركزت مشورة يوسف في النقاط التالية:

أولاً: الحاجة إلى رجل بصير وحكيم يقيمه فرعون على أرض مصر... وكانت إجابة فرعون على هذا المطلب: "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله؟! ثم قال فرعون ليوسف: بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك. أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبل جميع شعبي" [ ٣٨–٤٠].

إذ يفتح الرب بصيرتنا فلا نعيش بعد تحت ظلال الناموس، بك يتكشف الحلمان فنفهم الحق عوض الظل، والمرموز إليه عوض الرموز نكتشف هذه الحقيقة أننا محتاجون إلى من يتسلم أرضنا ويتدبر حياتنا الداخلية بحكمة سماوية، فنقول ليوسفنا: إن كنت قد أدخلتنا إلى الحق، وفتحت بصائرنا على السموات من هو بصير وحكيم مثلك؟! من يكون على بيتي الداخلي ويشبع أفواه حواسي وعواطفي وكل طاقاتي غيرك؟! بمعنى آخر كلما دخل بنا ربنا يسوع المسيح إلى أسراره السماوية ازداد إحساسنا بالحاجة إليه والتهبت أعماقنا شوقًا نحوه، فنقول مع العروس: "وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي" (نش ٣: ٤).

إن كان فرعون قد تعلق قلبه بيوسف قائلاً: "هل نجد مثل هذا الرجلاً فيه روح الله؟!"، فكم بالحري يليق بنا أن نتعلق بذاك الذي روح الله هو روحه؟! الواحد مع الروح القدس في اللاهوت؟!

يقول الرسول بولس: "لأن غاية الناموس هي المسيح" (رو ١٠: ٤)... فإذ يكشف لنا السيد المسيح عن أسرار الناموس وأعماقه نكتشف غايته أن يدفعنا نحو المسيح كمخلص وعريس للنفس البشرية. ولعله لهذا السبب كان المرتل يصرخ: "بنورك يارب نعاين النور"، وكأنه يقول بمسيحك الذي هو نورك نكتشف أسرار ناموسك فيدخل بنا إلى المسيح نفسه بكونه "النور الإلهي". المسيح هو الطريق وهو الغاية!

ثانيًا: يوسف يسأل فرعون أن يقيم نظارًا على الأرض تحت قيادة ذاك الحكيم الذي يدبر أرض مصر. ماذا يعني بهؤلاء النظار إلاَّ تقديس الحواس، فتكون جميع حواسنا مضبوطة في الرب ومقدسة، تعمل لا حسب أهواء الجسد بل حسب مشورة السيد المسيح مدبر حياتنا كلها.

والعجيب أن السيد المسيح لم يأتمن نظارًا على حواسنا غير روحه القدوس الذي وحده يقدر أن يقدس ويشكل حواسنا حسب إرادته الإلهية. يقول القديس الأنبا أنطونيوس: [الروح القدس يعلم الإنسان أن يحفظ الجسد كله – من الرأس إلى القدمين – في تناسق. فيحفظ العينين لتنظرا بنقاوة. ويحفظ الأذنين لتصغيا في سلام دون أن تتلذذ بالأحاديث عن الآخرين والافتراءات وذم الغير. ويحفظ اللسان لينطق بالصلاة وحده، معطيًا وزنًا لكل كلمة، فلا يسمح لشيء دنس أو شهواني أن يختلط بحديثه. ويحفظ اليدين لتتحركا طبيعيًا فترتفعان للصلاة لصنع الرحمة والكرم. ويحفظ المعدة ليكون لها حدود مناسبة للأكل والشرب، وذلك حسب القدر الكافي لقوت الجسد، فلا يترك الشهوة والنهم ينحرفان به فتتعدى حدودها. ويحفظ القدمين ليسلكا حسب إرادة الله بهدف القيام بالأعمال الصالحة. بهذا يكون الجسد كله قد اعتاد كل عمل صالح، وصار خاضعًا لسلطان الروح القدس، فيتغير شيئًا فشيئًا حتى يشارك – إلى حد ما – في النهاية صفات الجسد الروحي الذي يناله في القيامة العادلة[429]].

ثالثًا: طالب يوسف فرعون بالجمع في أيام الشبع، وتخزين خُمس المحصول السنوي لمدة سبع سنوات حتى يستخدم هذا الفائض في أيام الجوع. هذه مشورة حكيمة يليق بكل مؤمن أن يلتزم بها روحيًا، ففي فترات تعزيته الروحية والتهاب قلبه بمحبة الله يكون حريصًا أن يغتنم كل فرصة ليجمع لحساب ملكوت الله في مخازن قلبه الداخلية، حتى متى كان أمينًا وغير مستهتر في تلك الآونة يسنده الرب نفسه في أوقات الجفاف وفي فترات التجارب.

بقد أمانتنا في فترات الالتهاب الروحي وحرصنا على كل فرصة للنمو والبنيان المستمر، نجد عون الله المجاني يفيض في فترات الفتور... فهو أمين و"ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة" (عب ٦: ١٠).

إن كنا تحت الناموس نلتزم بتقديم العشور، ففي عهد النعمة يليق بنا أن نقدم بفيض، فالخُمس هنا لا يعني كمًا معينًا إنما تقديم حواسنا له بكونها خمس حواس!

رابعًا: إذ نقيم في الأرض مخازن "لا تنقرض الأرض بالجوع" [٣٦]... بمعنى أنه إن صار جسدنًا يحمل فيه مخازن الحنطة الروحية، فإن الخطية لا تستطيع أن تفسده بجوعها، بل يجتاز فترات الضيق دون أن يهلك!

٥. يوسف وختم فرعون:

تلمس فرعون في يوسف أنه رجل فيه روح الله [٣٨]، إنسان بصير وحكيم ليس مثله في الحكمة، لذا قال له: "أنظر قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف، وألبسه ثياب بوص (من الكتان الأبيض) ووضع طوق ذهب في عنقه، وأركبه في مركبته الثانية، ونادوا أمامه أركعوا" [٤١–٤٣].

يا للعجب الذي طرده إخوته من بينهم وحسبوه أهلاً للموت يكرمه الملك الوثني ويقيمه في قصره على كل أرض مصر. إخوته خلعوا قميصه الملون، وغريب الجنس يقدم له الثوب الكتاني الأبيض. باعه إخوته كعبد والوثني يهبه خاتمه ويضع طوق في عنقه ويركبه مركبته الثانية. إخوته أذلوه والغريب نادى أن يركع له الجميع.

من هو يوسف هذا إلاَّ السيد المسيح الذي رفضته أمته وقبله الأمم كملك يسيطر على قلوبهم ويدبر حياتهم ويتجلى في أعماقهم؟!

من هو يوسف هذا إلاَّ كل مؤمن حق يثبت في السيد المسيح ليصير مرفوضًا من أخوته، مشهودًا لبره من الذين في الخارج؟!

أما فرعون فإن كان يمثل الشعوب الوثنية التي قبلت السيد المسيح، العبد المرفوض من إخوته، ليملك عليها روحيًا ويتسلم قيادة حياتها، يمكننا القول أنه يمثل الآب أيضًا. فكما خرج يوسف من السجن ليلتقي بفرعون ويتسلم الخاتم من يده والثوب الكتاني الأبيض وطوق الذهب في عنقه والمركبة. إنه السيد المسيح الذي صار لأجلنا كعبد، ودخل إلى الجحيم كما في السجن، ولحسابنا أنطلق فنال باسمنا من الآب خاتم البنوة، فصرنا فيه أبناء الله، وتمتعنا ببره كثوب كتاني أبيض بلا عيب ولا دنس، وصار لنا شركة أمجاده معلنة في الطوق الذهبي، وتمتعنا بالمركبة السماوية المنطلقة بنا نحو السماء كما من مجد إلى مجد ومن قوة إلى قوة، وصرنا فيه ملوكًا مكرمين.

لقد دعى فرعون يوسف "صفنات فعنيح" التي تعني بالمصرية "طعام الحياة"... اللقب الذي يليق بحق بالسيد المسيح إذ لم يبن مخازن أرضية ليجمع حنطة في أيام الرخاء بل قدم نفسه خبزًا سماويًا، من يأكله لا يجوع إلى الأبد. يرى البعض أن هذا اللقب يعني بالعبرية "مخلص العالم" أو "معلن الأسرار".

أزوجه فرعون اسنات ابنة فوطي فارع كاهن أون، وكان في ذلك يرمز لاتحاد السيد المسيح بعروسه القادمة من الأمم حيث كان والدها يتعبد ويكهن للأصنام. هذا وأسنات أسم آلهة الحكمة، واسم أبيها فوطي فارع يعني المنتسب لرع إله الشمس، أما أون فهي هليوبوليس مدينة الشمس...ويقول إن أسنات كانت فتاة جميلة ومهذبة أحبت يوسف بسبب ما اتسم به من سمات فتركت عبادة الأوثان والتصقت بعبادة الله الحيّ. على أي الأحوال ليتنا نحسب كأسنات فنكون "حكماء" نترك عبادة شمس هذا العالم لنلتصق بشمس البر عريسًا أبديًا.

٦. يوسف وتخزين القمح:

أقام يوسف مخازن في كل مدينة وإذ بدأ الموظفون يقيدون كميات الطعام الواردة في كل مدينة حدث فيض حتى لم يستطع أحد أن يحصي الكميات الواردة، "وخزن يوسف قمحًا كرمل البحر كثيرًا جدًا حتى ترك العدد إذ لم يكن له عدد" [٤٩].

حينما نسلم حياتنا في يد ربنا يسوع يفيض في كل مخازن حياتنا، ويهبنا شبعًا بلا كيل، فوق كل الحسابات البشرية، فيعيش الإنسان متهللاً، لا يستطيع الفراغ  أن يتسلل إلى فكره أو قلبه أو أحاسيسه! إذ يبسط الرب يديه يعطي بسخاء ولا يعير، مفجرًا في داخلنا ينابيع حية تفيض بلا توقف.

٧. أبنا يوسف:

في سنوات الشبع أنجبت أسنات ليوسف ابنين هما منسي، إذ قال يوسف: "الله أنساني كل تعبي وكل بيت أبي" [٥١]، أفرايم، قائلاً: "الله جعلني مثمرًا في أرض مذلتي" [٥٢].

النفس التي تلتصق بالسيد المسيح تنجب كأسنات ابنين هما منسي وأفرايم، الأول يمثل الجانب السلبي حيث ينسى الإنسان هموم الحياة ومتاعبها وينسى بيت أبيه القديم، أما الثاني فيمثل الجانب الإيجابي إذ أفرايم يعني "الثمر المتكاثر" فلا يكفي أن ننسى الماضي وإنما يليق بنا أن نثمر في الرب.

إن كانت أسنات تمثل الحياة الفاضلة، إذ هي اتحاد مع يوسف الحقيقي، فإن هذه الحياة الفاضلة كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[430]: [لا تقف عند ترك الشر أو نسيانه إنما يلزم معه صنع الخير. فالفضيلة في المسيح يسوع لها شقان متكاملان: نسيان الشر وممارسة للخير، أي انغلاق عن الخطية مع انفتاح على البر الحقيقي].

٨. يوسف يشبع مصر:

كملت سبع سني الشبع لتأتي السبع سني الجوع... وإذ كان يوسف مدبرًا للأمر يقول الكتاب: "فكان جوع في جميع البلدان وأما أرض مصر فكان فيها خبز" [٥٤]. إن سلمنا حياتنا في يديّ إلهنا وقت الشبع فإن لن يتركنا جائعين وقت الجوع!

نختم حديثنا هنا بالتأمل في تدبير الله العجيب، فقد سمح ليوسف أن يُلقى في السجن حتى ينقذ المصريين من المجاعة ويهب لعائلته الحياة... وكأنه بالسيد المسيح الذي صار عبدًا، ودخل تحت حكم الصليب لكي يقدم ذاته خبزًا سماويًا يشبع الأمم الغريبة الجنس، وفي آخر الأزمنة ترجع إليه خاصته التي جحدته لتقبل الإيمان به بعد سني الجحود الطويلة.

<<

الأصحاح الثاني والأربعون

إخوة يوسف في مصر

إذ حرم إخوة يوسف أنفسهم من يوسف ببيعهم إياه فقدت كنعان كلها البركة ودخلت في مجاعة بينما تباركت مصر بيوسف وصارت مصدر شبع للجائعين. والآن إذ شعر هؤلاء الإخوة بالجوع اضطروا للرحيل إلى مصر ليشتروا لأنفسهم قمحًا، وكأنهم يمثلون جماعة اليهود التي خانت السيد المسيح وباعته بقليل من الفضة، في آخر الأيام إذ تشعر بالجوع الحقيقي  تترك كنعان وتنطلق إلى مصر، إي إلى كنيسة الأمم تبحث عمن فقدته: الإيمان بالسيد المسيح. لكنها لا تستطيع أن تلتقي به مادامت متعصبة لصهيونيتها مرتبطة بمطامع زمنية.

١. يعقوب يُرسل أولاده إلى مصر              ١-٤

٢. المثول بين يديّ يوسف                     ٥-٢٨

٣. العودة إلى كنعان                           ٢٩-٣٨

١. يعقوب يُرسل أولاده إلى مصر:

"فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح في مصر، قال يعقوب لبنيه: لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض. وقال: إني سمعت أنه يوجد قمح في مصر، أنزلوا إلى هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا" [١-٢].

سمع يعقوب عن وجود قمح في مصر، ربما من التجار الذي يتبادلون السلع مع مصر، أو من الشعوب المحيطة به التي اضطرت أن تنزل إلى مصر لتشتري قمحًا من هناك، لذا بدأ يحثهم على النزول لشراء قمح. ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:

أ. يكرر كلمة "يعقوب" أكثر من مرة، ولم يقل "إسرائيل" مع أنه كان قد أخذ الوعد أنه لا يدعى بعد "يعقوب" بل "إسرائيل". لكن يعقوب هنا لا يمثل شبع الله بل "اليهود" الذين فقدوا الإيمان بالسيد المسيح أي يوسف الحقيقي... إنهم لا يُحسبون إسرائيل الروحي ولا شعب الله بسبب جحودهم.

ب. الآن يلجأ يعقوب خلال أولاده إلى أرض مصر لكي يحيوا ولا يموتوا، فقد خسر اليهود سرّ حياتهم – يوسف الحقيقي –  بينما قبل الأمم – مصر – مصدر الحياة الحقة.

ج. يقول لهم يعقوب: "انزلوا إلى هناك"، فقد أتسم اليهود بالكبرياء الذي دفعهم للجحود، لذا تأتي الدعوة لكل نفس متكبرة أن تنزل عن كبريائها لتذهب إلى هناك. أي إلى كنيسة السيد المسيح المتسمة بروح عريسها المتواضع.

د. يقول يعقوب لهم: "لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض؟!"... كان يليق بهم أن ينظروا إلى موضع الشبع، إلى حيث يوسف موجود، عوض أن ينظروا إلى بعضهم البعض. وكأن كلمات يعقوب هذه تمثل دعوة للنفس أن تنطلق من انغلاقها وتقوقعها حول ذاتها إلى الانفتاح على السيد المسيح. القلب المغلق يعيش جائعًا، أما المنفتح لله والناس فيشبع بالله مصدر كل شبع.

هـ. كان عدد النازلين إلى مصر عشرة من إخوة يوسف [٣]، ولم يكن بينهم بنيامين إذ خشى يعقوب لئلا يُصاب بسوء كما حدث لأخيه يوسف. هذه الانطلاقة الأولى للعشرة إنما تشير إلى الانطلاق للسيد المسيح خلال إدراكنا الروحي للناموس (١٠ وصايا الناموس)، لكنه لن نلتقي بيوسف على مستوى الحب إلاَّ ببنيامين (ابن اليمين)، إي بارتباطنا بالإنجيل الذي يهبنا حق التمتع بيمين الله.

٢. المثول بين يديّ يوسف:

إذ كانت كنعان في رخاء لم يفكر يعقوب وبنوه في للقاء بيوسف، وربما نسى أبناء يعقوب يوسف وظنوا أنهم لن يروه بعد، لكن الله في محبته سمح بالجوع في كنعان حتى يلتقي الكل بيوسف. الله لا يشتاق إلى مذلتنا ولا يطلب لنا الجوع، لكننا إذ نفقد يوسفنا الداخلي تصير أعماقنا جافة وفي قحط، فيسمح الله بالجوع يحل بالأرض لا لشيء إلاَّ لنكتشف الجوع الداخلي ونطلب يوسفنا يشبع الداخل كما الخارج.

ويقول الكتاب: "كان يوسف هو المسلط على الأرض، وهو البائع لكل شعب الأرض، فأتى إخوة يوسف وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" [٦].

كان يوسف هو المتسلط على مصر يدبر أمورها المالية، وقد قام ببيع القمح بنفسه في مخازنها في الحدود الشرقية، ربما لكي يطمئن إلى الغرباء القادمين لشراء القمح لئلا يعبثوا بالبلاد، أو ربما لأن حنينه كان ملتهبًا نحو أبيه وأخوته، فكان ينتظر مجيئهم ليشتروا القمح فيتعرف عليهم. وبالفعل إذ جاء إخوته عرفهم فتنكر لهم وتكلم معهم بجفاء أي تحدث معهم كغريب عنهم. وقد حملت تصرفات يوسف في هذا اللقاء معانٍ كثيرة، نذكر منها:

أ. إذ يمثل يوسف السيد المسيح، عرف إخوته وتنكر لهم أما هو فلم يعرفوه... جاء السيد المسيح الذي يعرفنا بأسمائنا، لكنه إذ حمل طبيعتنا وصار في الهيئة كإنسان لم يستطع اخوته اليهود أن يعرفوه، وكما يقول الرسول: "ولو عرفوا رب المجد لما صلبوه".

ب. تحدث معهم بجفاء بل واتهمهم كجواسيس لا لينتقم منهم، إذ كانت أحشاؤه ملتهبة فيه... وعندما سمعهم يتحدثون في مرارة متذكرين ما فعلوه به وهم لا يدرون أنه يوسف: "تحول عنهم وبكى" [٢٤]. إنما كان قصده بهذا الجفاء ألاَّ يعرفوه سريعًا حتى لا يخافوا منه، ومن ناحية أخرى أراد أن يستفسر عن أبيه وأخيه بنيامين بطريقة غير مباشرة، كما كان يخطط لإحضار الجميع ليعيشوا معه في خيراته. وقد نجح يوسف في تحقيق كل هذه المقاصد حتى وإن تظاهر في البداية بمظهر الجفاء.

الله في حبه لنا يبدو أحيانًا جافيًا لا ليحرمنا من حنوه وإنما ليحقق فينا غايته، ويدخل بنا إلى أسراره والتمتع بنعمه بطريقته الإلهية الفائقة لإدراكنا.

ج. تذكر يوسف الأحلام التي حلم عنهم [٩]... فقد يطول بنا الوقت ونظن استحالة تحقيق وعود الله، لكنه يهبنا تحقيق وعوده في الوقت المعين وبطريقة فائقة لم نكن نتوقعها.

د. أمر بحبسهم ثلاثة أيام... وكأنه أراد أن يؤدبهم ولكن في حنو لعلهم يذكرون خطيتهم من نحو دمه البريء؛ وفي اليوم الثالث تحدث معهم برفق: "افعلوا هذا واحيوا. أنا خائف الله. إن كنتم أمناء فليحبس أخ واحد منكم في بيت حبسكم وانطلقوا أنتم وخذوا قمحًا لمجاعة بيوتكم، واحضروا أخاكم الصغير إليّ فيتحقق كلامكم ولا تموتون" [١٨–٢٠]. لقد أراد أن يطمئنهم أنه لا يستبد بهم فهو خائف الله، لكنه يطلب التحقق من صدق أقوالهم بإحضار الابن الأصغر إذ كان قلبه ملتهبًا نحو رؤيته، وعلامة حنوه أنه وهبهم أن يأخذوا قمحًا لبيوتهم، قائلاً: "لا تموتون"... هذا وقد وضع فضتهم في عدالهم (جوالقهم)، إذ لا يطلب منهم ثمنًا للطعام الذي يقدمه.

لقد سبق فسُجن يوسف، والآن يحبس أخوته ثلاثة أيام ليخرجوا فيجدوا يوسف يهبهم القمح لهم لعائلاتهم، سائلاً إياهم أن يكونوا أمناء فيحضروا أخاهم الأصغر. إنه حديث السيد المسيح الذي دُفن في القبر كما في سجن وقد وهبنا أن ندفن معه ثلاثة أيام لننعم بقوة قيامته عندئذ نتقبله خبزًا سماويًا يشبعنا نحن وكل عائلاتنا أي يشبع النفس مع الجسد والعقل وكل مالنا. أما سؤاله عن الابن الأصغر إنما هي دعوة للعمل، فلن يستريح قلب السيد المسيح من جهة الكنيسة ما لم تأتِ إليه بالأصغر، أي تبحث عن كل نفس ليقتنيها لحسابه... يبقى السيد المسيح يطلب من كنيسته أن تعمل لتأتي إليه ببنيامين، أي تقدم الكل كابن عن يمين الله. بهذا الروح يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الله يرضى بهذا العمل كثيرًا، حتى أنه لو صنع الإنسان كل التقشفات ولو قمع جسده بكل نسك، ولو صام حياته كلها ونام على الحضيض، ولو وزع كل مقتنياته على الفقراء والمساكين، فهذه كلها لا توازي غيرة خلاص النفس[431]].

هـ. كانت كلمات يوسف لهم: "افعلوا هذا واحيوا... لا تموتوا" [١٨، ٢٠]. هذه هي دعوة السيد المسيح القائم من الأموات، يريدنا أن ندفن معه لننعم بالحياة المقامة فلا نموت، وكما يقول الرسول بولس: "فَدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته" (رو ٦: ٤، ٥).

و. لماذا قيد يوسف شمعون أمام عيونهم [٢٤]؟ بلا شك لم يقيده حقدًا ولا انتقامًا... وربما فك قيوده وأحسن معاملته بعد رحيل إخوته، إنما أراد أن يثير فيهم الإسراع بإحضار بنيامين حتى تُفك قيود شمعون أخيهم، وتُرد له حريته. هذا ومن جانب آخر فإن كلمة: "شمعون" معناها "سمع"، فهو يشير إلى الاستماع لصوت الله أو الطاعة له، لذا فإن تقييده إنما يكشف عن فقدان اليهود لروح الاستماع لصوت الله والطاعة له.

هذا ويرى البعض أن شمعون كان قاسيًا جدًا على يوسف وأنه هو الذي اقترح بقتله (٣٧: ١٩، ٢٠) فاستحق التأديب ليشعر بخطيته ويقدم توبة عن تصرفاته.

كان رأوبين (ابن الرؤيا) يوبخ اخوته: "ألم أكلمكم قائلاً لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا، فهوذا دمه يُطلب" [٢٢]. إنه يمثل "ابن الرؤيا" أي البصيرة التي تنفتح لتدرك الخطأ الذي ارتكبه الإنسان وتدفعه للتوبة على ما صنع. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عندما ترون أمرًا ما يحدث لكم اذكروا خطيتكم "التي جلبت هذا عليكم" [432]].

٣. العودة إلى كنعان:

عاد إخوة يوسف بدون شمعون إلى أبيهم في أرض كنعان ليخبروه بكل ما أصابهم، وكيف اُتهموا بأنهم جواسيس، وأن الرجل "سيد الأرض" قال لهم: "بهذا أعرف إنكم أمناء. دعوا أخًا واحدًا منكم عندي وخذوا لمجاعة بيوتكم وانطلقوا واحضروا أخاكم الصغير إليّ، فأعرف أنكم لستم جواسيس بل أنكم أمناء فأعطيكم أخاكم وتتجرون في الأرض" [٣٣–٣٤]... وكان تعليق يعقوب: "أعدمتموني الأولاد، يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تأخذونه، صار كل هذا عليّ" [٣٦]. وكان أن رأوبين قال لأبيه: "أقتل أبني إن لم أجئ به إليك، سلمه بيدي وأنا أرده لك" [٣٧].

عاد بنو يعقوب بلا شمعون فظهرت أعماقهم التي كانت مختفية، ظهروا أنهم كانوا في قلبهم لا يحملون "الاستماع لله"... فصار الظاهر وهو يمثل مرارة للجميع يكشف عن الموقف الداخلي الذي تجاهلوه زمانًا طويلاً.

دعوة يوسف "سيد الأرض" دون أن يعرفوه فشهدوا له من ورائه أن فيه تحققت الأحلام التي كانوا لا يطيقون تذكرها... هذا السيد ليس مستبدًا إنما يطلب أمانتهم برد بنيامين أخيه إليه.

رفض يعقوب تسليم ابنه بنيامين لئلا تصيبه أذية في الطريق كأخيه يوسف، عندئذ كما يقول: "تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية" [٣٨]... هذه هي مشاعر الأبوة الصادقة، فإن سقوط أي ابن لنا مهما كان صغيرًا ينزل شيبتنا بحزن كما إلى الهاوية. هذه الشاعر التي ترجمها الرسول بولس بقوله: "من يضعف وأنا لا أضعف، من يسقط وأنا لا التهب؟!" وقد تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا عن هذه الأبوة الحانية نحو كل نفس في المسيح يسوع[433].

لكن يعقوب يقول: "تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية"، إذ لم يكن بعد باب الفردوس قد انفتح... فكان الموت بالنسبة له انحدارًا!!

<<

الأصحاح الثالث والأربعون

اللقاء الثاني مع يوسف

في اللقاء الأول تظاهر يوسف بالجفاء معهم واتهمهم أنهم جواسيس، وفي هذا اللقاء جاءوا إليه مرتعبين ولم يستطيعوا أن يتعرفوا عليه حتى جاء اللقاء الثالث فحنت أحشاؤه عليهم فأطلق صوته بالبكاء وأعلن لهم ذاته (٤٥: ٢، ٣). كأنهم يلتقون بيوسف في المرة الثالثة خلال قيامته في اليوم الثالث فيعرفونه كسرّ حياتهم وكأخ حقيقي لهم، أما اللقاءان الأولان فيحملان لهم الكثير من الآلام.

١. الحاجة إلى طعام                  ١-١٣

٢. لقاء في بيت يوسف              ١٤-٣٤

١. الحاجة إلى طعام:

اشتد الجوع بالأرض حتى اضطر يعقوب أن يحثهم على العودة إلى مصر لشراء طعام لهم. عندئذ سأله يهوذا أن يسمح لهم بأخذ بنيامين أخيهم، إذ سبق فأشهد عليهم الرجل سيد الأرض أنهم لن يروا وجهه ما لم يكن معهم أخوهم. وإذ كان إسرائيل مستاءً للأمر صار يعاتبهم لماذا ذكروا للرجل عن وجود أخ أصغر لهم فقالوا له بأنه استدرجهم في الحديث وعرف منهم كل شيء. أخيرًا وقف يهوذا كضامن لأخيه الأصغر إذ قال لإسرائيل: "أرسل الغلام معي لنقوم ونذهب ونحيا ولا نموت نحن وأنت وأولادنا جميعًا. أنا أضمنه، من يدي تطلبه، إن لم أجئ به إليك قدامك أصر مذنبًا إليك كل الأيام" [٨-٩].

لقد حمل يهوذا وبنيامين رمزًا للسيد المسيح كل من جانب معين. فيهوذا يمثل السيد المسيح بكونه الضامن لأخيه الأصغر أمام أبيه يلتزم برده، إذ جاء كلمة الله متجسدًا كأخ بكر لنا خارجًا من سبط يهوذا ليتقدم للآب كضامن لنا يفدينا بدمه. حقًا لقد صرنا نحن الأصغر لا بالنسبة للسيد المسيح فهو رأس كل خليقة وموجدها وإنما بالنسبة للخليقة العاقلة السماوية إذ أحدرتنا الخطية جدًا... ومع هذا فإننا في عيني الله الآب كبنيامين يعتز بنا، مقدمًا الابن لأجل خلاصنا. هذا وبنيامين من جانب آخر يقدم لنا رمزًا للسيد المسيح الذي صار "الأصغر" إذ أحتل آخر الصفوف ليضم كل البشرية بالحب. صار الأصغر كبنيامين إن لم ينطلق من كنعان إلى مصر لن ينعم أخوته بالطعام... وكأنه بكلمة الله، الابن المحبوب الوحيد الجنس والجالس عن يمين العظمة، ينزل إلى مصر كواحد منا حتى نجد فيه شبع الروح.

يقول يوسف: "لا ترون وجهي بدون أن يكون أخوكم معكم" [٤]... وكأنه صوت الآب لنا، إنه لن نرى وجهه ولا ننعم بخبزه السماوي ولا شركة أمجاده إن لم نظهر أمامه في المسيح يسوع ومعه! بدونه لن نلتقي بالآب ولا يكون لنا موضع في حضنه الإلهي، وكما يقول الرسول بولس: "اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" (أف ١: ٤).

إذ لم يكن يوجد طريق آخر للخلاص أرسل يعقوب بنيامين إلى أرض مصر، كما طلب من أولاده أن يحملوا من أفخر جني الأرض في أوعيتهم: قليلاً من البلسان وقليلاً من العسل وكثيراء (نوع من الصمغ كان يستخدم في الطب والتغرية، تسمى أشجارها شوكة المغري Astraaglus، وقد دعيت كثيراء ربنا لأنه عندما توضع في الماء يزداد حجمها) ولاذنًا (نوع آخر من الصمغ يسمى Cistus Creticus، وربنا نوع من اللبان إذ يدعى بالعامية "لادن") وفستقًا ولوزًا، كما سألهم أن يردوا الفضة التي وجدوها في عدالهم وفضة أخرى ثمنًا لما يشترونه.

كأنه لكي يلتقي أبناء إسرائيل بيوسف يليق بهم أن يتقدموا بثلاثة أمور:

أولاً: يأخذون بنيامين معهم، الذي بدونه لن يروا وجه يوسف. وكما قلنا يرمز للسيد المسيح الذي فيه ومعه نلتقي بالآب في أمجاده السماوية.

ثانيًا: الهدايا التي هي أفخر جني الأرض، إنما هي ثمار الروح القدس التي يقدمها لنا الآب بروحه القدوس، نحملها هدية حب له. إن كان هو العامل فينا لأجل مسرته (في ٢: ١٣)، فإننا من عمله نقدم له ما يبهجه، وكما يقول داود: "من يدك أعطيناك" (١ أي ٢٩: ١٤). حقًا إن ثمر الروح القدس من محبة وفرح وسلام وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان ووداعة وتعفف (غل ٥: ٢٢، ٢٣) إنما هو بلسان يشفي النفس وكثيراء ولاذن يستخدم كعلاج لها، كما هو عسل يحمل حلاوة للقلب وعذوبة للفكر، وهو فستق ولوز يشبع الأعماق كطعام... نقدم ما تمتعنا به كسرّ علاج للنفس وشبع وعذوبة لها هدية حب للآب في ابنه تسره.

ثالثًا: ردّ الفضة التي وجدوها في عدالهم، إنما يشير إلى فهم رموز العهد القديم ونبواته، أما الفضة الجديدة فهي التمتع بإدراك العهد الجديد والتعرف على إنجيل المسيح فإن كانت كلمة الله هي فضة ممحصة (مز ١٢: ٦)، يليق بنا أن نلتقي بالله خلال تقديم هذه الفضة معلنة في حياتنا ومتجلية في سلوكنا، معلنين فهمنا الروحي الناموسي وإدراكنا للإنجيل عمليًا كل يوم!

٢. لقاء في بيت يوسف:

إذ رأى يوسف أخاه بنيامين مع أخوته  "قال للذي على بيته ادخل الرجال إلى البيت، واذبح ذبيحة، وهيئ، لأن الرجال يأكلون معي عند الظهر" [١٦]. هكذا طلب يوسف من رئيس خدمه الموكل على بيته أن يهيئ مائدة لاخوة يوسف... لكن الرجال إذ أدخلوا إلى بيت يوسف ظنوا إنما أدخلهم لكي يمسك بهم وينتقم منهم بسبب الفضة التي وُجدت في عدالهم، لكن الموكل طمأنهم، قائلاً لهم: "سلام لكم لا تخافوا. إلهكم وإله أبيكم أعطاكم كنزًا في عدالكم، فضتكم قد وصلت إليَّ" [٢٣]. يبدو أن يوسف كان قد لقن هذه الكلمات للرجل حتى يبعث في قلوب إخوته الطمأنينة، خاصة وأن الرجل أخرج إليهم أخاهم شمعون ليلتقوا به، كما قدم لهم ماء يغسلون أرجلهم، وأعطاهم عليقًا لحميرهم، وإذ جاء يوسف إليهم في بيته سألهم عن سلامة أبيهم، وإذ تأكد من بنيامين أخيه "أستعجل يوسف لأن أحشاؤه حنت إلى أخيه وطلب مكانًا ليبكي، فدخل المخدع وبكى هناك. ثم غسل وجهه وخرج وتجلد وقال قدموا طعامًا. فقدموا له وحده ولهم وحدهم وللمصريين الآكلين عنده وحدهم، لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعامًا مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين. فجلسوا قدامه البكر بحسب بكوريته والصغير بحسب صغره، فبهت الرجال بعضهم إلى بعض، ورفع حصصًا من قدامه إليهم، وكانت حصة بنيامين أكثر من حصص جميعهم خمسة أضعاف وشربوا ورووا معه" [٣٠–٣٤].

هذا هو اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وأخوته، وقد ظهر الفارق واضحًا بين لقائه الأول (ص ٤٢) وهذا اللقاء، فالأول يقدم لنا ظلاً للقائنا مع السيد المسيح خلال آلام صلبه أما هنا فنلتقي معه في قبره، لكي في اللقاء التالي (الثالث) ننعم باللقاء معه خلال قيامته... وإن كنا لا نستطيع الفصل بين الصلب والدفن والقيامة بكونهم يمثلون عملاً خلاصيًا متكاملاً لا يمكن تجزئته.

في هذا اللقاء نتلمس ظلالاً لعمل السيد المسيح الخلاصي من جوانب كثيرة منها:

أولاً: في اللقاء الأول يظهر يوسف جافيًا ويتهمهم أنهم جواسيس، وإن كان الكتاب يعلن أنه لم يحتمل مرارة أنفسهم بل "تحول عنهم وبكى" (٤٢: ٢٤). إنه في لقاؤنا مع السيد المسيح في لحظات الصلب حيث كان العدل الإلهي يقتص الدين في جسد السيد المسيح ويستوفيه وكانت أعيننا غير قادرة على إدراك محبة الله الخفية والفائقة للعقل. أما هنا فلا نجد في اللقاء جفاءً بل حنوًا وطعامًا... فعندما دفن السيد المسيح في القبر أمكن للبشرية الراحلة على رجاء أن تلتقي به وتتعرف على محبته وتقبل المخلص طعامًا روحيًا يهب خلودًا أبديًا.

اللقاء الأول تم خارج بيت يوسف، إذ صلب السيد المسيح خارج المحلة ويطالبنا الرسول أن نخرج معه حاملين عاره (عب ١٣: ١٣)، أما هذا اللقاء فتم في بيت يوسف إذ تم تلاقٍ بين الراحلين على رجاء وبين السيد المسيح المدفون وذلك في الفردوس حيث حملهم كغنيمة محبته إلى بيته. وكما قال السيد للص اليمين: "اليوم تكون معي في الفردوس".

ثانيًا: دخل يوسف المخدع وبكى هناك، تم غسل وجهه وتجلد وقال: قدموا طعامًا. ما هو هذا المخدع الذي بكى فيه يوسف الحقيقي ثم غسل وجهه وخرج إلاَّ قبره المقدس، الذي فيه تلاقى مع الموت وغسل موتنا لا بدموعه بل بدمه الطاهر، وخرج بالقيامة ليعطينا جسده المقام حياة أبدية؟!

ثالثا: كان ليوسف مائدة خاصة ولإخوته العبرانيين مائدة والمصريين مائدة ثالثة. اجتماع الكل معًا إنما يشير إلى وحدة الكنيسة في الرأس، حيث يجتمع رجال العهد القديم مع رجال العهد الجديد في المسيح يسوع، إذ كان يوسف يمثل الرأس له مائدته الخاصة بكونه البكر، والعبرانيين يمثلون رجال العهد القديم الذين قبلوا في الكنيسة بيت يوسف طعامًا خاصًا خلال الناموس والأنبياء، والمصريون يمثلون رجال العهد الجديد أي كنيسة الأمم التي تمتعت بمائدة الإنجيل.

رابعًا: إذ جلس العبرانيون أمام يوسف بهتوا متطلعين كل واحد نحو الآخر، فقد جاء ترتيبهم في الجلوس متفقًا مع أعمارهم... تُرى هل كان الرجل يعرفهم؟!

إن كان العبرانيون لم يعرفوا يوسف لكنه كان يعرفهم تمام المعرفة وقد هيأ لكل واحدٍ منهم موضعًا يليق به، وكأنه بالسيد المسيح الذي يعرفنا قبلما كنا نعرفه، يعرفنا بأسمائنا (يو ١٠: ٣)، ويدبر خلاصنا مقدمًا لكل واحد منا منزلاً خاصًا في بيت أبيه (يو ١٤: ٢). يعرفنا ويعرف قامة كل واحد منا في الروح، وكما يقول الرسول: "لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد" (١ كو ١٥: ٤١).

خامسًا: رفع حصصًا من قدامه إليهم، وكانت حصة بنيامين أكثر من حصص جميعهم خمسة أضعاف. ما ناله من حصص في المجد إنما يهبه لنا من قدامه، إذ نصير "شركاء معه في المجد".

لعل ما ناله بنيامين خمسة أضعاف حصص الآخرين، يشير إلى عطية الله لنا بتقديس حواسنا الخمسة لتكون مملوءة شبعًا ومجدًا بالمسيح يسوع مشبعها.

سادسًا: لكي يتم هذا اللقاء المفرح والمشبع، الذي أبهج قلب يوسف إذ لم يكن يحتمل رؤية أخوته خاصة بنيامين فكانت أحشاؤه تلتهب حنينًا وحبًا، ودهش الرجال فكانوا ينظرون ما يحدث كأمر فائق لإدراكهم... يجتمعون بأخيهم شمعون ويجالسون سيد الأرض ويأكلون في بيته، ويقدم لهم من قدامه كان لزامًا أن يتهيأ الرجال هكذا: الدخول إلى بيت يوسف، غسل أرجلهم بالماء، تقديم طعام لحميرهم، جلوسهم على المائدة.

ما هو الدخول إلى بيت يوسف سوى الدخول إلى العضوية الكنسية لنصير بالحق في بيت الرب خلال مياه المعمودية، وما هو غسيل الأرجل بالماء إلاَّ تقديم التوبة التي تغسل آثامنا وما تعلق بأنفسنا من تراب خلال رحلتنا، أما الطعام للحمير فيشير إلى تقديس الجسد الذي كان حيوانيًا بشهواته فلا تسمح له بالشبع خلال ملذات العالم إنما خلال الحياة المقدسة في بيت الرب، وأخيرًا الجلوس على المائدة إنما يشير إلى التمتع بذبيحة الأفخارستيا... هذه كلها وسائط خلاصنا التي ننعم بها في كنيسة المسيح بالروح القدس خلال الصليب.

سابعًا: نختم حديثنا عن هذا اللقاء بتعليق القديس يوحنا الذهبي الفم على بكاء يوسف عندما شاهد أخوته: [لنتمثل بهذا الرجل، فحزن ونبكي على الذي يضروننا، ليتنا لا نغضب عليهم، فإنهم بالحق يستوجبون الدموع من أجل العقوبة التي تحل بهم والدينونة التي يلقون أنفسهم فيها[434]].

<<

الأصحاح الرابع والأربعون

طاس يوسف الفضي

لم يكن ممكنًا ليوسف بعد أن رأى أخاه بنيامين ودخل الأخير بيته وجلس على مائدته أن يتركه يتغرب عنه، لهذا بحكمة أمر يوسف بوضع طاسة الفضي في عدل بنيامين حتى يرده إليه وليتحقق أيضًا مدى أمانة إخوته من جهته، هل يتخلون عن أخيهم ويرجعون بدونه أم يتمسكون به.

١. وضع الطاس في عدل بنيامين              ١-١٣

٢. يهوذا يفدي أخاه الأصغر          ١٤-٢٤

١. وضع الطاس في عدل بنيامين:

أمر يوسف رئيس عبيده أن يضع فضة كل واحد في عدله، وأن يضع طاسه الفضي في عدل بنيامين؛ هذا الطاس هو كأس يستخدم في الشرب، وكان بعض الأمم يتفاءلون بالكأس، بأن يلقوا عملة أو خاتمًا فيه ويتأملون في عدد الفقاقيع التي تظهر واتجاهاتها، ومن خلال هذه الفقاقيع يعرفون المستقبل، ولا تزال هذه العادة توجد في مصر وإن أخذت شكلاً آخر، فالبعض يدعي معرفة المستقبل بالنظر إلى الفنجان أو الكأس التي يشرب فيها الإنسان "القهوة" بعد أن يحرك ما تبقى من القهوة ويتأمل ما تتركه من أشكال...

كان البعض أيضًا يستخدم الكأس لاستجلاب النوم خلال التأمل المستمر والعميق في الفقاقيع التي تظهر فيها، حيث يعطي ذلك للإنسان شيئًا من الاسترخاء.

في الصباح إذ انصرف الرجال بحميرهم، وخرجوا من المدينة ولم يبتعدوا بعد لحق بهم رئيس عبيد يوسف ووبخهم على سرقتهم كأس سيده بعدما قدم لهم كل هذا الخير، فكانت إجابتهم: "لماذا يتكلم سيدي مثل هذا الكلام؟! حاشا لعبيدك أن يفعلوا مثل هذا الأمر. هوذا الفضة التي وجدنا في أفواه عدالنا رددناها إليك من أرض كنعان، فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبًا؟! الذي يوجد معه من عبيدك يموت، ونحن أيضًا نكون عبيدًا لسيدي" [٧–٩]. إذ فتش الرجل عدالهم مبتدئًا من الكبير إلى الصغير، وجده في عدل بنيامين، فمزقوا ثيابهم وحمل كل واحد على حماره ورجعوا إلى المدينة.

لقد نجح يوسف في خطته، فقد رجع بنيامين إليه حتى وإن كان متهمًا بالسرقة ظلمًا، كما اكتشف تغير قلب إخوته، إذ مزقوا ثيابهم ورجع الكل في مرارة من أجل أخيهم الأصغر بنيامين، لهذا أعلن ذاته لهم... بتوبتهم وبحبهم الباذل من أجل الأصغر أستحق الكل أن يلتقي مع يوسف للمرة الثالثة كما مع المسيح المقام ليعلن قيامته لهم وفيهم.

ما هذه الكأس التي وجدت في عدل بنيامين التي ردت الكل إلى يوسف، إلاَّ الكأس التي شربها السيد المسيح عنا، قائلاً: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت ٢٦: ٣٩).

لقد شرب السيد هذا الكأس، إذ قبل الآلام نيابة عن البشرية كلها، وبشربه الكأس ردنا إلى المدينة مرة أخرى بعد خروجنا منها بحميرنا... نرجع إلى المدينة المقدسة، أورشليم العليا، ونحمل القمح السماوي خلال الجسد الذي يرجع لا إلى جنة عدن كما كان آدم وحواء بل إلى الحياة الأبدية. نرجع لا بجسد حيواني إنما بجسد يحمل طبيعة جديدة تليق بالأبدية، كقول الرسول بولس: "يزرع جسمًا حيوانيًا ويُقام جسمًا روحانيًا... وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي" (١ كو ١٥: ٤٤، ٤٩).

قال الرجل: "الذي يوجد معه من عبيدك يموت، ونحن أيضًا نكون عبيدًا لسيدي" [٩]. هذا هو صوت البشرية الصارخ "خير أن يموت واحد عن الشعب" لقد حمل السيد الكأس عنا ومات بالجسد، وبالحقيقة صرنا نحن عبيدًا لسيدنا، وكأنه قد تحقق القول السابق حرفيًا في شخص السيد المسيح ومؤمنيه.

مزق الرجال ثيابهم، إذ خلعوا الإنسان القديم، وانطلقوا مع بنيامين حامل الكأس إلى المدينة ليلتقوا بيوسف الممجد.

٢. يهوذا يفدي أخاه الأصغر:

إن كان بنيامين قد صار رمزًا للسيد المسيح الذي تقدم في آخر الصفوف كأنه الأصغر ليحمل عنا كأس غضب الله ويفي الدين ويدخل بنا إلى مدينة الله لنلتقي بسيد الأرض الممجد، فإنه من جانب آخر يمثل البشرية الحاملة للخطية والتي جاءها الخارج من سبط يهوذا يشفع فيها، مقدمًا حياته لخلاصها. هذا ما فعله يهوذا حين تقدم أمام يوسف بروح الإتضاع ليصرف عنه الغضب مسلمًا نفسه فدية عن أخيه الأصغر، إذ يقول "عبدك ضمن الغلام لأبي، قائلاً: إن لم أجئ به إليك أصر مذنبًا إلى أبي كل الأيام. فالآن ليمكث عبدك عوضًا عن الغلام عبدًا لسيدي ويصعد الغلام مع إخوته، لأني كيف أصعد إلى أبي والغلام ليس معي، لئلا أنظر الشر الذي يصيب أبي" [٣٢–٣٤].

لقد روى يهوذا ليوسف الحديث الذي جرى بينهم وبين أبيهم، وكيف تتعلق نفس أبيهم بالغلام خاصة وأن أخاه قد أفترس افتراسًا، والآن لا يستطيع أن يرى الشر يصيب أباه... هذا التعلق الذي يربط نفس يعقوب ببنيامين والذي يدفع يهوذا لتقديم نفسه فدية عن أخيه هو صورة خفيفة للحب الذي يربط الآب بالبشرية، لهذا يتقدم الابن الوحيد الجنس في محبته لأبيه وللبشرية كفادٍ ومخلص للبشرية.

<<

الأصحاح الخامس والأربعون

يوسف يعلن ذاته

قلنا أن اللقاء الأول كان يشير إلى تمتعنا بالشركة في آلام السيد المسيح وصلبه، واللقاء الثاني يشير إلى الدفن مع السيد المسيح، أما هذا اللقاء فيشير إلى قيامتنا مع السيد المسيح الذي أعلن ذاته لنا كواهب الحياة وغالب الموت.

١. يوسف يعلن ذاته                  ١-١٥

٢. دعوتهم لدخول مصر              ١٦-٢٤

٣. إسرائيل يسمع عن يوسف        ٢٥-٢٨

١. يوسف يعلن ذاته:

"فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده، فصرخ: أخرجوا كل إنسان عني. فلم يقف أحد عنده حين عرّف يوسف إخوته بنفسه. فأطلق صوته بالبكاء، فسمع المصريون وسمع بيت فرعون. وقال يوسف لإخوته: أنا يوسف، أحيّ أبي بعد؟! فلم يستطع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه" [١-٣].

إذ روى يهوذا الحديث الذي دار بينه وبين أبيه إسرائيل، من خلاله استشف كيف ترك غياب يوسف أثرًا عميقًا في نفس أبيه لن يمكن انتزاعه، وأن إسرائيل أباه قد تعلقت نفسه ببنيامين حتى قدم يهوذا نفسه فدية عوضًا عن بنيامين كي لا يرى أباه يصيبه شر بسبب عدم رجوع بنيامين... أمام هذه المشاعر مع الحنين الملتهب في قلب يوسف نحو أبيه لم يحتمل الموقف، حتى صرخ: أخرجوا كل إنسان عني، وهنا يعلن يوسف نفسه لإخوته وقد انفجرت عيناه بالدموع وصار يبكي بصوتٍ عالٍ سمعه المصريون في الخارج!

كان يوسف يضبط نفسه في اللقاءين السابقين، وكانت أحشاؤه تلتهب حبًا وحنينًا وكان يبكي من وراء اخوته... أما الآن فلم يستطع أن يخفي مشاعره، ولم يقدر إلاَّ أن يعلن ذاته بعد إخراج الغرباء.

كان اللقاء الأول في حضرة الكثيرين، والثاني أيضًا، أما الثالث فلم يعلن يوسف ذاته إلاَّ بعد أن أخرج الغرباء. هكذا تحقق اللقاء الأول مع السيد المسيح عند الصليب أمام الجميع وشهد لكل أحداث الصلب، وأيضًا في الدفن إذ كان الجند حول القبر، أما في القيامة فلم يعلن ذاته إلاَّ لأحبائه، الذين يشتاقون إلى الحياة المقامة. بمعنى آخر تحقق الصلب وأيضًا الدفن علانية معلنًا الله لجميع البشر، أما سرّ القيامة فلا ينعم به إلاَّ الذين يرغبون في التعرف على أسراره والتمتع بحياته المقامة. فقيامة السيد المسيح إنما هي سرّ تجلي المسيح غالب الموت وإعلان ذاته في كنيسته التي تنعم بالحياة معه وتثبت فيه.

يقول الكتاب: "فسمع المصريون وسمع بيت فرعون"... سمعوا صوت البكاء مع صرخة يوسف لكنهم لم يفهموا ما يحدث في الداخل: هل هو بكاء الفرح أم الدهشة أم الحزن؟! لقد كانوا كالحراس عند القبر شاهدوا بهاءً شديدًا وأحسوا بالزلزلة لكنهم لم يكونوا قادرين على معرفة سرّ قيامة السيد المسيح ولا قبوله فيهم، إذ هم في الخارج! أقول إنهم كانوا كالمرافقين لشاول الطرسوسي الذين شاهدوا بهاءً شديدًا وصوتًا من السماء لكنهم لم ينعموا بفهم صوت القائم من الأموات ولا عاينوه... إنما كان اللقاء مع شاول وحده.

"قال يوسف لإخوته: أنا يوسف"... وكأنه يرمز إلى السيد المسيح الذي قال من السماء: "أنا يسوع الذي أنت تضطهده، صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع ٩: ٥). وكما ارتاع إخوة يوسف من هذا اللقاء، ارتاع أيضًا شاول وتحير!

ليتنا نسمع صوت يوسفنا الذي بعناه بخطايانا: أنا يوسف أخوكم الذي أحببتكم وقدمت لكم كل حنو، فبعتموني بفضة غاشة! أنا يوسف الذي دفعتموني إلى المذلة... "لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا، لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم" ]. بعناه بالفضة الغاشة، فإذا به يُصلب ليهبنا حياة أبدية.

أقول ليتنا لا نخاف من اللقاء مع ربنا يسوع القائم من الأموات فإنه رقيق غاية الرقة حتى في عتابه معنا!

إذ أعلن ذاته لهم، قال: "أحيّ أبي بعد؟!" [٣]. لقد عرف منهم قبلاً أنه حيّ، لكنه يسأل في دهشة، وكأنه يقول: كيف احتمل أبي التجربة؟! ألعله ينتظر مترجيًا أن يراني إنما ليكشف لنا أن ما يشغل فكر يوسفنا الجديد حين نلتقي به خلال القيامة هو تقديم ذبيحته الكفارية طاعة للآب الذي هو "حيّ" ويشتاق أن يهب حياة لكل إنسان.

"فلم يستطع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه" [٣]. ما هو سرّ خوفهم؟ لقد رأوا يوسف كمن قد مات وقام! لم يكونوا يتوقعون رؤية أخيهم بعد، خاصة في هذا المجد العظيم. ولعلهم تذكروا أحلام يوسف التي استهانوا بها وسخروا بها، واليوم تتحقق في أروع صورة! أو لعلهم حسبوا أنفسهم قد وقعوا في فم الأسد، فالذي ألقوا به في الموت بلا رحمة قد قام فجأة يحمل السلطان!

في رقة عجيبة أراد يوسف أن ينزع كل خوف عنهم، إذ قال لهم: "تقدموا إليّ" [٤]. لعلهم من هول الموقف وشدة اضطرابهم قد تراجعوا إلى الوراء... لكن يوسف العذب في حنو يستدعيهم: "تقدموا إليّ". بالخطية نصير بعيدين عن يوسفنا، لكننا إذ نسمع صوته ونقبل عمل قيامته فينا نقترب إليه، وكما يقول الرسول بولس: "ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذي كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح" (أف ٢: ١٣).

ولكي يدفعهم للاقتراب إليه لا بأجسادهم فقط وإنما بكل قلوبهم، قال لهم: "والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا، لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم... فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله" [٥-٨]. إن كان قد كشف لهم عن إثمهم بقوله: " أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر" [٤]، لكن بسرعة قدم لهم الدواء، فقد استخدم الله حتى هذا الشر لخيره وخيرهم، فقد انقضى عامان على المجاعة وتتبقى خمسة أعوام، والآن أرسله الله لإنقاذهم طوال هذه الأعوام القاسية حتى لا يموتوا. بنفس الفكر يعلن السيد المسيح لخاصته أنهم وإن باعوه وأسلموه للموت فقد انقضى على العالم عامان جوع، ويبقى العالم جائعًا خمسة أعوام حتى يأتي انقضاء الدهر. لقد عال كلمة الله العالم في العهد القديم والآن يعولهم في العهد الجديد حتى تعبر مجاعة الحياة الزمنية وندخل إلى كمال الشبع الأبدي.

ما أجمل أن نلتمس خطة الله وتدبيره إذ يحول كل الأمور للخير، حتى وإن أراد إخوتنا الخلاص منا ببيعنا إلى مصر.

يقول أيضًا: "هوذا قد جعلني أبًا لفرعون وسيدًا لكل بيته ومتسلطًا على كل أرض مصر" [٨]. قديمًا كان فرعون يدعو الوزير الأول أبًا له، إذ يترك له تدبير كل أمور الدولة كما يسلم الابن حياته في يديّ أبيه. هذا وإن كان فرعون يمثل العالم الأممي الدولة كما يسلم الابن حياته في يديّ أبيه. هذا وإن كان فرعون يمثل العلم الأممي في ذلك الحين، فقد صار السيد المسيح أبًا للأمم وسيدًا على كل حياتهم ومتسلطًا على أجسادهم (كل الأرض) كما على أرواحهم. هكذا يهتم يوسف الحقيقي بجماعة الأمم الغرباء بضمهم إليه كأعضاء جسده.

الآن إذ نزع يوسف عنهم الخوف سألهم أن يسرعوا إليه بأبيه: "أسرعوا اصعدوا إلى أبي وقولوا له: "هكذا يقول ابنك يوسف قد جعلني الله سيدًا لكل أرض مصر، أنزل إليّ لا تقف. فتسكن في أرض جاسان وتكون قريبًا مني أنت وبنوك وبنوا بنيك وغنمك وبقرك وكل ما لك، وأعولك هناك لأنه يكون أيضًا خمس سنين جوعًا لئلا تفتقر أنت وبنوك وكل مالك... وتخبرون أبي بكل مجدي في مصر" [٩–١٣].

لم يكن يوسف يفكر في الماضي بمنظار بشري سقيم، وإنما ببصيرة روحية هي في الحقيقة عطية إلهية، فعوض توبيخ اخوته على ما ارتكبوه في حقه ظلمًا وما سببوه له من متاعب طوال السنوات الماضية، رأى يدّ الله القديرة وخطته الفائقة لخلاصه وخلاص أبيه وإخوته وأبنائهم من الموت. لم يجد وقتًا للحديث بل أراد أن يكرم الكل بالعمل الجاد، قائلاً: "أسرعوا اصعدوا إلى أبي"، وسألهم أن يقولوا لأبيه: "انزل إليّ لا تقف! إنه ليس وقت للكلام بل للعمل والخلاص من موت يتعرض له العالم لخمس سنوات قادمة!

أما أرض جاسان التي أختارها يوسف لأبيه واخوته وكل أولادهم، وهي تقع شمال شرقي الدلتا، مكانها الآن محافظة الشرقية، تسمى أيضًا أرض رعمسيس (تك ٤٧: ١١). ومن أجود الأراضي، كانت أرضًا للرعي وقد أقام بها إسرائيل في أيام يوسف يرعون غنم فرعون وأغنامهم، وبقي إسرائيل بها حتى وقت الضيقة.

أخيرًا فقد حسب المجد الذي له هو لأبيه واخوته، إذ يقول لهم: "وتخبرون أبي بكل مجدي في مصر" [١٣]. انه على عكس كثيرين حينما يغتنون أو ينالون كرامة يتجاهلون عائلاتهم ويتشامخون عليهم. لقد شعر يوسف أن ما قد بلغ إليه لا فضل له فيه إنما هو عمل الله من أجل أبيه واخوته لكي يتمجدوا ويحيوا. وبهذا صار صورة للسيد للمسيح الذي ترك مجده لأجلنا وعاد فتمجد بالمجد الذي له من قبل إنشاء العالم (يو ١٧: ٥) لكي يرفعنا معه في مجده، كورثة للميراث.

٢. دعوتهم لدخول مصر:

إذ سمع فرعون وعبيده بلقاء يوسف مع إخوته فرحوا جدًا [٦]، إذ كان الكل يحب يوسف، وكان فرعون سخيًا للغاية إذ طلب من يوسف: "قل لإخوتك افعلوا هذا: حملوا دوابكم وانطلقوا واذهبوا إلى أرض كنعان، وخذوا آباءكم وبيوتكم وتعالوا إليَّ فأعطيكم خيرات أرض مصر وتأكلوا دسم الأرض. فأنت قد أمرت، افعلوا هذا، خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونساءكم واحملوا أباكم وتعالوا. ولا تحزن عيونكم على أثاثكم، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم" [١٧–٢٠].

ما هي خيرات أرض مصر وما هو دسم أرض مصر التي اشتهى فرعون أن يقدمها لإخوة يوسف محبة في أخيهم المحبوب لديه إلاَّ إشارة إلى أسرار ملكوت الله وفيض غنى السماء الذي صار لنا من قبل الله خلال يوسف الجديد المحبوب لدى الآب. لقد سألهم أن يأخذوا عجلات لهم ولأولادهم ولنسائهم ويأتوا لينعموا بخيرات جميع أرض مصر لتكون لهم. ما هذه التي تحملنا إلاَّ أعمال الله الخلاصية ووسائط الخلاص من تمتع بكلمة الله وأسرار الكنيسة مع الصلوات والمطانيات الأمور التي تلهب القلب لينطلق بالروح القدس لا لينعم بخيرات أرض مصر إنما بخيرات السماء عينها. من بين هذه العجلات الإلهية سرّ المعمودية كمثال. فنسمع القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس يقول: [الاستنارة هي المعمودية. الاستنارة مركب تسير نحو الله، مسايرة المسيح، رأس الدين، تمام العقل. الاستنارة مفتاح ملكوت السموات، استعادة الحياة، عتق العبودية، انحلال الرباطات[435]]. أما العجلة الثانية التي تنطلق بنا إلى المجد فهي ذبيحة الأفخارستيا، فقد جاء في قداس آدم وماري السرياني: [هذه التقدمة التي لخدامك... فلتكن غفرانًا عن معاصينا ومحوًا لخطايانا، ونورًا عظيمًا للقيامة من بين الأموات، وحياة جديدة في ملكوت السموات]... هكذا نقول أن أعمال الروح القدس في حياة الكنيسة هي أشبه بعجلات إلهية قادرة أن ترفعنا إلى حضن الآب خلال تثبيتنا في المسيح يسوع ربنا.

نعود إلى فرعون لنجده يقول: "أنت قد أمرت"، مع أنه واضح من سياق الحديث أن فرعون لم يسمع عن يوسف أنه أمر بإحضار عائلته، لكن فرعون يحسب ما يصدر عنه كأمر لحساب يوسف وعائلته كأنما صدر من يوسف نفسه، وما يصدره يوسف من أمر لصالح مصر إنما كأنه قد صدر عن فرعون. أقول مع الفارق ما يهبنا الآب بأمره أنما يكون في المسيح، وما يهبه لنا المسيح إنما هو خلال الآب!

ما أعذب الكلمات التي قالها فرعون: "لا تحزن عيونكم على أثاثكم، لأن خيرات جميع أرض مصر لكم" [٢٠]. لم تكن بالأمر السهل أن يترك إسرائيل الشيخ وبنوه وأحفاده وعبيده أرضهم بالرغم مما لحق بهم بسبب المجاعة ما لم يتطلعوا إلى الوعد "لأن خيرات جميع أرض مصر لكم". ونحن أيضًا لا نستطيع أن نتخلى عما لنا في أرض غربتنا ما لم يفتح الرب بصائرنا لنرى المجد الأبدي المعد لنا إن رحلت قلوبنا إلى هناك... فبولس الرسول إذ انفتحت عيناه الروحيتان لتعاينا هذا المجد قال: "ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل شيء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (في ٣: ٧، ٨). وجد القديس بولس في السيد المسيح اللؤلؤة كثيرة الثمن التي من أجلها باع كل شيء بفرح وسرور. أكتشف فيض الغنى فيه فترك كل شيء منطلقًا بقلبه وفكره وكل أحاسيسه، وجد فيه كل الشبع الحقيقي.

نعود إلى يوسف الذي في حب عجيب أراد أن يؤكد لهم صفحه عن الماضي، إذ وهبهم عجلات وحلل وثياب علامة الكرامة كما قدم لأخيه بنيامين ثلاثمائة من الفضة مع خمس حلل ثياب، وأرسل لهم عشرة حمير حمالة من الخيرات وعشر أتن حاملة حنطة وخبزًا وطعامًا لأبيه لأجل الطريق من كنعان إلى مصر... كما أوصاهم: "لا تتغاضبوا في الطريق" [٢٤]، إذ خشي أن يلوم أحدهم الآخر على ما سبق ففعلوه به، إنه ليس وقتًا للوم، بل للإسراع بالعودة إليه مع أبيهم ونسائهم وأولادهم وكل ما لهم.

ما هذه الثياب التي قدمها يوسف لاخوته إلاَّ الاتحاد بالسيد المسيح، فنكون معه وفيه، نختفي فيه فيصير لنا كثوب يستردنا أبديًا، وبه يحق لنا الدخول إلى حضن أبيه.

أما الفضة التي أعطاها لأخيه الأصغر فهي كلمة الإنجيل التي سلمها السيد المسيح لكنيسته أو للبشرية بكونها الأخ الأصغر، وكما سبق فرأينا في تفسيرنا سفر القضاة[436] أن رقم ٣٠٠ في اليونانية يمثل حرف تو "T" أي الصليب، وكأن الثلاثمائة من الفضة التي تسلمها بنيامين إنما هي قبول شركة الصلب والألم مع السيد المسيح خلال الكرازة بكلمة الإنجيل المفرحة. وأما الخمس حلل التي وهبها لبنيامين فهي تقديس حواسنا الخمس لتحمل سمات السيد المسيح، وتتقدس لحسابه بروحه القدوس.

إن كل ما وهبنا يوسف الحقيقي إنما هو "طعام لأجل الطريق" [٢٣]، أما ما وراء هذا الطعام فهو تمتع بأمور لا ينطق بها، أو كما يقول الرسول: "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه" (١ كو ٢: ٩). ما نناله هنا هو عربون وزاد للطريق حتى نبلغ إلى المجد لننعم بكمال العطية الإلهية.

٣. إسرائيل يسمع عن يوسف:

"فصعدوا من مصر وجاءوا إلى أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم وأخبروه قائلين: يوسف حيّ بعد، وهو متسلط على كل أرض مصر. فجمد قلبه لأنه لم يصدقهم، ثم كلموه بكل كلام يوسف الذي كلمهم به، وأبصر العجلات التي أرسلها يوسف لتحمله، فعاشت روح يعقوب أبيهم، فقال إسرائيل: كفى، يوسف ابني حيّ بعد، أذهب وأره قبل أن أموت" [ ٢٥-٢٨].

صعد الرجال من مصر وجاءوا إلى أبيهم الذي سمع عن خبر ابنه فجمدت كل أحاسيسه وعواطفه من هول الموقف، كان الموقف أكبر من أن يحتمله الشيخ يعقوب، حتى خيل إليه أن قلبه قد توقف عن النبض. إذ استفاق لنفسه شيئًا فشيئًا وتأكد من صدق الخبر برؤية للمركبات انتعشت نفسه من جديد وحسبها أعظم عطية إلهية أن يرى يوسف ابنه ويموت... لم تشغله المركبات ولا المجد الذي بلغه ابنه وإنما قال: "أذهب وأراه". وكأنه يعلن ما قاله المرتل: "من لي في السماء، معك لا أريد شيئًا على الأرض" (مز ٧٣: ٢٥).

وللعلامة أوريجانوس تعليق طويل على هذا النص تقتطف القليل منه مع تعليق من جانبنا:

أولاً: يعلق على عبارة "فصعدوا من مصر وجاءوا إلى كنعان" [٢٥]، موضحًا أن الكتاب لا يذكر النزول إلى أماكن مقدسة بل الصعود إليها والعكس أيضًا[437]. فإن كانت مصر قد تباركت بوجود يوسف فيها فصارت مصدر شبع، لكنها في العهد القديم كانت رمزًا للعالم أو لمحبته، لذلك يقال: "صعدوا من مصر"،  فمن يرتفع عن العالم نحو كنعان السماوية. ويمكننا القول بأن مصر قد صارت بركة لا بحلول يوسف فيها بل بمجيء السيد المسيح نفسه مع أمه والقديس يوسف إليها.

ثانيًا: يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "عاشت" في العبارة "عاشت روح يعقوب أبيهم، فقال إسرائيل: كفى يوسف ابني حيّ" جاءت في اللاتينية بمعنى "أضاءت أو استنارت". وكأن يعقوب بعيدًا عن يوسف كان كسراج ينطفئ استنار بالحياة إذ قيل "الحياة كانت نور الناس" (يو ١: ٤)[438].

يمكننا أن نقول بأن نفوسنا كيعقوب متى ابتعدت عن يوسف الحقيقي انطفأ الروح فيها (١ تس ٥: ١٩)، ومتى تعرفنا عليه أنه حيّ، أي قائم من الأموات تستنير نفوسنا في داخلنا ببهجة قيامته العاملة فينا.

إن كان يعقوب قد أشتاق أن يختم حياته برؤيته يوسف حيًا، إنما يمثل البشرية التي اشتاقت أن تتمتع برؤية السيد المسيح القائم من الأموات حتى ترقد على رجاء.

ثالثًا: يقول العلامة أوريجانوس أن إسرائيل دهش إذ سمع أن يوسف "متسلط على كل أرض مصر"، أي غالب كل خطية من شهوات وزنا ودنس[439].

ليتنا نتحد بيوسفنا الحقيقي فنحمل فيه كل غلبة، ونكون بالحق متسلطين على مدينة أو اثنين أو ثلاثة بل على كل جسدنا (مصرنا الرمزية)، به نضبط الفكر وبه نحيا مقدسين في الحواس والعواطف وبه نسلك بوقار!

<<

الأصحاح السادس والأربعون

نزول يعقوب إلى مصر

يبدو أن يعقوب قد تشكك في أمر نزوله إلى مصر بالرغم من الظروف القاسية المحيطة به ومن لهيب قلبه نحو أبنه يوسف، لذلك كلمه الله في رؤيا وطمأنه من جهة نزوله إلى مصر.

١. أمر الله بالنزول                   ١-٧

٢. النفوس التي رحلت معه          ٨-٢٧

٣. لقاء إسرائيل مع يوسف          ٢٨-٣٤

١. أمر الله بالنزول:

اشتاق يعقوب أن ينزل إلى مصر ليلتقي بابنه يوسف، وإذ كان متخوفًا ارتحل إلى بئر سبع وهناك قدم ذبائح للرب إله أبيه إسحق [١]. هناك كلمه الله في رؤى الليل، وقال: "يعقوب يعقوب... أنا الله إله أبيك، لا تخف من النزول إلى مصر، لأني أجعلك أمة عظيمة هناك. أنا أنزل معك، وأنا أصعد معك أيضًا ويضع يوسف يده على عينيك"  [٢-٣].

كانت هذه المرة الأخيرة التي فيها ظهر الله ليعقوب، هذا الذي لم يظهر بعد لأحد في مصر حتى ظهر لموسى في العلية (خر ٣) لأجل خروج إسرائيل من مصر. ظهر الله ليعقوب قبيل نزوله مصر، وظهر لموسى لخروج إسرائيل من مصر، وكأن الله كان مهتمًا بنزوله كما بصعوده.... فماذا يعني نزوله إلى مصر؟

يرى العلامة أوريجانوس أن النزول إلى مصر هنا يشير إلى نزول المؤمن كما إلى معركة روحية، خلالها ينمو وينتصر ويخرج بالرب غالبًا لينعم بأورشليم السماوية، إذ يقول: [يليق بنا أن نتأمل بهدوء ما قاله الرب في الرؤيا لإسرائيل هذا، وكيف قواه وشجعه بإرساله إلى مصر كمن يذهب إلى الحرب. لقد قال له: "لا تخف من النزول إلى مصر". بهذا يكون كمن يتقابل مع "الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر" (أف ٦: ١٢)، والت تصوّر مصر، فيقول له: لا تخشاهم ولا تضطرب. إن أردت أن تعرف لماذا لا تخاف اسمع وعدي لك: "لأني أجعلك أمة عظيمة هناك، أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضًا" [٣]. يليق بنا ألاّ نخاف النزول إلى مصر، ولا نخشى التصدي لصراع هذا العالم ولا للمعارك مع إبليس العدو الذي نزل الرب ليحاربه. اسمعوا الرسول بولس يقول: "أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (١ كو ١٥: ١٠). في أورشليم حدث تذمر ضده واحتمل بولس صراعًا عجيبًا بسبب الكلمة الكرازة بالرب ، فظهر له الرب وتكلم معه بكلمات تشبه تلك التي وجهها لإسرائيل الآن: "ثق يا بولس لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضًا" (أع ٢٣: ١١)[440]].

يكمل العلامة أوريجانوس تعليقه على نزول يعقوب إلى مصر ومعه الرب ووعد الله له أنه يصعد من هناك بقوله: [أظن أن النص يخفي فيه سرًا أعمق من الحرف الظاهر، فإنه تجتذبني العبارة "لأني أجعلك أمة عظيمة، أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضًا". من هو بالحقيقة ذاك الذي صار أمة عظيمة في مصر الآخر يُذكر فيصعد؟ نظن أن النص يخص يعقوب، لكن الحقيقة غير هذا، فإن يعقوب لم يصعد من مصر إذ هو مات، ومن الحماقة أن نقول بأن الرب أصعد يعقوب عندما أصعد جسده، فإن الرب ليس إله أموات لكنه إله أحياء (مت ٢٢: ٣٢). فلا يليق أن نحسب صعوده بصعود ميت، إنما ما يقوله هنا يخص أحياء لهم صحة جيدة. لنسأل إذن أليس هذا صورة لنزول الله إلى هذا العالم ونموه في الأمة العظيمة أي في الكنيسة التي تضم الأمم وصعوده إلى الآب بعد موت كل شيء خاصة الإنسان الأول الذي نزل إلى مصر وسط المعارك عندما طرد من بهجة الجنة محتملاً عذاب هذه الحياة وآلامها... فإن الله لم يترك الذين في هذه المعركة بل هو معهم على الدوام؟!... أما قوله: "وأنا أصعدك أيضًا" فكما أظن أنه يعني بأنه في أواخر الدهور إذ نزل ابن الله الوحيد إلى الجحيم (أف ٤: ٩) لخلاص العالم يصعد الإنسان الأول. لنفهم بالحقيقة أن الحديث هنا يخص ما قيل للص: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو ٢٣: ٤٣). هذا القول لا يخصه وحده بل يخص كل القديسين الذين من أجلهم نزل ابن الله. بهذا يتحقق في يعقوب القول: "وأنا أصعدك أيضًا". إذن ليت كل واحد منا ينزل إلى مصر (رمزيًا) وسط المعارك بنفس الطريقة متخذًا ذات الطريق، فيتأهل ألاَّ يتبعد الله عنه بل يصير أمة عظيمة. هذه الأمة العظيمة هي جماعة الفضائل وكثرة البر التي يقول عنها الكتاب أن القديسين ينمون فيها ويتزايدون. بهذا يتحقق القول: "وأنا أصعدك أيضًا". لأنه في النهاية يكون كمال الشيء وإتمام للفضائل لذا يقول قديس: "يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي" (مز ١٠٢: ٢٤)... "أنا أصعدك أيضًا" تعني قول الله له: لأنك جاهدت الجهاد الحسن وحفظت الإيمان وأنهيت رحلتك فإني أصعدك من هذا العالم للسعادة الأبدية، إلى كمال الحياة  الأبدية، لتنال "إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل لجميع الذين يحبونه" (٢ تي ٤: ٨)[441]].

في اختصار نقول إنه إن كان آدم الأول قد نزل إلى العالم كما إلى مصر في معركة طرفها الآخر إبليس، فإن الله قد نزل إليه ليكون معه، يسحق رأس الحية تحت قدميه، واهبًا إياه الغلبة والنصرة، ليصعد معه رافعًا إياه من الجحيم إلى فردوسه السماوي. بنزول الله إلينا خلال التجسد أقام منا أمة عظيمة، محولاً مذودنا الداخلي إلى ملكوته الذي يضم الله معه ملائكته وقديسيه! هذه هي الأمة التي تفرح السماء كقول الرب: "هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (لو ١٥: ١٠). تفرح ملائكة الله إذ ترى الله نفسه نزل إلى قلبه كما إلى المذود ليصعد به لملكوته.

أما وعد الله له "ويضع يوسف يده على عينيك" [٤] فيشير إلى العادة التي كانت سائدة أن يغمض أعز الأقرباء عيني المتوفي. وللعلامة أوريجانوس تعليق جميل على هذه العبارة، إذ يقول: [يوسف الحقيقي، ربنا ومخلصنا، يضع يديه الجسديتين على عيني الأعمى فيهبه البصر الذي فقده، وهو يمد يديه الروحيتين على عيني الناموس الذي أعمى فكر الكتبة والفريسيين الروحي لكي يهبهم البصيرة، فيفتح الله لهم الكتب ويكون لهم رؤيا روحية وفكرًا روحيًا للناموس... ليضع الرب يديه على أعيننا نحن لكي لا نتطلع إلى الأمور المنظورة بل الأمور المستقبلة. ليرفع عنا برقع القلب حتى نتأمل في الرب بالروح[442]].

إذ نال يعقوب هذه المواعيد في بئر سبع بعد تقديم الذبائح لإله أبيه إسحق [١] أرتحل من بئر سبع وحمل بنو إسرائيل أباهم وأولادهم ونساءهم في العجلات ومعهم كل مواشيهم ومقتنياتهم وانطلقوا إلى مصر.

لم يكن ممكنًا أن ينال يعقوب هذه المواعيد إلاَّ في بئر سبع، أي في مياه المعمودية حيث يهبنا الروح القدس الميلاد الجديد فنصير أعضاء جسد المسيح، فنتهيأ بهذا لنزول الله معنا إلى مصر وصعوده بنا منها، أما الذبائح التي قدمها فتكشف عن سرّ كل عطية إلهية وهي ذبيحة المسيح على الصليب.

أخيرًا فقد أنطلق بنو إسرائيل يحملون أباهم وأولادهم ونساءهم، ومعهم مواشيهم ومقتنياتهم... فإن كنا ننطلق بالمسيح يسوع ربنا إلى الجهاد الروحي إنما ننطلق بالنفس كما بالجسد وبكل المواهب والطاقات لتعمل كلها لحساب مملكة الله في أرض الغربة.

٢. النفوس التي رحلت معه:

ذكر لنا السفر قوائم بأسماء أبناء يعقوب وأحفاده؛ بلغت هذه النفوس ٦٦ نفسًا. وقد ذكر عدد هذه الأنفس في الكتاب المقدس أكثر من مرة ليؤكد كيف نموا وازدادوا جدًا.

في سفر الأعمال ذكر القديس أسطفانوس عددهم ٧٥ نفسًا (أع ٧: ١٤) ربما لأن القديس أسطفانوس أضاف إلى هذا العدد أحفاد يوسف الخمسة من أفرايم ومنسى.

٣. لقاء إسرائيل مع يوسف:

أرسل يعقوب أبنه يهوذا إلى يوسف لكي يدلهم على الطريق إلى جاسان، ويدبر لهم أمر نزولهم فيها... فإن كان يعقوب يمثل الكنيسة، فهي لا تستطيع أن تسير بدون يهوذا، أي بدون السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا. إنه يقودنا في أرض غربتنا، في الطريق بل هو بعينه الطريق.

التقى يوسف بأبيه، فوقع إسرائيل على عنق ابنه وقبله، وبكى على عنقه من شدة التأثر، وقد بقي على عنقه فترة لا يستطيع أن يتركه، وأخيرًا قال له: "أموت الآن بعدما رأيت وجهك أنك حيّ" [٣٠]. كما قلنا أن يعقوب كممثل للكنيسة إذ التقت بيوسفها القائم من الأموات انسحقت أمامه حبًا واشتهت الانطلاق معه.

أعلم يوسف أباه وإخوته أنه يصعد ليخبر فرعون بحضورهم، وأوصاهم أن يخبروا فرعون بعملهم كرعاة غنم حتى يسكنوا في جاسان (٤٥: ١٠)، أما علة اختياره  للموقع فهي:

أولاً: أن يكونوا في شمال شرق مصر، في أقرب موقع نحو كنعان... وكأنه أراد لهم حتى في غربتهم طوال أكثر من ثلاثمائة عام أن يكون قلبهم متهيئًا للرحيل إلى أورشليم.

ثانيًا: لكي لا يتعرضوا لازدراء المصريين بهم، إذ كانوا يحسبون رعاية الغنم رجاسة، فباعتزالهم في جاسان لا يحتكون بهم.

ثالثًا: باعتزالهم في جاسان لا يتأثرون بالعبادات الوثنية والعادات الشريرة قدر المستطاع.

<<

الأصحاح السابع والأربعون

لقاء يعقوب مع فرعون

إذ أخبر يوسف فرعون عن مجيء عائلته التقى يعقوب بفرعون، وخرج من لدنه ليسكن في أرض جاسان حتى يموت هناك.

١. لقاء خمسة أخوة ليوسف بفرعون         ١-٦

٢. لقاء يعقوب بفرعون                       ٧-١٠

٣. بنو يعقوب في رعمسيس                   ١١-١٢

٤. استعباد المصريين لفرعون                 ١٣-٢٦

٥. وصية يعقوب ليوسف                      ٢٧-٣١

١. لقاء خمسة أخوة ليوسف بفرعون:

لم يخجل يوسف من أبيه واخوته كرعاة غنم، في عيني المصري رجسيين، بل بكل اعتزاز أنطلق بمركبته ليلتقي بهم، ثم أسرع إلى فرعون يخبره بمجيئهم، وقد طلب من أخوته أن يكونوا صرحاء مع فرعون في أمر صناعتهم.

قدم يوسف خمسة من إخوته لفرعون نيابة عن الجميع ليتحدثوا معه، وكأنه بيسوع المسيح الذي يقدم كنيسته كخمس عذارى حكيمات، أو يقدم البشرية المؤمنة في المجد خلال تقديس الحواس الخمسة.

قال الرجال لفرعون: "جئنا لنتغرب في الأرض" [٤]، وهكذا لا يفارق المؤمن شعوره بالغربة حتى يلتقي بعريس نفسه وجهًا لوجه.

أمام صراحة يوسف وحبه لاخوته، قال فرعون إكرامًا له: "أرض مصر قدامك، في أفضل الأرض أسكن أباك وأخوتك، ليسكنوا في أرض جاسان، وإن علمت أنه يوجد بينهم ذوو قدرة فاجعلهم رؤساء مواشٍ على التي ليّ" [٦]. هكذا القلب المنفتح بالحب لا ينال إلاَّ حبًا حتى وإن تعرض في البداية لضيقات كثيرة. لقد قدم فرعون ليوسف كل أرض مصر، وسأله أن يعين من اخوته رؤساء لمواشيه إن وجد فيهم من يصلح لهذا العمل.

٢. لقاء يعقوب بفرعون:

إذ أدخل يوسف أباه وأوقفه أمام فرعون، فمع شيخوخته وصعوبة مشيه وربما كانت عيناه قد ضعفتا لكن فرعون شعر بمهابة الرجل والتمس منه البركة، إذ قيل: "وبارك يعقوب فرعون" [٧]. غالبًا ما انحنى فرعون أمام هذا الشيخ ليضع يديه على رأسه ويباركه.

سأل فرعون يعقوب: "كم هي أيام سني حياتك؟ فقال يعقوب لفرعون: أيام سني غربتي مائة وثلاثون سنة، قليلة وردية كانت أيام سني حياتي، ولم تبلغ إلى أيام سني حياة آبائي في أيام غربتهم" [٩].

إذ سأله عن سني حياته أجاب أنها أيام غربة قليلة وردية... كان يعقوب يلازمه الشعور بالغربة كل أيامه، خاصة وأن حياته لم تكن إلاَّ سلسلة من المتاعب، ففي بداية حياته وإن أتسع قلب أمه بالحب لكنه يبدو أنه ذاق الكثير من أخيه عيسو المتسم بالعنف، وفي ريعان شبابه اضطر للهروب إلى أرض غريبة حيث كان يخدم خاله خدمة شاقة مضنية، يأكله حرّ النهار وجليد الليل (٢١: ٤٠) وقد خاتله خاله في أجرته عشر مرات. وحينما هرب من وجه خاله كان الرعب يملأ قلبه من وجه أخيه عيسو، وفي الطريق صارعه ملاك طوال الليل. وفي شكيم سبب له شمعون ولاوي تكديرًا ليس بقليل بسبب أختهما دينة. وفي افراته تعسرت ولادة زوجته المحبوبة راحيل وماتت هناك (تك ٣٥)، وبعد قليل مات أبوه، ثم قام رأوبين بعمل مؤلم للنفس إذ اضطجع مع سارية أبيه (٣٥: ٢١)، وجاء غياب يوسف طوال ٢٠ سنة تقريبًا يهز كل كيانه، وعندما سأله أولاده أن يأخذوا بنيامين معهم إلى مصر ضاقت نفسه فيه...

هكذا قضى يعقوب حياته سلسلة من المتاعب حتى ليظن الإنسان أنه قد فشل، لكنه وقد صار إسرائيل قدم كنيسة العهد القديم ومن نسله جاء السيد المسيح متجسدًا، ويبقى أبونا يعقوب أبًا لكل مؤمن! إنه بارك فرعون، وعاد أيضًا فباركه للمرة الثانية [١٠]، وكأن الآلام لم تزده إلاَّ بركة.

٣. بنو يعقوب في رعمسيس:

أسكن يوسف أباه واخوته في أرض رعمسيس [١١]، أي أرض "ابن الشمس"، ويقصد بها جزء من أرض جاسان، ربما كانت المنطقة التي بها صان الحجر الآن. وقد بنى فيها العبرانيون لفرعون مدينة رعمسيس (خر ١: ١١)، وربما كانت تحمل هذا الاسم من قبل بناء المدينة.

من الجانب الروحي إذ أسكن يوسف أباه واخوته وأعطاهم ملكًا في أرض مصر، إنما كان ذلك إشارة إلى ربنا يسوع المسيح الذي وهب يعقوب أي الكنيسة التي تضم إخوته الأصاغر ليملكوا روحيًا على أرض مصر، أي أعطاهم حق ضبط الجسد (أرض مصر)، فيكون الجسد خاضعًا للنفس في المسيح يسوع وليس مقاومًا لها. وقد حدد يوسف لكل بيت نصيبه حسب عدد الأولاد [١٢]، وكأن الإنسان يكون بالأكثر صاحب سلطان على جسده كلما حمل ثمارًا روحية أكثر (أي أولادًا).

من جانب آخر ما فعله يوسف مع أبيه يعقوب الذي يمثل الكنيسة المتغربة ومع أخوته بأن يملكوا في أرض مصر كطلب فرعون إنما يشير إلى ما فعله يوسف الحقيقي ربنا يسوع مع كنيسته (يعقوب) إذ جعلها تمتد إلى الأمم كمن يملك في أرض مصر، ولم يتحقق هذا قسرًا إنما كأمر فرعون أي بناء على طلب الأمم أنفسهم الذي قبلوا بالإيمان أن يخضعوا للكنيسة كملكة وأم لهم.

٤. استعباد المصريين لفرعون:

إذ كان الجوع شديدًا جدًا على الأرض جاء المصريون يقدمون فضتهم لفرعون لشراء قمح لهم. وإذ فرغت الفضة سلموا مواشيهم، وفي السنة التالية لم يجدوا ما يقدمونه سوى أجسادهم وأرضهم، قائلين: "إشترنا وأرضنا بالخبز فنصير نحن وأرضنا عبيدًا لفرعون" [٢٠]. وإذ باع كل واحد حقله لفرعون تنقلوا من أقصى الأرض في مصر إلى أقصاها، وصار الكل تحت العبودية يتسلم البذار ليعمل في أرض لا يملكها، مقدمًا خمس المحصولات لفرعون كل أيام حياته. والمؤلم أنهم جاءوا يطلبون العبودية بإرادتهم، قائلين: "ليتنا نجد نعمة في عيني سيدنا فنكون عبيدًا لفرعون" [٢٥].

هنا يقف العلامة أوريجانوس ليتأمل الفارق بين مصريي هذا الزمان وبين العبرانيين. فالمصريون جاءوا يطلبون العبودية بكامل حريتهم، أما العبرانيين فقيل عنهم: "استعبد المصريون بني إسرائيل بعنف" (خر ١: ١٣). مرة أخرى يؤكد: "كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا" (خر ١: ١٤). شتان ما بين إنسان يجري إلى فرعون الحقيقي (إبليس) يسأله أن يقبله عبدًا لديه من أجل قليل من القمح أو لذة مؤقتة أو كرامة زمنية، وبين آخر يستعبده العدو عنفًا. يقول العلامة أوريجانوس: [لاحظ بدقة كيف قيل عن العبرانيين أنهم سقطوا في العبودية عنفًا، إذ يحملون في داخلهم حرية طبيعية لا تنزع عنهم بسهولة ولا لشيء من الخداع وإنما خلال القسر. لكن فرعون أخضع المصريين للعبودية دون أن يُقال عنه أنه استخدم العنف. فالمصريون (كانوا يرمزون لمحبي العالم) ينحدرون للحياة الفاسدة ويسقطون في كل عبودية للرذيلة بسرعة[443]].

إذ كان المصريون يرمزون لغير المؤمنين (إذ كانوا يعبدون الأوثان) ولمحبي العالم بينما كان العبرانيون يمثلون جماعة المؤمنين، فالأولون يشتهون حياة المذلة والاستعباد لإبليس مقابل شهوات زمنية أما الآخرون فيستخدم العدو كل طاقاته ويبذل كل الجهد لكي يأسرهم لحسابه. على أي الأحوال حينما كان الأولون يسقطون في العبودية كانوا يعيشونها كل أيام حياتهم، أما العبراني فإن بيع كعبد يلزم في السنة السابعة أن يتحرر (خر 21: ٢). الشرير يسقط بهواه فيقال عنه إنه مثل "كلب قد عاد إلى قيئه خنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة" (٢ بط ٢: ٢٢)، يأكل من قيئه ويلهو في الحمأة، أما رجل الله فإنه وإن سقط يقوم... لا يستريح إلاَّ في حرية مجد أولاد الله.

إن عدنا إلى المصريين في ذلك الحين نجدهم قدموا لفرعون أولاً فضتهم، ثم مواشيهم، فأجسادهم وأرضهم وباختصار كل حياتهم كعبيد له. إن كانت الفضة تشير إلى كلمة الله (مز ١٢: ٦) فإن بدء إطلاقنا نحو العبودية هو تسليم سلاحنا – كلمة الله – للعدو، فيسحب من القلب ارتباطه بالكلمة ليفقدها حرارة الروح وينزع عنه حلاوة اختبار الصليب ويفقد الشركة مع مخلصه. إذ يسلم الإنسان إنجيله ليعيش بلا إنجيل، يطلب العدو المواشي أي الشهوات الجسدية، فيصير الإنسان بجسده تحت عبودية العدو يثير فيه شهوات الجسد كصنارة يقتنص بها الجسد بكل طاقاته ويملك فرعون على الأرض تمامًا، أي يملك إبليس على حركات الجسد وأحاسيسه وكل طاقاته. وعندما يفقد الإنسان تقديس مواشيه وجسده وأرضه فيكون الكل لفرعون لا مفر من انحناء النفس بكامل إرادتها أمام فرعون تسأله أن يقتنيها لحسابه، فتعمل كآلة للشر، تفرح بسقوط الآخرين وهلاكهم!

ربما يسأل البعض لماذا قام يوسف وهو رجل بار بهذا الدور، أن يسلم المصريين عبيدًا لفرعون؟ يقول العلامة أوريجانوس: [نستطيع أن نجيب على هذه الكلمات بأن الكتاب المقدس نفسه يقدم عذرًا لتدبير هذا الرجل القديس بقوله أن المصريين باعوا أنفسهم وممتلكاتهم (تك ٤٧: ٢٠). فلا يقع اللوم إذن على المدبر عندما يتمم ما يستحقه الذين ينالون الجزاء. ولعلك تكتشف أن بولس أيضًا قد صنع أمرًا كهذا عندما سلم شخصًا للشيطان لكي لا يجدف (١ كو ٥: ٥). هذا الإنسان ببشاعة أعماله أهل نفسه لعدم الاستحقاق لشركة القديسين، ولا يمكننا القول أن القديس بولس تصرف بتسرع عندما طرده من الكنيسة وسلمه للشيطان، فاللوم كله بلا شك يقع على الشخص نفسه الذي أستحق بأفعاله ألاَّ يكون له موضع في الكنيسة إنما يكون في صحبة الشيطان[444]].

إن كان المصريون الذين باعوا فضتهم ومواشيهم وأرضهم وأجسادهم وكل حياتهم لفرعون وقبلوا العبودية لهم بإرادتهم فإن الكهنة الوثنيين كانوا أكثر شرًا منهم، إذ لم يبيعوا أرضهم لكنهم يقبلون من فرعون الحنطة كأصدقاء له. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [كما أن الرب يقول للمتقدمين في الإيمان والقداسة: "لا أعود أسميكم عبيدًا بل أحباء" (راجع يو ١٥: ١٥)، هكذا يقول فرعون لهؤلاء الذين يبدون كمن قد صعدوا إلى درجة عالية من الشر وإلى كهنوت الهلاك: "لا أعود أسميكم عبيدًا بل أحباء". حقًا أتريد أن تعرف الفارق بين كهنة الله وكهنة فرعون؟ فرعون يمنح كهنته أرضًا، أما الرب فلا يهب كهنته نصيبًا في الأرض بل يقول لهم: "أنا نصيبك" (لا ١٨: ٢٠)[445]].

٥. وصية يعقوب ليوسف:

إن كان المصريون قد باعوا أنفسهم عبيدًا لفرعون وكهنة الأوثان صاروا أصدقاء وأحباء له، فإن إسرائيل عاش في مصر أما قلبه فكان مع الله، إذ قيل: "وسكن إسرائيل في أرض مصر في أرض جاسان، وتملكوا فيها واثمروا واكثروا جدًا" [٢٧]. فإن كان إسرائيل قد سكن في مصر لكنه ذهب إلى أرض جاسان التي تعني رمزيًا تعلق القلب بالله والالتصاق به، إذ يقول العلامة أوريجانوس: ["جاسان" تعني "قرب" أو "قرابة"، بهذا يظهر أن إسرائيل سكن في مصر ولكن ليس بعيدًا عن الله بل كان ملاصقًا له وبالقرب منه، إذ يقول (الرب) نفسه: "أنا أنزل معك إلى مصر وأكون معك" (تك ٤٦: ٤؛ ٢٦: ٣). لذلك حتى إن ظهرنا أننا نازلون إلى مصر، أي نكون في الجسد... إن كنا نسكن مع الخاضعين لفرعون (في العبودية)، لكننا نكون بالقرب من الله، ما دمنا نتأمل وصاياه ونطلبها بجدٍ، فإن هذا هو معنى القرب من الله، أن نفكر فيما هو لله، ونطلب ما لله (في ٢: ٢١)، فيكون الله معنا على الدوام خلال ربنا يسوع المسيح[446]].

إذ شعر يعقوب أن أيام رحيله قد اقتربت دعا ابنه يوسف وقال له: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فضع يدك تحت فخذي واصنع معي معروفًا وأمانة. لا تدفني في مصر، بل اضطجع مع آبائي فتحملني من مصر وتدفنني في مقبرتهم" [٢٩-٣٠]. وإذ قبل يوسف الوصية حلف لأبيه أن يتممها، عندئذ سجد إسرائيل على رأس السرير [٣١].

سبق فرأينا لماذا كان يضع الإنسان يده تحت فخذ من يوصيه[447]، إذ يوصيه مشهدًا السيد المسيح الخارج من صلبه.

سأل إسرائيل ابنه العزيز لديه أنه إن أراد تكريمه وصنع معروف وأمانة معه ألاَّ يدفنه في مصر بل يحمله إلى مقبرة آبائه في مغارة المكفيلة، وكان يقصد إسرائيل بهذه الوصية إعلان اهتمامه بقيامة جسده، والتزام بنيه بالتعلق بمواعيد الله الخاصة بالتمتع بميراث أرض كنعان حيث يدفن فيها آباؤهم[448]...

أما بالنسبة لسجود إسرائيل على رأس السرير [١٣] فقد جاء في الترجمة السبعينية أنه سجد على رأس عصاه أي عصا يوسف، وقد أخذ الرسول بولس بهذه الترجمة في (عب ١١: ٢١). ويفسر البعض هذه العبارة بأن إسرائيل إذ رأى إحسانات الله له ولأبنه يوسف أمسك بعصا ابنه عند الرأس واتكأ عليها كشيخ لينحني أمام الله وهو على فراشه. والرأي الثاني أن إسرائيل إذ سمع صوت ابنه العزيز لديه وهو يعده أن يحقق وصيته الوداعية انحنى أمام عصا ابنه التي تمثل سيادته ورئاسته، وكانت هذه التحية معروفة في مصر وفي معظم بلاد الشرق، كما لمست أستير عصا قضيب الذهب التي في يد أحشويرش الملك. على أي الأحوال قلنا أن إسرائيل يمثل الكنيسة المتغربة في العالم كيعقوب في مصر، فإنها إذ تجد يوسف الحقيقي أي ربنا يسوع المسيح يعدها أن يحمل حتى جسدها إلى كنعان السماوية بعد أن يهبه طبيعة روحية جديدة تسجد الكنيسة أمام قضيب مُلك عريسها يوسف الحقيقي، علامة الشكر على إحساناته المستمرة عليها، وقد رأى كثير من الآباء في هذه العبارة نبوة صريحة عن الصليب أو المصلوب على خشبة والمستحق السجود له.

<<

الأصحاح الثامن والأربعون

يعقوب يبارك أفرايم ومنسي

إذ اقتربت الساعة التي لأجلها احتمل إسرائيل المتاعب كل أيام حياته، والتي طال انتظاره لها، أسرع يوسف بإحضار ابنيه ليباركهما أبوه، فتشدد يعقوب وبارك الأصغر بيمينه والأكبر بيساره.

١. مرض يعقوب                     ١-٢

٢. يعقوب يبارك يوسف              ٣-٧

٣. يعقوب يبارك أفرايم ومنسي       ٨-٢٠

٤. امتياز يوسف                     ٢١-٢٢

١. مرض يعقوب:

"قيل ليوسف هوذا أبوك مريض، فأخذ معه أبنيه منسي وأفرايم، فأُخبر يعقوب وقيل له: هوذا أبنك قادم إليك فتشدد إسرائيل وجلس على السرير" [١-٢].

إذ شعر يوسف أن أباه مريض مرض الموت أسرع بابنيه منسي وأفرايم لينالا بركة أبيه ويتمتعا برجائه في المخلص، وكان يود أن ينال الأكبر البركة بيمين يعقوب...

سمع إسرائيل المريض بخبر قدوم يوسف فتشدد وجلس على السرير ليستقبله، مقدمًا له الوصية الوداعية والبركة.

٢. يعقوب يبارك يوسف:

في مباركة يعقوب ليوسف أعلن الآتي:

أولاً: أعلن يعقوب في بدء حديثه ظهور الله له في لوز (بيت إيل) في أرض كنعان حيث باركه عند انطلاقه من وجه أخيه عيسو ومرة أخرى عند رجوعه من عند خاله لابان (ص ٢٨: ٣٥)، وكأنه يريد أن يؤكد ليوسف أن ما يقدمه من بركة إنما هي بركة الرب نفسه العامل فيه خاصة وقت ضيقة نفسه.

إن كان يعقوب كما قلنا يرمز للكنيسة، فما تقدمه من بركات ليس من عندياتها إنما تقدم ما تنعم به من الله واهب البركة، الذي يغمرها بعطاياه خاصة وقت آلامها. هذه البركة تتحقق في لوز في أرض كنعان، أي تتحقق في كلمة الله (اللوز) بانطلاق فكرنا إلى كنعان السماوية.

ثانيًا: طلب يعقوب من يوسف أن يُنتسب أبناه أفرايم ومنسي ليعقوب، فيكون بها يوسف قد نال ضعف إخوته، إذ صار سبطين بينما كل أخ من إخوته صار سبطًا واحدًا. لعله بهذا أراد أن يقيم من يوسف بكرًا عوض رأوبين الذي فقد بكورتيه بتدنيس مضطجع أبيه (تك ٣٥: ٢٢).

حسب يعقوب الابنين أفرايم ومنسي ابنيه أما بقية الأولاد ليوسف فينسبون إلى يوسف ولا يكونون أسباطًا بل ينتمون إلى سبطي أفرايم ومنسي [٦]، ليس لهم ميراث مستقل.

ثالثًا: إذ يبارك يعقوب يوسف في ابنيه لا ينسى والدته راحيل فيخبره عن موتها ودفنها في طريق أفراته التي هي بيت لحم [٧]، وكأنه إلى النفس الأخير لا ينسى زوجته المحبوبة لديه. لعل يعقوب أراد أن يسحب قلب ابنه المحبوب لديه إلى كنعان فلا تنسيه زوجته المصرية ولا كثرة البنين ولا غناه أرض الموعد.

٣. يعقوب يبارك أفرايم ومنسي:

إن كان يعقوب يعترف ببركات الله عليه حينما يتقدم ليبارك بنيه وأحفاده، فإن يوسف أبنه كأبيه يعترف أن أبنيه هما عطية الله له [٨].

طلب يعقوب من يوسف أن يقدم له أبنيه، وإذ قربهما إليه قبّلهما واحتضنهما أما هما فسجدا مع أبيهما يوسف أمام يعقوب. مدّ يعقوب يده اليمنى على أفرايم الأصغر الذي أوقفه يوسف عن يسار يعقوب، ومدّ يساره ليضعها على رأس الأكبر منسي الواقف عن يمينه، وصار يباركهما ببركة الله إله أبويه إبراهيم وإسحق، وقد طلب في البركة الآتي:

أولاً: أن تحل بركة الله على يوسف خلال أبنيه (الغلامين)، فحُسبت البركة ليوسف مع أن يديه ممتدتين على أفرايم ومنسي. وكأن كل بركة إلهية تمتد في حياة أفرايم (الثمر المتكاثر) ومنسي (نسيان العالم). تظهر بركة الله في حياة النمو المستمر والثمر المتزايد كما تظهر في نسياننا لمحبة العالم، أي تتجلى في الجانب الإيجابي كما السلبي.

ثانيًا: أن تحل عليهما بركة الملاك الذي خلصه من الشر وقت الضيقة... فإن الله يعلن بالأكثر رعايته وسط الآلام. لا ينزع الضيقات من أولاده إنما يسندهم وينجيهم.

ثالثًا: أن يُدعى عليهما أسم يعقوب واسما إبراهيم وإسحق، وقد تحقق ذلك إذ صار كل منهما سبطًا منسوبًا ليعقوب بن إسحق بن إبراهيم.

رابعًا: طلب لهما أن يكثرا كثيرًا في الأرض [١٦].

إن كان يوسف قد تهلل جدًا بالبركة التي تقبلها من أبيه في شخص ابنيه لكن الأمر ساء في عينيه، وقد أمسك بيدي أبيه ليحول يمينه إلى منسي الأكبر ويساره إلى أفرايم وكان يظن أنه يصحح وضعًا لا يفطن له أبوه، أما الأخير فأبى أن يغير مؤكدًا لابنه أن الله كشف له عن سر عظمة الأصغر بقوله: "علمت يا ابني علمت. هو أيضًا يكون شعبًا، وهو أيضًا يصير كبيرًا ولكن أخاه الصغير يكون أكبر منه ونسله يكون جمهورًا عظيمًا". ماذا يعني يعقوب بهذا؟

أ. لقد علم يعقوب أن أفرايم الصغير يكون أعظم من منسي، إذ يكون نسله جمهورًا عظيمًا، وقد تحقق هذا في أول إحصاء عُمِلَ في أيام موسى حيث كان عدد المجندين من أفرايم ٤٠٥٠٠ نسمة بينما من منسي ٢٢٢٠٠ نسمة (عد ١: ٣٢، ٣٥). هذا وقد عاش منسي منقسمًا نصفه شرقي الأردن والآخر غربه وكان ذلك علة تفككه وضعفه، كما أن اختلاط الجزء الساكن في شرقي الأردن بالشعوب الوثنية عرضة لعبادة الأوثان أكثر من غيره (٢ أي ١٥: ٩؛ ٣٠: ١). أما أفرايم فكان قويًا حتى أنه كثيرًا ما دعيت المملكة الشمالية (إسرائيل) باسم "أفرايم". من هذا السبط خرج يشوع بن نون (عد ١٣: ٨)، وكان لهم نشاط ملحوظ في عصر القضاة في أيام دبورة النبيه وجدعون ويفتاح، وجاء صموئيل النبي منهم (قض ٥، ٨، ١٢؛ 1 صم ١)... وكانت شيلوه من مدنهم موضعًا مقدسًا لخيمة الاجتماع لفترة طويلة من الزمن الخ...

ب. في وضع يعقوب يديه كان يضع صليبًا على رأسيهما، وكأن سرّ البركة الحقيقية هو "ذبيحة الصليب".

ج. تفضيل الأصغر عن الأكبر كما رأينا في كثير من المواقف إنما كان يشير إلى مجيء آدم الثاني الذي يحتل البكورية بينما يفقد آدم الأول بكوريته، فالله لا يهمه بكورة الجسد إنما يطلب عمل الروح... هكذا قبل الله ذبيحة هابيل الابن الأصغر ورفض تقدمة الابن الأكبر قايين (تك ٤)، وتمتع يعقوب نفسه بالبكورية وبركة أبيه إسحق في الرب وحرم منها أخوه البكر عيسو، وبنفس الفكر تمتع أبوه إسحق بالبركة أما إسماعيل الأكبر جسديًا فلم يرث معه... وفي دراستنا لإنجيل متى البشير رأينا السيد المسيح يأتي من نسل أغلبهم لا يحملون بكورية جسدية[449].

يقول القديس أغسطينوس[450]: [بأن يعقوب صنع هذا مقدمًا بركة خفية للأصغر، بها صار الأول أخيرًا والأخير أولاً نبوة عما حدث عند مجيء السيد المسيح. لقد فُضل هابيل عن أخيه الأكبر قايين، وإسحق عن إسماعيل، ويعقوب عن عيسو، وداود عن إخوته الأكبر منه، والمسيحيون عن اليهود السابقين لهم]. كما يقول أيضًا: [كما استخدم أبنا إسحق أي عيسو ويعقوب كرمزين لشعبي اليهود والمسيحيين... هكذا حدث ذات الأمر بالنسبة لابني يوسف. فكان الأكبر رمزًا لليهود والأصغر للمسيحيين[451]].

لقد تبارك منسي بكونه يمثل كنيسة العهد القديم وقد صار كبيرًا في عيني الله إذ عاش بالإيمان يتقبل الناموس والنبوات والمواعيد الإلهية في وقت كان العالم ملقى في أحضان الوثنية ورجاساتها. لكن جاء أفرايم الحقيقي أي الكنيسة العهد الجديد التي صارت أكبر وتضم جمهورًا من الأمم والشعوب.

ختم يعقوب بركته لهما بقوله: "بك يبارك إسرائيل قائلاً: يجعلك الله كأفرايم وكمنسي" [٢٠]... وكأن الله يبارك البشرية خلال كنيستي العهد الجديد والقديم، اللتين هما في الحقيقة كنيسة واحدة مجتمعة معًا في المسيح يسوع المصلوب تحت ذراعي يعقوب (على شكل صليب).

٤. امتياز يوسف:

في الختام يعلن إسرائيل لابنه يوسف أنه يموت لكن قلبه متعلق بوعد الله له ولآبائه من قبله أن نسلهم يرثون أرض الموعد [٢١]، وقد وهب إسرائيل ابنه يوسف سهمًا (نصيبًا) إضافيًا فوق سائر أخوته [٢٢] إذ جعله البكر، وقبل أبنيه كسبطين. وهبه أيضًا أرضا اقتناها بسيفه ورمحه من الأموريين (يو ٤: ٥، ٦)... وقد تمتع إسحق أيضًا بدفن عظامه في الحقل الذي اشتراه أبوه (يش ٢٤: ٣٢).

<<

الأصحاح التاسع والأربعون

يعقوب يبارك أولاده

بنهاية حياة يعقوب على الأرض ينتهي عصر الآباء البطاركة العظام (إبراهيم وإسحق ويعقوب)، لينطلق إسرائيل لا كأفراد بل كشعب وخميرة كان يجب أن تخمر العجين كله بالإيمان وتعد العالم لمجيء المسيا المخلص. لذا ختم هذا العصر بتقديم البركة لكل سبط تحمل في طياتها نبوة عن مجيء المخلص.

١. يعقوب يدعو أولاده                ١-٢

٢. رأوبين                            ٣-٤

٣. شمعون ولاوي                    ٥-٧

٤. يهوذا                             ٨-١٢

٥. زبولون                           ١٣

٦. يساكر                            ١٤-١٥

٧. دان                               ١٦-١٨

٨. جاد                               ١٩

٩. أشير                              ٢٠

١٠. نفتالي                           ٢١

١١. يوسف                          ٢٢-٢٦

١٢. بنيامين                          ٢٧

١٣. الوصية الوداعية                ٢٨-٣٣

١. يعقوب يدعو أولاده:

"ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام" [١].

بعد حياة مليئة بالجهاد خلالها اغتصب يعقوب البركة والباكورية، واستحق رغم ضعفاته المتكررة أن ينال الوعد بمجيء المسيا المخلص من نسله، هذا الذي به تتبارك كل الأمم، قضى في مصر ١٧ عامًا في صمت وسكون... والآن إذ هو عابر من هذه الأرض تطلع إلى أولاده كأسباط منهم يخرج شعب الله الذي يتمتع بأرض الموعد، ويأتي المسيا المخلص فانفتح لسانه ينطق بما يراه خلال روح النبوة أو خلال الظلال. كأنه بموسى الذي أرتفع على جبل نبو يتطلع من بعيد إلى أرض الموعد، فيفرح قلبه من أجل الشعب الذي ينعم بتحقيق الوعد الذي حُرم هو منه.

لقد رأى الأسباط الاثنى عشر الكنيسة المتمْتعة بخلاص المسيح والنامية في الروح. فرأى في رأوبين الابن البكر والثمر الطبيعي له من ليئة الإنسان المتكل على بكورية الجسد أو أعمال الناموس فيخسر بكورية الروح، لهذا حسبه كمن دنس مضطجع أبيه بتدنيسه الكنيسة عروس المسيح خلال بره الذاتي.

ورأى في شمعون ولاوي اللذين منهما جاء الكتبة والكهنة وقد قاوموا السيد المسيح كلمة الله، يشيران إلى خطية المؤامرات الشريرة ومجالس الإثم المفسدة للخدمة وعمل الله.

أما يهوذا فرآه يمثل "الحمل" المصلوب، وفي نفس الوقت الأسد الغالب بالصليب. رأى السيد المسيح خارجًا من سبط يهوذا يهب قوة قيامة لمؤمنيه. وكأنه لا يكفي أن نترك البر الذاتي (رأوبين) ونرفض مجالس الشر (شمعون ولاوي) وإنما يلزمنا الالتصاق بيهوذا الحقيقي لننعم بقوة قيامته عاملة فينا. بهذا ينطلق إلى "زبولون" الذي يشير إلى الانطلاق نحو البحر أو الاتجاه إلى الأمم للكرازة لهم. فمن يحمل يهوذا القائم فيه لا يقدر أن يحتمل رؤية الأمم في عدم إيمانهم، طالبًا خلاص كل نفس.

أما يساكر فيشبهه بالحمار الذي يحمل أثقال الآخرين. فإن أُتهمنا بالغباوة من أجل احتمالنا الألم بفرح وخدمتنا للآخرين فلا نهرب بل نتقدم للعمل بلا ضجر، متشبهين بالقائل: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت ١١: ٢٨).

بقدر ما ينتشر ملكوت الله بين الأمم يقاوم عدو الخير حتى يظهر "ضد المسيح" من سبط دان كحية على الطريق تلدغ لتهلك.

تحدث بعد ذلك عن جاد بكونه يُهاجَم بجيش لكنه يعود فيغلب، إشارة إلى المؤمن الذي يُحارَب كثيرًا لكنه في النهاية ينتصر؛ لذا جاء بعده "أشير" بخبزه السمين أي غلاته متوافرة. فالحروب الروحية وإن كشفت ضعفاتنا لكنها تعطي النفس قوة وتجعلها أكثر أثمارًا.

بعد أشير تحدث عن نفتالي كايله (مونث إيل) سريعة الحركة، كلماته عذبة مع الجميع أما يوسف فيحمل في صلبه سبطين منسي وأفرايم، فإن "يوسف" تعني "النمو" وذلك خلال نسيان هموم العالم والتمتع بالثمر المتزايد (أفرايم).

أخيرًا يتحدث عن "بنيامين" التي تعني "ابن اليمين" الذي ينعم بشركة المجد الأبدي.

يمكننا في إيجاز القول بأن يعقوب رأى بروح النبوة في أولاده صورة حية للكنيسة المجاهدة في المسيح يسوع:

 

١. رأبوين

الابتعاد عن البر الذاتي.

٧. جاد

الجهاد الروحذي.

٢. شمعون ولاوي

الابتعاد عن المؤامرات.

٨. أشير

ثمار الجهاد.

٣. يهوذا

الالتصاق بالمسيح.

٩. نفتالي

رقة الحديث.

٤. زبولون

الانطلاق للكرازة.

١٠. يوسف

النمو المستمر.

٥. يساكر

احتمال متاعب الآخرين.

١١. بنيامين

التمتع بيمين الرب.

٦. دان

مقاومة إبليس.

 

 

٢. رأوبين:

إذ كانت البركة خلال ظل الناموس بدأ يعقوب ببكره جسديا "رأوبين" والذي يمثل قوة الطبيعة إذ جاء مولودًا من ليئة. "رأوبين" يعني "ابن الرؤيا" لكن للأسف لم يحتفظ بنقاوة عينيه ليرى الأمور السماوية بل أتكل على ذاته فخسر بكوريتة الروحية وفقد بصيرته ليحتل "يهوذا" البكورية الروحية حيث ينعم بمجيء السيد المسيح (البكر) الحقيقي، الذي يشتّمه الآب رائحة رضى، ويراه موضع سروره.

يبارك يعقوب بكره حسب الجسد وفي نفس الوقت يعاتبه: "رأوبين أنت بكري قوتي وأول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز؛ فائرًا كالماء لا تنفضل، لأنك صعدت على مضطجع أبيك، حينئذ دنسته. على فراشي صعد" [3-4]. إن كان يعقوب يعتز ببكره ويدعوه قوته وأول قدرته نال أفضل رفعة وعز لكنه لا ينسى أنه اضطجع مع بلهة سرية أبيه (تك ٣٥: ٢٢) وبسبب ذلك فقد بكوريته لينالها أبنا يوسف (١ أي ٥: ١)، أما البكورية الروحية فاغتصبها يهوذا. لقد انهزم رأوبين أمام شهوته الجسدية فصار كالماء الذي يفور ليبرد ثانية، فاقدًا أفضليته.

كان رأوبين يمثل الشعب اليهودي الذي حُسب بكرًا في معرفة الله لكنه بالجحود فقد بكوريته، ففقد قوته الروحية ورفعته وعزه وحسبوا دنسين بمحاولتهم إفساد كنيسة الله. في هذا يقول القديس هيبوليتس الروماني: [كان هناك دور عظيم لإعلان قوة الله لحساب شعبه البكر عند خروجه من مصر، فبسببه تأدبت مصر بطرق كثيرة. لقد عنى بقوله: قوتي وبكري الشعب الأول الذي هو أهل الختان]... لكن للأسف فقدوا هذا الامتياز برفضهم الإيمان بالمخلص، وحسبوا مدنسين للكنيسة. وما حدث بالنسبة لليهود يحدث في أيام الارتداد حيث ينكر الكثيرون الإيمان، إذ يقول الأب هيبوليتس: [في الأيام الأخيرة يهاجم الناس مضطجع الآب، أي الكنيسة العروس، بقصد إفساده، الأمر الذي يحدث في هذه الأيام خلال التجديف].

٣. شمعون ولاوي:

"شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلم سيوفهما، في مجلسهما لا تدخل نفسي، بمجمعهما لا تتحد كرامتي، لأنهما في غضبهما قتلاً إنسانًا وفي رضاهما عرقبا ثورًا، ملعون غضبهما فإنه شديد، وسخطهما فإنه قاسٍ" [٥-٧].

ماذا رأى يعقوب في أبنيه حتى رفض مجلسهما واتحادهما معًا؟ يقول القديس هيبوليتس: [من شمعون جاء الكتبة ومن لاوي الكهنة، وبإرادتهم تمم الكتبة والكهنة الشر بقتل المسيح بفكر واحد]. حقًا إنهما أخوان، لكن في اتحادهما لم يكرما الله بل قتلا المخلص الذي جاء كإنسان وعرقباه وهو المتقدم كذبيحة (كثور) ليفديهما.

هذا هو المفهوم الروحي الذي فيه نرفض كل مؤامرة شريرة حتى نحيا في الكنيسة ملكوت الله. أما من الجانب الحرفي، فإن شمعون ولاوي أخوان أي متشابهان في السمات، أخذا كل واحد سيفه وأتيا إلى مدينة شكيم حيث قتلا كل ذكر انتقامًا لأختهما دينة التي دنسها شكيم بن حمور الحوّي (تك ٣٤)، فلم يراعيا العدل في انتقامهما. لقد تظاهرا بالهدوء واتفقا معًا على الشر وسببا تعبًا لأبيهما.

٤. يهوذا:

حقًا أن يهوذا لم ينل نصيب أثنين كيوسف أخيه الذي اغتصب البكورية من رأوبين فصار يوسف سبطين هما منسي وأفرايم، حسبهما يعقوب أبنيه كرأوبين وشمعون ومنسوبين له (تك ٤٨: ٥)، لكن يهوذا نال نصيب الأسد في البركة إذ رأى يعقوب السيد المسيح الملك والكاهن يأتي من نسله، إذ يقول:

"يهوذا إياك يحمد أخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك" [٨].

من هو يهوذا هذا الذي يحمده أخوته ويسبحونه إلاَّ السيد المسيح نفسه الخارج من سبط يهوذا، الذي وضع بالصليب يده على قفا إبليس عدوه فحطمه، محررًا البشرية من سلطانه حتى يسجدوا له بالروح والحق.

لقد صار يهوذا هو السبط الملوكي، بدأ بداود الملك والنبي وتوّج بظهور ملك الملوك رب المجد منه.

"يهوذا جرو أسد، من فريسة صعدت يا ابني، جثا وربض كأسد ولبؤة من ينهضه؟!" [٩].

إذ رأى يعقوب في صلب يهوذا السيد المسيح دعاه بالأسد الذي خرج من حرب الصليب غالبًا أعدائه الروحيين. لقد جثا وربض على الصليب... لكن حتى في نومه على الصليب كان أسدًا لا يقدر العدو أن يقترب منه. في هذا يقول القديس أغسطينوس: [لقد سبق فتُنبئ عن موت المسيح بقوله "ربض"، موضحًا أن موته كان بإرادته وليس قسرًا، إذ رمز له بالأسد. لقد أعلن هذا السلطان بنفسه في الإنجيل إذ قال: "ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو ١٠: ١٨). هكذا زأر الأسد وتمم ما قاله. لقد أضاف إلى هذا سلطانه في القيامة بقوله: "من ينهضه؟!" بمعنى أنه يقيم نفسه وليس إنسان يقيمه. لقد قال عن جسده: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو ٢: ١٩). تحدث أيضًا عن نوع موته أي الصعود على الصليب، إذ قيل: "من فريسة صعدت"...[452]].

يكمل يعقوب حديثه مع يهوذا: "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" [١٠]. إنه امتياز يقدمه يعقوب لأبنه الذي يحمل نسله قضيب الملك ومن بنيه (بين رجليه) يكون الحكم الذي يشرع حتى المسيا واهب السلام (شيلون) فيضم الشعوب إلى مملكته الروحية. يقول القديس أغسطينوس: [دعى اليهود هكذا "يهودا"، لأجل يهوذا أحد الإثنى عشر أبنًا ليعقوب... الذي من صلبه جاءت الملوكية... من هذا السبط جاء الملوك، ومنه جاء ربنا يسوع المسيح[453]].

"رابطًا بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه. غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه" [١١]. في دراستنا لإنجيل متى (ص ٢١) رأينا الأتان يشير إلى الأمة اليهودية والجحش يشير إلى الأمم الذين فقدوا كل تعقل بسبب الرجاسات الوثنية. إنه يعلن بروح النبوة أن لكيهما: اليهود والأمم قد ارتبطا معًا في الكرمة أو الجفنة إذ صارا فيه كنيسة مقدسة واحدة. وكما يعلق القديس هيبوليتس على هذه العبارة: [إنه يدعو أهل الختان وأهل الغرلة في إيمان واحد[454]]. هذا وأن ثوب المسيح أو لباسه يشير إلى الكنيسة الملتصقة به كما رأينا في حديثنا عن القميص الملون (تك ٣٧: ٣)، فإن هذا اللباس غسله السيد بدمه الطاهر... وكما يقول القديس كبريانوس: [إذ يُشار إلى دم الخمر ماذا يعني سوى خمر كأس دم الرب؟![455]]. ويقول القديس أكلمنضس الإسكندري: [الكرم ينتج خمرًا والكلمة يقدم دمًا، كلاهما يجلبان الصحة، الخمر للجسد والدم للروح[456]]. ويقول القديس أغسطينوس: [ما هذا الثوب الذي يغسله في الخمر، أي يغسله في دمه من الخطية... إلاَّ الكنيسة[457]]. إنما تشير إلى حياة الترف والغنى التي يعيشها ملوك يهوذا.

"مسود العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن" [١٢].

يعلق القديس هيبوليتس على هذه العبارة قائلاً: [عيناه لامعتان كما بكلمة الحق إذ ترقبان ما يؤمن به، وأسنانه بيضاء كاللبن معبرًا عن قوة كلماته المنيرة، لذا دعاها بيضاء وقارنها باللبن الذي يقوت الجسد والنفس]. ويقول القديس أغسطينوس: [عيناه حمراوتان بالخمر، هاتان هما شعبه الروحي الذي يسكر بكأسه وأسنانه بيضاء أكثر من اللبن الذي هو الكلمات التي يرضعها الأطفال الذين كما يقول الرسول لم يتأهلوا للطعام القوي (١ كو ٣: ٢، ١ بط ٢: ٢)[458]].

ويرى القديس هيبوليتس أيضًا أن العينين تشيران إلى الأنبياء واللبن إلى وصايا المسيح، إذ يقول: [ما هما عينا المسيح إلاَّ الأنبياء الذين تنبأوا بالروح وأعلنوا مقدمًا الآلام التي تحل به، وفرحوا إذ رأوه بقوة خلال البصيرة الروحية منتعشين بكلمته ونعمته؟... ويشير (اللبن) إلى الوصايا التي تنبع عن فم المسيح القدوس النقية كاللبن[459]].

٥. زبولون:

"زبولون عند ساحل البحر يسكن، وهو عند ساحل السفن وجانبه عند صيدون" [١٣].

سكن سبط زبولون غرب نهر الأردن وغرب بحر الجليل، وقد اشتغلوا بالتجارة ويرجح أنهم استولوا على أماكن مجاورة للبحر المتوسط... ويرى القديس هيبوليتس أن قوله: "زبولون عند ساحل البحر يسكن" يحمل رمزًا لالتحام إسرائيل بالبحر أي بالأمم، فقد عرف البحر كرمز للأمم والنهر كرمز لليهود[460]، هكذا يلتحم الاثنان معًا بكونهما قطيعًا واحدًا. يقول القديس: [إنه عند ساحل السفن أي في مرسى آمن، مشيرًا بذلك إلى المسيح مرساة الرجاء. هنا الإشارة إلى دعوة الأمم، حيث تبلغ نعمة المسيح الأرض كلها والبحر. بقوله: "هو عند ساحل السفن ممتد إلى صيدون" يقدم قولاً نبويًا عن كنيسة الأمم التي ظهرت في الإنجيل: "أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم، الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا" (مت ٤: ١٥، ١٦). إذن بذكره زبولون محددًا سكناه بحدود البحر إنما يوضح التحام إسرائيل بالأمم ليصير الشعبان قطيعًا واحدًا تحت يد الراعي الأعظم الواحد، الصالح بطبعه، المسيح. لذلك ففي مباركته يقول موسى: "افرح يا زبولون" (تث ١٨: ٣٣)].

٦. يساكر:

"يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر، فرأى المحل إنه حسن والأرض أنها نزهة، فأحنى كتفه للحمل وصار للجزية عبدًا" [١٤-١٥].

شبه يساكر بحمار جسيم أو ضخم وقوي، فقد اشتغل هذا السبط بالفلاحة وكان دأبهم الصبر. وكانت الأرض خصبة فاكتفى السبط بالزراعة ولم يمل إلى الانشغال بالسياسة إلاَّ نادرًا وقد تعرض لدفع الجزية أو الضرائب...

يرى القديس هيبوليتس أن قوله الأرض نزهة (دسمة) تشير إلى جسد الرب الغني بعطاياه، قدمه لنا ميراثًا كأنه أرض الموعد الذي يفيض لبنًا وعسلاً، يقوت الأطفال والناضجين.

قلنا في مقدمة هذا الأصحاح أن يساكر يشبه الحمار يحمل أثقال الآخرين، حانيًا كتفي محبته للمتعبين ومستعبدًا نفسه ليحرر الآخرين.

حينما ذاق شاول الطرسوسي أن الأرض نزهة، وأدرك غنى العطايا الإلهية التي وهُبت له خلال عضويته في جسد المسيح "أحنى كتفه للحمل وصار للجزية عبدًا". لقد قال: "إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين" (١ كو ٩: ١٩). هذه هي الجزية التي دفعها مسلمًا نفسه وهو حر عبدًا ليحرر العبيد ويربحهم أبناء الله. لقد أحنى كتفه للحمل قائلاً: "من يضعف وأنا لا أضعف؟! من يُعثر وأنا لا ألتهب؟!" (٢ كو ١١: ٢٩)، "وأما أنا فبكل سرور أُنفق وأنفق لأجل أنفسكم وإن كنت كلما أحبكم أكثر أُحب أقل، فليكن!" (٢ كو ١٢: ١٥، ١٦).

٧. دان:

"دان يدين شعبه كأحد أسباط إسرائيل،

يكون دان حية على الطريق، افعوانًا على السبيل، يلسع عقبي الفرس فيسقط راكبه إلى الوراء. لخلاصك انتظرت يارب!" [١٦-١٨].

لما كانت النبوة تحمل مرارة لذلك بدأها بعتاب معلنًا أن دان "كأحد أسباط إسرائيل" إذ حُسب سبطًا مع أنه أول ابن ليعقوب من جارية (تك ٣٠: ١–٦)، وقد عُرفت ذريته بالدهاء والمكر، شبهه موسى بشبل أسد يثب من باشان (تث ٣٣: ٢٢).

ذكر القديس إيرنياؤس أن ضد المسيح يخرج من سبط دان، وقبل كثير من الآباء هذا الفكر. وقد دلل القديس هيبوليتس على ذلك من قول إرميا النبي: "من دان سمعت حمحمة خيله، عند صوت صهيل جياده ارتجفت كل الأرض فأتوا وأكلوا الأرض وملأها المدينة والساكنين فيها، لأني هأنذا مرسل عليكم حيات أفاعي لا ترقى فتلدغكم يقول الرب" (أر ٨: ١٦)، متطلعًا أن ما وصفه إرميا هنا ينطبق على عصر الارتداد حين يخرج ضد المسيح من سبط دان بجيشه يحارب الكنيسة في كل الأرض ويلدغ المؤمنين بسموم تجاديفه. كما يدلل على قول بكلمات موسى النبي: "دان شبل أسد يثب من باشان" (تث ٣٣: ٢٢). فإن كان السيد المسيح جاء من سبط يهوذا كأسد، فإن ضد المسيح يبذل كل طاقته لخداع البشرية فيخرج من سبط دان كأسد.

v     كما جاء المسيح من سبط يهوذا سيأتي ضد المسيح من سبط دان...

ماذا يعني هنا بالحية إلاَّ ضد المسيح المخادع، الذي أشير إليها في سفر التكوين (٣: ١)، التي خدعت حواء وآدم؟!

v     هذا بالحقيقة يتحقق في سبط دان، إذ يقوم منه طاغية وملكٍ وقاضٍ مرعبٍ هو أبن الشيطان.

القديس هيبوليتس الروماني[461]

٨. جاد:

"جاد يزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخرة" [١٩].

كان نصيب سبط جاد شرق الأردن كطلبه وقد اشترط موسى النبي على بني جاد وبني رأوبين أن يعبروا مع إخوتهم ويحاربوا وعند التقسيم يأخذون شرقي الأردن (عد ٣٢). اختيارهم لشرقي الأردن جعلهم معرضين للقتال، فكانت أرضهم ساحة قتال بين آرام وإسرائيل (٢ مل ١٠: ٣٣)، كما تعرضوا لغزو العمونيين والأموريين لكن بني جاد كانوا يلحقون بهم ويقاتلونهم ويستردون غنائمهم. وكان جبابرة سبط جاد مرافقين لداود في صقلغ، قيل عنهم: "جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا أتراس ورماح وجوههم كوجوه الأسود وهم كالظبي على الجبال في السرعة... صغيرهم لمئة والكبير لألف" (١ أي ١١٢: ٨–١٤).

إذن فجاء يمثل النفس التي تتعرض لحروب روحية كثيرة لكنها لا تتوقف عن الجهاد في الرب، تسرع كالظبي نحو أورشليم العليا بلا عائق وتقاتل الخطايا والرجاسات بلا خوف!

٩. أشير:

"أشير خبزه سمين وهو يعطى لذات ملوك" [2٠].

تنبأ يعقوب عن أشير بكثرة  الخيرات، كما تنبأ موسى عنه أنه يغمس في الزيت قدمه (تث ٣٣: ٢٤)، وقد تحققت النبوتان إذ تمتع سبط أشير بأرض خصبة غنية بأشجار الزيتون التي يستخرج منها الزيت. كانت غلات أرضه وفيرة فقيل أن خبزه سمين، يصدر منها للأسباط الأخرى، هذا بجانب سكناه بجوار البحر مكنه من استيراد البضائع وبيعها لبقية الأسباط لذا قيل "يعطى لذات ملوك"... ويشير هذا السبط على فيض النعمة في حياة المجاهدين الروحيين.

١٠. نفتالي:

"نفتالي أيلة (أنثى الإيل) مسيبة تعطي أقوالاً حسنة" [2١].

يشبه في محبته للحرية بأنثى الإيل المنطلقة في برية مفتوحة وفي الوادي بلا حواجز تتحرك في خفة وسرعة أينما أرادت. لكن هذه الحرية ليست فرصة للانحلال والشر وإنما التزم السبط بعلاقات طيبة مع بقية الأسباط مقدمًا "أقوالاً حسنة". وفي سفر القضاة ترنمت دبورة قائلة: "زبولون شعب أهان نفسه إلى الموت مع نفتالي على روابي الحقل" (٥: ١٨)، ربنا تشير إلى مدى جهادهم في الحرب. باركهم موسى النبي قبل موته: "يا نفتالي اشبع رضى وامتلئ بركة من الرب واملك الغرب والجنوب" (تث ٣٣: ٢٣)... هكذا صار نفتالي يمثل النفس الرقيقة في تعاملها مع إخوتها تنعم ببركة الرب.

١١. يوسف:

نال يوسف "رجل الأحلام"، الابن البكر لراحيل مدحًا أكثر من كل إخوته، فقد كان أمينًا في علاقته مع الله ومحبًا للجميع كابن أو كأخ أو كعبد أو كأجير أو كسجين أو كقائد في القصر... لذا دعاه أبوه "غصن شجرة مثمرة"، وقد كرر العبارة مرتين إشارة إلى أن الثمرة هي ثمرة الحب، لأن رقم ٢ كما يقول القديس أغسطينوس: [يشير إلى الحب، إذ يجعل الاثنين واحدًا. كان يوسف غصنًا يثمر حبًا سماويًا مرتفعًا إلى فوق لا يعوقه حائط الظروف المحيطة  أو الأحداث]، إذ يقول:

"يوسف غصن شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على ماء، أغصان قد ارتفعت فوق حائط،

فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام،

ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه" [ ٢٢–٣٤].

يوسف يمثل النفس البشرية الأمينة للرب التي لا تتوقف عن تقديم الحب الروحي بالرغم من كثرة المقاومات وشدة الحرب الروحية. فالنفس تكون في الرب غصنًا مثمرًا مرتبطة بالأصل كقول السيد: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان، الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو ١٥: ٥). إنه الغصن الذي يرتبط بعين ماء الروح القدس فيهبه حياة وثمارًا، ويتكاثر فيصير أشبه بـ "أغصان قد ارتفعت فوق حائط" الزمان منطلقة نحو السماء. خلال هذا الثبوت في المسيح والتمتع بعمل الروح القدس تواجه النفس من إبليس وجنوده "أرباب السهام" حربًا مريرة تكشف عن نصرته وتزكيته.

يرى القديس هيبوليتس أن الحديث هنا ينطبق بالأكثر على السيد المسيح الذي حسده اخوته وقام ضده "أرباب السهام" أي "قادة الشعب" بمشورتهم المرة، لكن أقواسهم انكسرت وانهارت سواعد أيديهم معلنًا النصرة على الصليب ضد القوات الشريرة. أما تشبيه السيد المسيح بغصن فقد تكرر كثيرًا خاصة في سفر زكريا (٣: ٨).

لقد عزل أبناء يعقوب أخاهم يوسف عنهم وباعوه كبعد يعيش بعيدًا عنهم في مذلة، فإذا به يره يعقوب "نذير أخوته" [٢٦]، أي المكرس لله عن أخوته... تمتع ببركات علوية وخيرات أرضية فائقة، إذ باركه أبوه هكذا:

"من يديّ عزيز يعقوب، من هناك من الراعي صخر إسرائيل،

من إله أبيك الذي يعينك ومن القادر على كل شيء الذي يباركك تأتي بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحت، بركات الثديين والرحم، بركات أبيك فاقت على بركات أبويّ.

إلى منية الآكام الدهرية تكون على رأس يوسف وعلى قمة نذير إخوته" [٢٤-٢٦].

يطلب يعقوب لأبنه يوسف كل بركة ممكنة، فيسأل عنه الله "عزيز يعقوب" أي إلهه المحبوب لديه، الراعي والصخر المعين له، يطلب من القدير أن يبارك ببركات السماء وخيرات الأرض وكثرة النسل (بركات الثديين والرحم)، لينال أكثر مما نال إسحق من إبراهيم ويعقوب من أبيه إسحق (بركات أبيك "لك" فاقت على بركات أبويّ)، سائلاً أن تكون البركة إلى منية الآكام إلى أقصى حدود التلال العالية التي لا يفنيها الدهر.

هكذا أحب يعقوب ابنه يوسف أكثر من نفسه طالبًا من إلهه أن يهبه أكثر مما ناله هو من بركة والده وأن تعم البركة نفسه (بركات السماء) وجسده (بركات الغمر الرابض تحت) وكل طاقاته ومواهبه (بركات الثديين والرحم) ليكون مباركًا أبديًا ونذيرًا عن إخوته يشفع عنهم.

١٢. بنيامين:

"بنيامين ذئب يفترس، في الصباح يأكل غنيمة وعند المساء يقسم نهبًا" [٢٧].

تشير النبوة هنا إلى شجاعة سبط بنيامين وقوته في الحروب، وقد قيل عن محاربيه: "كل هؤلاء يرمون الحجر بالمقلاع على الشعرة ولا يخطئون" (قض ٢٠: ١٦).

ويرى القديس هيبوليتس الروماني أن النبوة هنا تشير إلى شاول الملك الذي من سبط بنيامين، فقد كان ذئبًا يفترس داود الملك، كما تشير إلى شاول الطرسوسي الذي انطلق في صباح حياته ليفترس الكنيسة كغنيمة لكنه آمن وصار خاضعًا لها يقدم نفسه طعامًا (حسب الترجمة السبعينية).

قدم لنا القديس چيروم ذات الفكر حين قال: [بولس مضطهد الكنيسة هو الذئب الخارج من بنيامين ليفترس، يحني رأسه أمام حنانيا أحد قطعان المسيح وينال شفاءً لعينيه عندما قبل دواء المعمودية (أع ٩: ١٧، ١٨)[462]]. كما يقول [بولس مضطهد الكنيسة كان في الصباح ذئبًا يفترس وصار في المساء طعامًا يُقدم (حسب الترجمة السبعينية) خاضعًا للحمل حنانيا[463]].

١٣. الوصية الوداعية:

سبق فأوصى يعقوب أبنه يوسف أن يدفنه مع أبيه وأمه وجده وجدته في كنعان في مغارة المكفيلة التي اشتراها إبراهيم من بني حث، وها هو يكرر الوصية لأولاده الإثنى عشر... لقد عاش غريبًا كآبائه ينتظر تحقيق وعود الله في نسله... وأخيرًا مات على رجاء، إذ أسلم الروح وانضم إلى قومه.

<<

الأصحاح الخمسون

دفن يعقوب

مات يعقوب غريبًا في أرض مصر بعد أن أوصى أولاده بدفنه في كنعان في مقبرة آبائه، وكأنه وقد أدرك أن بذرة شعب الله قد غرست في مصر لتنمو وتترعرع، يطلب من هذا الشعب أن يبقى قلبه متعلقًا بكنعان أرض الموعد حتى يتمتع بوعود الله.

١. تحنيط يعقوب                      ١-٦

٢. دفن يعقوب في كنعان             ٧-١٣

٣. يوسف يطيب قلب إخوته ١٤-٢١

٤. يوسف يوصي بعظامه            ٢٢-٢٦

١. تحنيط يعقوب:

عاش يعقوب كآبائه متغربًا في خيام، غير مستقر في موضع، وانتهت حياته على الأرض وهو غريب في مصر، وقد أصر في وصيته الوداعية أن يدفن في كنعان في مغارة المكفيلة حيث دفن فيها إبراهيم وسارة وإسحق ورفقة... وربما يتساءل: لماذا اهتم رجل الإيمان، أب جميع الأسباط بهذا الأمر، وجعله الوصية الوداعية لكل أولاده؟ هل يهمه الجسد بعد موته؟

أولاً: يؤكد الآباء أن رجال العهد القديم كانوا يهتمون في وصيتهم بدفن أجسادهم في موضع معين كتسليم ملموس خلاله يدرك أولادهم قيامة الجسد... فقد عاش هؤلاء الآباء كغرباء حارمين أجسادهم من الترف والتدلل لكنهم ينتظرون أن يحملوه جسدًا ممجدًا في يوم الرب العظيم.

ثانيًا: أراد أن يؤكد يعقوب لأولاده بدفنه في كنعان... إنه وإن عاش أواخر أيامه في مصر حيث أنقذ يوسف العائلة من المجاعة لكن قلبه في كنعان التي وعد الله بها إبراهيم أن يتمتع بها نسله، وكأن يعقوب يطلب من أولاده أن يعيشوا في مصر عاملين بأمانة وجهاد أما قلبهم فيلتصق بمواعيد الله لهم.

ثالثًا: طلب أن يُدفن مع آبائه ليعلن أن حياته كلها كانت تسير في تناغم وانسجام مع إيمان آبائه المسلم عبر الأجيال... خاصة إيمانه بالقيامة من الأموات.

على أي الأحوال إذ مات يعقوب تأثر يوسف جدًا فقد وقع "على وجه أبيه وبكى علي وقبَّله" [١]، وكأنه تحقق وعد الله حين قال له: "لا تخف من النزول إلى مصر، لأني أجعلك أمة عظيمة هناك، أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضًا، ويضع يوسف يده على عينيك" (تك ٤٦: ٤)، أي يضع يده على عينيه عند موته ليغمضهما كما هي العادة إلى يومنا هذا.

أمر يوسف عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه حتى يحمله إلى كنعان، وطلب من بيت فرعون أن يسألوا فرعون لكي يسمح لهم بحمل جثمان أبيه إلى كنعان كوصيته، إذ لم يكن ممكنًا ليوسف أن يقابل فرعون بثياب الحزن أو بلحيته التي أطلقها لأجل الميت.

٢. دفن يعقوب في كنعان:

تحرك الموكب العظيم من جاسان لينطلق إلى أرض كنعان لدفن إسرائيل، إذ قال يوسف: "أصعد لأدفن أبي" [٥]. وكان الموكب في عيني يوسف كما في عيني فرعون نفسه [٦] موكب صعود لا نزول، إذ حمل رمزًا لارتفاع الكنيسة نحو أورشليم العليا، كنعان الحقيقية، لتوجد مع عريسها أبديًا.

وقد تمت مراسم الدفن أو تحركات الموكب على ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى: انطلاق الموكب من مصر، وقد وصفه الكتاب: "كان الجيش كثيرًا جدًا" [٩]. لقد ضم الموكب في مقدمته يوسف وهو القائد الحقيقي لموكبنا الروحي الغالب للظلمة، كقول الرسول: "لكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (٢ كو ٢: ١٤). كما يضم الموكب جميع عبيد فرعون وشيوخ بيته وجميع شيوخ أرض مصر وكل بيت يوسف واخوته وبيت أبيه، وصعد معه مركبات وفرسان. إنه موكب الكنيسة الجامعة التي تضم كل رجال الإيمان من الأمم كما من اليهود، تضم العبيد مع الشيوخ العظماء. وقد انطلق بمركبات وفرسان كأنه جيش عظيم جدًا، فهو في حالة حرب مستمر لا مع لحم ودم بل قوات الشر الروحية في السمويات (أف ٦)، حرب روحية ضد الخطية والأرواح الشريرة. وقد تحدث كثير من الآباء عن هذه الحرب الروحية وتمتعنا بالجندية الروحية خلال مياه المعمودية للانطلاق نحو السماء في غلبة ونصرة بالروح القدس. يقول القديس كبريانوس: [لقد أردت أن أحارب بشجاعة، واضعًا في ذهني السر Sacramentum الذي لي، حاملاً سلاحيّ التكريس والإيمان[464]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما يُطبع الختم على الجند هكذا يطبع الروح القدس على المؤمن[465]]، ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [الآن ينقش أسمك وتُدعى للدخول إلى المعسكر (الروحي)[466]].

في مصر الرمزية إذ ينطلق المؤمن كجيش عظيم جدًا يحارب خطايا بلا حصر، إنما يعيش وسط الدموع والبكاء، كما فعل المصريون إذ ناحوا سبعين يومًا [٣]. خروجنا من محبة العالم تحتاج إلى جهاد روحي غير منقطع حتى تتحرر أعماقنا من الرباطات الزمنية بالمسيح يسوع قائد الموكب.

الخطوة الثانية: كان الموكب عند عبر الأردن في "بيدر أطاد"، وكان يمثل الكنيسة التي اشتهت الخروج من محبة العالم إلى التمتع بالحياة السماوية خلال عبورها المعمودية المقدسة. هنا يقف الموكب سبعة أيام ليصنع مناحة مرة، إذ قيل: "فلما رأى أهل البلاد الكنعانيون المناحة في بيدر أطاد قالوا: هذه مناحة ثقيلة للمصريين، لذلك دُعى أسمه إبل مصرايم الذي في عبر الأردن" [١١-١٢]. تلتحم المعمودية بالمناحة لمدة سبعة أيام، إذ يلتحم ميلادنا الجديد في الجرن المقدس بالتوبة المستمرة كل أيام غربتنا. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أُعطى له مكان بين المصارعين، لكنه لم يبرهن بعد على استحقاقه للجندية[467]].

الخطوة الثالثة: إذ بلغوا أرض كنعان لم نسمع عن دموع أو بكاء، وكأن الدخول إلى كنعان السماوية ينزع عن الكنيسة آلامها. وكما قيل في سفر الرؤيا: "وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت" (رؤ ٢١: ٤).

دخل يعقوب إلى ذات المغارة التي دفن فيها أبوه إبراهيم، وكأن الكنيسة المتغربة قد استراحت واستقرت في حضن إبراهيم.

٣. يوسف يطيب قلب إخوته:

ظن أولاد يعقوب أن يوسف ينتقم لنفسه بعد موت أبيهم ويرد عليهم الشر الذي فعلوه به، فجاءوا إليه يطلبون باسم أبيه وحسب وصيته أن يصفح عن ذنبهم، أما هو فلم يحتمل توسلهم في لطف زائد انهمرت الدموع من عينيه. هنا أزداد يوسف مهابة في عيني إخوته فسجدوا أمامه، قائلين: "ها نحن عبيدك".

لقد نجح يوسف وتعّظم لا بتوليه المركز الثاني في مصر بعد فرعون وإنما بأتساع قلبه بالحب، متمتعًا لا ببر الناموس خلال تنفيذه لوصاياه وإنما حقق الوصية الإنجيلية خلال عهد الناموس. لم يرد الشر بالشر، ولا توقف حتى عند المغفرة للذين أخطأوا في حقه، لكنه لم يحتمل مذلتهم فبكى، ولم ير شرهم بل يدّ الله التي حولت الشر إلى خير للجميع، معلنًا اهتمامه بهم وحبه لهم وإعالته لهم ولأولادهم. لقد تمم وصايا الإنجيل التي يستثقلها أحيانًا أبناء العهد الجديد.

لقد صارت كلمات يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شرًا أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعبًا كثيرًا" منهجًا حيًا يجد فيه الروحيون كشفًا لأسرار الله ومعاملاته معهم.

لعل رجوع إخوة يوسف إلى أخيهم بالتوبة يشير إلى عودة اليهود في آخر الأزمنة إلى الإيمان بقبولهم السيد المسيح الذي رفضوه، وذلك بعد كمال كنيسة الأمم، فيطلبون الصفح عما ارتكبوه، متخلين عن اعتدادهم الذاتي وفكرهم الصهيوني فلا يعيشون بعد كدولة متعصبة بل كمؤمنين يقبلون من سبق لهم أن اضطهدوه.

٤. يوسف يوصي بعظامه:

إن كان يوسف في محبته لإخوته عزاهم وطيب خاطرهم بقوله: "لا تخافوا، أنا أعولكم وأولادكم" [٢١]، فقد كشف لهم في وصيته الوداعية أن الله وحده هو الذي يعولهم ويهتم بهم أما هو فيموت، إذ يقول: "أنا أموت، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم وإسحق ويعقوب" [٢٤]، الأمر الذي تحقق على يديّ موسى ويشوع.

لقد عاش بإيمان آبائه متأكدًا أن شعبه لابد أن ينطلق إلى أرض كنعان، لذلك استحلفهم قائلاً: "الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا" [٣٥]، إشارة إلى رغبته في مشاركة شعبه الخروج من أرض العبودية ولو خلال عظامه.

أخيرًا انتهى سفر التكوين بموت يوسف وتحنيطه ووضعه في تابوت في مصر... وكما سبق وقلنا أن هذا السفر بدأ بالخلقة أي خروج الحياة من العدم بعمل الله، وانتهى بدخول الإنسان في الأكفان في أرض مصر حيث التحنيط والأهرامات الضخمة والفنون والحضارة الأمور التي لم تستطع أن تخلصه من الموت وذلك بسبب فساده الداخلي.

<<


[1] ربما يستصعب البعض هذا الفصل لأنه دراسي بحت، لذا يمكن للقارئ العادي تجاهله إن أراد.

[2] La Genèse, Paris 1951, P23.

[3]  Jos Antiq. Preface 4; Apion 8.

[4] McKenzie: Dict. of the Bible, P 947.

[5] New Westminster Dict. of the Bible, P 1012.

[6] Ibid 67.

[7] Lex Mosica, P 21- 26.

[8] Ancient Law, P 16.

[9] سفر الخروج، ١٩٨١، أصحاح ٣.

[10] Green: General Introduction, N.Y. 1899, P 9.

[11] J.H. Raven: O. T. Introduction, 1910, P 93.

[12] Strack: Elinlétung in das Alte Testament, munich, 1898. P 25.

[13] Ibid.

[14] Green: Unity of Genesis, N. Y. 1897, P 425 – 9.

[15] Jerome Boblical Comm., P 8.

[16] Hexaemeron hom 1: 8.

[17] Ibid. 1: 2.

[18] Ibid 1: 3.

[19] On Ps. 102.

[20] Hom. 1.

[21] Hexaemeron 1: 6.

[22] Ibid 1: 3.

[23] Ibid.

[24] راجع د. فوزي إلياس: ستة أيام الخليقة ص ١١: ١٤.

[25] Pl 46: 821.

[26] In Gen. hom 1: 1.

[27] In Gen. hom 1.

[28] التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس، ص ٨ – ١٩.

[29] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، ١٩٨١، ص ٢٧.

[30] Hexaem. 2: 1.

[31] De Baptismo 2.

[32] Ecol Proph 7.

[33] Cat. Lect. 3: 5.

[34] On Ps. hom 10.

[35] Hexaem. 2: 6.

[36] Of the Holy Spirit 2: 5.

[37] د. فوزي إلياس، ص ١٨، ١٩.

[38] City of God 11: 7.

[39] Ibid.

[40] On Ps. 10.

[41] In Gen. 1: 6.

[42] Of the Holy Spirit 2: 148.

[43] Hexaem. 2: 6.

[44] Ibid 3: 10.

[45] In 1 Tim. hom 12.

[46] On Ps. 71.

[47] City of God 11: 23.

[48] راجع دراسات في سفر التكوين للدكتور راغب عبد النور (مجلة مدارس الأحد سنة ١، ٢).

[49] In Gen. hom 1: 2.

[50] City of God 11: 23.

[51] التوافق بين العلم الحديث والكتاب المقدس، ص ٢١، ٢٢.

[52] In Gen. hom 1: 3.

[53] Ibid.

[54] On Belief of Resur. 2: 74.

[55] In Gen 1: 5.

[56] Ibid.

[57] To Autolycus 2: 15.

[58] On Ps. 81.

[59] Ibid.

[60] In Gen. hom 1: 8.

[61] Ibid. 1: 10.

[62] To Autolycus 2: 16, 17.

[63] Ibid.

[64] الإله الإلحاد المعاصر، بيروت ١٩٨٦.

[65] المرجع السابق، ص ١٩.

[66] المرجع السابق، ص ٥١.

[67] In Gen. hom 1: 13.

[68] On Ps. 67.

[69] Ibid.

[70] Ibid 103.

[71] In Gen. hom 1: 16.

[72] On Ps. 93.

[73] In Gen. hom 1: 14.

[74] City of God 14: 22.

[75] In Gen. hom 1: 14.

[76] City of God 14: 21.

[77] In Gen. hom 1: 14.

[78] Ep. 48: 2.

[79] City of God 11: 8.

[80] On Ps. 93.

[81] للمؤلف: المسيح في سر الأفخارستيا، ك ١، "سر السبت".

[82] City of God 22: 30.

[83] On Ps. 93.

[84] See St. Jerome: Ep 51.

[85] On Ps. hom 1.

[86] To Autolycus 2:25.

[87] ممكن الرجوع لملخص النظريات الخاصة بموقع جنة عدن في كتاب:

New Westminster Sict. Of the Bible, P. 238, 239

[88] To Autolycus 2: 25.

[89] On Ps. 41 (See on Ps 127).

[90] In Ioan, tr 9: 10.

[91] On Ps. 55.

[92] Ibid 41.

[93] Duties of clergy 1: 32.

[94] من يقدر أن يؤذيك؟ ١٩٦٥، ص ١٢.

[95] هل للشيطان سلطان عليك؟ (مقال ٢: لماذا لم يُنزع الشيطان عن العالم؟).

[96] المرجع السابق، مقال ٢.

[97] المرجع السابق، مقال ٣.

[98] المرجع السابق، مقال ٣.

[99] In 2 Tim, hom 8.

[100] هل للشيطان سلطان عليك؟ مقال ٣.

[101] On Ps. 71.

[102] Cassian: Conf. 5: 6.

[103] City of God 22: 30.

[104] On Ps. 36.

[105] City of God 13: 13.

[106] Ibid 14: 17.

[107] Ibid.

[108] Ep 20: 7.

[109] In Gen. 85.

[110] Conc. Repent. 2: 103

[111] In Gen. 92.

[112] In Gen. 93.

[113] In Gen. 95.

[114] On Ps. 62.

[115] On Ps. 7.

[116] On Ps. 104.

[117] On Ps. 37.

[118] On Ps. 49.

[119] On Ps. 127.

[120] In Gen. 102.

[121] On Ps. hom 6.

[122] On Ps. hom 46.

[123] In Gen. 106.

[124] Ep 123: 12.

[125] Conc. Repent. 2: 11 (99).

[126] هل للشيطان سلطان عليك؟ ١٩٧٢، ص ١٩.

[127] To Aytolycus 2: 26.

[128] On Belief of Resur. 2: 38

[129] هل للشيطان سلطان عليك؟ ١٩٧٢، ص ١٩، ٢٢، ٢٣.

[130] Cassian: Conf. 13: 12.

[131] قامت بترجمة هذه المقال الابنة المباركة.... نبيل (١: ١).

[132] City of God 15: 1.

[133] سفر العدد، ١٩٨١.

[134] قايين وهابيل ١: ٢.

[135] قايين وهابيل ١: ٣.

[136] In Gen. 119, 120.

[137] Ibid 121.

[138] Cain & Abel 1: 7.

[139] In Gen. 121.

[140] In Gen. 129.

[141] In Rom. hom 8.

[142] Ep. 22: 23.

[143] Instr. 1: 6.

[144] In Matt. Hom 19: 4.

[145] In 2 Tim. hom 7.

[146] In Gen. 129.

[147] In Gen. 136.

[148] On Ps. hom 35.

[149] In Gen. 135.

[150] Ep. 260: 4.

[151] Ep. 260.

[152] On Ps. 49.

[153] Ep. 46: 7.

[154] City of God 15: 1.

[155] 123: 2.

[156] Edersheim: The Bible History, V.I. P. 30. adv.

[157] Ibid 34.

[158] On Belief of Resur. 2: 94

[159] On Mortality 23.

[160] In Heb. Hom 22

[161] Ep. 60: 14.

[162] City of God 15: 23.                            [قامت الدكتورة أمنية كمال متري بترجمة الكتاب الخامس عشر]

[163] In Rom. hom 8.

[164] In 1 Tim. hom 13.

[165] City of God 15: 25.

[166] Ibid.

[167] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، ١٩٨١، ص ٢٩-٣٢.

[168] المرجع السابق.

[169] Insdtr. 1: 7.

[170] Duties of the Clergy 3: 18 (108).

[171] On Ps. 87.

[172] City of God15: 26.

[173] On Myster. 3: 11.

[174] In Gen. hom 2: 6.

[175] Ibid

[176] الخروج، ١٩٨١، ص ١٨٢؛ العدد ١٩٨١، ص ٣٣، ٣٤.

[177] City of God 15: 26.

[178] In Gen. hom 2: 4.

[179] City of God 15: 26.

[180] Ibid.

[181] In Gen. hom 2: 6.

[182] Ibid. 2: 3.

[183] Cf. City of God 15: 27

[184] Ibid.

[185] الإنجيل بحسب متى ١٩٨٣.

[186] Edersheim, P. 45.

[187] للمؤلف: الحب الإلهي، ص ٨٦٦.

[188] In Ioan. Tr. 6: 2.

[189] In Mystr. 3.

[190] Dial. adv. Lucif 22.

[191] Ep. 96: 6.

[192] In 1 Cor. hom 34: 2.

[193] رفع البخور (القداس الإلهي).

[194] ميمر عن المعمودية المقدسة.

[195] In Ioan. hom 19.

[196] للمؤلف: حزقيال، ١٩٨١، ص ٣٧، ٣٨.

[197] Edersheim, V 1, P. 55.

[198] من هؤلاء الآباء القديس يوحنا الذهبي الفم  والقديس چيروم (رسالة ٢٢).

[199] On Forgiveness of Sins and Baptism 12.

[200] Ep. 69: 6.

[201] Ep. 22.

[202] Conc. Virgins 1: 9 (53).  

[203] On Ps. 45.

[204] On Ps. hom 13.

[205] City of God 16: 2.

[206] الأرشيدياكون نجيب جرجس: سفر التكوين، ١٩٧٣، ص ١٦١.

[207] New Westminster Dict. of the Bible, P 446; Mckenzie: Dict. of the Bible, P 413.

[208] New Westminster Dict. of the Bible, P 446.

[209] هوشع، صفحة ٢٠.

[210] Odyssey 11: 14.

[211] Herod. 4: 11-12.

[212] راجع حزقيال، ١٩٨١، ص ٢٦٠، ٢٦١.

[213] Herod. 1: 16.

[214] New Westminster Dict. of the Bible, P 951

[215] الأرشيدياكون نجيب جرجس: سفر التكوين، ١٩٧٣، ص ١٦٦، ١٦٧.

[216] On Ps. 26.

[217] راجع سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي ١٩٧٩، ص ١٦٣، ١٦٤.

[218] On Ps. hom 20.

[219] يشوع، ١٩٨٢، ص ٢٣– ٣٠.

[220] City of God 16: 10, 11.

[221] الأرشيدياكون نجيب جرجس: سفر التكوين، ١٩٧٣، ص ١٨١، ١٨٢.

[222] City of God 16: 4.

[223] On Ps. 55.

[224] City of God 16: 5.

[225] Ibid.

[226] Ibid.

[227] Ibid 16: 10.

[228] Ibid 16: 11

[229] Ep. 71: 2.

[230] 46: 2.

[231] Cassian Conf. 3.

[232] Serm. 81: 1-4.

[233] Duties of the Clergy 1: 24.

[234] Cassian Conf. 3: 10.

[235] Answer to Eunomius 2.

[236] In Gen. hom 3: 3.

[237] City of God 16: 16

[238] Hastings: Dictionary of the Hebrew Words … (Ur).

[239] Ibid (Haran).

[240] New Westminster Dict. of the Bible, P 861; Jos. Antiq. 11: 8, 6.

[241] In Gen. hom 16: 3.

[242] City of God 16: 19.

[243] ستعود بقوة أعظم، ١٩٦٧، ص ٥، ٦.

[244] المرجع السابق ص ٤١.

[245] On Ps. 52.

[246] J. Strong., article 3876.

[247] City of God 16: 20.

[248] In 1 Cor. hom 35.

[249] Ibid 25.

[250] Cain & Abel 1: 4 (12).

[251] راجع تفسير أصحاح ١٠ (بنو سام).

[252] Strom. 6: 11.

[253] Ep. 62: 4.

[254] On Ps. hom 36.

[255] On Christian Faith 3: 88.

[256] Cassian: Conf. 21: 4.

[257] On Belief of Resur. 2: 96.

[258] Ser. 82: 1, 2.

[259] Ibid 82: 3.

[260] Ibid.

[261] Cassian: Conf. 5: 22.

[262] In Gol. hom 4: 23.

[263] كنيسة العذراء بالفجالة: رسالة غلاطية، أصحاح ٤.

[264] City of God 16: 25.

[265] On Ps. 83.

[266] مخطوط بدير الأبنا أنطونيوس، نسخ عام ١٤٨٨ ش.

[267] On Ep. of St. John, hom 10: 10.

[268] Strom. 1: 29.

[269] On Ps. hom 56.

[270] City of God 16: 26.

[271] Adv. Marc 5: 14.

[272] In Gen. hom 3: 5, 6.

[273] Ibid 3: 7.

[274] Ibid 3: 6, 7.

[275] راجع الإنجيل بحسب متى، ١٩٨٣، أصحاح ٣.

[276] City of God 16: 26.

[277] Ser. 83: 5.

[278] Hom 15.

[279] Comm. on Cant. Ser. 10.

[280] Duties of the Clergy 2: 21 (107).

[281] Ep. 58: 7.

[282] In Gen. hom 4: 2.

[283] Duties of the Clergy 1: 1 (14).

[284] In Gen. hom 4: 1.

[285] In Acts hom. 45.

[286] In Jos. hom 16: 1.

[287] Strom. 6: 7.

[288] City of God 16: 31.

[289] New Westminster Dic. P 339.

[290] In Gen. hom 4: 5.

[291] In Rom hom 29.

[292] On Ps. 147.

[293] In Matt hom 65: 6.

[294] Conc. Repent. 2: 1 (4).

[295] In Gen. hom 4: 1.

[296] Ser. 83: 2.

[297] Duties of the Clergy 2: 21 (105).

[298] In Col. hom 3.

[299] Ep. 122: 1.

[300] Ibid.

[301] Conc. Virgins 2: 4 (29).

[302] On Ps. 76.

[303] Ep. 7: 7.

[304] On Ps. 60.

[305] Ep. 22: 8.

[306] New Westminster Dict. of the Bible, P. 324.

[307] In Gen. hom 6.

[308] Ep. 62: 4.

[309] In Gen. hom 7: 1.

[310] Ibid 7: 2.

[311] Ibid 7: 5.

[312] Ibid.

[313] City of God 16: 32.

[314] In Gen. hom 8: 1.

[315] City of God 16: 32.

[316] Ser. 83: 5.

[317] In 1 Tim hom 14.

[318] Dutuies of the Clergy 1: 17.

[319] سفر الخروج، ١٩٨١، ص ٣٦ – ٣٨.

[320] Strome 5: 11.

[321] Ser. 84: 3.

[322] Ibid 84: 5.

[323] City of God 16: 32.

[324] In Gen. hom 8.

[325] On Belief of Resur. 2: 98.

[326] Ep. 66: 7.

[327] On Ps. 44.

[328] In Gen. hom 9: 1.

[329] Ibid 9: 2.

[330] In 1 Cor. hom 35: 10.

[331] Adv. Haer. 32.

[332] In Ioan tr 43: 16.

[333] J. Mckenzie: Dict. of the Bible, P. 602.

[334] الكنيسة تحبك، ١٩٨٦، ص ٦١ – ٦٦.

[335] Ser. 85: 3.

[336] Ibid 85: 4.

[337] In Gen. hom 10: 2.

[338] Ibid.

[339] Strong’s Dictionary of the Hebrew.

[340] Strom 4: 26.

[341] Ser. 85: 3.

[342] In Gen. hom 10: 4.

[343] Ser. 85: 5.

[344] In Gen. hom 11.

[345] Ibid 11: 3.

[346] On Ps. hom 21.

[347] In Gen. 11: 3.

[348] Ser. 86: 2.

[349] In Gen. hom 12: 2.

[350] Ser. 86: 3.

[351] On Ps. 81.

[352] Ibid 41.

[353] In Gen. hom 12: 3.

[354] On Ps. hom 7.

[355] In Ioan. tr 73: 1.

[356] راجع تفسير تك ١٠: ١٩، ٢٠: ١.

[357] In Gen. hom 12: 5.

[358] Ibid.

[359] Ibid.

[360] Ibid 13: 2.

[361] Ibid.

[362] Ibid 13: 3.

[363] Ibid 14: 3

[364] City of God 16: 37.

[365] Ibid.

[366] Adv. hear. 33: 3.

[367] City of God 16: 37.

[368] Ser. 10.

[369] Duties of the Clergy 1: 24.

[370] On Ps. hom 46.

[371] Ser. 83: 2.

[372] On Ps. 45.

[373] On Ps. hom 21.

[374] Ibid 41.

[375] Ibid.

[376] Ibid.

[377] Ep. 132: 5.

[378] Ser. 87: 3.

[379] Church, House of God, P 20-22.

[380] Sunday Sermons of the Great Frs. Vol. 1, P. 113.

[381] الكنيسة بيت الله، ١٩٨٢، الباب الثاني.

[382] Ep. 22: 40.

[383] Ser. 88: 2.

[384] سفر العدد، ١٩٨١، ص ١٦.

[385] راجع تفسير تك  ٢٢: ٤.

[386] Ser. 88: 4.

[387] Ibid.

[388] In Hebr. – hom 23: 9.

[389] للمؤلف: المسيح في سر الأفخارستيا ١٩٧٣، ص ٦٦ – ٨٤.

[390] Ser. 87: 2.

[391] On Ps. 148.

[392] Ibid 80.

[393] On Belief  of Resur 2: 100.

[394] Instr. 1: 7.

[395] نجيب جرجس: سفر التكوين، ص ٣٣٤.

[396] راجع تفسير تك ٢٨: ١٦– ٢١.

[397].Ser. 98: 1.

[398] On Ps. hom 19.

[399] Ser. 89: 1.

[400] Cassian.18: 16.

[401] On Ps. hom 19.

[402] Ser. 89: 1.

[403] Ibid.

[404] Ibid 93: 4.

[405] On Ps. hom 34.

[406] Ep. 79: 2.

[407] New Westminster Dict. of the Bible, P. 948.

[408] ترفقوا بالخطاة!!... للقديس أمبروسيوس ١٩٦٨، ص ٦٠، ٦١.

[409] للمؤلف: الإنجيل بحسب متى ١٩٨٣، ص ٤٣.

[410] Ser.98: 1.

[411] Duties of the Clergy 2: 17.

[412] Ser. 93: 3.

[413] Ibid 90: 2.

[414] In Matt. Hom 18: 2.

[415] Ibid 37: 8.

[416] Duties of the Clergy 1: 18.

[417] Ep. 145.

[418] Ep. 118: 4.

[419] On Ps. 5. hom 19.

[420] In Matt. Hom 84: 4.

[421] In Acts hom 49.

[422] In Tit. hom 4.

[423] Asterius of Amasea: On Ps. 5 hom 19.

[424] St. Augustine: Ser. On N.T. Hessons 43: 1-5.

[425] راجع تفسير خر ٢: ٢؛ ٥: ٣؛ يش ١: ٣١.

[426] In Tit. hom 6.

[427] للمؤلف: الإنجيل بحسب متى ١٩٨٣، ص ٤٩١– ٥٢٣.

[428] راجع مقالة عن: " المسيح وضد المسيح".

[429] للمؤلف: الفيلوكاليا ١٩٦٦، ج١، ص ٥٨، ٥٩.

[430] للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم ، ١٩٨٠، ص ٣٧٤، ٣٧٥.

[431] الحب الأخوي ١٩٦٤، ص ٧٣.

[432] In Acts hom 12.

[433] القديس يوحنا الذهبي الفم ، ص ١٦٩ الخ.

[434] In 1 Thess. hom 4.

[435] للمؤلف: الحب الإلهي، ص ٨٥٥، ٨٥٦.

[436] راجع تفسير القضاة أصحاح ٧.

[437] In Gen. hom 15: 1.

[438] Ibid 15: 2.

[439] Ibid 15: 3.

[440] In Gen. hom 15: 5.

[441] Ibid 15: 5, 6.

[442] Ibid 15: 7.

[443] Ibid 16: 1.

[444] Ibid 16: 2.

[445] Ibid.

[446] Ibid 16: 7.

[447] راجع تفسير تك ٢٤: ٢.

[448] راجع تفسير تك ٥٠: ١– ٦.

[449] الإنجيل بحسب متى، ١٩٨٣.

[450] On Ps. 78.

[451] City of God 16: 42.

[452] City of God 16: 41.

[453] On Ps. 76.

[454] Treat on Christ & Antichrist. 10.

[455] Ep. 62: 6.

[456] Instr. 1: 5.

[457] City of God 16: 41.

[458] Ibid.

[459] Treat on Christ & Antichrist. 12, 13.

[460] راجع تفسير حبقوق ٣: ٨.

[461] Treat on Christ and Antichrist 14, 15.

[462] Ep. 69: 6.

[463] Ep. 60: 8.

[464] De Lapsis 13.

[465] PG 61: 48.

[466] PG 33: 333 A.

[467] PG 46: 429 C.

 

الصفحة الرئيسية