التثنية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج


 

 

باسم الآب والابن والروح القدس

الله الواحد، آمين

 

 

 

 

 

أقدم الشكر للأب المحبوب القس أمونيوس جرجس

كاهن بكنيسة القديس مار مرقس بتورنتو، كندا

لمراجعته للُّغة العربية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

العهد الإلهي عون في رحلتنا اليومية

سفر التثنية هو مجموعة أحاديث وداعية قدمها موسى النبي أول قائد لشعب الله الذي كان عمره 120 عامًا قُبيل انتقاله من هذا العالم. قدمها للجيل الجديد الذي وُلد في البرية، وصار على وشك الدخول إلى أرض الموعد تحت قيادة يشوع بن نون. قدمها بوحي الروح القدس، لكي تكون وصية الله هي قائدهم وناموسهم في الأرض الجديدة.

إنها أحاديث أب نحو أولاده أو أحفاده، يقدم فيها خبراته الروحية العملية بما يناسب الجيل الجديد، بأسلوب تاريخي وسلوكي مبسط، غايته مساندة كل نفس لكي تعبر وترث.

ماذا قدم موسى النبي لشعبه قبيل رحيله من العالم؟ معاهدة الحب، أو دستور المحبة الذي يقدمه الله كملك لشعبه المحبوب لديه جدًا، والذي اختاره وقدسه ليكون مكرسًا له وحده.

يمثل موسى النبي الناموس، قائدنا إلى المسيح وإلى مملكته، ويكشف لنا عن الطريق الملوكي الذي يدخل بنا إلى حضن الآب. لهذا جاء سفر التثنية كدعوة موجهة إلى كل مؤمن يشتاق أن يدخل إلى كنعان السماوية تحت قيادة ربنا "يسوع" مخلص العالم، لكي يحمل الوصية الإلهية بالمفهوم الروحي. إنها تهيئ أعماقه كما كلماته وسلوكه لكي ينطلق إلى الحياة الجديدة السماوية، بعمل روح الله القدوس. يقبل الدخول في الميثاق الإلهي الذي يبرمه الله مع شعبه المحبوب، فيرد الحب بالحب، مقدمًا الطاعة لوصيته بفرحٍ شديدٍ.

إنه سفر يناسب كل عصر، ويدفع كل نفس لكي تعبر كما إلى السماء، وتجاهد بلا توقف، في عذوبة الروح، حتى تستمر في رحلتها تحت ظل رعاية الله الفائقة، وتنمو بغير توقف، وتحارب بغير خوف ولا اضطراب في ظل "عهد جديد" قدمه لها مسيحها، لتحيا متحررة من كل عبودية، منطلقة نحو السماء.

تركز هذه الأحاديث على "العهد الإلهي". فإن دستورنا في رحلتنا اليومية ليس قوانين أخلاقية مجردة بل التقاء حيّ، واتحاد مع الله الذي يقدم لها عهدًا من جانبه، فيه يعلن إنه يحملنا على ذراعيه كما يحمل الأب ابنه. إنه عهد، فيه يقدم لنا الله "روح البنوة"، ويكشف لنا عن مركزنا الجديد كمختاريه الذين لهم حقوق فائقة بروح الالتزام من جانبنا (تث 7: 6-11؛ 10: 12-15).

هذا العهد يحكم حياتنا الداخلية ومشاعرنا وسلوكنا الأسري والاجتماعي والديني والوطني حتى علاقتنا بالحيوانات والطيور.

إن كان هذا السفر قد ركز على وصية الله التي تكشف عن حب الله واشتياقه نحو تقديسنا، إنما ليعلن للمؤمن عن انتمائه لشعب الله، كمملكة كهنوتية وأُمة مقدسة.

أخيرًا فإن الشهر الأخير من حياة موسى يكشف عما في قلب هذا العظيم بين الأنبياء، فإن الإنسان غالبًا ما يفرغ كل ما في أعماقه عندما يدرك أن لحظات رحيله قد اقتربت جدًا. ماذا يكمن في قلب موسى النبي؟ أربعة أمور مترابطة معًا، هي سرّ قوة خدمته، وهي:

الوصية الإلهية: انشغل بها كل أيام خدمته حتى النفس الأخير، بكونها كنزًا سماويًا إلهيًا، خلالها نتجاوب مع حب الله وندخل معه في عهد أبدي.

التسبيح: قبيل نياحته قدم تسبحة ختامية ليعلن أن نفسه لن تتوقف عن التهليل المستمر حتى النفس الأخير.

مباركته لشعبه: مع كل ما ذاقه من متاعب من الشعب ختم حياته بكلمات البركة نحو كل سبط من الأسباط.

خلق روح القيادة: وضع يديه على شكل صليب على رأس تلميذه يشوع، مشجعًا إيَّاه ألاَّ يخاف ولا يضطرب حتى يدخل بكل الشعب مع القادة الدينيين والمدنيين إلى كنعان رمز السماء. هكذا ترك وراءه قادة عظماء.

هذه الأمور الأربعة (الوصية، حياة الفرح والتسبيح، مباركة الآخرين، تشجيع روح القيادة) هي سرّ نجاحه في كل أيام خدمته.

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مارجرجس والأنبا أنطونيوس

أتاوا – كندا

فبراير 1999م

 


 

-

- مقدمة في سفر التثنية

 

الأصحاح السابع عشر (حزم مع عابدي الأوثان)

- الفصل الأول الأصحاحات [1- 4]

الأصحاح الثامن عشر (خدَّام الرب)

الأصحاح الأول (كما يحمل الإنسان ابنه)

 

الأصحاح التاسع عشر (مدن الملجأ والشاهد الكاذب)

الأصحاح الثاني (الإفراز في التعامل مع الغير)

 

الأصحاح العشرون (القانون العسكري)

الأصحاح الثالث (النصرة على عوج ملك باشان)

 

الأصحاح الحادي والعشرون (حقوق الفئات المرذولة)

الأصحاح الرابع (دعوة إلى الاقتراب من الله)

 

الأصحاح الثاني والعشرون (شرائع خاصة)

- الفصل الثاني   الأصحاحات [5- 28]

 

الأصحاح الثالث والعشرون (جماعة الرب)

- القسم الأول الأصحاحات [5-11]

 

الأصحاح الرابع والعشرون (سلامة الأسرة)

الأصحاح الخامس (الوصايا العشر)

 

الأصحاح الخامس والعشرون (شرائع مختلفة)

الأصحاح السادس (الوصية والأرض الجديدة)

 

الأصحاح السادس والعشرون (البكور وتجديد العهد)

الأصحاح السابع (لا شركة مع الوثنية)

 

- القسم الثالث الأصحاحات [27 –28]

الأصحاح الثامن (ضيقات القفر وبركاته)

 

الأصحاح السابع والعشرون (الوصيَّة مع الذبيحة)

الأصحاح التاسع (بماذا يتبرر الشعب؟)

 

الأصحاح الثامن والعشرون (البركات واللعنات)

الأصحاح العاشر (غنى عطايا الله لهم)

 

- الفصل الثالث  الأصحاحات [29 – 30]

الأصحاح الحادي عشر (أيامنا كأيام السماء)

 

الأصحاح التاسع والعشرون (تذكير بالعهد)

- القسم الثاني الأصحاحات  [12- 26]

 

الأصحاح الثلاثون (إمكانية تحقيق العهد)

الأصحاح الثاني عشر (الهيكل وإزالة كل أثرٍ للوثنيَّة)

 

- الفصل الرابع الأصحاحات [31 - 34]

الأصحاح الثالث عشر (الغواية إلى العبادة الوثنيَّة)

 

الأصحاح الحادي والثلاثون (نصيحة أخيرة)

الأصحاح الرابع عشر (شرائع للتقديس)

 

الأصحاح الثاني والثلاثون (نشيد موسى)

الأصحاح الخامس عشر (الحياة السَبتيَّة)

 

الأصحاح الثالث والثلاثون (مباركة الشعب)

الأصحاح السادس عشر (الأعياد السنويَّة)

 

الأصحاح الرابع والثلاثون (موسى على جبل نبو)

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة في سفر التثنية

اسم السفر:

جاء اسم السفر في أغلب اللغات الحديثة مشتقًا عن الكلمتين اليونانيتين أو مترجمة عنهما، وهما Deutero ومعناها "اثنان" أو "الثاني"، nomion ومعناها "ناموس"، لذلك يدعى في الإنجليزية Deuteronomy وفي العربية "تثنية".

يحمل السفر في العبرية أربعة أسماء:

1. دُعي في الأصل العبري "إله هدباريم" elleh haddebarim ويختصر debarim أي "هذا هو الكلام"، وهي الكلمات الأولى من الأصحاح الأول.

2. Kith أي السفر الخامس من الناموس.

3. سفر التوبيخ أو النصائح seper tokahoth، خاصة بالنسبة للأصحاح 28. إذ شاخ هذا القائد الوقور يبدو إنه قد أدرك، وهو في اللحظات الأخيرة، إنه لا يوجد وقت للملاطفة مع الشعب، بل يلزم أن يكون حازمًا. فإنه يليق بالشعب الذي قُدم له كل هذا الحب، خاصة خلال خدمة موسى النبي لمدة أربعين عامًا أن يحمل مخافة الرب، ويدرك أن الوقوع في يد الله أمر مخيف.

4. يُدعى أيضًا misneh hattotra أو misneh وتعني "نسخة" (17: 18). دُعي في الترجمة السبعينية deuteros namos أي "الشريعة الثانية"، ربما لأنه جاء في (تث 17: 18 LXX) "نسخة من الشريعة"، أو لأنه قصد به أنه شريعة ثانية بجانب ما ورد في أسفار الخروج، واللاويين، والعدد. ما ورد هنا لا يعتبر تكرارًا لما جاء في الأسفار الثلاثة السابقة، بل هو شرح للناموس على ضوء ما حدث خلال الأربعين سنة في البرية. هو استعراض قُدم للجيل الجديد الداخل إلى كنعان، قدمه موسى النبي قبل الدخول بشهر، قبيل رحيله، ليتأهل الكل بالطاعة النابعة عن الإيمان، وبالحب الإلهي العملي. هو سفر التذكرة الدائمة لشريعة الرب: "اربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم بيتك وعلى أبوابك" (تث 6: 8).

تاريخ كتابته:

بحسب التقليد اليهودي الذي قبله التقليد المسيحي كُتب في سهول موآب شرقي أريحا، شرقي نهر الأردن، في نهاية الأربعين عامًا من التيه في البرية، وهو يغطي فترة شهر تقريبًا (سنة 1405 ق.م). ألقيت بداية الأحاديث الواردة في هذا السفر في اليوم الأول من الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين بعد الخروج من مصر (تث 1: 3)، وذلك بعد النصرة على سيحون وعوج ملكين من الأموريين (تث 1: 4).

مما يستحق الملاحظة أن كاتب التثنية لا يشير إلاَّ إلى حوادث ما قبل امتلاك كنعان، وهو لا يورد شيئًا عن انقسام المملكة، ولا عن اضطهاد الفلسطينيين ومضايقاتهم، ولا عن الحوادث المسجلة في سفر القضاة. كما أن العبارتين "جميع إسرائيل" و "النصيب الذي أعطاه لكم الرب" تُظهران موافقة الكتابة لتاريخ ذلك الوقت. ومن الواضح أن الأصحاحين (33، 34) قد كُتبا بعد موت موسى غالبًا بوقت قصير.

مفتاح السفر:

مفتاح السفر هو عهد الحب والطاعة. ذكرت كلمة "الحب" 22 مرة في هذا السفر. أما الطاعة كما يقدمها السفر فهي تجاوب عملي لحب الله للإنسان، بدون الطاعة يفقد الإنسان طعم الحب. فكما يشتاق الإنسان أن يكون محبوبًا فهو يود أن يحِب. الطاعة علامة تأكيد حرية الإرادة الإنسانية التي تعبر عن حبها عمليًا.

جاء في (مز 103: 7) "عرف موسى طرقه، وبني إسرائيل أفعاله". لقد عرف إسرائيل أعمال الله، لكنه لم يتعرف عليه معرفة اللقاء الحي. أما موسى فقد عرف طرقه، أي معرفة الله عمليًا. جاء هذا السفر ثمرة هذه المعرفة متحدة بخبرة أربعين عامًا في البرية.

سماته:

1. يُنظر إلى سفر التثنية من أربع زوايا:

سفر الشريعة.

أحاديث وداعية لأول قائد للشعب.

عهد مبرم بين الله الملك وشعبه.

توجيهات يقدمها الله لشعبه قُبيْل دخولهم أرض الموعد.

بلا شك تلعب الشريعة دورًا رئيسيًا في سفر التثنية، حتى دُعي السفر نفسه "الشريعة" (تث 1: 5)، أو "كتاب الشريعة" (تث 30: 10)، وجاء نص الشريعة (أصحاحات 12-26) يمثل صُلب السفر. غير أنه يلزمنا إدراك أنه ليس سفرًا تشريعيًا أو قضائيًا بالمفهوم الضيق، لأن الشريعة وُضعت لأبعاد خلاصية ذات هدف متسع. جاء السفر يفسر الإيمان. وإن وُجدت فيه تشريعات أو قوانين، فغايتها هي أن يقبل المؤمن إرادة الله عاملة فيه، ويحمل روح الطاعة لله. هو سفر الشعب المتمتع بالخلاص، والمتحرر من العبودية، لكي يرتبط بميثاق الحب مع الله، ويمارس الحياة المطوَّبة خلال الالتصاق بالله واتحادهم مع بعضهم البعض. بحسب ما ورد في (تث 30: 11-14)، الشريعة هي علامة الحضرة الإلهية في قلوب شعب الله، من يحفظها إنما يمارس الحياة الروحية. في أكثر وضوح يمكننا القول بأن هذا السفر يكشف عن الحب المشترك المتبادل بين الله وشعبه، بحبه الإلهي اختار شعبه مقدمًا لهم الخلاص، وهم بدورهم يردُّون الحب بالحب، خلال إعلان تكريس قلوبهم بالطاعة للوصايا، والعبادة الليتورجية كطريق عملي لإعلان حبهم لله من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القوة (تث 6: 5).

2. حوى السفر تاريخًا، لكنه ليس بالسفر التاريخي لأنه لا يقدم التاريخ إلاَّ ليكشف عن معاملات الله كي نتقبل عهده الإلهي، لهذا يحسبه البعض "كتاب عظات". يمثل هذا السفر الطابع الخاص بالوعظ النبوي، وقد استخدمت فيما بعد في الأنبياء المتأخرين مثل إرميا وحزقيال.

3. يحوي هذا السفر عظة قدمها موسى النبي على ثلاث دفعات، أو هي ثلاث عظات، وإن كان البعض يقسِّمه إلى ثمانية أحاديث. غير أنه لا يُعتبر كتاب عظات مجردة، إنما استعراض للشريعة بطريقة وعظية جذابة غايتها تمتع شعب الله بالخلاص، وممارسته الحب العملي لله (تث 6: 4)، وتقديم الشكر (تذكيرهم بأعمال الله معهم ومع آبائهم) بروح التواضع (9: 6)، وممارسة الطاعة كتهيئة للدخول إلى أرض الموعد، حتى يوجد الشعب في حضرة الله وينعم بالشركة معه.

4. يُعتبر هذا السفر دعوة وجهها موسى النبي للأجيال المقبلة بعده، كي تجد فرصة جديدة للتمتع بميثاق مع الله في أمانة وإخلاص، بإدراك إرادة الله ومعاملاته مع آبائهم. هذه الدعوة موجهة للجميع خاصة القادة مثل الملوك عند إقامتهم. إذ قيل: "فإنك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك... وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من عند الكتبة اللاويين، فتكون معه ويقرأ فيها كل أيام حياته لكي يتعلم أن يتقى الرب إلهه" (تث  17: 14-20).

كثيرًا ما يذكرهم موسى النبي بوعود الله لآبائهم، فمن جانب يفتح عيون قلوبهم لإدراك معاملات الله مع مؤمنيه عبر كل العصور، ومن جانب آخر فإن تذكرهم لأمانة آبائهم في علاقتهم بالله تسندهم، وتكون كسحابة تظللهم وسط حر التجارب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تذكار القديسين يقيم النفس التي تثقَّلت بالويلات ويردها، فيكون كسحابة تحفظها من أشعة (الشمس) الساخنة جدًا والمحرقة[1]].

5. كان اليهود في طفولتهم الروحية يلتزمون بما ورد في السفر بطريقة حرفية قاتلة للمعنى، أما في العهد الجديد فنتلمس في هذه الوصايا أو الشرائع مفاهيم روحية عميقة واهبة الحياة في الرب.

6. لأول مرة نسمع عن لعنة الصلب على خشبة (تث 21: 22-23)؛ كما أشار إلى انتظار مجيء السيِّد المسيح (تث 18: 15، 19).

7. إن كان هذا السفر يشبه سفر اللاويين بكونه يحوي شرائع كثيرة غير أنه يختلف عنه في اهتمام الأول بالشرائع الخاصة بالكهنة، بينما يهتم سفر التثنية بالأكثر بالشرائع الخاصة بالشعب. أغلب ما ورد في الأصحاحات (12-26) قوانين وشرائع تمس المؤمن، وهي تمثل أكثر من نصف السفر.

8. يُعتبر السفر ككل دعوة للطاعة لله، وهو يدعو الجيل الجديد أن يتعلم من المثال السيِّئ الذي للجيل السابق لهم الذي اتسم بالعناد والعصيان وغلظة القلب. كان الجيل الخارج من مصر قد مات جميعه ما عدا يشوع وكالب اللذان وحدهما من الجيل القديم دخلا أرض الموعد.

9. من السمات غير العادية لسفر التثنية توجيه الحديث تارة بصيغة الجمع وأخرى بالمفرد وذلك أثناء الحديث مع شعب بني إسرائيل. ظن البعض أن هذا يؤكد بأن للسفر مصدرين مختلفين، غير أن بعض الدارسين يعتقدون أن استخدام صيغة الجمع تارة وصيغة المفرد تارة في هذا السفر يحمل ذلك فهمًا لاهوتيًا معينًا.

10. اعتمد البعض في ادعائهم بأن للسفر مصادر مختلفة على وجود الافتتاحيات العامة أو الجانبية (1: 1-5؛ 5: 1؛ 27: 1). لكن يرى آخرون بأنه هكذا كانت العادة عندما يوجه الحديث إلى أشخاص آخرين أو يتغير المتحدث نفسه كما في (27: 1، 9، 11؛ 31: 14، 24) الخ.

11. في بعض الأقسام خاصة الشرائع، يُلاحظ أن الكاتب يقدم الشريعة أولاً بطريقة مبسطة جدًا، ثم يعود فيقدم نصائح وتحذيرات ووعود، مما يوضح أن السفر ليس دستورًا للشرائع، لكنه أحاديث وعظية خلاصية. ولعل من أمثلة ذلك ما جاء عن الإبراء في السنة السابعة (تث 15: 1-11)، حيث بدأ بالحث عن الإبراء، ثم قدم تعريفًا له (15: 2)، تلاه حث شخصي للمستمع أن يطبق القانون بسخاء شديد[2]. استخدم نفس المنهج عندما تحدث عن العشور (14: 22-27)، وفي إطلاق العبد العبراني (15: 12-18).

12. يعلن السفر عن ضرورة التدقيق في الحياة الروحية والسلوك، ليس فقط في الأمور الخطيرة بل وفيما يبدو كأمورٍ تافهةٍ. فقد مزج الشرائع معًا دون تمييز بين شرائع خطيرة وأخرى تبدو غير هامة.

13. يكشف السفر عن أبوة موسى النبي للشعب، فبينما يعلن عن مدى شوقه للدخول إلى أرض الموعد ولم يُسمح له إلاَّ برؤيتها كان مهتمًا جدًا بدخول شعبه إليها. وكأن بدخولهم يتمتع هو شخصيًا بالدخول. وتظهر أبوته في أحاديثه الوداعية مع يشوع، إذ يتحدث معه بقلب أبوي ليملأه بالفرح والشجاعة حتى يحقق رسالته.

العهد الإلهي:

يقدم سفر التثنية التوراة الإلهية، جسم التعاليم الكاملة التي تعلن عن طريق الشركة مع الله والشركة مع المؤمنين وبعضهم البعض، حتى يمكنهم التمتع ببركات العهد مع الله.

العهد الإلهي هو الخط الرئيسي للسفر كله، حيث يوضح فاعليته في حياة المؤمن، وبركاته، والتزامات المؤمن كمختار لله، وخطته المستقبلية بالنسبة له، وكيف يتحول العهد من أحداث تاريخية إلى عهد يمس حياة الجيل الجديد. وكأنه إذ صار الجيل الجديد على أبواب الدخول إلى أرض الموعد، استلم موسى نسخة من "العهد" المبرم بين الله وآبائهم لكي يوقع الجيل الجديد عليه بنفسه، فيُدركون إنه ليس بالعهد الإلهي مع آبائهم الذين رحلوا، بل هو عهد معاصر مبرم معهم شخصيًا، يتمتعون ببركاته ويلتزمون بمسئولياتهم.

الشريعة والحب:

يكشف سفر التثنية وهو "سفر الشريعة" عن مفهوم الناموس أنه دعوة نحو حب الله (6: 5؛ 10: 12؛ 11: 1؛ 13: 22؛ 19: 9؛ 30: 6، 16، 20)؛ الحب الذي يحرك قلوبنا وسلوكنا في تعاملنا مع الله والناس وحتى مع أنفسنا.

عندما سُئل السيِّد المسيح عن أعظم ما ورد في العهد القديم ذكر ما جاء في (تث 6: 4-5).

يقوم حب إسرائيل – مثل حب المسيحي الوارد في (1 يو 4: 19) - على أساس خبرة حب الله المخلص.

يتجلى حبنا لله في حبنا للآخرين (1 يو 3: 18؛ 4: 20-21؛ تث 10: 19).

تقوم الوصايا العشر لا على تكريم الإنسان لله فحسب (5: 6، 15)، وإنما تكريمه للغير أيضًا (6: 16، 21).

سفر التثنية والفكر اللاهوتي:

يرى البعض أنهم لا يكونوا مبالغين إن قالوا أن سفر التثنية هو ينبوع الفكر اللاهوتي الكتابي التاريخي للعهدين القديم والجديد. عندما يتحدث الأنبياء عن الله إنما يتحدثون عن الله الذي يُقيم عهدًا مع شعبه كما ورد في التثنية. والبركات التي اختبرها رجال العهد القديم عندما عاشوا بالإيمان والحب والطاعة للرب إنما هي البركات الواردة في التثنية. إنه الله الذي قدم وعدًا لإبراهيم، حقق الوعد كما أوضحه هذا السفر.

في سفر التثنية جاءت أصول تعاليم العهد الجديد عن حب الله وعمله الخلاصي بالمسيح يسوع، وعن التمتع بالميراث الأبدي، وتحقيق وعود الله للمخلصين.

الله كما يظهر في هذا السفر، إله جماعي وشخصي ، يودّ أن ينسب نفسه إلى شعبه كما إلى كل عضوٍ من أعضاء الشعب. إله محب للبشر، قدوس لا يطيق الخطية، بار لا يقبل الإثم ولا الظلم. ملك يقود شعبه لكي يرثوا ويفرحوا. هادف في علاقته بالإنسان، أمين في مواعيده، عنايته الإلهية فائقة. في حبه للإنسان يود أن يُعلن أسراره له. لا إله غيره.

من أبرز ما أظهر هذا السفر هو أن يلتزم الشعب أن يُنتسب لله، مكرسًا قلبه وحياته له. هو سفر التكريس لله بالتجاوب مع العهد الإلهي بروح الطاعة.

لعل من أهم المواضيع التي تعرض لها هذا السفر هي:

أ. العبودية والفداء: لا ينبغي أن ينسى إسرائيل (4: 9) أنه كان عبدًا في أرض مصر (5: 15) التي هي بيت العبودية (5: 6) وأن الرب افتداهم من هذا (7: 8) بيد شديدة وذراع ممدودة (4: 34).

ب. النصيب الصالح: أعطاهم الرب أرضًا جيدة (1: 25) تفيض لبنًا وعسلاً هذه التي أقسم لآبائهم أن يعطيها لهم ولنسلهم (1: 8) كنصيب لهم (4: 21).

ج. محبة الله: ينبغي أن يحبوا الرب إلههم (5: 10) بكل قلبهم وبكل نفسهم (4: 29)، لأنه أحبهم أولاً (4: 37)، فينبغي عليهم أن يخافوه (4: 10) ويلتصقوا به (10: 20)، وأن يمحوا اسم الآلهة الأخرى (5: 7، 7: 24) التي لم يعرفوها (11: 28).

د. شعب الرب: يجب أن يكون جميع إسرائيل متحدًا معًا في سماع كلمة الرب (1: 1، 5: 1)، فإنهم شعب مقدس و"أخص من جميع الشعوب" (7: 6). ويجب أن يعتنوا بالمساكين واليتامى والأرامل والغرباء لأنهم اخوة (1: 16، 10: 18).

هـ. مذبح الرب: ينبغي أن يحملوا عطاياهم وذبائحهم إلى "المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه" (12: 5، 11) ويفرحوا هناك أمامه (12: 7).

و. الخطية والتطهير: كل خطية مكروهة، وخصوصًا خطية عبادة الأصنام لأنها "رجس" (15: 9، 7: 25)، ولا ينبغي أن يشفق قلب الرؤساء في عقاب الخطية (13: 8).

ز. وعود البركة: توجد وعود "بالبركة" (7: 13) عندما يُريحهم من أعدائهم (3: 20). إذا احترزوا للوصايا وعملوها (5: 1) تطول أيامهم (4: 26)، ويحسن الله إليهم (4: 40)، ويبارك عمل أياديهم (2: 7)، فيأكلون ويشبعون (6: 11) كما تشتهي نفوسهم (12: 15).

سفر التثنية بين أسفار موسى:

جاء سفر التكوين يهيئ البشرية لإدراك محبة الخالق للإنسان، الذي خلق العالم كله قصرًا يتمتع به ويملك ويسيطر. لقد قدم الله كل الحب، وردّ الإنسان على الحب بالعصيان، والاعتزال عن الله مصدر حياته. ومع هذا لم يتركه الله في موته، بل قدم له خطة الخلاص الفائقة.

وجاء سفر الخروج يعلن اختيار الله لشعبه كخميرة لتقديس البشرية، كان لابد من تحريرهم من العبودية ومن كل آثار للخطية، لكي ينطلق بهم من أرض العبودية إلى حيث الميراث وتحقيق الوعود الإلهية.

وجاء سفر اللاويين يقدم الشريعة الإلهية الخاصة بالعبادة للكشف عن التقديس بالدم والتمتع بالفداء. فإن الله القدوس يود أن يصير الإنسان مقدسًا على شبهه.

وفي سفر العدد يتدرب الشعب ويتعلم من الله خلال تجواله في برية هذا العالم، فيظهر الله قائدًا لشعبه في البرية يهتم بهم بنفسه.

أما وقد صار الشعب على أبواب كنعان التي حُرم منها الجيل السابق بسبب عصيانه وتمرده المستمر، لذا قدم لهم العهد يقودهم إلى التمتع بالمجد إن أعلنوا حبهم لله وشركتهم معه خلال الطاعة. هذه هي نغمة سفر التثنية. هكذا يدخل بهم إلى سفر يشوع حيث يرون الله الذي يمجدهم، مقدمًا لهم الميراث والمجد.

يمكننا في اختصار القول:

يُقدم سفر التكوين الله المحب للإنسان.

وسفر الخروج الله محرر الإنسان من العبودية.

وسفر اللاويين الله مقدِّس الإنسان.

وسفر العدد الله قائد الإنسان في رحلة غربته نحو السماء.

وسفر التثنية الله مقيم العهد مع الإنسان.

وسفر يشوع الله الممجد في الإنسان بالميراث الأبدي.

سفر التثنية وسفر إرميا[3]:

من يدرس السفرين يرى أن كاتب أحد السفرين كان مُلمًا بالسفر الآخر تمامًا. توجد كلمات مشتركة بينهما لم ترد في أي سفر آخر من أسفار الكتاب المقدس، وبعض العبارات مطابقة لبعضها البعض، بل والفكر متشابه يحمل ذات النغمة.

بالمنطق الطبيعي كان إرميا النبي مُلمًا إلمامًا كاملاً بسفر التثنية. فهو ككاهن دارس لأسفار موسى الخمسة منذ صباه، عاش في أحلك الظروف الروحية، فكان سفر التثنية يشغل قلبه وفكره كسندٍ له في عظاته للشعب. اقتبس من عظات موسى العظيم في الأنبياء لكي يتحدث بقوة مع الشعب. في أيامه اُكتشف سفر الشريعة، غالبًا يقصد به أسفار موسى الخمسة، ربما النسخة الأصلية التي تسلمها الكهنة من موسى النبي. بلا شك قام بعض المعلمين بدراسته وإلقاء الضوء عليه. فلا عجب أن اهتم إرميا النبي به واقتبس الكثير منه.

لا يمكن قبول أن كاتب السفرين هو واحد، وأن إرميا هو الكاتب لسفر التثنية، لأنه مع وجود عبارات مشتركة بينهما إلاَّ أنه يوجد أيضًا اختلاف في كثير من التعبيرات والألفاظ، لهذا كل ما فعله إرميا أنه تأثر بالسفر واقتبس منه.

لو أن الكاتب هو إرميا النبي ونسبه لموسى النبي لكان إرميا مخادعًا وغاشًا، الأمر الذي لا يتناسب مع شخصيته الصريحة والقوية، حيث وقف ضد الملك ورجاله والقيادات الدينية وعائلته والشعب أحيانًا. مثل هذا الشخص الذي يتحدى الكل علانية بكل قوة لن يلجأ إلى الخداع والكذب.

سفر التثنية والشعب اليهودي:

لعل من أهم آثار سفر التثنية ظهور جماعة الأسينيين Essenes الذين انسحبوا من برية يهوذا في القرن الثاني ق.م إلى شمال غرب البحر الميت (قمران)، وكان أحد ألقابهم: "جماعة العهد الأبدي". جاء في بدء الكتاب الذي ينظم هذه الجماعة: "كل من يأتي إلى نظام الجماعة يعبر إلى العهد أمام الله[4]". وجاء في أحد تسابيحهم: "مع كل نهارٍ وليلٍ سأدخل إلى عهد الله[5]". أحد طقوسهم الرئيسية التي كانوا يمارسونها هو الاحتفال السنوي لتجديد العهد على نمط ما ورد في (تث 27) حيث يعلن الكهنة البركة واللاويين اللعنة[6]. نظموا أنفسهم على نفس النهج الذي تم مع الجيل الجديد في البرية (تث 1: 15). لقد وُجد في مخطوطات قمران على الأقل 14 مخطوطًا لسفر التثنية.

سفر التثنية والعهد الجديد:

يرى البعض ما لسفر التثنية من أثر على المجتمع المسيحي في العهد الجديد، فهو أحد أربعة أسفار هامة من العهد القديم التي كان يرجع إليها المسيحيون وهي أسفار التكوين والتثنية والمزامير وإشعياء[7]. اقتبس العهد الجديد الكثير من السفر (حوالي 83 مرة)، من الـ 27 سفرًا للعهد الجديد 17 سفرًا اقتبست من سفر لتثنية.

لهذا السفر أثره على اللاهوت بحسب إنجيل يوحنا. فإن المفهوم الكلي لوصية الحب الجديدة (يو 13: 34؛ 15: 12) تطابق فهم الوصية في سفر التثنية كأمر إلهي أساسي للحب، يطالب بعطاء الإنسان كيانه الكلي.

كان لهذا السفر مركز خاص لدى السيِّد المسيح، فهو السفر الوحيد الذي اقتبس منه السيِّد في حواره مع المجرب (قارن مت 4: 4 مع تث 8: 3؛ مت 4: 7 مع تث 6: 16؛ مت 4: 10 مع تث 6: 13)؛ وفي عظته على الجبل (مت 5: 13مع تث 24: 1)؛ وفي إجابته لأحد الكتبة (مر 12: 3 مع تث 6: 5). كما اقتبس منه عندما لخص الناموس (مت 22: 37).

سفر التثنية ومعاهدات الشرق الأوسط:

يرى Gerhard von Rad أن السفر يوحي بأنه حديث في احتفال ديني، ربما أُلقي في عيد تجديد العهد[8]، وأن السفر يحوي أربعة فصول رئيسية، وهي:

1. عرض تاريخي لأحداث سيناء مع تعليقات (1-11).

2. قراءة الشريعة (26: 12-15).

3. ختم العهد (26: 16-19).

4. البركات واللعنات (27 الخ).

رفض بعض الدارسين هذه النظرية، حيث لا يوجد في العهد القديم أية شهادة بوجود احتفالات دينية هكذا كما اقترحها von Rad. لكن كثير من الدارسين يرون أن السفر في هيكله يشابه إلى حد كبير هيكل المعاهدات التي كانت تبرم في الشرق الأوسط في الألف الثانية ق.م. (خاصة عند الحثيين)[9] من بين هؤلاء الدارسينG. E. Mendenhall معتمدًا على V. Korosvec (1931م) الذي يرى أن هيكل المعاهدة يتكون من:

أ. مقدمة للمعاهدة أو الدستور يعلنها الملك.

ب. مقدمة تاريخية توضح العلاقات القديمة بين الطرفين.

ج. الأسس العامة للمعاهدة والأسس الخاصة بها.

د. آثار المعاهدة من بركات لمن يفي بها، ولعنات تحل على من يكسرها.

هـ. الشهود، غالبًا الآلهة التي تضمن تحقيق ما ورد في المعاهدة.

أضاف Mendenhall عنصرًا سادسًا وهو إيداع نسخة من المعاهدة في الهيكل، تُقرأ علنًا أمام الشعب على فترات دورية.

بهذه النظرة يرى بعض الدارسين مثل Merdith G. Kline أن سفر التثنية يُطابق الهيكل العام لأية معاهدة في ذلك الحين. لذا فالسفر يمثل وحدة واحدة، وهو عمل موسوي أصيل، حيث قدم معاهدة خلاصية أبرمها الله مع شعبه.

1. مقدمة المعاهدة أو الدستور بواسطة وسيط العهد (1: 1-5).

2. مقدمة تاريخية، أو تاريخ العهد (1: 6، 4: 49).

3. الأسس العامة للعهد – الوصية العظمى (5: 1، 11: 32).

4. وصايا خاصة إضافية (12-26).

5. أثار العهد من بركات ولعنات، مع القسم بالتعهد (27-30).

6. استمرارية العهد (31-34).

أفاض الباحثون في الدراسة المقارنة بين العهد الذي يعلنه سفر التثنية والعهود القديمة في الشرق الأوسط، من بينهم [10]J. Wenham, D. J. McCarthy، وأكد كثيرون رفض دعوى أن الأصحاحات الثلاثة الأولى التاريخية جاءت إضافية للسفر فيما بعد، لأن المقدمة التاريخية تمثل عنصرًا هامًا في العهود القديمة. وأكدوا أن وضع الأصحاح 27 صحيح.

حقًا إن الأصحاحات (31-34) لا تنتمي إلى هيكل المعاهدة، لكنها تمس جوهر تجديد العهد، حيث كان لابد من إعلان إقامة يشوع خليفة لموسى النبي لإعلان استمرارية العهد، وجاءت تسبحة موسى (تث 32) منسجمة مع فكرة العهد.

أخيرًا أوضح Moshe Weinfield مع بعض الكتاب الحديثين أن هيكل السفر يتبع التقليد الحرفي للعهد المكتوب في ذلك الحين، وليس كما ادعى Rad Von بأن السفر مجرد عرض لما ورد في احتفال ديني[11].

الله يود دائمًا أن يُجدد العهد في كل عصر، وهو يطلب دومًا إخلاص شعبه له (6: 5؛ 10: 12-13). إنه يهيئ كل مؤمن لكي يحيا بروح المسئولية، مع الفرح الدائم تحت قيادة ملك الملوك الذي وهبه أن يتمتع بكنعان. يُقدم هذا السفر حقيقة هامة وهي أن الله الواحد الملك الحقيقي الذي خلص الشعب من عبودية فرعون يدخل بهم إلى الحياة السماوية.


 

التثنية كميثاق مع الله

شكل الميثاق

سفر التثنية

العنوان: يشير إلى الملك الذي يقيم ميثاقًا مع شعبه.

العنوان (1: 1-4) موسى كممثل لله ملك الملوك الذي يطلب أن يقيم ميثاقًا مع شعبه.

مقدمة تاريخية تستعرض أعمال الملك مع شعبه.

مقدمة تاريخية (1: 5، 4: 43): معاملات الله مع شعبه منذ حوريب (عد 10: 11-13).

الشرائع: ما يتوقعه الملك مع شعبه الذي يقيم معه عهدًا.

الشرائع (3: 33، 26: 19): نظرة على الشرائع العامة (4: 44، 11: 32)، مع شرائع خاصة (12-16) التي يحيا بها الشعب في أرض الموعد.

إيداع العقد: حفظ العقد الذي يحوي الشروط.

إيداع العقد (10: 1-5، 31: 24-26): حفظ لوحي الشريعة في تابوت العهد.

قراءة العهد: يلزم قراءة العهد في مكان عام بطريقة منتظمة حتى لا يُنسى.

قراءة العهد (6: 6-9، 17: 18-20): الالتزام بقراءته في البيوت، كما يقرأه الملك علانية.

الشهود: استدعاء الآلهة كشهود على الميثاق.

الشهود: لا حاجة للشهود، لأن الرب هو الشاهد. كثيرًا ما يقسم الله بذاته كشاهدٍ على وعوده.

البركات واللعنات: المنافع لمن يحفظ العهد والنتائج الوخيمة لمن يكسره.

البركات واللعنات (27-28): قائمة بالبركات لمن يحفظ العهد واللعنات لمن يكسره.

القسَمْ والاحتفال به: يُقسِم الطرفان على الإخلاص في تنفيذ الميثاق.

القسم والاحتفال به (27: 1-8، 29: 10-15): وضع حجر شهادة يحوي الشريعة عند دخول الشعب أرض الموعد، ويُقام احتفال شعبي على جبل عيبال حيث يقسمون أن يكونوا هم ونسلهم أمناء للعهد.

العهد وحفظ حقوق الخليقة:

إن كان الله يود أن يدخل في ميثاق مع الإنسان يعلن فيه عن تبادل الحب بينهما على مستوى أبدي، فإن هذا العهد يهتم بحقوق الإنسان والحيوانات والطيور، فلا يعيش المؤمن بقلبٍ مغلقٍ بل متسع بالحب. وسنرى في سفر التثنية جوانب هامة يركز عليها العهد الإلهي، منها الآتي:

1. الاهتمام بكل شخص، فمع ارتباط الإنسان بالجماعة وحبه لها، تحفظ الجماعة حق كل شخصٍ، مهما كان مركزه أو سنه أو وضعه الديني أو الاجتماعي. فالجماعة تقدس حق كل إنسانٍ وتحترمه. كل شخص مسئول عن تصرفه.

2. الشهادة الباطلة: يعطي العهد أمانًا للمؤمن، ويحفظه من شهود الزور والاتهامات الباطلة، لكي يعيش في أمان بلا رعب.

3. المرأة: يطلب العهد عدم استغلال ضعف مركز المرأة في المجتمع في ذلك الحين.

4. حرية الإنسان وكرامته، فيعمل العهد على تحطيم فكرة العبودية بالنسبة للمؤمنين كتهيئة لتحطيم فكرة العبودية بوجه عام.

5. الميراث: يحافظ العهد على ما يتمتع به المؤمن من ميراثٍ له في أرض الموعد.

6. الملكية: التزام المؤمن بعدم التعدي على تخوم الآخرين ونزع ملكيتهم.

7. ثمر التعب والعمل: حفظ حق الأجير أو العامل، لينال أجرته في يوم عمله بكرامة في غير مذلة.

8. راحة السبت: من حق الجسد والنفس أن يستريحا، ومن حق الأجير والعبد حتى الحيوانات أن تستريح.

9. الزواج: يهتم العهد بالحفاظ على العلاقات الزوجية  والأسرية.

10. العدالة: لا يُقبل اتهام مهما كان خطيرًا بدون محاكمة عادلة وتحقق من كل واقعة.

11. النظام الجماعي: مع مساواة كل المؤمنين في عينيّ الله، يحترم كل مؤمن النظام الجماعي ويدرك مركز الآخرين ويعطي الكرامة لمن يستحقها.

12. الخضوع للناموس والوصية: لا يوجد شخص، مهما كان مركزه الديني أو المدني، فوق القانون والوصية الإلهية.

13. الحيوانات: خُلق الحيوان لخدمة الإنسان، ويلتزم الإنسان بالاهتمام به.

سفر التثنية والحرب المقدسة:

عالج السفر موضوع الحرب المقدسة، فوضع نظامًا للسلوك في الحرب (20: 1-9)؛ وكيفية التعامل مع المدن التي تسقط في أيديهم (20: 10-18)، ومع المسبيات (21: 10-14)، وقدسية رجال الحرب (23: 10-14)، وإعفاء المتزوجين حديثًا من الاشتراك في الحرب (24: 5)، والتعامل مع عماليق (25: 17-19).

لماذا سمح الله للشعب أن يُبيد الشعوب المحيطة بلا شفقة؟

أ. كانت هذه الشعوب تمثل الخطايا التي يجب إبادتها، ولم يكن ممكنًا للشعب في بداية حياته الروحية أن يميز بين الخاطئ والخطية، فقتل الخاطئ كان يعني تحطيم الخطية ونزعها.

ب. كان الفساد الذي دبّ بين هذه الشعوب غير محتمل، ففي عبادة البعل تُقدم الأمهات أطفالهن في النار ليحترقوا بين ضربات الطبول كي لا تُسمع صرخات الأطفال؛ بجانب تكريس النساء والفتيات أنفسهن للزنا ليجمعن مالاً للهياكل. فهلاك الأمم بحياتهم العنيفة والفاسدة أخطر من قتل الجسد.

ج. كان لابد من تهيئة شعب مقدم للرب حتى يخرج منه المخلص وعندئذ ينفتح باب الخلاص أمام كل العالم. هذا وقد كان الشعب يتأثر جدًا بالشعوب المحيطة به. مع كل تحذيرات الرب لهم، ومع طلب إبادتهم انحرفوا إلى الشركة مع الشعوب الوثنية في العبادة الوثنية وممارسة الرجاسات وعنفهم في تقديم ذبائح بشرية. فماذا كان حالهم لو لم تصدر هذه الأوامر إليهم؟ لقد أراد تنقيتهم ليهيئهم كشعبٍ إلهيٍ نقيٍ لخدمة الأمم فيما بعد.

د. ما يشغل ذهن الله ليس إبادة الشعوب الوثنية في هذا العالم، وإنما هلاكهم الأبدي.

وبالرغم من ذلك نرى أنه كثيرًا ما أظهر الله مراحمه نحو أفراد أو جماعات الشعوب المحيطة بشعبه حينما استجابوا لناموسهم الطبيعي أو أذعنوا لإنذاراته التي أرسلها لهم. فلم يُهلك الله أبيمالك ملك جرار حينما حاول أخذ سارة زوجة أبينا إبراهيم بل قال له: "علمتُ أنك بسلامة قلبك فعلت هذا وأنا أيضًا أمسكتك عن أن تخطئ إليَّ، لذلك لم أدعك تمسها..." (تك 20: 6).

كذلك أُستحْيت راحاب الزانية وبيت أبيها وكل مالها وسكنت في وسط إسرائيل، لأنها خبأت الرسولين الذين أرسلهما يشوع لكي يتجسَّسا أريحا (يش 2، 5)، وصارت ضمن سلسلة أنساب السيِّد المسيح بالجسد! وامتدح السيِّد المسيح ملكة التيْمن ورجال نينوى وقال: "سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه" (لو 11: 29-32).

وحدة السفر:

حاول الدارسون فصل الأصحاحات (1-4، 27، 29-31)، عن السفر، مدّعين أن مصادر هذه الأصحاحات مختلفة عن بقية السفر. لكن من يدرس مفردات السفر وطابعه اللغوي يدرك ليس فقط وحدة هيكل السفر، بل يدرك وحدة قوية في طابعة اللغوي أيضًا، إذ يتسم السفر كله بالبساطة والوضوح وطابعه الوعظي.

تشابه اللغة في كثير من أسفار العهد القديم خاصة في الأسفار التاريخية يرجعه البعض إلى تأثير الكتاب بطابع سفر التثنية في أيام الملوك. مع نهاية القرن التاسع عشر حاول S.R. Driver أن يقدم وصفًا لمفردات السفر وطابعه وقد بقى هذا البحث إلى يومنا هذا له تقديره الخاص[12].

أهم ما ورد فيه:

·        الوصايا العشر (5: 6-21).

·        الشيما "اسمع يا إسرائيل" (6: 4-9).

·        عن الأنبياء الكذبة (13: 1-5).

·        عن العرافين الكذبة (18: 9-15).

·        عن العهد الفلسطيني (29: 1-20، 30).

محتوياته:

1. أعمال الله الخلاصية التاريخية               [1-3].

2. دعوة للطاعة للوصية                       [4].

3. متطلبات الله الأساسية                       [5-11].

4. الأسس الرئيسية في الحياة العملية            [12-26].

5. كيف تحيا أمة تمارس هذه الأساسيات       [27].

أوضح السفر الحاجة إلى أربعة أمور لكي يحفظ الشعب ونسله العهد:

أولاً: الحاجة إلى القلب، فمع حديثه عن تفاصيل كثيرة خاصة بالشريعة ركز على القلب (6: 4-5)، فيه يتكرس كل كيان الإنسان بطاقاته وإمكانياته للرب.

ثانيًا: الحاجة إلى العمل، فالشهادة الحيّة للوصية هي التي تنبع عن القلب، والتي تمارس في الحياة اليومية. لهذا كثيرًا ما يردد "احفظ الوصايا".

ثالثًا: الأبوة، لا يمكن لجيلٍ ما أن يُقدم الوصية للجيل التالي ما لم يحمل روح الأبوة الصادقة (6: 7-9). بهذه الأبوة الحانية يتذوق الجيل أبوة الله.

رابعًا: الاهتمام بكل الطبقات، خاصة المحتاجين والمرذولين والمتضايقين. جاءت الشرائع تمس كيان الغرباء (1: 16-17؛ 10: 18-19)، والأرامل والأيتام (10: 18؛ 14: 28-29)؛ والكهنة واللاويين الذين عند الباب (14: 27-19؛ 18: 1-8)، والعبيد (15: 12-18)، والنساء المُغتصبات (22: 23-29)؛ والمدينين (15: 1-3)؛ والفقراء (15: 4-11)؛ والمسبيات في الحروب (21: 10-14)، والأجراء الفقراء (24: 14-15).

أقسامه:

يمكن القول بأن هيكل السفر يقوم على ثلاث عظات بخطة فائقة محددة. العظتان الأولى والثالثة مختصرتان، بينما العظة الثانية طويلة جدًا.

1. العظة الأولى [ص 1-4]: ركزت على معاملات الله مع شعبه عند خروجهم من مصر، ورعايته لهم وحمايتهم. مع تأكيد التأديب للعصاة. تبدأ العظة بمقدمة للسفر كله (1: 1-5)، وتنتهي بحث موسى النبي شعبه أن يقابل حب الله بالطاعة له وحفظ الوصية (4: 1-40)، يليه ملحق عن مدن الملجأ (4: 41-43).

2. العظة الثانية [ص 5-28]: أوضحت تطبيق العهد مع الله والشرائع المذكورة في الخروج بما يناسب الشعب بعد دخولهم أرض الموعد، وقد ركزت على تجنب عبادة الأوثان والرجاسات الوثنية. وإقامة مقدس في الوسط، والإعداد للمملكة. تعتبر صُلب السفر أو قلبه النابض، تبدأ بالأصحاح الخامس بعد مقدمة مختصرة (4: 44-49).

3. العظة الثالثة [ص 29-30]: يتنبأ موسى النبي عن سقوط الشعب في المستقبل القريب، لذا تحدث عن البركات واللعنات. وأيضًا عن السقوط في المستقبل البعيد، فتحدث عن تشتيتهم بين الأمم وعودتهم. تُختم العظة بإعلان عن الخيار بين قبول الموت أو الحياة (30: 15-20).

4. أعمال ووصايا ختامية [ص 31-34] (ملحق للعظات الثلاث): إذ لم يُسمح لموسى النبي بالدخول إلى أرض الموعد أقيم تلميذه يشوع خليفة له. أخيرًا في الأصحاح 34 يستعرض الكاتب نياحة موسى النبي.


 

كاتب السفر

أجمع اليهود والمسيحيون خلال التقليد أن موسى النبي هو كاتب هذا السفر، ما عدا الجزء الأخير منه الذي يؤرخ موت موسى النبي، فتُنسب كتابته إلى يشوع بن نون أو ألعازار الكاهن. ويرى البعض أن ما ورد هنا سلَّمه موسى شفاهًا في بادئ الأمر ليُكتب بعد ذلك (1: 3؛ 31: 24-26).

حاولت المدرسة النقدية الهجوم على هذا السفر بعنف من جهة نسبته لموسى، إذ قيل أنه كتبه بعض المؤلفين المجهولين بعد 600 سنة على الأقل. وظهرت نظرية في مطلع هذا القرن ادعت أن نبيًا غير معروف صاغ مادة السفر قبل الإصلاح الذي جرى في أيام يوشيا عام 621 ق.م. (1 مل 22-23). وتفترض النظرية أن كتابة السفر كانت بقصد الإصلاح الديني عامة، وبقصد تركيز العبادة في أورشليم خاصة، سيما وأن عبادة الله كانت تجري حتى ذلك الوقت في المرتفعات وكانت تُعتبر قانونية.

غير أن السفر نفسه لا يورد ذكرًا لهذه المرتفعات في معرض الحديث عن الشرائع (ص 12-26) ولا في الأحاديث التي قبلها (شرح 12: 2)، ولا في الأمر ببناء مذبح على جبل عيبال (شرح 27: 5) وهذا يجعل قبول النظرية السابقة صعبًا. وقد افترض بعض العلماء العصريين أن السفر كُتب بعد السبي، وقال البعض أنه كُتب في أواخر زمن حزقيا، وقال آخرون أنه كُتب في عهد داود. وكل نظرية من هذه تهدم النظريات الأخرى! والاتجاه اليوم ينحو نحو الاعتراف بأن موسى هو كاتب معظم أجزاء السفر.

اعتمد النقاد في رفضهم نسبة السفر إلى موسى أساسًا على أنه لم تكن توجد كتابة في أيامه، لكن تبين أن الكتابة ترجع إلى عصر ما قبل موسى[13].

 يقولون أيضًا أن السفر كُتب لتمجيد الكهنوت في أورشليم، لكن واضح أن السفر لم يُشر قط لا إلى الكهنوت ولا إلى أورشليم[14].

شهادات داخلية عن كاتب السفر[15]:

يحمل السفر شهادات داخلية وخارجية تؤكد بقوة أن واضع السفر هو موسى النبي، بوحي الروح القدس:

1. ورد في السفر نفسه أن الكاتب هو موسى النبي (1: 5؛ 31: 9، 22، 24، 30).

2. تنسب أسفار العهد القديم الأخرى هذا السفر كما الأسفار الخمسة الأولى لموسى النبي (يش 1: 7؛ قض 3: 4؛  1 مل 2: 3؛ 8: 53؛  2 مل 14: 6؛ 18: 6، 12؛ عزرا 3: 2؛ مز 103: 7؛ ملا 4: 4).

3. نسب السيِّد المسيح السفر لموسى النبي (مت 19: 7-9؛ يو 5: 45-47). وأيضًا كتّاب العهد الجديد (أع 3: 22؛ 7: 37-38؛ رو 10: 19).

4. واضح أن السفر كان معروفًا لكتبة كثير من الأسفار مثل القضاة وراعوث وصموئيل الأول والثاني، وملوك الأول والثاني مما يظهر أن السفر كان معروفًا من بعد نياحة موسى مباشرة، وكان مستخدمًا في إسرائيل.

5. اقتبس كثير من الأنبياء من سفر التثنية أو كان الأنبياء مُلمِّين بما جاء به:

أ. واضح من سفر إرميا أن الكاتب كان أمامه سفر التثنية وفي ذهنه.

ب. كان السفر معروفًا لدى إشعياء النبي كما يظهر من المقارنات التالية.

(إش 1: 2 مع تث 32: 1؛ إش 1: 10 مع تث 32: 32؛ إش 1: 17مع تث 28: 27؛ إش 27: 11مع تث 32: 8؛ إش 41: 8 مع تث 7: 6؛ 14: 2؛ إش 41: 10مع تث 31: 6؛ إش 42: 2 مع تث 32: 15؛ إش 46: 8 مع تث 32: 7؛ إش 50: 1 مع تث 24: 1؛ إش 46: 8 مع تث 32: 7؛ إش 50: 1 مع تث 24: 1؛ إش 58: 14 مع تث 32: 13؛ إش 59: 10؛ 65: 21 مع تث 28: 29؛ إش 8 مع  تث 28: 31).

ج. يوجد تلميح في عاموس وهوشع ما يوضح أن السفر كان معروفًا في أيامهما. من ذلك عا 4: 6-10، 11 (تث 28: 15الخ)؛ عا 6: 12(تث 29: 18)؛ عا 8: 14 (تث 8: 21؛ 6: 13)؛ عا 9: 14-15 (تث 30: 3). هو 4: 14 (تث 23: 17-18)؛ هو 4: 10 (تث 19: 14؛ 27: 17). هو 5: 14 (تث 22: 39)؛ هو 6: 1؛ 5: 4 (تث 32: 39؛ 28: 68). هو 13: 9 (تث 8: 14)؛ هو 13: 9 (تث 33: 26).

6. يتضح في السفر خصائص موسى النبي، كما وضحت في الأسفار السابقة بطرق متعددة، مثل روحه الحماسية، وحديثه الخارج من كل قلبه (خر 2: 12-13) ومقدرته ككاتب وقائد، وتركيزه على التعاليم الأساسية دون إهمال التفاصيل، وحديثه النابع عن اختباراته الواسعة. بل إن أسلوبه الشعري والنثري يثير الإعجاب. وذكر الله المتكرر على لسانه كعبد الرب المكرس (34: 5). وقوة إعلانه للحق واضحة في هذا السفر كما وضحت في تاريخه المسجل في سفريّ الخروج والعدد.

7. نرى تذكارات موسى المختلفة تتضح في لمحات خاطفة في خطاباته (9: 22) وفي الحديث عن استلامه الشريعة (24: 9)، مع ذكرى الأحداث والأفكار والصلوات والعواطف الشخصية لموسى الواضحة في كل خطاباته.

8. يبدو أن السفر يُناسب عصر موسى النبي، وليس أيام يوشيا كما يُدعي البعض، فمن الجانبين الجغرافي والتاريخي يشير إلى ما يناسب الفترة ما بين الخروج ودخول أرض الموعد. يشعر القارئ بنفسه كأنه يعبر وادي زارد (2: 13) ويتوقف في برية قديموت (2: 26) وهو يدور في الطريق إلى باشان ويمكث في الجواء مقابل بيت فغور (3: 29).

9. تظهر بعض الدراسات الحديثة أن السفر يتبع شكل المعاهدات المستخدمة ما بين القرنين 15، 14 ق.م، الشكل الذي يناسب هذا التجديد للعهد، كما رأينا قبلاً.

10. يحوي السفر تحريم الأمم والشعوب التي في كنعان وعدم إقامة عهد معهم وعدم الإشفاق عليهم (تث 7: 1-15). لو أن الكاتب في عصر ما بعد موسى النبي، حيث امتلك الشعب كنعان في أيام يشوع لكانت هذه الوصية عقيمة وبلا نفع.

11. الوصية الخاصة بخلع نعل الولي الذي يرفض أن يُقيم نسلاً للميت (تث 25: 9)، حسبت وصية قديمة في أيام راعوث (را 4: 7) في عصر القضاة، فلو أن السفر كُتب بعد القضاة لما وردت هنا بهذا الأسلوب كوصية لم يسبق ممارستها.

12. جاء الأمر في هذا السفر بمحو ذكر عماليق (تث 25: 17-19). ما كان يجب ذكره هنا لو أن السفر قد كتب بعد الانتهاء من الحرب مع عماليق، إذ لم يعد لهم ذكر فعلاً بعد استلامهم أرض الموعد مباشرة. نفس الأمر بالنسبة للدخول في حرب مع الكنعانيين (تث 20: 16-18).

13. ما ورد في (تث 17: 14-20) يؤكد أن الكاتب جاء قبل إقامة شاول ملكًا في أيام صموئيل النبي، وإلاَّ كان قد أشار إليه كملكٍ استغل سلطانه على حساب شعبه.

14. مما ورد في (تث 17: 16) واضح أن خطر عودة الشعب إلى مصر قائم، وهذا لم يعد قائمًا بعدما الانتصار على شعوب كنعان واستلام أرض الموعد.

15. يكشف الحديث عن مدن الملجأ (تث 19) عن أن المتحدث والسامعين لم يكونوا بعد قد دخلوا الضفة الغربية، ولم تكن قد تحددت بعد مدن الملجأ بالاسم، هذه التي حُددت في أيام يشوع بن نون بعد الاستيلاء على الضفة الغربية.

16. يرى بعض الدارسين أن السفر لا يحوى عبارة واحدة تكشف عن أن السفر لاحق لعصر موسى سوى موته ودفنه. وأن جو السفر العام يدل على أن الكاتب هو موسى النبي أو أحد معاصريه، مثل الإشارات الكثيرة عن وجودهم في مصر والخروج منها، والتهيئة للدخول إلى الضفة الغربية.

الاختلافات بين سفر التثنية وأسفار موسى السابقة:

يُحاول بعض الدارسين تأكيد أن كاتب السفر ليس موسى النبي، مقدمين دلائل على ذلك بوجود اختلافات بين هذا السفر وما ورد في الأسفار الأربعة السابقة، من أمثلة ذلك:

1. جاء في (تث 1: 22) إلخ. أن الشعب هو الذي اقترح على موسى النبي إرسال الجواسيس، بينما جاء في (عد 13: 1، 3) أن الله هو الذي أصدر أمره بإرسال الجواسيس. لا يوجد تعارض بين النصين بل تكامل، فقد اقترح الشعب ذلك على موسى، وإذ عرض الأمر على الله أصدر أمره بذلك فأطاع موسى الله لا الشعب.

2. جاء في (تث 1: 37؛ 3: 26، 4: 21) أن الله غضب على موسى بسبب الشعب فحُرم من الدخول إلى أرض الموعد، وجاء في (عد 20: 12؛ 27: 14) أن الله حرم موسى وهرون من ذلك بسبب عدم إيمانهما وعدم تقديسهما الله. إن عدنا إلى (تث 32: 51) نجد الحديث مطابقًا لما ورد في سفر العدد إذ يقول: "لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل". لا يوجد تعارض فإن السبب المباشر لحرمان موسى هو خطيته إذ لم يقدس الله في تلك اللحظات، والسبب الذي دفع موسى إلى ذلك هذا تذمر الشعب وتمرده.

3. تحدث سفر التثنية عن تقديم الذبيحة في موضع واحد يختاره الرب بينما لم يُشر ذلك في الأسفار الأخرى. هذا الاعتراض غير صحيح فقد أشير إلى ذلك في (لا 17: 8-9). أما ما ورد في (خر 20: 24) عن تقديم العبادة في أماكن كثيرة فقد جاء بعد استلام الشريعة مباشرة على جبل سيناء حيث كان الشعب كثير التنقل، وكان المقدس يتحرك معهم، فكأن الله يؤكد لهم أنه حيثما وُجد المقدس بينهم تكون عبادتهم مقبولة.

4. جاء في (عد 18: 20-32) أن اللاويين ليس لديهم أية ممتلكات بين بني إسرائيل، فيأخذون العشور من الأسباط الأخرى مقابل خدمتهم للهيكل، وهؤلاء بدورهم يعطون عشورهم لهرون الكاهن. وجاء في سفر التثنية (14: 22-29) أن بني إسرائيل يقدمون العشور أمام الهيكل من الحقول والقطيع لللاوي والغريب والأرملة واليتيم عند أبوابهم. فيرى البعض أن ما ورد في سفر العدد كتبه موسى النبي وما ورد في سفر التثنية كتب مؤخرًا، وأن القانونين مختلفين في مضمونهما، ولا يمكن التوفيق بينهما. لكن الواقع أن القانون الأول هو قانون عام يلتزم به الكل حيث تقدم العشور لللاويين العاملين في الهيكل. لكن إذ كان الشعب داخلاً أرض الموعد حيث الفيض من الخيرات لذا طالبهم بعشور أخرى إضافية يمارسونها في فلسطين كما يشهد بذلك التلمود وأيضًا يوسيفوس المؤرخ اليهودي. العشور الأولى للاويين والثانية للعيد، وفي السنة الثالثة العشور الثانية تخصص للفقراء والمحتاجين[16].

أُشير إلى العشور الثانية في طوبيا (1: 7). وتُعتبر العشور الثانية في السنة الثالثة هي "عشور ثالثة".

5. يذكر سفر التثنية (12: 17-18) أن المؤمن يأكل العشور والنذور في المكان الذي يختاره الرب، هو وابنه وابنته وعبده وأمته واللاوي الذي في أبوابه، ويفرحون أمام الرب. وجاء في سفر العدد (18: 15-18) أن أبكار الحيوانات تقدم للرب، فيأكل الكاهن صدر الترديد والساق اليمنى. يتساءل البعض كيف يأكل الشعب في بيت الرب الأبكار بينما في سفر العدد تعتبر ملكًا للرب ويأكل الكاهن نصيبًا منها. يُرَد على ذلك أنه لم يذكر في سفر التثنية أن الشعب يأكلون كل الذبيحة، ولا في سفر العدد أن الكاهن يأكلها بالكامل. لكن سفر العدد حدد نصيب الكاهن، وأما بقية الذبيحة فيتسلمها مقدمها ويتصرف فيها كما جاء في سفر التثنية.

6. ورد في (خر 29: 27-28) وفي (لا 7: 28-34) أن صدر ذبيحة الشكر والساق اليمنى من نصيب الكاهن، وجاء في (تث 18: 3): "وهذا يكون حق الكهنة من الشعب من الذين يذبحون الذبائح بقرًا كانت أو غنمًا، يعطون الكاهن الساعد والفكِّين والكرش". يقول النقاد أن ما ورد في تثنية مختلف عما ورد في الخروج والعدد فلا يمكن أن يكون الكاتب هو موسى النبي. يرد على ذلك أن ما ورد في سفر التثنية لم يقل أن هذا هو كل نصيب الكهنة، إنما هو إضافة لما سبق أن وُهب لهم. فوضع الكهنة واللاويين أثناء تجوالهم مع الشعب في البرية، يشتركون معهم في عطايا الله المجانية كالمن والماء الخارج من الصخر، ولم يكن الكل محتاجًا إلى ثيابٍ أو أحذيةٍ الخ جعل احتياجات الكهنة واللاويين قليلة. أما وقد جاء وقت الدخول إلى أرض الموعد وسينال الشعب ميراثًا ضخمًا دون الكهنة واللاويين، صاروا في حاجة إلى نصيبٍ أكبر يعوضهم عن عدم نوالهم نصيب من الأرض.

7. في سفر العدد (35: 1-8) حُددت 48 مدينة بحقولها لللاويين، وقد قام يشوع بتوزيعها بينهم بالقرعة (يش 20)، بينما كثيرًا ما يردد سفر التثنية تعبير "اللاوي عند أبواب بيتك" دون إشارة إلى مدن اللاويين، فيبدو اللاويون كغرباء بلا مدن وبلا بيوت. يُرد على ذلك أنه ليس لللاويين نصيب في الأرض، وأن هذه المدن مأخوذة من أنصبة الأسباط الأخرى ليسكن فيها اللاويون مع حيواناتهم، لهذا فمع وجودهم في هذه المدن هم خارج مدن بقية الأسباط كمن عند أبوابهم، ويلتزم الأسباط بإعالتهم.

8. يرى البعض في تعبير "في عبر الأردن" (تث 1: 1) إن الكاتب موجود في غرب الأردن ويتحدث عن موسى في الضفة الأخرى من الأردن أي الشرقية، بهذا لا يمكن أن يكون كاتب السفر هو موسى النبي. يرد على ذلك بأن موسى النبي استخدم التعبيرات الشائعة في أيامه. فتعبير "عبر الأردن" كان شائعًا بين الكنعانيين قبل عبور الشعب إلى شرق الأردن. وأيضًا كاستخدامه تعبير " نحو الغرب" عن "تجاه البحر" و"نحو الجنوب" قاصدًا "النجب"، مع أن البحر بالنسبة لموسى لم يكن غربه ولا نجب جنوبه، لكنه استخدم تعبيرات الشعوب المحيطة به في ذلك الحين. فقد كتب موسى وهو في سيناء عن نجب "تجاه الجنوب" مع أنها كانت شماله"، لكن نجب كانت معروفة في كل المنطقة بهذا التعبير.

هذا الأمر طبيعي حتى في عصرنا الحالي فلو أن شخصًا ما في Edinburgh يتحدث عن أمر حدث ما في Norfolk يذكر اسم Norfolk التي تعني "North-folk" مع أن موقعها بالنسبة لادنبرج ليس في الشمال بل في الجنوب، بينما Southerland (تعني أرض الجنوب) وتقع في الشمال من Edinburgh.


 

موسى النبي كمعلِّم

لم يسجل لنا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد عظات وداعية لنبي من الأنبياء، أو أحد تلاميذ السيِّد المسيح أو رسله، مثلما سجل عظات موسى النبي الثلاث قبل نياحته بشهرٍ واحدٍ، كادت أن تشمل السفر كله. موسى النبي الذي بدأ خدمته بالاعتذار عن القيام بهذه الرسالة النبوية الخلاصية بسبب ثقل لسانه يختتم حياته بتسجيل عظاته كمعلم ناجح.

يكشف هذا السفر عن شخصية موسى النبي كمعلم التي تحمل الملامح التالية:

أولاً: كما سبق فأوضحت في سفر الخروج أن موسى النبي الذي كان في بدء خدمته يشعر بعجزه الكامل عن الكلام لأنه ثقيل اللسان صار معلِّمًا لشعبه، بل وتعلم بعض الفلاسفة اليونانيين منه الكثير[17].

ثانيًا: كان حديثه ممتزجًا دائمًا بالحب العملي، وكما قال عنه الرسول بولس: "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون، مفضلاً بالأحرى أن يُذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب 11: 24-26). هكذا حسب آلام خدمته ومشاركته شعبه في أتعابهم، شركة حمل عار الصليب مع السيِّد المسيح مخلص شعبه، حاسبًا كل مرارة رصيدًا حيًّا لحسابه. كمعلم يحمل قلبًا أبويًا صادقًا يطلب عن شعبه غفران خطاياهم قائلاً: "والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). جاء سفر التثنية يكشف بقوة عن قلب المعلم الأب المملوء حبًا وحنانًا نحو شعبه[18].

ثالثًا: من ثمار الأبوة الحانية أن يعرف المعلم الصادق أن يتعامل مع الأجيال الجديدة. فلا يشعر الجيل الجديد بما ندعوه حاليًا "الفجوة بين الأجيال". لم يشعر الجيل الجديد الحديث السن بفارق السن بينه وبين موسى الشيخ البالغ 120 عامًا، لأنه في أبوته يعرف كيف يدخل إلى عالمهم حتى لحظاته الأخيرة، ويتعامل معهم كواحدٍ منهم في غير تصلف ولا استخفافٍ بهم. شكوى الكثيرين أن المعلمين، خاصة الشيوخ، يمثلون جيلاً قديمًا متصلِّفًا مستخفًا بسلوكيات الجيل الجديد وأفكارهم ومفاهيمهم، فتحدث فجوة بين المعلِّمين والأجيال الحديثة.

رابعًا: لعلَّه من عوامل نجاح موسى النبي كمعلم أنه قد سيطرت البهجة الداخلية على قلبه حتى شيخوخته، فنراه في هذا السفر يقدم وهو في المائة والعشرين من عمره أغنية أو تسبحة جديدة للرب. يعرف الفرح حتى في شيخوخته، ويعرف التجديد المستمر حتى في تسابيحه. الأمر الذي يصعب أن نراه في كثير من المعلمين الشيوخ.

خامسًا: معلم مستقبلي يتطلع بعيني قلبه إلى المستقبل، فيدرك احتياجات شعبه عبر رحلته الطويلة. كان حديثه في عظاته في هذا السفر يستند على معاملات الله مع شعبه في الماضي، لا ليعيشوا في تاريخٍ قديمٍ جامدٍ، بل لكي ينطلق بهم إلى نظرة مستقبلية خاصة بدخولهم أرض الموعد وإقامتهم هناك.

كقائدٍ حيّ ارتفع على جبل نبو قبل موته بأمر إلهي، ليرى الأرض التي لم يدخلها بعد شعبه. هكذا يليق بالمعلم الحقيقي أن يرتفع دومًا بأمر إلهي ليرى المستقبل، ويعمل بنظرة مستقبلية حيّة قد لا يدركها الجيل الحاضر، بل وأحيانًا يستخف بها ويحسب المعلم غير واقعي.


 

من وحي سفر التثنية

وصيتك سندي في رحلة حياتي

v     نفسي تئن مشتاقة إلى الحب.

هب لي مع نبيك موسى أن أتقبل وصيتك.

ألمس فيها ينابيع حبك الفائقة.

لا أرى فيها أوامر أو نواهٍ،

بل أرى فيها شوقك إلى الدخول معي في عهد أبدي.

أحببتني أولاً... لأحبك!

v     وصيتك تحوِّل حياتي إلى سيمفونية حب.

أتغنى بحبك حتى النسمة الأخيرة من حياتي.

أنطق بتسابيح حبك مع موسى النبي حتى أنطلق.

v     وصيتك تقدس كياني كله،

فتصير كلماتي مباركة،

أشتهي مع موسى النبي أن أبارك كل إنسان!

أود أن يكون الكل قادة عاملين في كرمك!

v     لأصعد مع موسى النبي إلى الجبل وحدي.

هناك أموت غريبًا فانطلق إلى وطني.

ليس من يكفِّنِّي أو يدفنِّي.

بل تمتد يد حبك لتهتم حتى بجثماني.

أنت حبي، أنت حياتي!


 

 

العظة الأولى

 1-4

العظة الثانية [جسم السفر كله]

 5-28

 العظة الثالثة

 29-30

 أعمال ووصايا ختامية

 31-34

معاملات الله مع آبائهم للحث على الطاعة، وتقديم الشكر لله، وتثبيت الإيمان (1: 31؛ 2: 7).

1. الأمر بالارتحال من حوريب إلى فلسطين [تث 1].

2. التحرك العملي [2- 3].

3. النتيجة [4] (مدن الملجأ)

الوصايا 5-11

العهد والوصايا العشر [5].

لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم:

·   على قلبك "أورشليم".

·   قصَّها على أولادك "اليهودية".

·   تكلم بها في بيتك "السامرة".

·   وحين تمشي في الطريق "أقصى الأرض".

[تث 6: 7، أع 1: 8].

دستور الشريعة 12-28

1. شرائع العبادة [12-16].

2. شرائع الوظائف [16-18].

[القاضي- الملك- الكاهن- النبي].

3. القانون الجنائي [19، 21].

4. القانون العسكري [20].

5. شرائع متنوعة [21-25].

6. شرائع البكور والعشور [26].

7. طقس البركات واللعنات [27-28].

v   حث على الارتباط بالعهد المقام في موآب وأيضًا في حوريب (29: 1).

v   تهديد كأسرى العهد، مع فتح باب الرجاء بالتوبة.

v   سهولة الوصية (30: 11)، إشارة إلى المسيح الكلمة الذي نزل إلينا.

v   تقديس الله للحرية الإنسانية، من حق الإنسان أن يختار طريقه (30: 15).

 

يُعتبر ملحقًا للعظات:

1. يشوع خليفة موسى [31].

2. نشيد ختامي        [32].

3. البركة للأسباط     [33].

4. نياحة موسى       [34].

"تشدد وتشجع، الرب سائر أمامك، هو يكون معك، لا يهملك ولا يتركك لا تخف ولا ترتعب".              [31: 7-8].

         

 

<<


 

الفصل الأول

 

 

 

 

 

 

 

العظة الأولى

[ص 1- ص 4]

 

 

 


 

الأصحاحات 1-4

ليس شيء يعد الإنسان للنجاح مثل مراجعته للأحداث الماضية والانتفاع بخبرة السابقين. لذلك تحدث موسى النبي مع الجيل الجديد المولود في البرية قبل دخوله إلى أرض الموعد، ليذكرهم بمعاملات الله مع آبائهم، لا لتقديم عرض تاريخي للأحداث، وإنما ليؤكد لهم الآتي:

1. رعاية الله للإنسان، خاصة في برية هذا العالم (1: 31؛ 2: 7).

2. العصيان هو علة حرمان آبائهم من التمتع بأرض الموعد، لذا يحثهم على الطاعة لله.

3. تقديم الشكر لله عوض التذمر والجحود لعطاياه ورعايته.

4. بالوصية والعبادة ننعم بالحياة (ص 4).

بلغ الشعب إلى قادش برنيع على حدود أرض الموعد (1: 9-15)، وإذ تذمر الشعب رافضًا الدخول (1: 16-33) أمرهم الله بالتيه في البرية حتى يموت هذا الجيل (1: 34-40). انطلقت الأسباط نحو الشمال وعبروا أدوم (2: 1-18)، ووصلوا إلى موآب (2: 19-25). وعندئذ صدر الأمر لهم بالسماح للدخول خلال أرض الأموريين، لكن منعهم سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، فسلمهما الله في أيدي شعبه (2: 26، 3: 17). بهذا انطلق موسى بشعبه نحو كنعان ليقف على الحدود، يسلمهم لتلميذه يشوع، أما هو فلم يُسمح له بالدخول إلى أرض الموعد بسبب شكه في وعد الله في مريبة أو لأنه ضرب الصخرة مرتين (3: 18-29، 33-51؛ عد 20: 12).

<<


 

الأصحاح الأول

كما يحمل الإنسان ابنه

افتتح السفر بمقدمة عن عظات موسى النبي الوداعية، حيث يستعرض ظروف الكتابة وتاريخها وموقعها. هي أشبه بمقدمة تاريخية يُقدمها ملك الملوك ليعلن معاملاته مع شعبه في الماضي حين كان الشعب في البرية بلا عون بشري. بهذا يحثهم على قبول العهد الإلهي والتجاوب مع الميثاق القائم بين الله وشعبه.

حَوَت العظة الأولى عرضًا تاريخيًا للرحلة من حوريب حتى الوصول إلى أرض موآب (الأصحاحات 1-3).

في هذا الأصحاح يوضح رعاية الله لشعبه في وسط البرية، ومشاركة الشعب في القرارات مع موسى النبي. فإن كان الله قد اختار موسى قائدًا، في وقتٍ كان فيه الشعب عاجزًا عن أخذ قرار مصيري، فإن الله وهبهم قائدًا محبًا للشعب يود أن يشترك الشعب معه. وقد قابل الشعب هذا كله بالعصيان والجحود وعدم الثقة.

1. مقدمة                                      [1-5].

2. الله يحقق وعده لآبائهم                     [6-8].

3. مشاركة الشعب في تدبير أمورهم          [9-18].

4. التشكك وإرسال الجواسيس                 [19-40].

5. إصرار على العصيان                       [41-46].

1. مقدمة:

في هذه المقدمة يظهر دور موسى الرعوي، فمع شيخوخته، إذ بلغ حوالي 120 عامًا، ومع إدراكه أنه قد تمم رسالته، وكان عليه أن يسلم القيادة لتلميذه يشوع قدم ثلاثة أحاديث طويلة مع جميع الشعب. أنه القائد المعلم المخلص، الذي يتحدث بروح الأبوة الحانية الحازمة. لن يكف عن تعليم شعبه حتى اللحظات الأخيرة من عمره.

لم يستعرض موسى النبي إنجازاته خلال الأربعين عامًا من خدمته؛ وقد كان له الكثير ليتحدث عنه، لكنه استعرض عمل الله معهم، مهتمًا بخلاصهم وأبديتهم. إن كل ما يشغله ليس نجاحه في العمل، بل تمتع شعبه بالله، حتى يقبل الشعب الدخول في عهدٍ مع الله لا مع موسى. أظهر موسى النبي أنه يطلب فعلاً ما هو لبنيانهم ونموهم بإخلاص، وليس ما هو لنفسه.

مع أن الشعب كان على أهبة الدخول في سلسلة لا تنقطع من المعارك مع الأمم التي تسكن في أرض الموعد، لكن موسى لم يتحدث عن الشئون العسكرية، ولا عن تنظيمات خاصة بالحياة الجديدة، إنما كل ما كان يشغله علاقتهم بالله كأساس حيّ لنصرتهم ونموهم في كل جوانب الحياة.

"هذا هو الكلام الذي كلّم به موسى جميع إسرائيل في عبر الأردن في البرية في العربة قبالة سوف بين فاران وتوفل ولابان وحضيروت وذي ذهب" [1].

يظهر اسم موسى 99 مرة في العهد الجديد، تلقي كل مرة منها ضوءً على هذا السفر.

"جميع إسرائيل" نجد هنا واحدة من العبارات المميزة لسفر التثنية "شعب الرب". فإن موسى يكلم الشعب كله، جميع إسرائيل، ويدعوهم للسماع. لا يعني هذا أن موسى تحدث مع الشعب كله مباشرة، فإن هذا غير ممكن عمليًا، لكن يرى اليهود أن موسى تحدث مع شيوخ إسرائيل، وهم تحدثوا مع الشعب. فكثيرًا ما جاء تعبيرا "شيوخ إسرائيل"، "والشعب" متعادلان كما في (حز 12: 3، 21؛ لا 9: 1، 5).

تكرار استخدام تعبير "جميع إسرائيل" [1] في هذا السفر إنما لتأكيد معاملات الله معهم كشعب واحد، لا لأنه من نسل يعقوب وإنما لارتباطهم معًا في وحدة في عهد مع الله. هذا العهد هو عهد الجماعة كلها الذي من خلاله يتمتع كل مؤمن بعلاقات شخصية مع الله، وكأن العهد يُقام معه شخصيًا لكن دون انعزالية أو فردية أو أنانية. فالله يقيم كنيسته عروسًا واحدة، ويقيمنا نحن أعضاء في العروس الواحدة المتحدة بعريسها.

في قوله "عبر الأردن" [1، 5] قاصدًا "شرقي الأردن" لا يعنى بالضرورة أن الكاتب موجود في غرب الأردن حتى يعبِّر عن شرق الأردن هكذا، إنما هو اصطلاح كان جاريًا منذ القديم عن تسمية خاصة بـ "شرقي الأردن"، ولا زال هذا الاصطلاح مستخدمًا حتى عصرنا هذا. وإن كان البعض يرى أن مقدمة السفر ونهايته وضعهما يشوع بن نون أو العازار الكاتب بعد تسجيل عظات موسى النبي.

وردت هذه العبارة 18 مرة في التثنية ويشوع للتعبير عن جانب من الأردن أو الجانب الآخر أو كل دائرة الأردن، وهي تعني في 12 مرة منها الجانب الشرقي وفي الست الأخرى الجانب الغربي. وتضاف بعض التوضيحات أحيانًا لتحدد الجانب المقصود.

حدد الكاتب الموقع الذي فيه قدم موسى النبي عظته بالآتي:

أولاً: "في البرية"، ومعناها العبري الحرفي "مكان السوق" أي مرعى واسع، وهي تطلق على أي مكان غير مأهول، سواء أكان خصيبًا أم مجدبًا. فإننا مادمنا في برية هذا العالم نحن في حاجة إلى كلمة الله. الوصية هي رفيق في الغربة، نقول مع المرتل: "غريب أنا على الأرض، فلا تخفِ عني وصاياك" (مز 119: 19).

v     من يُحب الأرضيات وشهواتها لا يفكر في أن يكون مع المسيح بعد انتقاله، ولا يقدر أن يقول: "غريب أنا على الأرض"، إذ هو مهتم بما للأرض. أما من يقول: "لا تخفِ عني وصاياك" فهو قديس... لذلك يطلب النبي من الله أن يكشف له عظائم وصاياه للحياة السماوية[19].

العلامة أوريجانوس

v     بكونه غريبًا على الأرض صلى (المرتل) إلاَّ تُخفى عنه وصايا الله، حيث يتمتع بالحب كأمرٍ فريدٍ أو رئيسيٍ، الآن يُعلن أنه يشتهي أن يكون له الحب من أجل أحكامه. هذه الشهوة تستحق المديح لا الدينونة[20].

القدِّيس أغسطينوس

ثانيًا: "في العربة" كلمة "عربة" اسم عبري معناه "قفر"، يقصد به هنا المنخفض من البحر الأحمر إلى خليج العقبة والأراضي المشابهة له. والعرب اليوم يسمون هذه المنطقة "العربية". وفي حزقيال (47: 8) قصد به من شمال البحر الميت إلى خليج العقبة، وطوله مائة ميل. ذكر في (يش 11: 2؛ 12: 1؛ عا 6: 14). في وسط مرارة القفر يقدم لنا الله كلمته فنردد: "إن كلماتك حلوة في حلقي، أفضل من العسل والشهد في فمي" (مز 129: 102).

لكلمة الله عذوبة خاصة، أحلى من كل فلسفات العالم ومعرفته وحكمته. شتان بين من يدرس كلمة الله بطريقة عقلانية بشرية جافة، وبين من يأكلها ليغتذي بها، فيجدها طعامًا مشبعًا وحلوًا، أشهى من العسل والشهد. إنها تعطي عذوبة للنفس، فتحول جفاف قلبنا القاسي إلى عذوبة الحب المتسع والمترفق! كأن كلمة الله في عذوبتها تحول المؤمن إلى الحياة العذبة، فيستعذب الآخرون الشركة معه.

v     أحيانًا يكون لعبارات كتابية عذوبة متزايدة في الفم (مز 119: 103) كما قد يكرر المرء عبارة بسيطة (من الكتاب المقدس) في الصلاة عدة مرات دون أن يشبع منها وينتقل منها إلى عبارة أخرى[21].

 مار اسحق أسقف نينوى

v     صارت كلمات الله حلوة لي مثل عسل الشهد، وصرخت من أجل المعرفة، ورفعت صوتي لأجل الحكمة[22].

القدِّيس غريغوريوس النزينزي

ثالثًا: "قبالة سوف". كلمة سوف Cuwp في العبرية معناها "أحمر" فإنها تُشير إلى البحر الأحمر إن ارتبطت بكلمة "يم Yam" أو بحر، كما تعني أيضًا "زوبعة". وإذ لم تُذكر هذه الكلمة هنا، فإنها تعني موضعًا في سهول موآب أو ملاصقًا لها، تُدعى "سوفة". وقد أشار بطليموس إلى شعب يُدعى السوفونيين Sophonites سكن في عربية بترا Arabia Petraea، هذا الشعب غالبًا ما أخذ اسمه عن اسم الموضع "سوف"[23].

أينما رددت كلمة الله تكون قبالة بحر سوف أو قبالة البحر الأحمر، لأن غاية الكلمة هي العبور بنا من أرض العبودية والدخول بنا إلى كنعان السماوية. هذا لن يتحقق بدون مياه المعمودية، حيث نتمتع بالعماد مع السيِّد المسيح، فننال بروحه القدوس روح البنوة لله.

رابعًا: فاران Paran اسم البرية التي على حدود Idumea حيث كان الإسرائيليون معسكرين (عد 10: 12؛ 12: 16) وهي جنوبي الأردن تجاه جبل سيناء. هذه البرية غالبًا ما تكون هي صحراء التيه. وهي عبارة عن مساحة مسطح غير منتظم يمتد من سلسلة جبال التيه من الجنوب إلى حدود الأرض المقدسة، ومن خليج العقبة ووادي العربة في الشرق إلى خليج السويس والبحر المتوسط غربًا.

لبرية فاران ذكريات كثيرة من بينها ارتحل إليها الشعب من حضيروت (عد 12: 16) بعد شفاء مريم أخت هرون من برصها إذ شفع فيها أخوها بالرغم من تذمرها عليه. يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة فاران معناها "الفم المنظور" إشارة إلى "التجسد الإلهي". فإنه بشفاء مريم من برص عدم الإيمان انطلق الموكب إلى فاران، أي إلى الإيمان بالتجسد الإلهي كطريق للعبور إلى السماء، والاستماع إلى كلمة الله المتجسد.

خامسًا: توفل Tophel اسم عبري معناه "كلسي" ربما يكون الموضع الذي يُسمى حاليًا طفيلة Tufailah Tafylah، وهي قرية ضخمة تضم حوالي 600 شخصًا بين Bozrah  وkerak  في الجانب الشرقي لجبال آدوم، تبعد حوالي 14 ميلاً جنوب شرقي البحر الميت. يستخدم الكلس لتغطية الأسوار حتى لا يستطيع العدو أن يتسلقها أثناء المعركة. هكذا تهبنا الكلمة قوة، فلا يقدر العدو أن يتسلل إلينا ويصعد على أسوارنا.

سادسًا: لابان Laban: اسم عبري معناه "الأبيض". يقال لها لبنة Libnah، المحطة الثانية التي عسكر فيها الإسرائيليون عند عودتهم من قادش (عد 33: 20-21)[24]. اللون الأبيض يرمز للنقاوة، فإن غاية الكلمة الإلهية هي التمتع بالطهارة.

سابعًا: حضيروت[25] Hazeroth ربما هي عين خضراء التي تبعد حوالي 36 ميلاً شمال شرقي جبل سيناء. هناك تذمرت مريم وأيضًا هرون على موسى حيث صارت برصاء (عد 12). كلمة "حضيروت" معناها "استقرار"، ويرى العلامة أوريجانوس أن معناها "بناء كامل (مستقر)" أو "تطويب". ويرى البعض أن معناها "ديار" أو حظائر. فإن غاية الوصية هو الاستقرار في حضن الآب.

يفترض أنه الموضع المذكور في (عد 11: 35؛ 12: 16) دخل منه الإسرائيليون إلى برية فاران، ولكن لما كانت بقية المواضع هنا على الجانب الشرقي من العربة لذلك يحتمل أن حضيروت هنا غير تلك المذكورة في سفر العدد، التي يلزم أن تكون بعيدة عن سيناء من جهة الجنوب أو الجنوب الغربي من جبل سيناء، يحتمل تكون عند عين خضراء El-Hudherah. غالبًا ما توجد أماكن كثيرة تحمل اسم حضيروت.

ثامنًا: ذو ذهب. غالبًا غير ذهب التي على خليج العقبة، إذ توجد مناطق كثيرة تسمى "ذهب". معناه "من لديه ذهب". الذهب يُشير إلى السماء، فإن غاية الوصية هو انطلاق القلب إلى السماء حتى يتمتع الإنسان بكليته بالحياة السماوية.

"أحد عشر يومًا من حوريب على طريق جبل سعير إلى قادش برنيع" [2].

في اختصار فإن الموقع الذي فيه قدم موسى عظته الوداعية الأولى، أو قدم وصية الله للجيل الجديد تكشف عن عمل كلمة الله في حياة المؤمن:

v     تُشير "البرية" إلى حاجة الإنسان إلى الوصية كرفيق له في غربته على الأرض.

v     و"العربة" تشير إلى عذوبة الوصية في وسط قفر هذا العالم.

v     و"قبالة سوف" توضح حاجتنا إلى التمتع بمياه المعمودية، كمن يعبر بحر سوف مع شعب الله، منطلقين من أرض العبودية، متجهين نحو كنعان السماوية.

v     و"فاران" تذكرنا بتجسد الكلمة، الذي جاء يتحدث معنا بوصيته فمًا لفمٍ.

v     و"توفل" توضح حاجتنا إلى الوصية كسورٍ مغطى بالكلس، فلا يقدر عدو أن يتسلقه.

v     و"لابان" تؤكد غاية الوصية وهو الدخول إلى النقاوة.

v     و"حضيروت" تعلن لنا عن تمتعنا بالاستقرار الداخلي خلال الطاعة للوصية الإلهية.

v     و"ذو ذهب" ترفع قلوبنا إلى السماء، الأمر الذي لن يتحقق إلاَّ بالوصية كطريق ملوكي إلهي سماوي.

يرى المفسرون اليهود أن البلاد المذكورة هنا تشير إلى المناطق التي أخطأ فيها الشعب بصورة واضحة[26]. وكما سبق فقلنا أن اليهود يتطلعون إلى سفر التثنية كسفر التوبيخ. "The book of reproofs". كأن موسى النبي يعلن عن ضرورة تجديد العهد مع الله في وسط مواقع الخطية، حيث يستطيع الله وحده أن ينتشلنا ويحملنا بذراعيه إلى أرض الموعد، واهبًا إيَّانا وعوده الغنية المشبعة.

إلى يومنا هذا أحيانًا تُحسب المسافات في منطقة الشرق الأوسط حسب الساعات أو الأيام التي يقضيها المسافرون. فرحلة اليوم الواحد على القدمين تبلغ حوالي 20 ميلاً، وعلى الجمال (في الصحراء) 3 أميال في الساعة أو 30 ميلاً في اليوم. وفي القوافل حوالي 25 ميلاً. غير أن الإسرائيليين إذ كانوا ينتقلون بأطفالهم وقطعانهم، ويحملون معهم الكثير من ممتلكاتهم لذلك كانت الرحلة بطيئة عن المعدل العادي. يرى البعض إنها لم تكن تبلغ عشر أميال، بل أحيانًا خمسة.

"حوريب" ومعناها الحرفي "خراب" (قارن إرميا 44: 2)، وهو اسم يطلق على المنطقة حول جبل سيناء حيث ظهر الله لموسى أولاً (خر 3: 1). يميز موسى النبي في رحلة البرية بين حقبتين رئيسيتين: الحقبة الأولى: هي حقبة الجيل القديم المتذمر غير الشاكر وغير المؤمن، امتدت قرابة أربعين عامًا، كانوا في تيه. والحقبة الثانية: هي رحلة الإحدى عشر يومًا.

قادش برنيع: "قادش" معناها "مقدس"، وهناك أماكن كثيرة بهذا الاسم. تقع قادش برنيع في أقصى جنوب اليهودية، وكانت أول محطة لإسرائيل في الرحلة من سيناء، ومن هناك أرسل الجواسيس وإليها عادوا (عد 12: 16، 13: 26) وهي على مسيرة 11 يومًا من جبل موسى (165 ميلاً).

يشير موسى النبي إلى رحلة الإحدى عشر يومًا من جبل سيناء، أو حوريب (6: 19؛ 4: 10، 15) إلى قادش برنيع حيث صار الشعب في مدخل أرض الموعد. لقد قاموا برحلة قرابة أربعين عامًا لم تكن إلاَّ تيهًا بسبب عدم الإيمان، بينما رحلة إحدى عشر يومًا دخلت بهم إلى أبواب أرض الموعد. رحلة الإحدى عشر يومًا مع الإيمان عوّضت فترة قرابة أربعين عامًا من التيه بسبب عدم الإيمان. هكذا يعمل الإيمان في حياتنا ليعوض السنوات التي أكلها الجراد.

الخطية، خاصة عدم الإيمان، تدخل بالإنسان إلى حالة تيه، فلا يعرف الإنسان إلى أين يذهب. إنها تحول الطرق القصيرة إلى تيه لمدة طويلة. أما رحلة الإيمان فتحمل النفس في فترة وجيزة إلى أبواب السماء أو كنعان العليا المفتوحة.

"ففي السنة الأربعين في الشهر الحادي عشر في الأول من الشهر كلّم موسى بني إسرائيل حسب كل ما أوصاه الرب إليهم" [2-3].

كان الحديث في اليوم الأول من الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين، وقد ماتت مريم في الشهر الأول من نفس السنة (33: 38)، وها هو موسى يموت في نفس السنة. وكأن دخول أرض الموعد احتاج إلى قيادات جديدة عِوض مريم وهرون وموسى، إذ كان لابد للتهيئة لاستلام يشوع القيادة، ليتمتع الجيل الجديد بالأرض الجديدة.

ما قد فعله موسى في البرية لم يكن إلاَّ عمل الله معه وبه وفيه، وهكذا قبيل نياحته، ما ينطق به إنما هو كلمات الله التي في فيّه، إذ يقول: "حسب كل ما أوصاه الرب إليهم" [3].

"بعدما ضرب سيحون ملك الأموريين الساكن في حشبون، وعوجٍ ملك باشان الساكن في عشتاروث في أذرعي" [4].

في دراستنا لسفر العدد الأصحاح 21 رأينا أن العلامة أوريجانوس يرى أن كلمة "سيحون" معناها "متشامخ" أو "شجرة عقيمة"، فهو يشير إلى الشيطان المتشامخ الذي بلا ثمر[27]. وإن كلمة "حشبون" معناها "التفكير"، وإن كان البعض يرى أن معناها "حساب". يقول العلامة أوريجانوس: [لماذا تُدعى عاصمة ملك سيحون حشبون؟ لأن حشبون تعني التفكير، وهو الجزء الأكثر أهمية في مملكة الشيطان، هو أساس قدرته[28]].

كانت حشبون عاصمة موآب، استولى عليها سيحون وجعلها عاصمة مملكته. أما باشان فهي على الحدود الشرقية من بحيرة الجليل.

عشتاروت، هي عاصمة عوج تبعد أكثر قليلاً من عشرين ميلاً شرقي بحيرة الجليل. أما أذرعي Edrei فكانت تبعد أقل من 20 ميلاً جنوب شرقي عشتاروت.

كان سيحون يسيطر على الجانب الجنوبي من عبر الأردن، بينما كان عوج يسيطر على الجانب الشمالي منه.

"في عبر الأردن في أرض موآب ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة قائلاً:" [5]

"يشرح هذه الشريعة" يعني أنه لا يود تكرار الشرائع القديمة، إنما يقوم بتفسيرها بما يبني الجيل الجديد الداخل أرض كنعان. وصية الله لا تتغير لكنها تُقدم لكل جيل حسبما يشبعه، حسب احتياجاته وظروفه.

جاءت كلمة "يشرح" في العبرية تعني حرفيًا "يحفر" أو "يدخل إلى أعماقها". وكأن موسى النبي يرى في الشريعة الإلهية منجمًا من الغنى، يحتاج المؤمن أن يحفر المنجم ويدخل إلى الأعماق ليكتشف الغنى ويحمله معه، ليتمتع هو به كما يتمتع به إخوته. يوجد فارق بين إنسان يسمع عن كلمة الله، وإنسان يدخل إلى أعماقها ويقتنيها لنفسه ككنز حقيقي لا يُقدر.

ترد كلمة "الشريعة" في صيغة المفرد وهذا يعني أن ما بالسفر يمثل وحدة كاملة لا تتجزأ قط. وصارت الكلمة اسمًا لكل الأسفار الخمسة (عزرا 7: 6، مت 12: 5)، ثم أُطلقت على كل العهد القديم (يو 10: 34، 15: 25). ورد ذكرها 35 مرة في المزمور 119.

2. الله يُحقق وعده لآبائهم:

إذ حدد تاريخ الحديث والموقع بدأ بالعظة الأولى حيث يفتتحها بالكشف عن شوق الله نحو تحقيق وعده لشعبه.

"الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلاً:

كفاكم قعود في هذا الجبل.

تحوّلوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب

وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات.

انظر قد جعلت أمامكم الأرض.

ادخلوا وتملّكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم واسحق ويعقوب أن

يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم" [6-8].

يُنسب موسى النبي الله لشعبه، إذ قيل: "الرب إلهنا" [6]، "الرب إلهكم" [10]، "الرب إله آبائكم" [11]. فالله إله الكنيسة (5: 6)، وهي كنيسة الله وشعبه الخاص به. العلاقات بين العريس السماوي وعروسه شخصية!

إن كان الشعب يشتاق إلى دخول أرض الموعد والتمتع بخيراتها، فإن الله يشتاق بالأكثر أن يحقق وعوده معنا. أنه يحثنا للتحرك لكي ننطلق في طريقه لندخل أبواب السماء المفتوحة، ونفتح أفواهنا فيملأها، ونبسط أيدينا لنتسلم بركاته.

الأموريون والكنعانيون: كانت فلسطين معروفة منذ زمن قديم باسم أرض كنعان وسكانها بالكنعانيين (تك 10: 19، 12: 6). أما الأموريون فقد ورد ذكرهم في الآثار التي ترجع إلى 30 قرنًا ق.م، وقد تسللوا إلى كنعان. وقد استخدم اسم "الأموريين" للإشارة إلى كل سكان كنعان وذلك بكونهم أقوى دولة كانت هناك.

حقًا لم يدخل موسى النبي أرض الموعد، ومع هذا فقد قدم حدودًا لها لشعبه، وهي:

·        العربة هي وادي نهر الأردن من بحيرة الجليل إلى منطقة جنوب البحر الميت.

·        جبل الأموريين في الجنوب تجاه البحر الميت. الجنوب (نجب) Negev، وهي منطقة شمال سيناء، وجنوب جبل الأموريين.

·        أرض الكنعانيين، أي فينيقية، حيث مدينة صيدا وساحل البحر الأبيض المتوسط تجاه الغرب.

·        لبنان من الشمال.

·        النهر الكبير أو نهر الفرات تجاه الشرق.

تحقق ذلك حرفيًا في أيام سليمان الملك (1 مل 4: 21)، فتم وعد الله لإبراهيم واسحق ويعقوب وبنيه وارثي الوعد (تك 12: 7؛ 15: 18؛ 26: 3-4، 13: 15). وثبت هذا الوعد لموسى النبي عند العليقة الملتهبة (خر 3: 8، 17).

"كفاكم قعود في هذا الجبل" [6]

لقد سبق فوهبهم الشريعة، ورعاهم في كل طريق البرية، وقادهم بنفسه نهارًا وليلاً، والآن يصدر أمرًا بالتحرك للاستعداد للدخول إلى أرض الموعد. إنه يُطالبنا الله أن نتحرك في الوقت المناسب، فهو يعرف متى يجب أن نستريح ومتى يلزمنا أن نتحرك. إنه يدعونا للخروج لكي ننطلق نحو جبال الأبدية، فنجد لنا موضعًا في أحضانه.

لقد عاش إسرائيل قرابة 40 عامًا في تيه وسط البرية، لكن علة التأخير هو الإنسان المتباطئ والعاصي غير المستعد للدخول، أما من جانب الله فهو من البداية يكاد يمسك بأيدينا ويسحبنا لننطلق معه نحو أرض الموعد، إذ يحثنا قائلاً: "كفاكم قعود في هذا الجبل؛ تحوّلوا وارتحلوا... ادخلوا وتملكوا الأرض" [7، 9]. أنه يود أن يسرع بنا فيحملنا كالابن في حضن أبيه لينطلق بنا (1: 31)، لكي نملك (1: 21، رؤ  3(.

"جعلت الأرض أمامكم" [8]

بينما كان الله يهيئ الشعب للدخول إلى أرض الموعد لمدة قرابة أربعين عامًا في البرية، كان يعد لهم الأرض لتي يرثوها لتصير أمامهم سهلة وواضحة. هكذا يعد الله قلوبنا في رحلة هذا العالم لتكون كنعان السماوية أمام عيوننا. هذه التي قال عنها: "أنا أمضي لأعد لكم مكانًا" (يو 14: 1).

"اقسم الرب لآبائكم": تكرّرت الإشارة إلى الوعد الذي تثبت للآباء بقسم (تك 22: 16). يذكّر موسى دائمًا الشعب بأن محبة الله لم تُقدّم لهم لاستحقاق فيهم (7: 7، 9: 4)، بل بناء على نعمة الله الخالصة ووعوده الأولى. أما عناصر هذا الوعد التي هي كثرة النسل وامتلاك الأرض المقدسة ونوال البركة الشاملة فتتكرر كلها هنا.

3. مشاركة الشعب في تدبير أمورهم:

عجيبة هي شخصية موسى النبي، فقد بدأ عظته أولاً بالكشف عن حنو الله نحو شعبه، وتلى ذلك الحديث عن ضعفه الشخصي، حيث لم يحتمل أن يحمل أثقال الشعب.

"وكلّمتكم في ذلك الوقت قائلاً:

لا أقدر وحدي أن أحملكم.

الرب إلهكم قد كثّركم.

وهوذا اليوم كنجوم السماء في الكثرة

الرب إله آبائكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة ويبارككم كما كلمكم.

كيف أحمل وحدي ثقلكم وحملكم وخصومتكم؟

هاتوا من أسباطكم رجالاً حكماء وعقلاء ومعروفين فأجعلهم رؤوسكم" [9-13].

لم يشر موسى النبي إلى أن هذا الأمر كان من اقتراح حميه يثرون (خر 18: 13-26)، إنما ذكر أنه طلب تعيين 70 شيخًا لمساندته في حمل أثقال الشعب. صاروا فيما بعد مجمع السنهدرين الذي عِوض أن يحمل مع موسى أثقال الشعب ويدخل بهم إلى المسيا المخلص حكموا على السيِّد المسيح بالموت، وقاوموا ناموس موسى في روحه تحت ستار الدفاع عنه والمحافظة على حَرفِه.

غاية موسى كممثل للناموس أن يقود المؤمنين إلى المسيح، لكي يختبر الكل عذوبة الحياة الإنجيلية ويتمتعوا بعربون السماء، وكان يليق بمجمع السنهدرين أن يحمل ذات الروح. هكذا غاية كل كاهن هي الكرازة بكلمة الله، والدخول بكل نفسٍ إلى خبرة الحياة الجديدة المُقامة. ويليق بالشمامسة – الذين يمثلون مجمع السنهدرين بالنسبة لموسى– أن يحملوا ذات الخط وهم يخدمون الموائد، كما فعل السبعة شمامسة المختارون في أيام الرسل (أع 6)، وكما وضَحْ من خطاب رئيس الشمامسة إستفانوس (أع 7).

سجّل لنا موسى النبي اختيار السبعين شيخًا كمُعِينين له ربما كأحد أخطائه، إذ شعر بعجزه عن حمل الثقل غير مدرك أن الله هو الحامل لهذا الثقل. ويرى البعض أنه قد سجّل ذلك لكي يكشف لشعبه أنه لم يكن يرغب في الانفراد بالقيادة، بل طلب له شركاء في العمل، وأعطى الشعب حق اختيار القادة [13].

كقائدٍ حقيقيٍ تطلع موسى النبي إلى الحكم أو العظمة كثقل يلتزم أن يحمله على كتفيه، وبنظرة ثاقبة طلب العون، وسأل عن أشخاصٍ أكفّاءٍ قادرين على مشاركته في احتمال هذا الثقل. لم يكن موسى النبي كقائدٍ للشعب يطمع في ممارسة حكم الفرد، مع أنه كان يستحق هذه الكرامة، وقام بأعمال لا يستطيع آخر أن يقوم بها، لكنه طلب من يسنده في الحكم، ويشاركه المسئولية والكرامة.

في سفر الخروج نرى موسى العظيم في الأنبياء لا يحتقر مشورة إنسان وثني، إذ "سمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال" (خر 18: 24). موسى الذي من أجل حبه لله ولشعبه ازدرى بالبلاط الملكي بكل إمكانياته (عب 11: 24، 26)، ينصت بروح التواضع لصوت يثرون ويسمع له. يعلق على ذلك القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان موسى قد تعلم من حميه أمورًا لائقة لم يكن يدركها، فكم بالأكثر يحدث هذا داخل الكنيسة (أي نستفيد من الآخرين)؟... كيف حدث هذا أن غير المؤمن أدرك أمورًا لم يدركها الشخص الروحي؟[29]].

"كنجوم السماء في الكثرة" [10].

لقد تحقق وعد الله لإبراهيم (تك 15: 5-6). ربما يتساءل البعض أن الكواكب التي ترى بالتلسكوب يبلغ عددها أكثر من 75 مليونًا، فهل كان الشعب الداخل إلى أرض كنعان يُعادل هذا الرقم؟ للإجابة على ذلك نقول إن الله حين وعد إبراهيم بذلك طلب منه أن يخرج ليرى السماء بعينيه لا بتلسكوب، والعين غالبًا ما ترى حوالي 3000 كوكبًا. ونحن نرى في التعداد الثاني 603000 رجل حرب إسرائيلي، لذا تحقق الوعد بأكثر مما كان يتخيل إبراهيم نفسه.

يقول: "أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة" [10] ولم يقل: "كرمل البحر"، فإنه يراهم ككواكب بهية تتمتع بالمجد السماوي، لذا حسبهم كنجوم السماء.

في رعايته يبارك شعبه ويبقى يزيدهم بركة بلا انقطاع (1: 10-11). في مصر تزايد الشعب جدًا خلال حوالي 250 عامًا، فكان ذلك موضع حسد فرعون وخوفه (خر 1: 9). الآن تزايد العدد جدًا خلال حوالي 40 عامًا، وكان ذلك موضع سرور موسى طالبًا لهم البركة ألف مرة.

"هاتوا من أسباطكم رجالاً حكماء وعقلاء ومعروفين فأجعلهم رؤوسكم.

فأجبتموني وقلتم حسن الأمر الذي تكلمت به أن يُعمل.

فأخذت رؤوس أسباطكم رجالاً حكماء ومعروفين وجعلتهم رؤوسًا عليكم رؤساء

ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات وعرفاء لأسباطكم" [13-15].

العرفاء: العرفاء هم الأشخاص الذين يقومون بالإشراف على التنفيذ العملي لما يصدره الرؤساء أو القضاة أو غيرهم من القادة. قبل الخروج مباشرة كان هؤلاء العرفاء مدبرين يعملون تحت المسخّرين المصريين لحساب عدّ الطوب (خر 5: 6)، وأما الآن فيعملون رؤساء ألوف ومئات وعشرات، لا تحت العبودية بل للعدالة والنصرة (16: 18، 20: 5، 5: 8-9 ، 29: 10، 20: 28).

سألهم أن يختاروا من بينهم من يقوم بدور القيادة وتحمل المسئولية، وقد اشترط فيهم:

أ. أن يكونوا حكماءchalsaamiym ، يقصد بهم الذين نالوا قسطًا وافرًا من المعرفة خلال الاجتهاد والدراسة.

ب. عقلاء Uwnboniym، يُقصد بهم الذين لهم روح التمييز، ويمكن أن يمارسوا القضاء بعدلٍ.

ج. معروفون wiydu’ium، يقصد بهم الذين لهم خبرة عملية واثبتوا أنهم قادرون على القيام بأعمال عظيمة.

لم يشترط موسى النبي في القادة أن يكونوا ذوي كرامة زمنية أو غنى، بل حكماء وعقلاء ومختبرين. بنفس الروح طلب الرب من الشعب أن يختاروا خدامًا (شمامسة) أكفّاء، حكماء ومملوءين من الروح لخدمة الفقراء (أع 6: 3-6).

"وأمرت قضاتكم في ذلك الوقت قائلاً:

اسمعوا بين إخوتكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله" [16].

في نظام إسرائيل القبلي كان عندهم أربع طبقات من الناس:

"نسل الآباء" ومنهم الشيوخ والرؤساء.

"النزلاء" وهم الذين قبلوهم من الأمم الأخرى للسكن معهم.

"المستوطنون" (لا 25: 35) وهم من الشعوب المهزومة.

"العبيد" وهم الذين اشتروهم بالمال أو ولدوا في البيت.

وكان هناك أيضًا "الأجنبي" الذي يسكن بينهم مؤقتًا للتجارة أو لأغراض أخرى (17: 15).

كان ينبغي معاملة النزيل كأخ، كما يجب أن يلقى نفس المعاملة أي شخص يمكن أن يتعرض لاضطهاد. وهذه من خصائص سفر التثنية التي لا نجدها في شرائع مصر وبابل وقتئذ (شرح 10: 18-19).

"لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء.

للصغير كالكبير تسمعون.

لا تهابوا وجه إنسان، لأن القضاء لله.

والأمر الذي يعسر عليكم تقدمونه إليّ لأسمعه.

وأمرتكم في ذلك الوقت بكل الأمور التي تعملونها" [17-18].

إن كان الله في حبه للإنسان يحثه على قبول وعوده له كي يتمتع بها، فإن موسى النبي كخادم لله يحترم إرادة الشعب. في محبته لهم كان يود أن يحمل بنفسه ولوحده كل أثقالهم، لكن أمام تزايد عددهم شعر بالعجز الشديد. أنه يفرح لتزايد عددهم مشتاقًا أن يتزايدوا ألف مرة، ليس فقط من جهة العدد، وإنما أن ينموا في المجد، لذا دعاهم "كنجوم السماء" [10].

قدم موسى النبي للرجال المختارين دستورًا للعمل يتلخص في الآتي:

أ. أن يكونوا محبين للاستماع [16]، فلا يحكموا بتسرعٍ دون الإنصات إلى كل الأطراف، بل ينصتوا بكل طول أناة وبدقة. يقول إشعياء النبي: "السيِّد الرب فتح لي أذنًا وأنا لم أُعاند" (إش 50: 5)

ب. أن يكونوا عادلين في القضاء، لا يحابوا الوجوه [17]، يحكموا بين بني جنسهم والغرباء بالعدل.

ج. لا يهابوا إنسانًا، كقضاة الله يحكموا في شجاعة، فإن الله يحميهم وينقذهم، وإلاَّ فإنه سيحكم هو عليهم ويدينهم.

د. لا يخجلوا من الاعتراف بالعجز متى كان الأمر متعسرًا عليهم، فإنه يجب عليهم تقديمه لموسى النبي شخصيًا [18].

هـ. أن يراعوا النظام بدقة، فإن القضاء يتم بالترتيب التالي:

·        الله، هو الملك، والقاضي الأعظم.

·        موسى هو رجل الله، ووكيله.

·        الكهنة، يستشيرون الله بواسطة الأوريم والتميم.

·        رؤساء القبائل أو الأمراء.

·        رؤساء ألوف Chiliarchs .

·        رؤساء مئات Centurions .

·        رؤساء خمسين Tribunes .

·        رؤساء عشرات Decurions .

·        عرفاء  Officers، وهم الأشخاص الذين يعينون للتنفيذ فقط.

هكذا يخضع الكل لله أولاً الذي منه أخذ الكل سلطانهم، وأمامه يدانون، ويخضع كل واحدٍ لمن هو في رتبة أعلى منه.

من جانب موسى النبي نفسه فقد أعلن عجزه عن أن يحمل أثقال شعب الله وحده، لذا أقام منهم قادة للحرب ولتدبير شئون الأسباط وللقضاء (1: 9-17)، دون أن ينسحب من مسئوليته، خاصة في الأمور العسيرة (1: 17). أما من جانب الشعب نفسه فقد قابل محبة الله واهتمام موسى بالتشكك والتذمر.

4. التشكك وإرسال الجواسيس:

يرى البعض أن موسى أخطأ إذ طلب لجنة شيوخ تسنده في العمل القيادي، لأنه شعر بثقل الحِمل؛ وأخطأ الشعب إذ طلب لنفسه لجنة جواسيس تتكشف الأرض التي أمرهم الرب أن يدخلوها ويتملكوها[30].

خطأ الشعب يختلف عن خطأ موسى، إذ كان تصرف الشعب يحمل عدم إيمان، لذلك عاد عشرة جواسيس يتحدثون عن العمالقة الجبابرة الذين يسكنون كنعان، بينما عاد يشوع وكالب يقدمون من خيرات الأرض. العشرة ركزوا أنظارهم على العمالقة المقاومين، والاثنان ركَّزا نظرهما ووضعا قلبيهما في صدق مواعيده الإلهية.

ضعف الإيمان أو عدم الإيمان يسحب أعماقنا إلى الخوف والاضطراب من الشيطان والخطية والعالم، أما الإيمان فيسحب قلب الإنسان وكل طاقاته الداخلية نحو مواعيد الله، واثقًا في إمكانية تحقيقها، حاسبًا كل مقاومة تزيده إيمانًا ومجدًا.

يلوم النبي الشعب لأنهم طلبوا إرسال جواسيس قبل دخول أرض كنعان، الأمر الذي لم يُذكر في سفر العدد. لم يثقوا في وعد الله، بل طلبوا تقرير البشر، وعوض أن تتقدمهم الشمس لتضيء لهم طلبوا إيقاد شموع الجواسيس.

"ثم ارتحلنا من حوريب،

وسكنّا كل ذلك القفر العظيم المخوف الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين كما أمرنا الرب إلهنا.

وجئنا إلى قادش برنيع" [19].

أوضح النبي كيف كانت الرحلة خطيرة: "وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف" [19]. فإن تذكرنا للمخاطر التي كانت تُحيط بنا تدفعنا إلى تقديم الشكر لله الذي قادنا وسط الخطر.

يدخل بنا الله إلى القفر العظيم المخوف، فهو ليس فقط قفرًا لكنه أيضًا عظيم ومخوف. ندخل فيه فنتعلم الحرب الروحية ونتمتع بالقداسة (قادش). أنه طريق الصليب الضيق الذي به نعبر من القفر إلى جنة الرب المملوءة ثمارًا.

في هذا القفر ندخل في حرب ليس ضد لحم ودم بل ضد الرئاسات والقوات وولاة ظلمة هذا العالم (أف 6). نُحارب مع الرسول بولس وحوشًا في أفسس، قائلين مع السيِّد المسيح إنها ساعة قوات الظلمة. لن نكف عن الحرب سبعة أيام في الأسبوع.

"فقلت لكم قد جئتم إلى جبل الأموريين الذي أعطانا الرب إلهنا.

انظر. قد جعل الرب إلهك الأرض أمامك.

اصعد تملك كما كلّمك الرب إله آبائك.

لا تخف ولا ترتعب" [20-21].

والكلمة العبرية "يرث" المترجمة "تملّك" تعني الدخول لامتلاك الأرض مكان ساكن آخر إما بالفتح أو بالوراثة. وترد أكثر من 52 مرة في التثنية حتى في الجزء الخاص بالفرائض (مثلاً 19: 2، 14؛ 23: 20). وقد ترجمت نفس الكلمة الأصلية "يرث" بكلمة "يمتلك" (في 2: 31، 26: 20).

"اصعد تملك كما كلمك الرب إله آبائك، لا تخف ولا ترتعب" [21].

·        يطالب الله كل نفس أن تمارس حقوقها في ثلاثة أمور رئيسية وهي: الصعود، والتملك، وعدم الخوف. إننا مدعوون للصعود الدائم، فمن لا يصعد ينحدر ويسقط. بمعنى آخر ما لم يصعد الإنسان مع مسيحه إلى سمواته متمتعًا بروح النصرة، ينحدر مع إبليس في جحيمه.

·        "تملك": من يصعد على الدوام يتمتع بمركز "الملوكية"، فيحسبه ملك الملوك "ملكًا" صاحب سلطان.

·        "لا تخف ولا ترتعب": المسيحي ملك وقائد، إن اِنهار بالخوف والرعدة يفقد مركزه كابن لله. ليس من سمة المؤمن الخوف، بل الثقة واليقين في الآب السماوي.

بينما دعاهم الله للصعود والملوكية وعدم الخوف كان موقفهم مختلفًا تمامًا، إذ طلبوا أن يتحسسوا الأرض التي وُعد بها آباؤهم. عوض الصعود ليصيروا ملوكًا أرادوا أن يكونوا جواسيس، وعِوض الاعتزاز بالسلطان الملوكي الموهوب لهم، وعِوض الثقة واليقين في الله خافوا وارتعبوا. يا له من موقف مؤلم كثيرًا ما نسقط فيه!

"فتقدَّمتم إليَّ جميعكم وقلتم:

دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسَّسوا لنا الأرض ويردُّوا إلينا خبرًا

عن الطريق التي نصعد فيها والمدن التي نأتي إليها.

فحسن الكلام لديّ فأخذت منكم إثنى عشر رجلاً.

رجلاً واحدًا من كل سبط.

 فانصرفوا وصعدوا إلى الجبل وأتوا إلى وادي أشكول وتجسَّسوه.

وأخذوا في أيديهم من أثمار الأرض ونزلوا به إلينا وردّوا لنا خبرًا وقالوا:

جيدة هي الأرض التي أعطانا الرب إلهنا.

لكنكم لم تشاءوا أن تصعدوا وعصيتم قول الرب إلهكم" [22-26].

يطلب منهم أن يتمتعوا بالكمال ما قد نالوا عربونه خلال الجاسوسين. فقد جاء الجاسوسان كشاهدين عيان لما تتمتع به الأرض من خيرات، لكنهم لم يبالوا بكلمات كالب وتجاهلوا شهادة يشوع. جاء كالب ويشوع يقدمان لهم مما رأيا وذاقا واختبرا.

احتاج رجال العهد القديم إلى جواسيس لكي يذوقوا عربون خيرات أرض الموعد، أما رجال العهد الجديد فتمتعوا بكلمة الله المتجسد الذي يحملهم فيه، أعضاء جسده، فينالوا عربون السماء. بهذا دخل بالمؤمنين إلى الحياة السماوية كي يقدموا حياتهم شهادة حية عملية إذ ذاقوا فيه عذوبة الخيرات العتيدة، هم تعليم متجسم لما يكرزوا به. حياتهم تتكلم، وسلوكهم يشهد لما يخبروا به.

سمع الشعب عن أرض الموعد إنها تفيض لبنًا وعسلاً، لكنهم كانوا في حاجة إلى قادة يتمتعون لا بالمعرفة النظرية المجردة، بل المعرفة المؤيدة بالرؤية والخبرة. ذهب الاثنا عشر جاسوسًا إلى أرض الموعد، وأصبحت المعلومات كاملة بين أيديهم عن خصوبة الأرض وإمكانياتها وحصون المدن وضخامة العدو من جهة العدد والجسم والخبرة العسكرية، لكنهم انقسموا إلى فريقين. فريق رأى المعلومات data بمنظار بشري بحت، فتحطمت نفوسهم وحطموا نفوس الشعب، وفريق رأى المعلومات بمنظار إيماني إلهي فالتهب قلب الفريق بالشوق نحو العبور. وإلى اليوم تحتاج الكنيسة إلى قادة يحولون المعرفة إلى خبرة عملية، ويرونها بمنظار إلهي حق، حتى يستطيعوا أن يعبروا مع المخدومين إلى الوعود الإلهية السماوية.

"وتمرمرتم في خيامكم

وقلتم الرب بسبب بغضته لنا قد أخرجنا من أرض مصر ليدفعنا إلى أيدي الأموريين لكي يهلكنا.

إلى أين نحن صاعدون؟

قد أذاب إخوتنا قلوبنا قائلين: شعب أعظم وأطول منّا.

مدن عظيمة محصّنة إلى السماء وأيضًا قد رأينا بني عناق هناك" [27-28].

الدفاع الأول لأية مدينة قديمة هي أسوارها، فإن اخترق العدو السور تسقط المدينة بسهولة في يديه. (2 مل 25: 4).

عرفت أسوار أريحا بقوتها، لذا قيل عنها إنها ترتفع إلى السماء [28]. جاء في الحفريات أن أسوارها مزدوجة تحيط بالمدينة من كل جانب. يبلغ ارتفاع السور أكثر من 40 قدمًا وعرضه حوالي 66 قدمًا. من أسفل السور من الحجارة ومن أعلى من الطوب، مغطاة بكلسٍ ناعمٍ جدًا حتى يستحيل تسلقه أثناء الهجوم. يرى البعض أن انهيار الأسوار كان بتدبير إلهي عن طريق هزة أرضية قوية حطمته.

"فقلت لكم لا ترهبوا ولا تخافوا منهم.

الرب إلهكم السائر أمامكم هو يُحارب عنكم حسب كل ما فعل معكم في مصر أمام أعينكم.

وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق

التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان" [29-31].

رغم تقرير الجواسيس عن خصوبة الأرض [25] التي يُقدمها الرب لهم، إذا بهم في رعب وخوف [26-29]، لا يثقون في الرب المحارب عنهم. الطريق صعب، هو طريق حرب مستمرة (ضد عدو الخير)، لكنها هي حرب الرب نفسه، يسير أمامنا ليواجه المعركة ويحارب عنا (1: 30). نحن لسنا طرفًا في الحرب الروحية ضد الشر. لقد أكد لهم أن الله ساكن في وسطهم، يتقدمهم في الطريق كقائد لهم ومرشدٍ، وهو الذي يقضي ويحكم، وأيضًا هو الذي يُحارب عنهم.

جاءت كلمة "الرب" في ترجوم Onkelos "كلمة الرب... تحارب عنكم" [30]، هي نفس الكلمة التي استخدمها القدِّيس يوحنا عن السيِّد المسيح بكونه "اللوغوس"[31]. (تث 1: 30)

أظهر لهم عمل الله معهم، فوهبهم النصرة بذراع قوية عند خروجهم من مصر، وقدم لهم كل حنو حقيقي في البرية. فإنه لا يوجد أي مجال للشك في حنو الله الذي حملهم على ذراعيه كما يحمل الأب ابنه. لقد سبق فاشتكى موسى بأن الله قد عهد إليه أن يحمل هذا الشعب كأب يحمل رضيعًا (عد 11: 12).

وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل

الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها حتى جئتم

إلى هذا المكان" [31].

في أكثر من موقف يعلن الله أبوته الحانية وعنايته الفائقة للإنسان، فقد حمل شعبه كما على جناحي نسر، لا لينطلق بهم إلى أرض الموعد، بل إليه، ليجدوا في الله نفسه أرض موعد فريدة.

وهنا يعلن ذاته كأب يترفق بابنه فيحمله على ذراعيه، لا إلى حين، بل "في كل الطريق". فيشعر المؤمن أنه محمول على الأذرع الأبدية.

لاحظ الاتهامات التي وجهها النبي ضدهم:

1. العصيان والتمرد ضد شريعة الله [26]، وهو تمرد على سلطة الله.

2. أساءوا إلى صلاح الله، فحسبوا خروجهم من أرض العبودية للتمتع بأرض الموعد علامة بغضة الله لهم.

3. يحملون قلبًا غير مؤمن، إذ لم يؤمنوا أن الرب هو إلههم [32]. وهذا هو مركز الشر. فالعصيان على شريعة الله، وعدم الثقة في قوته وصلاحه ينبع عن عدم الإيمان بكلمته.

"ولكن في هذا الأمر لستم واثقين بالرب إلهكم.

السائر أمامكم في الطريق ليلتمس لكم مكانًا لنزولكم في نارٍ

ليلاً ليريكم الطريق التي تسيرون فيها وفي سحاب نهارًا" [32-33].     

ما الذي حرم آباءهم من دخول أرض الموعد؟ عدم الإيمان. كل خطية يسهل تقديم العلاج لها، لكن الذي يفقد الإنسان أبديته هو عدم الإيمان! في الطريق لن يعوزنا شيء، يصير كنار تُضيء بالليل حتى لا نتعثر، وكسحاب في النهار كي لا نتوقف (1: 33).

"وسمع الرب صوت كلامكم فسخط وأقسم قائلاً:

 لن يرى إنسان من هؤلاء الناس من هذا الجيل الشرير الأرض الجيدة التي أقسمت

أن أعطيها لآبائكم.

ما عدا كالب بن يفنة هو يراها،

وله أعطى الأرض التي وطئها ولبنيه،

لأنه قد اتبع الرب تمامًا.

وعليَّ أيضًا غضب الرب بسببكم قائلاً:

وأنت أيضًا لا تدخل إلى هناك.

يشوع بن نون الواقف أمامك هو يدخل إلى هناك.

شدده لأنه هو يقسمها لإسرائيل.

أما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة وبنوكم الذين لم يعرفوا اليوم

الخير والشر فهم يدخلون إلى هناك،

ولهم أعطيها وهم يملكونها.

وأما أنتم فتحولوا وارتحلوا إلى البرية على طريق بحر سوف" [34-40].

عدم إيمانهم أساء إلى موسى نفسه، فحُرِم معهم من دخول أرض الموعد. هنا يلزمنا أن نشير إلى ما حدث عند ماء مارة (قادش) حيث قال الرب أن موسى وهرون لم يكرماه (عد 20: 12)، لكن صلاح الله حوّل حتى هذا الغضب الإلهي للخير، فعِوض حرمان موسى من الدخول بالشعب إلى أرض الموعد يقوم يشوع بذلك. وما عجز عنه الناموس يقدمه يسوع "يشوعنا" الذي يدخل بنا إلى كنعان السماوية. لقد أغلق الباب على الجيل القديم لكن نعمة الله فتحته للجيل الجديد.

نحتاج أن نستعرض حياتنا في الماضي القريب وأيضًا البعيد فنكتشف حب الله الفائق لنا ونعمته الفياضة ورعايته الفريدة واهتمامه الخاص بنا. هذا كله يسندنا ويدفعنا إلى الثقة في وعود الله، وقبول الدخول إلى كنعان السماوية وممارسة عربون الأبدية بقيادة يسوع المسيح.

الله يؤدب المتذمرين فاقدي الثقة بحرمانهم من أرض الموعد، لكنه لا يحرم أولادهم (1: 39).

5. إصرار على العصيان:

"فأجبتم وقلتم لي قد أخطأنا إلى الرب،

نحن نصعد ونحارب حسب كل ما أمرنا الرب إلهنا،

وتنطقتم كل واحد بعدة حربه،

واستخففتم الصعود إلى الجبل.

فقال الرب لي:

 قل لهم لا تصعدوا ولا تحاربوا لأني لست في وسطكم لئلاَّ تنكسروا أمام أعدائكم.

فكلمتكم ولم تسمعوا بل عصيتم قول الرب وطغيتم وصعدتم إلى الجبل.

فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما يفعل النحل،

وكسروكم في سعير إلى حرمة.

رجعتم وبكيتم أمام الرب ولم يسمع الرب لصوتكم ولا أصغي إليكم.

وقعدتم في قادش أيامًا كثيرة كالأيام التي قعدتم فيها" [41-46].

حين طلب الله منهم الصعود للحرب خافوا ورفضوا، وعندما أعلن غضبه عليهم وطلب إلاَّ يصعدوا لم يسمعوا وصعدوا. لم يكن الإيمان هو قائدهم، بل إرادتهم الخاصة، لذا في انسحابهم من الصعود كما في صعودهم للحرب كشفوا عن عصيانهم.

الخطية تجعل الإنسان عنيدًا مع الله محبوبه، حين طلب الله منهم أن يصعدوا ليحاربوا ويملكوا رفضوا (تث 1: 26)، وحين طلب منهم ألاَّ يصعدوا ولا يحاربوا فإنه لم يعد في وسطهم [42] مؤكدًا لهم إنهم سينهزمون. لم يسمعوا له بل صعدوا في تهوّرٍ وغباوة وعجرفة.

والعجيب أنه حتى حين أدبهم بسبب عصيانهم إذ لم يعد في وسطهم [42] لم يرد لهم أن ينكسروا أمام أعدائهم، فطلب ألاَّ يصعدوا ويحاربوا حتى يقدموا توبة فيعود ويسكن في وسطهم ويهبهم النصرة.

لم يحزنوا لأنهم عصوا الرب، ولا لكي يعودوا فيخضعوا لإرادته، وإنما لما حلّ بهم من هزيمة. لقد بكى الشعب أمام الرب، لكنها كانت دموع التماسيح التي قُدمت لا للتوبة الصادقة والرجوع إلى الله ليسلكوا بروح الإيمان، وإنما عادوا إليه لأجل ما حلّ بهم من خسارةٍ وعارٍ. لم تكن تشغلهم علاقتهم بالله، بل ما يصيبهم. بكوا، لكن لا بدموع التوبة والرغبة في الرجوع إلى الله باتضاع، وإنما دموع تحمل الكبرياء والتشامخ كيف ينظر الكل إليهم كفاشلين.

يقول الرسول بولس عن الحزن الحقيقي: "لأنكم حزنتم للتوبة، لأنكم حزنتم بحسب مشيئة الله". كم أنشأ فيكم من الاجتهاد" (2 كو 7: 10-11).

ذكر هنا أن الأموريين هم الذين طردوهم [44] بينما جاء في سفر العدد: "فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم إلى حرمة" (عد 14: 45)، فقد استعار هنا اسم "الأموريين" بكونهم أعظم دولة قوية في كنعان في ذلك الحين ليُشير بهم إلى كل الكنعانيين بصفة عامة، وذلك كما جاء في (تث 1: 7)[32].


 

من وحي تثنية 1

قدنا في رحلة غربتنا

v     في حوريب قلت لشعبك:

كفاكم قعود في هذا الجبل.

لتقل كلمة فتنطلق نفوسنا نحو كنعان السماوية.

ولا نسير حول جبال العالم في تيه.

v     لم تجعل الأرض أمامنا كما فعلت مع بني إسرائيل،

بل فتحت أبواب السماء لندخل فيها،

وقدمت لنا حضن الآب لنستقر فيه!

ليحملنا روحك القدوس فتستقر نفوسنا!

v     لم يقدر موسى أن يحتمل وحده أثقال الشعب.

أنت حملت خطاياي وشروري.

انطلقت بي من القفر العظيم المخوف،

ودخلت بي إلى المقادس السماوية (قادش).

v     أمرتني: اصعد – اُملك – لا تخف!

بك اِصعد إذ صيرتني سماويًا.

بك أملك فإني ملك.

لا أخف لأني ابنك!

v     رفض الشعب القديم شمس مشورتك،

وبعثوا بشموع الجواسيس.

استهانوا بوعدك وحكمتك.

عصوك ورفضوا بقلوبهم أرض الموعد.

هب لي روح الطاعة يا أيها الابن العجيب في طاعته.

v     أتطلع إلى الماضي فأراك تحمل آبائي على ذراعيك،

أَشبعتهم من دسم حبك،

وقدمت لهم وعودك الصادقة.

v     أخطأوا إليك،

ولم يصدقوا وعودك الأمينة.

وبحبك حملتهم كما يحمل الأب ابنه.

لتحملني ولترفع عني روح العصيان.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثاني

الإفراز في التعامل مع الغير

في الأصحاح الأول عرض موسى النبي بعض أخطاء الشعب، وما اجتنوه كثمر للعصيان. الآن وقد صاروا على أبواب الدخول إلى أرض كنعان، إذ فيهم يتحقق الوعد الإلهي الذي قُدم لأبيهم إبراهيم وتثبت عبر الأجيال، على أن يلتزم الشعب بأن يتمتع بروح التمييز أو الإفراز في سلوكهم وتعاملهم مع الأمم.

إن كان الله في حبه لشعبه يسكن في وسطهم ويقدم لهم أرض الموعد، محاربًا عنهم ضد أممٍ كثيرةٍ، لكنه أراد أن يسلكوا حسب خطته، بتدبير وحكمة. فطلب منهم إلاَّ يهاجموا بني عيسو (2: 1-8)، بكونهم إخوتهم (عيسو ويعقوب أخوان) الذين سبق أن نالوا وعدًا بأخذ جبل سعير ميراثًا (تك 36: 8). كما طالبهم ألاَّ يثيروا حربًا ضد موآب وعمون (2: 9، 18) لأنهم أبناء لوط. إنما يحاربون سيحون ملك الأموريين (2: 24) الذي يقسِّي قلبه ولا يدعهم يمرون بأرضه، فيهبهم الرب نصرة على جيش ملك الأموريين وتصير لهم كل مدن سيحون (2: 26-36).

الله الذي يهبهم النصرة في حروبهم، لا يريد أن يقيم منهم شعبًا يهوى الحرب والاقتناء، إنما إن حاربوا ففي الرب، وإن ملكوا فكعطية إلهية، لهذا وضع لهم حدودًا وهدفًا في حروبهم.

1. ارتحالهم في البرية               [1-3].

2. عدم محاربة الأدوميين            [4-8].

3. عدم محاربة الموآبيين            [9-19].

4. محاربة سيحون وعوج           [20-37].

1. ارتحالهم في البرية:

"ثم تحولنا ورحلنا إلى البرية عن طريق بحر سوف كما كلمني الرب،

ودرنا بجبل سعير أيامًا كثيرًة.

ثم كلمني الرب قائلاً:

كفاكم دوران بهذا الجبل.

تحوّلوا نحو الشمال" [1-3].

تشير الآية [1] في عبارة مقتضبة إلى رحلة التيه ككل، حيث لم يكن المستمعون في حاجة إلى الحديث عن تفاصيلها. وجاءت الآيتان [2-3] تشيران إلى الأمر الصادر بخصوص الرحلة من قادش إلى جبل هور (عد 20: 22، 33: 37)، وتوجيههم للسير في أقصى الجنوب من جبل سعير للدوران حول أرض أدوم (عد 21: 4)، ثم شمالاً نحو أرنون، أي "في طريق برية موآب" [8].

هذا وإن كلمة "سعير" معناها "كثير الشعر". وهي أرض كان يسكنها الحوريون (تك 14: 6)، استولى عليها عيسو ونسله (تك 32: 3). وقد دعيت "جبل سعير" لأنها أرض جبلية على الجانب الشرقي من البرية العربية، ويصل ارتفاع أعلى قمة فيها  1600 مترًا، وهي قمة جبل هور. اضطر بنو إسرائيل في رحلتهم أن يسيروا حولها في أرض قاسية وعرة، ساروا في شبه دائرة إذ رفض الأدوميون السماح لهم بالعبور في أرضهم.

في الأصحاح السابق صدر الأمر الإلهي للشعب ألاَّ يتراخوا "كفاكم قعود في هذا الجبل" (1: 6)، وهنا يسألهم "كفاكم دوران بهذا الجبل، تحوّلوا نحو الشمال" [3].

باستثناء كالب ويشوع وموسى كان الجيل الخارج من مصر قد مات، هؤلاء هم الذين رفضوا الدخول في أرض الموعد كأمر الرب [14-15]. وموسى قد اقترب أن يموت، لذلك قال الرب إن الدوران حول الجبل قد طال بما فيه الكفاية.

من ثمار الخطية أن يُصاب الإنسان بحالة من البلادة فلا يتحرك، وإن تحرك فإنه يسير كما في دائرة مغلقة بلا تقدم. فإن عدو الخير يضرب أولاً الإنسان بخطية الكسل والتراخي والخمول. فإن لم يستجب يحثه على الحركة والعمل بلا هدف، فيفسد طاقته ويضيعها.

v     يحتاج المؤمن إلى روح الحكمة السماوية والتمييز حتى لا يتوقف عن الحركة، لكنه وهو يتحرك يسلك في الطريق الملوكي بلا انحراف.

القدِّيس يوحنا كاسيان

2. عدم محاربة الأدوميين:

إن كان يعقوب قد اقتنى الباكورية والبركة، لكن الله أعطى لأخيه عيسو ونسله أن يقتنوا جبل سعير. وها هو الله نفسه يأمر شعبه إلاَّ يقترب من حدود بني عيسو  ويقتحموها. فإنه أعطاهم جبل سعير، مترقبًا عودتهم إليه ليدخلوا إلى الأرض الجديدة، كنعان السماوية بالإيمان بالمسيَّا مخلص العالم.

الله محب كل البشرية يطلب ألاَّ يتعدى أحد على حدود الغير، وكما يقول الرسول بولس: "وصنع من دم واحدٍ كل أمةٍ من الناس يسكنون على كل وجه الأرض، وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم" (أع 17: 26).

"وأوصِ الشعب قائلاً:

أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير،

فيخافون منكم، فاحترزوا جدًا.

لا تهجموا عليهم.

لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم،

لأني لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثًا" [3-5].

أعطاهم حق المرور في تخم إخوتهم، وقدّم لهم مهابة ومخافة في أعينهم، لكن يلزمهم ألاَّ يُسيئوا مثل هذه الحقوق. يؤكد لهم "احترزوا جدًا"، لا لئلاَّ يهزمهم بنو عيسو، وإنما لئلاَّ يفقدوا روح الحق والعدالة، ويسقطوا في عدم الطاعة للوصية الإلهية.

إنسان الله مهوب للغاية، لكن ليحذر لئلاَّ يظن في نفسه شيئًا فيفقد روح التواضع أمام الله، وبالتالي عوض الكرامة يحل به الهوان.

يلاحظ في هذا الأصحاح أن الله خالق الكل ورب الجميع كلما تحدث عن أمرٍ ما يقدم توضيحًا لتصرفاته، فنراه هنا يكرر كلمة "لأني" [5، 9، 19]. أنه أب عجيب يود أن يتحدث مع أولاده لا بلغة الأوامر والنواهي، بل بروح التفاهم ليدركوا ما وراء كل تصرف، ويتعرفوا على أسراره الخفية. أنه يشتهي أن يتحدث معنا كما فعل مع موسى، إذ قيل: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 33: 11).

قدم لهم في هذه الوصية احترام ملكية الغير بدقة شديدة، إذ يطالبهم ألاَّ يتعدوا جبل سعير "ولا وطأة قدم" [5]. فقد نبدأ بوطأة قدم، لكن سرعان ما نتعدى أكثر فأكثر فنشتهي أن تقتني ما هو ليس من حقنا، لهذا تؤكد الوصية: "لا تمس، لا تذق"، كن بعيدًا تمامًا.

حقًا عندما قدم الله الوصايا العشر لم يقدم شرحًا لكل وصية. فإنه إذ يقول "لا تسرق"، لا يوضح لماذا ذلك لأنه قدمها لأطفال صغار يعجزون عن إدراك المفاهيم الروحية للوصية، لكنه سرعان ما قدم التفاسير لها. فأوضح ألاَّ نسرق، لا من أجل أمر صادر لنا بهذا، وإلاَّ فإننا نسرق بفكرنا وقلبنا حتى وإن لم تمتد يدنا للسرقة. إنما قدم لنا تفسيرًا: "كونوا قديسين لأن أباكم قدوس"، كونوا كاملين لأن أباكم كامل". فالقداسة أو الكمال، أو التشبه بالله هو علة عدم السرقة. لهذا يقدم الله الوصية ليتبعها الإعلان الإلهي.

طرد نسل عيسو أو أدوم الحوريين وسكنوا في أرضهم [12]. وكان حكام أدوم في البداية رؤساء قبائل أو أمراء (تك 36: 15-19)، صاروا فيما بعد ملوكًا (تك 36: 31-39)، قبل قيام مملكة إسرائيل. وكان الأدومي يُعتبر أخًا للعبراني حتى أن من يُضم إليهم يحسب الذي في الجيل الثالث عبرانيًا (تث 23: 7-8). حاربهم شاول الملك (1 صم 14: 47)، وانتصر عليهم داود الملك (2 صم 8: 14)، لكنه لم يطردهم من أرضهم بل أقام عليهم حراسًا. واستعادوا استقلالهم في أيام يهوشافاط (2 مل 8: 20-22). ابتهج الأدوميون لغزو نبوخذنصَّر أورشليم، وكانوا يأسرون الهاربين ويبيعونهم (عوبديا).

"طعامًا تشترون منهم بالفضة لتأكلوا،

وماءً أيضًا تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا.

لأن الرب إلهك قد بارك في كل عمل يدك،

عارفًا مسيرك في هذا القفر العظيم.

الآن أربعون سنة للرب إلهك معك لم ينقص عنك شيء" [6-7].

إن كان الله قد سمح لهم بالتيه حوالي 40 عامًا بسبب عصيانهم وتذمرهم، لكنه كان كمن يسير معهم في هذه الرحلة الطويلة، عارفًا مسيرتهم، ومهتمًا بكل احتياجاتهم، ولم يعوزهم شيء من ضروريات الحياة. هكذا وسط تأديبنا لا يتخلى عنا، بل يلتصق بنا، ويقدم لنا كل احتياجاتنا، فإنه يجرح ويشفي!

وإن كان المن لم يكن بعد قد انقطع تمامًا حتى يوم الاحتفال الأول بعيد الفصح في كنعان تحت قيادة يشوع (يش 5: 10-12)، لكننا لأول مرة نجد الشعب محتاجًا أن يشتري طعامًا وماءً بفضة. كان الله قبلاً يعولهم طوال الأربعين عامًا مجانًا، لكنه بدأ يُدربهم على الشراء قبل دخولهم أرض الموعد حيث يلتزمون بالزراعة والتجارة. ولعل الله سمح لهم أن يشتروا طعامًا وماءً في نفس الوقت الذي كان يمطر عليهم منًا، ليؤكد لهم أنه لا يريد أن يحرمهم من الأطعمة التي أوجدها لهم. إنزاله المن لا يعني إلاَّ الإعلان عن حبه لهم ورعايته الفائقة. هذا وإن ما يمنعه هو الشهوة والنهم في الطعام.

كلمات تكشف عن حب الله الفائق لشعبه ورعايته وخطته. كان يمكن أن ينطلق بهم من مصر إلى كنعان في أيام قليلة، لكنه بخطة إلهية أبقاهم أربعين سنة في القفر العظيم ليتمتعوا ببركة يديه وسيره معهم زمانًا أطول، وإدراك اهتمامه بكل احتياجاتهم حتى المادية التافهة. هذا هو صلاح الله الذي يحول حتى ثمر خطايانا لخيرنا.

يستطيع الإنسان في ساعات قليلة أن يصنع سلمًا ضخمًا، لكنه يحتاج إلى سنوات لكي يقيم شجرة عظيمة مملوءة بالثمار. هكذا لم يرد الله أن يجعل من شعبه سلمًا ضخمًا بل شجرة مثمرة، بدأ بغرسها في مصر وصار يرويها ويرعاها أربعين عامًا حتى تتمتع بالدخول إلى أرض كنعان رمز السماء، كثمرٍ طبيعيٍ لعمل الله في حياتهم.

كثيرًا ما نتعجل الثمر، نريد بين لحظة وأخرى أن نحمل ثمر الروح، لكن الله في حبه الشديد لنا يعمل معنا بهدوء في غير تسرع حتى نتلمس عمله وندرك أسراره، ونختبر العشرة معه، فيسير معنا في وسط القفر العظيم سنوات هذه مقدارها.

لم يقدم لهم خلال هذه السنوات الطويلة محاضرات في اللاهوت، لكنه قدم لهم نفسه، يسير معهم في البرية ويشبع كل احتياجاتهم، فيذوقوا حبه ويختبروا عذوبته.

"فعبرنا عن إخوتنا بني عيسو الساكنين في سعير على طريق العربة على أيلة

وعلى عصيون جابر،

ثم تحوّلنا ومررنا في طريق برية موآب" [8].

أيلة أو أيلات: اسم عبري معناه "أشجار". لا تزال منطقة العقبة غنية بأشجار النخيل. أيلة هي بلدة في الطرف الشمالي من خليج العقبة (الذراع الشرقي من البحر الأحمر)، بالقرب من عصيون جابر. وكانت ميناءً بحريًا هامًا، ومركزًا للقوافل. يُرجح أن داود الملك أخذ هذه البلدة من الأدوميين (2 صم 8: 14)، واستخدمها سليمان كميناء لأسطوله التجاري. استعادها الأدوميون، ثم عاد فاستولى عليها عزيا ملك يهوذا وأعاد بناءها (2 مل 14: 22)، ثم أخذها رصين ملك آرام، ورجع إليها الأدوميون (2 مل 16: 6).

عصيون جابر: تقع غرب مرفأ إيلات، آخر محطات بني إسرائيل في رحلتهم في البرية، وقبيل وصولهم برية صين (عد 33: 35). يُظن أنها تل الخليفة، على بعد 500 قدم من ساحل البحر. تشهد الاكتشافات الحديثة أنها كانت مركزًا تجاريًا عظيمًا، خاصة في تجارة الحديد والنحاس. ظهرت أهميتها في أيام سليمان الحكيم حيث بني فيها أسطوله، وبهذا تمكن من السيطرة على التجارة مع شبه الجزيرة العربية برًا وبحرًا، بواسطة عصيون جابر. لكن ضعف شأنها واستولى عليها آجوم، ثم عاد واحتلها أمصيا وبني مرفأ إيلات في المنطقة (2 مل 14: 22، 2 أي26).

3. عدم محاربة الموآبيين:

"فقال لي الرب لا تعاد موآب، ولا تثر عليهم حربًا،

لأني لا أعطيك من أرضهم ميراثا،

لأني لبني لوط قد أعطيت عار ميراثا" [9].

وهبهم الله المواعيد للتمتع بأرض الموعد، ووهبهم الإمكانية للنصرة، لكنه وضع لهم حدودًا معينة، فليس من حقهم الاعتداء على ما وهبه لبني موآب. فقد أراد الله أن يؤكد لهم أنه مع عظم حبه وسخائه معهم، لكن يلزمهم أن يدركوا أن الله وضع حدودًا لكل أمة، ولكل سبطٍ ولكل أسرة أو إنسان. ليس من حق المؤمن أن يستغل غنى حب الله له على حساب الغير. لذلك طالبهم إلاَّ يحطموا بني موآب، مع أن بني موآب أرادوا تحطيمهم (22: 6).

لماذا لم يسمح بتحطيم الموآبيين والعمونيين؟

أ. لأنهم من نسل لوط الرجل البار الذي كان يُعذب نفسه بأفعال سدوم الأثيمة. وكأن الله قد رد له بره في أحفاد أحفاده، ليس لكي لا يُدانوا على خطاياهم الشخصية، وإنما لينالوا بركات زمنية كثمرة لبرّ جدهم لوط لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله ويتمثلون بجدهم.

ب. لأن الأرض التي يملكونها قد وعدهم بها ولم تدخل في أرض الموعد التي وعد بها شعبه. فمن حق الأشرار أن يملكوا أيضًا على الأرض. فإن للزوان مكان على الأرض مع الحنطة حتى متى حلّ وقت الحصاد يُلقى في النار.

يترك الله للأشرار الخيرات الكثيرة على الأرض لعلهم يُدركون إنها ليست هي الأمور الأفضل فيطلبون البركات السماوية.

إذ لم يثق الشعب في الله أنه قادر أن يهبهم النصرة على هذه الممالك تركهم حتى يفنى جميع رجال الحرب [16]، حتى متى غلبوا يدركون أن النصرة هي من الله وليست بقوتهم. الله يود أن يستخدم كل طاقاتنا للبنيان، لكننا إن اتكلنا عليها متجاهلين يد الله نُحرم من بركته حتى ندرك أننا بدونه لا شيء، فيعمل بقوة فينا وبنا.

إذ مات رجال الحرب الإسرائيليون من الجيل الذي فشل في دخول أرض الموعد لم تعد يد الله ضدهم بعد، لذلك وجههم أن يعبروا مجرى Zered  التي تقع في آخر جنوب البحر الميت من الشرق. بعد ذلك يعبرون عرنون [24]. بهذا يدخلون في منطقة الأموريين.

"الإيميون سكنوا فيها قبلا شعب كبير وكثير وطويل كالعناقيين.

هم أيضًا يحسبون رفائيين كالعناقيين لكن الموابيين يدعونهم إيميين.

وفي سعير سكن قبلا الحوريون فطردهم بنو عيسو وأبادوهم من قدامهم

وسكنوا مكانهم كما فعل إسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب.

الآن قوموا واعبروا وادي زارد، فعبرنا وادي زارد.

والأيام التي سرنا فيها من قادش برنيع حتى عبرنا وادي زارد كانت ثماني وثلاثين سنة

حتى فني كل الجيل رجال الحرب من وسط المحلة كما اقسم الرب لهم.

ويد الرب أيضًا كانت عليهم لإبادتهم من وسط المحلة حتى فنوا" [10-15].

أصل الأمم التي التقوا بها[33]:

قدم لنا موسى النبي صورة مختصرة عن أصل الأمم التي يتحدث عنها هنا، وهم الموآبيون والأدوميون والعمونيون، موضحًا إنهم ليسوا سكان بلادهم الأصليين. فالموآبيون سكنوا في بلد تنتمي إلى جنس عدد من العمالقة يُدعى الإيميين [10] "miim" ومعناها "المرعبون". وكانوا طوال القامة كالعناقيين، وربما أكثر منهم عُنفًا [10-11]. يبدو إنهم كانوا عمالقة مرهبين متجولين يهددون كل من حولهم. الإيميون هم السكان القدامى للمنطقة التي تقع في شرق الأردن، وكانوا في وقت ما شعبًا قويًا، كثير العدد، وكانوا يدعون بالرفائيين. يرى Calmet أن الإيميين قد تحطموا في حرب قامت بينهم وبين كدرلعومر وحلفائه (تك 14: 5)[34]. وإن لوط ذهب إلى هناك بعد خراب سدوم وعمورة.

يرى البعض أن الإيميين وبني عناق والرفائيين غالبًا نفس الشعب يحملون أسماء مختلفة في مناطق مختلفة، كلما قطنوا موضعًا أخذوا اسمًا جديدًا. ويرى البعض إن كل القبائل المتجولة العمالقة دعوا رفائيين. هذا هو الجو الذي عاش فيه الجواسيس عندما رجعوا يقدمون تقريرًا مُرًا (عد 13: 33).

وبنفس الطريقة الأدوميون احتلوا مكان الحوريين من جبل سعير [12، 22]. والحوريون دعوا بني سعير (تك 36: 20-21)؛ هزمهم كدرلعومر وحلفاؤه (تك 36: 21، 30). ثم أبادهم فيما بعد بنو عيسو واحتلوا مكانهم. [2، 22]. كان الحوريون شعبًا غير سامٍ من الجبال، هاجر بعد سنة 2000 ق.م في شمال وشمال شرقي ما بين النهرين، وانتشروا بعد ذلك في أراضي ما بين النهرين وسوريا المنخفضة الخصبة، ووصلوا فعلاً إلى فلسطين وحدود مصر. وقد سبقوا العبرانيين في فلسطين. وكان الفرات الأوسط أحد مراكز ثقافتهم. وكانت مملكة ميتانو أو هاينجالبات على الفرات الأعلى حورية مع أن حكامها كانوا أولاً آريين، وفيما بعد حثيين. وقد ورثت الثقافة الأشورية المبكرة الثقافة الحورية وخلفتها، وأباد الأشوريون النوزو الحوريين في نحو عام 1400 ق.م.

والعمونيون أيضًا احتلوا أماكن كان يقطنها الزمزميون، وهم أناس أشرار [20-21]. والزمزميون هو اسم سامي معناه "متزمرون، أو صانعوا الضجيج أو الطنين". وهم طوال القامة، أشداء البأس، يقطنون الأرض شرقي الأردن والبحر الميت. وكانوا يدعون أيضًا بالرفائيين. وهم الذين سطا عليهم كدرلعومر وغلبهم، ثم جاء العمونيون وطردوهم. وقد عرفوا باسم الزوزيين.

وقد ذكر النبي ذلك للأسباب التالية:

أ. إذ بدأت بعض المناطق تزدحم بعد الطوفان، كانت القبيلة التي تنمو في العدد تطرد غيرها لتحتل موقعها.

ب. ليس من الضرورة أن تتحقق النصرة للأقوياء. فقد طُرد العمالقة من مدنهم بواسطة أناس عاديين، ربما لأن هؤلاء العمالقة كانوا أشرارًا مثل أولئك الذين كانوا قبل الطو فإن (تك 6: 4)، فحلّ عليهم التأديب الإلهي بطردهم ولم يستطيعوا المقاومة.

ج. تأكيد عدم الاستقرار في العالم، وزوال أموره. فقد تظن أمة ما إنها قوية وعظيمة، لكن سرعان ما تنحدر وتحلّ محلّها من كان العالم يظن أنها ضعيفة ولا حول لها.

د. لتشجيع بني إسرائيل في ذلك الوقت لكي يمتلكوا كنعان دون النظر إلى قوة سكانها وإمكانياتهم الحربية. فإن كانت عناية الله صنعت هذا مع بني موآب وبني عمّون فكم بالأكثر يحقق وعده الإلهي معهم.

إذ أعطى الكل وجهه نحو أرض كنعان ليروا عن قرب الموعد الإلهي الذي طال الوقت لتحققه قد اقترب جدًا، أدرك الكل الحقائق التالية:

أ. إن ثمانية وثلاثين عامًا في البرية كانت وقتًا ضائعًا بسبب العصيان. بدون العصيان كان يُمكن لآبائهم أن يرثوا الأرض، وكان هذا الجيل قد وُلد في أرض الموعد ذاتها. فالخطية تفسد وقت الإنسان، وطاقته وقدراته، وهدفه!

ب. مات كل رجال الحرب الذين خرجوا من مصر والذين ربما تعلموا فنون الحرب من المصريين، وإن كانوا لم يمارسوها في مصر. الآن لن يدخل رجل حرب إلى كنعان ليحارب ممن تدربوا على أذرع بشرية، بل الذين ولدوا في البرية وتدربوا على الحرب كما من الله نفسه.

لم يدخل من الجيل القديم سوى يشوع وكالب، وهما وإن وٌلدا في مصر، لكنهما خضعا للرب منذ البداية، وأدركا أنهما يملكان بذراع الرب لا بذراع بشر. لذلك صار لهما حق الدخول مع الجيل الجديد!

ج. كان الكل شبابًا، ليس من بينهم شيخ سوى يشوع وكالب، وكان هذان الاثنان لا يعرفان الشيخوخة الروحية، بل يُجدد روح الله شبابهما كالنسر. هكذا لن يدخل الملكوت من يسقط في شيخوخة روحية تحمل روح اليأس والخنوع والضعف في الإيمان. إننا في حاجة إلى تجديد الروح المستمر لنحيا في شباب دائم حتى نعبر كما إلى الأبدية، وندخل إلى السماء التي لن يوجد فيها كائن خامل أو يائس.

صدر الأمر لهم أن "يقوموا" ويعبروا وادي زارد [13] (انظر عدد 21: 12). الكلمة "وادي" هنا هي "ناحال" بمعنى مجرى نهر في جبل قد يمتلئ وقت المطر بفيض، وقد يجف في أوقات أخرى، ويكثر هذا في عبر الأردن. وكلمة "زارد" اسم عبري معناه "ازدهار"، وهو جدول ماء يخرج من جبل عباريم ويصب في بحر لوط (البحر الميت) في الجزء الجنوبي الشرقي منه. وهو الحد الطبيعي بين أدوم وموآب، وكان من آخر العقبات في طريق العبرانيين من مصر إلى كنعان، يعرف الآن باسم وادي الحصى.

في مرارة يقول موسى النبي: "حتى فني كل الجيل رجال الحرب من وسط المحلة كما أقسم الرب لهم. ويد الرب أيضًا كانت عليهم لإبادتهم من وسط المحلة حتى فنوا" [14-15].

ما أصعب على نفس هذا القائد العظيم أن يجد نفسه وحيدًا في الميدان. لقد صار كما في "مدافن" حيث رقد كل رجال الحرب، وتحولت البرية إلى مدافن لهم. لو إنهم ماتوا في معركة شريفة لكان ذلك موضع فخر يهب تعزية للقائد، أما أن يرى الكل قد صاروا جثثًا هامدة لأن يد الرب كانت عليهم بسبب عصيانهم وتمردهم، فهذا يحمل مرارة في قلب القائد العظيم.

لماذا سمح الله بإبادة هذا الجيش العظيم؟ لقد استهانوا بالوصية، وفقدوا قداسة الرب وبره. فأراد أن يؤكد عبر كل الأجيال أنه قادر أن يعمل ويتمم إرادته بدون جيش وبدون كارزين، لكنه لا يعمل بدون قداسته وبره. يكفي أن يبقى من مئات الألوف الخارجين من مصر اثنان هما يشوع وكالب، يحملان الطاعة لله والإيمان بمواعيده. بهما دخل بالجيل الجديد كله إلى أرض كنعان، خير من مئات الألوف الذين عصوه أو تذمروا عليه الخ. هنا رحمة الله وبره، إنه لا يطلب كثرة العدد ولا قوة الجسد بل يطلب البر والقداسة.

"فعندما فني جميع رجال الحرب بالموت من وسط الشعب.

كلمني الرب قائلاً:

أنت مار اليوم بتخم موآب بعار.

فمتى قربت إلى تجاه بني عمون لا تعادهم ولا تهجموا عليهم،

لأني لا أعطيك من أرض بني عمون ميراثا،

لأني لبني لوط قد أعطيتها ميراثا" [16-19].

عار: اسم سامي معناه "مدينة"، إحدى المدن الكبرى في موآب، على حدودها الشمالية على حافة وادي إرنون، ودعاها الإغريق عريوبوليس، نسبة إلى إله الحرب عندهم "اريس"، ودعاها اليهود "ربة موآب" وهي خربة الربة على مسافة أربعة عشر ميلاً جنوبي نهر أرنون الذي هو وادي موجب.

4. محاربة سيحون وعوج:

الله الذي طلب من شعبه أن يضبطوا أنفسهم ولا يحاربوا بني موآب ولا بني عمّون رغم غناهم وقلة عددهم بالنسبة لشعبه قدم لهم ما يملكه سيحون هبة وعطية مقابل طاعتهم له.

"هي أيضًا تُحسب أرض رفائيين، سكن الرفائيون فيها قبلاً،

لكن العمونيين يدعونهم زمزميين.

شعب كبير وكثير وطويل كالعناقيين أبادهم الرب من قدامهم، فطردوهم وسكنوا مكانهم.

كما فعل لبني عيسو الساكنين في سعير الذين اتلف الحوريين من قدامهم فطردوهم

وسكنوا مكانهم إلى هذا اليوم.

والعويون الساكنون في القرى إلى غزة أبادهم الكفتوريون الذين خرجوا

من كفتور وسكنوا مكانهم.

قوموا ارتحلوا واعبروا وادي ارنون.

انظر قد دفعت إلى يدك سيحون ملك حشبون الأموري وأرضه ابتدئ تملك واثر عليه حربًا.

في هذا اليوم ابتدئ اجعل خشيتك وخوفك أمام وجوه الشعوب تحت كل السماء الذين يسمعون خبرك يرتعدون ويجزعون أمامك" [20-25].

لقد وهب لهم ما للملك سيحون لكن ليس لهم أن يقتنوه وهم نيام، بل يدخلون في معركة ويجاهدون، غير أن الرب نفسه يحارب عنهم ويهبهم النصرة خلال المعركة التي ترمز إلى الجهاد الروحي. أولاً ينهار العدو المقاوم للحق، ويتجلى الله في وسط أولاده، معلنًا حضرته القائمة في داخلهم، وأخيرًا فإن المجاهدين ينالون روح النصرة ويتمجدون إذ تصير لهم مخافة أو مهابة هي عطية الله نفسه (خر 15: 14).

الآن سقطت في أيدي بني إسرائيل المنطقة من عرنون عوج في الجنوب إلى سيحون وحدود عوج في جلعاد في الشمال. من المنطقة العُليا لنهر يبوق في الشرق إلى الأردن غربًا. لم يستولوا على أية أرض للعمونيين وذلك كأمر الرب [19].

الزمزميون: ربما هم أنفسهم الزمزم Zuzim (تك 14: 5). لا نعرف كثيرًا عن هذه الشعوب القديمة.

كلمة "غزة Gaza" هنا أو Azzah مشتقة عن الكلمة العبرية Hazarim، وهي ليست اسمًا لبلد معين، إنما تعني "قرى". فالعويون Avins بعد أن غزاهم الكفتوريون صاروا مشتتين في مواقع كثيرة (تك 10: 14)، في مناطق منهدمة تكشف عن حالهم كشعب بلا قوة.

كفتور: جزيرة أو شاطئ بحري جاء منه الفلسطينيون أولاً (إر 47: 4، عا 9: 7). وتقول إحدى النظريات إن اسم كفتور كان يُطلق على غرب آسيا الصغرى وجنوبها من ليديا إلى كيليكية. وتدعم هذه النظرية الترجمة السبعينية التي ترجمت كفتور "كبدوكيا" في (تث 2: 32، عا 9: 7). وقد استخدمت كلمتا كفتيو وكفتور المصريتان للدلالة غالبًا على جزيرة كريت. ولما كانت هذه النظرية لا تخلو من صعوبات أيضًا فقد أطلق اسم كفتور ليس على كريت وحدهما بل على الجزر المحيطة بها وعلى أسيا الصغرى أيضًا ويلزم ملاحظة أن كلمة "الكريتيين: المرادفة لكلمة "الفلسطينيين" والمذكورة في (حز 25: 16، صف 2: 5)، قد ترجمت في السبعينية بأهل كريت. جاء في (تك 10: 14) أن كفتوريم منحدرون من مصرايم، لكنه ربما قصد التحرر السياسي.

بالرغم من أن الرب قال أنه قد أعطى سيحون في إسرائيل [24] غير أن موسى بعث برسلٍ إليه يحملون إليه طلبًا أن يعبروا بسلام خلال بلده. لكن سيحون لغلاظة قلبه رفض الطلب ودخل في معركة مع بني إسرائيل.

طلب موسى أن يعبر في أرض سيحون بسلامٍ، ليس في عدم طاعة لله الذي وعده بأن يُعطيه أرضه، وإنما لكي يكون رجل سلام. فما يحل بسيحون يكون ثمرة طبيعية لعنفه وشره، لكي يكشف الله ما في قلب سيحون من عنف. فما حلّ بالأموريين ليس لكونهم أعداء إسرائيل وإنما هو تحقيق للعدالة الإلهية.

انهزم أيضًا عوج أمام شعب الله بالرغم من قدراته وإمكانياته:

أ. كان عوج قويًّا ، من نسل العمالقة [11]، تظهر ضخامة جسمه من ضخامة سريره غير الطبيعي (3: 11).

ب. كان شجاعًا وجريئًا، فلم يهتز لهزيمة سيحون أمام إسرائيل، بل دخل معهم في معركة. لم يقبل السلام، فحل شره على رأسه (إر 3: 8).

لم يكن موسى محتاجًا إلى تأكيد من الله لكي لا يخاف من عوج، لكن الله قدم هذا التأكيد، لا من أجل موسى، بل من أجل الشعب.

سقطت باشان في يد إسرائيل فصارت كل المنطقة المثمرة في شرق الأرض ملكًا لهم. بهذا فتح الله باب الرجاء أمام الشعب، أنه كما وهبهم ما في شرق الأردن سيقدم لهم ما في غربه. هذا وإن كان موسى قد حُرم من عبور نهر الأردن والدخول إلى كنعان، لكنه لمس بنفسه بداية الميراث وعربونه بما ناله الشعب في شرق الأردن. هكذا خلال جهادنا على الأرض ننعم بالعربون السماوي ميراثًا لنا يفتح أمام عيون قلوبنا الرجاء في عبورنا من العالم للتمتع بكنعان السماوية.

لقد اعتدى الأموريون تحت قيادة الملك سيحون على جزءٍ من أرض موآب. لذا سمح الله لشعبه أن يستولوا على هذه الأرض.

"فأرسلت رسلاً من برية قديموت إلى سيحون ملك حشبون بكلام سلام قائلاً.

أمُرّ في أرضك أسلك الطريق.

لا أميل يمينًا ولا شمالاً.

طعامًا بالفضة تبيعني لآكل وماء تعطيني بالفضة لأشرب،

أمر برجلي فقط.

كما فعل بي بنو عيسو الساكنون في سعير والموآبيون الساكنون في عار،

إلى أن اعبر الأردن إلى الأرض التي أعطانا الرب إلهنا.

لكن لم يشأ سيحون ملك حشبون أن يدعنا نمر به،

لأن الرب إلهك قسى روحه وقوى قلبه لكي يدفعه إلى يدك كما في هذا اليوم.

وقال الرب لي انظر قد ابتدأت أدفع أمامك سيحون وأرضه،

ابتدئ تملك حتى تمتلك أرضه.

فخرج سيحون للقائنا هو وجميع قومه للحرب إلى ياهص.

فدفعه الرب إلهنا أمامنا فضربناه وبنيه وجميع قومه.

وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت وحرَّمنا من كل مدينة الرجال والنساء والأطفال لم نبق شاردًا.

لكن البهائم نهبناها لأنفسنا وغنيمة المدن التي أخذنا.

من عروعير التي على حافة وادي ارنون والمدينة التي في الوادي إلى جلعاد

لم تكن قرية قد امتنعت علينا

الجميع دفعه الرب الهنا أمامنا.

ولكن أرض بني عمون لم نقربها كل ناحية وادي يبوق ومدن الجبل وكل ما أوصى الرب إلهنا" [26-37].

قديموت: اسم عبري معناه "أماكن شرقية"، وهي مدينة في المقاطعة الواقعة شرقي بحر لوط في مجرى وادي أرنون الأعلى احتلها موسى النبي، وأرسل منها الرسل إلى الملك سيحون. يرى البعض إنها قصر الزعفران التي تقع شمالي غربي المدينة بميلين ونصف ميل. أعطيت أولاً لسبط رأوبين (يش 13: 18)، ثم للاويين عشيرة مراري (نش 21: 37، 1 أي 6: 79).

ياهص أو يهصة (يش 13: 18، 21: 36): اسم موآبي معناه "موضع مداس". وهي مدينة موآبية قرب البادية. فيها تمت معركة بين العبرانيين وسيحون، فانتصر العبرانيون واستولوا على الأرض بين أرنون ويبوق. لكن يبدو أن الموآبيين استردوها مؤخرًا. تقع على ما يُظن على بعد ميل جنوب زرقاء معين واثنى عشر ميلاً شرقي البحر الميت. قيل أنها قرية أم المواليد أو خربة اسكندر. صارت من نصيب سبط رأوبين.

عروعير: اسم موآبي وعبري معناه "عارية، عري". بلده في شمال نهر أرنون في موآب، وجنوب مملكة سيحون العمورية. تُسمى الآن عراعير، على بعد اثنى عشر ميلاً شرقي البحر الميت، جنوب ذيبان بقليل. صارت من نصيب رأوبين، استولى عليها حزائيل ملك سوريا بعد أن احتلها وحصنها الجاديون وميشا ملك موآب وكانت تابعه لموآب في أيام إرميا النبي (إر 48: 19).

أرنون: كلمة عبرانية معناها "الزئيره"، وهم اسم نهر يُدعى اليوم "وادي الموجب" في المملكة الأردنية الهاشمية. ويتكون من وادي "وله" يأتي من الشمال الشرقي، ووادي  "عنقيلة" من الشرق، و"سيل الصعدة" من الجنوب. يجري نهر أرنون في غور عميق حتى يصل إلى البحر الميت في نقطة تقع إلى مسافة قصيرة من منتصف الشاطئ الشرقي. وكان الأرنون في أيام موسى النبي الحد الفاصل بين الموآبيين في الجنوب والأموريين في الشمال (عد 21: 13، 26). وكان الأرنون في عصر القضاة الحد الجنوبي لسبط رأوبين الذي يفصل بينهم وبين موآب (يش 13: 16). تقع مدينة عروعير على الشاطئ الشمالي منه. ويقع بالقرب منها مكان قديم للعبور، ربما كان هذا هو المكان الذي أُطلق عليه اسم "معابر أرنون" (إش 16: 2).

يبوق: ومعناها "متدفق". نهر معروف الآن بنهر الزرقاء. ينبع بالقرب من عمان، ويميل أولاً شرقًا ثم شمالاً، ويمر بمدينة الزرقاء التي سميت باسمه، ثم يميل غربًا، ويصب في الأردن عند نقطة تبعد حوالي 13 ميلاً إلى الجنوب من بحيرة الجليل و23 ميلاً إلى الشمال من البحر الميت. عبر يعقوب هذا النهر وصارع هناك ملاكًا (تك 32: 23-30). وكانت يبوق حدًا طبيعيًا فاصلاً بين سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان. استولى العبرانيون على الأراضي الواقعة على الجزء السفلي منه.

كفتور [22]: قد تكون كريت، والكفتوريون هم الفلسطينيون الذين جاءوا من شواطئ فلسطين الجنوبية وقت الخروج تقريبًا (قارن يش 13: 3، عا 9: 7). وهذه التسمية تظهر أن كتابة السفر جرت في وقت مبكر.

حرَّمنا [34]: المحرم هنا هو الشيء أو الشخص المخصص لعبادة الآلهة الغريبة، وهذه مكروهة كما يجب أن تُكره الخطية، لأنها مفسودة ومفسدة، كرداء يحمل الوباء لا يستحق إلاَّ الحريق، لئلاَّ يقع الحرم على أولئك الذين يستحيونهم.

مدن الجبل [37]: هذه المنطقة عند منابع يبوق وقد سكنها العمونيون شرقي الأرض المنبسطة (3: 10) وهذا الوصف وصف شاهد عيان.


 
من وحي تثنية 2

كفاني دوران حول الجبل!

v     في حبك الفائق تصرخ إليّ:

كفاك دوران بهذا الجبل!

ارتبط قلبي بجبل الأنا الخطير.

في غباوة تارة أتراخى وأتهاون من أجل راحة الجسد.

وإن تحركت فأدور حول ذاتي،

أظن في نفسي مركز العالم،

فينغلق قلبي أمام الكل من أجل ذاتي.

v     هب لي روح الحكمة والتمييز فتنطلق نفسي بالحب.

اشتهي أن أسير في طريقك الملوكي،

طريق التواضع مع الحب الباذل!

v     عطاياك كثيرة لي ولإخوتي.

لأشكرك من أجل ما وهبتني.

وبحب أحترم حقوق إخوتي.

لا اَعتدي على تخم إخوتي ولا وطأة قدم!

ولا أتهاون في التزاماتي نحوك ونحو إخوتي!

v     هب لي روح التمييز،

يا أيها الكلي الحكمة!

<<

 

 


 

الأصحاح الثالث

النصرة على عوج ملك باشان

بعد أن ذكر موسى النبي النصرة على سيحون ملك الأموريين تحدث هنا عن النصرة على عوج ملك باشان، وتقسيم أرضه بين السبطين ونصف السبط. وكيف تضرع موسى إلى الرب لكي يدخل أرض كنعان، لكن الله سمح له بالصعود على جبل نبو لكي ينظر الأرض دون أن يدخلها.

لقد ارتبطت النصرة على عوج بالنصرة على سيحون، كلاهما لمجد الله. وكما يقول المرتل: "الذي ضرب أممًا كثيرة، وقتل ملوكًا أعزاء. سيحون ملك الأموريين، وعوج ملك باشان، وكل ممالك كنعان، وأعطى أرضهم ميراثًا. ميراثًا لإسرائيل شعبه" (مز 125: 10-12). وأيضًا: "الذي ضرب ملوكًا عظماء لأن إلى الأبد رحمته، وقتل ملوكًا أعزاء، لأن إلى الأبد رحمته. سيحون ملك الأموريين، لأن إلى الأبد رحمته، وعوج ملك باشان، لأن إلى الأبد رحمته. وأعطى أرضهم ميراثًا، لأن إلى الأبد رحمته" (مز 136: 7-21).

1. ضرب عوج ملك باشان           [1-11].

2. تقسيم أرض عوج                [12-22].

3. تضرع موسى لدخول كنعان       [23-27].

4. وصية موسى ليشوع             [28-29].

1. ضرب عوج ملك باشان:

قام موسى النبي بتذكير شعبه كيف انتصروا على عوج ملك باشان لتصير جلعاد وكل باشان مملكة عوج لسبطين ونصف، بعد ذلك يحاربون كل الممالك التي يعبرون إليها. إذ يقول:

"ثم تحولنا وصعدنا في طريق باشان،

فخرج عوج ملك باشان للقائنا هو وجميع قومه للحرب في أذرعي" [1].

باشان: اسم عبري معناه "أرض مستوية أو ممهدة". وهي مقاطعة في أرض كنعان تقع شرق الأردن بين جبلي حرمون وجلعاد (عد 21: 33). دُعيت باشان على اسم جبل في تلك المنطقة (مز 68: 15). وكانت باشان تشمل حوران والجولان واللجاه، وكلها مؤلفة من صخور وأتربة بركانية. وتربتها خصبة للغاية وماؤها غزير. ويُزرع فيها الحنطة والشعير والسمسم والذرة والعدس والكرسنة. يحدها شمالاً أراضي دمشق، وشرقًا بادية سوريا، وجنوبًا أرض جلعاد، وغربًا نهر الأردن. ويخترق جانبها الشرقي جبل الدروز، وهو جبل باشان القديم ويمر بالجولان. سلسلة تلال من الشمال إلى الجنوب هي براكين قديمة خامدة. أما مقاطعة اللجاه فهي حقل من "اللافا"، أي الصخر البركاني قد انسكب من تل سيحان، وهو فم بركان قديم. ذكرت باشان نحو ستين مرة في الكتاب المقدس.

هكذا يكمل موسى النبي مراجعته للخبرة التي عاشها مع شعبه في تعاملهم مع الله وسط البرية، فيحدثنا عن مقاومة ملك آخر للأموريين، وكيف وهبهم الله النصرة عليه. لقد أوضح موسى النبي الحقائق التالية:

أولاً: كانت النصرة على ملك باشان ليست أمرًا بشريًا طبيعيًا، ولا كما قد يظن البعض إنها مصادفة، بل بأمرٍ إلهيٍ. طلب الله من موسى ألاَّ يخاف، فقد دفع إليه الملك وجميع قومه وأرضه.

"فقال لي الرب لا تخف منه،

لأني قد دفعته إلى يدك وجميع قومه وأرضه،

فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الذي كان ساكنًا في حشبون.

فدفع الرب إلهنا إلى أيدينا عوج أيضًا ملك باشان وجميع قومه،

فضربناه حتى لم يبقَ له شارد" [2-3].

كانت الوصية بعدم الخوف لا من أجل موسى، بل من أجل الشعب.

ثانيًا: كان عوج ملك باشان إنسانا جسورًا وشجاعًا، سمع عن هزيمة سيحون ملك حشبون أمام إسرائيل، مع هذا لم يطلب الدخول في عهدٍ أو ميثاق سلام مع إسرائيل، بل خرج مع جميع قومه للحرب. كان واثقًا من نصرته على هذا الشعب.

ثالثًا: كانت إمكانيات عوج جبارة، يملك على ستين مدينة محصنة بأسوار شامخة، ما عدا القرى غير المسوّرة الكثيرة جدًا [5]. كانت مملكته قوية تبدو أنه لا يُمكن اقتحامها. كانت النصرة عليه علامة أكيدة أن الله نفسه هو واهب شعبه الغلبة. هنا كلمة "مدينة" لا تعني بالضرورة أن تعدادها ضخم، فإن تعداد البعض لم يكن يتجاوز عدة مئات قليلة من البشر.

رابعًا: كان عوج ملك باشان عِملاقًا، ربما من نسل العمالقة، وقد بقي سريره يشهد عن ضخامة جسمه. احتفاظ بنو عمّون يكشف عن ندرة وجود سرير بهذا الحجم. يبدو أن السرير قد انتقل من الأموريين إلى العمونيين في إحدى المعارك كانت فيها النصرة للعمونيين، احتفظوا به في ربة المدينة الملكية لبني عمّون (2 صم 12: 26).

يبلغ طول السرير تسع أذرع وعرضه أربع أذرع بذراع رجل [11].  فإن كان السرير أطول بذراع من طول الملك يكون طول الملك حوالي 12 قدمًا، وهذا يبدو أمرًا غير طبيعي، لذا يرى البعض أن السرير أطول بالثلث عن طول الملك، مع هذا يكون طول الملك تسعة أقدام، بهذا يكون أيضًا فارع الطول جدًا.

لقد نسج بعض حاخامات اليهود قصصًا خيالية عن ضخامة جسم عوج سُجلت في الترجوم، حتى صوره البعض أن طوله عدة أميال[35].

خامسًا: إن استعرضنا رحلة الشعب نجد في كل مراحلها يوجد من يقاوم، فإن طريق الرب لن يطيقه عدو الخير. ففي كل جيل نرى "مسيحنا المرفوض من العالم"، وفي كل عصر نسمع صوته الإلهي: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟"

يهب الله نصرة على العمالقة كما على الضعفاء الأشرار. أنه يهبنا الغلبة على الخطايا التي نظنها خطيرة ويستحيل التخلص منها، كما على ما نظنها خطايا تافهة وبسيطة.

"وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت؛

لم تكن قرية لم نأخذها منهم؛

ستون مدينة كل كورة أرجوب مملكة عوج في باشان" [4].

"كل أرجوب" [4]: يرى البعض أن الترجمة الحرفية لكلمة "كورة" هنا هي "كل خيط أو حبل cord, cable, rope, أرجوب"، وهو تعبير يعني خيطًا تقاس به الأراضي، وكأنه لا يُترك شبرًا من الأرض لا يستولي عليه الشعب. يرى البعض أنه توجد منطقة تسمى أرجوب وقد دُعيت بعد ذلكTrachonites [36]. يرى البعض أن كلمة "أرجوب" اسم عبراني معناه "كتلة من الحجارة" وأن هذه المنطقة تقع في باشان على حدود جشور ومعكة. يرى آخرون أن أرجوب هي الربع الشرقي من حوران. استولى عليها يائير الذي من سبط منسى، لذا دُعيت "حووت يائير" (يش 13: 30،  1 مل 4: 13).

مقاومة الله إنما تعني دائمًا الخسارة والفقدان. لقد قاوم عوج الله ففقد كل مدنه وقراه. يفقد الشرير كل شيء حتى سلامه الداخلي، إذ "لا سلام قال الرب للأشرار" (إش 48: 22، 57: 21).

"كل هذه كانت مدنًا محصنة بأسوار شامخة وأبواب ومزاليج سوى قرى الصحراء الكثيرة جدًا.

فحرمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون،

محرمين كل مدينة، الرجال والنساء والأطفال.

لكن كل البهائم وغنيمة المدن نهبناها لأنفسنا.

وأخذنا في ذلك الوقت من يد ملكي الأموريين الأرض التي في عبر الاردن

من وادي ارنون إلى جبل حرمون.

والصيدونيون يدعون حرمون سريون.

والأموريون يدعونه سنير.

كل مدن السهل وكل جلعاد وكل باشان إلى سلخة واذرعي مدينتي مملكة عوج في باشان.

إن عوج ملك باشان وحده بقي من بقية الرفائيين.

هوذا سريره سرير من حديد.

أليس هو في ربة بني عمون طوله تسع اذرع وعرضه أربع اذرع بذراع رجل" [5-11].

كشفت الآثار عن ضخامة حصون مدن باشان الحجرية[37].

ماذا بقي من مملكة عوج؟ "سريره سرير من حديد" [11]. هذا كل ما تبقى من ذلك الملك الجبار لباشان. يا لها من شهرة غير لائقة! هذه هي ذكريات الأشرار، فإن الرب يستهزئ بهم. اكتشف الكابتن كوندور عرشًا حجريًا بنفس المقاييس في تل عند "ربة" ويعتقد أنه هو ذلك "السرير".

سلخة [10]: تبعد حوالي سبع ساعات جنوب شرقي بصرة التي لموآب. وبكونها على الحدود الشرقية لمملكة باشان كانت بلا شك محصنة جدًا. صارت من نصيب

سبط جاد (يش 12: 5؛ 1 أي 5: 11).

سريون [9]: معناها متألق، وهو اسم صيدوني، ربما استعملته جماعة الصيدونيين (قض 18: 7) الذين سكنوا عند سفح الجبال المغطاة بالثلوج. ويرى البعض أن كلمة "سريون" صيدونية معناها "درع"، وهو الاسم الذي كان الصيدونيون يطلقونه على جبل حرمون (مز 29: 6). ويبدو أن هذا الاسم لم يطلق على جزء معين من سلسلة جبال حرمون، بل كان يطلق على الجزء الذي كان يُرى من حرمون عند الوقوف على شاطئ بلاد الصيدونيين.

 أما كلمة "سنير" فهي اسم أموري، ربما كان معناه "جبل السنا أو النور". وهو الاسم الذي أطلقه الأموريون على جبل حرمون، والأغلب أنه أطلق على قسم من جبل حرمون (جبل الشيخ) لهذا نجد أن سنير وحرمون مذكوران كجبلين مختلفين في (1 أي 5: 23).

"إن عوج ملك باشان وحده بقي من بقية الرفائيين" [11].

كان عوج آخر ملك للأموريين، ويبدو أن اسم مملكته أخذ من جبل باشان، تدعى مملكته بتنيع Batanea[38].

2. تقسيم أرض عوج:

"فهذه الأرض امتلكناها في ذلك الوقت من عروعير التي على وادي ارنون ونصف

جبل جلعاد ومدنه أُعطيت للرأوبينيين والجاديين.

وبقية جلعاد وكل باشان مملكة عوج أُعطيت لنصف سبط مِنسَّى كل كورة ارجوب

مع كل باشان وهي تدعى أرض الرفائيين.

يائير ابن مِنسَّى اخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على

اسمه باشان حووث يائير إلى هذا اليوم.

ولماكير أُعطيت جلعاد.

وللرأوبينيين والجاديين أُعطيت من جلعاد إلى وادي ارنون وسط الوادي تخمًا،

وإلى وادي يبوق تخم بني عمون.

والعربة والأردن تخمًا من كنارة إلى بحر العربة بحر الملح تحت سفوح الفسجة نحو الشرق" [12-16].

إذ اقترب وقت رحيل موسى النبي لم يسمح الله له بالانطلاق إلاَّ بعد أن وهبه أمرين يُفرّحان قلبه: الأمر الأول هو الاستيلاء على منطقة شرقي الأرض ليذوق موسى النبي عربون عطية أرض الموعد كلها؛ والأمر الثاني هو رؤيته للأرض غربي الأردن من على قمة جبل الفسجة أو نبو.

أعطيت هذه الأرض، شرقي الأردن، لرأوبين وجاد ومِنسَّى، لكن وإن كانت هذه الأسباط قد استقرت، غير إنهم لم يتوقفوا عن مساعدة إخوتهم في حروبهم، حتى يستريح الكل ويستقروا (عد 32). هكذا فإنه لن تستقر كنيسة المسيح وتستريح ويكمل فرحها ما لم يتم جهاد آخر عضوٍ فيها. حتى الذين جاهدوا وانتصروا وعبروا إلى الفردوس فإنه لن يكمل فرحهم حتى يتمم العبيد رفقاؤهم جهادهم ليكللوا معهم. إنهم يقدمون صلواتهم المستمرة أمام العرش الإلهي لأجل خلاص العالم كله! إن كان المؤمنون المجاهدون على الأرض يشعرون بالتزام الحب فيصلون من أجل إخوتهم فهل الذين عبروا إلى الحب ذاته يتخلون عن مسئولياتهم في مساعدة الغير بصلواتهم. وهل نحسب صلواتهم الصادرة عن الحب هو انشغال عن الله الذي هو وكل السمائيين يشتهون خلاص كل البشرية؟!

يلاحظ هنا بخصوص يوسف الآتي:

انقسم أبناء يوسف إلى سبطين: أفرايم ومنسَّى. وانقسم مِنسَّى إلى فريقين، فريق نال نصيبه في شرقي الأردن والآخر في غرب الأردن، وانقسم الفريق الذي في شرق الأردن إلى عائلتين: عائلة يائير لها نصيب معين [14]، وعائلة ماكير [15]. بهذا ربما تحققت نبوة أبينا يعقوب عما سيحل بمِنسَّى، إذ وضع يده اليسرى عليه لا اليُمنى مع أنه البكر، وحين حاول يوسف أن ينقل يد أبيه اليُمنى إلى رأس مِنسَّى رفض أبوه قائلاً: "علمت يا ابني علمت. هو أيضًا يكون شعبًا وهو أيضًا يصير كبيرًا، ولكن أخاه الصغير يكون أكبر منه، ونسله يكون جمهورًا من الأمم" (تك 48: 17-19). تحققت النبوة إذ انقسم سبط مِنسَّى إلى عائلات صغيرة كثيرة بينما بقي أفرايم سبطًا متكاملاً معًا.

كان الجشوريون والمعكيون مملكتين صغيرتين لم يستولِ عليهما بنو إسرائيل، بل تركوهما يعيشان تحت سيطرتهم.

الجشوريون: هم سكان منطقة جشور. اسم عبري معناه "جسر"، تتاخم أرجوب وتقع شرقي معكة داخل نصيب منسى. صارت جشور مستقلة، هرب إليها أبشالوم بعد قتله أمنون (2 صم 13: 37). على حدودها جسر على نهر الأردن بين طبرية والخولة، يُسمى جسر بنات يعقوب.

أما المعكيون فهم سكان معكة. وهو اسم عبري معناه "ظلم". اشترك المعكيون مع الأراميين والعمونيين في الحرب ضد داود لكنه انتصر عليهم. من المحتمل أن يكون هي بيت جنو الحديثة (يش 19: 21)، وهي من نصيب يساكر غرب بحر الجليل.     

"وأمرتكم في ذلك الوقت قائلاً:

الرب إلهكم قد أعطاكم هذه الأرض لتمتلكوها،

متجردين، تعبرون أمام إخوتكم بني إسرائيل كل ذوي بأس.

أما نساؤكم وأطفالكم ومواشيكم قد عرفت أن لكم مواشي كثيرة فتمكث في مدنكم التي أعطيتكم.

حتى يريح الرب إخوتكم مثلكم،

ويمتلكوا هم أيضًا الأرض التي الرب إلهكم يعطيهم في عبر الأردن،

ثم ترجعون كل واحدٍ إلى ملكه الذي أعطيتكم.

وأمرت يشوع في ذلك الوقت قائلاً:

عيناك قد أبصرتا كل ما فعل الرب إلهكم بهذين الملكين،

هكذا يفعل الرب بجميع الممالك التي أنت عابر إليها.

لا تخافوا منهم لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم" [18-22].

"يريح الرب" [20].

الكلمة "راحة" تفيض ببركاتها في كل الكتاب المقدس، وما وعد به إسرائيل هنا، نالوه في عهد سليمان (1 مل 5: 4)، لكن أوفى للوعد بأكثر كمالاً بالراحة التي تجدها النفس في المسيح (مت 11: 28، عب 4: 5-8).

"وأمرت يشوع" [21] اللمحات التي نراها عن العلاقة بين موسى ويشوع رائعة. نرى يشوع أولاً قائدًا للجيش (خر 17: 9) وخادمًا لموسى (خر 24: 13) وملازمًا غيورًا لموسى (عد 11: 28). وتتجلى محبة موسى ليشوع في (تث 1: 38، 31: 3، عد 27: 18-23).

3. تضرع موسى لدخول كنعان:

"وتضرعت إلى الرب في ذلك الوقت قائلاً:

يا سيِّد الرب أنت قد ابتدأت تُري عبدك عظمتك ويدك الشديدة،

 فإنه أي إله في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك؟!

دعني أعبر وأرى الأرض الجيدة التي في عبر الأردن هذا الجبل الجيد ولبنان.

لكن الرب غضب عليَّ بسببكم ولم يسمع لي،

بل قال لي الرب:

كفاك لا تعد تكلمني أيضًا في هذا الأمر.

اصعد إلى رأس الفسجة،

وارفع عينيك إلى الغرب والشمال والجنوب والشرق،

وانظر بعينيك لكن لا تعبر هذا الأردن" [23-27].

تضرع موسى النبي متوسلاً أن يسمح له الله أن يعبر مع الشعب ليتمتع بأرض الموعد. وجاءت إجابة الله: "كفاك! لا تكلمني أيضًا في هذا الأمر" [26]. كان قلب موسى (رمز الناموس) ملتهبًا بالشوق نحو دخول كنعان، وبسبب الشعب حُرم من الدخول، لكنه لم يُحرم من الصعود على رأس الفسجة ليرى بعينيه الأرض، حتى يأتي يشوع ويعبر بالشعب ويقسم لهم الأرض. هكذا بالناموس تطلعوا إلي كنعان السماوية لكن بالمسيح يسوع (رمزه يشوع) وحده ندخل إليها وننعم بالميراث.

منذ أربعين عامًا وموسى كان يُعد نفسه مشتاقًا أن يتحقق الوعد الإلهي فيدخل مع الشعب ويقوم بتوزيع الأرض عليهم.

الله كأب حنون لم يحتمل توسلات موسى وصرخات قلبه، فسأله: "كفاك!" وهبه أن يراها من رأس جبل الفسجة، ويترك تلميذه يعبر بالشعب ويوزع الأرض. وبعد حوالي ألفي عامًا عبر موسى إلى الأرض حين ظهر على جبل تابور حيث تجلي الرب.

أولاً: في تضرعه لله يبدأ بالشكر على معاملات الله العجيبة وعطاياه، مسبحًا إيَّاه: "يا سيِّد الرب، أنت قد ابتدأت تُري عبدك عظمتك ويدك الشديدة، فأي إله في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك؟!" [24]. إذ نال موسى النبي بركات إلهية سبح الله، والتهب قلبه بالأكثر لينال ويتمتع بالله نفسه وعطاياه الفائقة. كلما رأينا الله وتلمسناه في حياتنا زاد عطشنا إليه وشوقنا إلى رؤياه والتمتع به.

لم ينشغل موسى النبي بالنصرات ولا بما امتلكه شعبه من أراضِ وحقول، لكنه انشغل بإدراك قوة الله وجبروته، فإنه ليس إله في السماء وعلى الأرض مثله. وكما سبق فقال عند عبوره بحر سوف: "من مثلك بين الآلهة يا رب؟! من مثلك معتزًا في القداسة؟! مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب" (خر 15: 11). وكما قيل: "لا مثل لك بين الآلهة يا رب ولا مثل أعمالك" (مز 86: 8).

ثانيًا: تضرع إلى الرب لكي يعبر به إلى أرض كنعان. لم يطلب أن يملك أو يسيطر بل أن يرى "الأرض الجيدة". أنه كان يشتهي أن يرى الأرض الجديدة كمقدس للرب، حيث يسكن الله في وسط شعبه. وكما يقول المرتل: "وأدخلهم في تخوم قدسه هذا الجبل الذي اقتنته يمينه" (مز 87: 54). كانت عيناه تتطلعان إلى سكنى الرب القدوس وسط شعبه لتقديسهم.

ثالثًا: حملت إجابة الله رحمةً وعدلاً. فقد غضب الله عليه بسبب الشعب ولم يسمع له [26]، لكنه غضب الأب على ابنه، يحمل حبًا أبويًا وحنانًا. هذا الحنو يظهر في أمورٍ كثيرةٍ، وكما سبق فقلنا أنه وهبه أن يتمتع بالنصرة على سيحون وعوج لكي يرث سبطان ونصف سبط شرقي الأردن. ثانيًا وهبه أن ينظر أرض الموعد غربي الأردن من قمة جبل نبو. وأخيرًا وهبه أن يقود تلميذه الذي هو بمثابة ابنه أن يدخل بالشعب ويقوم بتوزيع الميراث. وكأن ما يناله يشوع يحسبه موسى كأب قد ناله هو.

هذا وإن كان الله قد قال له: "كفاك"، إنما لأن موسى النبي نال مجدًا بما فيه الكفاية. فكما سبق أن قلنا أنه كان رمزًا للناموس قائدنا للمسيح. أنه يقود المؤمنين إلى السيِّد المسيح، لكنه يعجز عن أن يحقق لهم ما يحققه الرب يسوع نفسه. كأن الله يقول له: كفاك، فقد حققت رسالتك، وستنال أمجادًا سماوية، فإن كنت لا تعبر بهم نهر الأردن لكنك ستعبر أنت إلى إكليل المجد الأبدي. كان يليق بموسى أن يُدرك أنه حتى للعظيم في الأنبياء رسالة معينة محددة لا يتجاوزها. أخيرًا إذ سأله أن يشجع يشوع ويشدده إنما ليؤكد له أن المتاعب التي ستواجه يشوع بن نون كثيرة، وقد نال موسى النبي نصيبه من الجهاد وتمتع بنصرات مع بعض الضعفات في حياته، الآن يأتي دور تلميذه ليشترك في حمل الآلام من أجل الرب.

4. وصية موسى ليشوع:

"وأما يشوع فأوصه وشدده وشجعه،

لأنه هو يعبر أمام هذا الشعب،

وهو يقسم لهم الأرض التي تراها.

فمكثنا في الجواء مقابل بيت فغور" [28-29].

كما شدد الرب قلب موسى قائلاً له: "لا تخف" [2]، التزم موسى بدوره أن يوصي يشوع ويشدده ويشجعه كي لا يخاف [28].

لقد سمع يشوع لحديث معلمه موسى النبي، الذي ذكره مع كل القيادات والشعب بأمرين: الأول ما صنعه الله معهم خاصة بالخروج من مصر، والعناية بهم في البرية، والنصرات على الأعداء، خاصة على سيحون وعوج. وكأن الله الذي بدأ العمل واستمر فيه عبر هذه الأربعين عامًا حتمًا سيكمله إلى النهاية. لقد رأى يشوع بعينيه أعمال الله الفائقة، لكنه أيضًا سمع كلمات موسى لتذكيره. أما الأمر الثاني فهو ما وعد الله به، بأنه سيحارب عنهم ومعهم، لكي يملكوا ويرثوا. فإن كان الله معهم من يكون عليهم؟!

"فمكثنا في الجواء (الوادي) مقابل بيت فغور" [29].

"بيت فغور" هي مدينة كانت في مملكة سيحون ملك الأموريين، أخذت اسمها ربما من هيكل الإله فغور Peor الذي كان يُعبد هناك، وهو غالبًا نفس الإله Priapus لدى الرومانيين. كلمة "فغور" اسم موآبي معناها "شق".

ربما كان موسى النبي يتطلع نحو معبد فغور من بعيد ونفسه تتمرر مدركًا ما سيحل بشعبه فيما بعد، إذ يسقطون في عبادة الأوثان مع بقية الأمم. فإن كان عجل أبيس قد خرج مع الشعب في قلوبهم وأفكارهم حتى صبوا تمثالاً له وسجدوًا له في اللحظات التي عاش فيها موسى على الجبل حيث كان يتحدث مع الله، فماذا سيكون حالهم بعد موته وبعد لقائهم مع أمم كثيرة يمارسون رجاسات كثيرة.


 

من وحي تثنية 3

كفاك! لا تعد تكلمني في هذا الأمر!

v     لم يكف موسى نبيك عن أن يطلب الدخول إلى أرض الموعد!

منذ دعوته وعيناه تتطلعان نحو كنعان،

وقلبه يصرخ: متى أراك ساكنًا في كنعان وسط شعبك!

احتمل ضيقات يومية مترجيًا أن يدخل كنعان!

لا ليرث أرضًا بل ليراك متجليًا وسط شعبك!

v     من يستحق أن يسمع صوتك الأبدي:

"وهبتك نصرات مستمرة لتغلب وترث!

قدمت لك سلطانًا حتى على إبليس وأعماله!

فتحت أبواب كنعان السماوية أمامك.

هيأتك لكي تدخل وتستقر أبديًا!

كفاك. لقد نلت العربون، فلتتمتع بكمال المجد.

كفاك. احتملت الكثير من أجل كنعان،

فلتأتِ إليَّ وتدخل إلى مسكني!"

<<

 

 

 


 

الأصحاح الرابع

دعوة إلى الاقتراب من الله

والالتجاء إلى مدن الملجأ

بعد أن عرض موسى النبي لمعاملات الله مع شعبه عبر التاريخ إلى وقوفهم عند أبواب أرض كنعان [1-8]، أوضح لهم ضرورة الاقتراب إلى الله، خاصة خلال قبول الوصيَّة الإلهيَّة، ورفض عبادة الأوثان. حثَّهم على تذكُّر ما صنعه الله معهم في الماضي لكي يعلن ذاته لهم بكونه محبًا لهم [9-14]. وأن هذا الإله غير المنظور الذي يقطع معهم عهدًا لا يجوز استبداله بحجارة لا حياة فيها أو خشب أو أيَّة خليقة [15-24]. فمن يعبد الأصنام يدمِّر نفسه، أمَّا من يخدم الله ويعبده فيحرِّر نفسه من العبوديَّة ويتمتَّع بالعهد معه [32-40]. كما أعلن عن اهتمام الله بحماية الأبرياء خلال مدن الملجأ، أي تطهير الأرض من سفك دم الأبرياء.

باستعراض معاملات الله مع شعبه في البرِّيَّة قدم موسى النبي النتائج التالية:

·        بالوصايا ننعم بالحياة وندخل أرض الموعد لنملك [1].

·        بها ندرك أن الله قريب جدّا من شعبه يسمع لهم [7]، ويتحدَّث معهم [36].

·        تحذير من الصور والتماثيل للعبادة، فإن "الرب إلهك هو نار آكله إله غيور" [24]، لا يقبل الخلط بين التعبُّد له والعبادة الوثنيَّة، ليس إله سواه [39].

          1. الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة           [1-8].

          2. الوصيَّة الإلهيَّة والجيل الجديد     [9-10].

          3. رفض العبادة الوثنيَّة              [11-22].

          4. العهد الإلهي والعبادة الوثنيَّة      [23-31].

          5. الإله الواحد محب شعبه           [32-40].

          6. مدن الملجأ                       [41-43].

          7. مقدِّمة العظة الثانية               [44-49].

1. الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة:

"فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعملوها،

لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب إله آبائكم يعطيكم" [1].

"الفرائض": الكلمة الأصليَّة "حقيم" معناها "الحفر"، إذ يلزم السلوك بحسب ما يمليه ضمير المؤمن وضمير الأمة حيث تُحفر الوصيَّة الإلهيَّة ولا يقدر الزمن أن يمحيها.

"الأحكام": الحكم في العبريَّة "مشفاط" ومعناها "قرار حاسم"، وهي مرتبطة بالقاضي الذي يصدر الحكم واسمه بالعبريَّة "شفيط" (1: 16-17)؛ والدعاوي التي يفصل فيها القضاة أو المحاكم على النحو المبيَّن في (خر 17: 21-22) تعطينا مثالاً لذلك. وتستعمل الكلمة أيضًا عن قرارات الله الحاسمة في إدانة الشرِّير وتبرئة البريء. وهكذا فإن كلمتي "الفرائض والأحكام" تشملان كل القوانين والشرائع.

ماذا طلب منهم بخصوص الوصيَّة؟

أولاً: الاستماع للوصيَّة. أول كلمة في الشريعة هي "اسمع"، فإن عمل الخطيَّة الأول هو إعطاء الأذن لغير الله، حتى لا تعمل الكلمة في الخاطئ. وأول وصيَّة موجَّهة لنا هي "اسمع"، حتى تجد كلمة الله لها مدخلاً إلى أعماق النفس، فتسكن هناك وتعمل على الدوام، وتُقيم الملكوت السماوي الإلهي. كلمة "اسمع" لا تعني بطريقة ميكانيكيَّة حرفيَّة، إنَّما تعني الإنصات الفعَّال الحيّ المملوء غيرة. مثل هذا الاستماع العامل والملتهب بروح الحب هو نوع من الصلاة التي لا تخيب. لخَّص موسى النبي خبرة معاملات الله مع آبائهم خلال فترة التيه، أنَّه لا طريق للنصرة إلاَّ بالطاعة النابعة عن الحب. وقد قدَّم المبرِّرات للطاعة لله. فإن الله يُريد لنا الحياة والحياة الفُضلى. "لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض" [1]. الطاعة هي الأساس الوحيد للتمتُّع بالحياة، وتحقيق وعود الله الفائقة للمؤمن. الله يود أن يعطي بسخاء، وبالطاعة نفتح قلوبنا ونبسط أيدينا لكي نستقبل عطاياه العجيبة.

إن كان من جانبهم يلتزمون بالاستماع بروح الصلاة، فمن جانبه التزم أن يعلم ما هو للرب، لذلك يقول:

"لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به،

ولا تنقصوا منه،

لكي تحفظوا وصايا الرب إله آبائكم التي أنا أوصيكم بها" [2].

هذا الذي منذ أربعين عامًا اعتذر عن الخدمة لأنَّه ثقيل اللسان، صار رجل كلام يتحدَّث فيما للرب، بل يقدِّم سفرًا كاملاً يكاد أن يكون كلُّه عظات أو أحاديث طويلة مع القيادات والشعب. صار معلِّمًا للمعلِّمين، يقدِّم كلام الله لا كلامه الخاص. إذ يطلب ألاَّ يزيدوا ولا يُنقصوا عمَّا يوصي به، فيحفظون بهذا وصايا الرب.

ثانيًا: النظر والعمل. طالب أولاً بالاستماع [1] ثم بالنظر [3] فالعمل أو اللمس، مستخدمًا مع حاستي الاستماع والنظر حاسة اللمس. إذ يقول: "فاحفظوا واعملوا". يليق أن يتحوِّل الاستماع إلى عمل: "لتعملوها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب إله آبائكم يعطيكم" [1].

نعمل ليس لأن الله محتاج إلى خدمتنا أو عملنا، وإنَّما لأنَّه بالعمل نتمتَّع بالحياة "لكي نحيا". فمن يدفن الوصيَّة في ذهنه ولا يحوِّلها إلى عمل تصير نفسه أشبه بقبرٍ لا يحمل رائحة حياة. بالوصيَّة العاملة في سلوكنا ندخل إلى مواعيد الله ونملك ونرث.

خلال لسانه الثقيل قدَّم موسى النبي كلمات الرب الحيَّة لكي ينصت الكل إليها بروح الصلاة مع العمل. الآن خلال أحداث التاريخ القريب يتحدَّث الرب إليهم بلغة العمل والواقع لذا يقول:

"أعينكم قد أبصرت ما فعله الرب ببعل فغور،

إن كل من ذهب وراء بعل فغور أباده الرب إلهكم من وسطكم" [3].

يقصد هنا ببعل فغور المكان وأيضًا إله المكان. فقد امتزجت عبادة الكنعانيِّين للبعل بأعمال جنسيَّة دنسة ورجاسات.

لقد طلب بطرس ويوحنا من الشعب أن ينظروا عمل الله معهم حينما شُفي الأعرج الذي عند باب الجميل (أع 3)، إذ قالوا "ما بالكم تتعجَّبون من هذا؟ ولماذا تشخصون إلينا كأنَّنا بقوَّتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟!" (أع 3: 12). لنتطلَّع إلى التاريخ بالعينين اللتين فتحهما الرب ونقول مع المولود أعمى: "كنتُ أعمى والآن أُبصر". نرى عبر التاريخ والأحداث عمل الله الفائق وندرك وصيَّته المكتوبة بلغة الحب العامل في التاريخ.

ثالثًا: نقاوة الوصيَّة:

"لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به،

ولا تنقصوا منه،

لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها.

وأمَّا أنتم الملتصقون بالرب إلهكم فجميعكم أحياء اليوم.

انظر قد علَّمتكم فرائض وأحكامًا كما أمرني الرب إلهي،

لكي تعملوا هكذا في الأرض التي أنتم داخلون إليها لكي تمتلكوها" [2-5].

إن كانت الوصيَّة كنزًا ثمينًا، كالفضَّة المصفّاة سبع مرات (مز 12: 6)، فيليق ألاَّ نُضيف إليها شيئًا من عندياتنا فتصير الفضَّة مخلوطة بالزغب. ككنزٍ ثمينٍ لا نضيف إلى الوصيَّة شيئًا ولا ننقص، بل نحفظها في حياتنا نقيَّة. يقول سليمان الحكيم: "قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنَّه يكون إلى الأبد. لا شيء يُزاد عليه، ولا شيء ينقص منه" (جا 3: 14).

وقُبيل نهاية الكتاب المقدَّس وُضع سور يحفظه من أيَّة إضافة أو نقص، إذ قيل: "لأنِّي أشهد لكل من يسمع أقوال نبوَّة هذا الكتاب إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب؛ وإن كان أحد يحذف من أقوال هذه النبوَّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدَّسة، ومن المكتوب في هذا الكتاب" (رؤ 22: 18-19).

يليق بالكنيسة أن تحفظ الكتاب المقدَّس بلا زيادة ولا نقص؛ وفي تفاسيرها له أن تحمل ذات روح الكتاب. والآن ما هو موقف المسيحي من شريعة موسى؟ يمكن تلخيص الجواب في الآتي:

أولاً: كل ما كُتب كتب لأجل تعليمنا. تحتوي الشريعة على عناصر رمزيَّة لا يلتزم المسيحي بتنفيذ حرفها.

ثانيًا: تحتوي على مبادئ خالدة للقداسة والعدالة والحق، وهذه متضمِّنة في الوصايا العشر والتشريع المبني عليها، وهي أوامر لكل العصور، لليهود والمسيحيِّين على السواء، وقد اقتُبست في العهد الجديد كوصايا أو أوامر ومعها القول: "مكتوب" (انظر مت 4: 10، 5: 17، رو 13: 9، 1بط 1: 16).

ثالثًا: يخبرنا الكتاب المقدَّس بوضوح أن موسى كتب عن المسيح (يو 5: 46). فلنبحث عن السيِّد المسيح في كل الصفحات لأن كل الناموس قصد به أن يقودنا إليه (غلا 3: 24).

رابعًا: بالطاعة تُعلن حكمتنا وفطنتنا: في حفظ الوصيَّة الإلهيَّة والعمل بها نعلن عن الحكمة التي نتمتَّع بها في الرب.

"فاحفظوا واعملوا،

لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض،

فيقولون هذا الشعب العظيم إنَّما هو شعب حكيم وفطن" [6].

إن كانت الوصيَّة الإلهيَّة تبعث فينا مخافة الرب، إنَّما تبعث فينا الحكمة الإلهيَّة. وكما قيل: "مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم" (أي 28: 28).

لنعمل فنشهد لعمل الله فينا، ويتمجَّد فينا، حيث تتجلَّى حكمة الله وتُعلن أسراره في حياتنا. هكذا نشهد لفرائض الله وأحكامه العادلة [8]. ليس بالحوار بل بالحياة العمليَّة، ببرّ المسيح العامل فينا.

خامسًا: بالطاعة نشهد لله أمام الكل أنَّه قريب إلينا ينصت إلى صلواتنا ويستجيب لشهوة قلوبنا. سرّ عظمة المؤمن أنَّه بالصلاة يكون قريبًا من الله جدًا. "لأنَّه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه؟!" [7].

سادسًا: الشهادة لسمو الوصيَّة الإلهيَّة والشرائع الإلهيَّة عن كل الشرائع البشريَّة. بحفظ الوصيَّة والعمل بها نشهد أن الشريعة الإلهيَّة فريدة، لا تُقارن بشرائع الأمم ودساتيرهم.

"وأي شعب هو عظيم له فرائض وأحكام عادلة مثل كل هذه الشريعة التي أنا واضع أمامكم اليوم؟!" [8].

يقول المرتِّل: "لأجل ذلك حسبت كل وصاياك في كل شيء مستقيمة، كل طريق كذب أبغضت" (مز 118: 128)، كما يقول: "يخبر يعقوب بكلمته، وإسرائيل بفرائضه وأحكامه. لم يصنع هكذا بإحدى الأمم، وأحكامه لم يعرفوها" (مز 147: 19-20).

إن قورنت العبادة بكل طقوسها والشرائع بكل تفاصيلها بما كان سائدًا في العالم في ذلك الحين فلن نجد وجهًا للمقارنة بين ما قدمه الله لشعبه، وبين ما تمارسه وتعتقد به الشعوب الأخرى. لقد اقتبست كثير من الشعوب الأسيويَّة والأوربيَّة الحديثة والقديمة من الشريعة الموسويَّة بعض قوانينها.

أمَّا ثمار الطاعة والعصيان فهي:

·        يؤكِّد موسى النبي مرارًا وتكرارًا أن الطاعة تنتج بركات إلهيَّة [5].

·        الشهادة أمام الأمم عن الله وعمله مع مؤمنيه [6]، هكذا ترتبط الطاعة بالكرازة (مر 16: 15)، إذ يلتزم كل مؤمن صادق أن يشهد ويكرز بإنجيل الخلاص. كل مؤمن ملتزم أن يختبر الطاعة ويقدِّم خبرته لأولاده وأحفاده [9].

بعد أن تحدَّث عن تاريخ الشعب في معاملاته مع الله، بدأ يختم عظته بضرورة الالتصاق بالله نفسه خلال الطاعة لوصيَّته الإلهيَّة. فإن غاية التاريخ هو أن نلتصق بذاك الذي في يديه تاريخ البشريَّة، والذي يشتهي أن يدخل التاريخ مع الإنسان ليحمله إليه، إلى ما فوق التاريخ. فالوصيَّة الإلهيَّة والأحكام والشرائع قُدِّمت للإنسان لا لمجرَّد الخضوع لها، وإنَّما للالتصاق بذاك القادر أن يرفعه إلى ما فوق الزمنيَّات والأحداث.

2. الوصيَّة الإلهيَّة والجيل الجديد:

بعد أن تحدَّث عن الجوانب الإيجابيَّة أن يسمع المؤمن [1]، ويرى [3]، ثم يعمل [6]، تحدَّث عن جانب خطير قادر أن يُحطِّم كل هذه الإيجابيَّات ألا وهو نسيان ما قد رأيناه بعيوننا، فيفسد القلب. لهذا يقدم لنا التحذير التالي:

"إنَّما احترز واحفظ نفسك جدًا لئلاَّ تنسى الأمور التي أبصرت عيناك،

ولئلاَّ تزول من قلبك كل أيَّام حياتك،

وعلِّمها لأولادك وأولاد أولادك" [9].

لا يقف الأمر عند الاستماع للوصيَّة والعمل بها وحفظها نقيَّة ككنزٍ ثمينٍ في القلب، إنَّما يلزم التعليم بها وتسليمها خاصة للأجيال الجديدة. لنذكر دائمًا ما رأته أعيننا الجسديَّة من بركات الرب الزمنيَّة وأعيننا الداخليَّة من بركات روحيَّة سماويَّة. هذا هو سرّ القوَّة في حياة القدِّيس يوحنا الحبيب. إذ يذكر ما رآه خاصة بالروح، فيقول: "رأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا" (يو 1: 14). "الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبديَّة" (1 يو 1: 1).

حب الله الفائق ورعايته العجيبة وعنايته، أمور تراها العين المنظورة والبصيرة الداخليَّة. لهذا إذ نتحدَّث مع أولادنا وأحفادنا إنَّما نقدِّم شهادة حيَّة كشهود عيان. نؤكِّد لهم إنَّنا رأينا وسمعنا ولمسنا وذقنا ما أطيب أو أحلى الرب!

تجاهل عمل الله معنا أو نسيانه هو جريمة كبرى وجحود نحو خالق محب ومخلِّص عجيب ندين له بحياتنا وقيامتنا كما من الموت. لهذا يقدِّم الرسول بولس إنجيله خلال خبرته الحيَّة فيقول: "نحن الذين كنَّا قبلاً في الظلمة..."، كما أن نسيان عمل الله يحوِّل حياة الإنسان إلى الفساد، فيصير جاحدًا ومجرمًا في حق نفسه، فإن تذكَّر معاملات الله

يحوِّل حياته إلى تسبحة يوميَّة وسيمفونيَّة رائعة تفرِّح قلوب السمائيِّين.

كيف نمارس تذكُّر معاملات الله؟

"علِّمها لأولادك وأولاد أولادك" [9]. ليس من طريق للتذكُّر أعذب من التسليم أو التقليد، فنسلِّم أولادنا ذكريات عمل الله معنا. ليكن حديثنا مع أولادنا وأحفادنا حسب الجسد أو الروح حديثًا روحيًا خاصًا بعمل الله معنا عبر التاريخ. هذا وإنَّنا لن نقدر أن نشهد للسيِّد المسيح أمام أولادنا وأحفادنا ما لم نكن قد رأيناه. فالحديث عن المخلِّص لا يحمل قوَّة ما لم يكن المتحدِّث قد اختبر الخلاص وأدرك قوَّة المخلِّص في حياته عمليًا.

"(خاصة) في اليوم الذي وقفت فيه أمام الرب إلهك في حوريب،

حين قال لي الرب: اجمع لي الشعب فأسمعهم كلامي،

لكي يتعلَّموا أن يخافوني كل الأيَّام التي هم فيها أحياء على الأرض ويعلِّموا أولادهم" [10].

بلا شك لكل إنسان أيَّام خاصة لن تُمحى من الذاكرة. سفر التثنية مملوء بذكريات موسى، ويمكن تقسيم هذه الذكريات  إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: في مصر والرحلة إلى سيناء (4: 34).

القسم الثاني: إعطاء الشريعة في سيناء.

القسم الثالث: الرحلة من حوريب إلى قادش (8: 1).

القسم الرابع: حوادث رحلة السنتين الأخيرتين (23: 4).

يشغل القسم الثاني جزءً كبيرًا من الأصحاحات (4، 5، 9، 11) من السفر، وتتحدَّث عن عهد الرب والوصايا العشر والبروق والرعود في سيناء والارتداد بعبادة العجل الذهبي وتوسُّط موسى للشعب وكتابة الوصايا العشر مرَّة أخرى، وتخصيص سبط لاوي للكهنوت.

لقد طلب موسى من الشعب أن يتذكَّروا ذلك اليوم الخاص، ذلك الذي وقف فيه في حضرة الرب في حوريب. حقًا كل أيَّام خدمة موسى لا تنسى، كلَّها أيَّام مثمرة للغاية، لكنَّه لن ينسى ذلك اليوم الخاص الذي تميَّز بالآتي:

·        وقوفه في حضرة الرب.

·        حديث الرب عن شعبه.

·        الله يطلب من الشعب أن يجتمع معًا حول كلمته الإلهيَّة لكي يسمع ويحفظ.

·        غاية الكلمة الإلهيَّة المُسلَّمة لهم هو بث روح المخافة الإلهيَّة، وتعليم الأجيال الجديدة.

هذه هي الذكريات التي حملها ذلك اليوم الخاص بالنسبة للعظيم في الأنبياء موسى. أمَّا بالنسبة لنا فلنا يوم خاص لن ننساه قط، يوم رُفع مسيحنا على الصليب لكي نوجد في حضرة الآب على الدوام. فيه تحدَّث الآب معنا لا بالفم وحده، بل بلغة الحب العامل، مقدِّمًا دم ابنه الوحيد المبذول حديث حب لا يُعبَّر عنه. فيه تجتمع الكنيسة كلَّها بقلبٍ واحدٍ كأعضاء لجسد الرب المصلوب، تسمع صوت الحب وترى الأمجاد المعدَّة لها، وتتلامس مع السماوي. فيه تدرك النفس غاية كلمة الله المتجسِّد المصلوب، به تتمتَّع بالمخافة الربانيَّة، مخافة البنين نحو أبيهم، وفيه نتسلَّم روح الكرازة والشهادة للحق أمام الأجيال المقاومة.

يليق بالجيل الجديد أن يتطلَّع إلى الوصيَّة الإلهيَّة هكذا:

أ. احترز، أي يكون الإنسان يقظًا، حتى يميِّز الحق من الباطل.

ب. احفظ نفسك جدًا: أي يكون الإنسان مجاهدًا، يكرس أعماقه الداخليَّة بشوق لتنفيذ الوصيَّة.

ج. ألاَّ ينسى: فينشغل فكره بالوصيَّة، ولا ينسى مراحم الله وأعماله معه.

د. لئلاَّ تزول من قلبك: أي لا يكفي انشغال الفكر بها، وإنَّما انشغال القلب، فيحب الوصيَّة بكل كيانه الداخلي. يحتفظ بالوصيَّة في قلبه، فتحفظ هي قلبه، ولا يسقط من بين يدي الله، ولا تُحرم أعماقه من غنى النعمة الإلهيَّة.

هـ. كما استلمها من آبائه: يليق به أن يسلِّمها إلى أولاده، فتصير الوصيَّة تقليدًا حيًّا معاشًا، يقدِّمه كل جيل إلى الجيل المقبل.

يعلِّق القدِّيس أثناسيوس الرسولي على هذه العبارة بأن الخليقة بجمالها الفائق، خاصة السماء بكواكبها هي معلِّم صامت لكي يتعرَّف الأمم على الله خالق الكل، وليس لكي تكون لهم آلهة يتعبَّدون لها[39]. هكذا إذ تفسد بصيرة الإنسان، يحول ما هو جميل لا لبنيان نفسه بل لتحطيمها.

3. رفض العبادة الوثنيَّة:

من بين كل الوصايا اختار موسى النبي وصيَّة عدم الارتباط بالعبادة الوثنيَّة. فقد بدأ الشعب يحتك بالأمم بطريقة أو أخرى، وصار الانحراف نحو العبادة الوثنيَّة وممارسة رجاساتها يمثِّل أهم خطر يلحق بشعب الله.

ربَّما تقول: "لا توجد اليوم عبادة وثن". الوثن هو كل ما يفصل قلبك عن الله، أو يعوق حبَّك له، لذا دعا الرسول بولس الطمع عبادة أوثان (أف 5: 5). كل ما يحتل المركز الأول في القلب، وتعطي له أولويَّة عن الله نفسه هو عبادة وثن، حتى إن كان ممارسة رياضة معيَّنة أو الانشغال ببرنامج تلفزيوني أو بالإنترنت. ما دامت هذه الأمور تحتل مركز الله في القلب.

إذ أراد أن يتحدَّث عن رفض العبادة الوثنيَّة بدأ موسى النبي بالجانب الإيجابي وهو الالتقاء بالله نفسه. فإن لقاءه معه على جبل سيناء يحمل ذكريات خالدة لن يقدر الزمن أن يمحوها. بل يحسب موسى النبي أن ما حدث قديمًا مع الجيل الذي مات في البرِّيَّة كما لو كان قد حدث مع الجيل الجديد. أنَّه لقاء الله مع شعبه عبر كل الأجيال لهذا يقول للجيل الجديد:

"فتقدَّمتم ووقفتم في أسفل الجبل،

والجبل يضطرم بالنار إلى كبد السماء بظلامٍ وسحابٍ وضبابٍ" [11].

مع تقدُّم موسى ليرتفع إلى قمَّة الجبل ويلتقي مع الله وجهًا لوجه ويستلم منه لوحيّ الشريعة المكتوبة بإصبع الله تقدَّم أيضًا الشعب، لكنَّهم لم يقدروا ألاَّ أن يقفوا أسفل الجبل. كان موسى أشبه بالابن المدلَّل في حضن أبيه، وكان الشعب أشبه بالمطروحين أمامه أرضًا.

يقول النبي: "تقدَّمتم ووقفتم". يتحدَّث موسى النبي مع الكل كأنَّهم كانوا واقفين يرون بهاء مجد الله العظيم عند تسلُّم الشريعة، مع أن كثيرين منهم لم يكونوا بعد قد وُلدوا، والآخرون كانوا أقل من 20 عامًا. لكن ما حدث مع آبائهم إنَّما حدث لحسابهم ولحساب الأجيال المقبلة كلَّها. لهذا عندما نسمع هذه الكلمات نحسب أن موسى النبي يحدِّثنا نحن. نحن تقدَّمنا، ونحن وقفنا عند أسفل الجبل، ونحن رأينا الجبل مضطرمًا بالنار، ورأينا مجد الرب خلال الظلام والسحاب والضباب، وكلَّمنا الرب من وسط النار. لقد كنَّا مع موسى في حوريب وسمعنا الشريعة الإلهيَّة.

"فكلَّمكم الرب من وسط النار وانتم سامعون صوت كلام ولكن لم تروا صورة بل صوتًا.

وأخبركم بعهده الذي أمركم أن تعملوا به الكلمات العشر وكتبه على لوحي حجر.

وإيَّاي أمر الرب في ذلك الوقت أن أعلِّمكم فرائض وأحكامًا لكي تعملوها في الأرض التي أنتم عابرون إليها لتمتلكوها" [12-14].

          بعد أن تحدَّث عن رسالتهم في تسليم الأجيال الجديدة ما تسلَّموه منه أراد تأكيد أن التسليم لا يكون بالكلام فقط وإنَّما بالعمل أيضًا، لهذا يكرِّر في هذا الأصحاح كلمة "تعملوها". هذا هو التقليد الحيّ حيث نسلِّم للجيل الجديد الوصيَّة الحيَّة العاملة فينا.

"عهده": وردت هذه الكلمة 27 مرَّة في السفر، وهذه أوَّلها، والكلمة الأصليَّة "بريث" تدل على صكٍ بشروطٍ، إلاَّ أنَّها تدل أيضًا، كما هو الحال هنا، على تأسيس عهدٍ ورابطةٍ ثابتة بين طرفين. وقد يكون هذا عهد أُخوُّة كعهد داود ويوناثان (1 صم 18: 3)، وقد يكون عهد سيادة كعهد داود مع الشعب، أو عهد نعمة خالصة كعهد الله مع نوح (تك 9: 9). كان عهد حوريب عهد نعمة خالصة، إذ اتَّخذ الله فيه إسرائيل شعبًا خاصًا له، كما أنَّهم اتَّخذوه إلهًا لهم (خر 19: 5-8).

يقدِّم لنا موسى النبي لقاءه هو والشعب مع الله عند استلام الشريعة كمثلٍ حيّ للقاء مع الله عبر الأجيال. فإن الله روح والذين يسجدون لله فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا. فلا تليق العبادة للأصنام أيّا كان شكل الصنم، بل نلتقي مع الله على صعيد الروح لكي ننعم بالاتِّحاد معه. عبادة الأوثان لا تضر الله نفسه، بل تهلك الإنسان وتفسد حياته، لهذا يحذِّرهم منها قائلاً:

"فاحتفظوا جدًا لأنفسكم،

فإنَّكم لم تروا صورة ما يوم كلَّمكم الرب في حوريب من وسط النار،

لئلاَّ تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالاً منحوتًا،

صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى،

شبه بهيمة ما ممَّا على الأرض،

شبه طير ما ذي جناحٍ ممَّا يطير في السماء.

شبه دبيب ما على الأرض،

سمك ما ممَّا في الماء ومن تحت الأرض.

ولئلاَّ ترفع عينيك إلى السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء،

فتعثر وتسجد لها وتعبدها" [15-19].

v     عندما تقرَّر أن تحفظ هذه الوصيَّة وترفض كل الآلهة والأرباب الأخرى، فلا يكون لك إله أو رب سوى الله الواحد ورب واحد، فإنَّك تعلن الحرب على الآخرين دون الدخول في أي تحالف معهم.

لذلك عندما نأتي إلى نعمة العماد، نعترف بالله الواحد. الآب والابن والروح القدس[40].

العلامة أوريجانوس

كان للإله المصري أنوبيس رأس ثعلب، وللإله توت رأس صقر. وكانت هياكل عبادة القمر في أورشليم وحاران أيَّام إبراهيم، وكان المصريُّون يعبدون الشمس في أون (هليوبوليس) (تك 41: 45).

منعهم من إقامة آلهة على شكل رجل أو امرأة مثل بعل فغور الموآبي وPriapus وعشتاروت الرومانيِّين والإلهة فينيس اليُّونانيَّة والرومانيَّة. كما منعهم من إقامة آلهة على شكل حيوانات أو طيور مثل عجل أبيس المصري وعبادة التماسيح والحيات والقرود والكلاب والقطط الخ.

يحذِّرنا الله من عبادة الشمس والقمر والكواكب. هذه كلَّها خُلقت من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجلها. كان البعض يظنُّون أن الكواكب مثل الشمس والقمر والنجوم ليست فقط أقامت نفسها بنفسها، وإنَّما هي مصدر البركات على البشريَّة. كلمة "شمس" في العبريَّة "شمش" ومعناها "خادم"، إذ هي خادمة عامة للعالم المنظور، وتضيء كشمعة لكل إنسان، فلا يليق بالخادم أن يصير إلهًا، ولا ما خلقه الله لنا عونًا يصير لتحطيم نفوسنا.

متى قارن الإنسان نفسه بالشمس ربَّما تتضاءل نفسه جدًا أمام حجمها وقدرتها وإمكانيَّاتها. لكن ليدرك أن السماء بكل كواكبها والأرض تزولان، أمَّا الإنسان فبنعمة الله يحيا في المجد إلى الأبد. إذ قارن باسكال الشمس بنفسه قال: "أنا أعظم من الشمس"، مقدِّمًا التبرير التالي: "يمكن للشمس أن تلقي بحرارتها عليّ فتحطِّمني، لكنَّني إذ أشعر بذلك أدافع عن نفسي، أمَّا هي فلا تشعر بالنصرة!"

"لئلاَّ ترفع عينيك... وتنظر الشمس والقمر والنجوم" [19]. حذَّرنا موسى النبي من النظرات، فإنَّه غالبًا ما يسير القلب وراء العين. فحينما يركِّز الإنسان نظره على شيء ما غالبًا ما ينفتح القلب له وُيستعبد له.

"وأنتم قد أخذكم الرب وأخرجكم من كور الحديد من مصر،

لكي تكونوا له شعب ميراث كما في هذا اليوم" [20].

يرى البعض هنا إشارة إلى أن اليهود كانوا يعملون في صهر المعادن، لكن آخرون يرون أنَّها إشارة إلى السخرة في أعماق شاقة مثل حفر المناجم الخ.

ظهر استخدام الحديد بتسخينه ثم طرقه وهو متوهِّج في منطقة الشرق الأوسط في حوالي سنة 3000 ق.م، بينما إقامة مصانع للحديد، خاصة لعمل أسلحة ظهر حوالي سنة 1500 ق.م. هكذا كان خروج شعب إسرائيل من مصر أشبه بالخروج من فرن صهر الحديد. ثقل العبوديَّة أشبه بنار صهر الحديد، وهي أشد النيران حرارة عرفت في ذلك الحين.

"وغضب الرب عليَّ بسببكم، وأقسم أنِّي لا أعبر الأردن، ولا أدخل الأرض الجيدة التي الرب إلهك

يعطيك نصيبًا.

فأموت أنا في هذه الأرض لا أعبر الأردن،

وأمَّا أنتم فتعبرون وتمتلكون تلك الأرض الجيدة" [21-22].

هذه هي المرة الثالثة التي فيها يشير إلى رفض الله أن يسمح له بالعبور إلى أرض كنعان (1: 37؛ 3: 26-27). في كل مرة يتحدَّث عن غضب الله عليه بسببهم. هذا التكرار يكشف عما في أعماق قلبه من مرارة بسب حرمانه من التمتُّع بهذه البركة وحنينه الشديد للتمتُّع بالمواعيد الإلهيَّة.

4. العهد الإلهي والعبادة الوثنيَّة:

"احترزوا من أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم وتصنعوا لأنفسكم تمثالاً منحوتًا صورة كل ما نهاك عنه الرب إلهك.

لأن الرب إلهك هو نار آكلة إله غيور" [23-24].

إن كان قد ركَّز على الوصيَّة الخاصة برفض العبادة الوثنيَّة، فسرّ ذلك هو أن "الله إله غيور، نار آكله" [24]. أنه لا يقبل أن يقطن في القلب مع آلهة كاذبة، باطلة ومخادعة. من يقيم عهدًا مع الله لا يقبل آخر معه، لأنه لا تشترك مملكة النور الإلهيَّة مع مملكة الظلمة.

الله نار آكلة، يلهب القلب بنيران الحب التي لا تقدر كل مياه العالم أن تطفئها، وفي نفس الوقت تحرق كل شرٍ وفسادٍ. أشار الرسول بولس إلى هذه النار قائلاً: "غيرة نارٍ عتيدة أن تأكل المضادين" (عب 10: 27). وعندما تحدَّث عن دينونة الخدام قال: "فعمل كل واحدٍ سيصير ظاهرًا لأن اليوم سيبيِّنه، لأنَّه بنارٍ يُستعلن، وستَمتحِن النار عمل كل واحدٍ ما هو. إن بقي عمل أحد قد بناه عليه فسيأخذ أجرة، إن احترق عمل أحد فسيخسر، وأمَّا هو فسيخلص، ولكن كما بنارٍ" (1 كو 3: 13-15).

الله نار آكلة يتمتَّع به موسى على الجبل فتصير النار مجدًا وبهاءً له، ويصطدم بها قورح وداثان وأبيرام فيهلكون. النار الإلهيَّة تزيد المؤمن نقاوة وبهاءً، وتبدِّد العاصي المصمِّم على شرِّه وفساده. النار التي تطهر المعادن الثمينة تحرق كل رخيص وغث، فهي كذلك ترمز إلى قداسة الله وقضائه العادل.

إن كان الله نارًا آكلة، فإن من يخلط بين عبادة الله الحيّ والعبادة الوثنيَّة، يكون كمن يأتي بأوثانه إلى نار آكلة، فتفقد الأوثان كيانها وشكلها.

إله غيور [24]: محبَّة الله تُقارن غالبًا بمحبَّة زوج يهب نفسه لزوجته بدون تحفُّظ وينتظر منها حبًا كاملاً متبادلاً.

v     إن كان الله نارًا، فهو نار لكي ينتزع برد الشيطان[41].

القدِّيس جيروم

v     يليق بخادم الرب أن يكون مجتهدًا وحذرًا. نعم وأكثر من هذا يكون ملتهبًا كاللهيب، حتى أنه بروح غيورة يُدمِّر كل خطيَّة جسدانيَّة، فيستطيع الاقتراب من الله، الذي بحسب تعبير القدِّيسين يُدعى "نارًا آكله"[42].

البابا أثناسيوس الرسولي

[بخصوص الروح القدس الذي حلّ على شكل ألسنة ناريَّة]

v     كانت (الألسنة) من النار، وذلك ربَّما لقوَّته المطهِّرة (لأن كتابنا المقدَّس يعرف النار المطهِّرة، يجدها أيّ شخص يطلبها)، أو ربَّما لأجل جوهره. لأن الله نار آكلة، نار تحرق ما هو شرِّير[43].

  القدِّيس غريغوريوس النزينزي

v     لا تعجب عندما تقرأ أن الله الآب يقول: "أنا هو نار آكلة" [24].

مرة أخرى يقول: "تركوني أنا ينبوع المياه الحيَّة" (إر 2: 13). أيضًا الرب يسوع مثل نارٍ يلهب قلوب سامعيه، ومثل ينبوع مياه تبردها. فقد قال بنفسه في إنجيله أنه جاء ليُلقي نارًا على الأرض (لو 12: 49)؛ ويهب ينبوع مياه حيَّة للعطشى (يو 7: 37-38) [44].

v     يظهر إشعياء النبي أن الروح القدس ليس فقط نورًا بل أيضًا هو نار، قائلاُ: "وتصير نور إسرائيل نارًا" (إش 10: 17). هكذا يدعوه الأنبياء نارًا حارقة، لأنه في تلك النقط الثلاث التي تعرضنا لهم بتوسُّع نرى عظمة اللاهوت؛ والتقديس الذي للاهوت، والإنارة كسمة للنور والنار، لهذا فإن اللاهوت يُشار إليه عادة ويُرى في شكل نارٍ، وكما يقول موسى: "الله نار آكلة".

فإن موسى نفسه رأى النار في العلِّيقة، وسمع الله عندما جاء الصوت من لهيب النار يقول له: "أنا إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب" (خر 3: 6). خرج الصوت من النار، وكان الصوت في العليقة، والنار لم تؤذها. فالعلِّيقة كانت ملتهبة لكنَّها لم تُستهلك، إذ كان سرّ الرب مُعلنًا، أنَّه يأتي ليُنير أشواك جسدنا، وليس أن يهلك من كانوا في بؤسٍ، بل يزيل بؤسهم. أنَّه ذاك الذي يعمِّد بالروح القدس ونارٍ، فيُعطي نعمة ويحطِّم الخطيَّة (مت 3: 11). هكذا في رمز النار يحفظ الله قصده[45].

القدِّيس أمبروسيوس

v     أنت أيها الرب نار آكلة تحرق اهتماماتهم التي بلا حياة وتجدِّدهم أبديًا[46].

القدِّيس أغسطينوس

"إذا ولدتم أولادًا وأولاد أولاد وأطلتم الزمان في الأرض وفسدتم وصنعتم تمثالاً

منحوتًا صورة شيء ما وفعلتم الشرّ في عينيّ الرب إلهكم لإغاظته.

أشهد عليكم اليوم السماء والأرض أنَّكم تبيدون سريعًا عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن

إليها لتمتلكوها،

لا تطيلون الأيَّام عليها بل تهلكون لا محالة.

ويبدِّدكم الرب في الشعوب، فتبقون عددًا قليلاً بين الأمم التي يسوقكم الرب إليها.

وتصنعون هناك آلهة صنعة أيدي الناس من خشب وحجر ممَّا لا يبصر ولا يسمع

ولا يأكل ولا يشم.

ثم أن طلبت من هناك الرب إلهك تجده،

إذا التمسته بكل قلبك وبكل نفسك.

عندما ضيَّق عليك وأصابتك كل هذه الأمور في آخر الأيَّام ترجع إلى الرب إلهك وتسمع لقوله.

لأن الرب إلهك إله رحيم لا يتركك ولا يهلكك، ولا ينسى عهد آبائك الذي اقسم لهم عليه"

[25-31].

إن الأمر في غاية الخطورة، فإن الانحراف عن عبادة الله الحيّ هو انفصال عن مصدر الحياة والسلام. لهذا قيل: "تهلكون لا محالة، ويبدِّدكم الرب في الشعوب، فتبقون عددًا قليلاً بين الأمم يسوقكم الرب إليها" [26-27]. يهلك الإنسان حينما يرفض الله العامل فيه لبنيانه ليصنع بيديه إلهًا، وكما قيل: "صنعه الصانع وليس هو إلهًا" (هو 8: 6). يحوِّل الإنسان نظره عن الله مصدر حياته، ليَستعْبد نفسه لما خلقه الله من أجله، كالحيوانات والطيور والزحَّافات والأسماك، أو أن يعبد الإنسان أخاه أو الخليقة السماويَّة. لا يوجد وجه مقارنة بين الله الحي الذي يشتهي أن يُقيم عهده مع شعبه، وبين الأوثان التي بلا حس إنَّما هي صنعة الإنسان (6: 5؛ 10: 12؛ 11: 13؛ 26: 16؛ 30: 2، 6، 10).

يقدِّم هنا تحذيرًا لهم ولأولادهم من بعدهم لئلاَّ يتركوا عبادة الله الحيّ ويتعبَّدوا للأوثان. وقد حمل هذا التحذير نوعًا من النبوَّة. رأى موسى النبي بعين النبوَّة ما سيحل بشعبه من تشتيت وسبي بين الأمم. رأى الأجيال القادمة تسقط في العبادة الوثنيَّة لهذا أشهد السماء والأرض على تحذيره لهم والدمار الذي سيحل بإسرائيل، وما يصيبهم من تشتيت.

الله يفتح باب الرجاء لشعبه كما لكل مؤمن، لكي يرجعوا إلى الرب إلههم، فيتمتَّعوا بوعوده الإلهيَّة. فإن تشتَّت الشعب بسبب خطاياه، ورجع يجد أبواب مراحم الله مفتوحة، وذراعيه مبسوطتين تنتظرانه. غالبًا ما ينسى الشعب ميثاقه مع الله، لكنَّه ما أن يعود إليه بالإيمان العملي المعبَّر عنه بالطاعة حتى يجده يستقبلهم بمراحمه وحنوُّه. أنَّه لن ينسى عهده مع شعبه.

هنا يقدِّم التوبة بأسلوبٍ رائعٍ مملوء لطفًا ورقة، مستخدمًا الكلمات "ارجع" [30]، "تعال"، "لا أتركك ولا أُهملك" [31]. لقد استخدم العهد القديم أسلوب الترحيب الشديد. فيتحدَّث الله حتى مع الساقطين والمقاومين ليدعوهم للعودة إلى الصداقة التي خانوها.

يفتح النبي أعينهم نحو الرب ليروه أبًا رحيمًا، "لأن الرب إلهك إله رحيم" [31]. هذه هي شهادة إنسان يدرك أنَّه اقتربت لحظات خروجه من العالم ولقائه مع الله. أنَّه يقدِّم خبراته الطويلة في اللحظات الأخيرة. أنَّه كمن يصرخ إلى شعبه قائلاً لهم: "لقد عرفته! لقد عشت معه! لقد كنت ملتصقًا به على الجبل وهو ملتحف بالنار والنور! لقد قرَّر حرماني من دخولي الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً. كل هذه الأمور أمام عيني لهذا أقول: "الرب إلهك إله رحيم لا يتركك ولا يهملك ولا ينسى عهد آبائك الذي أقسم لهم عليه" [31]. لقد قدَّم لي وصاياه التي بدوري قدَّمتها لكم. مع الوصايا قدم لنا قلبه. أنه الديان، لكنَّه رحوم. يجلس على عرشٍ ناريٍ، لكنَّه مشغول بالإنسان المحبوب لديه جدًا.

5. الإله الواحد محب شعبه:

"فاسأل عن الأيَّام الأولى التي كانت قبلك من اليوم الذي خلق الله فيه الإنسان على الأرض،

ومن إقصاء السماء إلى أقصائها، هل جرى مثل هذا الأمر العظيم؟

أو هل سمع نظيره؟

هل سمع شعب صوت الله يتكلَّم من وسط النار كما سمعت أنت وعاش؟!" [32-33]

الأيَّام الأولى [32]: يدعو موسى الشعب ليذكر ما فعله الله معهم، فيذكر خصوصًا العجائب التي جرت وقت الخروج، وهو يكرر ذكر "مصر" 47 مرة، وليس ثمَّة فائدة من ذكر هذه الشواهد لو لم يكن موسى هو الكاتب الحقيقي لهذا السفر.

يليق بنا أن نسأل الذين سبقونا، ونطلب معرفة الله من الله نفسه بروح التواضع. شبَّه اسحق نيوتن نفسه بطفل وقف على شاطئ محيط المعرفة يجمع بعض الحصى الصغير اللآمع من بين الصخور والحصى. وفي تواضعٍ قال إن أمامه محيطًا ضخمًا من المعرفة لم يصل إليها بعد. هكذا من يستطيع منَّا أن يقول أنَّه قد بلغ إلى منتصف محيط معرفة الله، وإنَّه يرى كل شواطئ المحيط من كل جانب؟! أنَّه يليق بنا أن نقول مع الصبي صموئيل: "تكلَّم يا رب فإن عبدك سامع".

يقدِّم موسى النبي هنا دعوة حيَّة للمقارنة بين الله محب البشر ومخلِّصهم وبين الآلهة الكاذبة قائلاً: "هل جرى مثل هذا الأمر العظيم؟ أو هل سُمع نظيره؟" [32].

لم يترك الله نفسه بلا شاهد، لكنَّه يطلب من محبوبه الإنسان أن يتأمَّل في عمل الله معه. لقد ركز هنا على النقاط التاليَّة:

أولاً: طالبهم أن يتطلَّعوا إلى التاريخ البشريَّة كلَّها منذ خلق فيه الإنسان، هل تمتَّع شعب ما بالله المهوب، النار الآكلة، كما تمتَّعوا هم وعاشوا.

الله نار آكلة، لكنَّه لا يميت الإنسان محبوبه بل يتحدَّث معه ويهبه الحياة الأبديَّة. لقد تمتَّع موسى النبي بهذه الخبرة، إذ رأى الله وسط النار، وتحدَّث الله معه، حديث حب رائعٍ. اختبر النار الإلهيَّة، هبة الحياة. لقد رأى موسى النار خلال العليقة الملتهبة نارًا، واقترب إليها، وسمع الصوت الإلهي خلالها، وعاشها على جبل سيناء. إذ اختبر موسى النبي عذوبة الوصيَّة الإلهيَّة لم يجد في كل تاريخ البشريَّة منذ الخلقة حتى لحظات حديثه معهم حدثًا أعظم من إعلان الله عن نفسه في حوريب، وتسليمه الوصايا لشعبه. لقد تحدَّث مع شعبه خلال النار الإلهيَّة.

لقد سمع أيوب صوت الله من وسط الريح وكان ذلك مرعبًا، أمَّا شعب إسرائيل فسمعه وسط النار التي هي أكثر رعبًا، لكنَّها لم تحرقه.

النار التي يتحدَّث عنها موسى النبي ليست نارًا سمع عنها، لكنَّه اختبرها بنفسه في بدء خدمته وأثناء خدمته، وهبته قلبًا ناريًا لا تقدر كل مياه العالم أن تطفئها.

إن كان الله يطالبهم برفض العبادات الوثنيَّة، فإنَّه لا يحرمهم من شيء بل يقدِّم نفسه لهم ليقتربوا إليه، فإنَّه الله الواحد الفريد في حبُّه لشعبه

ثانيًا: إله المستحيلات، الذي يخلِّص شعبه بيد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة، مقدِّمًا خروجهم من مصر مثلاً حيًّ لعمله معهم.

"أو هل شرع الله أن يأتي ويأخذ لنفسه شعبًا من وسط شعب بتجارب وآيات وعجائب وحرب

 ويدٍ شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة مثل كل ما فعل لكم الرب إلهكم في مصر أمام أعينكم؟

أنَّك قد أُريت لتعلم أن الرب هو الإله ليس آخر سواه.

من السماء أسمعك صوته لينذرك وعلى الأرض أراك ناره العظيمة وسمعت كلامه من وسط النار"

[34-36].

يذكر العبوديَّة والعذاب والعجائب التي عملها الرب ليظهر مجده، كما يذكر الفصح وعبور البحر الأحمر مكرِّرًا كلمة "من مصر" كقرار بفرح الانتصار.

"لأنَّه أحب... اختار" [37]: الكلمة العبريَّة "أحب" تحمل معنى حب الله الذي يختار، وهي تتَّفق مع الكلمة اليونانيَّة "أجابو" في العهد الجديد أي المحبة التلقائيَّة التي كلَّها من النعمة تمنح دون وجود ميزة في المحبوب. لا يجد موسى سببًا لاختيار الله لإسرائيل سوى اختياره المطلق.

ثالثًا: إله محسن إلى شعبه "لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك ولكي تطيل أيَّامك على الأرض التي الرب إلهك يعطيك إلى الأبد" [40].

اعتادت الأمم أن ترهب الله وتخاف من انتقامه، فكانت تقدِّم له الذبائح لاسترضائه، ويقوم البعض بتقديم أبنائهم ذبائح بشريَّة لرفع غضبه عنهم، وأحيانًا يقدِّمون الأسرى أو غيرهم، ويقومون بتجريح أنفسهم. أمَّا الله الحقيقي فإنَّه وإن ظهر كنار آكلة، فإنَّه لم يظهر لكي يُعلن غضبه الناري، ولا لينتقم بل ليُعين شعبه ويسنده. يلهب قلوبهم بنار حبُّه ويكون سور نار من حولهم (زك 2: 5).

عدَّد موسى النبي سبع علامات على دور الله القدير في خلاص شعبه:

1. تجارب: الله يسمح بضيقات لكي يمتحن إيمانهم به وطاعتهم له. غاية ذلك أن يسحبهم إليه ويزكِِّيهم.

2. آيات: بقصد إعلان قربه منهم، فكان يتقدَّمهم كعمود نور في الليل، وكسحابة تظلِّلهم في النهار. قدَّم الله لهم شرائع ممتزجة بآيات وعجائب، فأخرجهم من أرض مصر بيدٍ شديدةٍ وذراعٍ رفيعةٍ ومخاوفٍ عظيمةٍ [24]. ما أعلنه الله من رهبة كان لإبادة مقاوميهم. إنه أخرجهم كما من فرن نار العبوديَّة، إنه نار تعمل لحساب مؤمنيه وشعبه وليس لتدميرهم.

3. عجائب: إنه يُسخّر كل شيء لبنيان أولاده، الطبيعة بقوانينها، وأيضًا كسر قوانين الطبيعة، كما حدث في عبور البحر الأحمر، ونزول المنّ من السماء.

4. حرب: لكي يتمتَّعوا بأرض الموعد كان لابد أن يحتلُّوا أماكن الكثيرين من الأمم تدريجيًا، أغلبهم عمالقة ورجال حرب ولهم إمكانيَّات جبارة، لذا يتدخَّل الله كقائد لشعبه يهبهم النصرة والغلبة.

6. يد شديدة: يده الشديدة لحساب مؤمنيه، قادرة على صد كل المقاومات التي تقف أمامهم.

7. ذراع رفيعة: أو مبسوطة، قادرة أن تحطِّم الشرّ وأن تحتضن النفوس. كثيرًا ما يتحدَّث الكتاب المقدَّس عن يد الله كإشارة للعمل الإلهي:

·        إصبع الله: التي كتبت على لوحي العهد تُشير إلى روحه القدُّوس الناري.

·        يد الله: تُشير إلى تجسُّد الكلمة، الذي يتمِّم العمل الخلاصي، ويكشف عن محبَّة الآب العمليَّة ببذل ابنه وحيد الجنس.

·        ذراع الله: تُشير إلى قوَّة الله العاملة بلا حدود، تصنع عجائب لخير المؤمنين بلا توقًّف.

·        ذراع الله المبسوطة: شوق الله إلى احتضان الراجعين إليه.

8. مخافة عظيمة: يقدِّمها للقلوب القاسيَّة مثل فرعون وشعبه في الضربات العشرة.

غاية الوصيَّة:

أ. إدراك اختيار الله لنا، وشوقه للتمتُّع بالحريَّة.

"ولأجل أنَّه أحب آباءك واختار نسلهم من بعدهم أخرجك بحضرته بقوَّته العظيمة من مصر" [37].

ب. أن نملك ونتهلَّل.

"لكي يطرد من أمامك شعوبًا أكبر وأعظم منك،

ويأتي بك ويعطيك أرضهم نصيبًا كما في هوذا اليوم.

فأعلم اليوم وردَّد في قلبك أن الله هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل،

ليس سواه.

واحفظ فرائضه ووصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم،

لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك،

ولكي تطيل أيَّامك على الأرض التي الرب إلهك يعطيك إلى الأبد" [38-40].

لا يقف الأمر عند إخراجهم من مصر بيدٍ قويَّة، ويحرِّرهم من عبوديَّة إبليس، إنَّما يود أن يهبهم إقامة سعيدة في كنعان، واستقرارًا هناك. هكذا يسحبنا الله من عبوديَّة إبليس ويحطِّم كل قوى الشرّ، ويجلسنا معه في السمويَّات لكي نستقر في حضن الآب، ونجد راحة أبديَّة.

مدن الملجأ:

"حينئذ أفرز موسى ثلاث مدن في عبر الأردن نحو شروق الشمس.

لكي يهرب إليها القاتل الذي يقتل صاحبه بغير علم وهو غير مبغضٍ له منذ أمس وما قبله،

يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا.

باصر في البرِّيَّة في أرض السهل للرأوبينيِّين، وراموت في جلعاد للجاديِّين، وجولان في باشان للمنسيِّين" [41-43].

يرى موسى النبي في الله ملجأ لكل نفس تتبرَّر به، وقد جاءت شريعة مدن الملجأ الست إشارة ورمزًا لعمل الله. أقام الله مدن الملجأ [41-43؛ 19: 2-13]، غايتها تحرير أرض الموعد من سفك دم بريء.

حُددت مدن الملجأ الثلاث في الضفة الشرقيَّة، مدينة في نصيب رأوبين، وأخرى في نصيب جاد، والثالثة في نصيب نصف سبط منسى، ليكونوا مثلاً لإقامة المدن الثلاث الأخرى في الضفة الغربيَّة.

مدن الملجأ في الضفة الشرقيَّة هي: باصر تقع حوالي 20 ميلاً شمال شرق البحر الميت. كانت قريبة من القاطنين في جنوب الضفة الشرقيَّة. وراموت جلعاد للذين في المنتصف، تقع حوالي 30 ميلاً شرق منتصف الجانب الشرقي من بحيرة الجليل. وجولان للذين في الشمال.

بعض المدن التي كانت مراكز للعبادة الوثنيَّة صارت "مدنًا للملجأ"، يهرب إليها كل قاتل عن غير عمد ليجد طمأنينة وسلامًا؛ صارت تمثِّل بيت الله واهب التعزية.

لدراسة مدن الملجأ (راجع عدد 35: 6-15).

7. مقدِّمة العظة الثانية:

"وهذه هي الشريعة التي وضعها موسى أمام بني إسرائيل.

هذه هي الشهادات والفرائض والأحكام التي كلَّم بها موسى بني إسرائيل عند خروجهم من مصر.

في عبر الأردن في الجواء مقابل بيت فغور في أرض سيحون ملك الأموريِّين الذين كان ساكنا

في حشبون الذي ضربه موسى وبنو إسرائيل عند خروجهم من مصر.

وامتلكوا أرضه وأرض عوج ملك باشان ملكي الأموريِّين اللذين في عبر الاردن نحو

شروق الشمس.

من عروعير التي على حافة وادي ارنون إلى جبل سيئون الذي هو حرمون. وكل العربة في عبر الأردن نحو الشروق إلى بحر العربة تحت سفوح الفسجة" [44-49].

قدَّم لنا الكاتب افتتاحيَّة أو مقدِّمة عن عظات موسى النبي الوداعيَّة (1: 1-5) تلاها العظة الأولى حيث أوضح فيها موسى النبي رعاية الله الفائقة بشعبه مع إصرارهم على عصيانه (تث 1). وضع الله لهم خطة حتى في حروبهم، فمع ما يقدِّمه لهم بسخاء يطلب التزامهم بالمسئوليَّة وتقديسهم، فلا يحاربون الأدوميِّين أو المؤابيِّين، لكنَّهم يغلبون سيحون وعوج (تث 2-3). تحدَّث معهم مرارًا وتكرارًا عن مدى شوقه للتمتُّع بأرض الموعد، لكن بسببهم حُرم من ذلك، فسلَّم القيادة بين يدي تلميذه يشوع (تث 3). أخيرًا ما يشغله أن يرتبطوا مع الله بالعهد الإلهي ويقتربوا إليه (تث 4).

إذ ختم العظة الأولى حدَّد مدن الملجأ في الضفَّة الشرقيَّة ليبدأ في العظة الثانية.

لقد أوشك موسى النبي أن يلقي عظته الثاني الخاصة بالشهادات الصادرة عن الله لتُعلن عن إرادته، والفرائض التي يلتزم بها المؤمنون في سلوكهم، والأحكام التي تحدِّد الحقوق المشتركة بين البشر.

في هذه المقدِّمة للعظة يؤكِّد الكاتب اهتمام موسى النبي ألاَّ ينشغل الشعب بالنصرة على ملكيّ الأموريِّين وامتلاكهم الأرض، بل بالأحرى أن يتمتَّعوا بالوصيَّة الإلهيَّة. فيحمل كل مؤمن إرادة الله لا إرادته الذاتيَّة، ويسلك كما يليق بابن له، ويحفظ حق كل كائن.

 

 


 

من وحيّ تثنية 4

لتحملني وصيَّتك إليك

أيُّها النار الآكلة

v     في وسط النار قدَّمت لوحيّ العهد شريعتك،

وبألسنة ناريَّة حلَّ روحك الناري عليَّ!

مرحبًا بوصيَّتك الناريَّة.

اَنحني أمامها فأحمل روح الطاعة،

أرى فيها عجائبك،

وأتقبَّل فيها برَّك ونقاوتك،

يا أيُّها القدُّوس وحده!

v     بها أقتنيك يا أيُّها الحكمة الإلهي،

فأصير حكيمًا وأتمتَّع بمعرفتك!

v     قدَّمت لي ذاتك نارًا آكلة.

لا لأرتعب فأهرب،

بل لأقترب إليك مع موسى نبيَّك.

واسمع صوتك الأبدي الفائق.

صوتك الناري يرهب أعدائي،

بك أدخل إلى مملكتك حرًا.

فأملك وأتهلَّل بك يا سرّ قوَّتي.

<<

 

 


 

 

الفصل الثاني

 

 

 

 

 

 

العظة الثانية

[ص 5- ص 28]

الوصايا ودستور الشريعة

 

v    القسم الأول: الأسس العامة للعهد الإلهي.          [5-11].

v    القسم الثاني: الوصايا أو الشرائع الخاصة.                 [12-26].

v    القسم الثالث: الطقس الخاص بالبركات واللعنات.    [27-28].


 

الفصل الثاني

العظة الثانية

[5 – 28]

الوصايا ودستور الشريعة

تُعتبر هذه العظة هي جسم السفر أو الجزء الأساسي منه، تقدم لنا الوصايا الإلهية (تث 5-11) التي يلزمنا أن نطيعها لكي نحيا وندخل كنعان السماوية لكي نرث ونملك. يبدأ موسى النبي عظته الثانية مؤكدًا ذات الهدف وهو الدخول في عهدٍ مع الله والتزامنا بالطاعة والحب.

1. الله نفسه مشرع العهد القديم هو مكمله في العهد الجديد، بكون العهدين كلمة الله غير المتغيرة.

2. يستطيع المسيحي خلال الصليب أن يتفهمها لا في حرفية قاتلة إنما بمعانٍ روحية عميقة.

3. تكشف وصايا العهد الجديد ما لوصايا العهد القديم من أعماق، كما تكشف الأخيرة عن مفهوم الخلاص والصليب بقوة.

يمكن تقسيم العظة الثانية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول [ص5-11]: الأسس العامة للعهد الإلهي.

القسم الثاني [ص12-26]: الوصايا أو الشرائع الخاصة.

القسم الثالث [ص27-28]: الطقس الخاص بالبركات واللعنات.

<<

 


 

العظة الثانية

القسم الأول

الأسس العامة العهد الإلهي

[5 - 11]

بعد مقدمة العظة (4: 44-49) يستعرض موسى النبي الأسس العامة التي يقوم عليها العهد الإلهي:

1. الالتزام بالوصايا العشر [ص 5] عصب الناموس وأساس الحياة الروحية.

2. الوصية كمرافق للمؤمن أينما وُجد [ص 6].

3. لا شركة مع الوثنية [ص 7].

4. حفظ الوصية غاية القفر والضيق [ص 8].

5. النصرة بالله، لا بالبرّ الذاتي [ص 9].

6. الوصية والالتزام بالعبادة [ص 10].

7. التمتع بأيام السماء [ص 11].

<<

 

 


 

الأصحاح الخامس

الوصايا العشر

قلب العهد الإلهي

استدعى موسى النبي ليس فقط الشيوخ والقيادات بل وكل الشعب وسألهم أن يذكروا أن العهد الذي قطعه الله مع إسرائيل لم يكن عهدًا يخص الماضي، بل هو عهد حاضر على الدوام وقائم. ذكرهم بالوصايا العشر، وكيف أنهم طلبوا منه أن يقترب هو من الله نيابة عنهم، لكي يقبل منه الشريعة.

بعد أن تحدث عن تطهير أرض الموعد من العبادة الوثنية، ومن سفك أي دم بريء، قدم لنا موسى النبي عصب العهد الإلهي، وهو الوصايا العشرة. وقد جاءت مطابقة لما ورد في (خر 20: 2-17)، غير أنها قدمت تعليلاً جديدًا للاحتفال بالسبت، إنه تذكار لعمل الله الخلاصي بإخراج الشعب من عبودية فرعون [15]، عِوض كونه تذكارًا للخليقة (خر 20: 11).

يختم حديثه بتأكيد الطاعة لصوت الرب كشرط للتمتع بخيرات الحياة الجديدة في أرض الموعد [22-33].

1. عهد إلهي حاضر        [1-5].

2. الوصايا العشر          [6-22].

3. تسلمه الشريعة                  [23-33].

1. عهد إلهي حاضر:

"ودعا موسى جميع إسرائيل وقال لهم:

اسمع يا إسرائيل الفرائض والأحكام التي أتكلم بها في مسامعكم اليوم،

وتعلموها، واحترزوا لتعملوها" [1].

دعي موسى الشعب لكي يسمع الوصية ويتعلمها ويعمل بها ويحفظها، الأمر الذي سبق فأكده في العظة الأولى. يطالبنا الله أولاً أن نسمع، ثم نتعلم، وثالثًا نحفظ، أي ندخل بالوصية إلى أعماق القلب لكي نحتفظ بها كما في مخزن آمين [1]. وكما يقول الكتاب "خبأت كلامك في قلبي كي لا أخطئ إليك" (119: 11). رابعًا أن نمارسها، فلا يكفي تخزينها في الأذن بالسماع، ولا في الفكر بالتعلم، ولا في القلب بالحفظ والاشتياق إليها، وإنما يلزم ترجمتها عمليًا بالعمل. فإنه لا يطلب منا أن نملأ أذهاننا بأفكار نظرية ولا شفاهنا بكلمات جوفاء، وإنما يلزم ترجمة الوصية إلى عملٍ، فيكرس الإنسان كل أعضاء جسده لتنفيذها، كما يليق به أن يحفظها في قلبه، مكرسًا كل مشاعره لحسابها. هكذا تملأ الوصية عقل الإنسان وتقدس أعضاء جسمه، وتلهب قلبه بالحب. يشترك الجسم كله في تنفيذها فيتقدس الإنسان بكليته بقبوله الوصية والتفاعل معها.

لا يستطيع أحد أن يدعى أنه يتمم كل الوصايا بكمالها إلاَّ السيِّد المسيح. فالوصايا أشبه بمرآة تكشف ما في القلب، لكنها تعجز عن أن تجدده وتغير طبيعته. أو هي أشبه بكشافات النور المثبتة في العربة، تكشف الطريق، وتظهر العقبات، لكنها تعجز عن إصلاح الطريق. لهذا يقول الرسول بولس: "إذ نحن نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح آمنّا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس؛ لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما" (غلا 2: 16). لا يقدر أن يتبرر بأعمال الناموس، أولاً لأن الناموس يعجز عن تصحيح ما قد حدث بسبب خطايانا، ثانيًا لأنه لا يقدر أحد أن يتمم وصايا الناموس.

"فلماذا الناموس؟ قد زيد بسبب التعديات إلى أن يأتي النسل الذي قد وُعد له مرتبًا بملائكة بيد وسيط" (غلا 3: 19). فمن حقك أن تتساءل: لماذا الناموس؟ الإجابة لكي تكتشف تزايد التعديات والحاجة إلى ذاك الذي يولد حسب الوعد الإلهي الذي قدم لنا بواسطة الملائكة. "إذًا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدبٍ" (غلا 3: 24-25).

هوذا صار الناموس خادمًا لنا، يمسك بأيدينا، ويدخل بنا إلى الصليب، قائلاً لنا: "ادخلوا يا أصدقائي الصغار إلى المخلص، فهو وحده قادر أن يبرركم ويمجدكم!" إذن الناموس صالح، يعلن عن فكر الله، ويكشف عن عجزنا ويحثنا على التمتع بشركة المجد الأبدي. "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3: 23).

يحول موسى النبي الوصايا والأحكام والشرائع إلى عهدٍ، إذ يقول: "الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب" [2]. الوصايا كما يبرزها موسى النبي هنا ليست مجرد أوامر أصدرها الله لكي يطيعها الإنسان، إنما في أعماقها هي "عهد" بين الله والإنسان.

أولاً: التطلع إلى الوصايا والأحكام والشرائع كعهدٍ يعطي فهمًا خاصًا للعلاقة

بين الله والإنسان. فإن الله لا يأمر وينهي كسيِّدٍ يجب على العبيد طاعته، ولا كخالقٍ ليس للخليقة أن تحاوره، لكنه يرفع الإنسان ليصير كندٍ، يتحاوران معًا. يرى المؤمن في الوصايا ثمرة عهدٍ يقوم على كامل حرية إرادته. يتعامل مع الله ككائنٍ عاقلٍ له أن يقبل أو يرفض وله أن يحاور ويحاجج.

ثانيًا: هذا العهد يُقام بين الله وكنيسته الحاضرة، عهد جديد لا يشيخ. إنه ليس بالعهد الذي أُبرم بين الله والجيل السابق، بل هو عهد حاضر عصري. "ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد، بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياء، وجهًا لوجهٍ تكلم الرب معنا في الجبل من وسط النار" [3-4]. إنه عهد شخصي، إن كان قد أقيم مع إبراهيم واسحق ويعقوب، لكن يتمتع به الجيل الحاضر كعهدٍ قائم معهم شخصيًا. يقيم الله عهده الشخصي مع الكنيسة المعاصرة، ومع كل مؤمن شخصيًا كعضوٍ حيّ فيها. "ليس مع آبائنا... بل معنا" التعبير العبري يحمل معنى "ليس مع آبائنا فقط، بل معنا أيضًا"، هنا يلقي موسى النبي عليهم المسئولية الشخصية، لأنهم أول من سيسكنون الأرض روادًا فيها. خلال هذا العهد يتكلم الرب مع شعبه "وجهًا لوجه" [4].

ثالثًا: عهد صريح، تحقق وجهًا لوجه، ليس في الظلام بل في وسط النار. ليس كما قال أليفاز التيماني: "إليَّ تسللت كلمة فقبلت أُذني منها ركزًا، وفي الهواجس من رؤى الليل عند وقوع سبات على الناس، أصابني رعب ورعدة فرجفت كل عظامي" (أي 4: 12-14).

رابعًا: وسيط العهد هنا هو موسى النبي الذي يقف بين الله الساكن في السموات والشعب الذي عند سفح الجبل، غاية وساطته هو تقديم الشريعة للشعب وسماعهم صوت الرب دون أن يموتوا. وهو في هذا رمز لسيِّد المسيح الوسيط بين الآب والإنسان، فيه ينعم الإنسان بالكلمة الإلهي، وفيه يصير الإنسان موضع سرور الآب.

"الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب" [2]. يشير موسى إلى المكان بالذات ليشعرهم بمسئوليتهم وامتيازهم.

2. الوصايا العشر:

يُعيد موسى النبي ذكر الوصايا العشر مع تفسيرها. لقد مات الذين سمعوا الوصايا العشر وبليت عظامهم، أما الجيل الجديد فكان محتاجًا إلى سماع هذه الوصايا مع تفسيرٍ لها على ضوء خبرة الأربعين عامًا في البرية.

قد يعترض البعض قائلاً إن ما ورد هنا هو تكرار لما ورد في سفر الخروج (20). ليكن، فإن الكتاب يؤكد أهمية هذه الوصايا، والالتزام بسماعها أكثر من مرة، لأنها أساسية في حياة المؤمن. سبق فتحدث عن الوصايا العشر، لكنه يعود فيذكرهم بها وفي شيء من التفصيل. هكذا يليق بنا إلاَّ نمل من سماع الوصية حتى نتممها، فتكون لنا إرادة الله عاملة فينا. الحديث المتكرر عن الوصية مفرح، وكما يكتب الرسول بولس: "كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليّ ثقيلة، وأمامكم فهي مؤمَّنة" (في 3: 1).

"وجهًا لوجه تكلم الرب معنا في الجبل من وسط النار.

أنا كنت واقف بين الرب و بينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام الرب،

لأنكم خفتم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل فقال..." [4-5].

حقًا إنه إله مهوب، نار آكلة، لكنه يهب حياة لشعبه، إذ يقول: "لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحيّ يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش؟!" [26]. قد أرانا مجده وعظمته، وسمعنا صوته من وسط النار؛ هذا اليوم قد رأينا أن الله يكلم الإنسان ويحيا [24]. هكذا نفهم الوصية ليست أوامر صادرة، إنما ارتفاع كما على الجبل لنلتقي مع الله في مجده، يتحدث معنا وجها لوجه فلا نموت.

تعتبر الوصايا العشر لب الشريعة وأساس عهد الله. ويمكن أن نعتبر الأصحاحات (12-26) تطبيقًا مفصلاً لمبادئها على حياة الشعب في أرض كنعان. كان شعب العهد القديم يهتم بتنفيذ مظهرها، أما ربنا يسوع فكشف عن أعماقها. لقد جعل المسيح منها قانونًا "لدخول الحياة" حين طلب من الشاب الغني أن يحفظها ليحيا (مت 19: 18). كما جعلها قانون الحياة لكل تابعيه. ظن الشعب القديم أنه يتبرر بمجرد استلامه الوصايا، أما العهد الجديد إذ نكتشف عجز البشرية عن إتمام كل الوصايا في أعماقها، ندرك حاجاتنا إلى السيِّد المسيح الذي يبررنا بدمه، ويسندنا بروحه القدوس لتنفيذ الوصية.

"أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية.

لا يكن لك آلهة أخري أمامي.

لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض

من أسفل وما في الماء من تحت الأرض.

لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور

افتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني.

واصنع إحسانًا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي" [6-10].

يعطي الله اسم "يهوه" إله العهد، فيدخل في شركة وصلة مع شعبه المختار كنصيب لهم. كما أنه في ملء الزمان قد بذل ابنه (يو 3: 16) وهذه الصلة الشخصية بين الله والإنسان في المسيح هي أساس الإيمان المسيحي.

افتقد ذنوب الآباء في الأبناء [9]، لا في الجرم بل بالنسبة للعواقب، هذا صحيح نلمسه بالاختبار العملي. كما نختبر الوعد بالرحمة إلى "ألوف من محبّي وحافظي وصاياي" [10].

"لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً.

احفظ يوم السبت لتقدسه كما أوصاك الرب إلهك.

ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك.

وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك،

لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك و ثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك

الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك.

واذكر انك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيدٍ شديدةٍ وذراعٍ ممدودةٍ لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت" [11-15].

يحتاج الإنسان أن يفرز هذا اليوم للعبادة وانتظار الرب والإصغاء لصوته، حتى لا يجري في صراع محموم خلق الثروة أو الحكمة، بل تصير حياته ذات معنى حسب قصد الله وإرشاده. وهذه الوصية نبوة عن الراحة الأبدية القادمة (عب 4: 9). بهذا انتقل السبت اليهودي إلى الأحد المسيحي حيث الحرية الحقيقية في المسيح يسوع.

"اكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك،

ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك" [16].

تتعلق هذه الوصية الخامسة بأقدس رابطة بشرية وهي الأبوة، فإن اسم الأب يشير أولاً إلى الله، وقد شرّف الله البشر باستعمال نفس اللقب. يختار الإنسان أصدقاءه، أما الأبوان فهما عطية الله، وقد اختارهما الله وسيلة لمجيء الإنسان إلى العالم وهي خدمة فائقة متقطعة النظير.

وإكرام الوالدين يأتي في المرتبة الثانية بعد إكرام الله صاحب السلطان الأسمى.

وبخ السيِّد المسيح اليهود إذ أقاموا تقليدًا بشريًا يضاد هذه الوصية الإلهية (مت 15: 3-6؛ مر 7: 8-11)، بكسر الابن وصية إكرام الوالدين العملي، وعدم اهتمامه باحتياجاتهم المادية بأن يدعى أنه سيقدم ما كان يجب أن يعولهما به إلى الهيكل قربانًا. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إذ يسمع الآباء أن ما ينبغي تقديمه لهم صار من القربان المخصص لله يحجمون عن أخذه من أبنائهم، حتى وإن كانوا في عوزٍ شديدٍ لضرورات الحياة]. كما يقول: [بأن الفريسيين كانوا محبين للمال (لو 6: 14)، فكان يتظاهرون بجمعه للعطاء للفقراء، حارمين الوالدين من عطايا أولادهم[47]].

v     ناقش الرب نفسه هذه الوصية التي للشريعة، القائلة: "أكرم أباك وأمك". لقد أظهر بوضوح ألاَّ تفسر بكلمات مجردة. وذلك بأنه بينما يظهر الشخص مظهرًا فارغًا من الكرامة للوالدين، يتركهما فقيرين، لا يستطيعان أن ينالا الضرورات، وذلك عوض الالتزام بتكريم الوالدين بتقديم ضروريات الحياة الفعلية. أمر الرب بأن الوالدين الفقيرين يجب أن يعولهما أولادهما. فيردوا لهما في شيخوختهما البركات التي نالوها منهما في طفولتهم.

على العكس كان الكتبة والفريسيون يعلمون الأبناء أن يكرموا والديهم بالقول: "أنه قربان، بمعنى أنها عطية قد وعدت أن أقدمها للمذبح، وسأحضرها إلى الهيكل فتريحكما تمامًا كما لو قدمناها لكما مباشرة لتشتريا طعامًا".

غالبًا ما يحدث أنه بينما يكون الأب والأم في عوز شديد، يقدم أبناؤهما ذبائح للكهنة والكتبة ليأكلوها[48].

القدِّيس جيروم

"لا تقتل.

ولا تزن.

ولا تسرق" [17-19].

"لا تقتل" تعلن هذه الوصية السادسة قداسة الحياة الإنسانية. فإن الحياة بجملتها إنما هي صادرة عن الله، يجب أن ننظر إليها بإجلال واحترام باعتبارها عطيته.

"ولا تشهد على قريبك شهادة زور" [20].

لا تشهد شهادة زور (خر 20: 16). قد تبدو هذه الوصية التاسعة سلبية في بنيتها، لكنها إيجابية في معناها، فهي تضع الحق مقابل الباطل، بالنهي عن الباطل لإرساء الحق. فكل كلامنا وشهادتنا يجب أن يكون صادقًا، وقضاؤنا عادلاً.

"ولا تشته امرأة قريبك،

ولا تشته بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك" [21].

لا تشته [21]، (خر 20: 17). تختلف هذه الوصية العاشرة عن سابقاتها في أنها تتحدث عن قلب الإنسان لا عمًا يظهر من تصرفاته الخارجية، والله وحده يرى كسرها أو حفظها. وهي في صيغتها السلبية تنهي عن اشتهاء ما للغير، كما أنها في صيغتها الإيجابية تُعلّم القناعة والإيمان (عب 13: 5-6).

إن الفرق البسيط بين رواية هذه الوصية هنا وبين روايتها في خروج (20: 17) حيث أن الشعب هنا كان على وشك دخول كنعان أيام تجربة ويتعرض لاشتهاء حقل جاره، فيحدثه موسى عن حقل جاره الذي يجب ألاَّ يشتهيه.

في الرسالة الثانية المنسوبة للقدِّيس أكليمندس الروماني يربط الكاتب بين معرفة الله الحقة وحب القريب فيكتب: [ليتنا أيها الإخوة نعرفه في أعمالنا بمحبتنا الواحد للآخر (يو 13: 35؛ 15: 12، 1 يو 3: 11)... يليق بنا أن نترفق ببعضنا البعض ولا نكون طامعين. لنتعرف عليه بهذه الأعمال، لا بما يضادها[49]].

في عظات الأب قيصريوس أسقف آرل وردت عظتان عن الوصايا العشر وارتباطها بالعشرة ضربات[50]، جاء فيهما الآتي:

جاء رقم الوصايا معادلاً لرقم الضربات التي أصيب بها المصريون بسبب الكبرياء، إذ قدم الرب وصاياه علاجًا لجراحاتنا الخطيرة. [يمكنكم أن تتحققوا أن تلك الوصايا العشر تضاد العشرة ضربات وبذات الترتيب. فالضربة الأولي تضربها الوصية الأولي، وهكذا الضربة الثانية تضربها الوصية الثانية، والثالثة بالثالثة، وهكذا حتى العاشرة[51]].

جاءت الوصية الأولي بخصوص الله الواحد وعدم الخلط بينه وبين الآلهة الوثنية (خر 20: 3) لتعالج الضربة الأولي للمصريين حيث تحولت المياه إلي دم. فإن كان الدم يشير إلي الشهوات الجسدية، فإن هذه الشهوات جاءت ثمرة عدم الإيمان بالله الواحد. هكذا بالوصية الأولي تتقدس الحواس التي أظلمت فتصير حكيمة ومقدسة.

لقد أراد المصريون أن يقتلوا أطفال العبرانيين ويسفكوا دمائهم لهذا حول الله مياه النهر إلي دم ليشربوا منه[52]. يمكننا القول بأن الوصية الأولي تهبنا الالتصاق بالله الحيّ فنتقيه. عندئذ تتحول طبيعتنا الدموية (العنيفة والشهوانية) إلي طبيعة لطيفة مرتوية بمياه الروح القدس.

أما الوصية الثانية فهي عدم النطق باسم الله باطلاً. فإن من يفعل ذلك لن يكون طاهرًا (خر 20: 7)، أما من يقتني اسم يسوع الحق فيحمل شركة البرّ الإلهي. يمكننا القول بأن هذه الوصية هي دواء لمقاومة الضربة الثانية الخاصة بامتلاء البقاع بالضفادع التي تشير إلي الهراطقة والفلاسفة الملحدين، حيث يقدمون فلسفات مخادعة أشبه بأصوات الضفادع التي لا تتوقف، وهي في وسط الوحل. هؤلاء لهم أصوات مستمرة لكن بلا حكمة روحية إلهية. يقدمون أصواتًا للآذان لكنهم لن يقدروا أن يقدموا طعامًا للنفس أو العقل[53].

الوصية الثالثة خاصة بحفظ السبت (خر 20: 8)، وهي وصية خاصة بالحرية، مع راحة القلب وهدوء الفكر خلال الضمير الصالح. هذه الوصية في واقعها تشير إلي عمل الروح القدس واهب الحرية والراحة الحقة. يستقر الروح القدس علي الإنسان لكي السبت الروحي، حيث يسحبه إلي عبادة الروح السماوية عوض الارتباك بالزمنيات[54].

الوصية الرابعة خاصة بتكريم الوالدين (خر 20: 12)، وهي ضد الضربة الرابعة الخاصة بالذبان، فإن من لا يكرم والديه يعاني من شر الشيطان وعذاباته[55].

الوصية الخامسة خاصة بعدم الزنا (خر 20: 14)، تعالج ضربة الوباء الذي حل بالبهائم. فالإنسان الذي لا يقتنع بزوجته بل يشتهي زوجة أخيه أو ابنته يفقد رجولته؛ مثل هذا الشخص يتحول كما إلي بهيمة في شكل إنسان، إذ لا يريد أن يسمع قول الرب: "لا تكونوا كفرسٍ أو بغلٍ بلا فهم" (مز 32: 9). إن كنتم لا تخافوا أن تكونوا مثل البهائم فخافوا أن تموتوا مثلهم.

الوصية السادسة هي "لا تقتل"، تقابل الضربة السادسة وهي حلول البثور في الناس والبهائم صادرة عن رماد الأتون. فإن القتلة هم أناس احترقت نفوسهم بنيران الغضب وصاروا كرماد الأتون. فالقاتل يقتل نفسه قبل قتله أجساد الآخرين. تطالبنا الوصية هنا ألاَّ يحترق قلبنا بالغضب بل بمحبة الآخرين. الأولى تسبب بثورًا مهلكة، والثانية تقدم شفاءً للنفس.

الوصية السابعة هي "لا تسرق"، تقابل سقوط البرد العظيم جدًا كالمطر فتبيد الحيوانات والمحاصيل في الحقول. فمن يسرق أي ينهب بظلمٍ ما ليس له إنما تحل به الخسارة من السماء كمطرٍ شديد من البرد.

بالسرقة يظن الإنسان أنه ربح كثيرًا من أمورٍ منظورة، ولا يدرك أنه بالحقيقة حلت به خسائر غير منظورة. من يسرق خلال شهواته الشريرة أشياءً ظاهرة يحل في داخله البرد ممن قبل أحكام الله السماوية فيفقد الأمور الخفية.

إن أمكن للصوص أن يتطلعوا إلي حقول قلوبهم لأدركوا جسامة الخسارة التي حلت بهم، فتموت نفوسهم جوعًا حيث هلكت مواردهم بالبرد، بينما في الظاهر يظنون أنهم اقتنوا الكثير بظلمهم للغير. لهذا يوجهنا بطرس الرسول إلي الغني الداخلي: "إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1 بط 3: 4)، فيكون الإنسان غنيًا لا أمام الناس بل أمام الله.

الوصية الثامنة هي "لا تشهد بالزور" تقابلها ضربة الجراد، وهي حشرات تدمر الحقول بفمها. هكذا من يشهد بالزور يحطم نفسه وإخوته بكلمات فمه الكاذبة. لهذا يحذرنا الرسول بولس: "فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا فانظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضًا" (غلا 5: 15).

الوصية التاسعة هي: "لا تشته امرأة قريبك"، والضربة التاسعة هي حلول الظلام الدامس. حقًا من يشتهي امرأة أخيه يكون يحل به ظلام دامس، فإنه ليس شيء أكثر من هذا يسبب عمي للنفس ويثير غضبًا عظيمًا. فمن يدنس زوجة الغير إنما يمارس جنونًا بلا ضابط.

الوصية العاشرة هي "لا تشته ما لقريبك: غنمه أو ثوره أو أي شيء يخصه". يقابل هذا ضربة قتل الأبكار. فإن كل ما يقتنيه الإنسان إنما ليقدمه لورثته، وليس بين الورثة من هو أكثر معزة من البكر. بينما يُحرم الإنسان من ممتلكاته التي يود أن يقدمها لورثته يُحرم الناهب لممتلكات أخيه من بكره ذاته وليس مما يتركه ميراثًا له. من هو هذا البكر المقتول إلاَّ الإيمان الذي هو بكر القلب، والنابع عنه، لأنه لا يقدر أحد أن يمارس عملاً صالحًا ما لم يولد الإيمان في قلبه كبكرٍ له.

يختم الأب قيصريوس عظته رقم 100 بالقول بأنه بالوصايا العشر يتحرر الإنسان من اضطهاد المصريين الظالم، أي من الظلم الروحي الذي في أعماقه، لكي يتحرر قلبه وينطلق إلي أرض الموعد وذلك خلال العون الإلهي.

يمكننا تقسيم الوصايا العشر إلى 3 أقسام متكاملة:

أولاً: وصايا خاصة بعلاقتنا بالله:

1. الارتباط بالله وحده دون آخر سواه (وصية 1)، هذا الإله تعرفنا على أسراره خلال تجسد الكلمة (مت 11-27).

يقول القدِّيس أغسطينوس[56]: [إنه عندما تحدث السيِّد المسيح مع اليهود عن تحررهم من العبودية قالوا له إنهم لم يُستعبدوا قط لإنسان (يو 8: 31-36)، مع أن يوسف بيع عبدًا (تك 37: 28)، ووجد أنبياء قديسون في الأسر (2 مل 24، حز 1)، كما سقط الشعب تحت عبودية فرعون (خر 1: 14)، حتى في أيام السيِّد المسيح كانوا خاضعين للجزية للدولة الرومانية (مت 22: 15-21). ما أراده السيِّد المسيح هو أن يحررهم من عبودية الأنا، الكبرياء الفارغ، لكنهم فهموا الحرية بمفهوم جسداني].

2. الامتناع عن عبادة التماثيل (وصية 2) حتى لا ننحرف إلى عبادة الأوثان [إقامة تماثيل في القلب مثل حب الذات وحب الاقتناء الخ].

إن كان موسى النبي يشهد بأن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، إلاَّ أنه في نفس السفر يؤكد أن الآب لا يموت بخطية ابنه أو العكس (تث 24: 16)، كيف؟ يجيب القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [بأن النص الأول يخص الأبناء الذين يكملون مكيال آبائهم ويصيرون أشر منهم[57]].

3. عدم النطق باسم الله باطلا (وصية 3). في القديم كان القسم باسم الله علامة تكريم الله ومخافته لذلك سُمح به، أما في العهد الجديد فإذ ارتفع الإنسان إلى مستوى النضوج الروحي يليق به إلاَّ يحلف البتة (مت 5). تهتم الوصية بتقديس الفم؛ وعندما تحدث الرسول بولس عن فساد البشرية وأن الجميع زاغوا وفسدوا معًا، اهتم بالفم، إذ يقول: "حنجرتهم قبر مفتوح، بألسنتهم قد مكروا سم الأصلال تحت شفاههم، وفمهم مملوء لعنة ومرارة" (غلا 3: 13-14).

4. حفظ السبت (وصية 4، راجع خر 20). سبق لنا الحديث عن السبت وحفظه وطقوسه في شيء من التفصيل[58]، وقد لاحظنا أنه في جوهره ليس وصية ثقيلة يلتزم بها المؤمن لكنه عيد مفرح يعكس روح البهجة علي الجماعة كلها، وعلي كل مؤمن مع أهل بيته والغرباء النازلين عنده، وعلي الأجراء والعبيد، بل ويعكس راحة حتى علي الحيوانات.

أعطت أسفار العهد القديم تركيزًا خاصًا علي وصية حفظ السبت بقصد تركيز الأذهان علي ترقب مجيء المخلص، محررنا من عبودية إبليس، واهب الراحة الحقة. وكما يقول القدِّيس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطية[59]]. ويقول القدِّيس أغسطينوس: [(فيه) نستريح ونرى، نرى ونحب، نحب ونسبح، هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية[60]].

يظهر الاختلاف بوضوح في الوصية الرابعة الخاصة بتقديس يوم السبت. في سفر الخروج (31: 13) طالبنا الله بتقديس يوم السبت لأنه خلق العالم في ستة أيام، لذا يليق بنا أن نقدسه، أي نكرس اليوم السابع لتقديم العبادة والشكر للخالق. أما هنا فيقدم تعليلاً جديدًا، وهو تقديس يوم السبت من أجل أعماله الخلاصية وتجديد حياتنا، فهو الذي أطلقنا من عبودية إبليس (فرعون) ودخل بنا إلى كنعان السماوية. الآن صار الرب سبتنا، فيه يجد الآب راحته نحونا ونحن نجد راحتنا.

يذكرهم الرب بمرارة العبودية التي عاشوها في مصر، حاسبًا خروجهم هو السبت أو الراحة التي خلالها تمتعوا بالحرية. فالسبت الحقيقي هو أن نقدم للغير روح الحرية حتى لا تتمرر نفوسهم في مذلة. فالسبت هو انطلاق النفس بالحب نحو كل الإخوة وحتى نحو الحيوانات والطيور، مشتاقًا أن يتمتع الكل بالراحة الحقّة.

إن كان السبت هو "خروج" الإنسان من عبودية إبليس، لذا صار سبتنا هو يوم الأحد بكونه خروجنا تحت قيادة السيِّد المسيح، مختفين فيه، لنخرج من عبودية إبليس إلى حرية مجد أولاد الله.

ثانيًا: وصايا خاصة بعلاقتنا بأقربائنا في الرب:

5. إكرام الوالدين (وصية 5): بعد تقديم وصايا خاصة بعلاقة المؤمن بالله، يقدم الوصايا الخاصة بعلاقته بالإنسان، فيبدأ بعلاقته بالوالدين. من لا يعرف كيف يكرم والديه اللذين يراهما ويتلامس معهما حسيًا، كيف يمكنه أن يكرم الله أباه السماوي؟‍ في هذه الوصية أضاف ما اقتبسه الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس (6: 3): "لكي تطول أيامك ولكي يكو لك خير على الأرض التي يُعطيك الرب إلهك" [16].

طول الحياة لا يعني المعنى الحرفي بل تمتع الإنسان بالخير، فاللحظات التي عاشها الجنين يوحنا المعمدان في بطن أمه أليصابات كانت مملوءة ثمارًا أكثر من القادة شيوخ إسرائيل الذين جحدوا الإيمان وقاوموا الحق. لذلك قيل إن يومًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة عنده كيومٍ واحدٍ. حسابات الله غير حساباتنا البشرية. يقول سليمان الحكيم: "الخاطئ وإن عمل شرًا مائة مرة وطالت أيامه إلاَّ إني أعلم أنه يكون خير للمتقين الله الذين يخافون قدامه، ولا يكون خير للشرير، وكالظل لا يطيل أيامه، لأنه لا يخشى قدام الله" (جا 8: 12-13).

ثالثًا: وصايا خاصة بعلاقتنا بالمجتمع في الرب:

جاءت الوصايا الخمس الأخيرة معًا كأنها وصية واحدة.

"لا تقتل، ولا تزن، ولا تسرق، ولا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشته امرأة قريبك، ولا تشته بيت قريبك، ولا حقله، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره، ولا كل ما لقريبك" [17-20]. بهذا أوضح موسى النبي وحدة الوصايا. وكما يقول يعقوب الرسول: "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل" (يع 2: 10).

6. لا تقتل (وصية 6) وقد أوضح السيِّد المسيح أن الإنسان قد يقتل بلسانه (مت 5).

7. لا تزنِ (وصية 7) طالبنا رب المجد بطهارة القلب الداخلية (مت 5).

8. لا تسرق (وصية 8).

9. لا تشهد على قريبك بالزور (وصية 9).

10. لا تشته امرأة قريبك ولا بيته ولا حقله (وصية 10). ذلك متى انشغل القلب بالله نفسه فيشبع ويفيض بالحب عوض طلب ما هو للآخرين.

v     حقًا إن شرائع الله تئن بصوتٍ عالٍ حين ترى فسادًا عظيمًا على الأرض[61].

القدِّيس باسيليوس الكبير

"هذه الكلمات كلم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب

وصوت عظيم ولم يزد.

وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إيَّاها" [22].

أوضح موسى النبي أيضًا أن هذه الوصايا قدمت في جو من الرهبة العجيبة. إن كانت النار مرهبة، فإن رهبتها تزداد أكثر في وسط الظلمة. أكد النبي: "ولم يزد"، بمعنى أن وصايا الله كاملة، لا تحتاج إلى زيادة.

النار والسحاب والضباب [22]. سمع الشعب الرعد ولكن موسى سمع الكلام (يو 12: 29، أع 9: 7). فكان موسى وسيطًا بين الله والناس (غلا 3: 19) كرمز للسيِّد المسيح (شرح 34: 10).

كتبت الوصايا على لوحين من حجر: "وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إيَّاها" [22]. نحتها على حجرين حتى لا يستطيع إنسان أن يُغير شيئًا فيها.

يشير الحجران إلى القلب، إذ صار قلب الإنسان حجريًا، ويحتاج إلى الوصية الإلهية لكي تنقش بإصبع الله عليه. وضع موسى النبي اللوحين في تابوت العهد الذي يشير إلى الحضرة الإلهية. يقول القدِّيس يوحنا الحبيب: "وانفتح هيكل الله في السماء، وظهر تابوت عهده في هيكله، وحدثت بروق وأصوات ورعود وزلزلة وبرد عظيم" (رؤ 11: 19).

3. تسلمه الشريعة:

"فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار تقدمتم إليَّ جميع رؤساء

أسباطكم وشيوخكم.

وقلتم هوذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار هذا اليوم.

قد رأينا أن الله يكلم الإنسان ويحيا.

وأما الآن فلماذا نموت؟ لأن هذه النار العظيمة تأكلنا إن عدنا نسمع صوت الرب إلهنا أيضًا نموت.

لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحيّ يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش.

تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلهنا فنسمع ونعمل.

فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب سمعت صوت كلام هؤلاء الشعب

الذي كلموك به قد أحسنوا في كل ما تكلموا.

يا ليت قلبهم كان هكذا فيهم حتى يتقوني ويحفظوا جميع وصاياي كل الأيام لكي يكون

لهم ولأولادهم خير إلى الأبد.

اذهب قل لهم ارجعوا إلى خيامكم.

وأما أنت فقف هنا معي فأكلمك بجميع الوصايا والفرائض والأحكام التي تعلمهم فيعملونها

في الأرض التي أنا أعطيهم ليمتلكوها.

فاحترزوا لتعملوا كما أمركم الرب إلهكم لا تزيغوا يمينًا ولا يسارًا.

في جميع الطريق التي أوصاكم بها الرب إلهكم تسلكون لكي تحيوا ويكون لكم خير وتطيلوا

الأيام في الأرض التي تمتلكونها" [23-33].

لم يعد يحتمل الشعب أكثر مما رأى من نار تتقد في الجبل، وكان الصوت الإلهي الرهيب خارجًا من وسط الظلمة. لهذا طلب من موسى أن يتقدم لاستلام الشريعة نيابة عن الشعب كله. أدرك الشعب أنه لا يقدر أن يرى أكثر أو يسمع أكثر وإلاَّ ماتوا، مع شوق حقيقي للاستماع أكثر فأكثر، لذا طلبوا من موسى النبي أن يكمل المسيرة. العجيب أن هذا الطلب حدث بعد فترة قليلة من رغبتهم في قتله ورجمه (خر 17: 4).

أراهم أيضًا مدى اهتمام الله بهم، فإنهم إذ كانوا يتحدثون معه اهتم الله بهذا الحديث كمن هو مشغول بهم ولكلماتهم. "فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني، وقال لي الرب: سمعت صوت كلام هؤلاء الشعب الذي كلموك به وقد أحسنوا في كل ما تكلموا" [28].

الله المهتم بهم يطلب أن تكون قلوبهم مملوءة تقوى تطابق ما تنطق به ألسنتهم: "يا ليت قلبهم كان هكذا فيهم حتى يتقوني، ويحفظوا جميع وصاياي كل الأيام لكي يكون لهم ولأولادهم خير إلى الأبد" [29]. لقد أظهروا بشفاههم أنهم يطلبون مزيدًا من الأحاديث الإلهية أو الشرائع التي يقدمها عن طريق موسى كنائبٍ عنهم، لكن الله يطلب قلوبهم وليس مجرد شفاههم.

يُعلن القلب هنا عن الشوق الحقيقي والرغبة الصادقة والحب العميق، كما يمثل الإرادة الإنسانية الحرة. ليطلبوا بكامل حريتهم، فإنه وإن كانت قلوبهم قد صارت باردة يحولّها إلى نار إلهية ملتهبة، وإن كانت قد تحجرت تمامًا ينقش وصاياه عليها بإصبعه، فيجعل من القلب لوحين للشهادة، مقدسين للرب، وشاهدين للكلمة الإلهية.

v     إذ أود أن أُظهر شوق الله العظيم نحو خلاصنا اسمعوا ماذا وعد الشعب بعد معاصيهم الكثيرة لكي يسيروا في الطريق المستقيم، قائلاً: "من يهبهم قلبًا هكذا يكون فيهم حتى يتقوني ويحفظوا وصاياي كل أيامهم، لكي يكون لهم ولأولادهم خير إلى الأبد؟" [29]. وإذ كان موسى يحاورهم قال: "فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه؟" (تث 10: 12).

ذاك الذي هو مهتم أن نحبه، ويصنع كل شيء بهذا الهدف لم يشفق على ابنه الوحيد من أجل حبه لنا، حاسبًا أنه أمر محبوب لديه إن تصالحنا معه في أي وقت، فكيف لا يرحب بنا ويحبنا إن تُبنا؟[62].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

عيَّن الله موسى النبي رسولاً له يتسلم الشريعة من فمه الإلهي. "وأما أنت فتقف هنا معي، فأكلمك بجميع الوصايا والفرائض والأحطام التي تعلمهم فيعملونها في الأرض التي أنا أعطيهم ليمتلكوها" [31].

v     هذا ما قيل لموسى: "لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة" (خر 3: 5)، لا يقف أحد ما لم يقف بالإيمان، ما لم يقف ثابتًا مصممًا بقلبه. في موضع آخر نقرأ: "وأما أنت فقف هنا معي" (تث 5: 31). كل عبارة منهما إنما نطق بها الرب مع موسى، بمعنى قف معي، إن وقفت بثبات في الكنيسة. لأن الموضع ذاته مقدس، نفس الأرض مثمرة بالقداسة ومخصبة بمحاصيل الفضائل.

لتقف إذن في الكنيسة، لتقف حيث أظهر لك، وحيث أكون معك. حيث توجد الكنيسة يوجد أعظم مكان راسخ لراحة فكرك، فيه تجد عونًا لنفسك، فأظهر لك في العليقة.

أنت هو العليقة وأنا النار. النار ملتهبة في العليقة، إنني في الجسد. لذلك فأنا هو النار، أهبك النور، واستهلك أشواكك، أي خطاياك، وأظهر لك نعمتي.

إذ تقف بثبات في قلبك أطرد الذئاب التي تطلب أن تجد فريسة[63]...

القدِّيس أمبروسيوس

"فاحترزوا لتعملوا كما أمركم الرب إلهكم. لا تزيغوا يمينًا ولا يسارًا" [32].

بقوله هذا يريدنا أن نحترز للعمل كأمر الرب، أي نقبل بفرح إرادته الإلهية تحتل إرادتنا، أو نقبل أن يشكل إرادتنا لتصير مطابقة لإرادته، فإن كنا نخسر الإرادة الذاتية الضعيفة لكننا ننعم بما هو أعظم، نحمل بإرادتنا الحرة إرادة الله عاملة فينا.

أما غاية هذه الإرادة فهي السلوك في طريق الحق والبرّ، بكونه طريقًا مستقيمًا، يحملنا إلى حضن الآب، ويدفع بنا إلى أمجاد داخلية مع شركة مجد سماوي. ما هو هذا الطريق إلاَّ ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة".

 

 

 


 

من وحي تثنية 5

لا أزيغ عنك يمينًا ولا يسارًا

v     وهبتني وصاياك طريقًا للحق.

يحملني روحك ويقودني في الطريق الملوكي.

لا أزيغ يسارًا بالشهوات والرجاسات.

بل أسير في الطريق الملوكي وأبلغ أحضان أبيك.

أنت هو الطريق والحق والحياة.

v     قدمت لي الوصايا العشر من وسط النار.

ليصر قلبي نارًا ملتهبة فتتكلم في داخلي.

تنقش على قلبي الحجري وصاياك الإلهية.

وتجعل من أعماقي تابوت عهدٍ لك.

v     لأحفظ وصاياك بروحك الناري.

فلا أرى إلهًا غيرك.

يتسع قلبي لك فيحمل فيه البشرية المحبوبة لديك.

أصير أيقونة حيّة لك.

ِوأتشبه بك يا من ليس لك شبيه!

<<

 

 

 


 
الأصحاح السادس

الوصية والأرض الجديدة

تقوم علاقة الشعب بالله على أساس قبول العهد الذي فيه يعلن الله حبه الكامل والفائق للبشرية، والتي من جانبها تلتزم بالطاعة لصوته، والشوق إلي وصيته من كل القلب، وليس فقط من الشفتين. لقد أوضح لهم ضرورة الانشغال بالوصية حين يتمتعون بالأرض الجديدة. بهذا تكون الوصية باعثًا على تذكر عمل الله معهم عِوض انشغالهم بالخيرات ونسيانهم وصية الرب.

1. الوصية والأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً   [1-3].

2. الوصية كمرافق للمؤمن أينما وُجد         [4-9].

3. الوصية والتمتع بالبركات                   [10-19].

4. الوصية وتذكر التحرر من العبودية         [20-25].

1. الوصية والأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً:

إذ صار الشعب على وشك الدخول إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، خشي موسى النبي لئلاَّ تشغلهم الأرض عن الوصية، وتشغلهم بركات الرب الزمنية عن شخصه لهذا أكد بكل وسيلة النقاط التالية:

أولاً: أن ما يقدمه لهم من وصايا أو شرائع أو أحكام ليست من عندياته، إنما هي من عند الرب نفسه.

"وهذه هي الوصايا والفرائض التي أمر الرب إلهكم أن أُعلِّمكم لتعملوها في الأرض التي أنتم عابرون إليها لتمتلكوها" [1].

 إنها وصايا الرب لا موسى. هكذا يليق بخدام المسيح أن يقدموا وصاياه التي خلالها يتجلى في سامعيه، ويكون حاضرًا وسط شعبه. لهذا ختم الإنجيلي متى إنجيله بقول السيِّد المسيح: "علّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20).

جاء سفر التثنية يوضح دور الإنسان ودور الله في العهد المبرم بينهما. كثيرًا ما يكرر موسى النبي: "اسمع"، "انظر"، "احفظ"، "اعمل" هذا هو دور المؤمن. أما دور الله فهو

يهب ويكثر ويبارك.

ثانيًا: أن نتقبل الوصية في حياتنا العملية اليومية: "لتعملوه"، أي يعبروا بها نهر الأردن ويدخلوا إلى الأرض الجديدة كدستور لحياتهم العملية.

"لكي تتقي الرب إلهك وتحفظ جميع فرائضه ووصاياه التي أنا أوصيك بها أنت وابنك وابن ابنك كل أيام حياتك، ولكي تطول أيامك" [2].

 هكذا إذ يملكوا الأرض الجديدة، يلزمهم ممارسة حياة جديدة بفكرٍ جديدٍ وشريعةٍ إلهيةٍ جديدةٍ.

ثالثًا: إذ يقبل المؤمن الوصية كنزًا يحتفظ به ويعهد به إلى أولاده وأحفاده، يليق به أن تتحول الوصية إلى "تقوى في الرب" [2]، وأن يحفظ جميع الوصايا والفرائض. فإن من يعلم بلسانه دون قلبه وسلوكه يكون كمن يكتب على الماء.

سبق أن تحدثت عن "التقوى في الرب" أو "مخافة الرب" أثناء دراستنا لسفر الأمثال، وهي مخافة الابن ألاَّ يجرح مشاعر أبيه. هذه هي المخافة التي نورّثها للأجيال القادمة بالتقليد العملي الحيّ، فتطول أيامنا، إذ تحسب أيام أحفادنا المقدسة كأنها أيامنا نحن. فكما أن الابن الفاسد يقتل قلب والديه، فيحسب الوالدان كأن أيامهما قد ضاعت وقصرت، هكذا الابن أو الحفيد التقي يُفرح قلب والديه وأجداده في الرب فتطول أيام حياتهم في الرب.

رابعًا: إن كان الشعب سيملك على الأرض المملوءة خيرات كعطية إلهية، فإنه تتبقى خيرات أعظم وعذوبة أفضل يجدها المؤمنون في الوصية، إذ يقول: "فاسمع يا إسرائيل واحترز لتعمل لكي يكون لك خير وتكثر جدًا كما كلمك الرب إله آبائك في أرضٍ تفيض لبنًا وعسلاً" [3].

كما يدخلون إلى أرض كنعان هكذا يليق بنا نحن أن ندخل إلى أرض الوصية بالطاعة لله فتشبع نفوسنا بالخيرات ولا تحتاج إلى شيء، إذ بها ندخل السماء عينها، ومن خلالها يتجلى خالق السماء نفسه.

2. الوصية كمرافق للمؤمن أينما وُجد:

اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد.

فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" [4-5].

يعتبر اليهود الآيتين [4-5] من أروع العبارات الكتابية. ويتلوهما اليهود الأتقياء مع (تث 11: 13-21؛ عد 15: 37-41) على الأقل مرتين يوميًا. يُطوّب الإنسان الذي ينطق بهما كل صباح ومساء، ويتممهما عمليًا. ويُعرف العددان بلفظة "شيما" التي هي الكلمة العبرية الأولى فيهما. وقد اقتبس المسيح هذين العددين بكونهما الوصية الأولى والعظمى مع إضافة "من كل فكرك" (مر 12: 30).

الكلمة العبرية المستعملة هنا والمترجمة "واحد" هي "آحاد" وهي لا تنفي عقيدة الثالوث القدوس في المسيحية، ثالوث في وحدانية. توجد كلمة أخرى في العبرية يمكن أن تترجم "واحدًا" وهي كلمة "يحيد" وتدل على الوحدة المطلقة التي يتمسك بها اتباع بعض الأديان الأخرى، وهي تدل في معناها على وحدة الجوهر الفرد، أي الوحدة الذرية التي لا تقبل التعدد. هذه الكلمة ليست مستعملة هنا. وهنا نجد الإيمان بوحدانية الله ممتزجًا بالمحبة وهو الأمر الذي لا يتطلبه أي دين آخر.

اعتاد اليهود أن يكتبوا الحرف الأخير من الكلمتين الأولى والأخيرة حتى يجتذبوا أنظار القارئين إلى هذه العبارة، بكونها أعظم الوصايا وأهمها.

v     لم يقل "تكلم" بل "اسمع" [4].

سقطت حواء لأنها تكلمت مع الرجل بما لم تسمعه من الرب إلهها.

الكلمة الأولى التي يقول لك الله: "اسمع". فإن كنت تسمع تحتاط في طريقك، وإن سقطت تصلح بسرعة طريقك. لأنه "بماذا يصلح الشاب طريقه إلاَّ بحفظ كلمة الرب؟!" (مز 119: 9).

لذلك قبل كل شيء أصمت واسمع، فلا تسقط بلسانك. إنه لشر عظيم أن يُدان الإنسان بفمه[64].

القدِّيس أمبروسيوس

ماذا يعني بالقول: "يهوه، إلهنا (ألوهيمنو Eloheeunuw)، يهوه واحد" [4]؟

أ. يعتز المؤمن بتعبير "يهوه"، لأنه اللقب الخاص بالله الكائن وسط شعبه، فهو ألوهيم "القدير" والخالق، لكننا نعتز به بالأكثر لأجل حلوله وسط شعبه، وسُكناه في قلوبهم.

ب. إن كان هو القدير "ألوهيم"، فهو القدير الذي لنا "إلهنا". قدرته أو جبروته أو إمكانياته الفائقة، هذه كلها لحسابنا، نقتنيه فيعمل معنا وفينا.

ج. قدم موسى النبي عقيدة وحدانية الله مع التلميح للتثليث، بطريقة تناسب اليهود كأطفالٍ في المعرفة الروحية واللاهوتية في ذلك الحين. يقول: "الرب إلهنا رب واحد" [4]، فمع تأكيد وحدانية الله، يكرر اسم الرب ثلاث مرات، فإنه مثلث الأقانيم.

يقدم لنا النبي الإله الواحد، الينبوع الذي يفيض بما يشبع كل السمائيين والأرضيين، عِوض الاعتقاد بآلهة كثيرة، ينابيع جافة لا تستطيع أن تخترق أعماق النفس وأن تشبعها.

v     يوجد إله في إله وليس هما إلهين، إذ مكتوب أنه يوجد إله واحد. ويوجد رب (يهوه)، وليس هما ربِّين[65].

v     يبرهن الناموس على وحدة اللاهوت، هذا الذي يتحدث عن إله واحد. وكما يقول الرسول بولس عن المسيح: "الذي فيه يسكن كل ملء اللاهوت جسديًا" (كو 2: 9). فإنه إن كان كما يقول الرسول، كل ملء اللاهوت جسديًا في المسيح، لهذا يلزم الاعتراف بأن الآب والابن هما لاهوت واحد[66].

القدِّيس أمبروسيوس

"فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" [5].

هذه الكلمات ذكرها أيضًا السيِّد المسيح نفسه كما هي، مؤكدًا أن لا يقبل الله إلاَّ أن يكون داخل القلب، يحتله بالكامل، طالبًا كل حبنا مقابل كل حبه المقدم لنا. فبدخوله إلى أعماقنا يجعل القلب مستقيمًا، والنفس مملوءة عذوبة، والحب غير ممتزج بشوائب، بل هو حب طاهر حر سخي لا يعرف الانقسام، ويحول الكيان الداخلي إلى ينبوع مياه حيّة تفيض على الغير، فالحب لا يمكن حبسه في سجن الأنا، بل يطير على الدوام في السماويات يعطي بسخاء ولا يعير. إنه يرتفع بجناحيه كما إلى السماء ليحمل منها سماتها الطاهرة المقدسة ويرجع للعمل في الأرض بروح جديدة.

تحدث في الأصحاح السابق عن الإنسان التقي الذي يخاف الله، مخافة الابن لأبيه، وهنا نجد الله كمحبٍ للبشر يقدم لنا الوصية أن نحبه! لم نسمع قط عن ملك أو رئيس أو أي قائد يُشرّع قانونًا يسألنا أن نحبه، كاستجابة لحبه لنا.

نحبه بكونه الرب السيِّد الكل، وبكونه الله الذي يُقيم عهدًا أو ميثاقًا معنا. يطلب حبًا نابعًا من كل القلب، إذ يتطلع إلى أعماقنا بكونها ملكوته السماوي. نحبه بكل نفوسنا، أي نحبه ليس فقط خلال عواطف القلب ومشاعره، وإنما بفهمٍ وإدراكٍ حقيقي. نحبه أيضًا بكل قوتنا، أي نستخدم كل طاقتنا ومواهبنا للتعبير عن هذا الحب.

v     يبدو دائمًا أنه يليق أن تعطي الله أعظم ما لديك، وهو عقلك، فإنه ليس لك ما هو أعظم منه[67].

v     يلزمنا أن نثير حب العروس كما هو مكتوب: "حب الرب إلهك"[68].

القدِّيس أمبروسيوس

v     تعبير "من كل" يستدعي إضافة أنه لا يوجد انقسام إلى أجزاء[69].

القدِّيس باسيليوس الكبير

يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص في حديثه عن خلقة الإنسان On the Making of Man: [تتكون الحياة البشرية من وحدة لها ثلاثة جوانب. يعلمنا الرسول أمرًا مشابهًا بما قاله لأهل أفسس إنه يصلي لأجلهم لكي ما تحفظ النعمة الكاملة للجسد والنفس والروح إلى مجيء الرب. فإننا نستخدم كلمة "الجسد" لعملية الانتعاش بالطعام، وكلمة النفس للجانب الحيوي، والروح للبُعد العقلي. بهذه الطريقة ذاتها يعلم الرب كاتب الإنجيل أن يضع أمام كل وصية أن المحبة لله تمارس بكل القلب والنفس والعقل (مت 22: 37؛ مر 12: 30؛ لو 10: 27). هذا التعبير يضم كل الكيان البشري[70]].

كثيرًا ما تحدث العلامة أوريجانوس والقدِّيس أغسطينوس وغيرهما عن سرّ رقم 3 (من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك) بكونه يُشير إلى القيامة مع المسيح في اليوم الثالث، فإننا نعبد الله بكل القلب المقام، وكل النفس وكل الذهن. تُعلن قيامة المسيح فينا، فنمارس الحياة الجديدة فيه[71].

يرى القدِّيس باسيليوس الكبير أن الإنسان يحمل طاقة حب، تمثل قوة إما لبنيانه أو لتحطيمه. لهذا فإننا إذ نحب الله يلزمنا أن نترجم الحب إلى قوة عمل للبنيان[72].

"ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك" [6].

إن لم توجد الوصية في القلب لا يكون لها وجود، لكنها إن احتلت القلب تنطلق إلى الفكر فتوجه أفكار الإنسان ومفاهيمه خلالها. هذا من جانب ومن جانب آخر من يحب الله يحب كلماته ووصاياه، فاحتلال الوصية للقلب علامة ملكية الله للقلب.

أعظم ذاكرة هي القلب، حين تدخل الوصية إلى مخازن القلب، لا يمكن للإنسان أن ينساها، بل يذكرها على الدوام. بل ويتشكل كل كيانه حسبما يحتفظ به القلب. يطالبنا أن نحمل الوصية أينما وُجدنا. فإنه إذ يحفظها الإنسان في قلبه يكون حاملاً إيّاها أينما وُجد.

"وقصَّها على أولادك،

وتكلم بها حين تجلس في بيتك،

وحين تمشي في الطريق،

وحين تنام،

وحين تقوم" [7].

إذ تدخل الوصية القلب يصير المؤمن قادرًا على تعليم أولاده وأحفاده بلغة الحب والبساطة مع الغيرة المتقدة والإخلاص. فإن الإنسان، خاصة الأبناء يحبون من يتحدث معهم خلال القلب. قلوبهم تتقبل بفرح ما يصدر عن قلوب آبائهم.

يقول "قصها على أولادك وتكلم بها" [7]. يُطالبنا لا أن نردد الوصية فحسب بل نعلم أولادنا بكل اجتهاد. فلا يقف الأب موقف المعلم الذي يلقي عظات ويقدم أوامر، إنما يتحدث بلغة الحب حيث "يقص ويتكلم"، فإذ تدخل كلمة الرب إلى القلب تصير جزءً من حياتنا، فنتكلم بروح الحب وبلغة الحياة.

إذ يتسع قلب المؤمن الحقيقي بالحب يحمل ظلاً لأبوة الله، فيشعر أن كل من حوله أشبه بأولاد له، فتعليمه الوصية لا يقف عند أولاده حسب الجسد، بل يمتد إلى كل إنسان، لكي يدخل بكل أحدٍ إلى المجد.

"وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك" [7]. حين يجلس المؤمن في بيته يُدرك أنه في بيت الرب، حديثه مع أهل بيته هو في الرب، ما ينطق به إنما هو ما ينطق به الرب نفسه، أي يحمل كلمات الرب بروح الفرح إلى إخوته. حين يجلس في بيته مع الزوج أو الزوجة أو مع الأبناء، أو مع الخدم والعاملين لديه أو مع أصدقائه لا يجد ما يتحدث به غير كلمات الرب.

v     عندما تعرج إلى منزلك ناقش هذه الأمور مع أهل بيتك، كما يفعل كثيرون عندما يرجعون من الحدائق فإنهم يقطفون وردة أو أي نوع من الزهور ويضعونها بين أصابعهم. والبعض عندما يتركون الحدائق ليذهبوا إلى منازلهم يأخذون معهم أغصان أشجار محملة بالفواكه. وآخرون أيضًا إذ يأتون من الولائم المملوءة بالمشتهيات يحملون منها إلى من يعولونهم. هكذا يليق بك حقًا عندما تترك هذا الموضع أن تأخذ نصيحة معك لزوجتك ولأولادك وكل أهل بيتك. فإن هذه النصيحة أكثر نفعًا من البستان والحديقة والوليمة. هذه الورود لن تذبل، هذه الثمار لن تسقط، هذه المشتهيات لن تفسد. الأولى تعطي لذة مؤقتة، أما الأخيرة فنفعها باقٍ[73].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

"وحين تمشي في الطريق" [7]، لا يخجل المؤمن من الحديث عن وصية الرب حتى في الطريق إذ يلتقي بأناس لا يعرفهم.

"وحين تنام، وحين تقوم" [7]، يبدأ الإنسان ليله بالحديث عن الوصية، وينشغل بها حين يبدأ نهاره. تشغل كل كيانه، حتى في أحلامه، وفي أثناء عمله اليومي.

"واربطها علامة على يدك،

ولتكن عصائب بين عينيك" [8].

كان من العادات المعروفة في العالم القديم أن يربط الشخص شيئًا في يده أو في إصبعه ليذكره بأمرٍ ما عاجلٍ وهام. هكذا إذ يربط الوصية على يده يتذكر المؤمن أهمية تنفيذ الوصية والتعليم بها.

إن كانت الكلمة تخزن في القلب لكن يلزم أن تكتب على اليد، أي تتحول إلى عمل. نشهد للكلمة بقلوبنا كما بفمنا وبأعمالنا، فيشعر بها الغير ويسمعونها ويرونها.

"ولتكن عصائب بين عينيك" [8]، لكي ينشغل بها فكر المؤمن ويتأمل فيها على الدوام.

"واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك" [9].

إنها تملك على القلب واللسان والأيدي والأعين والمنزل. لا يُترك باب يدخل منه العدو ليحتل مكانًا في الإنسان، بل يكون الإنسان مقدسًا في كل حواسه وكل تصرفاته، ويتحول إلى رسالة المسيح المقروءة من جميع الناس.

وقد اعتبر البعض أن وردود الكلمة "اكتب" خطأ، لأن الكتابة – في زعمهم – كانت غير معروفة وقتئذ. ولكن الحفريات الحديثة أثبتت أن الكتابة كانت مألوفة في زمن موسى من كتابة بالمسمارية والأبجدية العبرية. والأرجح أن موسى تعلم الكتابة في مصر (أع 7: 22)، وربما آخرون أيضًا منهم يشوع قد تعلموا الكتابة ولكن لم يكن كل الناس يكتبون، فكانوا يوّظفون الكتبة، أو الناسخين.

كان المسيحيون قديمًا يكتبون بعض الآيات الهامة على حوائط الكنائس، وينقشونها على الأبواب، وأيضًا في منازلهم، لتكون دائمًا أمام أعين الحاضرين، وتشغل أفكارهم.

طلب الرب من بنى إسرائيل وضع دم خروف الفصح على القائمتين والعتبة العليا (خر 12: 7)، والآن يطلب كتابة الوصية على قوائم أبواب البيت وعلى الأبواب (تث 6: 9)، هكذا يرتبط دم الفصح الواهب الخلاص بالوصية؛ بالدم ننجو من الموت لنتقبل بالوصية متعة الاتحاد بكلمة الله في استحقاق دمه. بمعنى آخر لا يمكن عزل الإيمان بالدم عن متعة قبول الكتاب المقدس والدخول إلى أعماقه لنلتقي بالمسيح الذبيح صديقًا شخصيًا. اتحاد الدم بالوصية يعنى أيضًا وحدة الإيمان بالطاعة العملية لله خلال وصيته.

يرى القدِّيس أثناسيوس الرسولي أن خدام الرب الأبرار والأمناء قد صاروا تلاميذ ملكوت السماوات الذين يُخرِجون منه جددًا وعتقاء، وهم يتأملون في كلمات الرب إن جلسوا في البيت، وإن ناموا أو استيقظوا أو ساروا في الطريق[74]. وكأنهم خلال تمتعهم بالوصية أينما وجدوا، وتحت كل الظروف يدركون أنهم أبناء ملكوت السماوات.

إذ حدثنا عن الوصايا وارتباطها بإقامة عهد مع الله يكشف لنا هنا عن التزامنا بالتمتع بالوصية في حياتنا الداخلية كخبرة معاشة والشهادة بها في البيت، بين الزملاء، ثم بين الغرباء. وقد جاء هذا النص متفقًا مع كلمات السيِّد المسيح مع تلاميذه بخصوص الكرازة (أع 19: 8).

الوصية في حقيقتها هي اتحاد مع كلمة الله الذي وحده يقدر أن ينزع عن الإنسان شعوره بالعزلة، إذ يسكن في قلبه [6]، ويصير موضوع انشغاله في علاقته الأسرية [7]، يرافقه في الطريق [7]، لا يفارقه في نومه أو يقظته [7]، يشغله أثناء عمله اليومي [8]، ويملأ كل فكره وبصيرته الداخلية [8].

بنفس الروح طالب السيِّد المسيح تلاميذه بالكرازة أولاً في أورشليم ثم اليهودية فالسامرة وإلى أقصى الأرض.

·        ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، أي تكونون لي شهودًا في أورشليم،

·        وقصها على أولادك، وفي كل اليهودية،

·        وحين تجلس في بيتك، والسامرة،

·        وحين تمشي في الطريق، وإلى أقصى الأرض.

الدعوة موجهة للشهادة الدائمة للرب ولوصيته، لكن بروح الحكمة، في الوقت اللائق وبالأسلوب المناسب.

v     يليق بنا أن نفكر في الله حتى أكثر من أخذنا لأنفاسنا، وإن سمح لي التعبير أنه يليق بنا إلاَّ نفعل شيئًا غير هذا... فإنني لا أمنع التذكر الدائم لله، وإنما أمنع فقط الحديث عن الله، ليس كما لو كان في ذلك خطأ، وإنما يجب أن يكون تقديمه في الوقت المناسب، لست أمنع التعليم بل أطلب الاعتدال. فإنه حتى أكل العسل فإن المبالغة فيه يسبب قيئًا. وكما يقول سليمان أنه لكل شيء وقت، وأن ما هو صالح يفقد صلاحه إن لم يُمارس بطريقة صالحة[75].

القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

3. الوصية والتمتع بالبركات:

بعد أن تحدث عن ضرورة ارتباط الإنسان بكل كيانه بالوصية الإلهية التي تشغله أينما وُجد، وتحت كل الظروف، قدم موسى النبي تحذيرًا خاصًا بتجاهل الوصية عندما يتمتع الإنسان بالبركات والخيرات الكثيرة، التي في ذاتها عطايا صالحة من قِبل الله، لكن إن احتلت مكان الوصية الإلهية في القلب فقدت صلاحها.

"ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب أن يُعطيك،

إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها.

وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها،

وأبار محفورة لم تحفرها،

وكروم وزيتون لم تغرسها، وأكلت وشبعت.

فاحترز لئلاَّ تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية" [10-12].

إن كان الله قد أخرج شعبه من أرض العبودية وأنعم عليهم بفيض من البركات، وأتى بهم إلى أرض الموعد التي سبق فوعد بها آباءهم إبراهيم واسحق ويعقوب، فإنه من جانب آخر يحذرهم لئلاَّ ينحرفوا عن الالتصاق بالرب حين يشبعون ويسلكون في حياة مترفة. لاق بهم لا أن ينسوا الرب بل يطلبوه لكي يخرجوا من هذا العالم ويعيشوا معه في السماء الجديدة والأرض الجديدة.

إن كان قد قدم لهم مدنًا عظيمة جيدة لم يبنوها عِوض سيرهم في البرية حاملين خيامهم كرُحَّل غرباء غير مستقرين، لاق بهم أن يترقبوا أن يستقروا في حضن الآب، في أورشليم العُليا بأسوارها الفائقة، ومبانيها التي ليست من صنع بشر.

إن كان قد قدم لهم بيوتًا صارت لهم مخازن مملوءة بالخيرات، فإنه يليق أن يطلبوا واهب الخيرات نفسه. جاءوا إلى أرض الموعد ليجدوا آبارًا لم يتعبوا في حفرها، فيطلبوا ينبوع الحياة الذي لا ينضب أبدًا. إذ يدخلون إلى الحقول التي لم يغرسوها، يأكلون ويشبعون، فيطلبون خبز الملائكة، الطعام السماوي، المشبع للقلب.

هكذا يليق بنا إذ نتمتع بعطايا الرب المجانية، نطلب واهب العطايا نفسه، لئلاَّ تشغلنا العطايا عن واهبها. لأن كثيرين إذ يشبعون يمتلئون جحودًا. هذا ما خشاه أجور: "لئلاَّ أشبع وأكفر وأقول من هو الرب" (أم 30: 9).

v     عندما كان حزقيا في ضيق أنظر ماذا فعل لكي يخلص، إذ لبس المسوح وما إلى ذلك. لكنه إذ كان في فرجٍ سقط خلال ارتفاع قلبه (2 مل 19: 20).

عندما كان الإسرائيليون في ضيق نموا جدًا في العدد، وعندما تركهم لأنفسهم انحدروا إلى دمارهم[76].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     عندما تبتدئون أن تغرقوا في ملذات الترف اذكروا كيف أن اللذة مقصرة، تطلعوا إلى الخسارة. بالحقيقة إنها خسارة حيث يدفع الشخص مالاَّ كثيرًا لما فيه ضرره – ليسبب له أمراضًا وضعفات – احتقروا الترف.

كم عدد الذين أصابتهم الشرور بسبب الترف؟

نوح سكر وصار في فضيحة متعريًا؛ أنظروا كم من شرور نبعت عن هذا (تك 9: 20).

عيسو فقد حقوق بكوريته بسبب نهمه، وفكر أن يكون قاتلاً لأخيه.

شعب إسرائيل جلس ليأكل ويشرب وقام يلعب (خر 32: 6).

لهذا يقول الكتاب المقدس: متى "أكلت وشبعت تذكر الرب إلهك" (راجع تث 6: 11-12). إذ كانوا على حافة السقوط في الترف.

قيل: أما (الأرملة) المتنعمة فقد ماتت وهي حيّة" (1 تي 5: 6) [77].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

عندما حلّت الكارثة بأنطاكيا، إذ ثار الشعب ضد الإمبراطور ثيؤدوسيوس وأساءوا إلى تماثيله هو والإمبراطورة في الميدان العام، أرسل نوّابه للانتقام، فصار الكل يصرخ إلى الله طالبًا الرحمة، وإذ جاء الأمر بالعفو خشي القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن ينسى الشعب إلهه خلال الفرج، فقال لهم:

[عندما التهبت نيران الخراب التي لهذه الكوارث، أقول كان الوقت ليس وقتًا للتعليم بل للصلاة.

الآن أكرر نفس الشيء بعد أن انطفأت النيران، الآن على وجه الخصوص، أكثر من الوقت السابق هو وقت صلاة.

إنه وقت خاص بالدموع والندامة بالنسبة للنفس اليقظة والمجتهدة والحذرة للغاية.

قبلاً كانت التجربة تضغط علينا، بغير إرادتنا، ودفعت بنا أن نكون حكماء وأكثر تديُنًا، لكن الآن وقت نُزع فيه اللجام، وعبرت الغيمة، أخشى أن تسقطوا مرة أخرى في الخمول، وتستكينوا بهذا التأجيل (للدينونة). أخشى أن يوجد لدى أحد مبرر ليقول لنا: "إذ قتلهم طلبوه ورجعوا وبكروا إلى الله" (مز 78: 34). سيكون صلاحكم معلنًا إن كنتم تستمرون في ممارسة ذات التقوى[78].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

"الرب إلهك تتقي (تخشى)، وإيّاه تعبد، وباسمه تحلف" [13].

يسألهم أن يخشوا الرب كمشرِّع ودياّن ويخدمونه كخالق، ويحلفون باسمه بكونه إلههم الوحيد. كان القسم باسم الله علامة الثقة والتكريم والارتباط به، لهذا أكمل حديثه قائلاً:

"لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم" [14].

كلمة "تحلف" بالعبرية Tishaabeea مشتقة من shaaba تشير إلى من يكون في امتلاء وشبع وكفاية. لهذا فإن القسم يشير إلى النفس التي تتوسل إلى الله كشاهدٍ على أي وعد أنه كفيل بتحقيق الوعد بالكامل وضامن لما تنطق به. بهذا فمن يحلف إنما يُعلن عن إيمانه بالله القادر أن يحقق ما يَعدْ المؤمن به اخوته[79].

"لأن الرب إلهكم إله غيور في وسطكم،

لئلاَّ يحمى غضب الرب إلهكم عليكم فيُبيدكم عن وجه الأرض" [15].

لقد خطب نفوسكم كعريسٍ سماويٍ، لذا يليق بكم كمخطوبة أن تكونوا أمناء، لئلاَّ يتحول الحب الذي به قبل الإنسان عروسًا سماوية إلى غيرة نارية لا تحتملها النفس الخائنة فتهلك.

"لا تجربوا الرب إلهكم كما جربتموه في مسَّة" [16].

"مسَّة" اسم عبري معناه "تجربة"، وهو اسم مكان في البرية يُدعى "مريبة"، أو "رفيديم". هناك خاصم الشعب موسى وكادوا أن يرجموه بسبب العطش (خر 17).

استخدم السيِّد المسيح هذه العبارة في الرد على الشيطان في إحدى التجارب (مت 4: 7). واستخدمها القدِّيس أثناسيوس الرسولي للدفاع عن نفسه عندما هرب من أمام وجه الأريوسيين، فقد هرب موسى النبي من مصر إلى مديان، واختبأ داود في كهف من وجه شاول، وبقي إيليا والأنبياء في كهوفهم ولم يظهروا أمام الملك آخاب[80].

لقد جربوا الرب قائلين: هل الرب في وسطنا أم لا؟! (خر 17: 1-7). لقد تشككوا في حنو الله وحبه وعنايته بهم وقدرته، وفي حضرته في وسطهم بعد أن قدم لهم كل العطايا الفائقة، ودلل على حبه بشهادات كثيرة.

v     ليتنا لا نجرب الرب، كأن نقول: إن كنا منتمين لك هب لنا أن نعمل معجزة[81].

القدِّيس أغسطينوس

"احفظوا وصايا الرب إلهكم وشهاداته وفرائضه التي أوصاكم بها" [17].

هكذا يُحذرنا من التراخي والإهمال، حاثًا إيَّانا على حفظ الوصية أو الجهاد فيها، فإن نعمة الله المجانية لا تعمل في الكسالى والمتهاونين.

4. الوصية وتذكر التحرر من العبودية:

"إذا سألك ابنك غدًا قائلاً:

ما هي الشهادات والفرائض والأحكام التي أوصاكم بها الرب إلهنا؟

تقول لابنك: كنا عبيدًا لفرعون في مصر،

فأخرجنا الرب من مصر بيدٍ شديدة" [20-21].

يؤكد موسى النبي هنا أمرين متلازمين:

أ. تذكار أعمال الله الخلاصية معنا حتى نشكر الله ونطيعه بلا تذمر. نذكر أنه وهبنا مدنًا عظيمة جيدة لم نبنها [10]، ألاَّ وهو تقديس النفس والجسد والفكر والأحاسيس والمشاعر كمدن امتلكناها بالنعمة الإلهية؛ وهبنا حالة شبع بالمجان (بيوت مملوءة كل خير لم تملأها)، وفيضًا من ينابيع عمل روح الله الداخلي (آبار محفورة لم تحفرها)، وثمار الروح المتكاثرة (وكروم وزيتون لم تغرسها وأكلت وشبعت).

ب. الشهادة لأعمال الله، خاصة في الأسرة (6: 20-23)؛ نشهد أننا كنا عبيدًا لفرعون فخلصنا الرب بيده القوية. هذه الشهادة يتذوقها الرضيع والطفل الصغير والزوج والزوجة وكل من يلتقي بنا إن تلامس مع التهاب قلبنا الداخلي بالحب والشكر والطاعة، وليس

بالمظاهر الخارجية للعبادة بدون روح.

هنا يُعطي الكتاب المقدس للجيل الجديد أن يتساءل فيما يخص الشهادات والفرائض والأحكام، أي يتساءل فيما وراء الوصية الإلهية والشرائع والطقوس الدينية. فإن كان المؤمن يتقبل كل ما هو إلهي بالتقليد من الأجيال السابقة، لكن التقليد لا يعني الغموض وعدم المعرفة. يليق بنا أن ندخل إلى أعماق الكلمة الإلهية ونتفهم كل قانون إنجيلي وطقس تعبُّدي، لكي نقدمه للجيل التالي، فيتعبدون بالروح والذهن كقول الرسول بولس "أُصلي بالروح، وأصلي بالذهن أيضًا. أرتل بالروح، وأرتل بالذهن أيضًا" (1 كو 14: 15). فيليق بالمؤمن أن يكرس كل طاقاته بما فيها ذهنه وفهمه لحساب ملكوت الله.

v     عندما تعبر البحر الأحمر، عندما تُقاد من معاصيك بيدٍ قوية وذراع رفيعة فإنك تدرك أسرارًا لا تعرفها. هكذا حدث مع يوسف عندما جاء إلى أرض مصر وسمع لغة لم يكن يعرفها... ستسمع أين يجب أن يكون قلبك (مت 6: 21)، الأمر الذي حتى الآن، إذ أتكلم كثيرون يفهمون ويجيبون متعجبين، بينما تقف البقية في غباوة، لأنهم لم يسمعوا اللغة التي لا يعرفونها ليُسرعوا، وليعبروا ويتعلموا[82].

القدِّيس أغسطينوس

يقدم لنا النبي السرّ الذي وراء كل وصية ووراء كل شريعة أو طقس، ألاَّ وهي اكتشاف حب الله الفائق للإنسان وعمله الخلاصي، لكي يحملنا من العبودية ويدخل إلى حرية مجد أولاد الله، إذ يقول:

"تقول لابنك:

كنا عبيدًا لفرعون في مصر، فأخرجنا الرب من مصر بيدٍ شديدة.

وصنع الرب آيات وعجائب عظيمة ورديئة بمصر بفرعون وجميع بيته أمام أعيننا.

أخرجنا من هناك لكي يأتي بنا ويعطينا الأرض التي حلف لآبائنا.

فأمرنا الرب أن نعمل جميع هذه الفرائض،

ونتقي الرب إلهنا ليكون لنا خير كل الأيام،

ويستبقينا كما في هذا اليوم.

وأنه يكون لنا برّ إذا حفظنا جميع هذه الوصايا لنعملها أمام الرب إلهنا كما أوصانا" [21-25].

من حق الابن أن يسأل، ومن حقه أن يجد الإجابة المقنعة والمشبعة له، والصادرة عن واقع عملي اختباري، كما يظهر من كلمات موسى النبي. لنتحدث مع أبنائنا بغير خجل كيف عشنا زمانًا تحت نير العبودية، وكيف حررنا الرب من ثقلها. فلا نؤله أنفسنا، ولا نبررها كأننا ملائكة نحمل طبيعة تختلف عن طبيعة الجيل الجديد. لكننا نؤكد لهم أننا كنا في ضعف مأسورين في ظلمة إبليس لكن نعمة الله هي التي انتشلتنا وحررتنا. هذا الواقع يبعث في نفوس أولادنا روح الرجاء، ويهبنا كرامة صادقة وحقة في أعينهم. يليق بنا أن نكون مستعدين لمجاوبة من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا. فإن إيماننا لا يقدم لكائنات غير عاقلة. الله خالق العقل وواهبه لنا لا يمكن أن يستخف بعقولنا ولا يطلب منا تجاهلها بل تقديسها ونموها.

بهذا يدرك أبناؤنا سرّ القوة فينا، ليس منّا بل من الله العامل في كل الأجيال، الذي يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.

هكذا يليق بنا أن ندرك ما وراء عقائدنا الإيمانية وممارستنا التعبدية ألاَّ وهو:

أولاً: كنا عبيدًا لإبليس، فحررنا الرب من عبوديته، لنحسب أولاد الله [21].

ثانيًا: الله المحب للبشر يصنع آيات وعجائب عظيمة لحساب مؤمنيه، مقدمًا إمكانياته لحساب خلاصنا [22].

ثالثًا: يود أن يعطينا الأرض الجديدة، أي يشتهي أن ينطلق بنا إلى أورشليم العليا الجديدة السماوية [23].

رابعًا: لكي يهبنا أن نبقى أحياء إلى الأبد، فلا يكون للموت السلطان علينا [24]. الوصية والعبادة هما تلاقٍ مع الرب الحياة، واهب الحياة.

خامسًا: أن نحمل بره فينا، فنتبرر أمام الآب، إذ نختفي في ابنه القدوس البار [25].

هكذا ندرك ما وراء كلمات الرب إنها لخيرنا ولحياتنا ومجدنا وتقديسنا الأبدي. هذا من جانب ومن جانب آخر أن ما نقدمه لأولادنا أو للغير من مفاهيم ينبغي أن يصدر عن تذوق عملي لعمل الله معنا.

كثيرًا ما يشير سفر التثنية إلى "القَسَم" [23]، فقد حلف الرب لآبائهم أن يعطيهم الأرض التي وعد بها [23]. هذا القسم الإلهي يتم بأن "يقسم الله بذاته الإلهية"، ليؤكد صدق مواعيده. كما قيل لإبراهيم عند ذبح ابنه اسحق: "بذاتي أقسمت يقول الرب" (تك 22: 16).

عندما أقسم إبراهيم طلب من عبده كبير بيته أن يضع يده تحت فخذه (تك 24: 2)، إشارة إلى مصدر الحياة.

ويقسم الهندوس بمياه نهر Ganges.

ويقسم العبراني على أسفار موسى الخمسة.

ويرشم الإنسان المسيحي الكنسي علامة الصليب شهادة على صدق وعده.

ويقبل بعض البروتستانت الكتاب المقدس أشبه بقسم[83].


 
من وحي تثنية 6

وصيتك رفيقي الغني!

v     بحبك دخلت بي إلى مخازن خيراتك.

ترعاني فلا يعوزني شيء!

لاَقتنيك وأمسك بوصيتك، فهي أفضل من كل الخيرات.

هي رفيقي الغني، تشبع كل كياني!

v     نعم لتدخل وصيتك إلى قلبي!

لأحفظها في أعماقي، ترافقني أينما وُجدتُ!

v     لأنطلق بها مع أولادي وأحبائي.

فإنه من فضلة القلب يتكلم اللسان.

ليس لي ميراث أقدمه لأحبائي سوى وصيتك!

v     لأنطق بها في الطريق.

في وقت مقبول وفي وقت غير مقبول، ولكن بروح الحكمة اللائقة،

ليس ما يشغلني سواها.

v     وصيتك تدخل بي إلى كنعان السماوية.

أتمتع بمدينة ليست من صنع إنسان.

واَرتوي من ينابيع حية ينابيع روحك القدوس.

وأقتطف ثمار الروح فأحمل سماتك فيَّ.

v     وصيتك تطلقني من عبودية إبليس،

وتحملني إلى مقادسك السماوية.

عظيمة وغنية هي وصيتك.

لتكن رفيقي الدائم في يقظتي، كما في نومي!

<<

 

 

 


 

الأصحاح السابع

لا شركة مع الوثنية

إذ دُعي الشعب للعبادة لله خلال الدخول في عهد معه طلب الله منهم إبادة سكان هذه المنطقة. تبدو الأوامر هنا مشددة بخصوص إبادة الوثنية وكل ما يتعلق بها، بل وقتل الوثنيين، فقد كان التحذير من الارتباط بالوثنية والوثنيين غاية في الصرامة.

1. لا شركة مع الوثنيين              [1-4].

2. تحذير من الوثنيين                [5-11].

3. بركات حفظ العهد                  [12-16].

4. وعد بالنصرة على الشر           [17-26].

1. لا شركة مع الوثنيين:

يقدم هنا تحذيرًا صارمًا ضد كل علاقة مع عابدي الأوثان، فإن من يُقيم شركة مع أعمال الظلمة غير المثمرة لا يقدر أن يدخل في شركة مع الله، أما غاية هذا التحذير فهو منع إقامة فخاخ الشر أمامهم.

"متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها،

وطرد شعوبًا كثيرة من أمامك،

الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين،

سبع شعوب أكثر وأعظم منك.

ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم.

فإنك تحرمهم.

لا تقطع لهم عهدًا، ولا تشفق عليهم" [1-2].

سبق أن تعرضت لموضوع الحروب في المقدمة. غاية هذه الوصية هي خلق كنيسة طاهرة، وأسرة مقدسة، ومملكة متبررة في الرب محفوظة من الرجاسات الوثنية.

كثيرًا ما نسقط في تقييم ما ورد في العهد القديم بمنظار غير سليم، متجاهلين لغة الزمن. فالظروف المحيطة بالشعب في ذلك الحين مختلفة تمامًا عما نعيشه اليوم في عهد النعمة، ومفاهيمهم غير مفاهيمنا. لهذا احتاجوا إلى وصية تسند خلاصهم. تُفهم هذه الأوامر المشددة في حياتنا كرموز:

أ. عدم قطع عهد معهم [2]، يعنى رفضنا التساهل مع الخطية وفتح باب الحوار معها.

ب. عدم مصاهرتهم [3]، فإنه ليست شركة بين المؤمن وغير المؤمن في حياة زوجية، ولا بين النور والظلمة. فإن قبول المؤمن الاتحاد مع غير المؤمن على مستوى العلاقات الأسرية يتحقق على حساب خلاص النفس وتقديس الأسرة.

ج. هدم المذابح وكسر الأنصاب وقطع السواري وحرق التماثيل بالنار [5] يعنى تطهير القلب (هيكل الرب) من إقامة آلهة أخرى كمحبة الذات أو حب المديح أو إشباع شهوات الجسد.

د. لا تشفق عيناك عليهم [6]. لتكن كلمة الله كسيف ذي حدين (عب 4: 12)، تفصل الحق عن الباطل بقوة وتمييز بلا ميوعة.

هـ. لا تخف منهم [18]، الإنسان الروحي صاحب سلطان (تث 10: 1)، لا يهاب الخطية ولا يخشى عدو الخير، واثقًا في الله واهب الغلبة (1 كو 15: 57).

الله من جانبه يدخل بهم إلى أرض الموعد ويطرد أمامهم الشعوب الكثيرة والقوية. فإن قوة الله لا تُقاوم، هو قادر أن يحقق وعده. بقي من جانب شعبه أن يرفضوا الدخول مع الوثنيين في عهدٍ أو الارتباط بعلاقات زوجية أو أسرية معهم، وأن يبيدوهم.

من جهة العدد فإن إسرائيل كأمة غريبة واحدة لا تقدر بحسب الفكر البشري أن تقف أمام هذه الشعوب التي كان لها خبرتها العسكرية الطويلة ومعرفتها بإستراتيجية الأرض، لكن وعد الله يحقق المستحيلات.

تبدو الخطية قوية، ويبدو الإنسان ضعيفًا للغاية أمامها، كما يبدو عدو الخير بكل قواته وخبرته الشريرة وخططه يمثل قوة خطيرة لا يقدر إنسان ما أن يقف أمامه. لكن المؤمن الذي يعمل روح الله القدوس فيه، ويقدم له اتحادًا مع الآب في ابنه يسوع المسيح، يحمل إمكانيات سماوية يُحطم بها كل طاقات الشرير والشر. يستطيع بالمسيح يسوع أن ينال روح الغلبة، وينتزع من إبليس سلطانه الذي به يسيطر على كيان الإنسان كله، إنه يسلبه كل قدراته، ويشهر به جهارًا بصليب ربنا يسوع (كو 2: 15).

في دراستنا لكتابات القدِّيس يوحنا كاسيان رأينا أن العلامة أوريجانوس يرى أن الخطايا الرئيسية في حياة الإنسان هي ثمانية، وقد نقل عنه القدِّيس أوغريس نفس الفكرة وانتشرت في كتابات الآباء الشرقيين والغربيين. لقد غلب شعب الله فرعون وجيشه أو المصريين وها هو يغلب السبع أمم المذكورين هنا، وكأن الله يهب كنيسته روح الغلبة على الثمانية خطايا الرئيسية.

لم يسمح لهم الله بأي نوع من العلاقات مع الأمم الوثنية، فلا يقبلونهم كمستأجرين لديهم ولا كدافعي جزية ولا حتى كعبيد؛ لا يقيمون أي عهد معهم، ولا يظهرون أية رحمة تجاههم. لقد أعطى هذه الأمم فرصًا للتوبة لأجيال طويلة، لكن مع مرور الزمن جاءت الأجيال المتتالية أكثر فسادًا من السابقة، فامتلأ كأس شرهم.

في عهد النعمة تحول الأمر من الخطاة إلى الخطية، فبقيت هذه الوصايا حيّة وفعّالة حيث لا يجوز لنا أن نترك ظلفًا من حيوانات الخطية في أرضنا. يليق بنا أن نصلب كل شهوة فينا ونميتها لكي نحمل حياة المسيح المُقام في داخلنا.

منع الزواج بالوثنيات:

"ولا تصاهرهم،

بنتك لا تعطِ لابنه،

وبنته لا تأخذ لابنك.

لأنه يرد ابنك من ورائي،

فيعبد آلهة أخرى،

فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا" [3-4].

غاية هذه الوصية هي النقاوة، فإن الله لا يهدف نحو فصل الأمم عن بعضها البعض، لكنه يشتاق أن يصير الكل واحدًا فيه. إنه يُريد جيلاً ملوكيًا وشعبًا خاصًا وبشرية متجددة تحت قيادة آدم الجديد كرأس واحد لكل المؤمنين في العالم. وإذ لم تكن البشرية مهيأة بعد لهذه الوحدة المقدسة عزل المؤمنين عن الوثنيين، وحدد حريتهم في الزواج.

جاء هذا القانون الإلهي من أجل ضعف الإنسان وخطيته وجهله لخطة الله الأبدية. لقد فقد الإنسان مفهومه للزواج كإنشاء كنيسة مقدسة تتهيأ للمجد الأبدي، لهذا قدم هذه الوصية.

جاء القانون قاسيًا على الوثنية ورجاساتها وعاداتها الشريرة لعل الوثنيون يراجعون أنفسهم ويعودون إلى عبادة الله الحق. هذا ما تؤكده الآية الخامسة. فلم تكن هذه الوصية لصالح شعب على حساب شعب آخر، فإن زواج المؤمن بغير المؤمنة، يسحب قلب الأول نحو الوثنية فيسقط تحت الدينونة، وتكون أيضًا دينونة غير المؤمنة مضاعفة لأنها مع عبادتها للأوثان جذبت أولاد الله للشر. فحرمانها من الزواج بمؤمن يعطيها فرصة لمراجعة نفسها وإدراكها لموقفها الأبدي.

بلا شك سيهرب البعض من السيف، ليعودوا فيطلبون الدخول في علاقات أُسرية، خاصة كان البعض منهم أصحاب غنى عظيم وكرامة، وكان بعض نسائهم جميلات. يستخدم عدو الخير الزواج فرصة لجذب أبناء الله إلى بنات الناس، كما حدث قبلاً، إذ قيل: "إن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا؛ فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه، هو بشر" (تك 6: 2-3).

كثيرون في يومنا هذا فقدوا حياتهم في الرب خلال زيجاتهم بأُناس لا يعرفون الرب. ففي صلاة عزرا واعترافه إذ "اختلط الزرع المقدس بشعوب الأراضي" (عز 9: 2)، قال: "أفنعود ونتعدى وصاياك ونُصاهر شعوب هذه الرجاسات؟! أما تسخط علينا حتى تفنينا فلا تكون بقية ولا نجاة؟!" (عز 9: 14).

ينصحنا الرسول بولس: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟! وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟! وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟!" (2 كو 6: 14-16). لأن إغراء الشر قوي، فالوثني يدفع بالمؤمن نحو الطريق الواسع خلال الإغراءات المستمرة، وليس العكس، لأن الحياة مع الله دخول في الطريق الضيق.

"لأنه يرد ابنك من ورائي، فيعبد آلهة أخرى،

فيحمى غضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا" [4].

إن كان الله يشتاق أن يشكل عابديه ليصيروا حاملين صورته ومتمثلين به، شركاء في الطبيعة الإلهية، فإن الآلهة الباطلة تشكل عابديها ليحملوا ذات طبيعتها، وهو أن يصيروا باطلين. وإذ يحمل الإنسان هذه الطبيعة الفاسدة لن يستريح حتى يسحب كل من حوله إلى الفساد والباطل، فيهلك الكل معه. هذا ما عناه بقوله "يغضب الرب عليكم ويهلككم سريعًا". إذ ينزع الله نعمته وعنايته ومراحمه عن الإنسان المصر على الباطل، فيصير باطلاً!

من جانب آخر فإن كأس الشر الذي لليهود كاد أن يمتلئ، وصارت لهم فرصة أخيرة، إما إن يقبلوا الله "الحق" بكل قلبهم، ويحتضنوه، أو يحكموا على أنفسهم بأنفسهم بالقطع مع الأمم التي طلب منهم أن يقطعوها. وكأن الله ليس عنده محاباة، فقد ملأ الأمم كأس الشر ودفعوا بأنفسهم للدمار، فإن احتضنهم اليهود يكملون كأس شرهم هم أيضًا، فيكون مصيرهم كمصير الأمم الوثنية.

الذين يتزوجون بوثنيين إنما يتزوجون بأوثانهم، ويحملون معهم سماتهم، أي البطلان عوض الله الحق.

2. تحذير من الوثنية:

لا يقف الأمر عند عدم الارتباط بعلاقات زوجية مع الوثنيين، وإنما طالبهم بإبادة كل أثرٍ للأوثان.

"ولكن هكذا تفعلون بهم:

تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم،

وتقطعون سواريهم،

وتحرقون تماثيلهم بالنار" [5].

لقد صدر مثل هذا الأمر قبلاً (خر 23: 24)، وقيل عن يوشيا الملك الصالح "ابتدأ يطهر يهوذا وأورشليم من المرتفعات والسواري والتماثيل والمسبوكات. وهدموا أمامه مذابح البعليم وتماثيل الشمس التي عليها من فوق قطعها وكسر السواري والتماثيل والمسبوكات ودقها ورشها على قبور الذين ذبحوا لها" (2 أي 34: 3-4). وبصورة مماثلة تم ذلك في الكنيسة الأولى حيث أُحرقت كتب السحر (أع 19: 19).

كان هذا القانون أشبه بتهيئة لطريق الرب يسوع النور الذي ليس له شركة مع الظلمة، فكان لابد من تحطيم الظلمة لكي يقبل الناس النور في حياتهم. حقًا إنه طريق طويل للغاية، لكن مسيحنا في كل عصر يطلب النفوس التي تتهيأ لقبوله برضاها لكي يدخل ويملك، مشرقًا بنوره فيها.

هذا ينطبق على الأمم الوثنية كمجتمعات متحالفة على مقاومة عبادة الله الحق ونشر العبادة الوثنية، لكن بلا شك كان الموقف مختلفًا مع الأفراد إن قبلوا الإيمان ورفضوا العبادة الوثنية وتطهروا من كل رجاساتها. كان هؤلاء قلة قليلة يدعونهم اليهود "الدخلاء".

قدم لهم تبريرات تلزمهم بالتجاوب مع هذا التحذير:

أولاً: اختيار الله لهم: "لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" [6].

"شعب مقدس": تكررت في (14: 2، 21؛ 26: 19؛ 28: 9). وللكلمة "مقدس" في العهد القديم معنيان، الأول "مخصص لخدمة الرب" والثاني "طاهر وبهي". تُشير كلمة "مقدس" إلى تكريس القلب وكل كيان الإنسان لله، فيصير خاصًا به، معتزلاً كل شر. ويرى البعض أن الكلمة تعني نقاوة الإنسان بالكلية من كل ما هو أرضي، حيث ينسحب كيان الإنسان إلى الحياة السماوية المقدسة، ليعيش في شركة مع القدوس. يجب أن تصبح هاتان الصفتان ملازمتين للشعب ولكل مؤمنٍ تمتع بالدعوة الإلهية.

إن كان الرب قد كرّمهم واختارهم دون غيرهم فكيف يهينونه باختيارهم للأوثان عِوضًا عنه؟! أراد الله أن يرفعهم إلى خاصته فوق كل الشعوب، فهل يريدون النزول بمستواههم إلى الانضمام إلى الشعوب الوثنية؟ لقد أراد لهم أن يكونوا خاصته، ألاَّ يريدون أن يكون هو خاص بهم، لا يقبلون آخر غيره؟!

بقوله "شعب أخص" يعني أنه صار كملكية خاصة لله، ليس من حقه التصرف بذاته بل حسب إرادة من اقتناه. اقتبس الرسول بطرس هذه العبارة من الترجمة السبعينية، قائلاً: "وأما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء" (1 بط 2: 9).

ثانيًا: اختيارهم خلال نعمته المجانية، فليس فيهم ما يؤهلهم لهذا الاختيار. فإنه في كثرة الشعب يكرم الملك (أم 14: 28)، لكن الله الملك لم يُبال بالعدد. "ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم، واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب" [7]. حين اختارهم إنما اختار شخصًا واحدًا هو إبراهيم، وحين بدأوا كأمة في مصر كانوا حوالي سبعين نفسًا.

v     بعد قوله: "من ملئه أخذنا" أضاف "نعمة فوق نعمة" (يو 1: 16). لأنه بالنعمة خلص اليهود. يقول الرب: "اخترتكم ليس لأجل كثرة عددكم، وإنما من أجل آبائكم" [7 LXX]. إن كانوا لم يختاروا بواسطة الله من أجل أعمالهم الصالحة، فواضح أنه بالنعمة نالوا هذه الكرامة. ونحن أيضًا نخلص بالنعمة، لكن ليس بنفس الطريقة، ولا بذات الأهداف، بل لما هو أعظم وأسمى. إذن فالنعمة التي فينا ليست كالنعمة التي لهم. إذ لم يعطَ لنا فقط غفران الخطايا (إذ نحن شركاء معهم لأن الكل أخطأ) وإنما نلنا أيضًا البر والتقديس والبنوة وعطية الروح بصورة أكثر مجدًا وبفيضٍ[84].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

كتب القدِّيس أمبروسيوس إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس يطالبه أن يخضع لله خالقه وأن يتشبه به. فالرب في حبه وبنعمته المجانية يعفو عن الخطاة، ويقدم لهم من بركاته، ليس من أجل استحقاقهم وإنما من أجل غنى نعمته. هكذا يليق بالإمبراطور في تشبهه بالرب واهب النعم أن يغسل أقدام الآخرين حتى يصير موضع سرور الله وفرح السمائيين.

v     لذلك أيها الإمبراطور الآن أوجه كلماتي ليس فقط عنك بل إليك، إذ تلاحظ كيف بكل حزم يريد الله أن يحاكم، فإنه بقدر ما قد صرت ممجدًا بالأكثر يليق بك أن تخضع لخالقك بالكامل، إذ هو مكتوب: "عندما يحضرك الرب إلهك إلى أرض غريبة، وتأكل ثمر الآخرين لا تقل: بقوتي وبري أعطاني هذه، إنما الرب إلهك هو الذي أعطاك إياها".

فالمسيح بمراحمه وهبك هذه، لذلك فحبًا في جسده أي الكنيسة أعطِ ماءً لقدميه، قبِّل قدميه!

فليس فقط تعفو عمن سقط في خطية بل أيضًا بواسطة حبك للسلام تصلحهم وتهبهم راحة.

اسكب دهنًا على قدميه لكي ما يمتلئ كل البيت الذي يجلس فيه المسيح برائحة طيبك، ويسَّر كل الجالسين معه برائحتك الذكية. بمعنى أنك تكرم المذلولين، حتى تفرح الملائكة بالعفو عنهم، إذ يفرحون بخاطئ واحدٍ يتوب (لو 15: 10)، ويُسر الرسل، ويمتلئ الأنبياء بالبهجة[85].

القدِّيس أمبروسيوس

ثالثًا: اختارهم من أجل أمانته لعهده مع آبائهم، إذ يقول:

"بل من محبة الرب إيَّاكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيدٍ شديدة،

وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر.

فأعلم أن الرب إلهك هو الله،

الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل" [8-9].

"بل من محبة الرب إيّاكم": محبته الإلهية مجانية، وكما جاء في هوشع النبي: "أحبهم فضلاً" (هو 14: 4). إنه يحب لأنه يريد ذلك.

"حفظه القسم"، فإنه يحفظ كلمته التي حملت وعودًا فائقة، حاسبًا نفسه مدينًا بما وعد به وأقسم أن يتممه. وقد حقق ذلك فعلاً بخروجهم من مصر بالرغم من عدم استحقاقهم.

وقد تم هذا الخروج "بيدٍ شديدة"، مبرزًا هنا دور كلمة الله، الأقنوم الثاني، الذي يُدعى باليد الإلهية. يقول القدِّيس أثناسيوس الرسولي: [كما أن اليد هي في الحضن هكذا الابن في الحضن؛ الابن هو اليد، واليد هي الابن، الذي به صنع كل الأشياء، كما هو مكتوب: "كل هذه صنعتها يدي" (إش 66: 2)؛ اخرج شعبه بيده. (تث 7: 8)، أي بابنه[86]].

الابن الذي أخرج الشعب من مصر خلال موسى قائد شعبه، هو الذي تجسد ليخرج بنفسه مؤمنيه من عبودية إبليس.

الله أمين في وعوده، لذا يليق بخاصته أن تكون أمينة له، لا بوضع أشعارٍ مملوءة بلاغة كاذبة، بل بحفظ وصاياه بأمانة. يمجدونه لا بكلمات بل بأعمال منيرة.

"إلى ألف جيلٍ"، فهو ينبوع الحب الأمين عبر الأجيال.

رابعًا: لقد سمح بالتأديب الذي يبدو قاسيًا لأجل القلة الأمينة، فإن الله لا يشتهي هلاك أحد، بل هو أمين ومحب.

"والمجازي للذين يبغضونه بوجوههم ليهلكهم،

لا يُمهل من يبغضه،

بوجهه يجازيه.

فاحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها" [10-11].

هو الحب المتدفق عبر الأجيال، أما من يصر على رفضه، الذين يكرهون الحق، إنما يبغضون أنفسهم، لأنهم يفقدون الحب وكأنهم يصيرون خاضعين للغضب الإلهي الذي ليس كغضب البشر الانفعالي، إنما هو حرمان النفس من تمتعها بمصدر حياتها وسلامها، فتلقي نفسها بنفسها في الهلاك الأبدي.

إنه حافظ العهد وأمين وصادق في مواعيده، واهب حياة لمن يلتصق به، أما من يعطيه القفا لا الوجه، إنما يعطي لنفسه الهلاك والموت عِوض الحياة.

يعجز الوثنيون ومبغضو الرب أن يصيبوا الله بضررٍ، إنما يصيبون أنفسهم، وكما يقول المرتل:

"تجعلهم مثل تنور نارٍ في زمان حضورك.

الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار.

تبيد ثمرتهم من الأرض، وذريتهم من بني آدم،

لأنهم نصبوا عليك شرًا.

تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها، لأنك تجعلهم يتولون.

تفوق السهام على أوتارك تجاه وجوههم" (مز 21: 8-12).

غالبًا ما يسمح الله للأشرار أن يذوقوا مرارة إثمهم، إذ "لا سلام للأشرار قال إلهي". ويقول الحكيم: "هوذا الصديق يُجازَى على الأرض، فكم بالأحرى الشرير والخاطئ؟!" (أم 11: 31).

لا ننكر أنه قد يسمح لبعض الأشرار بنوال السلطة أو القوة أو الغنى أو النجاح الزمني الخ. هذه الأمور يهبها لهم الله في هذا العالم، إما من أجل العدالة بسبب جهادهم الزمني، أو لحثهم على التوبة، لكنهم لن يتمتعوا بالسلام الداخلي والفرح الحقيقي عربون السماء ماداموا سالكين في شرهم وعصيانهم.

إذ أشار إلى اهتمام الله بشعبه، يقدمً لهم مواعيد إلهية صادقة ووعود قدمها لآبائهم، لكن هذا الاختيار الإلهي لا يعني الحرية المستهترة. وكما يقول الرسول بولس: "لا تُصيروا الحرية فرصة للجسد" (غلا 5: 13). هذا ما يؤكده سفر التثنية كلما أشار إلى اختيار الله لشعبه.

3. بركات حفظ العهد:

دعاهم أولاً إلى حفظ العهد كرد فعل إيجابي لحفظه عهده معهم بالرغم من عدم

استحقاقهم. لقد كشف لهم خطورة كسر العهد والانحراف نحو الوثنية ورجاساتها، لكنه لا يقف عند ذلك إنما يقدم لهم البركات الإيجابية لأمانتهم في حفظ العهد.

"من أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظونها وتعملونها،

يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان اللذين أقسم لآبائك،

ويحبك ويباركك ويكثرك ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك،

قمحك وخمرك وزيتك ونتاج بقرك وإناث غنمك على الأرض التي أقسم لآبائك أنه

يعطيك إياها" [12-13].

يجب إلاَّ يُساء فهم الاختيار، فمع اختيار الله لنا النابع عن محبته الإلهية الفائقة يترك لنا كمال الحرية، أن نقبل بره أو نرفضه، أن نحفظ وصيته أو نرفضها، وفي حفظها يهبنا إمكانية التنفيذ إن طلبنا ذلك.

لقد بدأ الله بإعلان العهد وأظهر المواعيد وقدّم نعمته الفائقة، هذا من جانب الله الرحيم، بقي من جانبنا أن نتجاوب معه، فننعم باستمرارية وفيض نعمته وعطاياه.

أولاً: أول بركات حفظنا للعهد هو إدراكنا لحبه. "ويحبك" [13]، أي دخولنا في دائرة الحب الإلهي المشبع للنفس. ليس كأمرٍ لم يسبق أن مارسه وإنما يكشفه لنا ويمتعنا بمزيد منه. "في هذا هو المحبة، ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا" (1 يو 4: 10). لقد أحبنا أولاً، لكننا لن ندرك هذا الحب ولا يعلن لنا ذاته ما لم نتجاوب عمليًا مع محبته. "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأُظهر له ذاتي" (يو 14: 21).

ثانيًا: "ويباركك" [13]، ثمرة الحب المشترك بين الله والإنسان يتمتع المؤمن بالشركة في الحياة المطوبة، أي يختبر الحياة السماوية التي لا تعرف سوى الفرح الدائم في الرب. هذه هي البركة التي يتمتع بها المؤمن في هذه الحياة كعربون للحياة العتيدة. "قمحك وخمرك وزيتك" [13] تكررت في (11: 14، 12: 17، 14: 23، 28: 51)، هذه حاصلات فلسطين الرئيسية وترمز إلى الوفرة والفرح والنجاح الروحي (تك 22: 17).

ثالثًا: "ويكثرك"، كانت كثرة النسل والكثرة في المحصولات والممتلكات (تك 1: 28؛ 9: 1) من الوعود الإلهية لرجال العهد القديم، تناسب قامة الإنسان المؤمن في ذلك الحين.

رابعًا: "مباركًا تكون فوق جميع الشعوب" [14]. إذ يعزل الإنسان نفسه عن العالم ليكون خاصًا بالله، أو مكرسًا لخدمته، يحمل سمات تخالف سمات الغير، يرفعه الله ليتمتع بما لا يتمتع به غيره، فيكون "فوق جميع الشعوب"! هذا هو عمل الروح القدس في حياة الكنيسة كما في حياة كل عضو فيها، فيُقيم من الكنيسة جماعة كما من الملائكة، لهم إمكانيات روحية خاصة، ويصير ناموس حياتهم هو ناموس المسيح الذي يبدو للغير أنه ناموس يستحيل العمل به بين البشر! الإنسان الروحي في وداعته وتواضعه يصير عظيمًا ومهوبًا وصاحب سلطان داخلي.

خامسًا: دائم الولادة الروحية في الحياة الداخلية وفي اجتذاب الآخرين للإيمان، إذ قيل:"لا يكون عقيم ولا عاقر فيك (أي يحمل ثمر الروح) ولا في بهائمك (يحمل الثمر الروحي للجسد)" [14]. لا يعرف الأمين في عهده مع الله العقم، بل يصير أشبه بأمٍ ولود كثيرة الإنجاب، تلد الكثيرين بروح الرب ليتمتعوا بالبنوة لله. لذا قيل: "لا يكون عقيم ولا عاقر فيكِ ولا في بهائمك". تصطاد نفوس كثيرة للرب بتقديس النفس وأيضًا الجسد (البهائم).

سادسًا: سلامة النفس والفكر والجسد. إذ يتنقى قلب الإنسان وفكره من كل عبادة غريبة عن الرب، ينقي الرب كل كيانه – حتى جسده – من الأمراض التي حلّت به.

"ويرد الرب عنكِ كل مرضٍ وكل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها؛

لا يضعها عليكِ،

بل يجعلها على كل مبغضيكِ" [15].

إذ يهرب الشعب من الأوثان، يخلصهم الرب من الوباء الذي حلّ بالمصريين.

"كل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها" [15]، لاحظ كيف يستشهد موسى بذكرياته في مصر.

سابعًا: تكون سيدًا لا عبدًا، فإنه إذ ينحني الإنسان للخطية من أجل اللذة، يصير عبدًا لها ولا يمارس حق السيادة التي وهبت له من قبل الله. لذا قيل:

"وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفع إليك.

لا تشفق عيناك عليهم،

ولا تعبد آلهتهم،

لأن ذلك شرك لك" [16].

هكذا دفع الله كل شيء للإنسان كي يسيطر ويستخدم، أي يأكل، لا أن يُستعبد فيؤكل. أقام الله الإنسان سيدًا على كل شيء لكنه تعبد للحجارة والأخشاب وللأرواح الشريرة، فصار ذلك شركًا له، حيث صار عبدًا لمن كان يلزم أن يسود عليه.

4. وعد بالنصرة على الشر:

حين دعا الله يشوع لاستلام القيادة عِوض موسى النبي، كي يعبر بالشعب نهر الأردن ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كانت وصيته المتكررة له: "لا تخف" (يش 1). فالخوف هو جحد للإيمان بالله القدير، وإنكار لعناية الله ومحبته، وتجاهل لضابط الكل. والعجيب أن المؤمن إن تطلّع إلى الماضي في حياة الكنيسة كما في حياته الخاصة يجد تأكيدات مستمرة وخبرات عملية لرعاية الله وقدرته وأبوته وحكمته.

"فلا تخف منهم.

أذكر ما فعله الرب إلهك بفرعون وبجميع المصريين.

التجارب العظيمة التي أبصرتها عيناك،

والآيات والعجائب واليد الشديدة والذراع الرفيعة التي بها أخرجك الرب إلهك .

هكذا يفعل الرب إلهك بجميع الشعوب التي أنت خائف من وجهها" [17-19].

يليق بالمؤمن ألاَّ يخاف، فلا يقول: "عدوي أعظم مني، كيف انتصر؟" بل ليقل مع إليشع النبي "الذين معنا أكثر من الذين معهما" (2 مل 6: 16). وكما قيل: "ليقل الضعيف بطل أنا!" (يؤ 3: 10) هكذا بالمسيح يسوع ربنا ننال روح القوة لا روح الهزيمة والفشل، فلا نرتبك أمام التجارب أو الضيقات أو الخطايا. أما سرّ نصرته فهي:

أولاً: لا يعتمد المؤمن على طاقته في الحرب الروحية، بل عمل الله الذي يحارب عنه. إذ قيل: "والزنابير أيضًا يرسلها الرب إلهك عليهم حتى يفنى الباقون والمختفون من أمامك" [20]. يحارب الرب عنا في معركتنا الروحية. لأجل سلامنا الروحي لا ينهي المعركة في لحظات حتى لا نسقط في الكبرياء فتقتحم وحوش البرية (العجرفة – الاعتداد بالذات - الكبرياء). يقول: "ولكن الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك قليلاً قليلاً لا تستطيع أن تفنيهم سريعًا لئلاَّ تكثر عليك وحوش البرية" [22].

ثانيًا: لا يقف الأمر عند مساندة الله لمؤمنيه، إنما يقوم بنفسه بالدفاع عنهم، بحلوله في وسطهم. "لا ترهب وجوههم، لأن الرب إلهك في وسطك إله عظيم ومخوف" [21]. لعل أعظم ما يتمتع به المؤمن في المعركة الروحية، ليس أنه ينال نصرات من يد الرب بل أن يدرك حضرة الله في أعماقه.

ثالثًا: حكمة الله وخطته من نحو شعبه. فإنه وإن كان قد وعد بالنصرة الكاملة لشعبه لكنه يقدمها لهم تدريجيًا. ولعل السرّ وراء هذا خشية سقوط الإنسان في الكبرياء، أو لأن ما يناله الإنسان بسهولة وسرعة يفقده بروح الاستهتار. لذا قيل:

"ولكن الرب يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك قليلاً قليلاً.

لا تستطيع أن تفنيهم سريعًا لئلاَّ تكثر عليك وحوش البرية.

ويدفعهم الرب إلهك أمامك،

ويوقع بهم اضطرابًا عظيمًا حتى يفنوا" [22-23].

ليس من الصعب أن ينزع الله كل الأمم دفعة واحدة ليحتل شعبه الأرض، لكن لو حدث هذا لتحولت أرض الموعد إلى برية ترعى فيها الوحوش المفترسة، وتفقد كل حقولها. هكذا يليق بنا في حياتنا الروحية كما في العمل الكنسي نؤمن بحكمة الله، الذي يعمل دائمًا في ملء الزمان في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها لائقة.

رابعًا: الخلاص نهائي وأكيد:

"ويدفع ملوكهم إلى يدك،

فتمحو اسمهم من تحت السماء.

لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم" [24].

إن كان موضوع السفر كله هو العهد الإلهي، فقد ركز السفر على شخصية الله كمركز للسفر "لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور".

خامسًا: نصرة لأجل القداسة لا الطمع. غاية صراعنا هو أن نتشبه بالقدوس فنحيا قديسين، نتطهر من كل دنس، وننعم ببرّ المسيح وتقديس الروح، ولا يكون هدفنا مكسبًا ماديًا.

"وتماثيل آلهتهم تحرقون بالنار.

لا تشته فضة ولا ذهبًا مما عليها لتأخذ لك لئلاَّ تُصاد به،

لأنه رجس عند الرب إلهك.

ولا تدخل رجسًا إلى بيتك لئلاَّ تكون محرمًا مثله.

تستقبحه وتكرهه لأنه محرم" [25-26].

يحذرهم من روح الطمع ومن كل نجاسة، لأن العدو الداخلي أخطر من الخارجي. إن كان يريد أن يهبهم سلطانًا فيملكوا عِوض الأمم يطلب أن يحملوا سلطانًا في أعماقهم، سلطان التحرر من كل دنس داخلي وشهوة رديئة.

"وتماثيل آلهتهم تحرقون بالنار" [25]. بقيت هذه الوصية كغيرها من الوصايا حية بروحها في العهد الجديد، إذ يلزم إبادة كل مصدر للخطية بلا تراخٍ أو مهادنةٍ. وكما يقول السيِّد المسيح: "فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليُمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم" (مت 5: 29-30).

الله لا يقبل أنصاف الحلول، بل يطلب التقديس الكامل لهذا جاءت الوصية تكرر: "لا تمس، لا تذق، ولا تجس شيئًا دنسًا".


 

من وحي تثنية 7

كيف أخاف عدوًا!

v     وهبت شعبك نصرة على فرعون وجنوده،

وها أنت تشتاق أن تهبني نصرة على إبليس وملائكته!

حاربت معهم وبهم سبع أمم،

لتهبني قوة للغلبة على كل الخطايا.

v     قطعت معك عهدًا،

فكيف أقطع عهدًا مع خطية ما؟!

قبلتني عضوًا في العائلة السماوية،

كيف تتحد نفسي مع شرٍ ما؟!

أقمت مذبحًا في أعماقي،

كيف أترك مذبحًا للوثن في قلبي؟

جعلتني جنديًا في جيش خلاصك،

كيف أخاف أو أرهب عدوًا ما؟!

v     إني لن أكف عن الجهاد بنعمتك،

إذ حسبتني ابنًا خاصًا لك،

عضوًا في شعبك المقدس،

لي حق التمتع بوعودك الصادقة والأمينة!

v     أحببتني كل الحب قبل أن أعرفك،

لأرد لك الحب بالحب والطاعة.

هب لي أن أحفظ العهد،

فأنت عجيب يا حافظ العهد.

لأحفظه فأتمتع بالحياة المطوّبة،

أحمل ثمر روح لا يجف.

أتمتع بسلام النفس والفكر مع الجسد.

أتمتع بنُصرات لا تنقطع!

<<

 


 

الأصحاح الثامن

ضيقات القفر وبركاته

اهتمت الشعوب الوثنية في كنعان بالآلهة، خاصة تلك التي يظنون أنها مصدر الخصوبة والنمو والتكاثر؛ لذا أكد موسى النبي أن نعمة الله هي مصدر كل البركات. في هذا الأصحاح يكشف موسى النبي لشعبه السرّ وراء التِيه في القفر. هو أن يسمح الله لشعبه أن يدخلوا في الضيق، لكن عينيه تترفقان بشعبه في وسط الضيق، حتى يخرج بهم إلى السعة لكي يشكروا الرب ويدركوا إحساناته الفائقة إليهم.

الله في حبه للإنسان يهبه وصيته المحيية ليعطيه ذاته، يدخل معه في علاقة حب، ويقدم له بركات بفيضٍ. بذات الحب يدخل به في الطريق الضيق؛ لماذا؟

1. للتزكية: "لكي يذلَّك ويجربك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا؟!" [2].

2. لتكليلنا، إذ تتزكى أمانتنا خلال الضيق نُحسب أهلا لنوال بركات أعظم: "لأن الرب إلهك آت بك إلى أرض جيدة أرض أنهار من عيون وغمار..." [7–10].

3. للتأديب: "كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبّك الرب إلهك" [5].

4. كي لا نسقط في كبرياء أو برّ ذاتي: "لئلاَّ تقول في قلبك قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة" [17].

5. كفرصة لرؤية الرب والتلامس معه والتمتع بأعماله في خبرات جديدة: "فأذلّك وأجاعك وأطعمك المنّ الذي لم تكن تعرفه ولا آباؤك" [3]. ففي وسط أتون النار نال الثلاثة فتية خبرة جديدة إذ ظهر معهم ابن الله يحوط بهم ويرافقهم محولاً النار إلى ندى. هكذا مع نار الضيق يختبر المؤمن رؤية جديدة لله وتذوق لطعامٍ سماويٍ يُحسب جديدًا بالنسبة له.

6. تحويل الطاقات من الشر إلى طاقات إيجابية للبنيان، إذ نُخرج من صخرة الصوان ماء [15]. فإن كانت حواسنا وطاقاتنا قد تحجرت يُخرج الرب منها ينابيع مياه تروي النفوس الظمآنة، وتحول القفر إلى فردوس إلهي.

1. حفظ الوصية غاية القفر                    [1-2].

2. عينا الرب تترفقان وسط القفر              [3-4].

3. تأديب أبوي                                 [5].

4. سعة بعد القفر                              [6-9].

5. الشكر من أجل بركات الرب وتذكرها       [11-16].

6. عدم الاتكال على الذات                     [17-18].

7. عدم الاتكال على آلهة غريبة               [19-20].

1. حفظ الوصية غاية القفر:

رأينا الارتباط بين الالتقاء بشخص الرب نفسه والتمتع بوصيته؛ فالوصية التي يقدمها غايتها أن يتشكل الإنسان بروح الله ليعود إلى أصله، صورة الله ومثاله. بهذا تنجذب الصورة إلى الأصل، ويجد الأصل أي الله مسرته في صورته الحيّة المُعلنة في الإنسان. فإن كان قد سمح لشعبه ألاَّ يعبروا من مصر إلى كنعان في فترة وجيزة، بل يجتازوا البرية إلى سنوات، إنما لكي تُمتحن أعماقهم، حتى يحفظوا وصيته، ويتمتعوا بها، ويحيوا بها ويرثوا كنعان السماوية.

"جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها تحفظون لتعملوها،

لكي تحيوا، وتكثروا، وتدخلوا، وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم.

وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر،

لكي يذلّك ويجربك،

ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا" [1-2].

واضح أن موضوع "الطاعة" أو التمتع بوصية الرب هو غاية الأربعين سنة في وسط البرية. فإن كانت هذه السنوات تُشير إلى حياتنا الزمنية، التي هي أشبه برحلة مستمرة خلالها نعبر من أرض العبودية لندخل كنعان السماوية، يليق بنا أن نركز على كلمة الله، ونتمتع بوصيته، ونجاهد بروحه القدوس لنمارس الطاعة لها. وذلك باتحادنا بالكلمة المتجسد الذي وهو الابن "تعلم الطاعة مما تألم به" (عب 5: 5). باتحادنا به ننعم بالكلمة، وننال شرف الشركة معه في طبيعته، أي شرف الطاعة الكاملة لله الآب.

ما هو التزامنا من جهة الوصية؟

أولاً: قبول جميع الوصايا، فالوصايا وِحدة واحدة لا تتجزأ؛ إما أن نقبلها بكليتها أو نُحسب رافضين لها. لأن قبول الوصايا في أعماقها هو قبول شخص الكلمة الإلهي عاملاً فينا؛ إما أن نقبله فنسكن فيه ويثبت فينا، أو نصير خارجًا عنه ولا نتمتع به. كلمة الله لا يتجزأ!

ثانيًا: بقوله "تحفظون" يشير إلى الانشغال بالوصايا والاهتمام بها، تسحب قلوبنا وأفكارنا، وتشغل كل كياننا. هكذا من يقبل الكلمة المتجسد يترنم بكل كيانه، وليس فقط بلسانه، قائلاً: "أنا لحبيبي، وحبيبي لي" (نش 6: 3).

ثالثًا: بقوله "لتعملوها" يعلن النبي أن الوصية ليس فكرًا نظريًا ننشغل به، ولا فلسفة نعتنقها، ولا مبدأ نتحدث عنه، وإنما حياة مُعاشة نمارسها.

أما غاية الوصية فهي عودة الإنسان كما إلى الحياة الفردوسية، فيسمع ما قيل لأبويه آدم وحواء أن يعيشا ويُكثرا ويتسلطا على الأرض. يقول النبي: "لكي تحيوا وتكثروا وتدخلوا وتمتلكوا". بالوصية نقتني كلمة الله واهب الحياة، فنحيا، ونأتي بثمار كثيرة ويكون لنا أبناء في الرب، وندخل الحياة السماوية ونملك، قائلين مع القدِّيس يوحنا اللاهوتي: "جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه" (رؤ 1: 6).

من بركات الوصية أن نتذكر معاملات الله معنا، يدخل بنا إلى القفر لنكتشف مذلتنا وضعفنا، ونعلن له حفظنا للوصية أو رفضنا لها. ندرك أن كل ما يمر بنا ليس كما يظن البعض مصادفة، بل بحكمةٍ إلهيةٍ وخطةٍ فائقةٍ لكي نتمتع ببركات إلهية وسط القفر.

قيل في رسالة يعقوب: "الله لا يجرب أحدًا" (يع 1: 13)، بينما هنا يقول: "الرب إلهكم يجربكم" [3]. يقول القدِّيس أغسطينوس: [يلزمنا أن نفهم أنه يوجد نوعان من التجارب، تجربة تخدع والأخرى تزكي. فمن جهة التي تخدع قيل: "الله لا يجرب أحدًا"، أما التي تذكي فقيل عنها: "الله يجربكم"[87]].

يكشف هذا الأصحاح عن أقصر الطرق المؤدية إلى كنعان السماوية وأكثرها أمانًا وهو اكتشاف خطة الله من خلال الأحداث الماضية. تبدو الأحداث التاريخية للبعض أنها أحداث بشرية زمنية، لكن القلب النقي يتلمس إعلانات الله خلال هذه الأحداث. رحلة الحياة وإن كانت تحوي أحداثًا كثيرة، لكن جميعها أشبه بخيوط تُجدل معًا لتعلن خيط رعاية الله الذي لا ينقطع.

2. عينا الرب تترفقان وسط القفر:

"فأذلك وأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك،

لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،

بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان.

ثيابك لم تبلَ عليك،

ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة" [3-4].

فأذلَّك [3]: كان التيه في البرية عقابًا حلّ على الجيل الماضي ليدفع الجيل الحاضر نحو التواضع والخضوع.

إذ صاروا على أبواب كنعان يليق بهم ألا ينسوا فترة البرية الطويلة، فالقفر بالنسبة لهم مدرسة، تعلموا فيها أن الإنسان كائن جائع يحتاج إلى طعام لم يكن يعرفه، ولا عرفه آباؤه، المن النازل من السماء (خر 16: 28)، أو كلمة الله واهبة الحياة.

يدرك المؤمن أن الله يهتم بكل أموره، فيستر عليه بثياب لا تُبلى، ويحفظ قدميه فلا تتورما. الله يهتم بأكلنا وشربنا وثيابنا وصحتنا. الله يسند الحياة ويشبعها بطريقه الخاص، بالمن السماوي. الله الذي يهب الإنسان الخبز ليُشبع الجسد هو الذي يهب النفس أسراره الإلهية "المن الروحي"، ليشبع احتياجاتها. من يركز عينيه على الخبز المادي يصير مدينًا للتراب بما يقدمه له، أما من يركز عينيه على معرفة الله الحية يصير مدينًا له بحياته.

إنه يسمح بالتجارب فنشعر بالمذلة، لكنه يسمح بها في الحدود التي لنفعنا وبنياننا، فلا نخرج منها جائعين أو عراة أو مرضى، بل منتصرين ونامين ومكلّلين بالمجد. يسمح بالتجارب لكي نكتشف الله الحق ورعايته ومراحمه وحبه!

إن كان قد سمح لهم بالتيه، لكنهم في وسط القفر لم يكونوا في حاجة إلى حرث الأرض وزراعتها وسقيها وحصد الثمار، ولا إلى طحن الحنطة وعمل خبز، ولا إلى طهي طعام؛ كما لم يكونوا في حاجة إلى من ينسج لهم أقمشة، ويصنع لهم ثيابًا، ولم يحتاجوا إلى من يصنع لهم صنادل أو أحذية، ولا إلى أطباء وأدوية ومستشفيات. كانت ثيابهم لا تبلى بل وتكبر كلما كبر الطفل وهكذا الأحذية.

أورد السيِّد المسيح الآية [4] للرد على الشيطان عندما طلب منه أن يحول الحجارة إلا خبز (مت 4: 3-4).

في وسط البرية لم يغير الشعب طعامه، بل كان يأكل أشبه بوجبةٍ واحدةٍ في الصباح والظهيرة والمساء، ودامت كل هذه السنوات، ولم يستبدل الرجال أو النساء أو الأطفال ثيابهم، وسار الكل في طريق قفر جاف، لكنه كان يشبعهم بعنايته الفائقة. هذا كله ليؤكد أن شبعنا الحقيقي وسعادتنا ليست في الأكل والشرب والملابس والزينة والحياة المترفة، بل في الدخول إلى حب الله والتمتع بأبوته الفائقة. وكما يوصينا السيِّد المسيح: "اطلبوا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم" (مت 6: 33). وكما أوصى تلاميذه: "لا تهتموا بحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام؟! والجسد أفضل من اللباس؟!" (مت 6: 25). وقال لرسله: "حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟!" (لو 22: 35).

بالنسبة للمؤمن فالطريق وإن كان قفرًا لكنه آمن ولن يؤذي قدميه، إذ قيل: "أرجل أتقيائه يحرس" (1 صم 2: 9)، كما قيل عن الأشرار: "أما طريق الغادرين فأوعر" (أم 13: 15).

كثيرًا ما ينشغل الإنسان بإشباع بطنه بالخبز الفاني ولا يهتم بإشباع نفسه بالمن الروحي الأبدي، كلمة الله واهب الحياة. لهذا تهتم الكنيسة بتدريب الصوم لفترات طويلة لا لإذلال الجسد بالجوع وإنما لرفع النفس إلى السماء، فتجد مائدة سماوية لائقة بها.

v     طوبى للذي يعرف كيف يشبع في المسيح، ليس جسديًا، بل روحيًا، الشبع الذي تقدمه المعرفة[88].

القدِّيس أمبروسيوس

v     تأكد تمامًا أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن.

الأب يوحنا من كرونستادت.

v     كن سيدًا على معدتك قبل أن تسود هي عليك. الذي يرعى شرهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت[89].

القدِّيس يوحنا كليماكوس

v     احتقروا طعام الملائكة وكانوا يئنون من أجل لحم مصر.

صام موسى لمدة أربعين يومًا وأربعين ليلة على جبل سيناء، وأظهر عندئذ أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده بل بكل كلمة لله. لقد قال للرب: "شبع الشعب، وصنعوا تماثيل". كان موسى بمعدة فارغة يتسلم الشريعة المكتوبة بإصبع الله. الشعب الذي أكل وشرب وقام للعب وصبوا عجلاً ذهبيًا، وفضلوا العجل المصري عن جلال الله. تعب أيام كثيرة ضاع خلال شبع ساعة واحدة.

كسر موسى اللوحين، إذ عرف أن السكارى لا يستطيعون أن يسمعوا كلمة الله[90].

v     إذ أطاع الإنسان الأول بطنه لا الله طُرد من الفردوس إلى وادي الدموع[91].

v     بعد أن أعطيتم اهتمامًا عظيمًا لأفكاركم يليق بكم أن تلبسوا سلاح الصوم، وتتغنوا مع داود: "أدّبت بصومٍ نفسي" (مز 69: 10)، "أكلت الرماد مثل الخبز" (مز 102: 9)، "أما أنا ففي مضايقتهم لي كان لباسي مُسحًا (مز 35: 13).

استُبعدت حواء من الفردوس لأنها أكلت الثمرة الممنوعة. وإيليا من جانب آخر حُمل في مركبة نارية إلى السماء بعد أربعين يومًا من الصوم.

لمدة أربعين يومًا وأربعين ليلة عاش موسى في لقاء حميم مع الله، مؤكدًا في حالته صدق حقيقة القول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الرب" [3].

مخلص العالم الذي بفضائله ونموذج حياته ترك لنا مثالاً نتبعه (يو 13: 15؛ 1 بط 2: 21)، بعد عماده مباشرة اصعده الروح لكي يصارع مع الشيطان (مت 4: 1)، وبعد سحقه والنصرة عليه يسلمه لتلاميذه كي يطأوا بأقدامهم عليه، ماذا يقول الرسول: "الله سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20). ومع هذا بعد أن صام المخلص أربعين يومًا نصب الشيطان فخه له بالطعام: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت 5: 3).

في ظل الشريعة، في الشهر السابع بعد النفخ في البوق وفي اليوم العاشر من الشهر يُعلن صوم لكل الشعب اليهودي، وتقطع كل نفس من شعبها أن فضلت ترفها عن التذلل (لا 23: 27-29).

وفي أيوب كتب عن بهيموث أن: "قوته في متنيه، وشدته في عضل بطنه" (أي 40: 16) [92].

القدِّيس جيروم

3. تأديب أبوي:

لم يكن القفر مدرسة لاكتشاف الإنسان ضعفاته فحسب فيتطلع إلى الله كسيد وحيد له، وإنما هي مدرسة حب الله الهادف. ففي البرية يدخل المؤمن تحت التأديب الأبوي لكي ينال خبرات جديدة ونموًا في الفهم والحكمة.

"فاعلم في قلبك أنه كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبك الرب إلهك" [5]. وكما يقول المرتل: "طوبى للرجل الذي تؤدبه وتعلمه من شريعتك" (مز 94: 12).

v     الله يوبخ لكي يُصلح، ويُصلح لكي يحفظنا له[93].

القدِّيس كبريانوس

مع الخيرات التي يقدمها الله لشعبه يقدم التأديبات الأبدية لحفظهم بروح البنوة [4-5]. التأديب بالنسبة للمؤمن ليس عقوبة يخشاها ويرتعب منها، لكنه مدرسة يتمتع فيها المؤمن بالمعرفة والنمو المستمر، هو باب الصلاة الحارة التي تدفع بالإنسان إلى حضن أبيه السماوي.

التأديب هو بداية الطريق لإعلان الله عن ذاته للمؤدَب. فالمؤدَب يُدرك حقيقة نفسه، وبإدراكه لنفسه يدرك الله، لأن من يعرف نفسه يعرف الله. لهذا ركز الآباء الأولون مثل القدِّيس أكليمندس السكندري وأنبا أنطونيوس الكبير على إدراك الإنسان لأعماق نفسه. بالتأديب يدرك الإنسان أنه كلا شيء بذاته، لكنه بالله قادر على كل شيء.

يمكن القول بأن التأديب بالضيق له هدف مزدوج:

أ. أن يتعرف الإنسان على نفسه، وبالتالي يتعرف على الله العامل في قلب الإنسان وإنسانه الداخلي.

ب. لكي ينسحب الإنسان من طريق الخطية ليقبل برّ المسيح فيه، يحمل طاعة البنوة التي للسيد المسيح نحو أبيه الواحد في الجوهر.

هذه هي خطة الله في التأديب: نتعرف على الله، ونتمتع بالمسيح فينا ، ونشاركه سماته.

4. سعة بعد القفر:

"واحفظ وصايا الرب إلهك لتسلك في طرقه وتتقيه.

لأن الرب إلهك آتٍ بك إلى أرضٍ جيدة،

أرض أنهار من عيون وغمار تنبع في البقاع والجبال.

أرض حنطةٍ وشعير وكرم وتين ورمان.

أرض زيتون زيتٍ وعسل.

أرض ليس بالمسكنة تأكل فيها خبزًا، ولا يعوزك فيها شيء.

أرض حجارتها حديد، ومن جبالها تحفر نحاسًا" [6-9].

في العهد القديم يقدم الله الأرض الجيدة أرض أنهار، حيث تنبع العيون والغمار في البقاع والجبال، تأتي بكل ما يحتاجه الإنسان من ثمار ومحاصيل [7]. أما في العهد الجديد فيقدم لنا السيِّد المسيح حضن الآب كموضع ميراث لنا، حيث نستقر فيه إلى الأبد في آمان بلا حرب ولا عدو، تفيض علينا ينابيع الروح القدس الذي يشكلنا على أيقونة المسيح، ويجعلنا مثله. لم يكن ممكنًا للإسرائيليين أن يدركوا سرّ الله الفائق، ولا أن يختبروا الحياة السماوية الفائقة، كل ما كان يمكن للشعب إدراكه هو الأرض الجيدة والأنهار والينابيع والحنطة والشعير والكروم والتين والرمان والزيتون والعسل.

أرض جيدة [7] يقول المسافرون في البرية في طريقهم من مصر أنهم يشعرون بالارتياح عند وصولهم إلى فلسطين بسهولها المزهرة ووديانها الجميلة وتلالها الخضراء، خصوصًا وأن ارتفاعها يمدها بمحصولات المنطقة المعتدلة، والقريبة من الحارة.

حجارتها حديد [9] الوصف هنا للصخور الصلبة السوداء التي تُستعمل لأغراض كثيرة.

نحاس [9] يوجد في تلال فلسطين (2 صم 8: 8)، وقد وُجدت آثار لتعدين النحاس بالقرب من حماة.

تحتوي جبال جنوب لبنان ومنطقة شرق بحر الجليل وجنوب البحر الميت على حديد. أما النحاس والحديد فيوجدان بكثرة في منطقة عربة جنوب البحر الميت. بعض مناجم النحاس ترجع إلى أيام سليمان وربما قبل ذلك. كانت زارتان Zarethan مركزًا للأعمال النحاسية في أيام سليمان (1 مل 7: 45-46)

بعض الأشياء البرنزية في هذا الموقع ترجع إلى ما قبل سليمان، واليوم توجد أعمال برنزية في تمنه بنجب.

إذ يدخل بنا إلى القفر للتأديب نعلن عن حفظنا وصايا الرب وتمتعنا بمخافته. عندئذ ينطلق بنا من الضيق إلى السعة.

·        عِوض الأرض القفر يدخل بنا إلى أرض جديدة.

·        عِوض الجفاف نتمتع بأنهار مياه حيّة وينابيع لا تنضب.

·        عِوض البرية الجافة نتمتع بحقول مملوءة من المحاصيل والفواكه.

·        عِوض الضنك لا نعتاز إلى شيء.

·        عِوض الحجارة نجد مناجم حديد، وعِوض الجبال مناجم نحاس.

وكأنه خلال ضيق البرية يدخل الإنسان كما إلى جنة عدن، ليحيا ويعمل في أرض جيدة، ترويها الأنهار والينابيع، ويجد ثمارًا بلا حصر، وموارد ثمينة.

لقد قدم لهم هذه العطايا للأسباب التالية:

1. لكي يكتشفوا عناية الله الفائقة، فبعد حياة طويلة في القفر ينالون بفيض ما لم يتوقعونه.

2. لكي يدركوا بركات حفظ وصايا الرب، فإنه يهب المطيعين بركات زمنية وسماوية.

3. أن الله يُحوّل حتى تعب الآخرين لراحتهم، يجدون حقولاً لم يغرسوها، وآبارًا لم يحفروها، وموارد غنية لم يتعبوا فيها.

4. ما ينالونه إنما هو رمز لما سينالونه بدخولهم أورشليم العليا، وتمتعهم بكنعان السماوية.

لم يشر إلى كل المحصولات والفواكه التي في كنعان بل اختار الآتي:

أولاً: الحنطة والشعير، الحنطة تستخدم كطعامٍ للإنسان، والشعير للحيوانات والطيور. وكأن الله يشبع احتياجاتهم واحتياجات حيواناتهم وطيورهم.

ثانيًا: الكروم، إذ يشير عصير العنب أو الخمر إلى الفرح الروحي، الذي هو غذاء النفس. فكما يهتم بأجسادهم يهتم أيضًا بنفوسهم، فيشبعها بالفرح السماوي.

ثالثًا: التين، وهو يشير إلى الكنيسة حيث لا تحمل بذرة ما طعمًا، ما لم تجتمع البذور كلها معًا في غلاف يعطيها عذوبة. هكذا المؤمن مهما كان مركزه الكنسي يكون بلا طعم ولا قيمة ما لم يتحد مع اخوته في غلاف الوحدة والحب. وكأن الله يهتم بالجماعة ككل كما بكل عضوٍ فيها.

رابعًا: الرُمّان، يستخدم عصيره في المناطق الحارة صيفًا كشرابٍ باردٍ. فالله يهتم حتى براحتنا، واهبًا إيّانا برودة وسط الضيقات.

خامسًا: الزيتون، يستخدم زيته كطعامٍ صحّيٍ، وفي الإضاءة والأدوية، أي يهتم بصحة شعبه واستنارتهم.

سادسًا: العسل، حيث يختبر المؤمنون حلاوة العشرة مع الله وعذوبتها.

5. الشكر من أجل بركات الرب وتذكرها:

"فمتى أكلت وشبعت تبارك الرب إلهك لأجل الأرض الجيدة التي أعطاك.

احترز من أن تنسى الرب إلهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم.

لئلاَّ إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتا جيدة وسكنت،

وكثرت بقرك وغنمك وكثرت لك الفضة والذهب وكثر كل ما لك،

يرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية.

الذي سار بك في القفر العظيم المخوف مكان حيات محرقة وعقارب وعطش حيث ليس ماء

الذي أخرج لك ماء من صخرة الصوان.

الذي أطعمك في البرية المن الذي لم يعرفه آباؤك لكي يذلك ويجربك لكي يحسن إليك في آخرتك" [10-16].

إن كان الله قد وهب شعبه أرضًا جيدة إنما لكي يأكل المؤمنون ويشبعون ويباركون الرب، فيصيرون هم أنفسهم أرضًا جيدة تحمل ثمار الروح: الحب والفرح والشكر الدائم لواهب البركات.

حياة الشكر تكشف عن قلوب مقدسة تتلامس مع محبة الله وتدرك أسرار حبه، فتتجاوب معه.

أما النفوس التي تنسى رعاية الله وبركاته فتسقط في الكبرياء وتتجاهل عمل الله معها الذي انطلق بها من البرية مسكن الحيات المحرقة والعقارب، الأرض القفر التي بلا ماء، ودخل بها إلى أرض جيدة تفيض بالخيرات ومملوءة بالموارد الطبيعية. عِوض القفر مسكن الحيات القاتلة قدّم أرضًا مملوءة حقولاً يرعى فيها البقر والغنم. عِوض الصحراء قدّم لهم أرضًا مملوءة بالفضة والذهب.

في وسط البرية القاحلة أخرج لهم ماءً من صخرة صوان. وكان الينبوع يرافقهم كل الطريق حتى عبروا إلى حيث الأمطار والمياه الغزيرة. كثيرًا ما ركّز الأنبياء في العهد القديم على وجود الأمطار في أرض الموعد كعلامة على عطايا السماء في العهد الجديد، حتى دُعيَ العصر المسياني بعصر المياه.

لاحظ القدِّيس جيروم الربط هنا بين الحيات المحرقة والعقارب وبين العطش حيث ليس ماء فكتب في رسالته إلى أوشانيوس Oceanus أحد النبلاء الرومان الغيورين على الإيمان متحدثًا عن بركات المياه والمعمودية، جاء فيها[94]:

·        في البدء أثناء الخلقة كان روح الله يرف على وجه المياه كقائد مركبة (تك 1: 2)، وأخرج منها العالم الصغير، رمزًا للطفل المسيحي الذي يغطس في مياه المعمودية.

·        إن كلمة سموات في العبرية shamyim تعني "الخارج من المياه".

·        الكائنات الحية السماوية التي رآها حزقيال النبي في رؤياه على رؤوسها شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشرًا على رؤوسها (حز 1: 22)، وأنها مياه مضغوطة جدًا.

·        في جنة عدن وُجد نهر في وسطها، له أربعة رؤوس يسقي الجنة (تك 2: 10).

·        في رؤيا حزقيال عن بيت الرب الجديد رأى مياه تخرج من عتبة البيت نحو المشرق، والمياه تُشفي، وتهب حياة للأنفس الميتة (حز 47: 1-9).

·        عندما سقط العالم في الخطية لم يكن ممكنًا تطهيره إلا بالطوفان، وبعد أن خرج الطائر الدنس، عادت حمامة الروح القدس إلى نوح، جاءت فيما بعد إلى المسيح في نهر الأردن وحملت الغصن المبشر بالسلام للعالم كله في منقارها.

·        غرق في مياه البحر الأحمر فرعون وجنوده الذين رفضوا السماح لشعب الله أن يتركوا مصر، بهذا صار البحر رمزًا لمعموديتنا. وقد وُصف هلاك فرعون في سفر المزامير: "أنت شققت البحر بالفضائل بقوتك؛ كسرت رؤوس التنانين في المياه. أنت رضضت رؤوس لويثان" (مز 74: 13-14 LXX).

·        كما أن الخشبة جعلت مياه مارة حلوة لتروي بمجاريها سبعين نخلة، هكذا جعل الصليب مياه الشريعة واهبة الحياة لرسل المسيح السبعين (خر 15: 23-27؛ لو 10: 1).

·        حفر إبراهيم واسحق آبارًا بينما حاول الفلسطينيون منعهما (تك 26: 15، 18).

·        بئر سبع، مدينة القسم (تك 21: 31)، وجيحون موضع تجليس سليمان ملكًا، حملت أسماءها من الينابيع (1 مل 1: 38؛ 2 أي 32: 30).

·        وجد اليعازر رفقة بجوار بئر (تك 24: 15-16).

·        إذ كانت راحيل تسحب ماء من البئر نالت قبلة هناك (تك 29: 11) بواسطة يعقوب.

·        إذ كانت بنات كاهن مديان في طريقهن ليبلغن إلى البئر وكن في ضيقة فتح موسى لهن الطريق وخلصهن من الطاردين لهن (خر 2: 16-17).

·        هيأ سابق الرب في ساليم (أي السلام) الشعب للمسيح بينبوع ماء (يو 3: 23).

·        لم يبشر المخلص نفسه بملكوت السموات إلا بعد أن طهر الأردن بعماده فيه بالتغطيس (مت 3: 13-14).

·        قال لنيقوديموس بطريقة سرية: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5).

·        كما بدأت خدمة المسيح بالماء انتهت أيضًا به، إذ ضُرب جنبه بالحربة ففاض منه دم وماء كرمزين للعماد والاستشهاد (يو 9: 34).

·        بعد قيامته عندما أرسل رسله للأمم أمرهم أن يعمدوهم بسرّ الثالوث (مت 28: 19).

·        إذ تاب اليهود عن شرورهم أرسلهم بطرس ليعتمدوا (أع 2: 38).

·        بولس مضطهد الكنيسة، الذئب الثائر الخارج من بنيامين (تك 49: 27) يحني رأسه أمام حنانيا، واحد من قطيع المسيح، ونال بصيرته فقط عندما تقبل دواء المعمودية (أع 9: 17-18).

·        بقراءة النبي تهيأ خصي كنداكة ملك أثيوبيا لمعمودية المسيح (أع 8: 27، 38). وعلى خلاف الطبيعة غيّر الأثيوبي جلده والنمر رقطه (إر 13: 23)...

·        "صوت الرب على المياه... الرب على المياه كثيرة" (مز 29: 3، 10). "أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، اللواتي كل واحدة متئم، وليس فيهن عقيم" (نش 4: 2).

·        أشار ميخا النبي إلى نعمة المعمودية: "يعود يرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطاياكم" (مي 7: 19).

ربما يتساءل البعض: "أما يعلم الله أن بالبرية حيات قاتلة وعقارب ولا يوجد بها ماء، فلماذا سمح الله لشعبه أن يسلك هذا الطريق الضيق؟"

أولاً: لكي يكتشف المؤمن أعماقه الداخلية، ففي وسط الضيق يسهل على الإنسان أن تنسحب نظراته إلى أعماقه ليراها. لقد قاد الله شعبه في وسط البرية حيث الحيات المحرقة والعقارب، فكان حارسًا وسندًا لهم حتى يعبروا إلى الأرض الجديدة الآمنة. هكذا يليق بنا أن ندرك أن الله يحملنا إلى أعماقنا لنراها مملوءة بالحيات القاتلة التي تسلّلت إلينا إما بإرادتنا أو خلال إهمالنا. إنه يقودنا ويحوّل طبيعتنا القاحلة التي تسكنها الخطايا كحيات قاتلة، ويعبر بنا إلى الطبيعة الجديدة. يحوّل جفافنا الروحي إلى شركة الطبيعة الإلهية، فنصير كمن هم في كنعان الجديدة.

محبة الله وراء ذلك التي تحول الإنسان الذي قد أفسدته الخطية إلى عدم الفساد. اختار الإنسان بكامل حريته الخطية، لذا صار الضيق ضروريًا لسحبه من طريقها.

v     لم تكن هذه البرية قفرًا بلا ثمر مثل الطبيعة البشرية. فإنه كم من العقارب والأفاعي توجد في برية هذا المثل (الطبيعة البشرية)؟ كم من الحيات وأولاد الأفاعي (مت 3: 7) توجد فيها؟!... لكن ليتنا لا نخاف، فإن قائد خروجنا هذا ليس موسى بل يسوع[95].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ثانيًا: إذ يدخل بنا إلى الضيق ندرك عجز كل يدٍ بشريةٍ عن مساندتنا، فنتطلع إلى الله وحده القادر أن يجعل من الضيقة طريقًا لخلاصنا وسعادتنا الداخلية ومجدنا.

يؤكد الكتاب المقدس في كل موضع حاجة الإنسان بعد سقوطه في الخطية إلى الضيق. كأن الكتاب كله، خاصة هذا السفر، يؤكد هذه الحقيقة أن الضيق هو طريق الدخول إلى السعادة الحقة.

6. عدم الاتكال على الذات:

أولى الخطايا ورأسها التي تسللت حتى إلى السمائيين فأحدرت إبليس وجنوده هي الكبرياء أو الاعتداد بالذات. صوب العدو ذات السهم إلى قلبيّ أبوينا الأولين آدم وحواء، إذ قال لحواء: "تكونان كالله" (تك 3: 5). ولا يزال يصوّب ذات السهم نحو البشرية، فنظن أننا آلهة، بقوتنا وقدرتنا بلغنا المكاسب المادية أو الاجتماعية أو الروحية. أما علاج ذلك فهو تذكر معاملات الله معنا ورعايته الفائقة وعطاياه المستمرة لذلك يقول:

"ولئلاَّ تقول في قلبك قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة.

بل اذكر الرب إلهك انه هو الذي يعطيك قوة لاصطناع الثروة لكي يفي بعهده الذي اقسم به

لآبائك كما في هذا اليوم" [17-18].

7. عدم الاتكال على آلهة غريبة:

عدم تذكر عطايا الله ونسيان رعايته الفائقة ليس فقط يدفعنا إلى الكبرياء فنقيم من ذواتنا آلهة لأنفسنا، وإنما ينحرف بنا لنتشبه بعبدة الأوثان، إذ نقيم لأنفسنا آلهة أخرى غير الله الحقيقي. كأن نتكئ على الأذرع البشرية أو خبراتنا البشرية المجردة، أو إمكانياتنا أو علمنا ومعرفتنا أو مراكزنا الاجتماعية، آلهة كثيرة ينحني أمامها الإنسان متجاهلاً إمكانية الله. بمعنى آخر عِوض الالتجاء إلى الله الذي وهبنا كل هذه البركات بيديه، نُقيم منها آلهة، فتتحول هذه البركات إلى دعوة للعبادة الوثنية.

"وإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها،

أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة.

كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب

إلهكم" [19-20].

ليس عند الله محاباة، فمن يتكئ عليه ويطيعه يتمتع بالمكافأة، ومن يلجأ إلى غيره متجاهلاً رعايته وعاصيًا وصاياه يفقد بركته؛ تاركًا كمال الحرية للإنسان أن يختار طريقه.


 

من وحي تثنية 8

لتعبر بي في قفر حياتي

v     لترافقني أيها العجيب في رعايته.

 بروح الأبوة الفائقة اسندني، فإني في قفر!

 أنت تحوّل قفر حياتي إلى فردوس.

 تسير بي لتدربني وسط الآلام،

 تحفظ قلبي وتسنده فيصير كله لك.

v     في وسط البرية أشعر بعطشٍ شديدٍ.

 من يرويني إلا الينبوع الصادر من جنبك،

 يا أيها الصخرة التي ترافقني!

v     في وسط البرية أشعر بجوع قاتل،

 لترسل لي المن السماوي.

 هب لي كلمتك المحيية خبزًا سماويًا.

 عرفني ذاتك، معرفتك هي الطعام الأبدي.

 إني أصرخ إليك:

 إلى متى اهتم بشبع بطني،

 ولا أنشغل بطعام نفسي؟!

v     بإرادتي دخلت الحيات المحرقة إلى طبيعتي.

 وجدت العقارب لها في مكانًا.

 صرت في ظمأ قاتل!

 بصليبك تقتل كل حيَّة،

 وتسحق العقارب تحت قدمي،

 وتفيض ينابيع روحك القدوس في داخلي!

 عجيب أنت يا من تحوّل قفر طبيعتي،

 إلى شركة الطبيعة الإلهية.

v     ماذا أقدم لك في وسط البرية؟

 ليس لي ما أقدمه إليك يا أيها الغني!

 اقبل شكري ذبيحة حب مقبولة لديك.

 لأذكر رعايتك الفائقة،

 لأذكر حبك العملي العجيب،

 لأذكر معاملاتك معي كل يوم.

 أثارك تقطر دسمًا يا أيها الحب الفائق.

<<

 

 

الأصحاح التاسع

بماذا يتبرر الشعب؟

في الأصحاح السابق ركّز موسى النبي على تأكيد أن ما يتمتع به الشعب من بركات ليس هو ثمر برّهم الذاتي، إنما هو عطية مجانية من قبل الله الذي يشتهي أن يدخل معهم في ميثاق. يدخل بهم إلى القفر لكي يُدركوا قفر طبيعتهم الداخلية، ويبعث إليهم موسى قائدًا ليُعلن أنه مهتم بهم، يحملهم إليه شخصيًا. إنه أمين في مواعيده بالرغم من عدم أمانتهم. وفي هذا الأصحاح أوضح أن الله أقام عهده مع شعبه ليسكب فيض بركاته، لا لأجل برّ الإنسان الذاتي [1-6]، بل من أجل أمانة الله في وعوده. الله في أمانته قدم لشعبه الشريعة، بينما عبد الشعب العجل الذهبي [7-21]. لم يقف موسى النبي في سلبية أمام هذا الجرم العظيم، بل يشفع في شعب الله مذكرًا إيّاه بالوعود الإلهية [22-29].

ويلاحظ أن ذكرى أحداث حوريب في (9: 7، 10: 11) وعرض التفصيلات الخاصة بالزمان والمكان يرجح أنها طبعت أثرًا عميقًا على ذهن موسى، كل هذه تنهض دليلاً قاطعًا جامعًا على صحة نسبة السفر إلى موسى النبي.

1. الله هو قائد المعركة                        [1-3].

2. النصرة ليست بسبب برّهم الذاتي           [4].

3. هزيمة الأمم بسبب شرّهم                  [4-5].

4. أمانة الله في مواعيده مع آبائهم            [5 (ب)-6].

5. شعب متذمر منذ البداية                     [7].

6. شعب يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة       [8-15].

7. غضب موسى النبي وكسر لوحيّ العهد     [16-19].

8. اشتراك رئيس الكهنة في خطأهم           [20].

9. قبول سحق العجل عِوضًا عن سحقهم      [21].

10. سلسلة من التذمر والسخط               [22-24].

11. موسى النبي يشفع فيهم                  [25-29].

1. الله هو قائد المعركة:

"اسمع يا إسرائيل أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبًا أكثر وأعظم منك،

ومدنًا عظيمة ومحصنة إلى السماء،

قومًا عظامًا وطُوالاً بني عناق الذين عرفتهم وسمعت من يقف في وجه بني عناق.

فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر أمامك، نارًا آكلة.

هو يبيدهم، ويذلهم أمامك، فتطردهم وتهلكهم سريعًا كما كلمك الرب" [1-3].

يرى البعض أن بقوله "اسمع يا إسرائيل"، أنها عظة جديدة قدمها موسى ربما في السبت التالي بعد العظة السابقة[96].

منذ حوالي 38 عامًا كانوا بالقرب من أرض الموعد، لكن لم يكن قد حلّ ملء الزمان لدخولهم، إذ لم يُسمح لهم بذلك بسبب طبيعة التمرد التي سيطرت على قلوبهم. الآن في الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين من الرحلة صدر الأمر: "اليوم عابر الأردن". وفي اليوم الأول من السنة الجديدة عبروا إلى أرض الموعد، خلال هذا الشهر مات موسى النبي.

ربما تتشابه الكلمات التي نطق بها موسى النبي في هذه العظة مع الكلمات التي نطق بها الجواسيس (عد 13: 28، 33)، لكن شتّان ما بين الروح الذي نطق به موسى ليُعلن أمانة الله في تحقيق وعوده لشعبه، فيعبر أمام شعبه كنارٍ آكلة تحرق كل مقاومة، وبين روح الجواسيس الذي يُحطم الإيمان ويُفقد النفوس رجاءها في التمتع بالوعود الإلهية.

يؤكد أن إسرائيل يواجه أممًا وشعوبًا أكثر في العدد، وأعظم في القوة وفي خبرة الحرب، وليس كالشعوب البدائية التي كانت تقطن أمريكا أو أستراليا تتسم بالبساطة وعدم النظام الخ. مع هذا فإن الله نفسه يقوم بدور القيادة، وتكون الحضرة الإلهية هي سرّ نصرة الشعب.

يليق بالشعب أن يجاهد ويحارب، معتمدًا على الوعد الإلهي: "كما كلمك الرب" [3]. ما ينعم به الشعب من نصرة هو عطية إلهية، وليس عن قدرة بشرية. بحسب المنطق البشرى لن يقدر هذا الشعب أن يغلب ويملك، لكن هذه النصرة عطية مقدمة من إله المستحيلات، الصانع العجائب. إنه يدخل بنا إلى المعمودية (الأردن) لكي نملك معه (رؤ 5: 10)، محطمًا كل قوى العدو (بنى عناق).

سرّ القوة "إن الرب إلهك هو العابر أمامك نارًا آكلة" [3]. إن كانت سهام العدو ملتهبة نارًا (أف 6: 16) فإن الرب يقيم نفسه سور نارٍ حولنا (زك 2: 5)، محطمًا هذه السهام عنا.

2. النصرة ليست بسبب برّهم الذاتي:

يحذرهم موسى النبي من الكبرياء والتشامخ، فإنه ليس بسبب برّهم ينالون النصرة، بل بسبب أمانة الله.

"لا تقل في قلبك حين ينفيهم الرب إلهك من أمامك قائلاً:

لأجل برّي أدخلني الرب لأمتلك هذه الأرض" [4].

إن نسبنا النصرة لله يمجدنا ويكللنا، أما إن نسبناها إلى برّنا الذاتي يسحب نعمته المجانية، ونفقد النصرة، ونصير في هوانٍ وعارٍ. فمن جهة الطبيعة البشرية هو "شعب صلب الرقبة" [6]، إنما من أجل الوعد الإلهي والعهد الذي يقيمه مع الإنسان بقسمٍ [5] يملك الإنسان. لنتمسك بالعهد الإلهي فهو يحول قسوة قلبنا إلى برّ المسيح.

3. هزيمة الأمم بسبب شرّهم:

إن كان من أجل غني مراحم الله يهب الله مؤمنيه قوة ونصرة، فإن إبادة الأشرار وهلاكهم هو ثمر طبيعي لشرهم وفسادهم، فإن الله ليس بظالمٍ.

"ولأجل إثم هؤلاء الشعوب يطردهم الرب من أمامك.

ليس لأجل برّك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم،

بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك" [4-5].

يتمجد الله في مؤمنيه بعطاياه المجانية، ويتمجد في الأشرار المصممين على شرهم وعنادهم بدمارهم. الذين يرذلهم الرب، إنما بعدالة يستحقون أن يُرذلوا، أما الذين يقبلهم فليس من أجل برّهم الذاتي، بل من أجل مراحمه المجانية الفائقة.

الله في محبته للإنسان يؤكد أن ما يحل بالأمم الشريرة ليس من قبيل ممارسة الله سلطانه، إنما بسبب شرهم. وهو في هذا يقدم درسًا لشعبه، إنه وإن قدّم لهم الأرض مجانًا من أجل غنى نعمته، وليس لأجل برّ فيهم، فإنهم إن تمادوا في الشر يكون نصيبهم كنصيب الأمم السابقة لهم، سيطردهم شرهم هم أيضًا.

لا نعجب إن كان الله – في ملء الزمان – قد قطع الأغصان الطبيعية، أي اليهود، بسبب جحدهم الإيمان بالمسيا المخلص، وطعّم الأغصان البرية لتأتي بثمر الروح. بروح التواضع وعدم التشامخ على الأغصان المقطوعة.

4. أمانة الله في مواعيده مع آبائهم:

"ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب.

فاعلم أنه ليس لأجل برّك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها،

لأنك شعب صلب الرقبة" [5-6].

لقد أقسم لآبائهم الذين أحبّوه، فقدم لأبنائهم ميراثًا، ليس عن استحقاقهم الذاتي بل من أجل أمانة الله. فاختيار العازر بن هرون كاهنًا يوحي بغفران خطية هرون. هكذا دامت وظيفة رئيس الكهنة.

5. شعب متذمر منذ البداية:

"اذكر، لا تنسَ كيف أسخطت الرب إلهك في البرية،

من اليوم الذي خرجت فيه من أرض مصر حتى أتيتم إلى هذا المكان كنتم تقاومون الرب" [7].

بعد أن أكد أنه ليس بسبب برهم الذاتي بل من أجل أمانة الله في مواعيده مع آبائهم يعطيهم الميراث أوضح لهم أنهم لم يمارسوا البرّ، بل كانوا مملوءين تذمرًا وسخطًا منذ بداية الطريق وهم في مصر عند خروجهم، وبقوا هكذا عبر الطريق كله أثناء التيه في البرية. كانت طبيعتهم هي التذمر، مارسوه منذ البداية حتى نهاية رحلتهم.

هنا يسجل موسى النبي خبرته المُرّة مع شعبه الذي دعاه "صلب الرقبة" [6]، دائم السخط من اليوم الذي خرجوا فيه من مصر حتى بلغوا إلى أرض موآب، يحملون روح المقاومة للرب.

6. شعب يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة:

سبق لنا الحديث عن إقامة العجل الذهبي في دراستنا لسفر الخروج، الأصحاح 32. واقتبسنا ما قاله مار أفرآم السرياني: [أُستبعد موسى النبي عنهم إلى حين حتى يظهر العجل الذي كان قدامهم، فيعبدوه علانية، هذا الذي كانوا يعبدونه خفية في قلوبهم[97]].

مما أحزن قلب موسى أن الشعب في أقدس اللحظات التي كان الله فيها يتحدث مع موسى مقدمًا شريعته له التي تحذر بشدة من العبادة الوثنية؛ كان موسى صائمًا أربعين يومًا وأربعين ليلاً لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماءً، وكان الجبل يدخن بالنار في حوريب؛ إذا بالشعب يزوغ عن الحق، وفي عناد وصلابة رقبة يصب عجلاً ذهبيًا يتعبد له.

في الموضع الذي فيه استلموا الشريعة، كسروها وفي نفس لحظات استلامها. بينما كانت عيونهم لا زالت تنظر الجبل متقد نارًا لم تلن قلوبهم، بل صبّوا العجل الذهبي بسبكه في نارٍ متقدة.

"حتى في حوريب أسخطتم الرب،

فغضب الرب عليكم ليُبيدكم" [8].

هكذا يُعبّر موسى النبي عن بشاعة خطيتهم حتى أن الرب أراد إبادتهم في اللحظات التي فيها أراد أن يقدم لهم كل محبة ورحمة.

"حين صعدت إلى الجبل لكي آخذ لوحي الحجر،

لوحي العهد الذي قطعه الرب معكم،

أقمت في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة لا آكل خبزًا ولا اشرب ماءً.

وأعطاني الرب لوحي الحجر المكتوبين بإصبع الله،

وعليهما مثل جميع الكلمات التي كلمكم بها الرب في الجبل من وسط النار في يوم الاجتماع.

وفي نهاية الأربعين نهارًا والأربعين ليلة لما أعطاني الرب لوحي الحجر لوحي العهد.

قال الرب لي:

قم انزل عاجلاً من هنا، لأنه قد فسد شعبك الذي أخرجته من مصر،

زاغوا سريعًا عن الطريق التي أوصيتهم

صنعوا لأنفسهم تمثالاً مسبوكًا.

وكلمني الرب قائلاً:

رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.

اتركني فأبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء وأجعلك شعبًا أعظم وأكثر منهم.

فانصرفت ونزلت من الجبل والجبل يشتعل بالنار ولوحا العهد في يدي" [9-15].

كان موسى في أمجد لحظات عمره على الأرض، إذ كان على قمة الجبل يتمتع برؤية ظل مجد الله، ويتسلم الشريعة التي سجلها الله على لوحين ونحتها كما بنارٍ إلهية، وقد اهتز الجبل كله وامتلأ دخانًا وضبابًا. توقع عند نزوله أن يرى الشعب كله، رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخًا لا يشغلهم شيء سوى استلام الشريعة. ظن أنه يرى عيونهم شاخصة نحو قمة الجبل، نسوا أكلهم وشربهم ونومهم في وسط هذا المجد العظيم. لكن نفسه تحطمت تمامًا إذ عِوض النار الإلهية طلبوا من رئيس الكهنة أن يوقد نارًا يلقون فيها الحُليّ الذهبية ليصب لهم عجلاً مسبوكًا يكون لهم إلهًا.

الذهب الذي سمح لهم الله أن يأخذوه من المصريين عِوض سنوات ذلهم وعبوديتهم قدموه للعبادة الوثنية لإغاظة الله مخلصهم.

لقد أساءوا استخدام عطية الله، فكان يليق بالأقراط الذهبية التي سمح لهم أن يأخذوها أن يستخدمها النساء والفتيات وليس الأبناء. لكن الشعب في تدليل وعدم التزام جعلوا بنيهم يلبسونها، إذ قال لهم هرون: "انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها" (خر 32: 2). هذا الانحلال دفعهم إلى العبادة الوثنية فسحبوا الأقراط لصبها عجلاً. صارت البركات بالنسبة لهم لعنة، وكما يقول على لسان النبي: "ألعن بركاتكم، بل قد لعنتها، لأنكم لستم جاعلين في القلب" (ملا 2: 2).

الجبل الجامد الصخري اتقد بالنار لإعلان الحضرة الإلهية، وقلوب شعب الله تحجرت لتشعل نارًا بشرية تشكل لهم إلهًا حسب قلوبهم الرديئة.

الاجتماع [10] جاءت في الترجمة السبعينية "إكليسيا" والتي تعني كنيسة، وقد اقتبسها استفانوس في خطابه "الكنيسة التي في البرية" (أع 7: 38). والكلمة تعني الاجتماع معًا في مكان خاص، وفيها معنى الفرز والاجتماع.

7. غضب موسى وكسر لوحي العهد:

"فنظرت وإذا أنتم قد أخطأتم إلى الرب إلهكم،

وصنعتم لأنفسكم عجلاً مسبوكًا،

وزغتم سريعًا عن الطريق الذي أوصاكم بها الرب،

فأخذت اللوحين وطرحتهما من يدي وكسرتهما أمام أعينكم.

ثم سقطت أمام الرب كالأول أربعين نهارًا وأربعين ليلة لا آكل خبزًا ولا أشرب ماءً من أجل

كل خطاياكم التي أخطأتم بها بعملكم الشر أمام الرب لإغاظته.

لأني فزعت من الغضب والغيظ الذي سخطه الرب عليكم ليُبيدكم.

فسمع لي الرب تلك المرة أيضًا" [16-19].

كأنه يقول لهم أي برّ تفتخرون به عند دخولكم أرض الموعد، وأي استحقاق لكم وأنتم أفقدتموني وعْيي حين نظرت ما لم أكن أتوقعه.

v     نقرأ أن الشريعة كتبت بإصبع الله، وأعطيت خلال موسى، خادمه المقدس. يرى الكثيرون إصبع الله أنه الروح القدس[98].

القدِّيس أغسطينوس

كسر موسى النبي اللوحين الحجريين أمام أعين الشعب ليُعلن لهم أنهم قد كسروا الناموس، وصاروا تحت لعنة العصيان. الآن وقد جاء السيِّد المسيح ليُقدم لا لوحيّ حجر بل روحه القدوس الناري، فينقش ناموس العهد الجديد على القلب، في الأعماق الداخلية. وكما يقول الإنجيلي: "لأن الناموس بموسى أُعطيَ، وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1).

بينما كان الله يقدم لوحي الشريعة لموسى، وكان موسى صائمًا من أجل خطايا الشعب [18]، والجبل يشتعل نارًا [15]، أي أن الله ونبيه والطبيعة كانوا يعملون لحساب الشعب، إذا بالشعب يفسد مُلزمًا هرون أن يقيم لهم العجل الذهبي.

كان موسى في أسعد لحظات عمره وهو في حضرة الرب يتسلم نيابة عن الشعب كله، بل وعن البشرية، شريعة الرب، في جوٍ رهيبٍ للغاية. يقف صائمًا لا يأكل ولا يشرب أربعين يومًا، في عزلة كما عن العالم كله، على الجبل المتقد نارًا، يلتقي مع خالق السماء والأرض، الذي ينقش بإصبعه الإلهي الشريعة على لوحين من الحجارة. كان يود أن ينزل إلى الشعب ليقدم لهما اللوحين كلوحي عهد بين الله والإنسان، لكنه عاد ليجد العهد قد انكسر بسرعة لم يتوقعها.

ألقى بلوحي العهد على الأرض فانكسرا، ليُدرك الكل أنهم كسروا العهد بإغاظتهم الرب.

عبّر موسى النبي عن فزعه الشديد لا بالتقائه مع الرب وسط النار، بل بإدراكه السخط الإلهي الذي حلّ عليهم لإبادتهم تمامًا.

لقد صام للمرة الثانية أربعين يومًا أخرى وتوسل عن شعبه، وسمع له الرب تلك المرة أيضًا. إذن أين هو برّهم الذي يفتخرون به؟!

8. اشتراك رئيس الكهنة في خطأهم:

لقد اشترك رئيس الكهنة معهم في الخطأ، إذ قام بسبك الذهب وصنع تمثال العجل للتعبد له. كان يليق بذاك الذي يضع على جبهته صحيفة ذهبية مكتوب عليها "قدس للرب" أن يُقاوم خطأ الشعب، لكنه عِوض تقديس الشعب ورفع غضب الله عنهم، سقط هو تحت الغضب الإلهي.

"وعلى هرون غضب الرب جدًا ليُبيده" [20].

عندما تحدث موسى النبي عن غضب الرب على الشعب وسخطه لم يقل "غضب الرب جدًا"، لكنه قال ذلك عندما تحدث عن خطأ رئيس الكهنة. ليس عند الله محاباة، فإن من يعرف كثيرًا ولا يعمل يُضرب كثيرًا. خطية الراعي أكثر خطورة من خطية الشعب، لهذا فإن الله يؤدب الرعاة بحزمٍ أشد من تأديب الشعب عندما يُخطئوا.

v     إن شرف الكهنوت عظيم، لكن إن أخطأ الكهنة فهلاكهم فظيع.

v     لا يخلص الكاهن لأجل شرفه، إنما إن سلك بما يليق بشرفه[99].

القدِّيس جيروم

v     إنني أخشى لئلاَّ إذا تسلمت القطيع في حالة جيدة ومنتعشة، وبعدم مهارتي أفسده، فأغيظ الله ضدي، هذا الذي يحب القطيع حتى بذل ذاته لأجل خلاصه وافتدائه[100].

v     الرجل العلماني إذا زلّ ينتصح بسهولة، وأما الإكليريكي فإذا صار رديئًا يضحى غير قابل للنصح[101].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

عِوض أن يشفع رئيس الكهنة في الشعب صار محتاجًا إلى من يشفع فيه:

"فصليت أيضًا من أجل هرون في ذلك الوقت" [20].

من يستطيع أن ينطق بهذه الكلمات غير موسى، فإنه حتى هرون لم يحفظ الوصية الخاصة بعدم العبادة للأوثان بعد أن توقفت علامات حضور الرب المنظور!

9. قبول سحق العجل عِوض عن سحقهم:

استحق الشعب أن يُسحقوا بسبب بشاعة خطيتهم حتى في اختيارهم للمكان والتوقيت. لكن من مراحم الله أنه قبِل أن يُحرق العجل ويرضض ويُطحن ثم يُذرى كالغبار في النهر عِوض أن يُصنع هكذا بالشعب.

لقد صار الشعب على شبه من تعبدوا له، وقبِل الرب سحق الشبه والعفو عنهم.

"وأما خطيتكم العجل الذي صنعتموه فأخذته وأحرقته بالنار ورضضته وطحنته جيدًا حتى نعِم كالغبار،

ثم طرحت غباره في النهر المنحدر من الجبل" [21].

10. سلسلة من التذمر والسخط:

لقد بدأ الشعب بالسخط والتذمر من قبل خروجهم من مصر، ورافقهم هذا السخط في البرية، حتى بلغ الذروة في حوريب، أثناء تسلم موسى الشريعة. وقد صام موسى وتشفع فيهم، ومع هذا لم تتغير طبيعتهم المتذمرة، فصارت حياتهم سلسلة لا تنقطع من التذمر والسخط، يذكر على سبيل المثال:

"وفي تبعيرة ومسّة وقبروت هتأوة أسخطتم الرب.

وحين أرسلكم الرب من قادش برنيع قائلاً:

اصعدوا امتلكوا الأرض التي أعطيتكم

عصيتم قول الرب إلهكم ولم تصدقوه ولم تسمعوا لقوله.

لقد كنتم تعصون الرب منذ يوم عرفتكم" [22-24].

يذكرهم موسى أيضًا بالعصيان، إذ أمرهم الرب في قادش برنيع أن يصعدوا ليملكوا، لم يصدقوا ولا سمعوا لقوله (9: 22-24، راجع عد 13؛ 32: 8).

11. موسى يشفع فيهم:

"فسقطت أمام الرب الأربعين نهارًا والأربعين ليلة التي سقطتها،

لأن الرب قال إنه يهلككم.

وصليت للرب وقلت:

يا سيد الرب، لا تهلك شعبك وميراثك الذي فديته بعظمتك،

الذي أخرجته من مصر بيدٍ شديدة.

اذكر عبيدك إبراهيم واسحق ويعقوب.

لا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيته.

لئلاَّ تقول الأرض التي أخرجتنا منها:

لأجل أن الرب لم يقدر أن يدخلهم الأرض التي كلمهم عنها،

ولأجل أنه ابغضهم أخرجهم لكي يميتهم في البرية.

وهم شعبك وميراثك الذي أخرجته بقوتك العظيمة وبذراعك الرفيعة" [25-29].

إن الأمر خطير للغاية فقد سقط موسى أمام الرب ليصلي ليلاً ونهارًا من أجل الشعب. يرى البعض أنها بخلاف الأربعين يومًا التي صامها للمرة الثانية ويُعيد الرب الكتابة على لوحيّ العهد، وإن كان البعض يرى أنها ذات الأربعين يومًا.

صلى موسى للرب وذكّره بوعده مع آبائهم إبراهيم واسحق ويعقوب، طالبًا ألا يلتفت إلى غلظة قلوبهم وإثمهم وخطيتهم. ليذكر أنه شعبه الذي صنع معه عجائب لإنقاذه!

يقول آدم كلارك: [يهب الله بركات كثيرة لأشخاص غير مستحقين نسبيًا، إما لأجل أسلافهم الأتقياء، أو بسبب أشخاص متدينين مرتبطين بهم، لهذا فإن الاتحاد مع كنيسة الله هو بركة عظيمة].

لم يبرر موسى نفسه، لكنه بالحب صام وصلى وطلب من الله أن يعمل من أجل عهده مع أسلافهم المباركين.

 


 

من وحي تثنية 9

من يشفع فيَّ،

فإني دائم التذمر!

v     بماذا أتبرر أمامك يا فائق الحب.

إني إنسان دائم التذمر.

اشترك مع شعبك القديم في روح التذمر.

انطلقوا من مصر متذمرين،

عِوض أن يمجدوك يا واهب النصرة.

رافقهم تذمرهم حتى في أروع اللحظات.

كان الجبل لا زال متقدًا بالنار من أجلهم،

وحمل موسى لوحيّ العهد المكتوبين بإصبعك.

السماء والطبيعة حتى الحجارة تشهد لحبك.

مع هذا كسروا عهدك قبل استلامهم لوحيّ العهد.

هرون الكاهن الأعظم صار محتاجًا إلى من يشفع فيه عندك!

من ينقذني من خطاياي غيرك يا صانع العجائب.

v     استبدلوك بعجلٍ ذهبي يا من حركت كل الطبيعة لحسابهم.

عوض القداسة مارسوا الرجاسات لإغاظتك.

من يجدد فكري وقلبي وإرادتي غيرك؟!

v     نفسي مُرّة في داخلي!

مع كل فسادي كثيرًا ما أنسب بركاتك إلى بري الذاتي.

أنت وحدك سرّ كل برّ حقيقي.

أنت واهب القداسة ومعطي البركات.

<<

 

 

 


 

الأصحاح العاشر

غنى عطايا الله لهم

لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجمًا اتكال الشعب على برّهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشًا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.

1. إعادة كتابة لوحي الشريعة                 [1-5].

2. إبقاؤه الكهنوت اللاوي                      [6-7].

3. فرز سبط لاوي لخدمته                     [8-9].

4. قبوله شفاعة موسى عنهم                 [10-11].

5. دعوة لمخافة الرب والالتصاق به           [12-22].

1. إعادة كتابة لوحيّ العهد:

الله عجيب في حبه للإنسان وشوقه للالتصاق به، فمع بشاعة ما فعله الشعب في أدق اللحظات كما رأينا في الأصحاح السابق، وسط هذا الفساد عاد ليكتب لهم على لوحين حجريين آخرين بإصبعه من جديد ذات الوصايا ليوضعا في تابوت العهد، معلنًا رغبته في المصالحة وإقامة العهد كما من جديد.

"في ذلك الوقت قال لي الرب:

انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين،

واصعد إليّ إلى الجبل،

واصنع لك تابوتًا من خشب.

فأكتب على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما وتضعهما

في التابوت" [1-2].

ماذا طلب الله من موسى؟

أولاً: إن ينحت لوحين من حجر، فإن كانت قلوبنا قد تحجرت بسبب الخطية، يلزم أن تُضرب بأدوات حادة، أي بعمل الروح القدس الناري الذي يبكت على خطية، ويهب القلب تواضعًا وانسحاقًا، فيتقبل الوصية الجديدة فيه. عِوض الاتكال على البر الذاتي يليق بنا أن نطلب من روح الرب أن يهبنا روح التواضع، فيمد الرب إصبعه، وينقش وصيته في أعماقنا.

ثانيًا: أن يصعد إلى الله على الجبل. فإن الرب يتحدث مع الجماهير عند سفح الجبل، لكنه يقدم أسراره الفائقة على الجبال العالية، مع النفوس التي تترك سفح الجبل وتصعد بروح الرب كما مع السيِّد المسيح نفسه، فتراه متجليًا على قمة جبل تابور. يصرخ المرتل قائلاُ: "رفعت عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني" (مز 121: 1).

لنهرب إلى الجبال كما علمنا  السيِّد المسيح (مر 13: 14). وكما يقول العلامة أوريجانوس: [من يهرب يليق به أن يعرف الموضع الذي ينبغي أن يهرب إليه[102]]. لنترك كل ارتباطاتنا اليومية، وأفراحنا مع متاعبنا، ونصعد إلى الرب، كي نلتقي به وننعم بلمسات يده النارية، تنقش على قلوبنا وصية الحب الإلهي الناري.

ثالثًا: واصنع لك تابوتًا من خشب السنط. أول شيء طلب الله من موسى أن يصنعه عند إقامة خيمة الاجتماع بواسطة بصلئيل هو تابوت العهد. وها هو هنا يطلب أن يصنع تابوتًا من الخشب مغشى بالذهب من الداخل والخارج (خر 25: 10؛ 37: 1)، فهل طلب من موسى أن يصنع تابوتًا آخر؟!

على أي الأحوال لم يكن ممكنًا أن يقدم موسى اللوحين المنحوتين ليكتب الله عليهما بإصبعه ما لم يعد التابوت الخشبي الذي يحفظ فيه اللوحين. ما هو هذا التابوت الخشبي إلا صليب ربنا يسوع المسيح، الذي فيه تحفظ الوصية دون أن تكسر. فمن يلتصق بصليب المسيح، ويشاركه صلبه يتقبل الوصية، ويحفظها في قلبه.

رابعًا: أن يتسلم من الله اللوحين المكتوب عليهما ويضعهما في التابوت. هذه هي عطية الله الفائقة، أن نقبل ميثاقه، ونحمل وصيته بكل حرص في قلوبنا المشتركة في صليب المسيح كمخزنٍ حيٍ لها.

خامسًا: في طاعة كاملة لله وحب شديدٍ للشعب وضع موسى اللوحين في التابوت وقدمهما للشعب:

"فصنعت تابوتا من خشب السنط ونحت لوحين من حجر مثل الأولين،

وصعدت إلى الجبل واللوحان في يدي.

فكتب على اللوحين مثل الكتابة الأولى الكلمات العشر التي كلمكم بها الرب في الجبل من

وسط النار في يوم الاجتماع وأعطاني الرب إياها.

ثم انصرفت ونزلت من الجبل،

ووضعت اللوحين في التابوت الذي صنعت فكانا هناك كما امرني الرب" [3-5].

فما تمتع به موسى من عطايا إنما لحساب الشعب، نزل إليهم وقدم لهم ما سلّمه له الرب. هكذا يليق بنا أن نشتهي دخول كل نفس إلى خبرة الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع. الخادم المحب هو الذي يقدم للغير لا مما له، بل مما قدمه الرب له.

ما كتبه في اللوحين هو بعينه ما سبق أن كتبه في اللوحين السابقين، فإن كلمة الله لا تحتاج إلى تصحيح أو تعديل، إنما هي ثابتة إلى الأبد.

كتب عشرة  وصايا أو كلمات ولم يكتب عشرة مجلدات؛ فإنه ليس بكثرة الكلام تخلص البشرية بل بكلمة الله الممتزجة بحبه العملي.

سادسًا: إذ تسلم الشعب لوحيّ العهد أمكنهم التحرك نحو كنعان. "وبنو إسرائيل ارتحلوا من آبار بني يعقان إلى موسير" [6]. تمتعوا مع الوصية بآبار المياه ثم تحركوا، هكذا نقبل وصية الرب ونتمتع بمياه الروح القدس الذي يقودنا نحو كنعان السماوية. يليق بنا أن نبدأ رحلتنا من الآبار حيث مياه المعمودية والتمتع بالبنوة لله، ونبقى نتمتع بهذه الآبار. "من هناك ارتحلوا إلى الجدجود، ومن الجدجود إلى يُطبات أرض أنهار ماء" [7].

بني يعقان: اسم عبري معناه "أبناء يعقان، وهو اسم قبيلة يُرجح أنها من نسل سعير الحوريين وقد أطلق هذا الاسم على الآبار بنو إسرائيل، وكانت بثيروت. وقيل أنها هي البترين الحالية، على بعد ستة أميال جنوب العوجا (عد 33: 31-32).

موسير أو مسُيروت: اسم عبري معناه "رباط" أو "رباطات"، وهي بالقرب من جبل هور (عد 33: 30-31).

الجدجود أو حور الجدجاد: وهو اسم عبري معناه "كهف جدجاد" (عد 33: 32). ربما تقع على وادي غدغودة أو غداغد، التابع لوادي جيرافي، شمال كونتيلة الجيرافي، شمالاً إلى الشمال الغربي من خليج العقبة.

يُطبات: اسم عبري معناه "طيبة"، وهو محلة من محلات بني إسرائيل في البرية (عد 33: 33) غربي البرية. يظن أنها الطابة على بعد 22 ميلاً شمالي العقبة.

2. إبقاؤه الكهنوت اللاوي:

لقد غضب الرب جدًا على هرون ليُبيده (9: 20)، فصلى أخوه موسى من أجله، وقبل الرب صلاته عنه، لهذا أكمل هرون عمله الكهنوتي، وتسلم ابنه العمل من بعده.

"هناك مات هرون، وهناك دُفن.

فكهّن ألعازار ابنه عِوضًا عنه" [6].

عِوض هرون سار ألعازار رئيس الكهنة الجديد مع الشعب وانطلق بهم نحو كنعان، إلى "أرض أنهار ماء" [7]. فإن عمل رئيس الكهنة هو أن يدخل بشعب الله إلى ينابيع مياه الروح القدس التي تحوّل بريتهم القاحلة إلى فردوسٍ سماوي، يحمل ثمار الروح.

3. فرز سبط لاوي لخدمته:

أظهر الله حنوّه على شعبه بعد سقوطهم في عبادة العجل وصلاة موسى عنهم، إذ عاد يؤكد فرز سبط لاوي لخدمته، وأن يكون هو نفسه وليس الأرض نصيبهم.

"في ذلك الوقت أفرز الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب،

ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه،

ويباركوا باسمه إلى هذا اليوم.

لأجل ذلك لم يكن للاوي قسم ولا نصيب مع اخوته.

الرب هو نصيبه كما كلمه الرب إلهك" [8-9].

اختيار الله هرون وبنيه كهنة ليكون هو نفسه نصيبهم، صورة حية لعطية الله لذاته المجانية وليس عن بر ذاتي.

حمل سبط لاوي تابوت العهد الحافظ للوحي الشريعة، وكأنهم يحملون الوصية الإلهية المقدسة كسرّ حياة وبركة لكل من يقبلها عاملة في حياته، وحالّة في قلبه.

4. قبوله شفاعة موسى عنهم:

بسبب عبادة العجل تعطّل الموكب، لكن موسى مكث أربعين يومًا صائمًا ومصليًا يشفع في شعبه حتى لا يهلك، فقبل الرب صلاته وطلب منه أن يتحرك مع الشعب لكي يدخلوا

ويمتلكوا الأرض.

"وأنا مكثت في الجبل كالأيام الأولى أربعين نهارًا وأربعين ليلة،

وسمع الرب لي تلك المرة أيضًا.

ولم يشأ الرب أن يهلكك.

ثم قال لي الرب:

قم اذهب للارتحال أمام الشعب،

فيدخلوا ويمتلكوا الأرض التي حلفت لآبائهم أن أعطيهم" [10-11].

كان موسى رمزًا للسيد المسيح الذي صام عنا، وبذل ذاته لمصالحتنا مع أبيه، حتى لا نهلك، بل ندخل به إلى حضن الآب ونرث مع المسيح المجد الأبدي.

v     بينما يوجد الكثير في العالم ليُحب، فمن الأفضل أن يُحب من خلال العلاقة بذاك الذي خلقها.

العالم جميل، لكن الذي خلقه أجمل منه.

العالم مجيد، لكن الذي أسس العالم هو أكثر بهجة.

لذلك يلزمنا أن نعمل قدر المستطاع أيها الأحباء أن نحب العالم دون أن يبتلعنا، وألا نحب الخليقة أكثر من الخالق. الله يهبنا ممتلكات أرضية لكي نحبه بكل قلبنا ونفسنا. لكننا أحيانًا نثير غضب الله علينا حينما نحب عطاياه أكثر من الله نفسه.

نفس الأمر يحدث في العلاقات البشرية. افترض أن إنسانًا يقدم عطية خاصة لمن تحت وصايته. فذاك الذي تحت الوصية يبدأ يستخف بالمعطي ويحب العطية أكثر من الذي يهبها. افترض أنه لا يفكر في المعطي كصديق بل كعدو. هكذا تكون العلاقة مع الله إننا نحب بالأكثر الذين يحبوننا لأجل ذواتنا وليس لأجل عطايانا لهم. هكذا يُعرف الله بأنه يحب من يحبونه أكثر من حبهم للعطايا الأرضية التي يهبها[103].

الأب قيصريوس أسقف آرل

5. دعوة لمخافة الرب والالتصاق به:

إن كان في الأصحاح السابق قد عرض في مرارة بشاعة ما فعله إسرائيل منذ دعوتهم للخروج حتى اللحظات التي يتحدث فيها موسى معهم. وقد ركز على سقوطهم في سبك العجل الذهبي والتعبد له، مع اشتراك رئيس الكهنة نفسه في العمل، وأيضًا ركز على التكرار المستمر للتذمر، إذ لم يحدث مرة أو مرتين كلحظات ضعف عاشوا فيها، بل صارت أشبه بطبيعة تعمل فيهم. الآن بروح الرجاء المفرح يحثهم على التقوى أو التمتع بمخافة الرب والالتصاق به. موضحًا النقاط التالية:

أولاً: الله لا يحتاج إلى خدمة الإنسان ولا إلى عطاياه، بل يطلب قلبه وحبه الخالص.

"فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك،

إلا أن تتقي الرب إلهك،

لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك.

وتحفظ وصايا الرب وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لخيرك.

هوذا للرب إلهك السموات وسماء السموات، والأرض وكل ما فيها" [12-14].

جاءت الكلمات "السموات وسماء السموات" جميعها بصيغة الجمع، فماذا عنيَ بها؟ يرى البعض أن الكلمة الأولى يقصد بها جلد السماء، والثانية الفضاء وما يضمه من كواكب، والثالثة "سموات السموات" هي موضع القدِّيسين في الأبدية مع مصاف الطغمات السمائية.

v     إنه لا يحتاج إلى شيء نعطيه له، وهذا برهان خاص على الحب الخالص، عندما ذاك الذي لا يحتاج إلى شيء، وليس في ضرورة إلينا، يفعل كل شيء من أجل أن نحبه. لذلك يقول موسى: "ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تحبه وأن تكون مستعدًا للسير وراءه؟!" [12].

عندما يأمرك أن تحبه فإنه يظهر فوق الكل أنه يحبك. ليس شيء يضمن خلاصنا مثل أن نحبه[104].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ماذا يطلب الله منك؟

سؤال يقدمه موسى النبي في أواخر حياته على الأرض لشعبه، يليق بكل مؤمن أن يردده في قلبه وفكره ليراجع نفسه، ويجيب بكل أمانة عليه.

لقد طلب الله من موسى النبي أن ينحت له لوحين من حجر ويصنع تابوتًا من الخشب [1] وقام الله بكتابة الوصية... فماذا طلب من الشعب؟

لم يطلب منهم أن يقدموا الذبائح الحيوانية، ولا ذكّرهم بالشرائع الخاصة بالتطهيرات، ليس لعدم أهميتها، وإنما لأنه قد أقام الله ألعازار بن هرون كاهنًا [6]، وأكد إفراز سبط لاوي لخدمته [8]، وهو يعلم أن الشعب يجد تجاوبًا في تنفيذ الطقوس، لكنه خشي أن ينشغل الشعب بالشكليات ويفقد الأعماق الداخلية الخاصة بالشركة مع الله. لهذا جاءت الوصايا الإلهية في الأحاديث الوداعية لموسى النبي تؤكد محبة المؤمنين لله ومخافتهم له من كل القلب والنفس، والطاعة للوصية. كما ركّز على محبة القريب خاصة الأيتام والأرامل والغرباء، بهذا يُقيم منهم كواكب منيرة في السماء [22].

جاءت الإجابة على السؤال: ماذا يطلب منك الرب إلهك؟ هي:

أ. لا يطلب لنفسه شيئًا لأن للرب سماء السموات والأرض وكل ما فيها، فهو ليس في عوزٍ إلى شيءٍ ما. وكما يقول المرتل: "قلت الرب أنت ربي ولا تحتاج إلى صلاحي"[105] (مز 16: 2).

v     لا يحتاج الله إلى صلاحنا، بل نحن نحتاج إلى صلاحه.

القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

v     قل لي: ما هو نفع الله أن أكون بارًا (عادلاً)؟! وماذا يضيره أن أكون شريرًا؟! أليست طبيعته غير قابلة للفساد؟ لا يصيبها ضرر، وفوق أيضًا أي ألم؟ ليس لدى العبيد مهما كانوا أغنياء شيء ما من عندياتهم، بل ما لديهم هو من سادتهم[106].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ب. يطلب ما هو لك وهو أن تتقيه، أي تتمتع بمخافته التي هي بدء الحكمة، وقائد لك في حياتك. المخافة التي ترتبط بالحب، مخافة الابن الذي يخشى جرح مشاعر أبيه.

كثيرًا ما يتحدث موسى النبي في هذا السفر عن "مخافة الرب" أو أن نتقيه، مازجًا الخوف بالحب، كما في العبارات السابقة. يقول الأب ماتيروس: [إنه من اللائق  أن تقف أمام الله بعقل يقظ متنبه برعدة وخوفٍ مع التهاب الروح بالفرح والحب العميق[107]]

(رو 12: 11-12).

الإنسان الروحي المملوء حبًا لله يحمل أيضًا مخافة مقدسة تهبه جدّية في حياته ممتزجة بالسلام. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الهزلي في تعاملاته ليس قديسًا. فحيث توجد النجاسة يكون الهزل؛ وحيث يكون الضحك في غير أوانه يكون الهزل؛ أصغ إلى قول النبي: "اعبدوا الرب بخوفٍ وهللوا له برعدة" (مز 2: 11). الهزل يسلم النفس إلى التنعم والتكاسل. إنه يثير النفس بصورة غير لائقة، فكثيرًا ما تجنح إلى أعمال العنف وتوجد حروبًا[108]].

ج. أن تسلك في كل طرقه، فلا تنحرف يمينًا أو يسارًا، بل تتمتع بالطريق الإلهي الملوكي. لا تسلك حسب هواك، ولا حسب طرق الناس التي قد تضللك، بل تحمل إرادة الله عاملة فيك.

د. تحبه، فتدرك حبه لك، وتختبر الدفء الحقيقي لأبوته وصداقته.

هـ. تعبده من كل قلبك وكل نفسك، فتنال كرامة الوقوف أمامه والشركة مع السمائيين في حياتهم السماوية وفرائضه بكونها مصدر الحياة والشبع واللذة والاستنارة!

ثانيًا: الله يود أن يلتصق بنا، لكي نتمتع به بكونه حياتنا.

"ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحييهم،

فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب كما في هذا اليوم" [15].

اختياره لنا ليس إلا لأنه يطلب حياتنا، مقدمًا ذاته مصدر حياة. واضح أن الوصايا في هذا الأصحاح بدأت بالتزامات الإنسان نحو الله أن يحبه ويتقيه ويعبده، ثم بالالتزام نحو القريب خاصة الأيتام والأرامل والغرباء وأخيرًا نحو الإنسان نفسه حتى يُحصى الإنسان ضمن نجوم السماء المتلألئة.

لقد أكد في أكثر من موضع أن الرب هو نصيب شعبه، وفي هذا الأصحاح يؤكد أنه نصيب خدامه اللاويين. ليس لأنه في احتياج إليهم إذ له "السموات وسماء السموات والأرض وكل ما فيها" [14]، إنما لكي يلتصقوا به فيحيون ويقتنون. يصير لهم مالك السماء وسماء السموات وكل الأرض.

ثالثًا: الله يطلب ختان القلب

"فاختنوا غرلة قلوبكم،

ولا تصَلِّبوا رقابكم بعد" [16].

واضح أن الله منذ العهد القديم لا يطلب من فرائضه ووصاياه ممارسات جسدية بحتة، بل يطلب ما يمس كياننا الداخلي. فإن كان قد وضع ختان الجسد علامة قبول الميثاق مع الله، فإن ما يطلبه هو ختان القلب والروح. لا يطلب بتر جزء من جسم الإنسان، بل بتر جذور الفساد والخطية من أعماق النفس. بختان القلب يمكن للمؤمن أن يتمم الوصية العظمى التي هي الاستماع لله والحب له من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القوة، وبهذا يتمم كل الناموس. وكما يقول الرسول بولس: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان" (رو 2: 28-29).

يربط النبي بين ختان القلب وعدم تصلب الرقبة، لأن من يقبل الختان الروحي، ويمارس بالروح الموت عن شهوات الجسد تنحني أعماقه بالطاعة لله في فرح شديد، ويكون الإنسان مستعدًا في الداخل لحمل نير المسيح بلذةٍ وشوقٍ.

رابعًا: يدعونا للانتساب إلى الله نفسه الذي هو إلهنا، رب الأرباب وإله الآلهة، الذي يشتهي أن نكون أرباب وآلهة، نحمل شبهه ونصير أيقونة حيّة له، فيكون ربًّا للأرباب وإلهًا على الآلهة. وهو في هذا يشتاق أن ينتسب الكل إليه دون محاباة ولا خلال رشوة، بل ينتسب إلينا أن تقدست أعماقنا.

"لأن الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب،

الإله العظيم الجبار المهيب،

الذي لا يأخذ بالوجوه ولا يقبل رشوة" [17].

لاحظ الفكر الأسمى عن وحدانية الله في [17] فإن هذه الفكرة تتخلل السفر كله وهي حجر الزاوية في تعليمه. إنه الإله المرهوب القدير، الذي لا تقف أمامه الآلهة الوثنية والأرباب الباطلة. يشتاق إلى الانتساب إلى الإنسان المتواضع، ليس عن ضعف ولا عن عجز أو احتياج، بل خلال الحب.

خامسًا: يدعونا إلى الاهتمام بالمرذولين والمحتاجين والمطرودين والغرباء، متشبهين به.

"الصانع حق اليتيم والأرملة،

والمحب الغريب ليُعطيه طعامًا ولباسًا،

فأحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" [18-19].

إذ يختبر المؤمن مراحم الله واهتمامه به خاصة حين كان في عوزٍ أو ضيقٍ يلزمه يرد هذا الحب بالحب نحو المعتازين والذين في ضيقة. هكذا يربط النبي محبتنا لاخوتنا بحبنا لله نفسه.

سادسًا: الدعوة لمخافة الرب والالتصاق به والاعتزاز به، متذكرين عجائبه الدائمة معنا.

"الرب إلهك تتقي إياه تعبد وبه تلتصق وباسمه تحلف.

هو فخرك وهو إلهك الذي صنع معك تلك العظائم والمخاوف التي أبصرتها عيناك.

سبعين نفسا نزل آباؤك إلى مصر

والآن قد جعلك الرب إلهك كنجوم السماء في الكثرة" [20-22].

نسبح الله ليس فقط الذي نسمع عنه ، ولا الذي صنع عجائب مع آبائنا، بل نتمتع بخبرة الحياة معه. وكما يقول القدِّيس يوحنا الحبيب: "الذي رأيناه بعيوننا، الذي سمعناه بآذاننا، الذي لمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1).

العجيب يفتخر كثير من الأشرار بانتسابهم لإبليس، بينما يخجل بعض المؤمنين من إعلان إيمانهم بالله  والحديث عنه.

أخيرًا يختم هذا الأصحاح بتأكيد عمل الله القائم على حبه واختياره: "سبعين نفسًا نزل آباؤك إلى مصر والآن جعلك الرب إلهك كنجوم السماء في الكثرة" [22]. يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [بإن الذين نزلوا إلى مصر 75 نفسًا (أع 7: 14؛ تك 46: 27؛ تث 10: 22). نفهم من هذا أنها لم تكن نفوسًا مجردة بل أناسًا لهم أجساد، هكذا عندما نسمع أن المسيح صار جسدًا، أو أخذ جسدًا، إنما أخذ الطبيعة البشرية كلها[109]].


 

من وحي تثنية 10

أقمني كاهنًا يا رئيس الكهنة الأعظم

v     برجاساتي كسرت عهدي معك،

لكنك تطلب مني أن أنحت مع موسى حجرين.

لقد تحجر قلبي تمامًا،

من ينقش عليه ناموسك سوى روحك الناري!

لتُحول قلبي إلى لوحي عهد أودعهما في تابوت عهدك.

لأحمل مع الكهنة التابوت بتقديسك لكل كياني!

v     أخطأت مع هرون رئيس كهنتك وسبكت لي تمثالاً!

لترد لي كرامة كهنوتي.

بالصفح عني وتقديس قلبي!

v     أفسدت عمل الكهنوت،

عد واعمل فيً،

فأذكر أنك أنت نصيبي يا مُشبع أعماقي!

v     شفع موسى في هرون وكل الشعب.

دمك يشفع فيّ، ويرد لي برك.

في خجل أعترف لك:

كم مرة كسرت عهدك؟

كم مرة شوّهت جمال عملك فيّ؟

كم مرة نسيت كهنوتي؟

الآن ارجع إليك بروح المخافة الربانية.

ردني إليك فأنت أنت الكل لي.

<<

 

 

 


 
الأصحاح الحادي عشر

أيامنا كأيام السماء

تحدث في الأصحاح السابق عن بركات الرب وعطاياه، وأوضح ماذا يريد الله من شعبه، غير مشيرٍ إلى الذبائح الحيوانية والطقوس بل إلى ضرورة الالتصاق به والاستماع لكلماته، ثم ختمه بعطية الرب الفائقة أنه عوض السبعين نفسًا التي نزلت إلى مصر خرج الشعب كنجوم السماء في الكثرة.

وفي هذا الأصحاح يوضح مكافأة الله للأمناء وهي أن تصير أيامهم كأنها أيام السماء على الأرض [21]. هذا ما يدفعنا أن نحب الله ونحفظ وصاياه، نثبتها على قلوبنا ونربطها كعلامة على أيدينا، فنتمتع ببركات الطاعة، أي التمتع  بأيام السماء على الأرض، عوض السقوط تحت لعنة العصيان، أي الانحدار إلى أيام الجحيم.

إن كان إسرائيل قد اتسم بالعصيان [1-7]، فإنه يليق أن يترجم الحب بلغة الطاعة لله الكلي الصلاح والعطاء [8-25] ليختبر الحياة السماوية. الآن وهو على أبواب الدخول إلى أرض الموعد يجدون الفرصة للتعبير عن أمانتهم لله وإخلاصهم للعهد معه [26-32].

1. أحبب الرب الذي تراه                                 [1-7].

2. احفظ وصاياه فتطول أيام حياتك                       [8-12].

3. اعبد الرب بكل قلبك فتشبع                           [13-17].

4. سمر وصاياه على قلبك فتختبر أيام السماء           [18-25].

5. تمتع ببركة الطاعة لا لعنة العصيان                  [26-32].

1. أحبب الرب الذي تراه:

خُتم الأصحاح السابق بالعبارة: "جعلك الرب إلهك كنجوم السماء في الكثرة" (10: 22). سبق فقيل لإبراهيم: "أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء، وكالرمل على شاطئ البحر" (تك 22: 17). لم يذكر هنا "كالرمل على شاطئ البحر"، إنما "كنجوم السماء"، إذ أراد أن يقيم منهم أشبه بكواكب منيرة في السماء. أما رد الفعل لدى هؤلاء المؤمنين فيلزم أن يكون هكذا:

"فأحبب الرب إلهك،

واحفظ حقوقه وفرائضه وأحكامه ووصاياه كل الأيام" [1].

إذ يتطلع الشعب إلى مجتمعه فيراه قد تزايد من سبعين نسمة يوم دخولهم مصر إلى أعداد يصعب حصرها، إذ صاروا كالنجوم في السماء كما تراها العين؛ هذا ومن جانب آخر إذ يرى نفسه أنه في عيني الله كالنجوم المتلألئة يحمل انعكاسات بهاء الله عليه، لا يعرف ماذا يقدم للرب سوى أن يرد له الحب بالحب، ويقبل وصاياه وأحكامه بكل اهتمام، بروح الطاعة الكاملة.

أقول هذا أيضًا من جهة عائلاتنا، إن تزايدت في النعمة، وحملت حياة سماوية بهية، وتجلى مسيحنا فيها، تمتلئ الأجيال الجديدة حبًا وطاعة لله ولوصاياه.

كثيرًا ما نلوم الأجيال الجديدة وننعتها بالتمرد وجفاف المشاعر والتذمر والفساد، مع أنه كان يليق بنا أن نلقي اللوم على أنفسنا. فإن الجيل الجديد وقد حُرم من التمتع بخبرة الحياة الكنسية السماوية الصادقة فينا كيف يقدر أن يحب؟ وكيف يمكننا أن نطالبه بروح الطاعة؟!

لقد طالب بالحب قبل حفظ الوصية أو الطاعة، فإن من يحب يشتهي أن يطيع، ويجد لذة وسعادة في طاعة محبوبه، أما من لا يحب فتكون الوصية بالنسبة له ثقلاً، بل وأحيانًا مستحيلة.

يركز موسى النبي في أحاديثه الوداعية على محبتنا لله، قائلاً: "أحبب الرب إلهك" [1]. حفظ وصايا الرب عن ظهر قلب والشهادة للإيمان المستقيم بالفم بغير حبٍ لا يفيد شيئًا. فإنه حتى الشياطين تعرف الله وتعترف به لكن بغير حب، لذا انتهرهم السيد المسيح (مر 1: 25). يقول القدِّيسون يوحنا الذهبي الفم وأمبروسيوس وأغسطينوس: [إنه حتى الشياطين تعترف بالمسيح بغير محبة، فلا ينفع ذلك شيئًا[110]].

الحب هو الذي يجعل إيماننا بالله حيًا، به نستطيع أن نتمم الوصايا. بدون الحب يصير الإيمان للدينونة والوصية مستحيلة، ولا ننتفع شيئًا.

v     قارن (اعتراف بطرس في مت 16: 16) بكلمات الشياطين الذين نطقوا بذات الكلمات تقريبًا (مت 8: 29؛ مر 1: 24؛ لو 8: 28)... فماذا إذن الفارق؟ تكلم بطرس في حبٍ، أما الشياطين فعن خوفٍ... أخبرونا كيف نعرف الإيمان، إن كانت حتى الشياطين يمكنها أن تؤمن وترتعب؟ أنه فقط الإيمان العامل بالمحبة هو الإيمان (الحق)[111].

القدِّيس أغسطينوس

v     الإيمان قدير، لكنه بدون الحب لا ينفع شيئًا. اعترفت الشياطين بالمسيح، لكن إذ كان ذلك بدون محبة لم تنل شيئًا... لا تنتفخ بذات الإيمان الذي يجعلك على مستوى الشياطين[112].

القدِّيس أغسطينوس

v     كل من الشياطين والمؤمنين يعترفون بالمسيح: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت 16: 16، مر 3: 11)... إنني أسمع اعترافًا متشابهًا (من الشياطين والمؤمنين) لكنني لا أجد محبة متشابهة. ففي أحدهما يوجد حب، وفي الآخر خوف. إنه محبوب لدى الأبناء، ومرعب لغير الأبناء[113].

القدِّيس أغسطينوس

ليست كلمة محببة لدى موسى النبي مثل "الحب"، فإن جوهر رسالته التي تسلمها من الله هي أن نقبل حب الله خلال تجاوبنا معه بالحب.

"واعلموا اليوم إني لست أريد بنيكم الذين لم يعرفوا ولا رأوا تأديب الرب إلهكم عظمته

ويده الشديدة وذراعه الرفيعة.

وآياته وصنائعه التي عملها في مصر بفرعون ملك مصر وبكل أرضه.

والتي عملها بجيش مصر بخيلهم ومركباتهم حيث اطاف مياه بحر سوف على وجوههم حين

سعوا وراءكم فأبادهم الرب إلى هذا اليوم.

والتي عملها لكم في البرية حتى جئتم إلى هذا المكان.

والتي عملها بداثان وابيرام ابني ألياب ابن رأوبين اللذين فتحت الأرض فاها وابتلعتهما

مع بيوتهما وخيامهما وكل الموجودات التابعة لهما في وسط كل إسرائيل.

لأن أعينكم هي التي أبصرت كل صنائع الرب العظيمة التي عملها" [2-7].

يبرز هنا مدى اهتمام الله بخلاص شعبه، وتقديسهم، مقدمًا مثلاً لمعاملات الله مع الذين في الخارج وآخر مع الذين في الداخل.

فبالنسبة للذين في الخارج، لقد سمح الله بتدمير بعض بلاد مصر الجميلة والغنية بثمارها وإمكانياتها العلمية والفنية، وذلك خلال العشرة الضربات، كما سمح أن يغرق فرعون وجنوده مع كل ما لديهم من خبرات عسكرية قوية ليُنقذ شعبه من أسر العبودية. الله يسخر كل شيء من أجل محبوبيه!

أما بالنسبة للذين في الداخل، فقد سمح بتدمير داثان وأبيرام وغيرهما (عد 16: 41) الذين سلكوا بروح العصيان والتمرد على الله وعلى نبيه موسى فاستخدموا نارًا غريبة. الله محب، وفي حبه حازم، يطلب نقاوة شعبه وقداستهم، ينزع الفساد لأجل بنيان الجماعة المقدسة.

يظهر مدى اهتمام الله بالقداسة مما فعله مع الشياطين التي شهدت له بالحق: "آه مالنا ولك يا يسوع الناصري... أنا أعرفك من أنت قدوس الله" (مر 1: 24)، إذ انتهره وأمره أن يخرس. وأيضًا ما فعله الرسول بولس مع الجارية التي بها روح عِرافة، إذ كانت تصرخ: "هؤلاء الناس هم عبيد الله العليّ الذين ينادون لكم بطريق الخلاص" (أع 16: 17)، التفتَ إليها وقال: "أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أع 16: 18). فما يريده السيد المسيح ورسله هو قداسة الخليقة.

v     لقد وضع (السيد المسيح) لجامًا على أفواه الشياطين التي صرخت إليه من القبور. فإنه وإن كان ما نطقوا به هو حق، ولم يكذبوا عندما قالوا: "أنت هو ابن الله"، "أنت هو قدوس الله" (مت 8: 29؛ مر 1: 24؛ لو 8: 28)، لكنه لم يرد أن يصدر الحق من فم دنس، خاصة من الذين تحت مظهر الحق يخلطون الخداعات مع الحق[114].

القدِّيس أثناسيوس الرسولي

2. احفظ وصاياه فتطول أيام حياتك:

الوصية المتكررة للشعب وهو داخل أرض الموعد ألا ينشغلوا بالأرض الجيدة، عطية الله، عن التمتع بالوصية الإلهية، مقدمًا لهم بركات حفظ الوصية:

أولاً: أن يملكوا "فاحفظوا كل الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم لكي تتشددوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي أنتم عابرون إليها لتمتلكوها" [8].

 إنهم يدخلون سلسلة من الحروب مع شعوب قوية لها خبرتها العسكرية، ومدنها الحصينة، وإمكانياتها الجبارة، الأمر الذي ينقص شعب إسرائيل. عمل الله أن يرافقهم كقائدٍ لهم، يهبهم القوة، ويقدم لهم النصرة حتى يملكوا. لم يعدهم كيف يدربهم على الأعمال العسكرية، من استخدام السيوف والسهام، ولا أن يقوم بتنظيم عسكري لصفوف المقاتلين، لكنه يقدم حضرته الإلهية سرّ نصرتهم وتمتعهم بالملكية، فحفظ الوصية الإلهية إنما يهيئهم للحضرة الإلهية، ويهبهم كل نجاحٍ حقيقي، واهبًا لهم أن يملكوا. الله يُريد منّا أن نملك بل ونصير ملوكًا أصحاب سلطان.

ثانيًا: أن تطول أيام حياتهم "ولكي تطيلوا الأيام على الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيها لهم ولنسلهم أرض تفيض لبنا وعسلاً" [9]، وقد سبق أن رأينا هذه المكافأة الصريحة قدمت لمن يكرم أباه وأمه. الآن من يكرم الله كأبٍ سماوي له، والكنيسة كأمٍ روحية يتمتع بذات المكافأة.

تحدثنا قبلاً عن إطالة أيام حياتنا على الأرض، فإن كثيرين ماتوا أطفالاً صغارًا لكن حياتهم في عيني الله ممتدة حتى على الأرض، حيث تبقى شاهدة لعمل الله، ومثمرة في حياة الكثيرين. أمثال ذلك أطفال بيت لحم الذين استشهدوا بعد ميلاد السيد المسيح، فقد بقيت سيرتهم حيّة هنا على الأرض، وصاروا موكبًا مجيدًا يُسر الله ويفرح قلوب السمائيين وجميع المؤمنين. من يكرم الوصية الإلهية بحفظها تكرمه هي بحفظه في المجد الأبدي.

بعض الشيوخ الذين عاشوا سنوات طويلة على الأرض إن قُيّمت حياتهم لا تساوي أيامًا قليلة، وربما ساعات أو دقائق، أو تحسب كلا شيء. فإن عمل الخطية هي أن تقصر حياة الإنسان، أو تجعل أيامه على الأرض موتًا وليست حياة، أما الطاعة للوصية الإلهية فتجعل من عمرنا عربونًا للحياة الأبدية المتهللة والمثمرة.

ثالثًا: أن تحل عليهم بركة الرب. يرى البعض أن المصريين إذ كانوا يقطنون في الوادي بجوار نهر النيل لا يعتمدون على بركة السماء مثل سكان أرض كنعان الذين يعتمدون بالكلية على مياه الأمطار، إذ أن الأمطار في مصر نادرة.

"لأن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها ليست مثل أرض مصر التي خرجت منها،

حيث كنت تزرع زرعك وتسقيه برجلك كبستان بقول.

بل الأرض التي أنتم عابرون إليها لكي تمتلكوها هي أرض جبال وبقاع.

من مطر السماء تشرب ماءً.

أرض يعتني بها الرب إلهك.

عينا الرب إلهك عليها دائمًا من أول السنة إلى آخرها" [10-12].

يتحدث الله مع شعبه كما مع طفلٍ صغيرٍ لم يبلغ بعد إلى النضوج؛ يقدم بركاته لهم من أرض خصبة وأمطار مبكرة ومتأخرة، ورعاية إلهية لكل احتياجاتهم الزمنية. هذه كلها تحمل مفاهيم رمزية يتمتع بها الناضجون روحيًا، عِوض الأرض يرون السماء بين أيديهم، وعِوض المطر يستقبلون روح الله القدوس حالاً في داخلهم، وعِوض العناية الإلهية باحتياجاتهم المادية يقدم الله ذاته هبة وعطية لهم.

يقدم لنا موسى النبي مقارنة بين أرض مصر وأرض كنعان، فأرض مصر التي كانت أرض العبودية بالنسبة لليهود تعتمد على مياه النيل والينابيع التي  تحت الأرض، أما أرض الموعد كنعان، فتعتمد على مياه الأمطار. الأولى ترتوي بمياه من تحت الأرض، والأخرى ترتوي بمياه من السماء. وكما يقول القدِّيس جيروم: [قام إبراهيم بكل هذه (الرحلات) لكي يسكن في أرض الموعد التي ترتوي من فوق، وليس كمصر من أسفل... إنها أرض التلال والوديان التي ترتفع فوق البحر. لا يوجد فيها إغراءات العالم نهائيًا، بل الإغراءات الروحية العظمى. مريم أم الرب تركت الأراضي المنخفضة (السفلية) وانطلقت في طريقها على التلال وذلك بعد سماعها رسالة الملاك، وتحققت أنها تحمل في داخلها ابن الله (يو 1: 26، 31، 39) [115]].

الري في مصر هو المشكلة الرئيسية، إذ يجب تجهيز القنوات لمياه النيل، ولكن الري في كنعان يتم بنعمة الله، إذ ينزل المطر بدون تعب البشر. ففي الخريف ينزل المطر المبكر وقت البذار، وفي الربيع ينزل المطر المتأخر وقت الحصاد (يع 5: 7) وهكذا يذكرنا الري في كنعان دومًا بعناية الله المدبرة، ويعطي مثالاً لحياة المسيحي الذي يهبه الرب بدون تعب، ما يجاهد الآخرون في نواله.

في كنعان تعتمد الزراعة على الأمطار في مواسم معينة، ليس في سلطان الإنسان أن يتحكم فيها. لهذا فإنه كل أمة لا تصعد إلى أورشليم لتسجد للملك رب الجنود يحل عليها غضب الله وتُنزع عنها البركة، وقد رُمز لذلك بالحرمان بالمطر، إذ قيل في زكريا: "ويكون أن كل من لا يصعد من قبائل الأرض إلى أورشليم ليسجد للملك رب الجنود لا يكون عليهم مطر؛ وإن لا تصعد ولا تأتِ قبيلة مصر ولا مطر عليها تكن عليها الضربة التي يضرب بها الرب الأمم الذين لا يصعدون ليعيدوا عيد المظال" (زك 14: 17-18).

تعبير "تسقيه برجلك" [10] يفهمه الفلاحون القدامى حيث كانوا أحيانًا بقدمهم يحركون قليلاً من الطمي فتتدفق المياه من مجرى إلى آخر لتسقي الأرض. هكذا في لحظات يستطيع الفلاح بقدمه أن يروي بستانه، وعندما يرتوي البستان يعيد الطمي من جديد حتى لا يغرق الزرع الصغير. كما أن هذا التعبير يحمل معنى أن السقي في قدرته إتمامه وتحت سلطانه، يعتمد على ذراعه البشري.

كان الفلاحون في مصر ينزلون بأرجلهم في الوحل ويهيئون مجاري المياه لتسقي الزرع، أما في كنعان فيجلسون في بيوتهم ويستريحوا ويقوم الله بسقي زرعهم بمياه الأمطار التي تدعى "أنهار الله أو سواقيه". وكما يقول المرتل: "تعهدت الأرض وجعلتها تفيض، تغنيها جدًا، سواقي الله ملآنة ماء" (مز 65: 9). هكذا يوجه الله أنظارنا لا إلى الأرض (نهر النيل)، بل نحو السماء (الأمطار)، لكي يسقي نفوسنا وأجسادنا بمياه روحه القدوس السماوي، فيتحقق الوعد الإلهي معنا: "أكون لإسرائيل كالندى" (هو 14: 5). وكما قال برنابا وبولس: "هو يفعل خيرًا، يعطينا من السماء أمطارًا، وأزمنة مثمرة، ويملأ قلوبنا طعامًا وسرورًا" (أع 14: 17).

لعل أعظم عطية قُدمت لهم هي: "عينا الرب إلهك عليها دائمًا من أول السنة إلى آخرها" [12]. إذ نعتمد على عناية الله المباشرة، وتتطلع أنظارنا نحو السماء تترقب مياه محبته، نراه متطلعًا إلينا بلا انقطاع من أول السنة إلى آخرها. الله في حبه لشعبه يود أنهم يرفعون أعينهم نحوه فتلتقي أعينهم بعينيه.

3. اعبد الرب بكل قلبك فتشبع:

من يشتهي بالحب أن يحفظ الوصية ترتفع أنظاره نحو الله، فيرى الله متطلعًا إليه بنظرات حب فائقة، وتفيض عليه ينابيع مياه الروح القدس لتروي بستان الحب الداخلي.

"فإذا سمعتم لوصاياي التي أنا أوصيكم بها اليوم لتحبوا الرب إلهكم وتعبدوه

من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم،

أعطي مطر أرضكم في حينه المبكر والمتأخر" [13-14].

ما هو هذا المطر المبكر إلا الروح القدس الذي عمل مبكرًا في العهد القديم حيث كانت بذار كلمة الله تغرس في أرض الإنسان، وأما المطر المتأخر فهو عطية الروح القدس في العهد الجديد. لهذا بعد أن تحدث هوشع النبي عن عمل قيامة المسيح فينا أشار إلى عطية الروح القدس بالمطر المتأخر، إذ يقول: "يُحْيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا أمامه. لنعرف فلنتتبع لنعرف الرب. خروجه يقين كالفجر يأتي إلينا كالمطر، كمطرٍ متأخر يسقي الأرض" (هو 6: 2-3). إنه يهب روحه للإنسان كمدينة تتمتع بالمطر عطية الله، "وأمطرت على مدينة واحدة، وعلى مدينة أخرى لم أمطر" (عا 4: 7).

المطر المبكر يسقط في نوفمبر في منطقة اليهودية بعد وضع البذار في التربة وتهيئة الأرض للزراعة، أما المطر المتأخر فيسقط في إبريل حيث يكون القمح قد نما ويحتاج إلى مياه، فتمتلئ السنابل بالقمح. بدون المطر المبكر لا يمكن البدء في الزراعة، وبدون المتأخر لا تأتي الزراعة بالمحصول اللائق.

الأرض التي تتمتع بالمطر المبكر والمتأخر تنتج المحاصيل التالية:

أولاً: محاصيل للإنسان "فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك" [14]. وكما يقول المرتل: "المنبت... خضرة لخدمة الإنسان لإخراج خبز من الأرض، وخمر تفرح قلب الإنسان لإلماع وجهه أكثر من الزيت، وخبز يسند قلب الإنسان" (مز 104: 14-15).

إذ يعمل الروح القدس فينا نجمع من أرض قلبنا التي تقدست به حنطة فنأكل من خبز الملائكة، ونشرب خمرًا روحيًا فنفرح بالرب، وننال زيتًا حيث نُمسح للرب كهنة وملوكًا. نتمتع بالشبع الداخلي والفرح الروحي والكرامة المقدسة في الرب.

ثانيًا: الطعام للحيوانات "وأعطي لبهائمك عشبًا في حقلك، فتأكل أنت وتشبع" [15]. يهتم الله حتى بالحيوانات والطيور من أجل الإنسان. يقول المرتل: "تشبع أشجار الرب أرز لبنان الذي نصبه، حيث تعشش هناك العصافير، أما اللقلق فالسرو بيته. الجبال العالية للوعول، الصخور ملجأ للوبار" (مز 104: 16-18).

إن كان الله يهب النفس شبعًا وفرحًا وكرامة (حنطة وخمرًا وزيتًا) فإنه أيضًا يشبع احتياجات الجسد، معطيًا للبهائم عشبًا. أما الإنسان الذي ينحرف عن الحب ويرفض الوصية فتصير حياته قفرًا لا بستانًا، ويفقد حياته.

"فاحترزوا من أن تنغوي قلوبكم،

فتزيغوا وتعبدوا آلهة أخرى، وتسجدوا لها.

فيحمى غضب الرب عليكم ويغلق السماء،

فلا يكون مطر،

ولا تعطي الأرض غلتها.

فتبيدون سريعًا عن الأرض الجيدة التي يعطيكم الرب" [16-17].

يليق بالمؤمنين أن يكونوا حذرين لئلاَّ يخدعهم أحد، فتنحرف قلوبهم عن الله إلههم، فيكون ثمر هذا الانحراف الآتي:

أولاً: حلول غضب الرب عليهم، عوض تمتعهم بتلاقي أعينهم بعيني الرب الناظرتين عليهم ليلاً ونهارًا يُحرمون من نظرات الرب الحانية، وحضرته واهبة كل بركة. يتطلع المؤمن إلى وجه الله فيجذبه إلى عينيه مترنمًا: "عيناه كالحمام على مجاري المياه مغسولتان باللبن، جالستان في وقبيهما" (نش 5: 12)، أما الأشرار فيصرخون: "عيناه كلهيب نارٍ" (رؤ 1: 14).

ثانيًا: انغلاق السماء أمامهم، فتصير كالنحاس، لا تقدم لهم مطرًا، ولا تنفتح أبوابها أمامهم. يُحرم الأشرار من مطر الروح القدس، فتتحول أعماقهم إلى قفرٍ، وإلى مسكن للأرواح الشريرة. وتجد الخطايا لها فيها مسكنًا، بكونها وحوش برية ضارية.

ثالثًا: تمتنع أرضهم عن الإثمار، حيث لا نجد فيها أثرًا لثمار الروح القدس من محبة وفرح وسلام الخ، بل تمتلئ من الشوك والحسك.

رابعًا: يهلكون سريعًا، ويُحرمون من الحياة على الأرض الجديدة. فبعدما نالوا الحياة الجديدة وإمكانية التمتع بالسمويات تُسحب منهم كل هذه النعم الإلهية، ويفقدون ما سبق أن تمتعوا به.

4. سمر وصاياه على قلبك فتختبر أيام السماء:

إذ يهبنا الله روحه القدوس، مطرًا مبكرًا ومتأخرًا، يحوِّل أعماقنا إلى فردوس مملوء من ثمر الروح. أما من جانبنا فبالروح القدس الساكن فينا نقدس كل ما لنا لحساب الوصية الإلهية: القلب والنفس والحواس من لمس ونظر وكلام، حتى النوم واليقظة والمسكن.

أولاً: تكريس القلب للوصية الإلهية، "فضعوا كلماتي هذه على قلوبكم" [18]. إنها كنز ثمين وعزيز علينا جدًا، لا نثق أن نودعها في مخازنٍ خارجية، بل مخزنها هو القلب بكل طاقات الحب التي فيه. فيه نخفي الوصية ونحوط بها بكل عواطفنا ومشاعرنا، كمن يحفظها فتحفظه هي.

ثانيًا: تكريس النفس للوصية، "ونفوسكم" [18]. تعاملنا معها ليس على مستوى المظهر الخارجي المجرد، لأنها إذ تختفي في النفس تُخرج كل التصرفات لتظهر كثمرٍ طبيعيٍ ورد فعل لسكناها داخل النفس. تقطن فينا، فنقطن نحن أيضًا فيها.

ثالثًا: تكريس كل أعمالنا ولمسات أيدينا بالوصية، "واربطها علامة على أيديكم" [18]. لننقشها على أيدينا، فينقش الله أسماءنا على كفيه، "هوذا على كفي نقشتك" (إش 49: 16). وكما سبق فقلنا أنه لا تزال عادة وضع علامة على اليد أو الإصبع ليتذكر الإنسان أن يمارس عملاً هامًا يلتزم به. هكذا إذ نربط أيدينا بالوصية لا ننسى قط التزامنا نحو الله بأن نرد له حبه بالحب.

رابعًا: تكريس نظراتنا للوصية، "ولتكن عصائب بين عيونكم" [18]، لا نرى أحدًا أو شيئًا إلا من خلالها. بالوصية تصير لنا نظرة جديدة نحو الله والإنسان والعالم والجسد والزمن وكل ما يحيط بنا أو في داخلنا.

خامسًا: تكريس اللسان للوصية، "وعلّموها أولادكم متكلمين بها حين تجلسون في بيوتكم، وحين تمشون في الطريق" [19]. مع القريب والغريب ليس لنا ما نتحدث به معهم سوى كلمة الرب.

سادسًا: تكريس لحظات النوم واليقظة للوصية، "وحين تنامون وحين تقومون" [19].

سابعًا: تكريس المسكن للوصية، "واكتبها على قوائم أبواب بيتك، وعلى أبوابك" [20].

يعود فيؤكد البركات التي تحل بهم بحفظهم الوصية والطاعة:

أولاً: حياة مثمرة وممتدة ومباركة

"لكي تكثر أيامك وأيام أولادك على الأرض التي أقسم الرب لآبائك أن يعطيهم إيّاها كأيام السماء على الأرض" [21].

تحول الوصية أيامنا على الأرض إلى أيام سماوية. كل لحظة من لحظات عمرنا لها تقديرها في عيني الله. إننا كمؤمنين حقيقيين يلزمنا أن نحمل ربنا يسوع المسيح السماوي في قلوبنا، فتصير السماء ليست ببعيدة عنّا، بل أقرب إلينا من كل ما هو حولنا. نحمل ربنا يسوع المسيح مع سمعان الشيخ على أذرعنا الداخلية، ونطوف به حول المذبح الذي أقامه الله فينا، السماء الجديدة، عندئذ يلتهب قلبنا بالشوق إلى الأبديات، فنترنم قائلين: "الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك، لأن عينيّ قد رأتا خلاصك" (لو 2: 29).

نرتفع مع بطرس ويعقوب ويوحنا في معية السيد المسيح السماوي على جبل التجلي، فنرى مجد الرب السماوي، ونصرخ قائلين: "يا رب جيد أن نكون ههنا".

هكذا نسير مع مسيحنا السماوي القائم من الأموات طوال طريق حياتنا فنردد مع تلميذي عِمواس: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق؟!" (لو 24: 22).

تتحول حياتنا إلى حوارٍ ممتعٍ مع السماوي، فننعم بما نالته السامرية التي تركت كل ما لديها، جرتها التي تشير إلى كل ما هو زمني، لتنطلق إلى اخوتها، تدعوهم للقاء مع السماوي الذي قال لها كل ما فعلت (يو 4: 29).

باختصار صارت الأخرويات مركزها هو حضور المسيح السماوي القائم من الأموات في عالمنا، يهبنا روحه القدوس الذي يشكلنا لنصير أيقونة السماوي، ويحوّل قلبنا الترابي إلى سماء جديدة. فتصير الأبدية أمرًا نذوق عربونه، ونلمسه في واقعنا العملي. وكما يقول القدِّيس أكليمندس السكندري: [إنه بالنسبة للغنوصي (محب المعرفة الروحية) تصير الأرض سماءً![116]].

v     يجب أن تتوقوا إلى السماء، والأمور التي في السماء، بل حتى قبل بلوغنا السماء، فقد أمرنا أن نجعل الأرض سماءً، وأن نتصرف ونتحدث في كل الأمور كما لو كنا نتحدث هناك، بينما نحن على الأرض.

هذا أيضًا يجب أن يكون غاية صلاتنا التي نقدمها للرب. فلا شيء يُعيق وصولنا إلى كمال القوى العلوية لأننا نقطن على الأرض؛ إنه من الممكن حتى ونحن نسكن هنا أن نفعل كل شيء كما لو كنا قاطنين سلفًا في الأعالي[117].

v     حقًا لقد جاء السيد ليُلغي الأمور القديمة ويدعونا إلى وطن أعظم.

إنه يصنع كل شيء ليعتقنا من الأمور غير الضرورية، ومن عاطفتنا نحو الأرض.

لهذا السبب أشار إلى الوثنيين أيضًا قائلاً: "إن هذه كلها تطلبها الأمم" (مت 6: 33)؛ التي تقدم تعبها كله من أجل الحياة الحاضرة، ولا تُبالي بالأمور المقبلة، ولا بأي فكر سماوي[118].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     عندما تتحقق إرادة الله بواسطتنا نحن الذين على الأرض كما تتحقق بالذين هم في السماء نتشبه بالسمائيين، إذ نحمل مثلهم صورة السماوي (1 كو 15: 49) ونرث ملكوت السماوات (مت 25: 34). ويأتي الذين بعدنا وهم على الأرض يصلون لكي يتشبهوا بنا إذ نكون نحن في السماء (الفردوس) [119].

العلامة أوريجانوس

v     الخالق نفسه هو موضع الإنسان، لكن ليس كمكانٍ (مادي)، فقد جبله ليسكن فيه. وإذ أعطى الإنسان أذنه للمجرب هجر مسكنه، هجر حب الخالق. فلكي يخلصنا القدير ظهر لنا جسديًا، وإن أمكنني القول، إنه اقتفى أثر الإنسان الذي هرب منه وجاء به إليه كموضعٍ يُحفظ فيه الإنسان المفقود[120].

الأب غريغوريوس الكبير

ثانيًا: حياة نصرة وتمتع بميراث أعظم.

"لأنه إذا حفظتم جميع هذه الوصايا التي أنا أوصيكم بها لتعملوها،

لتحبوا الرب إلهكم، وتسلكوا في جميع طرقه، وتلتصقوا به.

يطرد الرب جميع هذه الشعوب من أمامكم،

فترثون شعوبًا أكبر وأعظم منكم" [22-23].

مع ضخامة العدو من جهة العدد، وإمكانياته وخبراته العسكرية العظمى، إلا أن الله يعطي أولاده الحافظين جميع وصاياه روح الغلبة والنصرة. إنه يهبهم أن يرثوا بركات كثيرة. هذه النصرة وذلك الميراث يُقدم للذين يحفظون الوصايا الإلهية ويمارسونها عمليًا، معلنين حبهم للرب ملتصقين به. إنه يطلب منهم الالتصاق به بكونهم أبناءه الأعزاء جدًا لديه، أو العروس السماوية التي تتحد به كعريس سماوي. غاية الوصية الحب الذي يقدم اتحادًا فائقًا وعجيبًا بين الله والإنسان .

يحسب كلمة الله أنه صار جسدًا واحدًا مع النفس أكثر من صيرورة الإنسان جسدًا واحدًا مع زوجته (تك 2: 24). لمن يليق بالأكثر أن يكون روحًا واحدًا مع الله إلا للنفس البشرية التي ترتبط هكذا بالله بالحب حتى يُقال عنها تصير روحًا واحدًا مع الله[121]؟

العلامة أوريجانوس

ثالثًا: حياة النمو الدائم

"كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم.

من البرية ولبنان.

من النهر، نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم" [24].

تحقق هذا حرفيًا في أيام سليمان (2 أي 9: 26)، ولا يزال يتحقق روحيًا في حياة كل مؤمن. فمن يطأ محبة العالم بقدمي قلبه يستعبد العالم، وأما من ينحني أمام العالم مشتهيًا ملذاته وغناه وكرامته يطأ العالم بقدميه عليه ويستعبده. حين نطأ محبة العالم بأقدامنا تخضع لنا البراري القفر والأراضي الخصبة المملوءة بالثمار، ويمتد سلطاننا من المشارق إلى المغارب، وتصير تخمنا متسعة جدًا تحتضن إن أمكن الكل.

رابعًا: حياة المهابة والوقار

"لا يقف إنسان في وجهكم.

الرب إلهكم يجعل خشيتكم ورعبكم على الأرض التي تدوسونها كما كلمتكم" [25].

من يكرم الوصية ويمارس مخافة الرب ينال كرامة ويهبه الله مخافة أمام الجميع.

 5. تمتع ببركة الطاعة لا لعنة العصيان:

لخص موسى النبي كل أحاديثه عن الوصية الإلهية وحفظها والطاعة أو العصيان في كلمتين "البركة واللعنة".

"انظر. أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة" [26].

وهبنا الله حرية الإرادة؛ لنا أن نقبل البركة أو اللعنة؛ في سلطاننا أن نستخدم هذه العطية "الإرادة الحرة" إما للبركة أو للعنة، وذلك بالطاعة لله أو عصيانه. إننا لسنا خليقة غير عاقلة يحركها الله بغير إرادتها، لكنه وهو القدير ترك لنا كمال الحرية حتى إذ نسلك بنعمته بالطاعة نتكلل، وإن رفضنا عمله فينا نُدان.

"البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم.

واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم،

لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها" [27-28].

يقدم الله وعودًا وتهديدات. بالوعود، لا يقتني لنفسه شيئًا بل يهب ماله للإنسان، وبالتهديدات لا يحمل عاطفة انتقام، إنما نصيحة حب عن ثمر العصيان الطبيعي، وما يفعله في حياة البشرية.

هذه البركات التي يعد بها وهذه اللعنات التي يحذرهم منها ليست بالأمور الخفية، لكنها أمور خطيرة يعلنها أمام الجماعة على جبلي جرزيم وعيبال. قد تم ذلك قبل عبورهم نهر الأردن (تث 27: 11)، وأيضًا بعد العبور (يش 8: 33).

"وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها،

فاجعل البركة على جبل جرزيم،

واللعنة على جبل عيبال" [29].

يتحقق هذا في أول المناطق التي ذهب إليها إبراهيم في كنعان حيث تسلم وعدًا إلهيًا (تك 12: 6-7).

تحقق هذا قبل دخول كنعان ليشجعهم على الإيمان والتمتع بالوعود الإلهية، وتم بعد دخول كنعان لكي يستمر الشعب في الطاعة والنمو في الوصية.

لماذا اختار جبلي جرزيم وعيبال؟

كلمة "جرزيم" مشتقة من الفعل العبري gaaraz ويعني "يقطع أو يحصد" حيث كان الجبل غنيًا بالأشجار والثمار، لهذا صار مناسبًا للحديث عن البركة. أما "عيبال" فليس له أصل عبري إنما غالبًا من الكلمة العبرية "عبالاً"، وتعني خشونة أو متهلهل الخ[122]، أو ربما من abalo وتعني حجارة بيضاء، إذ كان الجبل قفرًا ليس عليه خضرة.

"أما هما في عبر الأردن وراء طريق غروب الشمس في أرض الكنعانيين الساكنين في العربة مقابل الجلجال بجانب بلوطات مورة.

لأنكم عابرون الأردن لتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب إلهكم يعطيكم تمتلكونها وتسكنونها.

فاحفظوا جميع الفرائض والأحكام التي أنا واضع أمامكم اليوم لتعملوها" [30-32].

أعلن الشعب كله مع الخدام قبولهم العهد الإلهي، لينالوا البركات الإلهية المعلنة على جبل الجرزيم، ويتحاشوا اللعنات المعلنة على جبل عيبال، وذلك بحفظ الوصايا والفرائض والأحكام الإلهية عمليًا.

الآن تمتد أنظارهم نحو أرض الموعد ليعبروا إلى الجلجال، وهناك يقيمون مذبحًا، ينصبون خيمة الاجتماع ويضعون تابوت العهد. يعبروا ليدخلوا أرض الموعد ويملكوا ما قدمه الله لهم. هكذا يليق بنا أن نعبر خلال الطاعة للوصية إلى كنعان السماوية، فلا نقيم مذبحًا حجريًا ولا خيمة اجتماع ولا تابوت عهد، بل نتمتع بالحضرة الإلهية الفائقة، ونقيم كملوك مع ملك الملوك، بروح النصرة والغلبة.

 


 

من وحي تثنية 11

هب لي ولأولادي

أيام السماء على الأرض!

v     دخلت بشعبك إلى أرض الموعد،

أرض تفيض عسلاً ولبنًا!

لا تحتاج إلى مياه النيل لكي تسقيها،

إنما أنت ترويها بمطر السماء!

عجيبة هي عنايتك بشعبك!

عيناك عليهم من أول السنة إلى آخرها.

v     هب لي أن اختبر أيام السماء على الأرض.

ترويني بمطر نعمتك الفائقة.

يداك تقدمان لي عذوبة السماء،

فأقدمها للأجيال الجديدة خبرة حياة!

v     احمل إليهم كلماتك التي في قلبي.

يودعها قلبي في قلوبهم.

يختبرون معي بركة الوصية،

وينعمون بالحياة الإلهية المطوّبة.

v     خطيتي أفقدتني رؤية عينيك.

خطيتي أغلقت أمامي أبواب السماء،

فصارت نحاسًا تصد كلماتي.

خطيتي أفقدتني أمطار حبك الفائق.

v     لتعمل كلماتك في قلبي،

فترتفع نظراته إليك.

تلتقي عيناي بعينيك،

فيذوب قلبي حبًا.

بكلمتك يتقدس قلبي ونفسي.

بوصيتك تتقدس يداي وكل حواسي.

بوصيتك أصير بكليتي لك.

استعذب سمواتك، وأصير سماءً تسكن أنت فيها.

<<

 

 


 

العظة الثانية

القسم الثاني

الوصايا أو الشرائع الخاصة

[12- 26]

"كتاب الشريعة":

يعتبر هذا الجزء جسم السفر كله، مقدِّمًا شرائع تمس الحياة التعبديَّة واليوميَّة للشعب ولكل عضو يعيش في المدن أو القرى. أنَّه يمثِّل الخيط الذي يربط ما بين عصر الآباء (إبراهيم واسحق ويعقوب) والعهد الجديد مهيِّئًا الطريق خلال النبوَّات والشريعة. لذا يُعتبر - بمفهومه الروحي - أساس إيماننا المسيحي. ففي عصر الآباء تلمسنا حب الله ورعايته لمختاريه كأفراد، الآن يترِّجم الرب حبُّه ورعايته خلال شرائع تمس حياة الجماعة كما حياة الفرد اليوميَّة ليختبر الكل اهتمام الله بحياتنا بكل دقائقها، خلال طاعتنا للوصيَّة الإلهيَّة.

خلال هذا الدستور يكشف الله عن ذاته بكونه القدُّوس الذي لا يطيق الخطيَّة، والرحيم في ذات الوقت. القدُّوس لا يطيق الانحراف نحو العبادة الوثنيَّة ورجساتها، وبرحمته يكشف عن الذبيحة الحيوانيَّة كرمز لذبيحة المسيح الفريدة المفرحة.

يعزل البعض الأصحاحات من (12-26) عن بقيَّة سفر التثنية، ويسمُّونها "اشتراع (Code) التثنية". لكن في الواقع تُعتبر هذه الأصحاحات تكملة للحديث السابق، فإن موسى يتقدَّم واضعًا أمام الشعب الوصايا والفرائض الدينيَّة والمدنيَّة والاجتماعيَّة والعائليَّة للحياة في كنعان، مع التشجيعات والإنذارات.

<<


 

الأصحاح الثاني عشر

الهيكل وإزالة كل أثرٍ للوثنيَّة

يحمل هذا الأصحاح خطِّين واضحين:

1. إن كان الله قد قدَّم لهم أرض الموعد كهبة إلهيَّة مجَّانيَّة، فمن جانبهم يلتزمون بإزالة كل أثر للنجاسة فيتمتَّعون بالحياة المقدَّسة. كان إسرائيل في ذلك الحين من أحدث الأمم الناشئة، وكان الشعب الداخل أرض الموعد قد وُلد في البريَّة لا يحمل خبرات الأمم القديمة. لهذا كان الاحتمال كبيرًا أن يُبهر الشعب بما يراه في أرض الموعد من ثقافات وإنجازات. لهذا جاء الأمر الإلهي مشدِّّدًا بهدم كل ما يمت للأوثان.

2. وهبهم الله الأرض المقدَّسة، وفي نفس الوقت طالبهم أن يقيموا له بيتًا مقدَّسًا له، في الموقع الذي يحدده لهم. يعطي الكثير ويطلب منهم ممَّا أعطاهم لتأكيد الحب المشترك بينه وبينهم.

بعد أن تحدَّث موسى النبي عن بركات قبول الوصيَّة الإلهيَّة والتجاوب معها، واللعنة التي تحل بمن يعصاها، تحدَّث عن إزالة كل أثرٍ للعبادة الوثنيَّة. فالتساهل مع الخطيَّة أو ترك آثارها يسحب قلب المؤمن تدريجيًا عن محبَّة الله، ويفسد أعماقه، فلا يجد لذَّة وعذوبة في الوصيَّة الإلهيَّة. هذا وقد أمر بضرورة عدم تقديم ذبائح خارج المكان الذي يحدِّده الرب لإقامة عبادة مقدَّسة، حتى لا يعطي لأحدٍ فرصة أن يقدِّم ذبيحة لغير الله أو يعبد الله بطريقة تشبه العبادة الوثنيَّة. وأيضًا عدم شرب الدم كعادة الوثنيِّين، وعدم السؤال عمَّا كان الوثنيُّون يمارسونه حتى لا ينشغل المؤمنون بما يلوِّث أفكارهم. هكذا حرص الله ألاَّ يتسلَّل أدنى دنس من العبادة الوثنيَّة وعاداتها إلى شعبه الذي اختاره ليكون مقدَّسًا له.

تعبد الكنعانيُّون لآلهة كثيرة، فكانوا يقيمون مذابح في مواضع مختلفة. هنا يثبت فكرة الوحدانيَّة في أذهان الشعب لمنع تقديم الذبائح في غير الموضع الوحيد المختار كهيكل لله [1-14]، حيث يسكن اسم الله [11] . قبل هيكل أورشليم كان مقدس الرب هو خيمة الاجتماع أو تابوت العهد.

الله هو الذي يختار موضع مقدسه، بل ويختار الطريقة التي يُعبد بها، رافضًا أن يتبنَّى شعبه طريقة الكنعانيِّين في العبادة [31]. يرفض ما اعتاد الكنعانيُّون عليه من شرب الدم [15-28]، وأيضًا تقديم ذبائح بشريَّة [29-31].

1. إزالة آثار الوثنيَّة                           [1-4].

2. إقامة بيت الله                               [5-15].

3. الامتناع عن شرب الدم                     [16].

4. الأكل أمام الرب                             [17-18].

5. الاهتمام باللآوي                            [19].

6. عدم أكل الدم                                [20-28].

7. عدم الاستفهام عن العبادة الباطلة           [29-32].

1. إزالة آثار الوثنيَّة:

حينما يستريح الإنسان من تجاربه غالبًا ما ينسى الله ويتجاهل وصيَّته، لهذا يؤكِّد موسى النبي لشعبه أنَّهم متى ورثوا الأرض حسب وعد الله لهم وجب عليهم أن يحفظوا الوصيَّة الإلهيَّة.

"هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعملوها في الأرض التي أعطاك الرب إله آبائك لتمتلكها كل الأيَّام التي تحيون على الأرض" [1].

بقوله "في الأرض" واضح إن الكاتب يشعر بأن دخول إسرائيل إلى أرض الموعد وشيك، هذا ما يسود السفر كله.

يؤكِّد لهم أن الوصيَّة ملزمة للإنسان مادام حيًّا على الأرض. لم تُقدِّم له لكي يسلك بها وقت الشدَّة فقط في البريَّة، وإنَّما يلتزم بها هي بعينها في كنعان. يليق أن يجاهد الإنسان في الطاعة للوصيَّة حتى النفس الأخير.

جاءت الوصيَّة العظمى صريحة أنَّه لا يوجد ألاَّ إله واحد، يجب أن يعبدوه دون غيره من الآلهة الباطلة. لهذا عندما يدخلون الأرض يمحون كل أثر للعبادة الوثنيَّة.

"تخربون جميع الأماكن حيث عبدت الأمم التي ترثونها،

آلهتها على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء.

وتهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم،

وتحرقون سواريهم بالنار،

وتقطعون تماثيل آلهتهم،

وتمحون اسمهم من ذلك المكان" [2-3].

السواري asherahs هي أعمدة خشبيَّة كانوا يقيمون عليها الأصنام للعبادة.

من العجيب أنَّه يقول للجيل الذي يدخل كنعان لأول مرة "الأرض التي ترثونها" [2] كأنها كانت ملكًا لآبائهم وقد ورثوها عنهم. لقد وعد الله إبراهيم أن يُعطي هذه الأرض لنسله، فحسبها قد صارت لهم حتى ولو لم يكونوا بعد قد وضعوا أياديهم عليها. الآن جاء هذا الجيل لكي يملك ويرث ما هو لآبائهم.

بقوله: "آلهتهما على الجبال الشامخة وعلى التلال وتحت كل شجرة خضراء" [2]. يعلن كما لو أن الآلهة الوثنيَّة بانتشار مذابحها قد احتلت هذه المواقع التي كان يجب تقديسها للرب خالق المسكونة. احتلَّت الجبال والتلال إشارة إلى أنَّها آلهة ثابتة ومرتفعة ليس من يقدر أن يحطِّمها، وتحت كل شجرة إذ كان سكان المنطقة يعتبرون آلهتهم هو مصدر الخصوبة والأثمار. كان يجب إزالة كل أثر للوثنيَّة في هذه المواقع ليُعلن الشعب أن الله وحده هو حصن شعبه الذي لن يتزعزع. يرفعهم إلى أعالي السموات، ويهبهم لا خصوبة الحيوانات والنباتات فحسب بل وثمر الروح المتزايد.

أولاً: أراد الله إبادة كل أثر للأوثان، لأن الأرض صارت مقدَّسة للرب، فلا يمكن الجمع بين المقدَّسات الإلهيَّة والآثار الدنسة التي تحمل رائحة الرجاسات. لم يقبل أن تستخدم الأماكن الوثنيَّة لعبادة الله الحيّ حتى لا يحدث خلط بينهما. من يلتقي بالله القدُّوس يبغض "حتى الثوب المدنَّس من الجسد" (يه 23).

ثانيًا: إذ اختارهم الله خاصَّته، يعتز بهم ويكرمهم، لهذا يليق بهم أن يختاروا الله دون سواه، فيخجلوا من الوثنيَّة ويرذلونها تمامًا ويبغضونها. وكما يقول الرسول: "كونوا كارهين الشرّ ملتصقين بالخير" (رو 11: 9).

ثالثًا: لم يسمح ببقاء أي أثر للوثنيَّة لئلاَّ تجتذب النفوس الضعيفة في لحظات ضعفهم، فينحرفوا نحوها.

رابعًا: يعلن ملكوت الله في حياة الناس، وأيضًا في المكان المقدَّس، فلا نعزل تقديس الإنسان عن تقديس المكان الذي يعبد فيه إلهه.

خامسًا: أمرهم ألاَّ ينقلوا العادات الوثنيَّة إلى عبادة الله. "لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم" [4]. لقد خشي لئلاَّ يحاولوا أن يكرموا الله فيقدِّمون الذبائح على الجبال والتلال وتحت كل شجرة خضراء كما كان يفعل الوثنيُّون. فإن الله لا يطلب هذه الأمور، بل الطاعة له. لا يليق بنا أن نكرمه حسب فكرنا البشري، بل حسب فكره الإلهي.

سادسًا: يقدِّم لنا مبدأ هامًا يمس حياتنا العمليَّة، خاصة الروحيَّة، وهو عدم الخلط بين الحق والباطل، بين الكلمة والنور. فيليق بالمؤمن الذي يود الشركة مع الله النور أن يرفض كل أعمال الظلمة، يلزمه أن يخلع كل أعمال الإنسان القديم ويلبس الإنسان الجديد بكل أعماله وأفكاره. لا يتهاون مع فكر واحد شرِّير بل يحطِّمه تمامًا، متذكِّرًا كلمات يوحنا الحبيب: "إن قلنا إن لنا شركة معه (الله) وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق" (1 يو 1: 6).

هل لا تزال الوصيَّة الخاصة بإبادة الأوثان قائمة اليوم؟

كلُّنا في حاجة إلى إبادة الوثن الذي نقيمه في داخلنا، فكل ارتباك أو انشغال يفصلنا عن الله، ويفقدنا رؤية السمويَّات هو وثن يجب تحطيمه. ليست المادة ولا العمل في ذاته ولا الأحداث المفرحة أو المحزنة هي الوثن بل انشغال القلب والفكر وانحرافهما عن الاهتمام بخلاص الإنسان هو الوثن.

 2. إقامة بيت الله:

الله، إله الأرض كلَّها، لكنَّه اختار موضعًا خاصًا يُدعى اسمه عليه: "موضع اسم رب الجنود" (إش 18: 7)، "موضع مسكن مجدك" (مز 26: 8). لقد حدَّد لهم الالتزام بمكانٍ معيَّن يختاره الرب كبيت له، يقدِّمون فيه عبادتهم وتقدماتهم وذبائحهم، لكنَّه لم يكن بعد قد حدَّد موقعه، بل ترك ذلك إلى بعد استلامهم الأرض، فهو يقدِّم الوصيَّة في وقتها المناسب.

واضح أن الكاتب لم يكن يعرف موقع الهيكل حتى لحظات الكتابة ممَّا يرجح أن السفر قد كتبه موسى النبي أو بعد انتقاله قبل بناء الهيكل في أورشليم.

ربًّما يظن البعض أن كتاب الشريعة قد بدأ بالجانب السلبي إذ يعلن عن هدم كل ما للأمم، لكن من الواضح أنَّه يهدف إلى الجانب الإيجابي: تأكيد دور الذبيحة والدم في حياتهم الذي لن يتحقَّق مع بقاء العبادة الوثنيَّة.

يربط ما بين تحطيم كل ما للأمم خاصة العبادة الوثنيَّة وإقامة مسكن لله في وسطهم. الأرض التي استخدمت قبلاً للدنس هي بعينها تتقدَّس لتُحسب موضع سكنى الله. لا يريد الله الهدم بل البناء، محوِّلاً طاقاتنا من الشرّ إلى الخير.

لما كان الهيكل هو موضع الذبيحة ومركز حياة شعب الله الداخل في ميثاق مع الله، لذا يؤكِّد هنا أن الله نفسه هو الذي يختار موضعه [5، 11، 18] ليدعى فيه اسمه، وأنه موضع واحد. حقًا إن الذبائح الحيوانيَّة متعددة لتكشف جوانب الصليب الكثيرة، لكنَّها تقدِّم في هيكل واحد، كأنَّها ذبيحة غير متكرِّرة.

لم يسمح الله لشعبه بتقديم الذبائح في أي موضع غير المكان الذي اختاره لنفسه ليكون بيتًا له، وفيه يُقام مذبح له. بهذا يحفظهم من السقوط في تقديم ذبائح للأوثان أو على مذابح وثنيَّة.

"بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه،

سكناه تطلبون،

وإلى هناك تأتون.

وتقدِّمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار

بقركم وغنمكم" [5-6].

كان تابوت العهد يمثِّل الحضرة الإلهيَّة، وحيث يُوجد ينسب الله المكان إليه، ويحسبه بيته المقدَّس. يحوي التابوت لوحيّ الشهادة، فلا ينال أحد بركة إلاَّ من خلال تابوت العهد الذي يمثِّل تقديم الشريعة أو كلمة الله كما من فم الله نفسه.

 أثناء رحلتهم في البرِّيَّة لم تكن خيمة الاجتماع دائمًا منصوبة، ولم يكن ممكنًا تحديد موقع معيَّن لممارسة العبادة. هذا ولم يكن ممكنًا ممارسة كل الطقوس حسب الشريعة، أمَّا بعد بناء الهيكل في الموقع الذي اختاره الرب فقد صار الأمر مختلفًا تمامًا.

استقر تابوت العهد أولاً في شيلوه، ولكن بسبب الشرّ الذي ارتكبه الشعب حلّ غضب الله على الموضع. انتقل من موضع إلى آخر وأخيرًا في أيَّام داود النبي تثبَّت في أورشليم حتى قام سليمان بن داود ببناء الهيكل، وتراءى الرب لسليمان ليلاً، وقال له: "اخترت هذا المكان لي بيت ذبيحة" (2 أي 7: 12). ما فعله سليمان كان عطيَّة من قبل الله له ولشعبه، إذ قال: "وأنا بنيت لك بيت سكني مكانًا لسكناك إلى الأبد" (1 أي 6: 2). "مبارك الرب إله إسرائيل الذي كلَّم بفمه داود أبي وأكمل بيديه قائلاً: "منذ يوم أخرجت شعبي من أرض مصر لم أختر مدينة من جميع أسباط إسرائيل لبناء بيت ليكون اسمي هناك، ولا اخترت رجلاً يكون رئيسًا لشعبي إسرائيل، بل اخترت أورشليم ليكون اسمي فيها" (1 أي 6: 4-6).

في العهد القديم كان تقديم الذبائح في بيت واحد لله، أمَّا في العهد الجديد فقد صارت الأرض وملؤها للرب ولمسيحه، يقدِّم بخور للرب في كل مكان (ملا 1: 11). كما أعلن السيِّد المسيح للمرأة السامريَّة أن العبادة الحقَّة لا ترتبط بهذا الجبل ولا بأورشليم، بل بالروح والحق أينما وجد المؤمنون الحقيقيُّون (يو 4: 23).

ماذا يفعلون في بيت الرب؟

أولاً: يقدِّمون المحرقات والذبائح والتقدمات [6، 11]، فإنَّه يليق بالمسيحي أن يقدِّم ذبائح الحب لله.

ثانيًا: أن يأكلوا هناك أمام الرب: "وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم " [7]. إنَّه لا يطلب فقط تقديم عطاياهم التي هي في الواقع جزء من هباته لهم، إنَّما يطلب أيضًا أن يتقدَّموا ليأكلوا طعامًا مقدَّسًا. أنَّه يريد أن يُشبع أعماقهم، يطلب ما لهم، لا ما هو له، لأنَّه غير محتاج إلى شيء. إلهنا يشتاق أن يجلس معنا ونحن معه، يأكل معنا ونأكل معه، على مستوى الصداقة والحب، لذا يقول: "هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب ادخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي" (رؤ 3: 20).

يُريدنا أن نأكل أمامه فيشبع قلوبنا بحبُّه وعقولنا بمعرفته وحواسنا بقداسته، واهبًا إيَّانا شبعًا لكل أعماقنا.

ثالثًا: أن يمارسوا الفرح في الرب في هذا البيت، مؤكِّدًا الالتزام بالفرح [7، 12، 18]. يكرر في هذا السفر الدعوة للفرح أمام الرب (14: 26؛ 16: 11، 14؛ 26: 11؛ 27: 7).

"وتفرحون بكل ما تمتد إليه أيديكم،

أنتم وبيوتكم كما بارككم الرب إلهكم" [7].

لعلَّه يتحدَّث هنا عن الاحتفال بالأعياد الرئيسيَّة التي فيها تقدَّم ذبائح معيَّنة، فإنَّه يود أن يجعل من بيته "بيت الفرح" الذي فيه يجتمع المؤمنون معًا ليحتفلوا بالعيد.

أحد ملامح العبادة اليهوديَّة والحياة هي الفرح (تث 12: 7، 18). ليس شيء يفرِّح قلب الله مثل أن يفرِّح أبناؤه به في بيته، لهذا لم يسر بهم حين غطُّوا مذبحه بالبكاء والصراخ (ملا 2: 13).

يفرح المؤمن بالرب ويسحب قلوب أسرته وعبيده ومن حوله ليحيوا بالفرح في الرب. الإيمان هو دعوة للتمتُّع بالفرح الداخلي السماوي، ننعم به وسط الآلام، ونعيشه حتى في لحظات البكاء وخلال دموع التوبة. فمع مرارة التوبة تختبر النفس فرح الروح وسلام القلب. بالفرح يقبل المؤمن كل الأتعاب ويعبر الضيقات متمتِّعًا بالشركة مع مسيحه واهب الفرح الحقيقي.

v     عذوبة التفاح تُعوِّض مرارة الجذور. والرجاء في نوال ربح يعطي بهجة أثناء مخاطر البحر. وتوقع نوال الصحَّة يخفِّف ما يسبِّبه الدواء من رغبة في القيء. من يرغب في المكسَّرات (لوز أو بندق الخ) يكسر غلافها. هكذا من يرغب في الفرح بالضمير المقدَّس يحتمل بسهولة مرارة التوبة[123].

القدِّيس جيروم

يرى القدِّيس أغسطينوس أن سرّ فرح المؤمنين هو تمتُّعهم بجمال الحق الإلهي إذ يقول:

v     الآن تطلَّع يا يسوع الطوباوي من جبلك المقدَّس. انظر إلى مؤمنيك الحقيقيِّين وسط الجماهير، فإنَّهم لا يجدون بهجة إلاَّ في أن يُسألوا ويُقاوموا ويحاورهم الآخرون على الدوام.

افتح عن عيونهم أيُّها الرب، فيروك ويندهشون بجمال حقَّك، ويجرون إليك متعبِّدين لك[124].

القدِّيس أغسطينوس

رابعًا: أن يفرح معهم اللآوي الذي في أبوابهم [12].

"وتفرحون أمام الرب إلهكم أنتم وبنوكم وبناتكم وعبيدكم وأماؤكم واللآوي الذي في أبوابكم،

لأنَّه ليس له قسم ولا نصيب معكم" [12].

إن كان يبدو أن الذكور وحدهم كانوا ملتزمين بالحضور إلى بيت الرب للاحتفال بالعيد (خر 23: 17)، لكن كان يسمح للنساء أن يرافقوهم في رحلتهم هذه (1 صم 1: 3-23).

كان اللآويون يساعدون الكهنة في أعمالهم الطقسيَّة، كما كانوا ينتشرون في المدن ليعلِّموا الشعب شريعة الله. يليق بنا أن ندعو اللآويين ليدخلوا إلى بيوتنا، ونسمع من أفواههم شريعة الله، ونفرِّح قلوبهم بتجاوبنا مع الكلمة.

كانوا يقدِّمون العشور والبكور للآويين لخدمة الهيكل ولكي يعيش بها اللآويون.

لماذا طالبهم بالعبادة المركزيَّة خاصة في تقديم الذبائح؟

أولاً: لحفظهم من الإغواء بتقديم ذبائح للأوثان أو على مذابح وثنيَّة، فقد كانت الإغراءات تحوِّط بهم من كل جانب، وكان إمكانيَّة السقوط واردة.

ثانيًا: لكي يحفظ روح الجماعة والوحدة، فيلتقوا معًا في بيتٍ واحدٍ، وبقلبٍ واحدٍ. فالهيكل يمثِّل مركزًا للوحدة. في العهد القديم سألهم أن يعبدوا الرب في مكان واحد، خاصة أثناء الاحتفال بالأعياد، حتى يحقِّق وحدتهم كأمَّة واحدة تتعبَّد للإله الواحد، بعيدًا عن العبادات الوثنيَّة. أما في العهد الجديد فعِوض المكان الواحد صار لنا اللقاء في شخص واحد، هو شخص ربنا يسوع المسيح، فيه تجتمع من الأمم والشعوب والألسنة كأعضاء في الجسد الواحد، يحملنا إلى حضن أبيه الواحد، ويُقيم منا كنيسة واحدة مجيدة بلا عيب.

ثالثًا: لتأكيد وحدانيَّة الله، إذ لنا إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس (1 تي 2: 5)، وأنَّّه لا يوجد إلاَّ طريق واحد به نلتقي مع الله أبينا ألاَّ وهو شخص السيِّد المسيح.

رابعًا: إنَّه ليس من حقِّهم اختيار المكان، بل الله هو الذي يختاره.

"لا تعملوا حسب كل ما نحن عاملون هنا اليوم أي كل إنسان مهما صلح في عينيه.

لأنَّكم لم تدخلوا حتى الآن إلى المقر والنصيب اللذين يعطيكم الرب إلهكم.

فمتى عبرتم الأردن وسكنتم الأرض التي يقسِّمها لكم الرب إلهكم وأراحكم من جميع أعدائكم

الذين حواليكم وسكنتم آمنين،

فالمكان الذي يختاره الرب إلهكم ليحل اسمه فيه تحملون إليه كل ما أنا أوصيكم به

محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم وكل خيار نذوركم التي تنذرونها للرب.

احترز من أن تصعد محرقاتك في كل مكان تراه.

بل في المكان الذي يختاره الرب في أحد أسباطك هناك تصعد محرقاتك وهناك تعمل كل ما

أنا أوصيك به" [7-14].

في الوقت الذي فيه يطلب ألاَّ يفعل كل إنسان حسب هواه الشخصي كرَّر هذا الأصحاح تعبير: "احترز لنفسك" ثلاث مرات [13، 19، 30]. إنَّه يحث كل إنسان أن يهتم بما لنفسه، لا بالتمسُّك بأفكاره الخاصة، بل بمراجعته لأعماقه الداخليَّة. بنفس الروح يحث الرسول بولس تلميذه تيموثاوس: "لاحظ نفسك" (1 تي 4: 16). كما يحث أهل كورنثوس قائلاً: "ليمتحن الإنسان نفسه" (1 كو 11: 28).

هكذا يسألنا موسى النبي وأيضًا الرسول بولس أن يحترز كل منا لنفسه، أي يليق بالفكر أن يسلك في الطريق الملوكي ممتحنًا قلبه الداخلي لئلاَّ يكون قد انحرف آلاف الأميال عن طريق الله. ليس له أن يمتحن الآخرين ويدينهم، بل يمتحن نفسه كما بنارٍ لئلاَّ بينما ينشغل بامتحان الآخرين ونقدهم يصير هو شاردًا عن الحق.

عملنا أن نحب الآخرين ونطلب خلاصهم ليُشاركونا المجد الأبدي، لا أن ندينهم وننتقدهم!

يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن الله قد أمر ألاَّ تقدَّم ذبائح خارج مدينة أورشليم وخارج الموضع الذي اختاره الله، وذلك حتى متى تدمَّرت المدينة يدرك الكل أن الظلال قد انتهت ولم تعد هناك حاجة إلى الذبائح الحيوانيَّة الرمزيَّة[125].

v     الآن ما هي المحرقة الروحيَّة؟ "ذبيحة التسبيح" (مز 50: 14 LXX]. في أي موضع نقدِّمها؟ في الروح القدس. من أين تعلَّمنا هذا؟ من كلمات الرب نفسه: "إن الساجدين الحقيقيِّين يسجدون للآب بالروح والحق" (يو 4: 23) [126].

القدِّيس باسيليوس الكبير

"ولكن من كل ما تشتهي نفسك تذبح وتأكل لحمًا في جميع أبوابك.

حسب بركة الرب إلهك التي أعطاك،

النجس والطاهر يأكلانه كالظبيّ والآيل" [15].

لم يكن اللحم طعامًا معتادًا يوميًا عند الشعب، بل كانوا يأكلونه عند التقدمات أو وقت الأعياد.

في أثناء الرحلة في البرِّيَّة كانت الحيوانات التي تذبح للأكل مثل الثيران والماعز والحملان تُذبح كتقدمة سلامة عند دار الخيمة، ويُرش دمها، ويُحرق شحمها على المذبح. وكان ذلك يتم خشية أن يقدِّم أحد ذبائح للأوثان، أمَّا بعد دخول أرض الموعد وانتشار الأسباط على تلك المساحات الشاسعة فقد ترك لهم حق الذبح للطعام في مدنهم وبيوتهم. سمح لهم بذبح بعض الحيوانات التي لا يجوز تقديمها ذبائح للرب (لا 17: 3)، تُذبح في بيوتهم للأكل وليس كتقدمات للرب، وذلك مثل الظبي والآيل، بشرط أن يتم ذلك "حسب بركة الرب".

3. الامتناع عن شرب الدم:

"وأمَّا الدم فلا تآكله على الأرض تسفكه كالماء" [16].

لماذا جاءت الوصيَّة في العهدين القديم والجديد تمنع شرب الدم؟

أولاً: يرى البعض أن بعض الوثنيِّين كانوا محبِّين لسفك الدماء، لهذا ظنُّوا أن آلهتهم محبَّة لسفك الدماء، لذا كانوا يشربون الدم كطقس ضروري في العبادة، لكي يبهجوا الشيَّاطين. وكما يقول المرتِّل داود: "تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر، لا أسكب سكائبهم من دم، ولا أذكر أسماءهم بشفتيّ" (مز 16: 4). كان شرب الدم يُعتبر شركة مع الشيَّاطين[127].

مع كل وجبة طعام يليق بنا أن نشعر بالحضرة الإلهيَّة، وبالجوع إليه.

ثانيًا: حمل هذا العمل رمزًا لدور السيِّد المسيح الخلاصي الذي جاء ليُحطِّم مملكة إبليس تمامًا.

ثالثًا: كان يُنظر إلى الدم بكونه يحمل حياة الإنسان، فسفك الدم أو شربه يعتبر ذبيحة، لا تُقدِّم لإنسان ما، ولا يجوز له أن يأكل الدم أو يشربه.

رابعًا: لأنَّه إلى وقت قريب كان الإنسان في عنفه، خاصة عند الأخذ بالثأر يقتل ويشرب من دم القتيل كنوعٍ من التشفي، لهذا منعت الوصيَّة شرب الدم بوجه عام.

v     السبب لمنع أكل الدم أنَّه مكرَّس ليقدِّم لله وحده. أو لعلَّ المنع كان لأن الله أراد أن يصد الناس عن الاندفاع إلي سفك الدماء البشريَّة. فمنعهم من أكل دم الحيوانات لئلاَّ يحملهم هذا علي السقوط تدريجيًا في خطيَّة سفك دماء البشريَّة. سبق فقلت إنَّنا كثيرًا ما نسمع خصمًا يهدِّد خصمه، قائلاً: "سأقتلك وأشرب من دمك"[128].

القدِّيس يوحنا ذهبي الفم

4. الأكل أمام الرب:

"لا يحل لك أن تأكل في أبوابك عُشر حنطتك وخمرك وزيتك،

ولا أبكار بقرك وغنمك،

ولا شيئا من نذورك التي تنذر ونوافلك ورفائع يدك.

بل أمام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك

وأمتك واللآوي الذي في أبوابك

وتفرح أمام الرب إلهك بكل ما امتدَّت إليه يدك" [17-18].

في البرِّيَّة حيث لم يكن قد استقر تابوت العهد في موضعٍ ثابتٍ كان يُسمح لهم بتقديم ذبائح للرب والأكل منها أينما وجدوا. لم يكن يوجد احتمال أن يشتركوا مع الوثنيِّين في الذبائح للعبادة الوثنيَّة، أمَّا وقد استقرُّوا في أرض الموعد فإنَّه صار الاحتمال قائمًا، لذلك جاءت الوصيَّة مشدَّدة أنَّه لا يجوز أن يذبحوا للرب في غير بيت الرب، ولا أن يأكلوا من هذه الذبائح في بيوتهم.

لقد سمح لهم أن يأكلوا لحمًا في بيوتهم ويذبحوا كما يشاءوا لكن غير ذبائح الرب.

كان للخدم – حتى العبيد الغرباء – حقوق كثيرة وامتيازات وسط الشعب الإسرائيلي. أحد هذه الامتيازات هو اشتراكهم في الأعياد الكبرى وتمتُّعهم بالأفراح (تث 16: 11).

5. الاهتمام باللآوي:

"احترز من أن تترك اللآوي كل أيَّامك على أرضك" [19].

لم ينل اللآويُّون نصيبًا أو ميراثًا في أرض الموعد، لأن الرب هو نصيبهم وميراثهم. لذا يليق بالمؤمنين أن يقدِّموا عشورهم وبكورهم ونذورهم التي للرب لخدَّامه. إن كان يليق بخدَّام الكلمة أن يتفرَّغوا للخدمة والعمل الروحي، فإنَّه ليس بالكثير أن تُقدِّم لهم احتياجاتهم الماديَّة.

6. عدم أكل الدم:

سبق الحديث عنه في الآية [16].

"إذا وسَّع الرب إلهك تخومك كما كلَّمك وقلت آكل لحمًا لأن نفسك تشتهي أن تأكل لحمًا فمن كل ما تشتهي نفسك تأكل لحمًا.

إذا كان المكان الذي يختاره الرب إلهك ليضع اسمه فيه بعيدًا عنك، فاذبح من بقرك وغنمك التي أعطاك الرب كما أوصيتك وكل في أبوابك من كل ما اشتهت نفسك.

كما يؤكل الظبي والآيل هكذا تأكله، النجس والطاهر يأكلانه سواء.

لكن احترز أن لا تأكل الدم،

لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم.

لا تأكله، على الأرض تسفكه كالماء.

لا تأكله لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إذا عملت الحق في عينيّ الرب.

وأمَّا أقداسك التي لك ونذورك فتحملها وتذهب إلى المكان الذي يختاره الرب.

فتعمل محرقاتك اللحم والدم على مذبح الرب إلهك، وأمَّا ذبائحك فيسفك دمها على مذبح الرب

إلهك واللحم تأكله.

احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير

إلى الأبد إذا عملت الصالح والحق في عينيّ الرب إلهك" [20-28].

"إذا وسَّع الله تخمك" [20]، كان وعد الله لمؤمنيه أن يوسِّع تخومهم (تك 15: 18؛ خر 23: 27-31)، لكي يتمتَّعوا بخيرات الأرض ويأكلوا ما تشتهيه نفوسهم. الآن يحقِّق الله هذا الوعد الإلهي في أرضه المقدَّسة، في الإنسان الجديد الذي يتَّسع قلبه ليأكل من ثمار الروح: الحب والفرح والسلام والصلاح... عمل روحه القدُّوس أن يوسِّع قلب الإنسان فيجد لذَّة في احتضان إن أمكن كل البشريَّة، حتى المقاومين له، إذ يُشارك بهذا سمات المسيح محب البشريَّة. هذا هو الطعام الذي نشتهي أن نأكله بعمل نعمة الله فينا.

أعطى للشعب الحق في ذبح حيوانات الحقل، وأيضًا صيد بعض الحيوانات كالظبي والأيل، خاصة بالنسبة للساكنين في مناطق جبليَّة، يصطادون ويذبحون ويأكلون في أي موقع.

يوجد تفريق بين "أقداسك" [26] المخصَّصة للمحرقات والتقدمات الدينيَّة وبين ما يذبحونه للطعام فقط [15، 20، 21].

الظبي والإيل [15] حيوانان يسكنان الجبال، خفيفا الحركة، ولابد أن عددها كان كبيرًا وقت إلقاء الخطاب؛ على أنَّها اعتُبرت ترفًا في المدن بعد ذلك (1 مل 4: 23).

7. عدم الاستفهام عن العبادة الباطلة:

"متى قرض الرب إلهك من أمامك الأمم الذين أنت ذاهب إليهم لترثهم وورثتهم وسكنت أرضهم.

فاحترز من أن تصطاد وراءهم من بعد ما بادوا من أمامك

ومن أن تسأل عن آلهتهم قائلاً: كيف عبد هؤلاء الأمم آلهتهم، فأنا أيضًا أفعل هكذا.

لا تعمل هكذا للرب إلهك لأنَّهم قد عملوا لآلهتهم كل رجس لدى الرب ممَّا يكرهه،

إذ احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم.

كل الكلام الذي أوصيكم به احرصوا لتعملوه، لا تزد عليه ولا تنقص منه" [29-32].

لعدم المزج بين الذبيحة المقدَّسة والذبائح الوثنيَّة يحذِّرهم حتى من مجرَّد الاستفهام عن العبادة الوثنيَّة التي كان الأمم يمارسونها، إذ بلغ بهم الفساد والعنف أنَّهم كانوا يقدِّمون أبناءهم وبناتهم ذبائح بشريَّة للأوثان.

اختارهم الله شعبه وأزال من أمامهم الأمم الوثنيَّة، فلا يليق بهم أن يقيموا منهم مثالاً يحتذون به.

أن ما يمارسه الوثنيُّون هو دنس للرب. حقًا الأمر غاية في الخطورة حين تصير الذبيحة التي غايتها تقديس الإنسان دنسًا ونجاسة (أم 15: 8).

لماذا سمح الله بقتل الأمم؟ "إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلهتهم" (12: 31). لم يكن هناك طريق لإصلاح البشريَّة إلاَّ بإبادة من تقسَّت قلوبهم حتى قدَّموا بنيهم محرقات!! ارتبط الأمم بالعبادة الوثنيَّة والرجاسات والعنف.

قدّم هذا الأصحاح الخطوط العريضة للعبادة:

1.   أين نعبد الرب؟ الله يختار المكان.

2.   ما هو جوهر العبادة؟ الحضرة الإلهيَّة، وسكنى الله وسط شعبه [5-11].

3.   كيف نعبده؟ حسب الفكر الإلهي لا البشري.

4.   من يعبده؟ كل الأسرة حتى الأطفال الصغار.

5.   ما هو جو العبادة؟ فرح في الرب.

6.   ما هي علاقة العبادة بالخلاص؟ الحاجة إلى تقديس الدم، بدونه لن يتم غفران الخطيَّة.

7.   ما هي علاقة العبادة بالحياة؟ حتى في أكلنا نأكل أمام الرب.

8.   ما هو دور المؤمنين؟ الإيجابيَّة في كل شيء، فيساهموا حتى في العطاء المادي ونفقات بيت الرب وخدامه.


 

من وحيّ تثنية 12

لأفرح أمامك!

v     تشتاق أن تحملني إليك،

فآكل وأفرح أمامك!

لتهدم كل وثن، ولتخرب كل هيكل فاسد،

وتقم من أعماقي هيكلاً مقدَّسًا مختارًا لك.

اقبل محرقة حبِّي وذبيحة شكري لك.

لتقبل تقدماتي التي هي ممَّا لك أقدِّمها لك.

v     هب لي ألاَّ أمزج عبادتي لك بعبادة وثن،

بل ويكون القلب كلُّه لك وحدك.

أي مكان اخترته لي لأتعبَّد لك فيه

إلاَّ الجلجثة؟

لترتبط عبادتي بصليبك،

فتسكب حبَّك في قلبي،

وتملأ نفسي فرحًا وتهليلاً.

وتتَّسع تخوم، قلبي فيحمل كل بشر فيه!

v     لأهرب من كل موقع رجس،

ولأتحرَّر من كل عادة دنسة!

حرِّرني من كل رجاسة وثنيَّة،

فلا أشرب دمًا ولا آكل مخنوقًا!

لا أحمل قلبًا قاسيًا ولا نفسًا دنسة!

قدِّسني إلى التمام فأنت هو القدُّوس وحدك!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثالث عشر

الغواية إلى العبادة الوثنيَّة

في الأصحاح السابق تحدَّث في شيء من الحزم والصراحة ضدّ الوثنيَّة والوثنيِّين المصرّين على العبادة للأصنام، الآن يوجِّه حديثه عن الذين يغوون اخوتهم نحو الوثنيَّة. الله ليس عنده محاباة، لذا جاءت الشريعة غاية في الصرامة ضدّ الإسرائيليِّين الذين يغوون اخوتهم.

يُعالج موسى النبي هنا الجانب السلبي من الوصيَّة الأولى الخاصة بإبادة كل أثرٍ للوثنيَّة، فإذا بدت قاسية، فلنذكر أنَّه كان يجب تطهير الأرض من عبادة الأصنام، بإهلاك الوثنيِّين الكنعانيِّين. ويجب أن يلقى كل إسرائيلي نفس المصير إذا وقع في نفس الخطأ.

اعتمدت العبادات الكنعانيَّة على العِرافة والسحر وما شابه ذلك، الأمر الذي حرَّمه الله تمامًا. لهذا بعد أن تحدَّث عن إبادة كل أثر للعبادة الوثنيَّة وتهيئة الجو للعبادة لله الحيّ وحده عالج موضوع الذين يدَّعُون النبوَّة كذبًا أو الذين يغوون الآخرين نحو العبادة الوثنيَّة، سواء كان هؤلاء يدعون النبوَّة وعمل المعجزات، أو كانوا من أقرب الأقرباء، أو يمثِّلون مدينة بأكملها.

بعد تركيزه على الذبيحة المقدَّسة في هيكل الرب الواحد، حذرنا من مصادر الانحراف، إذ يليق بنا أن نحمل روح التمييز فلا ننخدع وراءها. هذه المصادر هي:

1. النبوَّة الكاذبة [1-6]: في كل عصر يوجد أنبياء كذبة يخدعون البسطاء بالآيات والعجائب، كما فعل السحرة في أيَّام موسى (راجع 2 تس 2: 9؛ مت 24: 23-25؛ رؤ 13:13-14).

2. علاقات القرابة والدم [7-11]: كما حدث مع سليمان الذي جرى وراء آلهة غريبة بسبب نسائه الأجنبيَّات. يلزمنا أن نبتر كل علاقة تحطِّم أبديَّتنا بلا تردُّد.

3. الانحراف الجماعي [12-18]: كثيرون ينحرفون بسبب الضغط الجماعي كي لا يبدو أنَّهم شواذ. آمن القدِّيس أثناسيوس الرسولي أنَّه يمارس عمل الرب لذا قال بقوَّة: "وأنا ضدّ العالم". لنحب سكان العالم ونترفَّق بالجميع، لكنَّنا لا ننجرف خلال هذا التيار، بل نلتزم بالسلوك حسبما تمليه علينا رسالتنا!

1. النبي الكذَّاب             [1-5].

2. القريب الذي يغوي       [6-11].

3. المدينة التي تغوي         [12-18].

وسائل الغواية:

يرى البعض أن موسى النبي قدَّم في هذا الأصحاح ثلاث وسائل للغواية تعمل في كل عصر لتحطيم الإيمان:

أولاً: الفلسفات الإلحاديَّة، فالفلاسفة الملحدون أشبه بأنبياء كذبة يقدِّمون فلسفاتهم بأسلوب معسول جذَّاب، فيكون أشبه بالآيات والعجائب التي تخدع البسطاء.

ثانيًا: الجو الاجتماعي والأسري الفاسد، يسحب الإنسان عن الشركة الحيَّة مع الله.

ثالثًا: الرأي العام، إذ ينحني الإنسان للرأي السائد حتى لا يُحسب متخلِّفًا عن المجتمع، حتى وإن كان هذا الرأي محطِّمًا لأبديَّته.

1. النبي الكذَّاب:

"إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا،

وأعطاك آية أو أعجوبة.

ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلَّمك عنها، قائلاً:

لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها.

فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم،

لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبُّون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" [1-3].

النبي الكاذب شخصيَّة مألوفة في العهد القديم تعاود الظهور في العهد الجديد، خادمة إبليس، مغرية على الشرّ (مت 24: 24، رؤ 18: 20). يدَّعي النبي الكاذب أنَّه يتقبَّل إعلانات إلهيَّة بطريقة أو أخرى كما بواسطة الأحلام؛ ويحاول تأييد ادعائه بصنع آيات أو عجائب مخادعة.

لقد استلم الشعب الشريعة، فلم يكن بالصعب عليهم اكتشاف الأنبياء الكذبة. كلمة الله هي التي تفرز النبي الحق من النبي الكذَّاب، أمَّا صنع الآيات والعجائب فليس معيارًا لصدقهم أو كذبهم، لأنَّها قد تخدع.

لا نتعجَّب من إمكانيَّة قيام أناسٍ من وسط الشعب يدَّعون النبوَّة ويصنعون آيات وعجائب لكي ينحرفوا بالمؤمنين عن الحق. لهذا يحذِّرنا الرسول بولس قائلاً: "إن بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشَّرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 8). سيصنع ضدّ المسيح أيضًا في آخر الأيَّام عجائب وآيات، حتى لو أمكن أن يضل المؤمنين (مت 24: 24). والشيطان نفسه أحيانًا يظهر على شكل ملاك نور لكي يضلِّل المؤمنين (2 كو 11: 14).

يحذِّرنا السيِّد المسيح قائلاً: "حينئذ إن قال لكم هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدِّقوا، لأنَّه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلُّوا لو أمكن المختارين أيضًا، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم" (مت 24: 23-25).

يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يتحدَّث هنا عن ضدّ المسيح والذين يدعون مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، الذين يوجدون بكثرة حتى في أيَّام الرسل، أمَّا قبل مجيء المسيح الثاني فيوجدون بأكثر حرارة ].

يستخدم ضدّ المسيح وأتباعه كل وسيلة للخداع، مقدِّمًا آيات وعجائب هي من عمل عدو الخير للخداع. لذلك فالحياة الفاضلة في الرب وليس الآيات هي التي تفرز من هم للمسيح ومن هم لضدّ المسيح. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [يحذِّرنا الرب من أنَّه حتى الأشرار يقدرون أن يصنعوا معجزات معيَّنة لا يستطيع حتى القدِّيسين أن يصنعوها، فليس بسببها يُحسبون أعظم منهم أمام الله].

لماذا يسمح الله بوجود أنبياء كذبة؟ لكي يتزكَّى المؤمنون، ويكلَّلون من أجل محبَّتهم له من كل قلوبهم ومن كل أنفسهم.

يحذِّرنا من الأنبياء الكذبة وأصحاب الأحلام الباطلة، لكي لا نجري وراءهم ولا نمارس ما يطلبونه، بل ولا نعطي آذاننا للاستماع إليهم. "فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم". هكذا ننجو من السقوط الذي حلَّ بأمِّنا حواء لأنَّها أعطت أذنيها للحيَّة. ففي بعض التجارب يليق بنا أن نقول مع السيِّد المسيح: "ابعد عنِّي يا شيطان".

يظهر الله هنا كطبيب عجيب يعلم أن النبي الكاذب كخليَّة السرطان إن تُركت في الجسم دمَّرته تمامًا، لهذا يلزم استئصاله من وسط شعبه. لقد تُرك آخاب الملك وإيزابل وسط الشعب، فاجتذبا الشعب إلى العبادة الوثنيَّة، فسقط كثيرون تحت الحكم الإلهي. قُتل الآلاف وصار الكثيرون عبيدًا في مذلَّة يُعاملون من الأشوريِّين كحيوانات. ألم يكن من الأفضل رجم الأنبياء عِوض كل هذا الدمار؟!

v     قد يقول أحد: "ماذا نفعل فإن السحرة والرائيين غالبًا ما يكشفون لنا عن علامات حقيقيَّة خاصة بالمستقبل؟" يحذِّرنا الكتاب المقدَّس في هذا الشأن وينصحنا: فإنَّهم وإن قالوا الحق فلا تصدِّقوهم "لأن الرب إلهك يمتحنكم لكي يعلم هل تتَّقونه أم لا" [3][129].

الأب قيصريوس

v     كثيرون ينسبون لأنفسهم اسم المسيح ليخدعوا إن أمكن حتى المؤمنين.

 الأب ثيؤفلاكتيوس

v     عندئذ سُيحل الشيطان فيعمل بكل قوَّته خلال ضدّ المسيح بطريقةٍ باطلة ومدهشة... إنَّه يخدع الحواس الميِّتة بأوهام، فيظهر كمن يعمل أعمالاً في الحقيقة هي وهم؛ أو ربَّما يفعل عجائب حقيقيَّة لكنَّها تضلِّل الناس عن الحق، إذ يحسبونها قوَّة إلهيَّة.

 القدِّيس أغسطينوس

v     المسيح هو الحق، وضدّ المسيح يبطل الحق. المسيح هو الحكمة، ويأخذ ضدّ المسيح مظهر الحكمة بسرعة وبطريقة حاذقة. كل الأمور الممتازة تنطبق على المسيح وكل مظاهر الفضائل (المخادعة) تنطبق على ضدّ المسيح. فإن كل نوع من الصلاح يعبَّر عنه المسيح في ذاته لبنيان المؤمنين، يجد الشيطان طريقًا لتقليده بطريقة سخيفة مظهريَّة لكي يخدع المؤمنين[130].

العلامة أوريجانوس

يرى العلامة أوريجانوس أن ضدّ المسيح (والأنبياء الكذبة) يفسد مفهوم الكتب المقدَّسة فتحل رجسة الخراب في هيكل الرب (مت 24: 15).

v     يفهم بالموضع المقدَّس كل قول ورد في الكتاب الإلهي الذي تكلَّم به الأنبياء من موسى فيما بعد، ونطق به الإنجيليُّون والرسل. في هذا الموضع المقدَّس الذي للكتب المقدَّسة غالبًا ما يقف ضدّ المسيح، الكلمة الباطل؛ هذه هي رجسة الخراب[131].

العلامة أوريجانوس

قيل "الله لا يجرَّب أحدًا" (يع 1: 3)، لا يُفهم أن الله لا يجرِّب أحدًا بأي نوعٍ من التجارب بل لا يجرِّبه بأنواع معيَّنة، لئلاَّ يكون المكتوب باطلاً: "الرب إلهكم يمتحنكم (يجرِّبكم)" (تث 13: 3). الله لا يجرِّبنا بالتجربة التي تقودنا للخطيَّة، لكنَّه يهبنا أن نُجرَّب بالتجربة التي بها يُمتحن إيماننا.

ماذا يعني بقوله: "لكي يَعلَم"؟ أنَّه لا يحتاج أن يمتحنا لكي يعلَم ما في داخلنا، لكنَّه يقصد بذلك أنَّنا نكتشف نحن ذواتنا فنعلَم ما في داخلنا.

v     على كل الأحوال لا يمكن أن يفهم القول... بأي معنى سوى هذا، إنَّكم بواسطته تُعرفون، ويكون ذلك شهادة لكم عن تقدُّمكم في محبَّته[132].

v     هذا يعني أنَّه يجعلنا أنَّنا نحن نعرف[133].

v     أنَّها تعني أنَّه يجعلنا "نعلم". مرة أخرى في العبارة: "قم يا رب" (مز 3: 7) تعني اجعلنا أن نقوم، هكذا عندما يُقال أن الابن لا يعلم هذا اليوم، ليس لأنَّه يجهله، وإنَّما لا يجعل الذين لا يعرفونه بعد يعرفوه ولا يظهره لهم[134].

القدِّيس أغسطينوس

هكذا من الجانب السلبي نرفض مجرَّد الاستماع لهذا الصوت الغريب، أمَّا من الجانب الإيجابي فيقول:

"وراء الرب إلهكم تسيرون،

وإياه تتَّن،

ووصاياه تحفظون،

وصوته تسمعون،

وإيَّاه تعبدون،

وبه تلتصقون" [4].

هكذا نكرِّس كل كياننا للشركة مع الله بالسير معه، والسلوك بمخافته، وحفظ وصاياه، وتقديس الآذان للاستماع إليه.

تظهر جسامة الجريمة، إذ يأمر بقتل المجرم نفسه، حتى لا يحطِّم إيمان آخرين.

"وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتل،

لأنَّه تكلَّم بالزيغ من وراء الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر وفداكم من بيت العبوديَّة،

لكي يطرحكم عن الطريق التي أمركم الرب إلهكم أن تسلكوا فيها،

فتنزعون الشرّ من بينكم" [5].

كان يصعب على الشعب أن يميِّز بين المرض والمريض، فمتى كان المرض خطيرًا وتنتقل عدواه سريعًا يُقتل المريض حتى ينجو الشعب من الوباء.

يُنظر إلى النبي الكذاب كعدوٍ عام للشعب وكخائنٍ للبلد ولله ملك الملوك، لذلك يُحكم عليه بالإعدام رجمًا.

حذّر الله شعبه في العهد القديم من قيام أنبياء كذبة، وفي العهد الجديد ربط بين قيام أنبياء ومسحاء كذبة ونهاية الأيَّام (مت 24: 11؛ 1 تي 4: 1؛ 2 بط 2: 1)، وإن الآيات والعجائب ستكون مضلِّلة (مت 24: 24؛ 2 تس 2: 9-10). وجاء المعلِّمون الكذبة ضمن قائمة الأنبياء الكذبة (مت 7: 15؛ 2 بط 2: 1). وبسبب شوق البشريَّة إلى المعرفة يسقطون في هذا الخداع بغير حكمة (أف 4: 14)، إذ يرغبون في معرفة ما هو جديد (2 تي 4: 3).

يمتحن الأنبياء بواسطة الشريعة وكلمة الله (إش 8: 20). يأمرنا القدِّيس يوحنا الحبيب: "امتحنوا الأرواح" (1 يو 4: 1)، فإن كانت تعاليمهم مناقضة لكلمة الله يجب رفضهم. "إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام، لأن من يسلِّم عليه يشترك في أعماله الشرِّيرة" (2 يو 10-11)

2. القريب الذي يغوي:

إذ كان وباء انتشار الوثنيَّة خطيرًا لذلك طالبت الشريعة بقتل من يغوي على العبادة الوثنيَّة، مهما كانت درجة قرابة الإنسان الذي يحاول الإغواء سرًا، أو مهما بلغت صداقته له. فإنَّه يليق بالمؤمن أن يحدِّد موقفه: الله أم قريبه؟ فإن الله يحسب كل حب نقدِّمه للقريب مقدَّم له، لكن إن كان هذا الحب يفقدنا شركتنا مع الله، فلنا أن نختار أحد الاثنين. بنفس الروح: "من أحبَّ أبًا أو أمَّا أكثر منِّي فلا يستحقَّني، ومن أحبَّ ابنًا أو ابنة أكثر منيَّ فلا يستحقنيَّ" (مت 10: 37). "إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" (لو 14: 26).

"وإذا أغواك سرًّا أخوك ابن أمَّك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلاً:

نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك،

من آلهة الشعوب الذين حولك،

القريبين منك أو البعيدين عنك،

من إقصاء الأرض إلى إقصائها،

فلا ترض منه،

ولا تسمع له،

ولا تشفق عينيك عليه،

ولا ترق له، ولا تستره،

بل قتلاً تقتله.

يدك تكون عليه أولاً لقتله ثم أيدي جميع الشعب أخيرًا.

ترجمه بالحجارة حتى يموت" [6-10].

"وإذا أغواك سرًّا أخوك"، الأخ في العبريَّة هو القريب، وهذا ما نلاحظه في أيَّامنا كيف تسحب الروابط العائليَّة الكثيرين إلى الارتداد، فتهاجمنا التجربة حتى عن طريق بيوتنا.

"أخوك ابن أمَّك"، ليس فقط من هو في مرتبة الأخ، بل وإن كان أخًا حسب الجسد من أم واحدة.

"امرأة حضنك"، أي زوجة تحبُّها وتحتضنها، وتلتزم أن تحميها كما بأحضانك.

"صاحبك الذي مثل نفسك"، أي الصديق العزيز إلى الإنسان كنفسه. جاءت كلمة "صاحب" في العبريَّة بمعنى من تجد فيه بهجة، وتدخل معه في صداقة حقَّة.

ليس عجيبًا أن يتحدَّث عن الأخ أو الأخت أو الابن والابنة أو الصديق الذي يحاول سرَّا أن يجتذب الإنسان إلى الخطيَّة، فقد استخدم الشيطان حواء لتغوي رجلها آدم، وظن أيضًا أنَّه قادر أن يخدع يسوع المسيح خلال تلميذه بطرس.

الإغواء إلى الشرّ يحوِّل القريب إلى عدو، إذ يصير قاتل نفسٍ. من نحبُّهم ونعتز بهم، إن أساءوا استغلال هذا الحب فيخونونا بإهلاك نفوسنا يأخذون موقف الأعداء الذين يجتذبوننا إلى خطيَّة مهلكة.

يبدأ الشخص المُتَّهم بالرجم أولاً ليحمل المسئوليَّة أمام الله أنَّه صادق في اتهامه لقريبه أو لصديقه أنَّه يغويه سرًّا على العبادة الوثنيَّة، ثانيًا لكي يعلن أن الله قبل كل قريب أو صديق، هو فوق الكل.

"لأنَّه التمس أن يطوِّحك عن الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبوديَّة.

فيسمع جميع إسرائيل ويخافون ولا يعودون يعملون مثل هذا الأمر الشرِّير في وسطك" [10-11].

مع أن الغواية تتم سرًا [6]. لكن العقوبة تتم علنًا [10]، حتى يكون عبرة لمن يظن أنَّه يخدع غيره في الخفاء. يجب أن يكون العقاب علنًا حتى يخاف الباقون ولا يخطئون، كما توضِّح ضرورة التشدُّد في هذا التدبير الجديد الذي فيه يسكنون الأرض (أع 5: 11).

3. المدينة التي تغوي:

ماذا إن قامت المدينة بأكملها أشبه بثورة ضدّ العهد مع الله وخدمت آلهة غريبة؟

"إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولاً،

قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك، وطوَّحوا سكَّان مدينتهم قائلين:

نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها،

وفحصت وفتَّشت وسألت جيدًا، وإذا الأمر صحيح وأكيد، قد عُمل ذلك الرجس في وسطك،

فضربًا تضرب سكَّان تلك المدينة بحد السيف وتخربها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف.

تجمع أمتعتها إلى وسط ساحتها وتُحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك،

فتكون تلاًّ إلى الأبد لا تُبنى بعد.

ولا يلتصق بيدك شيء من المُحرَّم" [12-17].

يلاحظ الآتي:

أولاً: يقول "إحدى مدنك"، أي إحدى مدن إسرائيل، فإنَّه ليس لنا أن نحكم على الذين في الخارج، وكما يقول الرسول بولس: "لأنَّه ماذا لي أن أدين الذين من خارج؛ ألستم أنتم تدينون الذين من داخل، أمَّا الذين من خارج فالله يدينهم؟‍" (1 كو 5: 12-13).

فالمدينة التي تعبد الله الحيّ ثم انحرفت بكاملها للعبادة الوثنيَّة، وصارت عثرة لبقيَّة مدن يهوذا. وكما يقول بطرس الرسول: "لأنَّه كان خير لهم لو لم يعرفوا طريق البرّ من أنَّهم بعدما عرفوا يرتدُّون عن الوصيَّة المقدَّسة المسلَّمة لهم" (2 بط 2: 21).

ثانيًا: إذا قام بعض الرجال بإغراء الشعب، يدعوهم "بنو لئيم". بنو لئيم معناها "بطَّالون"، وقد ترجمت "بنو بليعال" في (قض 19: 22، 20: 13) في قصَّة جبعة. هؤلاء ليس فيهم مخافة الرب، ولا يخشون حتى الناس، يقاومون ضمائرهم ويكسرون الشرائع. يقول الرسول: "أي اتِّفاق للمسيح مع بليعال؟" (2 كو 6: 15) وكأنَّه يضع بليعال في مكان الشيطان، فبنو بليعال هم "أبناء إبليس". هكذا صار هؤلاء خميرة فاسدة حوَّلت كل العجين إلى الفساد لتحمل طبيعة إبليس الفاسدة.

يحذِّرنا الكتاب المقدَّس من الأشرار: "أمَّا خاطئ واحد فيُفسد خيرًا جزيلاً" (جا 9: 18). "لا تضلُّوا، فإن المعاشرات الرديَّة تفسد الأخلاق الجيِّدة" (1 كو 15: 33).

ثالثًا: لما كان الأمر فيه دمار للمدينة، لهذا يلزم الفحص بتدقيق والسؤال جيِّدًا والتأكَّد من حقيقة الأمر. عندما أراد الله أن يهلك مدينة سدوم قال: "انزل وأرى" (تك 18: 21).

يرى بعض الكتَّاب اليهود أنَّه إذا أُتُّهم إنسان أنَّه يغوي إلى العبادة الوثنيَّة فإنَّه يُقدَّم للمحاكمة لدى محكمة صغرى، أمَّا إذا أُتُّهِمت مدينة بذلك فتُقدَّم أمام مجمع السنهدريم. فإذا تيقَّن المجمع من صدق الأمر أرسل اثنين متعلِّمين للنصح والإرشاد، فإن قبلت المدينة النصح، وقدَّمت توبة تُقبل، وتصير المدينة في سلام. وإن رفضت وأصرَّت على العبادة الوثنيَّة يقيمون حربًا ضدَّها لإبادتها منعًا من تسرُّب أفكارها الوثنيَّة إلى غيرها من مدن إسرائيل.

رابعًا: إن وُجدت قلَّة قليلة مؤمنة فإنَّها تخرج من المدينة، كما من مكان خطر، بعد ذلك يُضرب الرجال والنساء والأطفال بالسيف [15]، ثم يُؤتى بكل الأمتعة في ميدان عام وتُحرق بالنار، وتتحوَّل المدينة إلى رماد ولا تُبنى من جديد.

خامسًا: لا يسمح لأحد أن يأخذ شيئًا من أمتعة هذه المدينة لأنَّها محرَّمة [17]، وإلاَّ كان نصيبه مثل عخان بن كرمي، إذ خان خيانة وأخذ من الحرام، فغضب الرب على بني إسرائيل بسببه (يش 7: 1).

سادسًا: يُزال كل أثر للخطيَّة "لكي يرجع الرب من حمو غضبه" [17]. هكذا فإن الله غيور ويحسب عبادة آلهة غريبة جريمة كبرى. في العهد الجديد يُحسب الله الخلط بين مائدة الرب ومائدة الشيَّاطين خطيَّة عظمى إن صح التعبير.

"إن ما يذبحه الأمم فإنَّما يذبحونه للشيَّاطين لا لله. فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشيَّاطين. لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شيَّاطين ولا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شيَّاطين. أم نغير الرب؟ ألعلَّنا أقوى منه؟" (1 كو 10: 19-21).

سابعًا: يُكافئ الله الذين يرجعون عن هذه الخطيَّة، بكونهم صانعي الحق في عينيه. "لكي يرجع الرب من حمو غضبه ويعطيك رحمة يرحمك ويكثرك كما حلف لآبائك. إذا سمعت لصوت الرب إلهك لتحفظ جميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم لتعمل الحق في عيني الرب إلهك" [17-18].

 


 

من وحيّ تثنية 13

لتنكسر كل يدٍ تغويني!

v     يدك تحملني كما إلى أحضانك الأبديَّة.

لتنكسر كل يدٍ تسحبني منك.

إن امتدت يد نبي كاذب أو مخادع لتصنع آيات،

يدك وحدها تقدر أن تحفظني.

فلا يخطفني أحد منك.

v     لتُبتر يد أخي أو أختي أو أي قريب لي،

إن تجاسرت لتستغل القرابة،

فتحرمني من التمتُّع بالقرابة لك!

فأنت أبي وأخي وأختي والكل لي!

v     إن انحرفت المدينة بأكملها وراء الباطل،

وإن انخدع العالم كلُّه وراء الفساد،

تبقى نفسي أمينة لك!

أنت فوق الكل!

لأقتنيك يا أيها القدُّوس،

حتى وإن فقدت العالم كلُّه!

<<

 

 

 


 
الأصحاح الرابع عشر

شرائع للتقديس

الجنازات والأطعمة والعشور

بعد حديثه الصارم فيما يخص الإغواء إلى العبادة الوثنيَّة عالج بعض العادات الوثنيَّة الخاصة بالجنازات [1-2]، مطالبًا إيَّاهم أن يتذكَّروا أنَّهم "أولاد للرب" و"شعب مقدَّس ومختار وخاص". ثم عرض موضوع الأطعمة الطاهرة والنجسة. فمن أجل ممارسة التقدمات والذبائح بقلوب نقيَّة طاهرة وضع شريعة الحيوانات الطاهرة والنجسة ليميِّزهم عن الكنعانيِّين [3-21]، كما طالبهم بتقديم العشور [22-23] لكي تُستخدم في سد احتياجات خدَّامه المختارين وأيضًا الفقراء [28-29].

1. عادات جنائزيَّة           [1-2].

2. الحيوانات الطاهرة       [3-8].

3. الأسماك الطاهرة        [9-10].

4. الطيور الطاهرة          [11-20].

5. الجثَّة الميِّتة             [21].

6. العشور                  [22-29].

1. عادات جنائزيَّة:

يمارس المؤمن الحياة القدسيَّة خلال عاداته حتى في اللحظات القاسية كالموت، وفي حياته اليوميَّة كالأكل والشرب، وفي عبادته كالعطاء، وفي علاقته بالغير كالاهتمام بالغرباء والمحتاجين.

"أنتم أولاد للرب إلهكم.

لا تخشموا أجسادكم، ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجل ميِّت.

لأنَّك شعب مقدَّس للرب إلهك،

وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" [1-2].

إذ يقدِّم لهم شرائع خاصة بتقديسهم تمس تصرُّفاتهم اليوميَّة وفي مناسبات معيَّنة لا يصدر الله أوامر لكي تُطاع دون مناقشة، وإنَّما كأب يؤكِّد لهم بنوَّتهم له، فما يصدر عن الأب إنَّما هو حب فائق لبنيانهم. ما يطلبه الله من هذه الشرائع ليس مجرَّد تنفيذها بطريقة آليَّة، وإنَّما يطلب تجاوب الأبناء مع محبَّة أبيهم ليصيروا مقدَّسين كما هو قدُّوس.

أما وقد جاء الابن الوحيد الجنس وبروحه القدُّوس وهبنا روح البنوَّة لله الآب، صارت وصيَّة العهد الجديد عذبة ومفرحة. لا نرى في الوصايا أوامر ونواهٍ، بل نراها طريقًا ملوكيًا لائقًا بأبناء الله. كأولاد لله نقبل الوصيَّة، بل ونحتمل شركة الآلام مع المسيح المصلوب لكي نرث ونتمجَّد معه. "فإن كنَّا أولادًا فإنَّنا ورثة أيضًا، ورثة الله، ووارثون مع المسيح، إن كنَّا نتألَّم معه لكي نتمجَّد أيضًا معه" (رو 8: 15). "ثم بما أنَّكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب؛ إذًا لست بعد عبدًا بل ابنًا، وإن كنت ابنًا فوارث لله بالمسيح" (غلا 4: 6-7).

كأولاد لله يلتزمون بحياة خاصة تناسبهم، تختلف في الداخل كما في السلوك الخارجي عن غيرهم. يذكِّرهم دائمًا بمركزهم: "أنتم أولاد الرب إلهكم". فقد دخلوا مع الله في ميثاق، ليس عن استحقاق خاص بهم، لكن خلال غنى مراحم الله الذي اختارهم ليكونوا شعبًا مقدَّسًا ومختارًا وخاصًا به. يليق بشعب الله أن يحمل قدسيَّة خاصة ولا يتمثَّل بالشعوب المحيطة به. أنَّه يرفعهم فوق جميع الشعوب من جهة الحياة المقدَّسة، فلا يليق بهم أن ينزلوا إلى العادات الوثنيَّة مثل تجريح الجسم وجعل رؤوسهم قرعًا للتعبير عن مشاعر الحزن في الجنازات.

أوصاهم الله بالامتناع عن العادات الوثنيَّة لكي ينفتح أمامهم الطريق للتعاليم الجديدة والإيمان الحيّ العملي. فقد كان من عادات الوثنيِّين تقطيع الشعر أو حلقه، وتجريح الوجه والضرب على الصدر، ووضع أصباغ قاتمة على الوجه، أمور يعبِّرون بها عن شدَّة حزنهم على الميِّت. فكان لزامًا على شعب الله ألاَّ يُشارك الوثنيِّين عاداتهم هذه علامة تمتُّعهم بحياة جديدة تختلف عمَّا للوثنيِّين.

الامتناع عن هذه العادات تعتبر شهادة عن مفاهيم جديدة للمؤمنين أولاد الله بخصوص الموت، إذ يرون في الأموات المقدَّسين في الرب راحلين إلى حياة أفضل. لم تنتهِ حياتهم بموتهم، بل لا زالوا أحياء مع إبراهيم واسحق ويعقوب، ينتظرون المجد الأبدي.

لقد حمل شعب الله في أجسادهم "الختان" علامة الرب، فلا يليق بهم أن يحملوا علامات الآلهة الغريبة، ألا وهي تجريح أجسامهم. فقد كان من عادة الوثنيِّين تجريح أجسادهم ليس فقط في الجنازات، وإنَّما أثناء ممارسة العبادة للآلهة كما كان يفعل كهنة البعل (1 مل 18: 28).

الله خالق الجسد لن يُسر بمن يُشوِّه جسده، بل بمن يهتم به ويعوله ويكرمه بما يليق كعطيَّة مقدَّسة من الرب. كل خليقة الله صالحة (1 تي 4: 4). الجسم هو عطيَّة إلهيَّة جميلة، ليس من حق الإنسان أن يشوِّهه بالتجريح مهما كان السبب. تجريح الأجساد في الجنازات يجعلهم كالأطفال الذين يشوِّهون أجسادهم متى لعبوا بسكِّينٍ ما، هكذا الله في أبوَّته يود أن يسحب السكِّين من أيديهم كي لا يضرُّوا أنفسهم.

التجريح والقرع يشيران إلى ما يحل بأقرباء المنتقل من يأس والمبالغة في الحزن، بينما يأمرنا الرسول بولس: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيُّها الاخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم" (1 تس 4: 13). امتناعهم عن هذا الحزن المفرط يشهد لإيمانهم بالقيامة من الأموات، ونصرتهم على الموت، وعدم خوفهم من العبور في وادي ظلال الموت.

تمييزهم عن غيرهم من الشعوب الوثنيَّة في الجنازات يُعلن إيمانهم بالحضرة الإلهيَّة في كل حين، حتى أمام الموتى، فإن الله هو إله الأحياء والأموات، يضم الكل معًا ليعيشوا معه إلى الأبد.

إن كنَّا لا ننكر أن المؤمن يحزن من أجل آلام الفراق، لكن في حدود، وإلي حين، فإن كثير من الوثنيِّين قبلوا الإيمان بالسيِّد المسيح عندما رأوا كيف واجه المسيحيُّون الموت بشجاعة وبشاشة. وقد سجَّل لنا الشهيد يوستين تأثُّره بهذا قبل قبوله الإيمان[135].

حتى في فترات السلام كان أحد العوامل التي جذبت الوثنيِّين نحو الإيمان طقوس جنازات المسيحيِّين وما حملوه من أحاسيس السلام والرجاء في الأبديَّة[136].

الإنسان الذي يسمِّر عينيه علي أعماقه الداخليَّة فيرى مسيحه في داخله، يتطلَّع أيضًا إلي موت الجسد فيراه عطيَّة إلهيَّة، قنطرة عبور إلي الخلود، وتحرُّر حقيقي من الحياة الزمنيَّة بكل أمراضها الروحيَّة والجسديَّة.

v     إن موت الأبرار صار رقادًا، بل صار هو الحياة.

القدِّيس باسيليوس الكبير

تطلَّع القدِّيس غريغوريوس النزينزي إلى أخته الأكبر منه القدِّيسة جورجونيا كنموذجٍ حيٍّ للمسيحي، وقد تأثَّر بها جدًا إذ كان مغرمًا بتقواها وورعها. وأوضح كيف استعدَّت للموت بلا خوف:

v     موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب 12: 22-23)... التي يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين في السماء.

v     كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته في أماكن أمينة. لم تترك شيئًا وراءها سوي جسدها. لقد فارقت كل شيء من أجل الرجاء العلوي. الثروة الوحيدة التي تركتها لأبنائها هي الاقتداء بمثالها، وأن يتمتَّعوا بما استحقَّته.

v     هنا أتكلَّم عن موتها وما تميَّزت به وقتئذٍ لأوفيها حقَّها... اشتاقت كثيرًا لوقت انحلالها، لأنَّها علمت بمن دعاها وفضَّلت أن تكون مع المسيح أكثر من أي شيء آخر على الأرض (في 1: 23).

تاقت هذه القدِّيسة إلى التحرُّر من قيود الجسد والهروب من وحل هذا العالم الذي نعيش فيه. والأمر الفائق بالأكثر أنَّها تذوَّقت جمال حبيبها المسيح إذ كانت دائمة التأمُّل فيه.

بقوله "اختارك الرب" [2] لا يعني السلبيَّة من جهة الإنسان، إنَّما يلزمه السلوك بما يليق بهذا الاختيار ليُحسب عضوًا حقيقيًا في الشعب المقدَّس.

v     لماذا اختارنا؟ "لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدامه" (أف 1: 4). ذلك لكي عندما تسمع "اختارنا" لا تظن أن الإيمان وحده يكفي، بل يضيف الحياة والسلوك.

يقول إنَّه اختارنا بهذا الهدف، "لنكون قدِّيسين وبلا لوم"...

إن كان البشر في اختيارهم يختارون ما هو أفضل، بالأكثر يفعل الله ذلك.

بالحقيقة إن الاختيار هو عطيَّة الله المحب الرحيم، وهو أيضًا سلوك صالح.

لقد جعلنا قدِّيسين، ويليق بنا أن نستمر في القداسة. الإنسان القدِّيس هو من يشترك في الإيمان، الإنسان الذي بلا لوم هو الذي له حياة غير ملومة[137].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

2. الحيوانات الطاهرة:

قلنا إن المؤمن الحقيقي يشعر بالحضرة الإلهيَّة حتى عند وقوفه أمام ميِّت عزيزٍ جدًا لديه، فيسلك بما يليق بهذه الحضرة، وما يناسب إيمانه. الآن يُعلن المؤمن إدراكه للحضرة الإلهيَّة حتى عند مائدة الطعام، فقد كشف له الله عن الأطعمة المحلَّلة وتلك الدنسة. السؤال الذي يطرحه كثيرون: هل يهم الله نوع الأطعمة التي يأكلها مؤمنوه؟

أولاً: لكي يشعر المؤمن – في العهد القديم – بأنَّه ملتزم بقانون يحكمه في كل تصرُّفاته، لا ليحد حرِّيته، وإنَّما ليسنده، فيسلك بما يليق كابن لله. يشعر الإنسان المسيحي بالالتزام في كل سلوكه حتى في أكله وشربه ليس من أجل ضميره فقط، ولكن من أجل اخوته الضعفاء في الإيمان حتى لا يضع لهم معثرة (رو 14: 13). لقد وضع الرسول بولس مبدأ إيمانيًا حيًّا يقود سلوكنا وهو: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله. كونوا بلا عثرة لليهود ولليونانيِّين ولكنيسة الله، كما أنا أيضًا أُرضي الجميع في كل شيء غير طالب ما يوافق نفسي بل الكثيرين لكي يخلصوا" (1 كو 10: 31-33).

ثانيًا: لكي يشعر بأنَّه مكرَّس للرب، ينتسب إلى شعب مختار، ومملكة روحيَّة متميِّزة. إذ كان الله يود أن يعزل شعبه إلى حين حتى لا يشتركوا مع الأمم في رجاساتهم، أمر بعزلهم عن الاشتراك معهم في مائدة واحدة. فمن لا يشترك مع الغير على ذات المائدة لا يشترك في الأمور الأخرى. في كثير من البلاد حاليًا من يرفض الاشتراك مع إنسان في مائدة واحدة يُحسب كمن يرفض الدخول معه في أيَّة علاقات. في كثير من بلاد الشرق الأوسط من يرفض أن يشترك مع شخص على مائدة يُحسب كمن أهان واستخفَّ بمن يدعوه للوليمة. هكذا أراد الله أن يقطع شعبه من كل علاقة أو شركة جادة مع الأمم الوثنيَّة.

ثالثًا: لكي يفكِّر دومًا في الطهارة والقداسة حتى في أكله وشربه، لكي يصير قدِّيسًا كما أن الله قدُّوس. وكأن التمييز بين الأطعمة المحلَّلة والدنسة هي دعوة يوميَّة للشعب لكي ينشغل بالحياة المقدَّسة.

رابعًا: لأن الله أراد أن يمنع شعبه من الاشتراك مع الوثنيِّين في موائدهم التي يعتبرونها جزءً لا يتجزَّأ من العبادة الوثنيَّة. إذ كانت العبادة لا تقف عند تقديم الذبائح والبخور بل تمتد إلى الاشتراك في موائد للشيَّاطين. أمَّا وقد جاء السيِّد المسيح إلى العالم وحلَّ بين البشريَّة كواحدٍ منهم لاق بالمؤمنين ألاَّ يعتزلوا العالم وإلاَّ فيلزمهم الخروج منه (1 كو 5: 10)، لكنَّهم لا يشاكلون أهل العالم، بل يسلكون في جدَّة الحياة. وكما يقول الرسول بولس: "لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو 12: 2). "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟! لأنَّكم قد اُشتريتم بثمن، فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 15، 20). صار الإنسان بكل كيانه للسيِّد المسيح الذي وحده يقوده بروحه القدُّوس، فيملك على النفس والروح والجسد بكل مواهبه وإمكانيَّاته ليعمل لمجد الله.

خامسًا: تحمل هذه الأطعمة رموزًا روحيَّة كما سبق فرأينا في دراستنا لسفر التكوين. التمييز بين الحيوانات الطاهرة والدنسة، وبالنسبة للطيور والحيوانات البحريَّة إنَّما يدعو المؤمن لإدراك التمييز بين المؤمنين الحقيقيِّين السالكين بروح البرّ والقداسة وغيرهم.

سادسًا: الله خالق الجسد مع النفس، فهو يهتم بكل ما يخص الإنسان جسديًا وروحيًا.

سابعًا: يود الله أن يؤكِّد وحدة الإنسان، فما يدخل المعدة له أثره حتى على النفس. وما تحمله النفس من مشاعر روحيَّة ونفسيَّة له تأثيره على الجسد.

سبق الحديث في شيء من التفصيل عن الأطعمة المحلَّلة والأطعمة المحرَّمة وما تحمله من مفاهيم رمزيَّة روحيَّة أثناء دراستنا لسفر اللآويِّين[138]، كما قدُّمت لأجل جوانب صحيَّة. لا توجد في العهد الجديد أطعمة طاهرة وأخرى نجسة، بل كل خليقة الله صالحة (1 تي 4: 4).

الآن في المسيح يسوع لا توجد أطعمة محلَّلة وأخرى محرَّمة، لكن من يهتم بحياته الروحيَّة يلزمه أيضًا أن يكون حريصًا فيما يخص جسده. اذكر على سبيل المثال شتَّان ما بين أم وهي تعد الطعام تمزجه بصلواتها وتسابيحها وبين أم تمزجه بأغاني عالميَّة. شتَّان بين من يمزج طعامه بالصلاة، فيشعر أنَّه في حضرة الرب حتى أثناء تناوله الطعام، وبين من يشغل ذهنه بأمور مفسدة أثناء ذلك.

"لا تأكل رجسًا ما.

هذه هي البهائم التي تأكلونها:

البقر والضأن والمعز.

والآيل والظبي واليحمور والوعل والرئم والثيتل والمهاة.

وكل بهيمة من البهائم تشق ظلفًا وتقسمه ظلفين وتجتر، فإيَّاها تأكلون.

إلاَّ هذه فلا تأكلوها ممَّا يجترّ وممَّا يشق الظلف المنقسم: الجمل والأرنب والوبر،

لأنَّها تجترّ لكنَّها لا تشق ظلفًا فهي نجسة لكم.

والخنزير لأنَّه يشق الظلف لكنَّه لا يجتر فهو نجس لكم.

فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا" [3-8].

الحيوانات المحلَّلة هي التي تتَّسم بالاجتراء ومشقوقة الظلف. إن أخذنا البقرة كمثال للاجتراء فإنَّها تحمل في داخلها معدة معقَّدة بها أكثر من مكان. ففي الصباح تأكل العشب الذي يدخل في موضع معيَّن في المعدة. وعند الظهيرة تستريح تحت ظل شجرة أو تقف خلف حائط تستظل وتبدأ في اجتراء ما سبق أن أكلت، فتنقله من موضعه في جزء معيَّن من المعدة إلى موضع آخر بعد أن تطحنه بأسنانها. هذه صورة للمؤمن الذي يجد في كلمة الله طعامه، يأكله ليجلس بين الحين والآخر يتأمَّل فيه. وكما يقول المرتِّل: "طوبى للرجل الذي في ناموس الرب يلهج نهارًا وليلاً" (مز 1: 2).

v     التأمُّل في الشريعة لا يعني مجرَّد قراءتها بل ممارستها. وكما يقول: الرسول بولس في موضع آخر: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله"[139] (1 كو 10: 30).

القدِّيس جيروم

v     لنحسب كل شيء ثانويًا بجانب الاستماع إلى كلمة الله، إذ لا يوجد وقت غير مناسب لها... بل كل الأوقات تناسبها[140].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

أمَّا الظلف المشقوق، فهو مشقوق من جانب علامة الانفصال، ومتَّحد من جانب علامة الوحدة. لهذا يشير الاجتراء إلي اللهج الدائم في كلمة الله[141]، أو كما يري العلامة أوريجانوس هو الانطلاق من المعني الحرفي لكلمة الله إلي المعني الرمزي[142].

يشير شق الظلف إلي قبول المؤمن للكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد[143]، أو المؤمن الذي يعرف أن يتقدَّس في هذه الحياة الزمنيَّة ويكون مقدَّسًا في الحياة الأبديَّة[144]، أو المؤمن الذي له إيمان ثابت في الآب والابن[145].

من يسير بظلفٍ مشقوق من جانب ومتَّحد من الجانب الآخر، هو ذاك الذي يعرف كيف يسير بروح التمييز. يعرف ما لحياته الزمنيَّة وما هو حدودها، وما هو لحياته الأبديَّة وكيف تشغله. أمَّا عن الوحدة فإنَّه في كل سلوكه اليومي والتعبُّدي لا ينفصل قط عن مسيحه بل يسلك في المسيح يسوع ربنا. يقول الرسول بولس: "فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه" (كو 2: 6).

إن كان الظلف يشير إلي ما هو ميِّت في جسمنا، فإن شق الظلف يشير إلي شق ما هو ميِّت فينا، أي الإماتة عن الشهوات القاتلة للنفس.

ولعلَّ السبب في رفض الأطعمة النجسة غالبًا لأنَّها كانت تستخدم كذبائح للأوثان مثل الخنزير والجمل. وفي فلسطين كان هذان الحيوانان يأكلان الحشائش السامة وكثيرًا ما تصيبهما الحشرات الضارة.

الله لا يطيق النجاسة، والعجيب أن الشعب في عناده يطلب ما هو نجس، لذا يقول في إشعياء النبي: "شعب يغيظني بوجهي دائمًا، يذبح في الجنات ويبخِّر على الآجر، يجلس في القبور، ويبيت في المدافن، يأكل لحم الخنزير، وفي آنية مرق لحوم نجسة" (إش 65: 3-4). لقد قدَّم لهم أنواعًا مختلفة من الحيوانات التي يمكن أكل لحمها حتى متى أشار إلى الامتناع عن حيوانات نجسة مثل الخنزير لا يتضايقوا.

3. الأسماك الطاهرة:

"وهذا تأكلونه من كل ما في المياه، كل ما له زعانف وحرشف تأكلونه.

لكن كل ما ليس له زعانف وحرشف لا تأكلوه أنَّه نجس لكم" [9-10].

نجد تحريمًا ضمنيًا ضدّ أكل الأسماك المحارية، لأنَّها تقتات على الأوساخ.

لكي تكون الحيوانات المائيَّة طاهرة يلزمها شرطان:

الأول: يكون لها زعانف تساعدها علي السباحة، فتقاوم كل تيَّار مياه. هذا يشير إلى النفس التي تقدر أن تجتاز مياه هذا العالم بقوَّة.

الثاني: يكون لها حرشف يحميها ممَّا يحيط بها، هذا الحرشف يشير إلي نعمة الله التي يتمسَّك بها المؤمن لكي يقاوم كل فساد محطِّم للنفس.

4. الطيور الطاهرة:

"كل طير طاهر تأكلون.

وهذا ما لا تأكلون منه النسر والأنوف والعقاب.

والحدأة والباشق والشاهين على أجناسه.

وكل غراب على أجناسه.

والنعامة والظليم والساف والباز على أجناسه.

والبوم والكركي والبجع.

والقوق والرخم والغواص واللقلق والببغا على أجناسه والهدهد والخفاش.

وكل دبيب الطير نجس لكم لا يؤكل.

كل طير طاهر تأكلون" [11-20].

الطيور المذكورة في [12-18] تقتات بالجيف، وعليه فإنَّها مُحرَّمة.

تُحسب الطيور الجارحة دنسة، لأنَّها لا تحمل حبًا بل عنفًا وافتراسًا للغير. هكذا من لا يحمل روح الحب بل البغضة والكراهيَّة لا يُحسب مقدَّسًا في عينيّ الرب.

الحشرات بوجه عام تُحسب دنسة.

5. الجثَّة الميِّتة:

"لا تأكلوا جثَّة ما،

تعطيها للغريب الذي في أبوابك فيأكلها أو يبيعها لأجنبي لأنَّك شعب مقدَّس للرب إلهك،

لا تطبخ جديًا بلبن أمّه" [21].

يحذِّرنا من أكل الجثَّة الميِّتة، لجوانبٍ صحيَّة، وأيضًا لمفهومٍ رمزي، فإنَّه يليق بالمؤمن ألاَّ يقتات بالأمور الميِّتة فيموت معها، بل يغتذي بكلمة الله الحيَّة والواهبة الحياة. لقد أراد الله أن يبتعد مؤمنو العهد القديم عن كل ما هو ميِّت، حتى يدركوا أنَّه يجب أن يدعوا الموتى يدفنون موتاهم، وأن يطلبوا ما هو فوق حيث لا يقدر الموت أن يلحق بهم.

القانون اليوم يمنع الجزَّار من بيع الجثث ضمانًا لمنع الأمراض، وخوفًا من التعرُّض للتسمُّم أو العدوى.

أحد العوامل للامتناع عن أكل الدم، هو عدم أكل الحيوانات والطيور الميِّتة حيث يكون دمها فيها لم يسل منها بذبحها.

جاءت وصيَّة عدم ذبح جدي بلبن أمّه لمنع السحر. كان الكنعانيُّون يطبخون الجدي بلبن أمّه كسحر ورقيَّة لزيادة الخصب. وأيضًا لمراعاة الاعتبارات الطبيعيَّة بين الوالدين والصغار حتى بين الحيوانات والطيور، مثل منع ذبح البقرة أو الشاة وابنها في يومٍ واحدٍ (لا 22: 28)، أو أحد الطيور الحاضنة مع صغارها (تث 22: 6). وقد سبق فقيل: "لا تطبخ جديًا بلبن أمّه" (خر 23: 19؛ 34: 25). لقد خلق الله الحيوانات من أجل الإنسان، وسُمح له أن يذبحها ويأكلها، لكنَّه يفعل هذا مع مراعاة مشاعر الأم (من الحيوانات والطيور). كأن الله يدفع مؤمنيه نحو الترفُّق بكل الخليقة حتى غير العاقلة، مراعيًا مشاعرها ما استطاعوا.

بخصوص الجدي لا يُطبخ بلبن أمّه، يرى البعض أنَّه يشير هنا إلى الحمَل الذي يقدَّم للفصح.

6. العشور:

يقدِّم لنا ثلاثة استعمالات لمواردنا: لخدمة الله، ولسعادة عائلاتنا، والاهتمام باحتياجات الغير.

تحدَّث عن العشور وتقديمها لله موضِّحًا النقاط التالية:

1. حفظ السبت يقوم على أساس تقديم العشور، فإن كل وقت الإنسان وغناه هو عطايا من الله، وأمانة له عندنا (تث 8: 18، مت 25: 14). يجب أن نخصِّص جزءً للمقدَّس كعلامة على تقديس الكل (23: 25).

"تعشيرًا تعشِّر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة" [22].

2. كان تقديم العشور والباكورات فرصة لإقامة الأعياد والكرم على كل من في الأبواب [27] وكأن موسى بذلك يتطلَّع إلى أيَّام السلام والرخاء المقبلة. تقديم العشور علامة تقديس كل ما نملكه لحساب الرب. يبدو أنَّها شريعة تقليديَّة سُلِّمت عبر الأجيال (يعقوب في بيت إيل تك 28: 22). إذ يشعر المؤمن أن ما يملكه (الأرض) هو عطيَّة مقدَّسة من الرب، لذا يلتزم أن يقدِّم العشور علامة تجاوب قلبه بالحب مقابل الحب الإلهي. في حبُّه يقدِّم للآويِّين (خدام الكلمة) والغرباء والأيتام والأرامل [29]. أمَّا ثمرة ذلك فهو الفرح [26] والبركة [29].

"وتأكل أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره ليحل اسمه فيه عشر حنطتك وخمرك وزيتك

وأبكار بقرك وغنمك، لكي تتعلَّم أن تتَّقي الرب إلهك كل الأيَّام.

ولكن إذا طال عليك الطريق حتى لا تقدر أن تحمله،

إذا كان بعيدًا عليك المكان الذي يختاره الرب إلهك ليجعل اسمه فيه إذ يباركك الرب إلهك.

فبعه بفضَّة وصُرّ الفضَّة في يدك واذهب إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك" [23-25].

3. يربط العطاء بالفرح: "وأنفق الفضَّة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والخمر والمسكر وكل ما تطلب نفسك، وكل هناك أمام الرب إلهك وافرح أنت وبيتك، واللآوي الذي في أبوابك لا تتركه لأنَّه ليس له قسم ولا نصيب معك" [26-27].

"في آخر ثلاث سنين تخرج كل عُشر محصولك في تلك السنة وتضعه في أبوابك.

فيأتي اللآوي لأنَّه ليس له قسم ولا نصيب معك، والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك ويأكلون ويشبعون، لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل" [28-29].

v     في هذه التقدمة (فلسيّ الأرملة مر 12: 41-44). بالحق ظهر ما تعدَّى حديث موسى بخصوص موضوع تقدمة الأموال. فقد تقبَّل موسى عطايا من الذين لهم مالاً، أمَّا يسوع فيتسلَّم عطايا حتى من الذين ليس لهم.

هيجيمونس[146]

v     عُهد إلينا أن ندبِّر ونستخدم الغنى الزمني من أجل الصالح العام، لا كمن يملكون شيئًا ملكيَّة خاصة أبديَّة. إن قبلت الحقيقة أن المالك على الأرض هو إلى حين، فإنَّك تستطيع أن تتمتَّع بملكيَّة أبديَّة في السماء. تذكر الأرملة التي نست نفسها خلال اهتمامها بالفقراء، وفكَّرت فقط في الحياة العتيدة، فقدَّمت كل ما لديها، كما شهد الديَّان نفسه. أنَّه يقول بأن الآخرين قدَّموا من فضلاتهم، أمَّا هي إذ لم تملك إلاَّ فلسين وكانت أكثر احتياجًا من كثير من الفقراء – مع أنَّها فاقت كل الأغنياء في الغنى الروحي – فكَّرت فقط في الحياة العتيدة، وإذ كانت مشتاقة إلى الكنز السماوي لذلك قدَّمت مرة واحدة كل ما يُسحب من الأرض، وأصرَّت أن تردُّه... لنردّ للرب العطايا التي وهبنا إيَّاها. لنقدِّمها له، ذاك الذي يتقبَّلها في شخص كل فقير أو فقيرة. لنعطي بسرور، أقول أنَّه سيكون لنا فرح عظيم عندما نتقبَّل المكافأة التي وعد بها[147].

بوليناس أسقف نولا

Paulinus of Nola

4. يوجد نوعان من العشور، الأولى تقدَّم للآويين ومنها يُدفع نصيب الكهنة (عد 18: 24-28؛ نح 10: 37-38). ما تبقَّى يُدفع منه العشور الثانية التي يأكلون منها أمام الرب في السنتين الأولى والثانية، أمَّا عشور السنة الثالثة فتدفع للآويين والفقراء (تث 14: 28-29). في السنتين الرابعة والخامسة يأكل منها أصحابها، وفي السنة السادسة تقدَّم للفقراء والسنة السابعة تقدَّم سبتًا للأرض ويكون كل شيء مشاعًا (خر 23: 10-11)[148].

5. يشعر اللآويون أنَّهم ملتزمون بتقديم البركة للشعب خلال التعليم والصلاة، ويفرح الشعب أن يشاركهم عطايا الرب لهم [29].

 


 

من وحيّ تثنية 14

لأسلك كابنٍ لك،

وكعضوٍ في شعبك المقدَّس!

v     اخترتني ابنًا لك،

قطعت معي عهدًا، وقدَّمت لوحيّ العهد ميثاقًا.

هب لي أن أسلك بما يليق كابنٍ مقدَّس لك.

v     ليكن لي السلوك اللآئق،

بمن ينتسب لشعبٍ خاص، فينتسب للقدُّوس.

لا أسلك بغباوة الجهال،

فلا أجرح جسدي في جنازة،

ولا أصير أقرع بسبب حزنٍ مفرط.

v     ليتقدَّس حتى أكلي وشربي.

فلا يدخل فمي شيء غير لائق،

ولا يدخل قلبي دنس ما.

v     لأقدِّم لك العشور والبكور والنذور،

واحسب ذلك رمزًا لتقديم كل مالي،

فإنَّني لا أملك شيئًا.

كل ما في يدي هو من غنى حبَّك ورعايتك.

<<

 

 


 

الأصحاح الخامس عشر

الحياة السَبتيَّة

الله الذي يجد مسرَّته في أن ينسب نفسه للأيتام والأرامل والمطرودين والمرذولين، يقدِّم شريعته من أجل تحويل حياة كل إنسان إلى حياة سبتيَّة، أي يصير كل عمره "سبت للرب". يود أن يحوِّل حياتنا إلى الراحة الحقَّة فيه. يجد الفقير في الله راحته، ويتمتَّع الغني بذات الحياة. وقد تحدَّث الكتاب المقدَّس قبلاً عن السنة السبتيَّة (خر 23: 10، لا 25: 1-7).

أوضح في هذا الأصحاح أن المدينين العاجزين عن سداد ديونهم لا يُحرمون من الانتفاع بالسنة السبتيَّة. هذا لا يعني أن الدين قد أزيل تمامًا، لكن المدينين يصيرون غير ملزمين بإيفاء الديون، أمَّا من كان عاجزًا عن الدفع فيُعفى منه. كما تحدَّث عن تحرير العبد العبراني (خر 21: 2-10) وعن ثقب أذن العبد الذي يقبل العبوديَّة بإرادته.

1. السنة السبتيَّة           [1-6].

2. الاهتمام بالفقراء        [7-11].

3. العبد العبراني            [12-18].

4. البكور                   [19-23].

1. السنة السبتيَّة:

إن كانت الحياة المقدَّسة لا تقف عند ممارسات معيَّنة بل تمس علاقاتنا بأنفسنا والله والناس، لذا جاءت شريعة "سنة الإبراء" تكشف عن اهتمام الله، وبالتالي اهتمام أبنائه، بالمدينين غير القادرين على الإيفاء وإبرائهم من أجل الرب نفسه، وأيضًا بالمعدمين، والعبيد الذين لم يجدوا من يهتم بشأنهم.

"في آخر سبع سنين تعمل إبراء.

وهذا هو حكم الإبراء.

يبرئ كل صاحب دينٍ يده ممَّا أقرضه صاحبه.

لا يطالب صاحبه ولا أخاه،

لأنَّه قد نودي بإبراء للرب" [1-2].

أولاً: الله هو إله الكل، ينسب نفسه للمحتاجين والمتألِّمين، لذا قدَّم لهم شريعة سنة السبت (السنة السابعة) كسنة إبراء. يظهر مدى اهتمام الله بأولاده، إذ يحسب أن من كان مدينًا لأخيه، كأن الرب نفسه هو المدين. لهذا إذ يصر على إبراء الاخوة المحتاجين من ديونهم في السنة السبتيَّة "في آخر سبع سنين"، يدعو هذا الإبراء "إبراء الرب" [2].

ثانيًا: يريد الله أن يقيم من كل أيَّام حياتنا سبتًا مفرحًا، وراحة فيه. ففي كل أسبوع يقيم سبتًا للرب، أو "يوم الرب"، الذي فيه يعلن راحته بخلقته للعالم في الأيَّام الستَّة الأولى، وإذ خلق الإنسان في اليوم السادس استراح، مشتهيًا أن يقدِّم راحة الحب لمحبوبه الإنسان في اليوم السابع. أمَّا وقد جاء الكلمة الإلهي وأعاد خلقتنا، بإقامتنا معه من الأموات، وسكنى روحه القدُّوس فينا فجعل من يوم الأحد سبتًا له ولنا، صار هذا اليوم "يوم الرب" الذي يحوِّل كل أيَّام حياتنا إلى حياة مقدَّسة ومُقامة في الرب.

كل سبعة سنوات يقيم في السنة السابعة سنة للرب ليبارك كل سنين عمرنا، وكل خمسين عامًا، أي بعد سبع سنوات سبع مرات (7 × 7 = 49) يقيم لنا يوبيلاً مفرحًا في الرب. بمعنى آخر يقدِّم لنا الله على الدوام كل فرصة ممكنة لكي نتمتَّع بحياتنا كعيدٍ وراحةٍ في الرب. بقوله "إبراء للرب" يُعلن أن كل ما يمارسه المؤمن من عبادة أو احتفالات بأعياد أو عطاء أو تنازلات، جميعها باسم الرب ولأجله؛ وكأن المؤمن في كل أفكاره الداخليَّة وسلوكيَّاته إنَّما يحيا في الرب.

حقًا ما أروع تعبير "سنة إبراء للرب"، فإنَّها تشير إلى عمل السيِّد المسيح الذي كرز "بسنة الرب المقبولة" (لو 4: 19)، فقد جاء ليُبشر المساكين، وبالعتق للمسبيِّين (لو 4: 18؛ إش 58: 6). جاء إلينا نحن الفقراء، المثقَّلين بالديون ليقدِّم لنا المصالحة مع الله مجَّانًا بدمه (2 كو 5: 20).

كان جميع أولاد الله منذ آدم يتطلَّعون إلى سنة "الإبراء للرب"، وإذ نزل مسيحنا إلى الجحيم التقى بهم ألوف ألوف وربوات من الآباء والأنبياء والكهنة الشعب، من كبار وصغار يترقَّبون ذاك الذي وحده يفي دينهم، ويدخل بهم إلى التمتُّع بسنة الإبراء للرب.

ثالثًا: كما أن سبت الرب أو راحته هي في إبراء نفوسنا من الدين الذي كان علينا من جهة خطايانا، فدفع الثمن ببذل حياته من أجلنا، يليق بنا أن نرد هذا الحب بالحب نحو اخوتنا، فنغفر لهم أخطاءهم من نحونا، ونبرئهم من كل دين.

رابعًا: عدم إساءة استغلال الإبراء، إذ يقول: "الأجنبي تطالب، وأمَّا ما كان لك عند أخيك فتبرِّئه يدك منه" [3]. مطالبة الأجنبي بالدين ليس فيه إحجامًا، فإنَّه كغريبٍ يعيش في كنعان لا يملك أرضًا بل يعيش على التجارة أو الصناعة، فهو لا يفقد دخله في سنة الإبراء كما بالنسبة لليهودي. لهذا فهو مُطالب بتسديد ما اقترضه. يرى البعض أن الإبراء عن السنة السبتيَّة وحدها، يعود فيسدِّد المدين الدين بعد ذلك. وعلَّة ذلك في نظرهم أولاً أنَّه في السنة السبتيَّة لا يُمارِس أحد زراعته، وبالتالي لا توجد محاصيل يمكن بيعها لتسديد الديون. ثانيًا لو أن الدين يُمحى تمامًا، هذا يدفع الكثيرين إلى عدم إقراض الآخرين حتى لا تضيع قروضهم عليهم متى حلَّت السنة السبتيَّة.

جاءت كلمة "يبرئ" في العبريَّة تعني "يترك"، أي يترك الدائن الدين بين يديّ المدين، كما تُترك الأرض بلا زراعة في تلك السنة.

خامسًا: يسمح الله أن يوجد فقراء ومدينون بين شعبه، لكن إلى حين وفي حدود معيَّنة. "إلا أن لم يكن فيك فقير" [4]. فإذ يتم الإبراء كل سبع سنوات لا يوجد بينهم فقير مدقع، ولا من يحل به البؤس الشديد. يسمح بالفقر المؤقَّت وفي حدود معيَّنة، فيمارس الفقير مع الغني حياة الشكر؛ ويفرح الغني حين يُعطي ويبرِّئ، إذ يحسب أن ما يقدِّمه هو لشخص الرب نفسه، ويفرح الفقير والمدين إذ يرى الرب المحب معلنًا ومتجلِّيًا في سلوك الأغنياء والدائنين.

يرى البعض أن بقوله: "إلا أن لم يكن فيك فقير" [4]، يؤكِّد أن الإبراء ليس عامًا، بل هو إبراء للمحتاجين الفقراء، فإن غاية السنة السبتيَّة ليس أن يستغل المدينون دائنيهم، وإنَّما حفظ المؤمنين من الفقر المدقع.

سادسًا: إن كان الله قد طالب الدائنين أن يبرِّئوا المدينين، فقد قدَّم نفسه ملتزمًا أن يعوِّضهم عن الخسارة بنفسه:

"لأن الرب إنَّما يباركك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا لتمتلكها.

إذا سمعت صوت الرب إلهك لتحفظ وتعمل كل هذه الوصايا التي أنا أوصيك اليوم.

يباركك الرب إلهك كما قال لك،

فتقرض أممَّا كثيرة وأنت لا تقترض،

وتتسلَّط على أممٍ كثيرة،

وهم عليك لا يتسلَّطون [4-6].

عوض كونهم دائنين لاخوتهم يجعلهم دائنين لأممٍ كثيرة، ويهبهم قوَّة وسلطانًا على أممٍ كثيرةٍ. وكأنَّه لا يأمر الأغنياء بالإبراء مجانًا، لكنَّه يطلب لهم الغنى الأعظم والقوَّة والسلطة، لكن ليس على حساب اخوتهم بل بالنسبة للغرباء.

يبرز الرسول بولس اهتمامه بالمعطي كما بالشخص الذي يأخذ، قائلاً: "فإنَّه ليس لكي يكون للآخرين راحة ولكم ضيق، بل بحسب المساواة، كما هو مكتوب الذي جمع كثيرًا لم يفضل، والذي جمع قليلاً لم ينقص" (2 كو 8: 13-15).

سابعًا: إن كانت الأرض التي أعطيت للشعب هي هبة مجانيَّة من قبل الله الذي يريد لهم الغنى والحريَّة، فإنَّه يليق بهم ألاَّ يتركوا الفقراء المقترضين في حالة فقر ومذلَّة، إذ قيل: "الغني يتسلَّط على الفقير، والمقترض عبد للمقرض" (أم 22: 7).

ثامنًا: لئلاَّ يتوقَّف الأغنياء عن إقراض الفقراء طالبهم بالإبراء في السنة السابعة فقط بعد التأكَّد من عجز المدين عن السداد. هذا وقدم الله نفسه ضامنًا للتعويض عن كل خسارة.

تاسعًا: جاءت الشريعة الخاصة بالسنة السبتيَّة التي فيها يتم "الإبراء للرب" درسًا عمليًا في التخلِّي عن محبَّة المال أو الطمع الذي يسيطر على القلوب بكونه عبادة أوثان. وكما يقول الرسول بولس: "فإنَّكم تعلمون هذا أن كل طمَّاع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله" (أف 5: 5). "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الطمع الذي هو عبادة الأوثان" (كو 3: 5).

يليق بالإنسان أن يعمل لا ليجمع لنفسه بل ليُعطي الآخرين: "بالأحرى يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياج" (أف 4: 28).

في الواقع هذه الشريعة الخاصة بإبراء المدينين الفقراء كانت أشبه بإعلان "الاخوة" بين جميع المؤمنين في الله الواحد. يقوم الإبراء على أساس الله أب للجميع، طبيعته غافر الذنوب، فمن يعفو عن أخيه يستحق أن ينال العفو من الله. وقد قدَّم السيِّد المسيح توضيحًا لذلك بمثل المدين بعشرة آلاف وزنة الذي أبرأه الدائن، لكن إذ رفض أن يعفو عن العبد رفيقه المدين له بمائة دينار عاد الدائن يطلب منه أن يفي بالعشرة آلاف وزنة. يقول سليمان الحكيم: "المروي هو أيضًا يُروى" (أم 11: 25)، من يروي الآخرين بالحب إنَّما يروي نفسه بحب الله الأعظم.

2. الاهتمام بالفقراء:

"إن كان فيك فقير أحد من اخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك، فلا تقسِ قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير.

 بل افتح يدك له واقرضه مقدار ما يحتاج إليه.

احترز من أن يكون مع قلبك كلام لئيم قائلاً قد قربت السنة السابعة سنة الإبراء وتسوء عينك بأخيك الفقير ولا تعطيه.

فيصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة.

اَعطه ولا يسؤ قلبك عندما تعطيه،

لأنَّه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك.

لأنَّه لا تفقد الفقراء من الأرض،

لذلك أنا أوصيك قائلاً:

افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك" [7-11].

إن حسبنا أن ما ورد في هذا الأصحاح هو جزء من البرنامج الذي وضعه الله بخصوص الفقراء "Program for the poor"، كما تفعل الآن أغلب بلاد العالم، فإن الله قد دخل بنا إلى جذور المشكلة. فقد قامت أنظمة كثيرة تَدَّعي أنَّها "اشتراكيَّة" وظنَّت أنَّها تقضي تمامًا على وجود فقراء مدقعين في المجتمع، كما وضعت البلاد الرأسماليَّة المتقدِّمة برنامج خاص بالمحتاجين، ومع هذا نجد في كل الصنفين في المدينة الواحدة أغنياء غنى فاحشًا وفقراء مدقعين تمامًا[149]. أمَّا الله فقد أعلن: "لا تقسِ قلبك... احترز من أن يكون مع قلبك كلام لئيم" [7-8]. فإن مشكلة التفاوت الخطير في الطبقات ماديًا ترجع إلى القلب الذي أفسدته الخطيَّة، ولا علاج بالأنظمة الخارجيَّة ما لم يتغيَّر القلب ويتجدَّد، رافضًا الخطيَّة.

أولاً: يلزمنا خلال الحب أن نعطي أو نقرض حسب ظروفنا وحسب احتياج الغير. "لا تقسِّ قلبك" [7]، فالإحسان ينبع من القلب، كما أن إحسان الله من قلبه المحب.

ثانيًا: يهتم الله بتقديسنا، وتشكيل أعماقنا مع سلوكنا الظاهري، لهذا يوصي: "فلا تقسِ قلبك، ولا تقبض يدك على أخيك الفقير" [7]. عندما تقبض اليد أو تغلق عن العطاء إنَّما تكشف عن قسوة القلب الداخليَّة. لأنَّه "إذا امتلأت السحب مطرًا تريقه على الأرض" (جا 11: 3). إذ يكون لنا الإيمان نبسط أيدينا للعطاء بسخاء، وكما يقول: يعقوب الرسول: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي، فقال لهما أحدكم: أمضيا بسلام استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟!" (يع 2: 15-16).

يحذِّر الأغنياء لا من الامتناع عن إعطاء قروض فحسب، وإنَّما عما هو أهم وهو فساد القلب ولؤمه:

"احترز من أن يكون مع قلبك كلام لئيم، قائلاً:

قد قربت السنة السابعة سنة الإبراء وتسوء عينك بأخيك الفقير ولا تعطيه" [9].

يحذِّرنا من الأفكار الخفيَّة النابعة عن قلبٍ فاسدٍ، فلا يكفي الحذر من التصرُّف الخاطئ فحسب، وإنَّما من الأعماق الفاسدة. أمَّا العين السيئة أو الشرِّيرة هنا فهي ضدّ العين البسيطة التي طوَّبها السيِّد المسيح (مت 6: 22؛ لو 11: 34).

v     هذه هي قمَّة الفضيلة، أساس كل وصايا الله، أن يرتبط حب الله بحب القريب (مت 22: 39، مر 12: 31، لو 10: 27). من يحب الله لا يستخف بأخيه، ولا يحسب المال أفضل من العضو الذي له، بل يظهر له سخاءً عظيمًا، مهتمًا بذاك القائل: "بما أنَّكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40). أنَّه يدرك أن رب الكل يحسب أن ما يُفعل بسخاء للفقير لإراحته قد فعل معه هو. فلا يتطلَّع الشخص إلى مظهر الفقير البسيط بل إلى عظمة ذاك الذي يعد بأن يقبل ما يقدَّم للفقير كأنَّه مقدَّم له[150].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ثالثًا: بقوله "يباركك الرب" [10] يؤكِّد أن الدائن الذي يتنازل عن الدين للمدين الفقير بقلبٍ نقيٍ مملوء حبًا لله لا يفقد شيئًا، بل وتصير كل حياته "بركة". تتبارك كل أعماله، وكل ما تمتد إليه يده. إذ يرى الدائن في مدينه الرب نفسه يتقبَّل إيفاء الدين، ويصير كمن هو حامل الرب فيه، يصير مباركًا به، ويصير كل ما يلمسه مباركًا. أينما حلَّ حلَّت بركة الرب العاملة فيه على كل ما حوله!

رابعًا: قد يمتنع الإنسان عن الإقراض خاصة عند اقتراب السنة السابعة، حاسبًا ذلك نوعًا من الحكمة، فيطلب ما لنفسه متجاهلاً ما هو لله وللغير. وكما يقول المرتِّل: “لأنَّه في حياته يبارك نفسه، ويحمدونك إذا أحسنت إلى نفسك" (مز 49: 18). الله يريدنا أن نعطي بسرور (2 كو 9: 7)، أمَّا عطيَّته للسخي فهي كما يقول في إشعياء النبي: "يقودك الرب على الدوام، ويشبع في الجدوب نفسك، وينشط عظامك فتصير كجنَّة ريَّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (إش 58: 11).

خامسًا: تحذّرنا الوصيَّة الإلهيَّة من تجاهل الفقراء والمعتازين، فإنَّهم إذ يصرخون يسمع الله أصواتهم المملوءة مرارة. وقد حذَّرنا العهد الجديد من هذا الأمر: ففي (مت 25: 31-46) حسب الله من يتجاهل الفقراء يفقد الميراث الأبدي، لأن التجاهل موجَّه ضدّ الله نفسه. ويحذِّرنا يعقوب الرسول من الظلم الساقط على العمال الفقراء قائلاً: "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحصَّادين قد دخل إلى أذنيّ رب الجنود" (يع 5: 4). جاء في (1 يو 3: 17) "وأمَّا من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجًا وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبَّة الله فيه؟!"

أحد الهبات التي يقدِّمها الله لشعبه أن يوجد بينهم فقراء حتى تمتد أيديهم بالحب والعطاء، فينالون بركة العطاء، ويتمتَّعون بعمل الله معهم: “لأنَّه لا تُفقد الفقراء من الأرض" [11]، فيحنو الرب علينا بحبُّه. وجود فقراء بيننا أو معتازين إلى شيء ما هو إلاَّ فرصة لكي نفتح قلوبنا بالحب وأيادينا بالعطاء (15: 11). يقول السيِّد المسيح: "لأن الفقراء معكم كل حين" (يو 12: 8). أنَّها بركة لكي يجد الأغنياء الصالحين فرصة العطاء بكل القلب، ويرفع الفقراء قلوبهم بالشكر لله واهب الحب. لكن التفاوت الخطير ووجود فقراء مدقعين هو ثمرة من ثمار خطايانا وفساد قلوبنا. وإذ يعلم السيِّد أن الخطيَّة لا تفارق العالم الحاضر أكَّد أن الفقراء معنا في كل حين. إذن الحاجة هي إلى تقديس القلب، فنعمل ما استطعنا مع الفقراء، ونرفع بالحب هذا التفاوت بصورته القاسية.

3. العبد العبراني:

"إذا بيع لك أخوك العبراني أو أختك العبرانيَّة وخدمك ست سنين ففي السنة السابعة تطلقه حرًا من عندك" [12].

لقد دُعي الشعب للحريَّة، فإن اضطرَّ إنسان ما أن يبيع نفسه عبدًا يلزمه ألاَّ يُترك في عبوديَّة دائمة بل يتحرَّر، إمَّا في السنة السابعة أو سنة اليوبيل أيُّهما أقرب (خر 21: 2).

علَّق جون نيوتن الذي كان سابقًا تاجرًا للعبيد قبل تجديده على هذه الآية في مكتبه لتُذكِّره بالدين الذي كان عليه بصفة خاصة.

إذ دافع القدِّيس جيروم عن بتوليَّة القدِّيسة مريم أوضح أن الذين دُعُوا اخوة يسوع كانوا أبناء خالته من مريم أخت أمه، وذلك حسب عادة اليهود، إذ يدعون اليهود اخوة، خاصة الأقرباء. وقد اعتمد على سفر التثنية (15: 12؛ 17: 15؛ 22: 1)[151].

"وحين تطلقه حرًا من عندك لا تطلقه فارغًا.

تزوِّده من غنمك ومن بيدرك ومن معصرتك كما باركك الرب إلهك تعطيه.

واذكر أنَّك كنت عبدًا في أرض مصر ففداك الرب إلهك، لذلك أنا أوصيك بهذا الأمر اليوم.

ولكن إذا قال لك لا اخرج من عندك لأنَّه قد أحبَّك وبيتك إذ كان له خير عندك.

فخذ المخرز واجعله في آذنه وفي الباب،

فيكون لك عبدًا مؤبَّدًا، وهكذا تفعل لأَمتك أيضًا.

لا يصعب عليك أن تطلقه حرًا من عندك لأنَّه ضعفيّ أجرة الأجير خدمك ست سنين، فيباركك

الرب إلهك في كل ما تعمل" [13-18].

حين يُطلب من السيِّد أن يطلق عبيده يليق به ألاَّ يظن أنَّه فعل أمرًا عظيمًا، إنَّما يرُدّ الدين الذي عليه عند الرب. فالرب أخرجه من أرض مصر حين أخرج آباءه ووهبهم عند خروجهم ذهبًا كثيرًا مع بركات لا حصر لها، لذا يرُدّ المؤمن هذا الدين الإلهي لدى أخيه العبد، فيُطلقه ويهبه مع الحريَّة عطايا كثيرة.

إبراء العبد في السنة السابعة من عبوديَّته ليس منحة من السيِّد نحو عبده أو أَمَته، إنَّما هو حق لكل إنسان أن يعيش حرًا، لا يجوز لأحد أن يغتصب منه هذا الحق. فإن السنوات الست التي يعمل فيها العبد هي التزام بالعمل، وليس بفقد الحريَّة التي وهبها الله للإنسان.

أمَّا إن أراد العبد أن يبقى في بيت السيِّد، ليس عن عوز أو احتياج أو عدم وجود فرصة عمل له بل "لأنَّه قد أحبَّك"، فتثقب أذنه عند الباب كعلامة لا للعبوديَّة، بل للحب الفائق. فبكامل إرادته فضَّل العبوديَّة الملتحمة بالحب، عن الحريَّة التي تصاحبها انفصال عن المحبوب! الحب يعطي العبوديَّة الاختياريَّة عذوبة فائقة.

مع أن عدديّ [16-17] يُظهران لنا أن الرق كان مباحًا في إسرائيل إلاَّ أن حالة العبيد كانت سعيدة في غالب الأحيان، وكانت القوانين تساندهم.

"أَمتك" [17] ينطبق هذا على السيِّدات اللآتي قدَّمن أنفسهنَّ للخدمة باختيارهنَّ، كما ينطبق على الرجال المذكورين آنفًا، ولا ينطبق على من بُعن كسراري (خر 21: 7).

4. البكور:

"كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدِّسه للرب إلهك،

لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجز بكر غنمك.

أمام الرب إلهك تآكله سنة بسنة في المكان الذي يختاره الرب أنت وبيتك.

ولكن إذا كان فيه عيب عرج أو عمى، عيب ما رديء فلا تذبحه للرب إلهك.

في أبوابك تآكله: النجس والطاهر سواء كالظبي والآيل.

وأمَّا دمه فلا تآكله، على الأرض تسفكه كالماء" [16-23].

سبق الحديث عن ذلك في (خر 13: 1، 15؛ 11: 30؛ عد 18: 17-18).

إن كان الله قد فدى كل بكر من شعبه، فلم يهلكوا مع أبكار المصريِّين أثناء الضربة العاشرة (خر 13: 11-16)، لهذا يليق بهم أن يقدِّموا بكور حيواناتهم علامة الرغبة في تكريس كل ما لهم للرب [19-23].

الله الكُلِّي النقاوة والقداسة لا يقبل من أيدي شعبه ذبيحة بها عيب، خاصة وأنَّها ظل لذبيحة المسيح الذي بلا خطيَّة. كل عيب في أيَّة ذبيحة أو تقدمة لا تكون لمغفرة الخطايا، بل تضيف إلى الخاطئ خطيَّة العصيان للوصيَّة.

قيل عن ذبيحة المسيح: “لأنَّه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجَّسين يقدِّس إلى طهارة الجسد، فكم بالأحرى يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب يظهر ضمائركم من أعمال ميِّتة لتخدموا الله الحيّ؟!" (عب 9: 14). يقدِّم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة بلا عيب لكي يحضر لنفسه كنيسته المفديَّة بدمه "كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو أي شيء من مثل ذلك بل تكون مقدَّسة وبلا عيب" (أف 5: 27). لهذا يوصينا بطرس الرسول: "اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنسٍ ولا عيبٍ في سلام" (2 بط 3: 14). هذا هو عمل المخلِّص نفسه كقول يهوذا الرسول: "القادر أن يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج" (يه 24). كما قيل عن المفديِّين في مجدهم السماوي: "في أفواههم لم يوجد غش لأنَّهم بلا عيب قدام عرش الله (رؤ 14: 5).

إذ نتَّحد بالمسيح يسوع ربنا الذبيح الذي بلا عيب نحمل برّه، فنصير في عينيّ الآب بلا عيب، مقدِّمين حياتنا مبذولة مع مسيحنا كذبيحة حب وشكر متَّحدة بذبيحة المسيح.

عندما سألت لائيته القدِّيس جيروم أن يقدِّم لها نصائح في تربيتها لابنتها باولا Paula (على اسم جدَّتها)، قدم لها هذا النص ليوضِّح لها أنَّه يجب ألاَّ تهمل في تقديم ابنتها تقدمة طاهرة للرب بلا عيب. [أتحدَّث بصفة عامة لأنَّه بخصوص حالتك ليس أمامك اختيار، إذ قدَّمتي طفلتك حتى قبل الحبل بها. من يقدِّم ذبيحة فيها عيب عرج أو عمى، عيب ما رديء يكون قد ارتكب جريمة دنس. كم بالأكثر تعاقب من صارت مستعدَّة لتقديم جزء من جسدها ومن نقاوة نفسها التي بلا لوم لقبلات الملك ثم تعود فتهمل في تقدمتها؟[152]].

نهتم بالأرض (الزراعة) والفقراء والعبيد، هكذا يلزمنا أن نهتم ببيت الله فنقدِّم البكور التي بلا عيب للرب (راجع 13: 1-2؛ 34: 19-20؛ لا 27: 26-29؛ عد 18: 15-19). تقدَّم بكور البقر والغنم التي بلا عيب لله كذبائح سلامة، أمَّا التي بها عيب فيذبحونها في منازلهم. ما هذه البكور إلاَّ ظلال للبكر الحقيقي يسوع المسيح الذي هو بلا عيب، قُدِّم عن البشريَّة كلَّها ذبيحة سلام لله أبيه، يشتمها رائحة رضًا عنَّا جميعًا.


 

من وحيّ تثنية 15

لتكن حياتي كلَّها سبتًا لك

v     إذ خلقت الإنسان في اليوم السادس،

صار اليوم السابع سبتًا لك.

وجدت في الإنسان راحتك من أجل مسرَّتك به.

ووهبت الإنسان سبتك راحة له.

لتكن حياتي كلَّها سبتًا لك يا مصدر كل راحة!

v     إذ تجد راحتك في المحتاجين والمتعبين،

سألتني أن اهتم بكل محتاج ومتألِّم!

لأترفَّق بهم من أجلك.

لأبرئ كل مدين محتاج!

أنت تفي، أنت تُعوِّضني عن كل تنازل من جانبي!

وفَّيتَ بدمك الثمين كل ديون نفسي،

هب لي أن أتنازل عن كل دين مادي من أجلك!

v     صرت أخًا لي أنا غير المستحق أن أكون لك عبدًا،

هب لي أن أقبل كل فقير أخًا لي في الرب.

إذ قبلت أن أكون لك عبدًا،

أخذتني إلى أبواب سمائك وفتحت أذني لسماع صوتك.

قبلتني ابنًا مباركًا، شريكًا لك في المجد الأبدي!

v     وهبتني كل شيء،

لأقدِّم لك ممَّا لك العشور والبكور.

اقبل تقدمتي التي هي عطيَّتك!

إنِّي أخجل إذ أرى واهب الكل يمد يده ويقبل تقدمتي!

لك المجد يا من تنازل ليقبل تقدمتي!


 

ملحق الأصحاح الخامس عشر عن

العبوديَّة في الكتاب المقدَّس

وفكر الآباء[153]

مفهوم العبوديَّة:

العبد هو شخص ملتزم بالاستعباد لكائن بشري آخر، ملتزم أن يعمل لحسابه حسبما يأمره، ليس له أيَّة حرِّيَّة، ويكاد يفقد كل حقوقه الإنسانيَّة. يُوصف العبد بأنَّه "شيء مملوك" (خر 21: 21)، أشبه بقطعة أثاث لسيِّده حق التصرٌّف فيه كيفما يشاء، ويسلٍّمه مِلكًا لأبنائه من بعده ميراثًا يقتنوه (لا 25: 45-46)، تقدَّر قيمته بمبلغ ما من المال.

الوثنيَّة ونظام الرق:

عرفت الشعوب الوثنيَّة نظام الرق، يستوي في ذلك الشعوب المتخلِّفة مع المتحضِّرة كالإغريق والرومان. وقد أيَّد بعض فلاسفة العالم الوثني هذا النظام، كنظام طبيعي وضروري، وأعلن أرسطو أن جميع البرابرة (غير المتحضِّرين) عبيد بالمولد، ولا يصلحون إلا لهذا العمل. ولم يعطِ القانون الروماني للعبيد أي حق مدني أو إنساني، إذ لا يعاقب السيِّد أو يُحاسب إن عذب عبدًا (أو أَمَة) أو قتله أو صنع معه الفحشاء أو اغتصب منه زوجته لتكون إحدى سراريه أو لتصير عاهرة![154]

العبوديَّة عند اليهود:

إن قورن نظام العبوديَّة عند اليهود بالأنظمة التي كانت لدى الأمم الأخرى يُحسب نظامًا معتدلاً وفيه رحمة. لا يمكن القول أن الشريعة الموسويَّة قد قبلت هذا النظام، إنَّما إذ كان النظام سائدًا في العالم. لم يكن ممكنًا للشريعة اليهوديَّة أن تمنع هذا النظام دفعة واحدة، لهذا التزمت بتقديم قواعد ونظم لتحِد من قسوة النظام، وتحفظ للعبد حقُّه الإنساني، وتنزع عنه - إلى حد كبير - جانب الإذلال، ليعيش كإنسان وأخ تحت ظروفه القاسية. وتعطي حقوقًا للعبيد كما للسادة قدر ما يمكن تنفيذه في ذلك الحين. وقد عرف اليهود نوعين من العبوديَّة: عبوديَّة العبرانيِّين، وعبوديَّة الأمميِّين.

لقد حرمت الشريعة سرقة البشر أنفسهم بقصد تجارة الرقيق، وجعلت عقوبتها الإعدام؛ فبالنسبة للتجارة بالإسرائيليِّين قيل: "إذا وُجد رجل قد سرق نفسًا من اخوته بني إسرائيل واسترقَّه وباعه يموت ذلك السارق فتَنزع الشرّ من وسطك" (تث 24: 7). أمَّا بالنسبة لتجارة الرق عامة، سواء أكان الشخص إسرائيليًا أو أجنبيًا قيل: "ومن سرق إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلاً" (خر 21: 17).

أنواع العبوديَّة:

يعود نظام العبوديَّة إلى عصر نوح، فاللعنة التي حلَّت بكنعان بن نوح بسبب تشهيره بوالده هي: "عبد العبيد يكون لاخوته" (تك 9: 25). وقد ظهرت أنظمة العبوديَّة المتنوِّعة منذ القدم، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف.

1. عبوديَّة منزليَّة (لدى أهل البيت): وهو النوع الذي كان أكثر شيوعًا من غيره. فمع وجود أشخاص يعملون كأجراء لكن وُجد أشخاص عبرانيُّون أو أجانب من الجنسين يعملون كخدم، يملكهم صاحب البيت. ولعلَّ هاجر التي كانت تخدم إبراهيم وسارة تعتبر مثلاً لذلك (تك 16: 1). وكما أشار السيِّد المسيح في أمثاله إلى "عبيد رب البيت" (مت 13: 27؛ 21: 34).

2. عبيد لحساب الدولة (نظام السخرة): نوع آخر من العبوديَّة كان شائعًا، الأمر الذي سقط فيه الإسرائيليُّون حيث كانوا يعملون تحت مسخِّرين مصريِّين (خر 3: 6-19؛ 13: 3). كما جعل سليمان الشعوب الكنعانيَّة عليهم "تسخير عبيد" (1 مل 9: 20-21)

3. عبيد لخدمة الهيكل: قام موسى ويشوع بتعيين أناس كعبيدٍ لخدمة العاملين في الهيكل، منهم من كان يحتطب حطبًا أو يستقي ماء لبيت الله (عد 31: 25-47؛ يش 9: 21-27).

جلب العبيد:

وُجد مصدران رئيسيَّان لجلب العبيد، هما الفقر في أوقات السلام، والأسر في أيَّام الحرب. وكان يمكن اقتناء العبيد بالطرق التالية:

1. بالشراء: يمكن للشخص أن يشتري عبدًا، كما حدث بالنسبة ليوسف بن يعقوب، إذ باعه اخوته بعشرين شاقلٍ من الفضَّة عبدًا (تك 37: 28). يمكن للإسرائيلي أيضًا أن يشتري عبدًا (لا 25: 39، 44). يمكن أن يبيع إنسان ما المقرَّبين إليه جدًا، كأن يبيع الأب ابنته (خر 21: 7؛ نح 5: 5)، ويمكن بيع أبناء الأرملة لسداد دين أبيهم (2 مل 4: 1)، ويمكن للرجل المدقع في الفقر أن يبيع نفسه للعمل من أجل تسديد ديونه حتى يحل اليوبيل فيُعتق من عبوديَّته (لا 25: 39، 47)، وأيضًا المرأة تبيع نفسها (تث 15: 12، 13، 17).

لم يكن ثمن العبد محدَّدًا. كان السعر السائد حسب ما ورد في (خر 21: 32) هو 30 شاقلاً عن العبد، وجاء في (لا 27: 3-7) أن الثمن يتراوح من 3-50 شاقلاً حسب عمر العبد وجنسه مع الالتجاء إلى الكاهن في حالة عدم القدرة على تحديد الثمن (لا 27: 8). وكان ثمن الصبي 20 شاقلاً. هذا يُطابق ما دُفع ثمنًا ليوسف (تك 37: 28). لكن جاء في (2مكابيِّين 8: 11) أن ثمن العبد حوالي 90 وزنة، أي 40 شاقلاً.

في حالة بيع إنسان ابنته بسبب فقره فإنَّه ليس من حق السيِّد أن يبيعها لرجل أجنبي، وإن زوَّجها لابنه يُفعل لها كل ما يُفعل لفتاة مخطوبة، وإن تزوَّجها هو ثم تزوَّج أخرى فلا يُنقصها حقَّها من جهة الطعام أو الكسوة أو المعاشرة الزوجيَّة، وإلاَّ تتركه مجَّانًا.

2. تبادل العبيد: يمكن للعبراني أن يستبدل العبد الأجنبي بعبدٍ آخر أو بقطيعٍ أو بأيَّة مئونة.

3. كسدادٍ لدين: الفقراء العاجزون عن سداد ديونهم يمكن أن يقدِّموا أنفسهم عبيدًا مقابل الدين (خر 21: 2-6؛ نح 5: 1-5)، غير أنَّه يجب ألاَّ يستغل الدائن فقر المدين بل يُعامله كأخ. إذا افتقر أخوك وقصُرت يده عندك فأعضده غريبًا أو مستوطنًا فيعيش معك. لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة، بل اخش إلهك فيعيش أخوك معك... وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبيد، كأجير كنزيل يكون عندك" (لا 25: 35-40).

4. هديَّة: يُمكن أن يُقدَّم العبد كهديَّة (تك 29: 24).

5. بالميراث: يُمكن للأبناء أن يرثوا العبيد الغرباء كممتلكات لهم (لا 25: 46).

6. العبوديَّة بحرِّيَّة الإرادة: عند إبراء العبد في السنة السابعة له حق الخيار بين التحرُّر أو البقاء كعبدٍ كل أيَّام غربته من أجل حبُّه لسيِّده (خر 21: 6). غير أن التاريخ لم يذكر حالة واحدة عن عبدٍ قبِل باختياره أن يبقى في العبوديَّة بإرادته الحرَّة.

7. اللص العاجز عن رد ما سرقه: "إن لم يكن له يُبع بسرقته" (خر 22: 3)، ويمكن بعمله أن يسدِّد ما سرقه مع الجزاء عن سرقته.

8. بالميلاد: أبناء العبد العبراني بحكم الميلاد يصيرون عبيدًا للسيِّد، إن تحرَّر الأب وكان قد تزوَّج بأَمَة (عبدة) لدى السيِّد، فتبقى السيِّدة وأولادها عبيدًا. كان عدد العبيد يتزايد بسبب الأطفال المولودين في البيت من العبيد.

9. أسرى الحرب: غالبًا ما يصير أسرى الحرب عبيدًا (تك 14: 21). يقتل العدو بعض الرجال ويتركون البعض الآخر الرجال والنساء والأطفال ويجعلون منهم عبيدًا ومن النساء سراري لهم (تث 21: 10-11، 14).

صار كثير من الإسرائيليِّين عبيدًا لدول غريبة حين سقطوا أسرى حرب في فترات مختلفة، بواسطة الفينيقيِّين (يؤ 3: 6 أكثر الدول شهرة في تجارة العبيد قديمًا)؛ والفلسطينيِّين (عا 1: 6) والسوريِّين (1 مل 3: 41؛ 2 مل 8: 11)، والمصريِّين[155] والرومانيِّين.

كان غالبيَّة العبيد لدى اليهود هم أسرى حرب، إمَّا عن بعض الشعوب الكنعانيَّة التي تبقَّت في البلاد أثناء استيلاء يشوع عليها، أو من الأمم المحيطة حيث انتصرت إسرائيل عليهم (عد 31: 26-28). كما اشتروا كثيرين عبيدًا غرباء (لا 25: 44-45)، وصار البعض عبيدًا بسبب الفقر أو لجرائم ارتكبوها.

حقوق العبيد:

بالنسبة للخدمة التي يلتزم بها العبيد نحو سادتهم العبرانيِّين، فإنَّها تختلف إن كان العبد عبرانيًا بكونه أخًا للسيِّد العبراني أو كان أجنبيًا.

أ. يتمتَّع العبد العبراني لدى سيِّده العبراني بما لا يتمتَّع به العبيد اليونانيُّون أو الرومان أو غيرهم. يعامل العبد العبراني كأخٍ، ليس في مذلَّة. لما كان الإسرائيليُّون هم خدَّام الله فإنَّهم إذ يصيرون عبيدًا لدى اخوتهم، يُعاملون كخدم أجراء، شركاء معًا في رحلتهم، ويترفَّق بهم السادة (لا 25: 39؛ تث 15: 14). "لا تستعبده استعباد عبدٍ، كأجيرٍ كنزيلٍ يكون عندك... لأنَّهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر، لا يباعون بيع العبيد. لا تتسلَّط عليه بعنف، بل اخشَ إلهك" (لا 25: 39-43). بذلك قدَّمت الشريعة نظرة جديدة للعبد، إنَّه شريك في العبوديَّة لله الواحد.

على أي الأحوال فإن التعامل مع العبيد يتوقَّف غالبًا على شخصيَّة السيِّد (تك 24؛ 39: 1-6). كان رجال الله الحقيقيِّين يخشون الله في معاملتهم للعبيد والأمة، فيقول أيوب: "إن كنت رفضت حق عبدي وأَمَتي في دعواهما عليَّ، فماذا كنت أصنع حين يقوم الله، وإذا افتقد فبماذا أُجيبه، أو ليس صانعي في البطن صانعه، وقد صوَّرنا واحد في الرحم" (أي 31: 13-14). لكن بالتأكيد كان العبد عبدًا في مذلَّة، وكثير من السادة كسروا الناموس وأساءوا إلى اخوتهم العبيد. وللأسف كان نصيب النساء من العنف أكثر، إذ كنَّ يعاملن بكل ملء القسوة التي لا تعرف الإنسانيَّة.

ب. من حق العبيد أن يقتنوا مالاً أو تكون لهم ممتلكات، لهذا فإن العبد الفقير متى صار له مال يقدر أن يفدي نفسه بماله (لا 25: 49). جاء في قصَّة شاول إنَّه سأل الغلام (عبد) إن كان معه مالاً ليقدِّمه هديَّة لصموئيل رجل الله؟ فقال: "بيدي ربع شاقل فضَّة" (1 صم 9: 8).

ج. للعبد حق أخذ زوجته وأطفاله معه متى تحرَّر، إن كان قد تزوَّج وهو حرّ.

د. يمكن أن يتمتَّع العبيد بكرامة خاصة، كما حدث مع أليعازر الدمشقي وهو عبد أجنبي سلَّمه إبراهيم تدبير بيته، ويوسف العبد العبراني جعله فرعون الرجل الثاني في كل مصر بعده (تك 15: 2؛ 39: 4).

هـ. لا يخرج العبد فارغًا بعد تحرُّره، بل يأخذ معه من الغلال والقطيع ومن البيدر والمعصرة (لا 25: 43)، هكذا لم يحرِّرنا السيِّد المسيح فحسب، لكنَّه وهبنا غنى روحه القدُّوس، فننطلق حاملين برُّه وقداسته فينا.

و. يمكن للعبد أن يتزوَّج ابنة سيِّده (1 أي 2: 35)، كما يمكن للسيِّد أن يتزوَّج الأمَة أو يعطيها زوجة لابنه، ولا يحق له أن يبيع العبد العبراني أو الأَمَة لسيِّد أجنبي (خر 21: 7-11). بهذا تصير الأَمَة من أهل البيت لها كل الحقوق كأحد أفراد الأسرة. هذه صورة حيَّة لعمل الله معنا الذي قدَّمنا نحن عبيده كعروس لابنه، فصار لنا شركة أمجاده السماويَّة.

ز. إن أهمل السيِّد أو ابنه في حق الأَمَة التي تزوَجها، من جهة الطعام أو الملابس أو حقوقها الزوجيَّة تصير الأَمَة حرَّة!

ح. إن ختن العبد (تك 17: 12) فمن حقُّه أن يشترك في ذبيحة الفصح (تك 17: 12) وفي الاحتفالات الدينيَّة الأخرى (تث 12: 12، 18؛ 16: 11، 14)، وأن يتمتَّع بالسبت (خر 20: 11؛ تث 5: 14).

أخيرًا، فقد ألغيت عادة العبيد العبرانيِّين وحرِّمت بعد العودة من السبي.

تحرير العبيد:

يتم تحرير العبيد بأحد الوسائل التالية:

1. بالفداء: يمكن لإنسانٍ ما أن يفدي عبدًا بأن يدفع ثمنه للسيِّد ويطلق حرِّيَّة العبد.

2. بعد إتمام فترة العبوديَّة: حسب الشريعة الموسويَّة لا يمكن أن يستعبد عبراني أخاه العبراني على الدوام. إنَّما يحرِّر العبد بعد ستَّة أعوام من العمل. "إن اشتريت عبدًا عبرانيًا فست سنين يخدم وفي السابعة يخرج حرًا مجَّانًا. إن دخل وحده فوحده يخرج. إن كان بعل امرأة تخرج معه. إن أعطاه سيِّدة امرأة وولدت له بنين أو بنات فالمرأة وأولادها يكونون لسيِّده وهو يخرج وحده". يتمتَّع العبد بالعتق من العبوديَّة في السنة السابعة من عبوديَّته، أي إن صح التعبير، في السنة السبتيَّة، سنة الراحة. هذه إشارة إلى الحرِّيَّة التي صارت لنا جميعًا بمجيء الرب في السنة السبتيَّة، أي في ملء الزمان وقدَّم لنا ذاته "سرّ الراحة الحقيقيَّة"، واضعًا حدًا لعبوديَّة الخطيَّة. في هذا يقول: "إن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 36).

للعبد حق الخيار أن يترك بيت سيِّده أو يطلب أن يبقى معه كل أيَّام حياته، فإن كان العبد يحب سيِّده وزوجته وأولاده عليه أن يستعبد نفسه لسيِّده بمحض إرادته إلى النهاية، فيقدِّمه سيِّده إلى الباب و يثقب أذنه، علامة الطاعة الكاملة، كقول داود المرتِّل: "أذني فتحت (ثقبت)" (مز 40: 6). هذا ما صنعه السيِّد المسيح الذي وهو الابن صار من أجلنا عبدًا، أحبَّ أباه وعروسه وأولاده (أف 5: 25-27) فحمل في جسده جراحات الصليب لأجل خلاصنا. صار عبدًا لكي يرفعنا من العبوديَّة إلى البنوَّة لله.

3. حسب شريعة اليوبيل: سنة اليوبيل هي كانت السنة العظمى حيث يتحرَّر جميع العبيد بغض النظر عن عدد السنوات التي خدمها. "إلى سنة اليوبيل يخدم عندك. ثم يخرج من عندك هو وبنوه معه ويعود إلى عشيرته، وإلى ملك آبائه يرجع" (لا 25: 40-41). لأن اليوبيل يتم في السنة الخمسين، رمزًا لعمل الروح القدس الذي يهب الكنيسة كمال الحرِّيَّة في استحقاقات دم المسيح. وبالروح القدس ننال غفران الخطايا، ونتمتَّع بالشركة مع الله في ابنه، ونحمل روح التبنِّي الذي به ننادي الله كأب لنا.

4. إن أصاب العبد ضرر: كان في ذلك الوقت يحسب هذا هيِّنًا، كأن يفقد العبد عينه أو إحدى أسنانه، يُعوَّض عن هذا بتحريره من العبوديَّة (خر 21: 26-27). إن ضرب إنسان عبده أو أمَته بالعصا فمات تحت يده يُنتقم منه (خر 22: 20).

5. الهروب: يلجأ بعض العبيد إلى الهروب للتحرُّر من العبوديَّة.

6. إصلاح الموقف: إذ صار إنسان عبدًا بسبب السرقة، فإنَّه متى سدَّد ما يلتزم به خلال عمله كعبدٍ يطلق حرًا (خر 22: 1-4).

7. موت السيِّد دون أن يوجد وارث: كقول إبراهيم في (تك 15: 2). هذه العبارة أثارت التساؤل: هل من حق العبيد أن يتمتَّعوا بالحرِّيَّة ويرثوا ما قد تركه السيِّد إن مات ولم يكن من يرثه، أم ذكر إبراهيم ذلك لكونه يخشى بعد موته أن يستولي رئيس العبيد على ذلك بحكم الظروف وليس حسب القانون.

8. بأمر إلهي مباشر كما جاء في إرميا: "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب بعد أن قطع الملك صدقيا عهدًا مع كل الشعب الذي في أورشليم لينادوا بالعتق، أن يطلق كل واحد عبده وكل واحد أَمَته، العبراني والعبرانيَّة حرّين حتى لا يستعبدهما" (إر 34: 8-9).

 

تحرير الأَمَة:

إذا بيعت أَمَة عبرانيَّة لدى عبراني كمدبِّرة منزل أو إحدى السراري، فإنَّها لا تستطيع أن تترك المنزل في السنة السابعة بعد عملها ولا في سنة اليوبيل ما دام الرجل قد اشتراها لهذا الهدف (خر 21: 7). لكنَّها تنال كمال الحرِّيَّة مجَّانًا في الحالات التالية:

·        إن لم يُسر بها سيِّدها، فإنَّها لا تُباع لأجنبي (خر 21: 8).

·        إن خُطبت لابنه ولم يُفعل معها ما يُفعل مع المخطوبات (خر 21: 9).

·        إن تزوَّج هو أو ابنه بها ثم تزوَّج بثانيَّة وأهمل في حقِّها من جهة الطعام أو الكسوة أو العلاقات الزوجيَّة معها (خر 21: 11؛ تث 21: 14).

حقوق السادة من نحو العبيد:

1. أن يقتني عبيده غير العبرانيِّين كمِلك دائم له (لا 25: 45).

2. أن يقدم عبيده غير العبرانيِّين ورثًا لأبنائه (لا 25: 46).

3. أن يُبقي الزوجة والأطفال الذين لكل العبيد، بالنسبة للذين صاروا عبيدًا وهو غير متزوِّجين (خر 21: 4).

4. أن يتعقَّب العبيد الهاربين ويردُّهم إليه (1 مل 2: 39-41).

5. من حقِّه منح الحرِّيَّة لأي عبد في أي وقت يشاء، بجانب التزامه بحق تحرير العبيد حسب الشريعة في السنة السابعة وسنة اليوبيل كما سبق فرأيناه.

6. من حقِّه أن يختن عبيده اليهود والأمميِّين الذين في بيته (تك 17: 13، 23، 27).

7. أن يبيع العبيد أو يستبدلهم (تك 29: 24). بالنسبة للعبد العبراني فتوجد شروط خاصة ببيعه.

8. أن يؤدَّب العبد – ذكرًا أو أنثى – لكن ليس إلى حد الموت (خر 21: 20).

9. أن يتزوج الأمة أو يقدمها زوجة لغيره (1 أي 2: 35).

10. من حق السيِّد أن يتزوج ابنة عبده (1 أي 2: 34 الخ).

11. أن يشتري عبيدًا من أسواقٍ أجنبية (لا 25: 44).

12. أن يحتفظ بعبدٍ هارب من سيِّد أجنبي (قاسي) ولو يحتفظ به ليس كعبدٍ (تث 23: 15-16).

13. أن يستعبد أو يبيع لصًا مقبوض عليه (تك 44: 8-33؛ خر 22: 3).

14. أن يطلب مشورة عبيده (1 صم 25: 14).

15. أن يطلب من عبيده القيام بالخدمة (تك 14:14؛ 24).

عبوديَّة الأممي:

غالبًا ما كانوا من أسرى الحرب (عد 31: 9، 2 مل 5: 2)، أو مُشترين (تك 17: 27، 37: 28، 36؛ خر 27: 13؛ يؤ 3: 6، 8)، أو بالميلاد (تك 17: 12). لكنَّنا لا نشتَمّ من الكتاب المقدَّس ولا من التاريخ أنَّه وجد سوق للرق عند اليهود[156].

قبل الشريعة الموسويَّة قدَّم لنا إبراهيم أب الآباء مثلاً حيًا في التعامل مع العبيد، فقد وضع في قلبه إن لم ينجب أن يترك ميراثه لأحد عبيده "اليعازر الدمشقي" (تك 15: 20)، الذي جعله وكيلاً على كل أمواله. وفي زواج اسحق برفقة (تك 24) ظهرت ثقة إبراهيم في عبده، وكان العبد في تصرُّفاته يكشف عن استحقاقه أن يكون موضع هذه الثقة.

وإذ جاءت الشريعة الموسويَّة قدَّمت للعبيد حقوقًا تحفظ لهم آدميَّتهم، منها:

1. من يسرق إنسانًا ويبيعه أو يوجد في يده يقتل (خر 21: 16).

2. جريمة قتل العبد تتساوى مع قتل الحرّ (لا 24: 17، 22).

3. أعطت الشريعة للعبيد أن يعبدوا آلهتهم الخاصة، أي حرِّيَّة العقيدة حتى وإن كانوا مخطئين، لكن من حق السيِّد العبراني أن يختن عبيده.

4. أعطتهم حق الاشتراك مع سادتهم في الأعياد (خر 20: 10، 23: 12).

المسيحيَّة والاهتمام بالعبيد:

عالجت المسيحيَّة مشكلة نظام الرق بطريقة موضوعيَّة، إذ لم تشأ إثارة العبيد ضد سادتهم، الذين كانوا يمثِّلون في المملكة الرومانيَّة نصف تعدادها، و يذكر بليني أن أحد الأثرياء الرومان يدعى كلوديوس أسيدورس في أيَّام أغسطس ترك بين ممتلكاته 4116 عبدًا[157].

لم يأتِ العهد الجديد بأمر يمنع نظام العبوديَّة، ولا أصدرت الكنيسة في بدء نشأتها قوانين تُحرِّم العبوديَّة. لكن استطاعت المسيحيَّة بما قدَّمته من مفاهيم قويَّة وحيَّة عن الحب أن تهز كيان هذا النظام وتحوِّله من نظام يتَّسم بالظلم والعنف مع المذلَّة لتحمل السادة نحو الحب والترفُّّق والحنو، كما رفعت من شأن العبيد لا ليثوروا مستخدمين العنف ضد سادتهم إنَّما طالبتهم بالطاعة (أف 6: 5-8، كو 3: 22-25، 1 تي 6: 1-2؛ 1 بط 2: 18-21)، فيشهدوا للمسيح الساكن فيهم.

جاءت حياة السيِّد نفسه ثورة عمليَّة ضد نظام العبوديَّة. صار كلمة الله الخالق عبدًا، لكي يحمل العبيد إلى البنوَّة. لقد أُسلم السيِّد المسيح مقابل ثلاثين من الفضَّة، بيع كعبد، فدخل إلى زمرة العبيد ولم يأنف منهم، بل قدَّس حياة المؤمنين منهم. هكذا إذ يرى العبيد في سيِّدهم إنَّه صار شريكًا لهم، يعيش بينهم كواحدٍ منهم، لا يستسلموا في مذلَّة، بل يروا أنَّه لن يستطيع أحد مهما بلغ غناه أو سلطانه أو عنفه أن يحطِّم نفسيَّتهم، إنَّهم شركاء السيِّد المسيح في حياته وآلامه. يحملون الحرِّيَّة الداخليَّة، لن يقدر كائن ما أن يحطِّمها أو ينزعها عنهم.

وإذ قبل كثير من السادة أصحاب العبيد الإيمان بالخالق المتجسِّد، الذي بإرادته ومسرَّة أبيه صار عبدًا، أخذوا أحد موقفين إمَّا تحرير العبيد أو التعامل معهم كاخوة أحباء حتى يقتنوا كل نفس لحساب ملكوت الله. كلا الاتِّجاهين دفع العالم نحو تحرير العبيد.

جاء السيِّد المسيح يوجِّه البشريَّة كلَّها نحو العبوديَّة الداخليَّة التي حطَّمت حرِّيَّة إرادتهم، قائلاً: "وتعرفون الحق والحق يحرِّركم... إن كل من يعمل الخطيَّة هو عبد للخطيَّة... إن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 31-36).

في اعتزاز يدعو الرسول بولس نفسه عبدًا (رو 1: 1؛ تي 1: 1)، إذ يؤمن أنَّه قد بيع لمخلِّصه، وهو يقود حياته وكل تصرًّفاته حسب إرادته الإلهيَّة، يشعر المؤمن الحقيقي أنَّه بكامل حرِّيَّته يلقي بكل كيانه بين يديّ محبوبه ليُحرِّكه كيفما يشاء.

آمنت الكنيسة بإمكانيَّة تأثير حتى العبد على سيِّده خلال الحياة المقدَّسة في الرب. فلا نعجب إن رأينا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم يقول للمستمعين في اجتماعاته: [إن كل واحد منهم يُعلِم الذين في الخارج أنَّه كان في صحبة السيرافيم. فالأب يعلِّم ابنه والأم ابنتها، وأيضًا العبد سيِّده. طالب مجمع غنغرا أن يخضع العبيد لسادتهم في الرب، ويشهدوا للإنجيل الحيّ فيهم، ولا يحاولوا الهروب من السادة ولا استخدام العنف معهم[158]].

لقد أكَّد الرسول بولس أنَّه ليس عبيد ولا سادة في المسيح يسوع (غلا 3: 28). لقد طالب كل من السادة والعبيد أن يتشبَّهوا بالسيِّد المسيح (أف 6: 5-9). عالج القدِّيس بولس الرسول مشكلة العبيد بمنظار إيماني، ففي الوقت الذي فيه طالب العبيد أن يُطيعوا سادتهم في الرب، وليس على حساب إيمانهم وخلاصهم، طالب السادة أن يحملوا نظرة جديدة نحو عبيدهم، بكونهم أخوة مساوين لهم، شركاء معهم في العبوديَّة لله سيِّد الجميع. طالبنا الرسول بولس بالخضوع للنظام البشري لكن في حدود إيمانيَّة، فيحمل العبد الشجاعة للاستشهاد إن طالبه سيِّده بما يُضاد خلاصه، ويُطالب السيِّد بتقدير العبد كأخ له.

لقد بدأ نظام الرق ينهار من جذوره، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسيَّة لهياج الدولة الرومانيَّة على الكنيسة المسيحيَّة[159]، أمَّا سرّ اِنهياره فيكمن في الأسباب التالية:

أ. ألزمت الكنيسة أولادها أن يعاملوا العبيد كاخوة لهم (1 كو 7: 21-22، فل 3: 28؛ كو 3: 11).

ب. قدَّم لنا الرسول بولس مثلاً عمليًّا في رسالته إلى تلميذه فليمون، فقد ردَّ العبد الهارب أنسيمُس إلى سيِّده فليمون. وبعث معه رسالة تعتبر أروع ما يمكن أن يُكتب من رسول بخصوص عبدٍ هاربٍ سارقٍ، حيث اعتبر العبد الهارب اللص أنسيمُس بعد توبته أخاه، وابنه الذي ولده في القيود، وأحشاءه، ونظيره، والمعين له في الخدمة، كما سيم أسقفًا. كما جاء في الرسالة: "لأنَّه ربَّما لأجل هذا افترق عنك إلى ساعة لكي يكون لك إلى الأبد، لا كعبد في ما بعد بل أفضل من عبد أخًا محبوبًا ولا سيما إليَّ".

ج. إذ عاش بعض السادة بروح الإنجيل التزموا بتحرير عبيدهم بوازعٍ داخلي، دون وجود أمر صريح بذلك.

د. كثيرون ممَّن كانوا عبيدًا نالوا رتبًا عالية أو كرامة كنسيَّة سامية، من هؤلاء من هم شهداء مثل بلاندينا وبابليس وفليكتاس، الذين تذكرهم الكنيسة كأبطال إيمان[160]. ومن العبيد أيضًا سيم أساقفة مثل أنسيموس تلميذ القدِّيس الرسول بولس، إذ صار أسقفًا على Borea بمكدونيَّة[161]؛ وكالستوس أسقف روما في القرن الثالث.

هـ.  شجَّعت الكتابات الكنسيَّة الأولى على اِنهيار هذا النظام. نذكر على سبيل المثال ما جاء في الديداكيَّة: [لا تنتهر (بمرارة) عبدك أو أَمَتك اللذين يترجَّيان الله إلهك، لئلاَّ يفقدا مخافة الله، الذي هو فوق الكل، وليس عنده محاباة الوجوه[162]].

يقول القدِّيس أكليمندس الإسكندري: [العبيد هم أناس مثلنا[163]].

ويقول الأب لاكتانتيرس: [العبيد ليسوا عبيدًا لنا، لكنَّنا نحسبهم اخوة في الروح، وهم عبيد شركاء معنا في الدين[164]].

كما جاء في كتابات القدِّيس أغناطيوس الأنطاكي: [لا تحتقر العبيد، ولا تدعهم ينتفخون في كبرياء، بل بالأحرى يتَّضعون لأجل مجد الله[165]].

واعتبر القدِّيس أغسطينوس أن ظهور العبوديَّة إنَّما هو ثمرة الخطيَّة، فإن المقاصد الإلهيَّة لا تقبل أن يملك إنسان على زميله الإنسان ويسيطر عليه[166]. ونادى القدِّيس يوحنا ذهبي الفم بذات الفكرة[167]، حيث قال: [إن العبوديَّة ظهرت فقط حينما سقط كنعان تحت اللعنة (تك 9: 25)].

حثَّ القدِّيس يوحنا الذهبي الفم، وهو معاصر القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص، المسيحيِّين ألاَّ يقتني أحد أكثر من عبدين لخدمة بيته وليس لإذلالهما[168]. لقد تحدَّث القدِّيس يوحنا الذهبي الفم عن عشرات السادة الذين اقتنوا ألفًا من العبيد[169]، وبعض السادة في إنطاكيَّة لديهم المئات منهم. ويوضِّح القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن العبوديَّة ليست في خطَّة الله الأصليَّة[170].

يُعلن اللاهوتي الكبادوكي القدِّيس غريغوريوس النزينزي أن العبوديَّة هي تمييز أثيم، ومع ذلك فهي جزء من الواقع الحاضر[171].

وبنفس الروح يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [إنَّه ليس أحد بالطبيعة عبدًا. لكنَّه في نفس الوقت لم يطلب مقاومة نظام المجتمع، إذ يقول: [وإن كان إنسان ما يُجعل سيِّدا والآخر عبدًا، مع هذا فخلال نظرتنا الخاصة بالمساواة في الرتبة، نحن جميعًا قطيعًا لخالقنا، اخوة عبيد[172]].

نظرة القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص للعبوديَّة:

يرى بعض الدارسين أن القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص هو أول لاهوتي قام بثورة فكريَّة ضد العبوديَّة. قدم في منتصف عظته الرابعة على سفر الجامعة أساسًا لاهوتيًا لمقاومة العبوديَّة يتلخَّص في النقاط التالية.

·        أن يظن كائن بشري إنَّه سيِّد لجنسه، إنَّما يحسب في نفسه إنَّه مختلف عن الخاضعين له (كأنَّه من طبيعة غير طبيعتهم).

·        الطبيعة البشريَّة التي خلقها الله حرَّة، لكل منهم حق أخذ قراراته المصيريَّة بنفسه.

·        يجب التمييز بين الممتلكات والخليقة غير العاقلة، وبين صورة الله ومثاله الكائن العاقل الحرّ.

·        استحالة السيادة على صورة الله الحرة، فإنَّه لا يقدر إنسان أن يدفع ثمن آخر!

·        اللقب (سيِّد) لا يُعطي سيادة على الخاضعين له.

·        من أنت يا من تظن أنَّك سيِّد لكائن بشري؟

فيما يلي فقرات ممَّا وردد في كتاباته:

1. كلُّنا متساوون بالطبيعة:

v     جميعنا متساوون بالطبيعة[173].

v     ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشريَّة إلى عبيد وسادة[174].

v     وهب الله البشريَّة حق تقرير مصيرها (ليس للسيِّد أن يتحكَّم في حياة العبد)[175].

v     هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون هو مساوي لك في كرامة الطبيعة[176].

v     (خلقت البشريَّة في الأصل متكاملة) لكل واحدٍ سلطان أن يدير حياته بلا سيِّد، وأن يمارس حياة بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد إلاَّ أن تُستعبد[177]؟!

v     أن تُقسَم الخليقة التي تحتفظ بحق الطبيعة في المساواة إلى عبيد وقوَّة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله[178].

v      (العبوديَّة هي) خصي لتكامل الكائن الحي[179].

v     حالة الاستقلال والحرِّيَّة هي استدعاء الحكمة لإرادة الإنسان[180].

v     أكبر مشكلة للحرِّيَّة هو أن يكون الإنسان سيِّد نفسه[181].

2. الله سيِّد الكل:

v     يقول (السيِّد): لقد اقتنيت لي عبيدًا وجواري، وقد ولد عبيد في بيتي لأجلي. اُنظر مدى بشاعة العجرفة؟ مثل هذا النوع من الحديث هو تحدِّي لله. إذ نسمع من النبوَّة أن كل الأشياء عبيد للقوَّة التي تفوق على الكل. لذلك عندما يحوِّل أحد ممتلكات الله ليجعلها ممتلكاته، وينتحل لنفسه سلطانًا على جنسه ظانًا أنَّه يملك رجالاً ونساء، فإن ما يفعله ليس إلاَّ تخطِّي لطبيعته بالكبرياء، ظانًا في نفسه أنَّه شيء مختلف عن الخاضعين له[182].

3. الطبيعة البشريَّة حرَّة:

v     "اقتنيت عبيدًا وجواري". ماذا تُعني؟ تلزم إنسانًا بالعبوديَّة بينما طبيعته حرَّة وله إرادة حرَّة (له حق تقرير مصير نفسه)، وأنت تقدِّم تشريعًا فيه منافسة مع الله، محوِّلاً شريعته إلى شريعة بشريَّة. لقد وضع سمات معيَّنة ليكون الإنسان هو ملك الأرض، وأن تُدار حياته بواسطة الخالق، هذا الذي أنت تأتي به إلى نير العبوديَّة، وكأنَّك تتحدَّى القانون الإلهي وتحاربه[183].

4. لماذا تتعدَّى حدود سلطانك؟

v     لقد نسيت حدود سلطانك، قانونك هو أن تسيطر على الأشياء غير العاقلة، فقد كتب: "لتتسلَّطوا" على الطيور والأسماك وذوي الأربعة أرجل والزحافات. لماذا تتعدَّى الحدود في ما يخضع لك وتقيم نفسك فوق من هم أحرار، حاسبًا من هم من جنسك كمن في مستوى ذوي الأربعة أرجل بل وفي مستوى من لا أرجل لهم؟

أخضعت كل الأشياء للإنسان، هكذا تعلن كلمة النبوَّة، وجاء في النص الأشياء الخاضعة: الغنم والثيران والقطيع. حقًا لم يولد الإنسان من قطيعك! لم تحبل البقر بقطيع بشري! الكائنات غير العاقلة هي وحدها العبيد للإنسان.

بتقسيمك البشر إلى "عبيد" و"مُلاَّك" تجعل من البشريَّة تَستعبد نفسها، وتملك نفسها![184].

5. أي ثمن دفعته لشراء عبيدك؟

v     "اقتنيت لي عبيدًا وجواري"

اَخبرني بأي ثمن؟ ماذا وجدت في المسكونة ما يُضاهي الطبيعة البشريَّة؟

أيّ ثمن تقدِّمه مقابل التعقُّل (لأن العبد إنسان عاقل)؟

كم obole يمكن دفعه مقابل التشبُّه بالله (لأن العبد على شبه الله)؟

كم staters أخذت عندما بعت كائنًا شكَّله الله؟

يقول الله: "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا". فإن كان على شكل الله ويسيطر على الأرض، ووُهب سلطانًا على كل ما على الأرض من قبل الله، فمن يكون المشتري؟ أخبرني! من بائعه؟ الله لا يريد أن ينزل بالجنس البشري إلى العبوديَّة، إذ هو نفسه - عندما صرنا عبيدًا للخطيَّة - تلقائيًا دعانا إلى الحرِّيَّة. إن كان الله لا يستعبد ما هو حرّ، من هو ذاك الذي يجعل سلطانه فوق الله؟[185].

6. هل يُباع العبد مع ما يمتلكه؟ الأرض كلّها!

يرى البعض أنَّه بحسب القانون الروماني عندما يُباع عبد لا تشمل عمليَّة البيع ممتلكات العبد (مثل ثيابه)، لكن القدِّيس غريغوريوس وهو يوبِّخ من يشترك في عمليَّات بيع أو شراء العبيد يتحدَّث بلغة الإنسان الروحي والواعظ لا المحامي ورجل القانون، إذ يرى من العار أن يباع الإنسان وهو كائن حرّ مع ما يملكه، فقد أقام الله الإنسان ليُسيطر على الأرض كلّها.

v     كيف يُعرض للبيع صاحب السلطان على كل الأرض وكل الأمور الأرضيَّة؟ فإن ما يملكه الشخص المبُاع يرتبط به ويُباع معه أيضًا. ما هي قيمة الأرض كلّها؟ كم قيمة الأشياء التي على الأرض؟ إن كانت لا تقدَّر بثمن، فأي ثمن يُقدَّم عن ذاك الذي فوق الكل؟ اخبرني...

ذاك الذي يعرف الطبيعة البشريَّة بحق يقول إن كل العالم لا يستحق أن يُقدِّم مقابل نفسٍ بشريَّة. لذلك عندما يُقدَّم كائن بشري للبيع فإن مالك الأرض يُقدَّم إلى مزاد للبيع.

لنفرض إذن أن الأشياء التي يمتلكها تُقدَّم أيضًا للمزاد. هذا يعني أن الأرض كلَّها، والجزائر، والبحار وكل ما فيها مقدَّمة للبيع. ماذا سيدفع المشتري؟ ماذا يقبل البائع واضعًا في حساباته بالتفصيل كم هي الممتلكات موضوع الصفقة[186].

7. كيف يُكتب عقد بيع العبد؟

يرى القدِّيس غريغوريوس أن الله الذي وهب الإنسان أن يسيطر على العالم كلُّه كيف يُمكن لورقةٍ وقلمٍ أن يُسجِّلا بيعه وشراءه!

v     هل قطعة من الورق، والعقد المكتوب، وعدّ العملة يخدعك ظانًا في نفسك أنَّك صرت سيِّدا على صورة الله؟ أيَّة غباوة هذه؟! فإن فُقد العقد، إن أكل العث الكتابة، أو سقط عليها نقطة ماء فأفسدتها، أيّ ضمان لك من جهة عبوديَّتهم؟ ما الذي يُعضِّد لقبك كمالكٍ[187].

لم يتحدَّث القدِّيس غريغوريوس صراحة عن الثمن الذي دُفع عن كل نفسٍ بشريَّة، وهو دم السيِّد المسيح الذي اشترانا، ولن تستطيع قوَّة أن تنتزع هذا الصك أو تفسده أو تمحيه. لقد اشترينا جميعًا بثمنٍ، ولا يستطيع أحد منا أن يشتري أخاه!

8. اختلاف في اللقب لا غير:

يرى القدِّيس غريغوريوس أن الاختلاف بين السيِّد والعبد هو في اللقب لا غير، لكنهما شريكان في كل شيء.

v     لا أرى أن لك سمو على الخاضعين لك سوى اللقب وحده.

ماذا يقدِّم لك هذا السلطان كشخص؟ لا يهبك طول عمرٍ ولا جمالاً ولا صحَّة، ولا سموًا في الفضيلة.

أصلك من نفس الأسلاف التي ينسب إليها، وحياتك من نفس نوع حياته، آلام النفس والجسد تحوط بك يا من تملكه وبالذي يخضع لملكيَّتك: من آلام ومسرَّات، مرح ومصائب، أحزان ومباهج، ثورات ومخاوف، أمراض وموت. هل يوجد خلاف في هذه الأمور بين العبد ومالكه؟ ألم ينسحب إلى ذات الهواء الذي يتنسمه؟ ألا يصير الاثنان ترابًا واحدًا بعد الموت؟ أليست دينونة واحدة للاثنين؟ ملكوت واحد وجهنَّم واحد!

إن كنتما متساويين في كل مثل هذه الأشياء ففي أي شيء أنت أعظم منه؟ أخبرني وأنت بشري تظن أنَّك سيِّد لكائن بشري؟ ويقول: "اقتنيت عبيدًا وجواري"، وكأنَّهم قطيع من الماعز أو الخنازير[188].

9. دعوة لعتق العبيد:

في عظة له على عيد القيامة المجيد حثَّ القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص السادة على تحرير عبيدهم كما حرَّرنا السيِّد المسيح بقيامته من عبوديَّة الخطيَّة.

[الآن هل تحرَّر المسجونون، وعُفي عن المدينين، وعتق العبيد بإعلان صالح ولطيف من قبل الكنيسة؟!

لقد سمعتم أيُّها السادة، أعطوا اهتمامًا لقولي كقولٍ صادقٍ.

انزعوا الألم عن النفوس المتضايقة كما ينتزع الرب الموت عن الأجساد،

وحوِّلوا عارهم إلى كرامة،

وضيقهم إلى فرح،

وخوفهم من أن يتحدَّثوا إلى انفتاح.

احضروا المطروحين في الزوايا كما من قبورهم،

اجعلوا جمال العيد يزهر كزهرة فوق كل أحدٍ[189].

في موضع آخر يقول:

[اللطف يزهر في... تقديم يدٍ سخيَّة لعبيدٍ نالوا سعادة قليلة في بدء عبوديَّتهم، وعانوا مرارة في حياتهم بعد[190]].

وفي حديث آخر يعتقد القدِّيس غريغوريوس أن المجتمع المسيحي يلزمه أن يلتزم بالمساواة، لذا يجب انتزاع العبوديَّة وكل ظلم من الجماعة الكنسيَّة.

[لتُمحى الاختلافات الاجتماعيَّة، فلا يوجد خضوع وسلطة، فقر وغنى فاحش، عامي منحط وأسرة مكرمة، ولا مجال لعدم المساواة... لنحكم بالمساواة السياسيَّة والتشريعيَّة، وتوزَّع على كل واحدٍ في كمال الحرِّيَّة وبطريقة مملوءة سلامًا ليختار ما يريده[191]].

<<

 

 

 

 


 
الأصحاح السادس عشر

الأعياد السنويَّة

غاية الوصيَّة الإلهيَّة أن تتحوَّل حياة المؤمن إلى عيدٍ دائمٍ، وكما يؤكِّد في هذا الأصحاح "لا تكون إلاَّ فرحًا" [15]. يحدِّثنا موسى النبي عن الثلاثة أعياد السنويَّة الرئيسيَّة الكبرى (خر 23: 14-17؛ 34: 18-23؛ لا 23)، والتي يمكن دعوتها "أعياد السياحة أو الغربة"، فيها يذكر الشعب تغرُّبه بفرح وسرور مقدِّمًا عطايا لبيت الرب قدر استطاعته وهي:

1. عيد الفصح [1-8]: يرمز للفداء، فيه تهلَّلت البشريَّة بغلبتها على إبليس.

2. عيد الأسابيع أو البنطقستي [9-12]: يرمز لفرحنا بحلول الروح القدس علينا (العنصرة).

3. عيد المظال [13-17]: إذ نقيم هنا كما في مظالٍ نترقَّب كمال المجد في المسيح.

لم يشر هنا إلى الأعياد الكبرى الأخرى مثل عيد الأبواق ويوم الكفَّارة، إذ اكتفى بالأعياد التي يجتمع فيها الشعب معًا في بيت الرب. وقد سبق لنا الحديث عن الأعياد أثناء دراستنا لأسفار الخروج والعدد واللاويِّين، عن مفاهيمها الروحيَّة، وطقوسها، ونظامها، لدراسة الأعياد راجع [عد 28-29].

يهتم هنا بالتركيز على الفرح الجماعي والعبادة الجماعيَّة في الموضع الذي يختاره الرب، وألاَّ يظهر المؤمن فارغًا في بيت الرب. يختم ذلك بتأكيد العدالة في القضاء في بيت الرب، وعدم الخلط بين عبادة الله والعبادة الوثنيَّة. علامة الإخلاص للعهد عطاء القلب لله بممارسة الفرح والتهليل. هكذا تمزج الشريعة العطاء القلبي بالفرح المستمر في الرب مع ممارسة العدالة كعلامة للإخلاص لله العادل الذي يرفض الظلم. إذ لا يفصل بين الشرائع التي تحكم بين المؤمنين والشرائع الخاصة بالعبادة. هذا ما نلاحظه عبر السفر كلُّه. فلا عدالة وحب بدون عبادة نقيَّة، وليست عبادة مقبولة دون عدل ورحمة نحو الاخوة. هكذا تمتزج العبادة بالسلوك ليعملا معًا كحياة واحدة مقدَّسة لا تتجزَّأ.

1. عيد الفصح                                 [1-8].

2. عيد الأسابيع                               [9-12].

3. عيد المظال                                 [13-15].

4. الأعياد والعطاء                             [16-17].

5. الأعياد والعدالة                             [18-20].

6. عدم الخلط بين عبادة الله والأوثان          [21].

1. عيد الفصح:

عيد الفصح بالنسبة للشعب العبراني له معناه الخاص، ففيه خروج آبائهم من مصر ليعبروا إلى البريَّة، منطلقين نحو أرض الموعد. وهو العيد الذي فيه وُضع الأساس لإقامة الشعب كأمَّة وُلدت في مصر، في بلدٍ غريب، ثم انطلقت إلى البريَّة كصبيَّة غريبة مخطوبة لعريسها. كقول الرب في سفر إرميا: "قد ذكرت لكِ غيرة صباكِ، محبَّة خطبتكِ، ذهابك ورائي في البريَّة في أرض غير مزروعة" (إر 2: 2). وكأن عيد الفصح هو تذكُّر انطلاق الصبيَّة المولودة في الغربة إلى حالة نضوج لتكون عروسًا روحيَّة للسماوي.

هذا ما جعل حدث "الخروج" أو "عيد الفصح" عَصَب الكتاب المقدَّس، بكونه ظلاً للخروج الذي حقَّقه لنا فصحنا يسوع المسيح، الذي يعبر بنا من أرض العبوديَّة إلى البريَّة، متَّجهين نحو السماء، كعروسٍ سماويَّة مزينة لرجلها (رؤ 21: 2). وقد سبق أن عرض سفر الخروج لتفاصيل هذا العيد في الأصحاح الثاني عشر.

شريعة عيد الفصح لها قدسيَّتها الخاصة، فيلتزم الشعب بحفظ الشهر كلُّه، مع أن العيد يحتفل به لمدَّة أسبوع واحد وسط الشهر.

"احفظ شهر أبيب واعمل فصحًا للرب إلهك،

لأنَّه في شهر أبيب أخرجك الرب إلهك من مصر ليلاً" [1].

جاء في الترجمة السبعينيَّة: "احفظ شهر الأمور الجديدة، واحفظ الفصح للرب إلهك".

v     لقد انتهى زمان الظلال، والأمور القديمة قد بطلت، الآن شهر الأمور الجديدة قد صار بين أيدينا، والذي يليق بكل إنسان أن يحفظ العيد في طاعة له[192].

البابا أثناسيوس الرسولي

شهر أبيب أو شهر الثمار الجديدة (ما بين شهريّ مارس وإبريل)، هو الشهر الذي فيه تمتَّع الشعب بالخروج من مصر، والانطلاق من العبوديَّة. صار هذا الشهر هو بدء السنة اليهوديَّة (خر 12: 2).

v     إن كان الله نفسه يحب العيد، ويدعو إليه، لهذا لا يليق يا اخوة أن تتأخَّروا في الاحتفال به، ولا أن تحفظوه بإهمال، وإنَّما نأتي إليه بنشاطٍ وغيرةٍ، ونقبل نحو هذا العيد السماوي بغيرة[193].

البابا أثناسيوس الرسولي

دُعيَ عيد العبور حيث عبر الملاك المهلك على الأبواب المرشوشة بالدم ولم يهلك أحدًا (خر 12: 2). قُدِّم الفصح ليلاً، وفي نصف الليل ضرب الرب أبكار المصريِّين (خر 12: 29)، عندئذ ألحَّ المصريُّون على الشعب أن يخرج.

في هذا العيد نخرج روحيًا من "رعمسيس" بمصر، وفي ذهن العلامة أوريجانوس معناها "الارتباك". ننطلق من حيث الارتباك والفساد إلى حيث السلام الداخلي والقداسة. عيد الفصح هو دعوة لمراجعة النفس في ارتباطها بالفصح الحقيقي، ذبيحة المسيح الفريدة، القادرة وحدها أن تنقلنا إلى حضن الآب، حاملين برّ مخلِّصنا، فنجد فيه فرحنا الدائم، وسلامنا الأبدي، وشركتنا الحيَّة السماويَّة مع القدُّوس نفسه.

لنخرج روحيًا كما في نصف الليل وسط الظلمة الدامسة، لننعم بعربون السماء، حيث لا تحتاج إلى شمسٍ أو قمرٍ ولا إلى سراجٍ يُضيئها، لأن شمس البرّ نفسه يشرق فيها. يقيم فينا ملكوته السماوي، ويعكس بهاء مجده علينا، فلا تقدر قوَّات الظلمة أن تقترب إلينا.

مع كل يوم أحد، بل مع كل نسمة من نسمات حياتنا نحتفل بعيد الفصح، حيث نختبر قيامة المسيح فصحنا، فنعيش الحياة المقامة التي تتحدَّى آخر عدو وهو الموت! يحوِّل الله كل أيَّامنا إلى عيدٍ غير منقطعٍ، ويُشرق في نصف الليل وسط الظلمة لنتمتَّع ببهاء مجده وسط غربتنا.

"فتذبح الفصح للرب إلهك غنمًا وبقرًا في المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه.

لا تأكل عليه خميرًا،

سبعة أيَّام تأكل عليه فطيرًا خبز المشقَّة،

لأنَّك بعجلة خرجت من أرض مصر لكي تذكر يوم خروجك من أرض مصر كل أيَّام حياتك.

ولا يرى عندك خمير في جميع تخومك سبعة أيَّام.

ولا يبت شيء من اللحم الذي تذبح مساء في اليوم الأول إلى الغد.

لا يحل لك أن تذبح الفصح في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك.

بل في المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه هناك تذبح الفصح مساء نحو

غروب الشمس في ميعاد خروجك من مصر.

وتطبخ وتأكل في المكان الذي يختاره الرب إلهك، ثم تنصرف في الغد وتذهب إلى خيامك.

ستَّة أيَّام تأكل فطيرًا وفي اليوم السابع اعتكاف للرب إلهك لا تعمل فيه عملاً" [2-8].

سبق لنا الحديث عن طقس هذا العيد في تفسير خروج 12، وعدد 28. أمَّا هنا فنركِّز على النقاط التالية.

أولاً: أن تقدَّم ذبائح العيد في المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه [2، 6، 7]. لم يشر هنا إلى أورشليم، إذ لم يكن قد بُني الهيكل بعد. هذا يؤكِّد أن السفر قد كُتب قبل عصر داود حيث اختيرت أورشليم كمدينة الله ليُقيم فيها سليمان بن داود هيكل الله.

تُقدَّم الذبائح "في المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه" [2]، مؤكِّدًا أن بيت الرب هو هبة الله لشعبه، يختار الموضع ليُعلن سكناه في وسط شعبه. هكذا إذ يتطلَّع الإنسان إلى أعماقه يرى في داخله هيكلاً اختاره الرب لكي يقدِّم فيه ذبائح الحب والشكر لله خلال الصليب "ذبيحة الفصح". في داخلنا أورشليم الروحيَّة التي اختارها الله بنفسه مدينته المقدَّسة، وأقام فيها هيكله، ويتقبَّل في داخلها تقدماتنا.

لا زالت الوصيَّة قائمة: "تذبح الفصح للرب إلهك غنمًا وبقرًا في المكان الذي يختاره الرب ليحل اسمه فيه" [2]. ما هو هذا المكان سوى الجلجثة، حيث قُدِّمت ذبيحة الفصح الفريدة، فإن كل تقدمة أو ذبيحة تُقدَّم خارج الجلجثة لن يشتمها الله الآب رائحة سرور ورضا. هذا هو عمل روح الله القدُّوس، الذي يجعل من الكنيسة جلجثة يلتقي فيها المصلوب مع محبوبيه القادمين ليحملوا معه صليبه. هناك تقدَّم ذبائح الحب الحق.

عمل الروح القدس أيضًا أن يُقيم من النفس جلجثة ويبني مذبحًا غير مصنوع من حجارة، بل هو مذبح فائق، فيه يُعلن مسيحنا صليبه، وتجد النفس لذَّتها باللقاء معه قائلة: "تحت ظلِّه اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي، أدخلني إلى بيت الخمر وعَلَمه فوقي محبَّة" (نش 2: 3-4).

ليتنا لا نذبح الفصح في الموضع الذي نختاره نحن، بل يختاره روح الرب ويُقيم منه جلجثة حقَّة!

ثانيًا: في [2] أشار إلى تقديم الذبيحة في اليوم الأول من العيد، من الغنم أو البقر، حيث تؤكل في العشاء الخاص بالفصح، لا يبقى منها شيء إلى اليوم التالي. أمَّا في بقيَّة أيَّام العيد فيُمكن ذبح أيَّة حيوانات أخرى. يربط العيد بالذبائح، فالفصح نفسه هو ذبيحة؛ والمسيح فصحنا ذُبح لأجلنا (1 كو 5: 7)، كما كانت تقدَّم ذبائح أخرى خلال أيَّام العيد السبعة (عد 28: 19). لهذا يقول: "فتذبح الفصح للرب إلهك غنمًا وبقرًا" [2].

في كل قدَّاس إلهي إذ نحتفل بعيد فصحنا، أي بصليب المسيَّا وقيامته، فيه نتمتَّع بالشركة مع المسيح الذبيح، فنقدِّم حياتنا المبذولة ذبيحة حب مقبولة خلال الصليب. من لا يقبل الصلب مع المسيا المصلوب لا يختبر بهجة القيامة معه، ولا يتذوَّق "عيد الفصح". لهذا يقول القدِّيس أغسطينوس وهو يتطلَّع إلى المذبح الذي يحمل جسد الرب ودمه المبذولين مطالبًا إيَّانا أن نقبل شركة آلامه عمليًا، فيقول: "أنتم فوق المذبح، أنتم داخل الكأس".

ثالثًا: يأكلون فطيرًا غير مختمرٍ لمدة سبعة أيَّام [3-4، 8]، ليس فقط لا يستخدمون الخميرة طوال أيَّام العيد، بل ولا يسمحون بوجودها في البيت (1 كو 5: 7).

رابعًا: يدعو هذا الفطير "خبز المشقَّة"، إذ هو ليس سهلاً في الهضم، وطعمه غير لذيذ. ربَّما يشير إلى القسوة التي كانوا يعانون منها في أرض العبوديَّة. إذ يأكلونه يتذكَّرون كيف خرج آباؤهم من مصر بسرعة ولم يكن خبزهم قد اختمر. حسب الطقس اليهودي كان رب العائلة يكسر الخبز غير المختمر، ويعطي كل واحد من أفراد الأسرة وهو يقول له: "هذا هو خبز المشقَّة الذي أكله آباؤك في أرض مصر".

رأى الرسول بولس في الخبز غير المختمر إشارة إلى الاحتفال بالعيد بروح الإخلاص بغير رياء، أو بغير خمير الخبث (1 كو 5: 7). هذا العيد يمتد إلى سبعة أيَّام، أي إلى الأسبوع كلُّه، أو كل حياة الإنسان.

يرى المسيحي في كل أيَّام حياته عيدًا للفصح، حيث يقبل المسيح الذبيح في أعماقه علَّة فرحٍ سماوي لا ينقطع.

بقوله: "تذهب إلى خيامك" [7] واضح أن السفر قد كُتب حيث كان الشعب لا يزال يسكن الخيام. غير أن هذا التعبير صار فيما بعد مستخدمًا ليشير إلى المساكن سواء كانت خيامًا أو مبانٍ (1 صم 13: 2؛ 2 صم 20: 1؛ 1 مل 8: 66 الخ).

المسيح فصحنا:

كان عيد الفصح يسكب على اليهود بهجة خاصة مرة واحدة في السنة، فيه تذبح مئات الألوف من الحملان العاجزة عن تطهير الأعماق الداخليَّة. أمَّا رجال الله الحقيقيُّون فكانوا يتطلَّعون إلى الحمل الحقيقي القادر وحده أن يطهِّر إلى التمام، ويسكب بهجة على المؤمنين كل أيَّام غربتهم، بل وفي السماء عينها. رأى القدِّيس يوحنا الحبيب في وسط العرس إنَّه "خروف قائم كأنَّه مذبوح" (رؤ 5: 6). وإذ رأى القدِّيس يوحنا المعمدان يسوع مقبلاً إليه قال: "هذا هو حمل الله الذي يرفع خطيَّة العالم" (يو 1: 29). وقال عنه الرسول بطرس: "عالمين أنَّكم اُفتديتم لا بأشياء تفنى بفضَّة أو ذهبٍ من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدمٍ كريمٍ كما من حملٍ بلا عيب ولا دنسٍ، دم المسيح، معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم" (1 بط 18: 19). هكذا قبل سقوطنا في الخطيَّة قبِل كلمة الله بإرادته أن يقدِّم نفسه كخروف فصح ليعبر بالإنسان الذي سيسقط ويدخل به إلى الأمجاد. أمَّا الرسول بولس فبكل وضوح يدعو صليب المسيح عيدًا للفصح، إذ يقول: "لأن فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا، إذًا لنعيد" (1 كو 5: 7-8).

هكذا حوَّل مخلِّّصنا يسوع المسيح بصليبه حياتنا إلى عيد فصحٍ دائمٍ، فلا نأكل لحم خروفٍ عاجز عن القيامة، بل نتناول جسده ودمه المبذولين، فننعم بالحياة الفصحيَّة المقامة. نأكله لا بأعشابٍ مُرَّةٍ، بل بروح التوبة الصادقة، فندخل إلى بهجة ملكوته السماوي. لا نرش الدم على قوائم أبواب بيوتنا، بل يرشُّه روح الله في أعماقنا، فتنفتح أمامنا أبواب السماء، ويصير لنا حق الدخول إلى حضن الآب في استحقاقات دم المسيح وبرِّه.

2. عيد الأسابيع:

يرتبط عيد الفصح بحدثٍ تاريخيٍ، وهو انطلاق الشعب من العبوديَّة، كرمز للحرِّيَّة التي صارت لنا في المسيح يسوع. أمَّا عيد المظال أو الأسابيع ففيه تقدمة شكر لعمل الله الذي يفيض علينا بالميراث من الأرض التي وهبنا إيَّاها. العيد الأول هو عيد المصالحة بين الله والإنسان خلال الدم، والعيد الثاني هو عيد المساواة بين بني البشر، فيشترك الكل معًا في الفرح أمام الرب، أيضًا خلال ذبيحة المسيح.

عيد الأسابيع الذي هو البنطقستي أو الخمسين، حيث يحتفل بعد سبعة أسابيع من عيد الفطير (اليوم الخمسين). فيه يُبعث الرسل لحصاد حزمة شعير تُقدَّم للرب كبكورٍ (لا 33: 10). يرى البعض أن العيد يحتفل بالعناية الإلهيَّة بالأرض حيث يتم الحصاد في موعده خلال رعاية الله بالأحوال الجويَّة.

كيف يُحتفل بالعيد؟

"سبعة أسابيع تحسب لك من ابتداء المنجل في الزرع تبتدئ أن تحسب سبعة أسابيع.

وتعمل عيد أسابيع للرب إلهك على قدر ما تسمح يدك أن تعطي، كما يباركك الرب إلهك" [9-10].

أولاً: إحضار تقدمة للرب، كلٌ قدر استطاعته [10]، وهي تقدمة اختياريَّة، أشبه بجزية تقدَّم للملك "الله نفسه" صاحب الأرض، والذي وهبها للشعب كي يعمل فيها. هذه تقدمة "حرِّيَّة الإرادة"، إذ تُرك للمؤمن أن يقدِّم حسب كرمه دون وضع حدود معينة، ولكي يقدِّم بفرح وبكامل حرِّيَّته. كما أن الرب يعطيه بسخاء، إذ يبارك محصوله [10]، هكذا يليق به أن يقدِّم له ممَّا وهبه بسخاء.

إذ هو عيد شكر لله السخي في العطاء، يليق أن يعبَّر عن هذا العيد ليس فقط بالعبادة وإنَّما أن يتشبَّه المؤمن بإلهه فيكون سخيًا في العطاء لأخيه المحتاج.

ثانيًا: أن يُمزج العطاء بالفرح:

"وتفرح أمام الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك وأَمتَك واللاوي الذي في أبوابك والغريب

واليتيم والأرملة الذين في وسطك،

في المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه" [11].

يترجم المؤمن شكره لله عمليًا بعطائه السخي لأخيه، وفرحه بالعطاء بروح التسبيح. فيفرح ويُفرِّح قلوب اخوته معه.

غاية الأعياد تمتُّع المؤمن بالفرح الروحي ليحيا كما في السماء، ويعكس هذا الفرح على حياة أسرته وأقربائه والعاملين معه وتحته. يمارس هذا الفرح في بيته وعبادته وعمله وفي لقائه مع الغير، خاصة المساكين والمحتاجين. فالفرح أمام الرب لا يقف عند تقديم تسابيح بالفم لله، وإنَّما يعبر الإنسان بكل كيانه عن فرحه وشكره لله.

يرى أحد المفسِّرين اليهود راشي[194] Rashi أن الله يطلب من المؤمن أن يفرِّح قلوب ثمانية: أربعة من جانب المؤمن هم: "الابن والابنة والعبد والأَمَة"، وأربعة من جانب الله: "اللاوي والغريب واليتيم والأرملة". هكذا يحتفل المؤمن بالعيد، جالسًا وسط أسرته وعبيده ورجال الله والغرباء والمحتاجين. يهتم المؤمن بأسرته ليشتركوا معه في بهجته بالعيد، ولا ينسى عبيده العاملين في بيته، وفي نفس الوقت يشترك معه من يخدم الرب ومن يهتم بهم الرب من أيتام وأرامل.

 كل من يفقد حبُّه العائلي، أو يتشامخ على المرذولين من العبيد والإماء، أو لا يبالي بخدَّام الرب، ولا يفتح بيته للغرباء، ولا يهتم بالمحتاجين، يعجز عن أن يحتفل بالعيد.

بهذا يصير الاحتفال بالعيد أيقونة للسماء حيث يجتمع الكل حول الله ويتمتَّعون بأحضانه، فيجد المؤمن نفسه كما في وسط أسرته، بلا تمييز بين سيِّد وعبد، ذكر وأنثى، يهودي أو أُممي، غني أو فقير، كاهن وأحد أفراد الشعب.

يرتبط هذا الفرح بالعبادة، خاصة بتقديم ذبائح السلامة، وذبائح التسبيح والشكر لله، فيصير القلب حاملاً طبيعة الشكر المتهلِّلة.

يميِّز نوع الفرح، فيقول "تفرح أمام الرب"، لأن فرح العالم الذي يقوم على اللهو وعدم الالتزام بالمسئوليَّة وما إلى ذلك لا يتحقَّق أمام الرب، ولا يملأ النفس في الداخل، بل غالبًا ما يتحوَّل إلى حزن.

ثالثًا: التأمُّل في عمل الله الخلاصي:

من أهم العوامل التي تبعث الفرح الداخلي في النفس وتدفعنا إلى حفظ الوصيَّة الإلهيَّة هو تذكُّر معاملات الله معنا في حياتنا، وخلاصه العجيب لنا.

"وتذكَّر أنَّك كنت عبدًا في مصر،

وتحفظ هذه الفرائض" [12].

هكذا يربط بين الفرح وعمل الله الخلاصي مع حياة الشكر والطاعة للوصيَّة، كلَّها جوانب متلاحمة لحقيقة واحدة هي "الشركة مع الله المخلِّص".

كنيسة بنطقستيَّة:

رأينا في عيد الفصح رمزًا للسيِّد المسيح الفصح الحقيقي الذي حوَّل حياتنا على الأرض كما إلى السماء، إلى عيد لا ينقطع. نراه فتتهلَّل نفوسنا وينطق كل كياننا بتسبحة الحمل الجديدة. أمَّا بالنسبة لعيد الأسابيع أو "البنطقستي" فنرى الكنيسة تقيم هذا العيد كل أيَّام تغربها على الأرض، فتقدِّم للآب المسيح البكر، تقدمة الشكر العجيبة التي لحساب كل المؤمنين، وكما يقول الرسول: "الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين" (1 كو 15: 20). هذا هو أول وأعظم حصاد، مقبول لدى الآب، وموضع سروره. من يتَّحِدون به يصيرون معه أبكارًا، فيقال عنه: "أنَّهم باكورة أخائيَّة" (1 كو 16: 15). وكما يقول الرسول يعقوب: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يع 1: 18). كما يُقال عنهم: "هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب، هؤلاء أُشتروا من بين الناس باكورة لله وللخروف" (رؤ 14: 4). هكذا تبقى الكنيسة البكر في حالة عيدٍ مستمرٍ تقدِّم مسيحها البكر، السنبلة الأولى، تردِّدها في حضرة الآب، تقدمة شكر مقبولة لديه.

3. عيد المظال:

تتكامل هذه الأعياد الثلاثة معًا بإعلانها عن احتياجنا إلى تقديس الله لعملنا في هذا العالم في كل مراحله، إذ كان اليهود يحتفون بعيد الفصح مع ضربة المنجل الأولى للحصاد علامة بدء العمل، وبعيد البنطقستي حين يتم الحصاد علامة استمرار بركة الرب وسط عملنا، وبعيد المظال في نهاية السنة الزراعيَّة لكي تختم بركة الرب على عملنا في نهاية الطريق. كأن بركة الرب ترافقنا في البداية وخلال العمل وحتى النهاية.

في عيد الفصح يتمتَّع المؤمن بالمصالحة مع الله، وفي عيد الأسابيع يقدِّم المؤمن الشكر لله بالسخاء مع اخوته وشعوره بالمساواة بين المؤمنين، وفي عيد المظال يفرح المؤمن بغربته مشتاقًا نحو الانطلاق إلى السماء. هذه الأعياد الثلاثة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وهي تُوجِد نوعًا من الاتِّحاد بين الله والإنسان والسماء، هذا الاتِّحاد يولِّد فرحًا جماعيًا وشخصيًا، لن يتحقَّق إلاَّ خلال ذبيحة السيِّد المسيح على الصليب.

يُذكرهم هنا ببعض الطقوس الخاصة بعيد المظال التي سبق فتحدَّث عنها (عد 29: 12). ويوضِّح الحقائق التالية:

أولاً: الربط بين عمل المظال والجمع من البيْدر ومن المعصرة: "تعمل لنفسك عيد المظال سبعة أيَّام عندما تجمع من بيْدرَك ومن معصرتك" [13]، فإنَّه إذ يهبنا الرب بركة في محصولاتنا ويسكب فيض عطاياه الزمنيَّة علينا ببركته الفائقة يخشى لئلاَّ ترتبط نفوسنا بالعالم لا بخالقه. لهذا كلَّما تمتَّعنا بالخيرات يليق بنا أن نقيم لأنفسنا "المظال"، متذكِّرين أنَّنا غرباء ونزلاء على الأرض، التي لن نستقر عليها أبديًا.

ثانيًا: ارتباط الشعور بالغربة بالفرح السماوي في الرب.

"وتفرح في عيدك أنت وابنك وابنتك وعبدك وأَمَتك واللاوي والغريب واليتيم والأرملة

الذين في أبوابك

سبعة أيَّام تعيِّد للرب إلهك في المكان الذي يختاره الرب،

لأن الرب إلهك يبارك في كل محصولك، وفي كل عمل يديك،

فلا تكون إلاَّ فرحًا" [14].

هذا العيد هو دعوة لإدراك حقيقة مركز الإنسان في العالم، إنَّه غريب. وكما يقول المرتِّل: "لأنِّي أنا غريب عندك، نزيل مثل جميع آبائي" (مز 39: 12). هذه النظرة ليست تشاؤميَّة، إذ يرافقها تطلُّع نحو السماء المفتوحة وأذرع الله المبسوطة للمؤمنين، لكي ينطلقوا إليه ويستريحوا فيه. وكما يقول الرسول بولس: "لأنَّنا نعلم إنَّه إن نقُض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله بيت غير مصنوع بيدٍ أبدي" (2 كو 5: 1). الشعور بالغربة مصحوبًا بالرجاء في السماء يولِّد فرحًا داخليًا.

هذه هي إرادة الله لنا أن نفرح أمامه، وتفرح قلوب الآخرين معنا. إن كان يليق بمن هم في ظل الناموس أن يفرحوا ويبعثوا الفرح في حياة الآخرين كم بالأكثر يليق بنا نحن الذين دخلنا إلى عهد النعمة وتمتَّعنا بسكنى الروح القدس الدائمة فينا، هذا الذي يهبنا ثماره التي هي المحبَّة والفرح الخ.

يفرح المؤمن من أجل ما وهبه الله من عطايا وبركات، ويفرح أيضًا أنَّه يعطي الغير، فيكون فرحه في العطاء أكثر من الأخذ، حاسبًا فرح اخوته فرحًا له!

إنَّنا نفرح في العيد من أجل الرب نفسه عيدنا، ومن أجل عطاياه التي تعلن عن حبُّه لنا، ومن أجل إنَّه يهبنا بركة العطاء للغير فتفرح قلوبهم، ونفرح من أجل مواعيده الصادقة والأمينة التي ننالها حين يحملنا إلى حضن الآب عِوض المظال التي نعيش فيها هنا، ونتمتَّع بشركة المجد معه. إنَّنا لا نعرف هنا إلاَّ الفرح الروحي الداخلي: "فلا تكون إلاَّ فرحًا" [15].

4. الأعياد والعطاء:

يقدِّم لنا لمسات عامة خاصة بهذه الأعياد السنويَّة الثلاثة، كما جاء في (خر 23: 16-17، 34: 23).

أولاً: ممارسة الحياة الجماعيَّة في الرب.

"ثلاث مرَّات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك.

في المكان الذي يختاره في عيد الفطير وعيد الأسابيع وعيد المظال" [16].

ظهور الذكور معًا ثلاث مرَّات في السنة في موضع العبادة المركزي يشير إلى تأكيد الوحدة في الرب، والشركة معًا بروح الفرح الجماعي.

ثانيًا: العطاء.

"ولا يحضروا أمام الرب فارغين.

كل واحدٍ حسبما تُعطي يده كبركة الرب إلهك التي أعطاك" [16-17].

هذا العطاء هو ذبيحة شكر تُقدَّم للرب ممَّا يعطينا، كلٍ حسب اتِّساع قلبه، قدر ما يفيض قلبه بروح الشكر لله، ومحبَّته لاخوته كي يشبع احتياجاتهم ويفرح قلوبهم، وذلك كما يشبع الله احتياجاته ويسكب فرحه عليه. يوصينا الرسول بولس: "وأمَّا من جهة الجمع لأجل القدِّيسين في كل أول أسبوع ليصنع كل واحدٍ منكم عنده خازنًا ما تيسر" (1 كو 16: 1-2). كما يقول عن أهل مكدونيَّة: "أَعطوا حسب الطاقة، أنا أشهد وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم، ملتمسين منَّا بطلبة كثيرة أن نقبل النعمة وشركة الخدمة التي للقدِّيسين. وليس كما رجونا بل أعطوا أنفسهم أولاً للرب ولنا بمشيئة الله" (2 كو 8: 2-5).

صورة رائعة للعطاء، فهو عطاء النفس لله ولمحبِّيه قبل عطاء المادة، أو عطاء الحب والفرح قبل العطاء المنظور، نابع عن شوق حقيقي ورغبة صادقة للعطاء، قدَّموه حسب طاقتهم، بل ما هو فوق إمكانيَّاتهم، إذ حسبوا ذلك كرامة ومجدًا أن يتمتَّعوا بنعمة العطاء ويشتركوا في خدمة القدِّيسين. إنَّهم تمثَّلوا بالأرملة الفقيرة التي قدَّمت كل ما عندها (لو 21: 4).

5. الأعياد والعدالة:

يود الله لشعبه ممارسة الفرح في الرب، فيأتون إلى بيته فرحين، ويتهلَّل الكل بالفرح، والغنى بعطائه بسخاء وحب، والفقير بقبوله العطيَّة بشكر وامتنان. يتحقَّق هذا الفرح بالأكثر حيث يقيم لهم قضاة وعرفاء في جميع الأبواب، أي عند باب كل مدينة وقريَّة كي ينظروا في متاعب الشعب وينصفوا المظلومين.

لم تقم مباني خاصة بالقضاء، ولا كان القضاء يُقام في ميادين البلاد العامة بل عند أبواب أسوار المدينة، لماذا؟

أولاً: لأن أغلب المدن كان لها أسوار، منها يخرج العاملون في الزراعة والحقول كل يوم حيث يعبرون إلى أماكن عملهم، ومنها يدخلون بعد العمل؛ كما يدخل منها كل الغرباء أو القادمين من بلاد أخرى، فكانت أبواب الأسوار تعتبر مناطق عامة يلتقي عندها الداخلون والخارجون.

ثانيًا: إن كان يجب تحصين المدينة بأسوارٍ قويَّة لحماية سكان المدينة من العدو، فإنَّه يليق أن ترتبط هذه الحماية بالعدالة. بدون العدل لا تقدر الأسوار أن تحفظ المدينة من العدو، بل يدمِّرها الظلم.

ثالثًا: الله نفسه كُلِّي العدالة هو السور الذي يحمي شعبه، لذا يقول: "أكون لها سور نارٍ من حولها، وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5).

"قضاة وعرفاء تجعل لك في جميع أبوابك التي يعطيك الرب إلهك حسب أسباطك،

فيقضون للشعب قضاء عادلاً" [18].

يليق بالقاضي أن يدرك أن من قبل محبَّة الله وتنازله سُمح للإنسان أن يمارس القضاء، "لأن القضاء لله" (تث 1: 17). القاضي هو وكيل وسفير عن الله، لذا يليق أن يقدِّم صورة لائقة بهذا المركز الخطير. لقد دُعي القضاة آلهة: "في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جورًا، وترفعون وجوه الأشرار؟!" (مز 82: 1). ويوصينا الرسول بولس: "لتخضع كل نفسٍ للسلاطين الفائقة، لأنَّه ليس سلطان إلاَّ من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتَّبة من الله" (رو 13: 1).

لقد أقام لهم قضاة حسب أعدادهم مع رؤساء ألوف ورؤساء مئات وذلك في البريَّة. الآن وهم قادمون إلى المدن يقيم لهم قضاة وعرفاء (الهيئة التنفيذيَّة للقضاء) تكون عند كل مدينة وقرية. فكما ينطلق الرجال إلى بيت الرب للعبادة بفرحٍ، يجدون عند بيوتهم من ينصفهم من الظلم ويدافع عن المظلومين منهم.

بجانب السبعين شيخًا الذين اختارهم موسى فصاروا نواة وبداية لمجمع السنهدرين الذي يجلس للقضاء في القدس أقيم في المدن الكبرى وفي المدن الصغيرة التي تحوي أكثر من 120 عائلة مجالس قضاء حسب تعداد المدينة، وقد تجدَّد ذلك في أيَّام يهوشافاط (2 أي 19: 5، 8).

يرى البعض أن العرفاء officers هنا هم مجموعة السكرتاريِّين والكتبة الذين يرافقون القضاة، لمساعدتهم، وربَّما يكونون أشبه بمشيرين لهم يقدِّمون مشورات تسندهم.

لم يذكر هنا عدد القضاة والعرفاء، إذ يختلفون من مدينة إلى مدينة أو من قريَّة إلى أخرى حسب التعداد.

لقد طلب الله من الشعب أن يقيموا القضاة، فيختاروا من يروا فيهم روح العدالة وعدم المحاباة.

جاء في النص العبري "قضاء عادلاً عادلاً"، هذا التكرار يشير إلى التأكيد. تكرارها مرَّتين، ربَّما لأن رقم 2 يشير إلى المحبَّة التي تجعل من الاثنين "واحدًا"، وكما قدَّمت الأرملة الفلسين في الخزانة خلال حبَّها، وأيضًا قدَّم السامري الصالح فلسين للفندق من أجل الاهتمام بالجريح علامة حبُّه. هكذا يليق بالقاضي وهو يصدر الحكم بالعدل ألاَّ يحمل في داخله كراهيَّة أو بغضة حتى للمحكوم عليهم بالتأديب أو الرجم، إنَّما يلزم أن يحمل في داخله محبَّة لا تنفصل قط عن العدل.

"لا تحرِّف القضاء،

ولا تنظر إلى الوجوه،

ولا تأخذ رشوة.

لأن الرشوة تعمي أعين الحكماء وتُعوِّج كلام الصدِّيقين" [19].

إذ يعلم الله فساد قلب الإنسان وانحرافه لذا حذَّر القضاة من ثلاثة أمور: "الحيد عن الحق، محاباة الوجوه، الرشوة".

v     بينما يطلبون المال (الرشوة) يفقدون نفوسهم. ليس أحد يقتني ربحًا بظلم دون خسارة عادلة. حيث يوجد الربح تكون الخسارة. يكون الربح في مال الصندوق، أمَّا الخسارة فتكون في الضمير[195].

الأب قيصريوس

يحذِّر القضاة من ممارسة أي ظلم، ورفض أيَّة رشوة (خر 23: 8)، بل يلتزموا بالعدالة.

"العدل العدل تتبع،

لكي تحيا وتمتلك الأرض التي يعطيك الرب إلهك" [20].

يقصد بالعرفاء غالبًا العاملين لتحقيق القضاء مثل الجند وأيضًا الذين يقومون بالتفتيش مثل مراجعة الموازين والمقاييس.

6. عدم الخلط بين عبادة الله والأوثان:

"لا تنصب لنفسك سارية من شجرة ما بجانب مذبح الرب إلهك الذي تصنعه لك.

ولا تقم لك نصبًا، الذي يبغضه الرب إلهك" [21].

ذكر الأنصاب والسواري برهان على أن هذه الخطابات أُلقيت في زمن مبكِّر، حيث تتجلَّى مظاهر العبادة الكنعانيَّة، وليس في زمن متأخِّر تأثَّر الشعب فيه بما حوله من عادات وثنيَّة. واضح أن الحديث قُدِّم للشعب قبل إقامة هيكل سليمان حيث كان يمكن إقامة مذابح في مناطق متعدِّدة.

السارية (الشارية) Asherah كانت شجرة مقدَّسة أو عمودًا خشبيًا يرمز للآلهة عشتاروت Astarate أو في شبه إحدى الآلهة، وكانوا يفترضون وجود قوَّة سحريَّة فيها.

النصب masseba هو عمود من حجر له قيمة مقدَّسة، وقد يكون تذكاريًا، يشير إلى الإله الذكر بعل.

المذبح الذي يُقام باسم الرب هو للشعب لا لله، "الذي تصنعه لك"، فالله ليس في حاجة إلى ذبائح وتقدمات، بل نحن نحتاج إلى المصالحة مع الله.

يبغض الله الخلط بين الحق والباطل، والعبادة لله مع عبادة الأوثان. فإنَّه يليق بالإنسان ألاَّ يعرِّج بين الفريقين، بل يسلك في الطريق الملوكي باستقامة. فهو لا يطالبنا أن نسلك بالحق فحسب، إنَّما وأن ندقِّق في سلوكنا حتى لا نُعثر أحدًا. لهذا ليس فقط يرفض العبادة الوثنيَّة، وإنَّما مجرَّد غرس سارية من خشب أو إقامة نصب بجوار الهيكل حتى وإن لم يستخدمه المؤمن في العبادة الوثنيَّة، لكي لا يشك أحد أن الذي صنع المذبح يمارس عبادة وثنيَّة.

جاء في الترجمة السبعينيَّة "لا تقم لك عمودًا، الأشياء التي يبغضها الرب إلهك". يميِّز القدِّيس جيروم في تعليقه علي عنوان المزمور 16 "نقش تذكاري لداود" بين النصب التذكاري الذي يُسر الله به، والنصب أو العمود التذكاري الذي يبغضه الله.

فالمزمور 16 وغيره من المزامير تمثِّل نقشًا تذكاريًا ينحت علي نفوسنا كلمات الله حتى نتذكَّر علي الدوام موت الرب، وذلك كما أقام يعقوب عمودًا تذكاريًا علي قبر راحيل. هكذا يري القدِّيس جيروم في قلوب المؤمنين أشبه بقبرٍ مقدَّس يُنحت عليه تذكار عن موت المسيح، وتشارك مسيحها آلامه وموته.

توجد أيضًا نصب تذكاريَّة يبغضها الرب، كما أقام أبشالوم لنفسه عمودًا تذكاريًا، وكما صارت امرأة لوط نفسها عمودًا تذكاريًا بتطلُّعها إلي خلف لا إلي الأمام[196].

 


 

من وحيّ تثنيَّة 16

لا تكون إلاَّ فرحًا!

v     أقمت من سبتك سبتًا لي، ومن راحتك راحة لي.

فإنَّك تستريح فيَّ، وتهبني راحة فيك.

تود أن تجعل من كل أيَّامي أعيادًا مقدَّسة،

بل تود أن تدخل بي إلى عيدٍ لا ينقطع.

v     جعلت من حياتي أيَّامًا جديدة على الدوام.

تخرجني في كل يوم من عبوديَّة الخطيَّة.

وتعبر بي إلى كنعان السماويَّة.

فأُعيد لك عيد العبور يا أيُّها الفصح الحقيقي!

v     أيَّامي كلَّها أيَّام حصاد.

ثمر روحك القدُّوس لا ينقطع ولا ينقص!

لأتقدَّم أمامك بثمر روحك، وتأكل نفسي وتفرح.

لأشبع من عملك، ولتُشبع نفوس الجائعين معي!

لتأكل يا أيُّها القدُّوس من جنَّتك التي غرستها فيَّ.

لتدعو أصحابك السمائيِّين، فيأكلوا ويشربوا ويفرحوا!

v     أقضي حياتي كلَّها كعيدٍ للمظال.

لن تستقر نفسي مادمت على الأرض،

بل تحيا في خيمة هذا الجسد.

حتى التقي بك واستقر في حضن أبيك!

v     توصيني بل تعدني:

"لا تكون إلاَّ فرحًا!"

نعم لأفرح!

أفرح بسبوتك وبأعيادك غير المنقطعة.

أفرح حين أقدِّم لك ممَّا وهبتني.

فلا أظهر أمامك فارغًا.

v     لأفرح ببرَّك، وأسلك بروح العدالة المملوءة حبًا.

فلا يتسلَّل ظلم إلى قلبي.

ولا أُعثر أحدًا في سلوكي.

لتفرح بعملك معي يا مخلِّصي الصالح.

ولتفرح نفسي مع جسدي وكل كياني.

وليفرح كل فقير ومحتاج بسخاء قلبي.

وليفرح كل متألِّم إذ يجد في حياتي روح العدالة والحب!

<<


 

الأصحاح السابع عشر

حزم مع عابدي الأوثان

والقضاة والملك

يعالج الأصحاحان (17-18) السمات التي يلتزم بها قادة الشعب الرئيسيِّين في ذلك الحين وهم: الملك والكاهن والنبي. اتَّسمت العبادة الوثنيَّة باللهو والرجاسات بينما تتَّسم العبادة لله الحقيقي بالجدِّيَّة مع التوبة. الأولى تولِّد فرحًا مؤقَّتًا لن يشبع النفس، أمَّا الثانية فتهب فرحًا داخليًا. الله في محبَّته لشعبه قدَّم لهم الأعياد لكي تتحوَّل حياتهم إلى فرحٍ دائمٍ في الرب، لن يتحقَّق خلال التهاون أو التراخي في ممارسة وصيَّة الرب. لهذا يتحدَّث في حزمٍ عن أمورٍ ثلاثة: عقوبة العبادة الوثنيَّة؛ وخضوع القضاة بروح الطاعة للنظام الجماعي المقدَّس، التزام الملك بالوصيَّة الإلهيَّة.

1. عقوبة عابدي الأوثان             [1-7].

2. خضوع القضاة للنظام              [8-13].

3. التزامات الملك                      [14-20].

1. عقوبة عابدي الأوثان:

"لا تذبح للرب إلهك ثورًا أو شاة فيه عيب شيء ما رديء،

لأن ذلك رجس لدى الرب إلهك" [1].

إذ سبق فأعلن أن الفرح الحقيقي والدائم هو في الالتصاق بالله القدُّوس والدخول معه في عهدٍ دائمٍ، لهذا يليق بالمؤمنين ليس فقط أن يكونوا قدِّيسين كما هو قدُّوس (لا 10: 44)، وإنَّما ألاَّ يقدِّموا ذبيحة بها عيب. الله قدُّوس وذبيحة المصالحة يلزم أن تكون مقدَّسة بلا عيب بكونها ظل للسيِّد المسيح الذي بلا عيب، فينعم على شعبه بالحياة المقدَّسة.

كل ثورٍ أو شاه به عيب يٌقدِّم للرب ليس فقط لا يكون مقبولاً لديه، وإنَّما يحسبه رجس وخطيَّة، لأن في ذلك إهانة للذبيح الحقيقي الذي بلا عيب.

على لسان آخر نبي في العهد القديم يحذِّر الله شعبه من تقديم ذبيحة بها عيب، قائلاً: "وإن قرَّبتم الأعمى ذبيحة أفليس ذلك شرًا؟! وإن قربَّتم الأعرج والسقيم أفليس ذلك شرًا؟!" (ملا 1: 8).

"إذا وجد في وسطك في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك رجل أو امرأة يفعل شرًا في

عينيّ الرب إلهك بتجاوز عهده،

ويذهب ويعبد آلهة أخرى،

ويسجد لها أو للشمس أو للقمر أو لكل من جند السماء الشيء الذي لم أوصِ به،

وأخبرت وسمعت وفحصت جيدًا،

وإذا الأمر صحيح أكيد قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل،

فاخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة الذي فعل ذلك الأمر الشرِّير إلى أبوابك، الرجل أو المرأة،

وأرجمه بالحجارة حتى يموت" [2-5].

يُنظر إلى عبادة الأوثان كجريمة عظمى، بكونها خيانة ضدّ الله وضدّ الجماعة المقدَّسة وضدّ الإنسان نفسه، لهذا فإن عقوبتها هي الإعدام رجمًا.

كانت الأوثان منذ القديم تتركَّز بالأكثر في عبادة الشمس والقمر والكواكب، ثم اتَّجهت نحو التماثيل التي تصور بطريقة أو أخرى بشرًا أو حيوانات أو طيورًا أو زحَّافات. أمَّا خطورة هذه الخطيَّة فهي أن من يمارسها لا يهدأ حتى يغوي الآخرين ليمارسوا نفس العبادة. إنَّها أشبه بوباء يحل بالنفس لينتشر في نفوس الآخرين. يظن البعض أن ذكر عبادة  الشمس يشير إلى أن السفر قد كتب في عصر آشور، لكن هذه العبادة  قديمة ترجع إلى ما قبل عصر موسى النبي، إلى أيَّام Sumerian times[197].

يرى البعض أن عبادة الشمس بدأت في أيَّام برج بابل حيث خشي الناس لئلاَّ يرسل الله عليهم فيضانًا آخر، فالتجأوا إلى الشمس ظانين إنَّها لن ترسل فيضانًا. هؤلاء لم يدركوا أن للشمس دور في سقوط الأمطار وحدوث الفيضانات، خلال تبخير المياه وارتفاعها كسحب في السماء ثم سقوطها على شكل أمطار[198]. لقد عبدوا الشمس والقمر والكواكب حاسبين إنَّها صديقة للإنسان، عبدوها وجحدوا خالقها.

لماذا يُنظر إلى عبادة الأوثان كجريمة عظمى؟

أولاً: إنَّها تمثل عصيانًا مباشرًا لله الذي لم يأمر بالعبادة الوثنيَّة، بل حرمها. عبادة الأوثان هي حركة تمرُّد ضدّ الله. إن كان التمرُّد ضدّ الملك الزمني يُحسب جريمة عظمى، كم بالأكثر التمرُّد ضدّ ملك الملوك؟!

ثانيًا: إنَّها شرّ في عينيّ الرب: "يفعل شرًا في عينيّ الرب إلهك بتجاوز عهده" [2]، يبغضها ولا يطيقها، لأنَّها تعني إحلال الخليقة الجامدة في موضعه.

ثالثًا: تحمل خيانة للعهد المُبرم مع الله، فهي نوع من الخيانة للعهد الزوجي، تكسر الرباط الزوجي الروحي بين الله ومؤمنيه.

رابعًا: رجس في إسرائيل [4]؛ فإن كان الله قد اختار شعبه ليكون خاصًا به، مقدَّسًا ومكرَّسًا له، يتمِّم إرادته الإلهيَّة، يقدِّم له معرفته لأسراره الإلهيَّة. فإنَّه إن انحرف إلى العبادة الوثنيَّة تكون خطيَّته أعظم من الشعوب الأخرى. إنَّها رجس!

ما هي شريعة السقوط في العبادة الوثنيَّة؟

أولاً: الفحص الدقيق، فمع جسامة هذه الخطيَّة لا يمكن معاقبة شخصٍ ما لمجرَّد الاشتباه في تصرُّفاته، بل يلزم الفحص الدقيق للأمر.

"وأخبرت وسمعت وفحصت جيِّدًا،

وإذا الأمر صحيح أكيد، قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل" [4].

مع اهتمام الشريعة بقداسة شعب الله القدُّوس، إلاَّ أنَّه يجب إلاَّ يُساء إلى سمعة أحد أو يُجازي ظلمًا. لهذا فإن كل إنسان يعتبر بريئًا حتى تثبت إدانته بعد تدقيق شديد. وفي نفس الوقت من تثبت إدانته بعد الفحص الدقيق لا يجوز التهاون معه.

في الأصحاح السابق رأينا تأكيد الشريعة أن يُقام قضاة يتَّسمون بالعدالة وعدم المحاباة، وفي هذا الأصحاح يطلب أن يكونوا قادرين على الفحص الدقيق للقضايا حتى لا يسقط أحد تحت الظلم. إن كانت "أحكام الرب حق عادلة كلَّها" (مز 19: 9) فإن القاضي كوكيل الله يلتزم أن يلتحف بالعدالة في غير محاباة للوجوه.

قد لا يجد الإنسان الفقير من ينصفه في أي مكان، لذا لاق به أن يلجأ إلى بيت الله ليجد في "كراسي القضاء" العدالة. في بيت الرب يرى حمل الله الذي يقدِّم روح البرّ والعدل مع الرحمة والحنو. كثيرون يتعثَّرون في إيمانهم بسبب ما قد يجدوه من محاباة لدى رجل الدين.

ثانيًا: أن تتم المحاكمة بوجود شاهدين أو ثلاثة [6] كدليلٍ صادقٍ ضدّ المُشتكى عليه. إذ لا يجوز تحت التظاهر بالدفاع عن مجد الله يُساء إلى إنسان بريء.

"على فم شاهدين أو ثلاثة شهود يُقتل الذي يُقتل،

لا يقتل على فم شاهد واحد.

أيدي الشهود تكون عليه أولاً لقتله،

ثم أيدي جميع الشعب،

أخيرًا فتنزع الشرّ من وسطك" [6-7].

ثالثًا: عقوبة عبادة الأوثان الرجم، سواء كان العابد رجلاً أو امرأة، فإنَّه لا يُقدَّم ضعف المرأة عذرًا للتعبُّد للأوثان.

رابعًا: يتم الرجم عند باب المدينة، وفي مواضع أخرى نجد أن العقوبة كانت تنفَّذ خارج أسوار المدينة (نح 8: 1؛ أي 29: 7؛ أع 7: 58؛ عب 13: 12)، وفي أثناء التيه في البريَّة كانت تتم خارج المحلَّة (لا 24: 14؛ عد 15: 36). ويُلقي الشاهدان أو الأكثر أول الحجارة وذلك للأسباب التالية:

أ. مادامت الخطيَّة علنيَّة، أو يمكن أن تصير علانيَّة، يجب أن تكون العقوبة علنيَّة.

ب. لكي تتَّعظ المدينة كلَّها، فيكون ذلك درسًا للجميع.

ج. إذ يُلقي الشهود الحجارة الأولى لا يستطيعون أن يتبرَّروا أمام ضمائرهم إن كانوا شهود زورٍ، إذ يشعروا بأنَّهم قتلوا إنسانًا بأيديهم ظلمًا.

v     في ظل الشريعة القديمة من يعصى الكهنة يُطرد خارج المحلَّة ويُرجم بواسطة الشعب، أو تقطع رأسه، ويكفر عن استخفافه بدمه. أمَّا الآن فإن العاصي يُقطع بسيف الروح أو يُستبعد من الكنيسة ويُقطع إلى أجزاء بواسطة الشيَّاطين الثائرة[199].

القدِّيس جيروم

د. الترجمة الحرفيَّة للنص العبري هي: "الرجل الميِّت يموت"، أو "رجل الموت" (1 مل 2: 26)، أو "ابن الموت" (1 صم 20: 31). وكان ما يصدر عليه من حكم بالموت ليس بالأمر الغريب عنه لأنَّه بفعله الشرِّير صار بالفعل ابن الموت، وفي قبضته. كان رجمه إنَّما يظهر ما حلَّ بنفسه من موت.

2. خضوع القضاة للنظام:

العمل القضائي ليس كرامة يقتنيها القاضي لذاته، لكنَّه التزام ومسئوليَّة، لهذا وُضعت القواعد التالية:

أولاً: لا يحكم القاضي في أمرٍ يشك فيه أو يجد صعوبة في أخذ قرار من جهته. إنَّه يلتزم أمام ضميره أن يحوِّله إلى قضاءٍ أعلى، إلى أصحاب خبرة أكثر منه.

"إذا عسر عليك أمر في القضاء بين دمٍ ودمٍ،

أو بين دعوى ودعوى،

أو بين ضربة وضربة من أمور الخصومات في أبوابك،

فقم واصعد إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك،

واذهب إلى الكهنة اللآويِّين،

وإلى القاضي الذي يكون في تلك الأيَّام،

واسأل فيخبروك بأمر القضاء،

فتعمل حسب الأمر الذي يخبرونك به من ذلك المكان الذي يختاره الرب،

وتحرص أن تعمل حسب كل ما يعلِّمونك" [8-10].

لقد نصح يثرون حمى موسى زوج ابنته أن يتفرَّغ للقضايا الكبرى والصعبة (خر 18: 13 الخ)، وبعد موت موسى وُجد بعض الأشخاص لهم تقديرهم العام كرجال الله يقومون بنفس الدور مثل نثنائيل ودبُّورة وجدعون. وأحيانًا كان يقوم بهذا الدور رئيس الكهنة، حين يكون ساميًا وقادرًا على تدبير هذه الأمور مثل عالي الكاهن، وأحيانًا يقوم بالدور مجمع من الكهنة واللآويِّين الذين يخدمون المقدَّس.

ثانيًا: يلتزم القاضي بالخضوع لمن هو أكثر منه خبرة وفي رتبة أعلى، إذ يليق به أن يكون متواضعًا، محبًا للتعلُّم.

"وتحرص أن تعمل حسب كل ما يعلِّمونك.

حسب الشريعة التي يعلِّمونك،

والقضاء الذي يقولونه لك تعمل.

لا تحد عن الأمر الذي يخبرونك به يمينًا أو شمالاً.

والرجل الذي يعمل بطغيانٍ، فلا يسمع للكاهن الواقف هناك ليخدم الرب إلهك أو للقاضي،

يُقتل ذلك الرجل،

فتنزع الشرّ من إسرائيل.

فيسمع جميع الشعب ويخافون ولا يطغون بعد" [10-13].

طالبت الشريعة بإقامة قضاة عادلين علامة ارتباط الشعب بالعهد مع الله العادل. لكن تبقى القضايا الصعبة التي يصعب على القضاة المحليِّين البت فيها، فإنَّها تُرفع إلى الكهنة اللآويِّين وإلى القاضي في هيكل، كما إلى القضاء العالي على أعلى مستوى، من لا يقبل حكمهم يُقتل (17: 8-13).

يروي لنا سفر أخبار الأيَّام الثاني ما فعله يهوشفاط، إذ بعدما أقام قضاة في الأرض في كل مدن يهوذا، أقام هيئة قضاء عليا في أورشليم: "وكذا في أورشليم أقام يهوشافاط من اللآويِّين والكهنة ومن رؤوس آباء إسرائيل لقضاء الرب والدعاوي" (2 أي 19: 8). إذ أقام يهوشفاط ملك يهوذا قضاة في كل المدن قال لهم: "انظروا ما أنتم فاعلون، لأنَّكم لا تقضون للإنسان بل للرب وهو معكم في أمر القضاء. والآن لتكن هيبة الرب عليكم" (2 أي 19: 6-7).

v     يليق بالبشر أن يحفظوا الطريق بعناية أثناء سيرهم بين النار والماء، حتى لا يحترقون ولا يغرقون. هكذا يليق بنا أن ننظم خطواتنا بين قمَّة الكبرياء ودوَّامات الخمول، كما هو مكتوب: "لا تنحرف يمينًا ولا يسارًا"[200].

القدِّيس أغسطينوس

يليق بالقاضي أن يطيع القاضي الأكبر منه، وإلاَّ فيُرجم ليكون عبرة للشعب كلُّه. يبدو أن الخطأ بسيط لا يستحق الرجم. لكن وإن بدا الخطأ بسيط غير أن مرتكبه في مركز قيادي، لذا تُحسب أخطاؤه جسيمة من أجل مركزه. فكما يليق بالآخرين أن يطيعوه يلتزم هو بطاعة رؤسائه. الله لا يطيق في القائد أن يكون متعجرفًا وعنيدًا!

3. التزامات الملك:

أولاً: أن يكون الملك مؤمنًا.

"متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وامتلكتها وسكنت فيها،

فإن قلت اجعل عليَّ ملكًا كجميع الأمم الذين حولي.

فإنَّك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك.

من وسط اخوتك تجعل عليك ملكًا.

لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًا ليس هو أخاك" [14-15].

بالنسبة للشعب، فإنَّهم إذ يلتقون مع شعوب كثيرة لهم ملوك عظماء وأقوياء يشتهون أن يكون لهم ملك مثل سائر الأمم المحيطة بهم.

لقد أدرك موسى النبي خلال خبرته بشعبه، وأيضًا بروح النبوَّة أنَّهم إذ يستقرُّون في أرض الموعد، عِوض اعتزازهم بقيادة الله ملكهم يطلبون ملكًا أرضيًا. عِوض افتخارهم بالله ملكهم يشتهون ما للأمم. هذه مشاعر الإنسان الطبيعي لا الروحي، يطلب المجد الظاهر، ولا يختبر جمال المجد الداخلي. حتى بعد خبرتهم المُرَّة مع ملوكٍ أشرارٍ حين جاء السيِّد المسيح رفضوه، أرادوا أن يكون لهم ملكًا أرضيًا يحرِّرهم ويهبهم سلطانًا زمنيًا.

تحدَّث موسى عن الملك الذي يقود الشعب، الأمر الذي اشتهاه الشعب بعد حوالي 400 عامًا من نياحة موسى النبي. لقد اشتهوا أن يُقيموا ملوكًا حسب شهوة قلبهم لا حسب فكر الله. وكما جاء في هوشع النبي: "أقاموا رؤساء وأنا لم أعرف" (هو 8: 4). لهذا يؤكِّد هنا: "فإنَّك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك" [15].

واضح من أسلوب الكتابة أنَّه لم يكن بعد قد ظهر النظام الملكي في إسرائيل، بل وأن ظهوره يبدو إنَّه احتمال بعيد وغير مقبول.

لم يكن موسى النبي في تخوُّفه من إقامة ملوك على الشعب بأقل ممَّا كان لصموئيل النبي الذي طلب من الشعب: "فالآن اجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب" (1 صم 8: 5)، فساء الأمر في عينيّ صموئيل. حذَّرهم صموئيل النبي: "تصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم" (1 صم 8: 18)، "فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا: لا، بل يكون لنا ملك" (1 صم 8: 19).

بروح النبوَّة علم موسى النبي أن الشعب سيُصر على إقامة ملك لهم مثل سائر الشعوب، وجاء الحديث هنا يضع الخطوط العريضة لما يلتزم به الملك.

لم يعدهم الله بملكٍ ولا أمرهم أن يختاروا لهم ملكًا، بل جاءت الشريعة تنظم وتكشف عن سمات من يكون ملكًا. لقد أراد الله أن يكون هذا الشعب هو خاصته، يميِّزهم عن سائر الشعوب، وينسبهم إليه بكونه ملكهم. فإن اشتهوا أن يكون لهم ملك، يسمح لهم بذلك بشرط أن يحقِّق إرادة الله، وأن يكون ظلاًّ ورمزًا للملك المسيَّا.

شرع الناموس القوانين الخاصة بالحكم الملكي، فإنَّهم إن طلبوا ملكًا يلزم أن يكون الملك باختيار الله نفسه، ومن شعب الله، وليس إنسانًا غريبًا بسبب قوَّته أو إمكانيَّاته الفائقة أو شخصيَّته القويَّة. يخشى لئلاَّ ينحرف بالشعب إلى العبادة الوثنيَّة والآلهة الغريبة، ويدفع الشعب إلى ممارسات دنسة غير لائقة. لذلك يليق بالملك أن يكون مؤمنًا، يحمل رمزًا للملك الحقيقي، المسيَّا المخلِّص، الذي هو عظم من عظامنا (عب 2: 14). إذ يكون الملك مؤمنًا يشتاق أن يحقِّق لا إرادته الذاتيَّة بل إرادة الملك السماوي، ملك الملوك.

إذ طلب منهم ألاَّ يختاروا رجلاً أجنبيًا كملك واضح أن الشريعة أعطت للشعب حق اختيار الملك. وواضح من الوصيَّة هنا تأكيد الله التزام الشعب بالعمل الإيجابي في اختيار الملك (وبالتالي كل القيادات). فمن حق كل إنسان، بل من واجبه أن يُساهم في اختيار القائد المؤمن الذي يسلك بروح الرب. لذلك ركَّز الرسول بولس على التدقيق الشديد في اختيار الشماس أو الكاهن أو الأسقف في رسائله (1، 2 تيموثاوس، تيطس).

في كتابه "عن الكهنوت" يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم:

[هؤلاء الذين ينتمون إلى المسيح يدمرون ملكوته أكثر من الأعداء والمقاومين له، وذلك باختيارهم غير المستحقِّين للخدمة[201]].

[لا يكفي أن يعتذروا عمَّن اختاروه بعدم معرفتهم له. لأن عذرهم هذا يزيد من مسئوليَّتهم، إذ ما حسبوه مبرَّرًا لهم يزيد مسئوليَّتهم.

أليسوا إن أرادوا شراء عبدٍ يقدِّمونه أولاً إلى الطبيب لكي يفحصه، ويطلبون من البائع ضمانات ويستعلمون عنه من جيرانه، وبعد هذا كلُّه لا يتجاسرون على شرائه بل يطلبون فرصة ليكون العبد تحت الاختبار؟! ومع هذا فإن من يقدِّم شخصًا إلى وظيفة عظيمة كهذه، يقدِّم شهادته وتذكيته باستهتار دون اعتناء أو تدقيق، إنَّما لمجرَّد تلبية رغبة البعض؟! من إذًا يتوسَّط لنا في ذلك اليوم، إن كان الذين يدافعون عنَّا هم أنفسهم في احتياج إلى من يدافع عنهم؟!

فمن يُختار، يلزمه أن يُفحص بتدقيق لأنَّه إن كان قد تحرَّى عنه وعرف عدم استحقاقه، ومع ذلك اختاره، فإن أي اتهام ضدّ المُختار يتحمَّل من اختاره العقوبة مع المختار، بل وتكون عقوبة الأول أشد[202]].

ويقول القدِّيس جيروم: [في هذه الأيَّام كثيرون يبنون كنائس، حوائطها وعمدها من رخام ثمين، أسقفها متألِّقة بالذهب، مذابحها محلاَّة بالجواهر، أمَّا بالنسبة لاختيار خدَّام الله فلا يعطون اهتمامًا[203]].

ثانيًا: أن يتجنب الملك كل ما يجعله بعيدًا عن الله.

يليق به أن يحمل روح التواضع على خلاف الملوك المحيطين به من الأمم [16-17]. فلا ينشغل بما يحرمه من الحياة التقويَّة المقدَّسة مثل حب المجد الباطل، والملذَّات الجسديَّة، ومحبَّة الغنى.

فمن جهة محبَّة المجد الباطل يقول:

"ولكن لا يكثر له الخيل،

ولا يرد الشعب إلى مصر لكي يكثر الخيل،

والرب قد قال لكم: لا تعودوا ترجعون في هذه الطريق أيضًا" [16].

يليق بالملك أن يدرك أن الأمة لم توجد من أجله، بل هو من أجلها، فلا يعمل ما لترفه ومجده الذاتي، بل ما هو لصالح الجماعة.

يليق بالملك ألاَّ يرد الشعب إلى العبوديَّة التي خرجوا منها، أي من مصر. فإن هذا الطريق يجب أن يُغلق تمامًا، فيعيش الشعب بروح الحرِّيَّة وليس بروح العبوديَّة. فإن رد الشعب إلى مصر لا يعني مجرَّد إرسال البعض لشراء خيل له، وإنَّما أن تتحوَّل حياة الملك نفسه إلى بلد مستعمر يُسخَّر طاقات الشعب لحسابه، من أجل غناه ومجده الشخصي.

كثيرًا ما يميل الإنسان إلى أرض العبوديَّة القديمة، كما اشتهى الشعب العبراني في البريَّة العودة إلى مصر ليأكل الكُرَّات والبصل ويشتم رائحة قدور اللحم. هكذا كثيرًا ما يرتد قلب الإنسان إلى أعمال الإنسان القديم الفاسد عِوض تمتُّعه بأعمال الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. يليق بالمؤمن ألاَّ يرتد قلبه مع قلب امرأة لوط إلى الوراء لئلاَّ يصير عمود ملح، بل ينفتح أمامه الرجاء في الحياة العتيدة. يقول مع الرسول بولس: "أفعل شيئًا واحدًا إذ أنسى ما هو وراء واَمتد إلى ما هذا قدَّام؛ أسعى نحو الغرض لأجل جُعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في 3: 13-14).

بهذه النظرة المستقبليَّة المفرحة لا يرتد قلبنا إلى الماضي، فنشتهي أن تعود بنا عقارب الساعة إلى ما مرّ وانتهى، بل نسر بالأيَّام التي عبرت وبنهاية كل عام، متهلِّلين بالحاضر، ومنطلقين نحو المستقبل بروح الفرح المجيد.

v     يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأيَّة ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتَّكل عليها في كبرياء، حاسبين خطأ أنَّكم كلَّما ارتفعتم يزداد آمانكم وعلوّكم. ألا تُدركون بأيّ عنفٍ سوف تلقون؟! كلَّما ارتفعتم إلى أعلي يكون سقوطكم بأكثر ثقل... فكيف إذن يتحقَّق الأمان؟ فإنَّه لا يتحقَّق بالقوَّة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس[204].

القدِّيس أغسطينوس

يري العلامة أوريجانوس أن الخيل تشير إلي الشيَّاطين التي سقطت من السماء بسبب كبريائها، هؤلاء الذين تبعوا القائل: "أصعد فوق مرتفعات الرب وأصير مثل العليّ" (إش 14: 14).

v     امتطي فرعون خيله، فسقط في نوم وهلك. كان للمصريِّين أيضًا خيولهم وهلكوا. لهذا السبب فإن الشريعة قد قدَّمت دواء ألاَّ يملك عبراني خيلاً. تذكَّر أن سليمان لم يكن له حصان من أورشليم أو من اليهوديَّة، إنَّما اِتشترى بعض الخيل من مصر (2 مل 10: 28). كانت الخيول تباع في مصر. "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أمَّا نحن فباسم الرب إلهنا نذكر" (مز 19: 8). هؤلاء بالحق الذين يمتطون خيولاً ينامون ويهلكون. ربَّنا له خيول أيضًا، لكن له بجانب ذلك جبال مشرقة، أمَّا جبال الشيطان فمملوءة ظلامًا[205].

القدِّيس جيروم

v     كُتب في سفر المزامير: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" (مز 33: 17)؛ وجاء في موضع آخر في الكتاب المقدَّس: "الفرس والمركبة طرحهما في البحر" (خر 15: 1). كانت الوصيَّة الصادرة لملك إسرائيل ألاَّ يمتطي خيلاً (تث 17: 16)... أظن أن الخيول هي البشر الخطاة وراكبيها هم الشيَّاطين التي تمتطي الأشرار، الذي تحوَّل إلي مُضطهد هو فرس، والشيطان هو قائده الذي يرشقنا برمح. الخيل يجري والشيطان يرشق بالرماح. الخيل مسُوق في حالة هياج بمن يثيره ويهيِّجه بجنون بغير إرادته[206].

القدِّيس جيروم

لم يُمنع الملك من أن يركب خيلاً، وإن كان ملك الملوك في تواضعه دخل أورشليم راكبًا على أتان وجحش ابن أتان. لقد مُنع من المبالغة في استخدام الخيول كنوعٍ من المجد الباطل، أو لأنَّه مع كثرة الخيل يعطي أناسًا غير مستحقِّين للكرامة أن يستغلُّوا موقعهم في القصر الملكي، قيل: "قد رأيت عبيدًا على الخيل، ورؤساء ماشين على الأرض كالعبيد" (جا 10: 7).

يخشى الله على الملك من أن يعتز بقوَّته الذاتيَّة وإمكانيَّاته العسكريَّة، إذ قيل: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أمَّا نحن فباسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 7). كما قيل: "لن يخلص الملك بكثرة الجيش. الجبَّار لا يُنقذ بعظم القوَّة. باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدَّة قوَّته لا ينجى" (مز 33: 17). "لا يخلِّصنا أشور، لا نركب على الخيل" (هو 14: 3).

كانت مصر هي مصدر التصدير للخيول إلى كنعان (1 مل 10: 28-29)، فلم يرد لهم اقتناء خيول كثيرة حتى لا يدخلوا في معاملات تجاريَّة مع مصر بطريقة مبالغ فيها ممَّا يدفعهم إلى الحنين إلى آلهة المصريِّين مثل عجل أبيس، كما فعلوا في البريَّة حيث صبُّوا عجلاً ذهبيًا وتعبَّدوا له.

يلتزم الملك أن يثق في الرب ويسلك حسب وصايا العهد [18-20]. يليق به أن يُدرك أنَّه بدوره خاضع للملك السماوي. لا يظن الملك أنَّه فوق القانون أو الشريعة الإلهيَّة، ولا في عينيّ الله أعظم من الخاضعين له.

أمَّا من جهة الشهوات الجسديَّة فقيل عن الملك: "ولا يكثر له نساء لئلاَّ يزيغ قلبه" [17]. هذا ما سقط فيه سليمان الحكيم: "وأحبَّ الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، موآبيات وعمونيَّات وأدوميَّات وصيدونيَّات وحثِّيَّات... فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبَّة... فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه" (1 مل 11: 1-6).

حذَّر الملك من محبَّة الغني: "وفضَّة وذهبًا لا يكثر له كثيرًا" [17]. فإن محبَّة المال تدفع الملك إلى الضغط على الشعب لأجل نفعه الخاص. يبدو أن سليمان الحكيم سقط في هذا الضعف (1 مل 12: 4). محبَّة المال تجعل الملك يثق في إمكانيَّاته وقدراته لا على ذراع الرب، قيل: "لا تتَّكلوا على الظلم، ولا تصيروا باطلاً في الخطف؛ إن زاد الغني فلا تضعوا عليه قلبًا" (مز 62: 10). لقد جمع داود النبي ذهبًا وفضَّة (1 أي 29: 4)، لكن لم يجمعهما لنفسه بل لخدمة الله، ولخدمة شعب الله وليس لخدمة أسرته الخاصة.

ثالثًا: يلتزم بالوصيَّة الإلهيَّة.

"وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من

عند الكهنة اللاويِّين.

فتكون معه، ويقرأ فيها كل أيَّام حياته،

لكي يتعلَّم أن يتَّقي الرب إلهه،

ويحفظ جميع كلمات هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمل بها،

لئلاَّ يرتفع قلبه على اخوته،

ولئلاَّ يحيد عن الوصيَّة يمينًا أو شمالاً.

لكي يطيل الأيَّام على مملكته،

هو وبنوه في وسط إسرائيل" [18-20].

يليق بالملك أن يكون أولاً وقبل كل شيء رجل الكتاب المقدَّس، رجل كلمة الله، يعشق الكلمة الإلهيَّة. يليق به أن يكون طالبًا مجتهدًا في دراسته لكلمة الله، فيسلك بروح الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة، وينحني قلبه بروح الحب نحو الله الذي أقامه ملكًا، ونحو شعبه، بهذا يهبه نجاحًا في كل شيء.

أ. يرى البعض النسخة من الشريعة التي يكتبها الملك بنفسه هي "سفر التثنيَّة"، حيث تقدَّم وصايا وشرائع تمس حياة الملك والقادة، ليس مثل سفري اللآويِّين والعدد حيث أغلب الشرائع تمس الطقوس والخدمة والكهنوت. ويرى البعض أن الشريعة هنا تعني أسفار موسى الخمسة التي كانت تحفظ معًا في وحدة واحدة كأساس لكل ما يمس الجانب الديني.

ب. بلا شك كان الملك لديه أكثر من نسخة من الشريعة، لكنَّه يلتزم أن يكتب بخط يده نسخة له بعد جلوسه على العرش إن كان لم يكتب نسخة قبل توَلِّيه الحكم. يلزم أن يكتب نسخة جديدة لتكون أشبه بتجديد العهد بينه وبين الله. تُكتب النسخة عن تلك التي بين يديّ الكهنة المحفوظة في تابوت العهد أمام الرب لكي تطابق الأصل.

ج. غالبًا ما يكون لدى الملك نسَّاخ خطوطهم أجمل ممَّا للملك، لكنَّه يلتزم أن يكتب بخط يده، لأن الكتابة تثبت الأفكار، وتسند الشخص ليتأمَّل ما يكتبه أكثر من القراءة المجرَّدة. بهذا يود أن تُطبع الشريعة في ذهن الملك.

د. يتعلَّم الملك أنَّه ليس في شئون دولته ما هو أهم من أن يجلس وينشغل بوصيَّة الله، تحت كل ظروف المملكة وثقل المسئوليَّة. ليس له عذر أنَّه يحمل مسئوليَّات كثيرة، وأنَّه يمكن لغيره أن يقوم بهذا العمل.

هـ. لا يكفي أن يكتبها ويحفظها في خزانته، إنَّما يلتزم أن يقرأها لا مرة ولا مرَّتين، إنَّما يبقى يراجعها كل أيَّام حياته.

و. غاية القراءة أن تتحوَّل إلى حياة التقوى، فيخاف الرب إلهه. يُدرك أنَّه وإن نال سلطانًا ومهابة، لكنَّه يلتزم بالانحناء بمخافة أمام سلطان الله وعزَّته. الله فوق الكل، وملك الجميع.

ز. يلتزم بالأمانة في تنفيذ جميع الوصايا والفرائض، فيكون حافظًا للشريعة على الدوام.

ح. بالشريعة يتعلَّم التواضع فلا يرتفع قلبه على اخوته.

ط. تصير أيَّامه طويلة أي مثمرة ومباركة.

 

 


 

من وحيّ تثنيَّة 17

هب لي روح القداسة والعدل والسلطة

v     تشتاق أيُّها الآب القدُّوس أن تقيمني لك قدِّيسًا.

أرسلتَ لي ابنك القدُّوس لكي يحملني إليك.

وقدَّمت لي روحك القدُّوس لكي يقدِّسني إلى التمام!

هب لي ألاَّ أقدِّم لك ما لا يليق بك،

بل لتشتم في كل تقدماتي رائحة ابنك القدُّوس.

ليته لا يكون في أعماقي عيب ولا دنس،

فتخرج صلاتي وكل عبادتي مقدَّسة فيك!

v     في القديم كانت عبادة الأوثان جريمة كبرى عقوبتها الرجم.

ليعمل روحك الناري في قلبي فينزع كل آلهة غريبة عنِّي.

لا يكون للرجاسة موضع في أعماقي.

بل يسكن روحك في داخلي، يهبني روح القداسة.

v     هب لي مع القداسة روح العدالة.

أقمتني قاضيًا، فأحكم على نفسي بروح العدالة.

أنت قاضي القضاة، تدين كل البشر.

هب لي روح الحق مع التواضع!

لتكن وصيَّتك هي الحكم في داخلي.

v     مع القداسة والعدالة هب لي روح السلطة.

أنت ملك الملوك.

تقيم من شعبك ملوكًا لكن ليس كملوك الأمم.

اخترتني ملكًا أحمل سلطانًا روحيًا.

أقول لهذا الفكر اذهب فيذهب، ولذاك أدخل فيدخل!

هب لي سلطانًا فلا أخشى الخطيَّة،

ولا أهاب الشيطان أو الأحداث!

بك أصير ملكًا،

بك تغتني نفسي بكل البركات،

بل أدرك أسرار وصيَّتك.

شريعتك هي دستور مملكتي الداخليَّة.

لا أحيد عنها يمينًا ولا يسارًا.

هي تهيِّئ لي طريقي الملوكي!

<<

 


 

الأصحاح الثامن عشر

خدَّام الرب

إذ قبل الكهنة اللآويون الرب نصيبًا لهم يلتزم الشعب أن يقدِّموا لهم نصيب الرب، ألا وهي العشور والبكور والنذور. بالنسبة للكهنة اللآويِّين المتفرِّقين بين المدن يلتزم الشعب باحتياجاتهم الماديَّة. أمَّا خدَّام الشيطان مثل العائفون والمتفائلون والسحرة فلا يكون لهم موضع في وسطهم. لقد كان للأمم المحيطة أنبياء كذبة وأصحاب عرافة يعتمدون على قوَّة الشيطان، لذا حرمَّ الله ممارسة العِرافة [9-14].

أقام الله لشعبه أنبياء ينطقون بكلمة الله ويعلنون إرادته [15-19]. كل نبي يتنبَّأ بغير ما ينطق به الرب يموت [20-22].

من الجانب الآخر قدم نبوَّة عن الخادم الحقيقي: "النبي المنتظر" وهو رب الأنبياء المتجسِّد، أي عن مجيء السيِّد المسيح، بقوله: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون..."، إذ هو فريد في نبوَّته، رب الأنبياء، الذي يهب حياة لمن يسمع له، وكل نفس لا تنصت له تُباد من الشعب (أع 3: 22-23؛ 7: 37 الخ).

1. نصيب الكهنة اللآويِّين            [1-8].

2. لا عائفون ولا سحرة             [9-14].

3. النبي المنتظر                     [15-22].

1. نصيب الكهنة اللآويِّين:

كان الشعب على وشك الدخول إلى أرض الموعد، وهي أرض خصبة، وكما رأينا تعتمد على الأمطار، وكأن الله نفسه هو الذي يعولهم بالأرض كما بالمياه. الآن خصَّص سبطًا كاملاً ليس له أرض زراعيَّة يعيش عليها ليؤكِّد أن ميراث الرب هو لهم. إنَّهم مثَل حي للاعتماد الكامل على الله بدون أرض!

لم يهتم الله أن يذكر شيئًا عن حقوق الملك، بل على العكس نجد صموئيل النبي يحذر الشعب الطالب أن يقيم ملكًا عليه، قائلاً: "هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم. يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه ويركضون أمام مراكبه، ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين، فيحرثون حراثته، ويحصدون حصاده، ويعملون عدَّة حربه وأدوات مراكبه. ويأخذ بناتكم عطارات وطبَّاخات وخبَّازات، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيدكم، ويعشِّر زروعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده..." (1 صم 8: 11-15).

بينما يهتم باحتياجات الكهنة واللآويِّين ويحدِّد نصيبه ليكون لهم النصيب الأعظم ممَّا له، يحذِّر الشعب ممَّا يفعله الملوك الذين كثيرًا ما يسيئون استخدام سلطانهم ويسلبون ما ليس لهم.

أولاً: لكي لا ينشغل الكهنة بأمور هذه الحياة، ولا بغناه، بل بما هو لبنيان النفوس لم يكن لهم نصيب في غنائم الحرب ولا في أرض الموعد التي قُسِّمت بالقرعة بين الأسباط. لقد أكَّد الله أنَّه هو نصيبهم وميراثهم.

"لا يكون للكهنة اللآويِّين كل سبط لاوي قسم ولا نصيب مع إسرائيل.

يأكلون وقائد الرب ونصيبه.

فلا يكون له نصيب في وسط اخوته.

الرب هو نصيبه كما قال له" [1-2].

في العهد القديم لا يكون للكهنة اللآويِّين، كل سبط لاوي، قسم ولا نصيب مع إسرائيل في الأرض التي وُزِّعت على الأسباط. أمَّا في العهد الجديد فالكنيسة كلَّها، كهنة وشعبًا، يشعرون أن نصيبهم هو الرب نفسه؛ موضعهم هو الأرض الجديدة، كنعان السماويَّة.

يأكل الكهنة "وقائد الرب" [1]. جاءت الترجمة الحرفيَّة "نيران يهوة" ويقصد بها هنا ما جاء في سفر العدد: "هكذا يكون لك من قدس الأقداس من النار كل قرابينهم مع كل تقدماتهم وكل ذبائح خطاياهم وكل ذبائح آثامهم التي يردِّدونها لي" (عد 18: 9). أمَّا في العهد الجديد فصار من حق كل المؤمنين لا أن يأكلوا وقائد ناريَّة، بل يسكن فيهم الروح الناري، ويحوِّلهم إلى وقائد وذبائح ناريَّة. يصيرون كخدَّام الله الملتهبين نارًا، يسكن فيهم كما في وسطهم الله، النار الآكلة.

يأكل الكهنة نصيب الرب من عشورٍ وبكورٍ ونذورٍ، وفي العهد الجديد يقدِّم الرب نفسه لهم ليكون نصيبهم، يتناولون جسده ودمه المبذولين حبًا عن البشريَّة كلها. الرب الذي هو روح هو نصيبهم، لكن إذ لهم أجسادهم هبة من الله لا يتركها جائعة، بل يلتزم أن يُشبعها، يقدِّم لهم نصيبه نصيبًا لهم.

يردّد كل مؤمن حقيقي مع المرتِّل: "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي، أنت الذي ترد لي ميراثي" (مز 16: 5)، "صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر" (مز 73: 26).

يشتاق الجسد أن يقتني كل العالم ويحتويه، بينما لن تشبع النفس إلاَّ من الله خالقها. هو وحده يملأ كل فراغ فيها، ويهبها كل شبعٍ وفرحٍ وسلامٍ. بامتلاكها للرب إلهها تقتني كل شيء، فتردِّد مع الرسول: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10)، "إن كل شيء لكم" (2 كو 3: 21-22).

ثانيًا: لم يترك الله للشعب حرِّيَّة العطاء للكهنة حسب كرمهم، إنَّما وضع شريعة تحدِّد نصيبهم.

"وهذا يكون حق الكهنة من الشعب من الذين يذبحون الذبائح بقرًا كانت أو غنمًا.

يعطون الكاهن الساعد والفكِّين والكِرش.

وتعطيه أول حنطتك وخمرك وزيتك وأول جزاز غنمك.

لأن الرب إلهك قد اختاره من جميع أسباطك لكي يقف ليخدم باسم الرب هو وبنوه كل الأيَّام"

[3-5].

يرى كل من يوسيفوس[207] وفيلون[208] والتلمود أن ما ورد هنا [3] لا يقصد به الذبائح في هيكل الرب، وإنَّما ذبح الحيوانات في البيوت للاستعمال الخاص.

أ. في سفر اللآويِّين (7: 32-34) أُعطي للكهنة الحق في الصدر والساق اليمنى، هنا يضيف الفكِّين والكِرش. كان أفضل نصيب من الذبيحة يُقدَّم لله على المذبح الناري، وما هو أقل يُقدَّم للكهنة واللآويِّين، ويكتفي مقدِّم الذبيحة بما تبقَّى. هذا مع استثناء ذبيحة المحرقة فإنَّها تقدَّم بأكملها لله.

كانت مشاعر المتعبِّدين أن الله ساكن في وسط شعبه الذي وهبهم أرض الموعد فصارت ملكًا لهم، وهم يفضِّلونه، فيقدِّمون له أفضل ما لديهم، أمَّا كهنته واللآويون فهم ممثِّلون له، لهذا كان المتعبِّدون يفرحون وهم يقدِّمون من أفضل ما لديهم.

ما هو نصيب المسيحي الحقيقي ككاهنٍ للرب:

·        الساعد: يشير إلى الله الذي يسند ساعد المؤمن للعمل لحساب ملكوت الله.

·        الفكِّين: تشيران إلى تقديس الكلمات الصادرة من الفم. يري القدِّيس جيروم أن "بيت فاجي" تعني "بيت الفك"، وتحمل رمزًا لبيت الاعتراف (بالفم)، فإن هذا البيت ينتمي للكهنة.

v     كانت العادة أن يُعطى الفك للكهنة. قد يسأل أحد: لماذا يتسلَّم الكاهن وحده الفك Siagona؟... إنَّه جزء من العمل الكهنوتي أن يكون قادرًا علي تعليم الشعب، إذ يقول النبي: "اسأل الكهنة عن الشريعة" (حجي 2: 12). إنَّه من واجب الكهنة أن يجيبوا الأسئلة علي الشريعة، وبالتالي ينالون قوَّة التعبير التي يُرمز لها بالفك، ومعرفة الكتب المقدَّسة التي يُرمز لها بالصدر.

لا نفع للكلمات حيث لا توجد معرفة.

عندما تستلم الفك والصدر عندئذ تستلم عضلات الساعد، التي هي رمز للأعمال[209]. فإنَّه لن تستفيد شيئًا إن كان لديك إمكانيَّة الكلمات والحديث بسهولة، ولا تكون لك معرفة، ما لم تترجم هذه إلي أعمال[210].

القدِّيس جيروم

·        الكرش: تكريس الأعماق الداخليَّة الخفيَّة لحساب الرب.

·        أول الحنطة: له نصيب في الخبز النازل من السماء.

ب. بكور الفواكه التي تظهر في مواسمها ولا يمكن حفظها لزمن طويل، يبدو إنَّها كانت تُقدَّم للكهنة الذين يعيشون في وسطهم للعمل الرعوي في المدن.

يقدِّمون كل احتياجات الكهنة اللآويِّين العاملين في الهيكل. يقدِّمون لهم بكور الحنطة والخمر والزيت للطعام، وجزاز الغنم للبس. ويقدِّم الكهنة اللآويون من هذه البكور والنذور والتقدمات احتياجات الفقراء والمعوزين.

ثالثًا: إن كان الله قد التزم بتقديم نصيبه لخدَّامه، فيليق بخدَّامه ألاَّ ينشغلوا بنصيبهم بل يقفوا ويخدموا باسمه هم وأبناؤهم كل الأيَّام. تُمتص كل أفكارهم في الشهادة للرب أمام الشعب، وتدريب أبنائهم على الخدمة.

رابعًا: يرى البعض[211] أن كلمة "ذبائح" [3] لا تعني فقط الذبائح الحيوانيَّة التي تقدَّم للرب بل كل ما يُذبح للاستعمال العام. وكأن للكهنة نصيب في كل ما يُذبح حتى وإن كانت ذبائح في المدن للطعام وليس كتقدمة للرب. فالكهنة يشاركون الشعب في طعامهم اليومي.

خامسًا: ينال اللآوي بجوار نصيبه "ما يبيعه عن آبائه" [8]. فإن كان اللآويُّون ليس لهم حق الميراث من أرض الموعد التي قسِّمت على الأسباط بالقرعة، لكن سُمح لهم أن يشتروا بيوتًا وقطعان وحقول كما في حالة أبياثار (1 مل 2: 26؛ إر 32: 7-8).

"وإذا جاء لاوي من أحد أبوابك من جميع إسرائيل حيث هو متغرِّب وجاء بكل رغبة نفسه إلى المكان الذي يختاره الرب" [6].

لقد اختار الله سبط لاوي لخدمة هيكله، لكنَّه لم يجبر أحدًا منهم على الخدمة بل يقول: "وجاء بكل رغبة نفسه إلى المكان الذي يختاره الرب" [6]. الله لا يحطِّم الإرادة البشريَّة لكنَّه يشتاق أن تكون في انسجام مع إرادته، يقدِّسها ويعمل بها.

وخدم باسم الرب إلهك مثل جميع اخوته اللآويِّين الواقفين هناك أمام الرب.

يأكلون أقسامًا متساويَّة عدا ما يبيعه عن آبائه" [7-8].

بقوله "وخدم" [7] يؤكِّد الله أن الكهنوت ليس درجة للكرامة لكنَّها فرصة للعمل والخدمة. مشاركة في عمل السيِّد المسيح غاسل أقدام الآخرين. إنَّه يعمل عمل الرب بروح الله القدُّوس، عمل يبدو كأنه مستحيل لكنَّه مملوء عذوبة وكرامة مقدَّسة.

يردِّد كل مؤمن حقيقي مع المرتِّل: "الرب هو نصيب ميراثي وكأسي، أنت الذي ترد لي ميراثي" (مز 16: 5)، "صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر" (مز 73: 26).

يشتاق الجسد أن يقتني كل العالم ويحتويه، بينما لن تشبع النفس إلاَّ من الله خالقها. هو وحده يملأ كل فراغ فيها، ويهبها كل شبع وفرح وسلام. بامتلاكها للرب إلهها تقتني كل شيء، فتردِّد مع الرسول: "كفقراءٍ ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 7: 10)، "إن كل شيء لكم" (2 كو 3: 21-22).

كان للآويِّين بيوت، ومع هذا اُعتبروا رُحَّل وغرباء في هذا العالم، إذ لم يكن لهم نصيب في الأراضي التي تورث لأبنائهم.

هنا يؤكِّد الله إنَّه يحب الذين يحبُّون مذبحه المقدَّس. كل اهتمام موجَّه إليهم يحسبه موجَّهًا إليه شخصيًا.

2. لا عائفون ولا سحرة:

إذ يتحدَّث عن الكهنة خدَّام الرب الممثِّلين له، والذين يمثِّلون الشعب أمامه، يحذِّرهم من الالتجاء إلى خدَّام الأوثان أو ما يماثلهم ممَّن يظنُّون إنَّهم يمارسون عملهم الرعوي خلال إجازة الابن أو الابنة في النار خاصة وقت الأزمات لاسترضاء الآلهة (لا 10:18؛ 20: 2-5)، أو العرافة، أو العيافة، أو التفاؤل، أو السحر، أو الرقي (استخدَّام اسم الله في السحر)، أو سؤال الجان، أو التابعة للجان، أو استشارة الموتى.

"متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك

لا تتعلّم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم.

لا يوجد فيك من يُجيز ابنه أو ابنته في النار،

ولا من يعرف عِرافة، ولا عائف، ولا متفائل، ولا ساحر،

ولا من يرقي رقية،

ولا من يسأل جانًا، أو تابعة، ولا من يستشير الموتى" [9-11].

v     القداسة بالنسبة لهم تكمن في تحرُّرهم من العادات الوثنيَّة، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة لنا. يقول الرسول بولس: "لتكون مقدَّسة جسدًا وروحًا" (1 كو 7: 34)[212].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

اشتهر كل من قدماء المصريِّين والكلدانيِّين بفنون السحر، وقد مارس الكنعانيُّون السحر (1 صم 28: 7-10). وكانت الشعوب تتطلَّع إليه بكونه يحمل نوعين: سحر صالح يُستخدم في معالجة الأمراض وحلّ المشاكل ومساندة القادة على أخذ قرارات مصيريَّة الخ، وسحر شرِّير غايته الإضرار بالآخرين كأن تسكنهم الشيَّاطين أو تصيبهم أمراض أو يفقدون سلامهم الخ. وقد جاءت الشريعة الموسويَّة لتؤكِّد أن كل أنواع السحر مهما كانت وسائلها أو أهدافها شرِّيرة واعتبرتها دنسًا ورجسًا.

أراد الله أن يحصِّن شعبه من العبادة الوثنيَّة وكل رجاساتها وعاداتها وخدَّامها. إذ كانوا في خطر الالتجاء إلى كل أنواع السحر وما يشبهه، والالتجاء إلى الشيطان لتحقيق شهواتهم حتى إنَّهم كانوا يقدِّمون أبناءهم وبناتهم ذبائح بشريَّة لملوك الإله الممثِّل للشمس (لا 18: 21). يخشى لئلاَّ يلجأوا إلى الشيطان واتِّباعه في معرفة المستقبل والاستشارة في تحرُّكاتهم وتصرُّفاتهم عِوض الالتجاء إلى الله خلال خدَّامه. لقد وهبهم الله الأرض المقدَّسة لكي تكون لهم شركة معه لا مع عدو الخير.

يورد موسى النبي هنا تسعة تعبيرات عن استخدَّام التنبُّؤ بالمستقبل عن طريق السحر. ربَّما لم تعد هذه الأنواع موجودة الآن كما هي لكن للأسف يوجد ما يشبهها، بل وأشر منها حيث انتشرت حركة "عبادة الشيطان" وما يتبعها من الدعوى بالتنبُّؤ بالمستقبل بوسائل كثيرة.

من الصعب التمييز بين الأصناف التي ذكرها موسى النبي عن أنواع السحر والعرافة في أيَّامه، إذ تختلف في التعبيرات عما يُستخدم حاليًا في ذات المجال.

غالبًا ما يقصد بالعرافة معرفة الإرادة الإلهيَّة خلال تصويب الأسهم كما جاء في (حز 21: 21): "لأن ملك بابل قد وقف على أم الطريق على رأس الطريقين ليعرف عرافة، صقل السهام، سأل بالترافيم، نظر إلى الكبد".

ويُقصد بالعيافة قراءة المستقبل عن طريق السحاب وصنع أصوات غريبة.

التفاؤل هو التعرُّف على الأمور المخفيَّة عن طريق قراءة الكأس كما في أيَّام يوسف. يشير نفس التعبير في السريانيَّة إلى التنبُّؤ عن طريق ملاحظة الطيور والنار والمطر وبعض المظاهر الطبيعيَّة.

أمَّا بالنسبة للسحر فتُستخدم أدوية وأعشاب يعتقد البعض أن لها تأثير سحري. يستخدم البعض كلمات سحريَّة، أو يربطون إنسانًا ويعقدون عقدًا سحريَّة.

في هذه الأنواع نرى كيف يُسيء عدو الخير استخدَّام كل شيء. أساء استخدام الطبيعة التي خلقها الله صالحة ومقدَّسة لأجلنا، كما أساء استخدام حتى أكلنا وشربنا مثل قراءة الفنجان، وأساء استخدام جسد الإنسان نفسه مثل قراءة الكف، بل وحتى بالنسبة لاخوته الراقدين فيدعى الإنسان بقدرته على استدعاء ميتٍ يتنبَّأ عن المستقبل.

لا يريد الله أن يخفي إرادته الإلهيَّة عنَّا، ولا يريد أن يجعل من المستقبل أمرًا مجهولاً، لهذا فقد أعلن عن إرادته بطرق كثيرة حتى جاء كلمة الله نفسه، الابن الوحيد الجنس ليتحدَّث معنا وجهًا لوجه (عب 1: 1). لكن للأسف كثيرًا ما يفضِّل الإنسان الطرق الخاطئة والمضلِّلة من كل أنواع السحر والعرافة عن الاستماع لصوت الرب نفسه.

خلق الله الإنسان كائنًا يتطلَّع إلى المستقبل، فالحيوانات يمكنها أن تشبع اليوم ولا تفكِّر في الغد، أمَّا الإنسان فبطبعه يميل إلى الغد. هذا الاشتياق يلهب في قلب المؤمن رغبة حارة ولهيبًا متَّقدًا نحو معرفة الحياة العتيدة. إنَّه يتوق أن ينطلق ليرى الله ويرتمي في أحضانه، ويتعرَّف على السمائيِّين ويشاركهم تسابيحهم، ويلتقي برجال الله منذ آدم حتى آخر الدهور. أمَّا وقد فسد القلب تحوَّلت هذه الرغبة إلى حالة قلق واضطراب نحو المستقبل في هذا العالم. هذا ما يدفعه أحيانًا إلى الالتجاء إلى السحر والعرافة.

لماذا يرفض الله التنبُّؤ خلال السحر وما يشبهه؟

أولاً: يضلِّل الشيطان البشريَّة بإحدى وسيلتين تبدوان كـأنَّهما متناقضتان. إمَّا أنَّه يحث الإنسان على إنكار عالم الأرواح، إنكار وجود الله نفسه وملائكته والشيطان وخلود النفس البشريَّة، بهذا يحطِّم رجاء الإنسان في الأبديَّة. وأمَّا السلاح الآخر الذي يبدو معارضًا للأول وهو مع عدم إنكار وجود الله والأرواح المقدَّسة والشيَّاطين إلاَّ أن العدو يوحي للبشر أنَّه صاحب سلطان، يعطي بفيض ما لا يعطيه الله. أذكر في حديثي مع أحد الشبان وقد بدأ يرتبط بعبادة الشيطان أنَّه قال لي: "لماذا لا أعبد الشيطان وهو يعطيني كل ما أطلبه؟" إنَّها ذات التجربة التي أراد العدو أن يجرِّب بها السيِّد المسيح، إذ "أخذه أيضًا إبليس إلى جبلٍ عالٍ جدًا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي" (مت 4: 9).

ثانيًا: الالتصاق بأعمال الشيطان يفقد الإنسان قدسيَّته، إذ يمارس الرجاسة مثل سائر الأمم [9]. الله نور، من يسلك فيه يتمتَّع بالنور والحق، ومن يشترك في أعمال إبليس إنَّما يسير في الظلمة ويرتبط بالباطل.

ثالثًا: أعمال إبليس تفقد الإنسان لطفه ورقَّته، فيحمل نوعًا من القسوة أو العنف حتى بالنسبة لأولاده، فيقدِّم أحيانًا أبناءه ذبائح بشريَّة.

يقدِم لهم الأسباب التي تمنع الالتجاء إلى الشيطان واتباعه:

أولاً: هذه التصرُّفات هي رجس عند الرب، مكروهة لديه. "لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب" [12]. إذ من يحب الله لا يطيق أعمال الشيطان الرجسة والمكروهة لدى الرب.

ثانيًا: طردت هذه الأعمال الأمم من كنعان، إذ يقول: "وبسبب هذه الأرجاس الرب إلهك طاردهم من أمامك" [12]. فإن مارس الشعب ما قد مارسته الأمم يكون نصيبهم كنصيب الأمم المطرودين أمامهم.

ثالثًا: يشتهي الله أن يميِّزهم عن الأمم فيكونوا كاملين في عينيه في كل شيء.

"تكون كاملاً لدى الرب إلهك.

إن هؤلاء الأمم الذين تخلفهم يسمعون للعائفين والعرَّافين،

وأمَّا أنت فلم يسمح لك الرب إلهك هكذا" [13-14].

بنفس الروح يقول الرسول بولس: "فأقول هذا وأشهد في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضًا بُبطل ذهنهم، وأمَّا أنتم فلم تتعلَّموا المسيح هكذا" (أف 4: 17، 20). يقول أيضًا مع برنابا الرسول: "الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم" (أع 14: 16). لقد ترك الأمم في طرقهم الرديئة فحطَّموا أنفسهم، أمَّا شعب الله فيسلك في طريق الرب.

غاية منعنا من هذه الطرق الخاطئة هي شوق الله إلى كمالنا: "تكون كاملاً لدى الرب إلهك" [13]. إنَّه لا يطلب حرماننا من شيء بل يطلب شبعنا به وكمالنا فيه.

اعتمد أتباع بيلاجيوس على الآية [13] في إمكانيَّة الإنسان أن يصير كاملاً بذاته، قائلين أمَّا إن السامعين قادرين على تنفيذ ذلك أو يكون الخطأ ممَّن وضع وصيَّة مستحيل تنفيذها[213]. وقد أجاب القدِّيس جيروم على ذلك قائلاً بأن هذا ما يطلبه الله للجهاد من أجله لكن حتى رسل المسيح أنفسهم لم يكونوا كاملين بعد.

يدعونا الله إلى الكمال، أو إلى النمو الدائم في الحياة الكاملة، لكن يليق بنا أن نميِّز بين الكمال الإلهي المطلق والكمال عمد الإنسان.

v     كما أن نهاية الحياة هي بداية الموت، هكذا التوقُّف في سباق الفضيلة علامة بداية السباق في الشر[214].

v     ما يحمل علامات الحدود فهو ليس بفضيلة[215].

v     من يسعى نحو الفضيلة الحقيقيَّة لا يشترك إلاَّ في الله، الذي هو نفسه الفضيلة المطلقة[216].

v     كما قلت ليس للكمال حدود، حدود الفضيلة هي غياب للحدود. كيف يمكن لشخص أن يبلغ طلب الحدود حيث لا يمكن أن توجد حدود[217].

v     لا يتجاهل أحد أمر الرب القائل: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل" (مت 5: 48). فإنَّه في حالة الأمور الصالحة بطبيعتها، فإنَّه وإن كان البشر يدركون عجزهم عن بلوغ كل شيء، لكن ببلوغهم جزء منها ينالون كرامة عظيمة[218].

v     يليق بنا أن نظهر اجتهادًا عظيمًا ألاَّ نسقط من الكمال الذي يمكن بلوغه بل نطلبه قدر المستطاع. إلى هذا الحد لنتقدَّم في هذا الأمر الذي نسعى فيه. فإن كمال الطبيعة البشريَّة يكمن ربَّما في ذات النمو في الصلاح[219].

القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

3. النبي المنتظر:

في كل العصور لأعمال السحر والعرافة وكل أنواع التنبُّؤ جاذبيَّتها الخاصة حتى يومنا هذا، وفي أكثر البلاد تقدُّمًا ومعرفة، لهذا كان لابد من تقديم عمل فائق يشبع احتياجات الإنسان ويكشف عن أسرار المستقبل. لهذا أعلن موسى النبي في خطابه الوداعي عن مجيء السيِّد المسيح الذي وحده يحمل النفس كما إلى السماء لترى الأبواب مفتوحة، وتجد لها موضعًا في حضن الآب. بهذا تستقر النفس وتستريح، وتنتظر في رجاء يوم الرب العظيم حيث يتمتَّع الإنسان بكليَّته بالشركة في المجد الأبدي. وكأنَّه يليق بالمؤمن في العهد القديم أن يكرِّسوا طاقاتهم لمعرفة المستقبل نحو رؤية مجيء المسيا مخلِّص العالم؛ وبمؤمني العهد الجديد بانتظار مجيئه ليحملهم إلى مجده.

جاء "كلمة الله" الذي هو "حكمة الله" لنقتنيه، فنرى المستقبل واضحًا، بل نذوق عربونه بروح الفرح والتهليل.

مع عظمة شخصيَّة موسى النبي الذي احتمل الشعب قرابة أربعين عامًا، ذاق فيها الكثير من غلاظة قلوبهم، حمل قلبًا كبيرًا يتَّسع لكل الشعب، وقد أعطاه الرب صنع الآيات والعجائب بصورة لم يكن ممكنًا ألاَّ يتوقَّع الشعب قيام نبي مثله. لقد وجَّه موسى النبي أنظار الشعب إلى مجيء السيِّد المسيح من وسطهم، وكان من الصعب أن يدرك كمال شخصيَّته، وإن أدركها يصعب أن يقدِّمها للشعب.

"يُقيم الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون" [15].

هنا وعد بمجيء "النبي". كاد الشعب أن يعبد موسى النبي بعد موته، لذلك أخفى ميخائيل رئيس الملائكة جسده، وصارع مع إبليس الذي أراد إظهاره لينحرف الشعب عن عبادة الله إلى عبادة موسى. فلو قال موسى أن القادم أعظم منه لظنُّوا وجود إلهين، إذ لم يكن ممكنًا لهم إدراك الأقانيم الإلهيَّة، لهذا قال: "مثلي". بتجسُّده صار إنسانًا، فصار مثله.

أولاً: يقول "من وسطك"، أي من وسط إسرائيل وليس من أمة أخرى كما يحاول البعض ادعاء ذلك. أكَّد السيِّد المسيح ذلك بقوله للسامريَّة: "لأن الخلاص هو من اليهود" (يو 4: 22). ويقول القدِّيس يوحنا: "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11).

تحدَّث بطرس الرسول مع جمع اليهود بعد العنصرة عن شخص المسيح، قائلاُ:

"ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل.

الذي ينبغي أيضًا أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء التي تكلَّم عنها الله بفم جميع

أنبيائه القدِّيسين منذ الدهر.

فإن موسى قال للآباء إن نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم.

له تسمعون في كل ما يكلِّمكم به.

ويكون أن كل نفسٍ لا تسمع لذلك النبي تُباد من الشعب.

وجميع الأنبياء أيضًا من صموئيل فما بعده جميع الذين تكلَّموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيَّام"

(أع 3: 20-24).

وفي خطاب رئيس الشمامسة إسطفانوس الوداعي عن شخص المسيح قال: "هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم له تسمعون" (أع 7: 37). ويقول الإنجيلي يوحنا: "فلمَّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع (إشباع الجموع) قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يو 6: 14).

ثانيًا: بقوله "نبيًا من وسطك" ميَّزه عن بقيَّة الأنبياء، إذ وُجد في كل العصور أنبياء كثيرون. هنا يقصد "النبي" الذي وحده يستطيع القول: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 22)، الكلمة الذي به تكلَّم الآب معنا (يو 1: 1؛ عب 1: 2).

ثالثًا: يقول: "مثلي"، فإنَّه وإن كان رب الأنبياء لكنَّه صار مثل موسى.

·        كان موسى يتحدَّث مع الله بطريقة فائقة، إذ قيل عنه: "إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلِّمه، أمَّا عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلَّم معه لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين" (عد  12: 6-8). "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه" (تث 34: 10). أمَّا بالنسبة ليسوع المسيح، ابن الله وكلمته، فإنَّه في الآب والآب فيه (يو 14: 10). إدراكه لإرادة الآب كاملة (يو 5: 20-21).

·        موسى مقدِّم الشريعة لإسرائيل ومخلِّصهم من عبوديَّة فرعون، والمسيح هو معلِّم البشريَّة ومخلِّص العالم من عبوديَّة إبليس.

·        موسى مؤسِّس التدبير الجديد للشعب بآيات وعجائب فائقة، والمسيح جاء إلى العالم ليُقيم العهد الجديد بقوَّته الإلهيَّة الفائقة.

·        كان موسى أمينًا لكن كعبدٍ (عد 12: 7)، وأمَّا المسيح فهو الابن الوحيد الجنس. "موسى كان أمينًا في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلَّم به، وأمَّا المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن إن تمسُّكنا بثقة الرجاء وأفكاره ثابتة إلى النهاية" (عب 3: 5-6).

·        قام موسى وسيطًا بين الله وشعبه كما رأينا في (تث 5: 5)، أمَّا السيِّد المسيح فهو الوسيط الذي وهو واحد مع الآب في ذات الجوهر حملنا أعضاء في جسده، وصالحنا مع أبيه. "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1 تي 2: 6-7). لكن شتَّان ما ين الوساطتين، الأول وسيط لنوال العهد الإلهي خلال خدمة الظلال وشبه السمويَّات، أمَّا الثاني فدخل بنا إلى السماء عينها. وكما يقول الرسول بولس: "الذين يخدمون شبه السمويَّات وظلِّها، كما أوحى إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن، لأنَّه قال اُنظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل، ولكنَّه الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضًا لعهدٍ أعظم فقد تثبَّت على مواعيدٍ أفضل" (عب 8: 5-6).

·        امتاز موسى النبي عن بقيَّة الأنبياء إنَّه تحدَّث مع الله فمًا لفمٍ (عد 12: 6-8)، أمَّا المسيح فهو في حضن الآب نزل إلى السماء يخبرنا عن الآب (يو 1: 18؛ 3: 13).

·        موسى النبي صنع آيات وعجائب فائقة باسم الرب، أمَّا المسيح فصنع آيات كثيرة بأمرٍ منه، يشهد القدِّيس يوحنا عن العجز عن حصر أعمال المسيح خاتمًا إنجيله بالقول: "وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يو 21: 25).

·        قام موسى النبي بدور الملك والقائد، وجاء المسيح ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ 19: 16؛ 1 تي 6: 16).

·        لم يوجد في تاريخ البشريَّة كلَّها من قدَّم الشريعة الإلهيَّة سوى موسى النبي والسيِّد المسيح. تسلَّم موسى الشريعة حينما اضطرب الشعب وخافوا بسبب النار والجبل الذي يُدخِّن، أمَّا السيِّد المسيح فجاء يهب نعمة فوق نعمة، مقدِّمًا الحق والنعمة معًا (يو 1: 14).

رابعًا: يقول: "واجعل كلامي في فمه، فيكلِّمكم بكل ما أوصيه به" [18]. مع أن السيِّد المسيح هو بعينه كلمة الله، لكنَّه إذ تجسَّد خضع بالطاعة ليتمِّم إرادة أبيه عنَّا، التي هي واحدة مع إرادته. لهذا لا نعجب إنَّه إذ قالوا: "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم؟ أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلَّم أنا من نفسي؟ من يتكلَّم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأمَّا من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" (يو 7: 15-18). إذن قد تحقَّق هذا الوعد العظيم وجاء "النبي"، يسوع المسيح العظيم مخلِّص العالم!

لا يمكن أن تنطبق العبارات التي نطق بها العظيم في الأنبياء إلاَّ على شخص السيِّد المسيح، إذ قيل عنه إنَّه مثله، وقد قيل عن موسى: "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه، في جميع الآيات والعجائب التي أرسله الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وكل أرضه، وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل" (تث 34: 10-12). فإن كان لم يقم نبي مثل موسى ولا يقوم فكيف يقيم الله نبيًا مثله، إلاَّ بمجيء ذاك الذي هو ربُّه وصار مثله؟!

يقدِّم تحذيرًا من الأنبياء الكذبة، فبعد مجيء المسيح أيضًا يأتي أنبياء كذبة، ويطالبنا بعدم الخوف من النبي الكذَّاب [20-22].

v     يتحدَّث موسى النبي عن المسيح قائلاُ: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون" [15]. لهذا فمن لا يطيعه يعصى الناموس[220].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     توقَّعوا إنَّه سيأتي نبي خاص إذ يقول موسى هذا هو المسيح، لذلك لم يقولوا (ليوحنا): "أأنت نبي؟" قاصدين بهذا إنَّه واحد من بين الأنبياء العاديِّين بل جاء التعبير: "ألنبيْ أنت؟!" (يو 1: 21). بإضافة أداة التعريف، قاصدين بذلك: "هل أنت هو النبي الذي سبق فأخبرنا عنه موسى؟" لهذا لم ينكر إنَّه نبي إنَّما رفض أن يدعى "ذاك النبي!" [221].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     إنَّه يشبهه، بمعنى من جهة الجسد، وليس من جهة سموّ العظمة. لذلك دعي الرب يسوع "النبي"[222].

القدِّيس أغسطينوس

"حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً:

لا أعود اسمع صوت الرب إلهي، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلاَّ أموت.

قال لي الرب: قد احسنوا فيما تكلَّموا.

أقيم لهم نبيًّا من وسط اخوتهم مثلك،

واجعل كلامي في فمه فيكلِّمهم بكل ما أوصيه به.

ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلَّم به باسمي أنا أطالبه.

وأمَّا النبي الذي يطغي فيتكلَّم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلَّم به أو الذي يتكلَّ باسم آلهة

أخرى فيموت ذلك النبي.

وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلَّم به الرب.

فما تكلَّم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلَّم به الرب بل

بطغيان تكلَّم به النبي فلا تخف منه" [16-22].

يريد الله أن يلتقي مع كل إنسان شخصيًا ويتحدَّث معه وجهًا لوجه، لكن الإنسان عاجز عن هذا اللقاء، إذ لا يقدر أحد أن يتطلَّع إلى بهاء مجد الله ويعيش. لقد صرخ: "لا أعود اسمع صوت الرب إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلاَّ أموت"، لهذا كان لابد أن يتحقَّق الإعلان الإلهي للبشر خلال إنسان. لهذا تحدَّث الله مع موسى النبي على جبل سيناء وسط النار من أجل كل الشعب.

هكذا أرسل الله من جيل إلى جيل نبيًا أو أكثر يتحدَّث الله إليه لحساب شعبه حتى يتجسَّد كلمة الله نفسه الذي يظهر كنبيٍ على مثال موسى، وهو رب الأنبياء. عندئذ يستطيع الإنسان أن يلتقي مع الله، ويتحدَّث معه.

كان العالم في حاجة إلى الإعلان الإلهي ليس خلال المسيح فحسب، بل وفيه، لقد تحدَّث مع الجماهير كواحدٍ منهم، ولم يُعلن مجده إلاَّ لقلَّة "بطرس ويعقوب ويوحنا" على جبل تابور في تجلِّيه، وأحضر موسى وإيليا ليشهدا له كممثِّلين للناموس والأنبياء.

 

 


 

من وحيّ تثنيَّة 18

خدَّام الله وخدَّام الشيطان

v     في يديك مفاتيح قلبي.

لتفتح ولتدخل ولتُقم في أعماقي.

ليدخل معك خدَّامك الحقيقيُّون.

يعلنون كلمتك ويختفون في وصيَّتك.

يجدون راحتهم في ملكوتك القائم فيَّ!

v     لتغلق أبواب قلبي بمفاتيح الحق.

فلا يدخل نبي كاذب ولا تتسلَّل رجاسة!

لن أسأل آخر غيرك.

ليس للشيطان وملائكته موضع في داخلي!

v     طال انتظار المؤمنين لمجيئك.

انتظرك آدم ومعه حواء،

وترقب الآباء والأنبياء مجيئك!

أخيرًا أتيت إلى عالمنا.

حوَّلت أرضنا إلى سماء.

قدَّمت دمك كفَّارة عن العالم كلُّه!

نعم لتدخل إلى عالم قلبي الداخلي.

ولتُعلن حلولك في أعماقي!

طال انتظاري لك يا مخلِّص نفسي!

<<

 

 

 


 

الأصحاح التاسع عشر

مدن الملجأ والشاهد الكاذب

إن كان يليق بشعب الله أن يترجموا حياتهم الدينيَّة إلى سلوك لائق في كل العلاقات الاجتماعيَّة والمعاملات المدنيَّة والجنائيَّة، فإنَّهم كشعبٍ مبتدئٍ في الحياة الروحيَّة احتاجوا إلى شريعة تفصيليَّة تحكم سلوكهم ومعاملاتهم.

أشار في الأصحاح السابق إلى مجيء "النبي" المنتظر الذي له نسمع، فنتمتَّع بالخلاص. الآن يقدِّم لنا صورة رمزيَّة لهذا الخلاص المسياني، وهو إقامة مدن الملجأ، التي يلجأ إليها كل قاتلٍ ارتكب القتل خطأ بغير إرادته.

هذا العدل الجزائي البدائي بعيد كل البعد عن القتل المتعمِّد، والغرض منه أن يمنعه فهو لا يكسر الوصيَّة السادسة بل بالأحرى يحفظها.

تحدَّث أيضًا عن احترام حقوق اللآخرين، سواء بالنسبة لممتلكاتهم أو لنفوسهم. فلا يجوز للإنسان أن ينقل تخومه ليستولى على أرض ليست من حقّه. ولا يليق به أن يشهد كذبًا على إنسان بريء.

1. مدن الملجأ              [1-13].

2. نقل التُخُم                [14].

3. شهادة الزور             [15-31].

1. مدن الملجأ:

"متى قرض الرب إلهك الأمم الذين الرب إلهك يعطيك أرضهم وورثتهم وسكنت مدنهم وبيوتهم،

تفرز لنفسك ثلاث مدن في وسط أرضك التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها.

تصلح الطريق وتثلث تخوم أرضك التي يقسم لك الرب إلهك،

فتكون لكي يهرب إليها كل قاتل.

وهذا هو حكم القاتل الذي يهرب إلى هناك فيحيا،

من ضرب صاحبه بغير علمٍ وهو غير مبغضٍ له منذ أمس وما قبله.

ومن ذهب مع صاحبه في الوعر ليحتطب حطبا فاندفعت يده بالفأس ليقطع الحطب

وافلت الحديد من الخشب وأصاب صاحبه فمات،

فهو يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا.

لئلاَّ يسعى وليّ الدم وراء القاتل حين يحمى قلبه ويدركه إذا طال الطريق ويقتله وليس عليه

حكم الموت لأنَّه غير مبغضٍ له منذ أمس وما قبله.

لأجل ذلك أنا آمرك قائلاً: ثلاث مدن تفرز لنفسك.

وإن وسَّع الرب إلهك تخومك كما حلف لآبائك أعطاك جميع الأرض التي قال أنَّه يعطي لآبائك.

إذا حفظت كل هذه الوصايا لتعملها كما أنا أوصيك اليوم لتحب الرب إلهك وتسلك في طرقه

كل الأيَّام فزد لنفسك أيضًا ثلاث مدن على هذه الثلاث.

حتى لا يسفك دم بريء في وسط أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فيكون عليك دم" [1-10].

ليس كل قتل هو جريمة، إنَّما يجب دراسة كل حالة على حدة، فقد ميَّزت الشريعة بين نوعين من القتل:

أ. القتل خطأ: [4-6]: يمكن للقاتل أن ينجو من الانتقام منه بالهروب إلى إحدى مدن الملجأ (عد 35: 9-34).

ب. القتل عمدًا: يجوز للولي أن ينتقم من القاتل [11-13].

أحد الأوامر التي قدِّمت لأبناء نوح أن من يسفك دم إنسان يُسفك دمه انتقامًا للدم (تك 9: 6). الآن استقرَّت هذه الشريعة. لكن ماذا إن سُفك دم خطأ وليس عن قصد. لهذا أمر الله بإقامة مدن الملجأ، كما سبق فرأينا في دراستنا لسفر الخروج (21: 13)، وسفر العدد (35: 10) الخ. لقد عالج سفر العدد هذا الأمر بالتفصيل، غير أنَّه إذ كان الشعب على وشك الدخول إلى أرض الموعد قدَّم لهم توجيهات عمليَّة لإقامة الثلاث مدن في الضفَّة الشرقيَّة.

أولاً: تحديد ثلاث مدن للملجأ في أرض كنعان، في الضفَّة الغربيَّة، حيث كان موسى قد حدَّد ثلاث مدن في الضفَّة الشرقيَّة [1-3، 7]. تُقسَّم المنطقة كلها إلى ثلاثة أقسام، متساويَّة قدر المستطاع، وتكون مدينة الملجأ مركز كل قسم، حتى يستطيع كل إنسان أينما وُجد أن يجد بالقرب منه مدينة للملجأ. تعتبر مدينة الملجأ أشبه بمكان حفظ يلجأ إليه القاتل حتى تتم محاكمة عادلة، ويُفصل في أمره إن كان قاتلاً عن خطأ أم عن عمد. فمدينة الملجأ هي صون وحماية للبريء وليس للمجرم.

لا نجد تسجيلاً لزيادة هذه المدن التي طلبها موسى، وهذا دليل غير متعمِّد على صحَّة السِفر، فإن أي كاتب متأخِر ما كان يمكن أن يبتدع هذا.

تُشير مدينة الملجأ إلى السيِّد المسيح، مخلِّص العالم، الذي نزل إلى أرضنا ولم يعد بعيدًا عنّا، بل هو قريب إلينا جدًا، لا نبحث عمَّن يصعد إلى السماء لكي ينزله، ولا من يهبط إلى الجحيم لكي يصعده إلينا، بل هو قائم في قلوبنا (رو 10: 8). لقد جاء إنجيلنا بالخلاص وجعله بين أيدينا. أنَّه يقرع على أبوابنا الداخليَّة لعلَّنا نقبله، نفتح له فيدخل عريس نفوسنا ليتعشَّى معنا. جاء مسيحنا إلى أرضنا ليصير حصننا، فيه نتحرَّر من الدينونة (رو 8: 1)، ونخلص من كل جريمة في حماية إلهيَّة فائقة (رو 5: 1، 9-10؛ 8: 31-39). تطلَّع إشعياء النبي إلى هذه المدينة الفريدة فقال: "لنا مدينة قويَّة؛ يجعل الخلاص أسوارًا ومترسة" (إش 26: 1). هذا ما يؤكِّده الرسول بقوله: "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص" (أع 16: 31).

في القديم كان القاتل يهرب من وجه الولي إلى مدينة ملجأ ليحتمي فيها حتى تتم محاكمته، وإن وجد بريئًا يبقى إلى موت الكاهن. أمَّا في العهد الجديد فإن الولي والقاضي في نفس الوقت هو الرب يسوع، عِوض الانتقام يفتح لنا أحشاءه الإلهيَّة ملجأ لنا فنستريح فيها. ونبقى فيها إلى الأبد، ننعم لا بالبراءة فقط بل وبشركة أمجاده.

إنَّه ليس فقط مدينة الملجأ بل وهو الطريق المفتوح لنا، لذا لاق بنا أن نسرع بروحه القدُّوس وندخل فيه، ولا نؤجِّل، حتى لا يلحق بنا السيف وتهلك نفوسنا.

ثانيًا: أجاب هذا الأصحاح على السؤال التالي: كيف يعرف الهارب مدينة الملجأ؟ نحن نعلم أن كثير من الطرق في القديم كانت تُمهَّد خلال سير الحيوانات التي تحمل الأثقال خاصة القوافل. وهذا وقد كان اليهود في ذلك الحين لا يعرفون الطرق، إذ عاشوا في البريَّة طوال الأربعين عامًا. يلتزم المسئولون أن يهيِّئوا الطرق المؤديَّة إلى مدن الملجأ، فيُزيلوا كل عقبات تعطِّل الانطلاق إليها، كما يلتزمون بإقامة جسور والاهتمام بها للعبور عليها نحو هذه المدن، وعند مفترق الطرق توضع لافتات يُكتب عليها: "ملجأ! ملجأ!" وكان المسئولون ملتزمين بإصلاح هذه الطرق كل عام في شهر أذار. هكذا يليق بخدَّام الكلمة أن يُهيِّئوا الطريق لكل نفس كي تلتقي بالمخلِّص كملجأ لها. يلتزموا بأن يُزيلوا كل عقبة، ليفتحوا باب الرجاء أمامهم ليتمتَّعوا ببرّ المسيح وقداسته عِوض خطاياهم، وعدم الفساد عِوض فسادهم.

كما التزم المسؤولون بتهيئة الطرق في كل مكان نحو مدن الملجأ، هكذا الله في حبُّه هيَّأ للبشريَّة الطريق نحو يسوع المسيح، فأعلن عنه لأبوينا الأوَّلين في أول لقاء معهما بعد سقوطهما، ومهَّد الطريق لمعرفته خلال الآباء الأنبياء والأحداث والشريعة حتى لا يوجد أي عذر لمن يرفض الالتجاء إليه. لقد بعث إلينا بنبوَّات واضحة أشبه بعلامات تشير نحو شخص المخلِّص، مدينة ملجأنا.

كان الهارب ملتزمًا أن يبقى في المدينة حتى موت رئيس الكهنة فيخرج منها (عد 35: 25-29)، ومسيحنا رئيس الكهنة الأعظم مات مرة ليدخل بنا فيه، ولن يموت بل يبقى حيًّا بعد قيامته حتى لا يخرج أحد منه، بل نسكن فيه وهو فينا أبديًّا (يو 15: 4؛ كو 1: 23؛ عب 3: 14؛ 10: 38-39). في اختصار قد وضع أمامنا ملجأ خلاصنا (عب 6: 18).

ثالثًا: كانت خطيَّة القتل لها خطورتها العظمى (أم 28: 17)، وفي العهد الجديد فإن مجرَّد الغضب يدفع بالإنسان إلى نار جهنم. ومع أن السهو يعتبر خطيَّة تقدَّم عنها ذبيحة، إلاَّ أن القتل سهوًا لا يُحسب خطيَّة يُعاقب عليها، وإنَّما يسمح لمرتكبها أن يهرب إلى مدينة الملجأ حتى لا يحق للولي أن ينتقم للدم.

لقد قتل شاول الطرسوسي كثيرين لكنَّه فعل هذا بجهالة لذلك ظهر لهم السيِّد المسيح نفسه وأعلن له الحق، فاشتاق أن يُقتل من أجل اسمه. وغفر أيضًا السيِّد لصالبيه لأنَّهم فعلوا هذا عن عدم معرفة.

رابعًا: جاءت فكرة مدن الملجأ تكشف عن نيَّة الله المترفِّق بشعبه الذي يدخل بالنفوس المؤمنة الهاربة من الدينونة إلى جنبه بالإيمان بدم المسيح. من يهرب من الخطيَّة إلى السيِّد المسيح يجده فاتحًا أبواب محبَّته مدينة ملجأ له.

خامسًا: لا يوجد ملجأ للقتلة عن عمد، أي للمصريِّين على قتل النفوس، والسلوك بروح إبليس السفَّاك. ليس من حق القاتل عمدًا أن يجد رحمة عند القاضي الذي لا يحمل السيف عبثًا، بل للانتقام من سافكي الدم. لا يتمتَّع بالمغفرة من كان مصمِّمًا على الخطيَّة (عب 10: 26).

يخبرنا اليهود أن الطرق المؤديَّة لمدن الملجأ كانت متَّسعة جدًا، حوالي 32 ذراعًا، وكانت دائمًا تحفظ في حالة جيِّدة[223].

سادسًا: يلاحظ أن الشريعة لم تحسب كل مدن اللآويِّين مدن ملجأ، بل اختارت ثلاث مدن في كل ضفَّة لتأكيد أن اللآويين على قدم المساواة مع الشعب، إن أخطأ لاوي وقتل عن غير عمد لن تحميه مدينته، بل يلزمه أن يهرب إلى مدينة ملجأ حتى تتم محاكمته. هذا ما تؤكِّده الشريعة باستمرار أن الكاهن، وإن نال كرامة خدمة الله، لكنَّه يقف مع الشعب أمام الله وتكون دينونته أشد وأقسى بسبب معرفته.

سابعًا: ربَّما يتساءل البعض إن كانت الشريعة الموسويَّة قد أباحت للوليّ أن ينتقم لدم قريبه، فنجيب بأن الشريعة أرادت أن تحد بكل الطرق من الانتقام. ففي القديم، وحتى إلى وقت قريب في بعض بلاد صعيد مصر كما في كثير من البلاد الصحراويَّة، إن قتل إنسان آخر لا تكتفي أسرة القتيل بقتل القاتل، إنَّما يعتدون على كل الأسرة وينتقمون بقتل القاتل وأحيانًا أولاده وأقاربه ويتحوَّل الأمر إلى حرب داخليَّة بين العائلات، قد تمتد إلى عشرات السنوات. كل منهم يتربَّص للانتقام لأسرته بلا ضابط. لهذا جاءت الشريعة لتضع حدًا بالسماح للوليّ وحده أن يقتل القاتل وليس أهل بيته أو أقرباءه.

هكذا جاءت الشريعة هنا تحقِّق الآتي:

أ. ترفع من شأن المؤمنين لكي لا يعيشوا بلا ضابط من جهة الانتقام والآخذ بالثأر.

ب. تأكيد قدسيَّة حياة الإنسان، سواء بالنسبة للقتيل أو القاتل.

ج. لا يوجد إنسان فوق القانون، بل يخضع الكاهن كما الشعب للشريعة.

د. التزام الجماعة المقدَّسة بإقامة محاكمات عادلة وبتأنِّي في غير اندفاعٍ.

سابعًا: الله مالك السماء والأرض وهب شعبه أرض الموعد بكل ما فيها من مدن؛ لكنَّه طلب أن تكون له ثلاث مدن في كل ضفَّة تنسب إليه، أشبه بمدن الله التي يلجأ إليها الطالبون رحمته. كل المدن مدنه وهبها للبشر، لكنَّه يعود فيطلب قليل القليل ليكون مكرَّسًا لعمله الإلهي في حياة البشريَّة.

ليت إلهنا يجد في أعماقنا مدينة ملجأ يقبلها وينسبها إليه، فتتجلَّى محبَّته ونعمته فيها.

ثامنًا: توضع على مفارق الطرق علامات يُكتب عليها "ملجأ miklot" بخط واضح، حتى متى رآها الهارب لا يقف ليقرأ أو يبحث أو يناقش، إنَّما يسرع نحو المدينة، فإن الوقت بالنسبة له مقصِّر. أنَّه في خطر! ما هذه العلامات إلاَّ الكتاب المقدس الذي يوجِّهنا نحو مخلِّصنا يسوع المسيح. أنَّه ليس وقت للمناقشات الغبية بل للانطلاق بسرعة نحو المخلِّص لنرتمي في أحضانه ونختفي فيه، فلا يقدر العدو أن يلحق بنا ويقتلنا.

إنجيلنا هو العلامات التي تقودنا إلى مدينة الملجأ الفريدة "يسوع المسيح"، وإذ نحن أنفسنا قد صرنا رسالة المسيح المقروءة من جميع الناس لاق بنا كإنجيل مفتوح أن يقرأ الكل فينا كلمة miklot، ويجدون في أعماقنا طريقًا يقود إلى المخلِّص. هذا هو حال الكنيسة الحيَّة. إنَّها علامة تحمل ذات الكلمة، تقود كل نفس في طريق الحق، وتدخل به إلى الملجأ الإلهي، ليتمتَّع بحريَّة مجد أولاد الله، وسلام الله الذي يفوق كل عقل، وفرح السماء الذي لا ينقطع. الكنيسة هي المنارة التي تحمل بهاء المسيح الذي يشرق على النفوس. إنَّها تنادي الجميع: "اهربوا إلى الملجأ، إلى الرجاء الذي يقدِّمه لكم الإنجيل".

يليق بالمؤمنين أن يجاهدوا بروح الحق، لكنَّهم كأعضاء في كنيسة المسيح يدركوا أن حياتهم ليست إلا اختفاء في المسيح يسوع ملجأهم.

حق الالتجاء إلى المذبح:

في أيَّام الإمبراطور قسطنطين ظهر نظام كنسي شبيه بمدن الملجأ، وهو أن يلجأ المتَهم إلى المذبح ويمسك بقرونه، فلا يُقتل حتى تتم محاكمة عادلة له. ففي أيَّام القدِّيس يوحنا الذهبي الفم قاوم أتروبيوس هذا الأمر، وأخذ موقفًا مضادًا من الكنيسة. وحين أُتُّهم بخيانة الإمبراطور وتدبير مؤامرة لقتله التجأ إلى المذبح، وتوقع رجال الشرطة والشعب أن ينتقم منه القدِّيس يوحنا الذهبي الفم بتسليمه خارج الكنيسة كي يُقتل. لكن ذهبي الفم أعلن محبته لمقاوميه. وقد ألقى حديثين عن مفهوم الكنيسة ورسالتها حتى نحو مقاوميها أمام الشعب، معلنًا أن جمال مذبح الله أن يحب الأعداء[224].

وقد تطورت هذه العادة في أوربا، فكان يسمح البعض بحماية المتَهمين إن التجأوا إلى المذبح أو الكنيسة أو أي مكان مقدَّس لمدَّة شهر وأحيانًا لمدَّة ثلاثة أيَّام حتى تتم محاكمتهم. لا يعني هذا حماية المجرمين والقتلة إنما إعطاء فرصة كافيَّة للمحاكمة العادلة، وأيضًا فرصة لتوبة الخاطئين ورجوعهم إلى الله. كما أعطت الفرصة للأساقفة أن يشفعوا في أمر بعض التائبين منهم.

ولكن إذا كان إنسان مبغضًا لصاحبه فكمن له وقام عليه وضربه ضربة قاتلة فمات ثم هرب

إلى إحدى تلك المدن.

يرسل شيوخ مدينته ويأخذونه من هناك ويدفعونه إلى يد ولي الدم فيموت.

لا تشفق عينك عليه، فتنزع دم البري من إسرائيل فيكون لك خير" [11-13].

حرصت الشريعة على حماية أصحاب القلوب النقيَّة والنيَّة الطاهرة، وبغير عمد تسببوا في قتل آخرين فبنت لهم مدن الملجأ. وفي نفس الوقت رفضت الشريعة الإلهيَّة حماية أصحاب القلوب الشرِّيرة، الذين يحملون بغضة وكراهيَّة لاخوتهم ويقومون بقتلهم، فإن مدن الملجأ لم تُبنَ لأمثالهم. إن هربوا إليها يسحبون منها ويُقتلون.

إنها صورة مُرّة لبعض الأشرار الذين يخفون قلوبهم الذئبية البغيضة برداء التدين، الذي يلزم أن يُشق الثوب تمامًا ويُفضح الشرِّير وينال ثمرة شره، ما دام لم يتب.

لا توجد مدينة ملجأ للقلوب البغيضة، فإن مسيحنا كلي الحب يفتح أبواب قلبه لمن يود أن يعيش بالحب، أمَّا من يحمل كراهيَّة فليس له موضع فيه. مسيحنا مدينة ملجأ لمن يغتسل من جرائمه في دمه، فبالرحمة الإلهيَّة الملتحمة بالعدل يستقر المؤمن في المسيح ويتمجد معه إلى الأبد. أنَّه يحتضن الخطاة التائبين، المعترفين بخطاياهم، والذين يتبرَّرون بالإيمان.

2. نقل التُخُم:

اهتم سفر التثنيَّة بالأرض التي يرثها شعب الله، فنجده بعد تأكيده: "تنزع دم البريء من إسرائيل فيكون لك الخير" [13]، يكمل الحديث: "لا تنقل تخم صاحبك الذي نصبه الأولون في نصيبك الذي تناله في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لكي تمتلكها" [14]. وكأن نقل علامات حدود الأرض لاغتصاب جزء من نصيب الغير لا يقل خطورة عن سفك دم بريء. سرّ هذا ما حملته أرض الموعد من رمز للحياة السماويَّة الموعود بها، وكأن من يسفك دم برئ ليس بأقل من أن يفقد آخر نصيبه الأبدي أو خلاص نفسه خلال العثرة.

موضوع الأرض التي ينالها كل سبط كميراثٍ دائمٍ له تمثل بالنسبة له حياة أو موت، فمن يحرك العلامات التي تحدِّد أرضه ليغتصب جزء من أرض أخيه يكون كمن قد اغتصب منه بركة الرب التي هي حياته، أو كمن اغتصب ميراث العهد [14].

بالقرعة نال كل سبط نصيبه من الأرض، وأيضًا كل عشيرة. إرادة الله أن يدرك كل إنسان غنى نعمة الله عليه دون طمع فيما ليس له، فليس من حق أي شخص أن يعتدي على ما للآخرين.

يعطينا الله درسًا هامًا، وهو أن يدرك كل إنسان حدوده وممتلكاته، محترمًا حقوق الغير وممتلكاتهم. نقل التخم عمل فيه عدم أمانة وخداع وطمع وإصابة الآخرين بالأضرار. هذا ما يليق أن يتدرب عليه حتى الأطفال الصغار في تعاملهم حتى مع والديهم وبقيَّة أعضاء الأسرة. فمع سخاء العطاء لطفل يدرِّبونه على إدراك حدود ممتلكاته، والاقتناع بما وُهب له.

3. شهادة الزور:

"لا يقوم شاهد واحد على إنسان في ذنب ما أو خطيَّة ما من جميع الخطايا التي يخطئ بها على

فم شاهدين أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر.

إذا قام شاهد زور على إنسان ليشهد عليه بزيغ،

يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة والقضاة الذين يكونون في تلك الأيَّام.

فإن فحص القضاة جيِّدًا وإذا الشاهد شاهد كاذب قد شهد بالكذب على أخيه،

فافعلوا به كما نوى أن يفعل بأخيه، فتنزعون الشر من وسطكم.

ويسمع الباقون فيخافون، ولا يعودون يفعلون مثل ذلك الأمر الخبيث في وسطك.

لا تشفق عينك، نفس بنفسٍ، عين بعينٍ، سن بسنٍ، يد بيدٍ، رجل برجلٍ" [15-21].

ربَّما يحدث خلاف على القتل إن كان عمدًا أم سهوًا، وهل يوجد عداء سابق بين القاتل والقتيل. قد يحدث خلاف أيضًا على الحدود التي لتُخم الأسباط أو العشائر، فكيف يكون الحكم في هذه الأمور وغيرها؟ الحاجة ملحَّة أحيانُا إلى شهادة البعض، لهذا تُعالج الشريعة موضوع "شهادة الزور". ترفض الشريعة قيام الشهادة على شخصٍ واحدٍ (عد 35: 30؛ تث 17: 6)، بل على الأقل بشخصين [15-19]. الشهادة الزور تحسب خيانة للعهد مع الله نفسه الذي يبغض الظلم والكذب [19-21].

v     وإن كانت المعاصي ترتكب سرًّا، لكن يلزم أن نكتفي بشهادة شاهدين كبرهان على البحث والتقصِّي[225].

v     إذ كتب عنوان معيَّن على آلام الرب عندما صلب، كُتب بالعبرانيَّة واليونانيَّة واللآتينيَّة: "ملك اليهود" (يو 19: 19)، في ثلاثة ألسنة، إذ ثبت العنوان بثلاثة شهود لأنَّه على فم شاهدين أو ثلاثة شهود تثبت الكلمة[226].

القدِّيس أغسطينوس

جاءت الشريعة الموسويَّة تطالب: "نفس بنفسٍ، عين بعينٍ، سن بسنٍ، يد بيدٍ، رجل برجلٍ" [21]، بهذا ارتفعت بالإنسان في بدء حياته الروحيَّة من روح الانتقام بأكثر ممَّا أصابه من ضرر، إذ يميل الإنسان بطبعه أن يقاوم الشر بشرٍ أعظم. هكذا ارتفعت به الشريعة لكي تهيئه للحب تدريجيًا حتى يمارس بالنعمة الإلهيَّة محبَّة العدو فيقاوم الشر بالخير. إنَّها تدخل بالإنسان إلى الحب والتسامح بتدريبه تدريجيًا على ضبط نفسه.

الشريعة حازمة وعادلة، من يستطيع أن يتبرَّر أمامها؟! شكرًا لله الذي نقلنا بغنى حبُّه من تحت الشريعة إلى عهد النعمة، فنقف أمام كرسي الرحمة، ويستر مسيحنا بدمه الذكي علينا، فنتبرَّر أمام الله. لقد دفع مسيحنا الثمن وحقَّق متطلِّبات الشريعة، مقدِّمًا لنا كمال الحريَّة للحياة الجديدة التي بلا لوم قدَّام الله.

من يشهد بالزور يقدِّم للمحاكمة في محكمة عليا، أمام الكهنة والقضاة الذين هم أمام الرب. فكما يجلس القضاة عند أبواب المدينة ويحكمون، هكذا يجلس الكهنة والقضاة أمام باب الهيكل ليحكموا حسب إرادة الله (تث 17: 12).

إن ثبت كذب الشاهد فما كان يُحكم به على المتَّهم يسقط على شاهد الزور. ربَّما يظن الإنسان أن في ذلك قسوة! فمن أجل كلمات كذب قد يسقط إنسان تحت حكم الإعدام. من يحفر حفرة لأخيه يسقط هو فيها. بهذا يقدِّم الله درسًا عمليًا ليبث روح المخافة فيهم.

يرى القدِّيس أغسطينوس[227] في هذه العبارة تلميحًا لسرّ التثليث، ففي قصَّة سوسنَّة وُجد شاهدان شيخان ومع ذلك كانت شهادتهما كاذبة (دا 13: 36-62)، وفي محاكمة السيِّد المسيح شهد الشعب كلُّه ضد المسيح، ومع ذلك كانت شهادتهم باطلة (لو 23: 1). فماذا يعني ثبوت الشهادة الحقَّة بشاهدين أو ثلاثة إلاَّ شهادة الآب والابن والروح القدس الحقَّة (يو 8: 18).

 

 


 

من وحيّ تثنيَّة 19

أنت ملجأي وسندي

v     مرّرت الخطيَّة حياتي، وأفقدتني سلامي،

من يحميني من هلاكها إلى أنت؟

أنت مدينة الملجأ التي تتَّسع لكل الخطاة.

أنت هو الطريق إلى مدينة الملجأ،

تدخل بي إلى كمال السلام.

أنت هو العلامة التي تشير إلى الأمان!

أنت في داخلي عميقًا أعمق من نفسي،

أنت قريب لي جدًا، أقرب إليَّ من نفسي،

فلماذا أبحث عن ملجأ غيرك؟

v     إلهي أنت هو ملجأ نفسي!

هب لي أن أطير وأدخل في أحضانك.

لأحملك في داخلي،

فأدخل بكثيرين إليك.

لتنقش بروحك الناري على قلبي كلمة "إلى الملجأ".

لأصير علامة حيَّة تقودهم إليك.

v     كثيرًا ما تعدَّيت تُخمي،

اغتصبت حقوق اخوتي،

رد لي برَّك، فاحترم حق كل طفلٍ صغيرٍ،

واحترم مشاعر كل ضعيفٍ ومحتاجٍ!

علِّمني وقدني حتى لا أتعدَّى تخمي التي وهبَتْني إيَّاها يداك!

v     من لا يحتاج إلى شاهد يسنده ويؤكِّد صدق كلماته؟!

شريعتك تطلب شاهدين أو ثلاثة حتى لا يخطئ القضاء.

والعالم كلَّه يلجأ إلى شهادة شهود.

من يشهد لي؟!

من يعرف أفكاري الخفيَّة؟

أنت يا مخلِّصي الصالح وأبوك السماوي وروحك القدُّوس شهود حق!

تشهدون لغنى نعمتك العاملة فيَّ.

لأقل مع سمعان بطرس:

أنت تعلم يا رب إنِّي أحبَّك!

أنت شاهد حق لما يفيض في أعماقي!

<<

 

 


 

الأصحاح العشرون

القانون العسكري

إذ كان الشعب في طريقه للتمتُّع بأرض الموعد حسب وعد الله لآبائهم كان إسرائيل يمثِّل معسكرًا حربيًا أكثر منه مملكة. بلا شك كان السؤال الذي يشغل أذهان الكل، كهنة وشعبًا، رجالاً ونساءً، وربَّما حتى الأطفال هو: "ما هو دورنا في المعارك القادمة؟" لهذا كانوا في حاجة أن يضع لهم الرب سلوكًا خاصًا بحروبهم مع الأمم التي يحتلُّون أرضهم، وأيضًا الأمم المجاورة. ويلاحظ في جوهر هذا السلوك إدراك وجود الله وسط شعبه ليتمِّم خطَّته بهم لتهيئة أمَّة مقدَّسة متحرِّرة من كل الرجاسات التي كانت تمارسها الأمم الوثنيَّة، حتى يأتي مخلِّص العالم كلُّه.

الشريعة الواردة هنا تناسب وقت غزو الأرض لتذكيرهم بأن الحرب للرب (1 صم 17: 47).

يوضح دكتور جاميسون Dr. Jameson أنَّه لا يوجد وجه للمقارنة بين ما قدَّمته الشريعة هنا وبين ما كانت تسلكه الأمم في ذلك الحين بخصوص الحروب والعادات الخاصة بها[228].

1. الخروج للحرب                              [1-9].

2. حصار المدن خارج كنعان         [10-15].

3. المدن المحرَّمة                             [16-18].

4. التصرُّف في أشجار المدن        [19-20].

1. الخروج للحرب:

وضعت هذه الشريعة الخاصة بالحروب إلى حين يملك الشعب عوض الأمم الوثنيَّة، لكن فكْر الله واضح حتى في العهد القديم أنَّه لا يريد الحروب بل السلام. وكما يقول المرتِّل مسبِّحًا أعمال الله الفائقة: "مُسكن الحروب إلى أقصى الأرض، يكسر القوس ويقطع الرمح. المركبات يحرقها بالنار. كفُّوا واعلموا إنِّي أنا الله" (مز 46: 8-10). وجاء في رؤية لإشعياء النبي عن عمل المسيَّا: "ويكون في آخر الأيَّام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال... وتجري إليه كل الأمم... فيطبعون سيوفهم ورماحهم مناجل. لا ترفع أمَّة على أمَّة سيفًا، ولا يتعلَّمون الحرب فيما بعد" (إش 2: 2-4). وفي ميلاد السيِّد المسيح قيل: "على الأرض السلام وبالناس المسرَّة" (لو 2: 14).

يبدأ القانون العسكري بتأكيد من الله نفسه أنَّه هو قائد جيش شعبه، وواهب النصرة [1-4]. لذا يُعفي خدَّامه من ممارسة الأعمال العسكريَّة، ليس احتقارًا لها، ولكن للتفرُّغ للعبادة لله الذي يهب الغلبة، فبدونهم لا يتقدَّس الشعب ولا الجند، ولن توجد نصرة [5-9].

هنا يتحدَّث عن الحرب القائمة لكي يرث الشعب أرض كنعان، لهذا لا يجوز تطبيقها على الحروب السياسيَّة. لكنَّها تنطبق رمزيًا على الحروب الروحيَّة والجهاد من أجل كنعان السماويَّة، حيث يحتل المؤمنون مركز إبليس الذي سقط من بين الطغمات السماويَّة.

يمتاز العدوّ عن شعب الله بكثرة العدد ووفرة الإمكانيَّات العسكريَّة، لكن هذا كلُّه يلزم ألا يرعب المؤمنين.

"إذا خرجت للحرب على عدوَّك ورأيت خيلاً ومراكب قومًا أكثر منك،

فلا تخف منهم،

لأن معك الرب إلهك الذي أصعدك من أرض مصر" [1].

بلا شك لم يكن لشعب إسرائيل حتى لحظات انتقال موسى النبي خيل ومركبات حربيَّة، وربَّما إلى أيَّام سليمان، لهذا فإن موسى النبي يتحدَّث بصفة عامة عمَّا سيحدث فيما بعد حين يكون للشعب الخيل والمركبات. هذا ولا يعني النص ضرورة أن يكون للشعب خيل ومركبات أقل وإنَّما يقصد الإمكانيَّات العسكريَّة بصفة عامة.

أول مبدأ في الجهاد الروحي هو "عدم الخوف": "من هو الرجل الخائف والضعيف القلب، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ تذوب قلوب اخوته مثل قلبه" [8]. صوت الخائف يذيب قلب اخوته ويحطِّمهم نفسيًا، بينما صوت رب الجنود يذيب الجبال الصلدة ويحطِّم قوى الشر، واهبًا نصرة لمؤمنيه.

سرّ الشجاعة هو الثقة في الله قائد المعركة الروحيَّة: "الرب إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلِّصكم" [4]. وأما سرّ الخوف فهو ارتباط القلب بالزمنيَّات، لذا يطالب من بنى بيتًا جديدًا أو غرس كرمًا ولم يبتكره (أي قدَّم بكوره في السنة الرابعة) أو خطب امرأة ولم يتزوِّجها بعد يرجع إلى بيته. إنَّها صورة رمزيَّة للنفوس الضعيفة التي تعلَّقت بالعالم وغير قادرة على البذل روحيًا، فهي معثرة للغير.

جاءت الوصيَّة: "لا تخف" متكرِّرة في الكتاب المقدَّس، لأن الخوف شيمة عدم الإيمان بالله والثقة في أبوَّته وحكمته وقدرته على الخلاص. هي خطيَّة إلحاد متستِّر. لهذا يكرِّر:

"لا تضعف قلوبكم.

لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم" [3].

أما سرّ الشجاعة وعدم الخوف فيكمن في الآتي:

أولاً: الحضرة الإلهيَّة وسط شعبه. "لأن معك الرب إلهك" [1]، "لأن الرب إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلِّصكم" [4]. وكما جاء في إشعياء النبي: "لا تخف لأنِّي معك؛ لا تتلفَّت لأنِّي إلهك. قد أيَّدتك وأعنتك وعضَّدتك بيمين برِّي... لأنِّي أنا الرب إلهك الممسك بيمينك، القائل لك: لا تخف أنا أعينك" (إش 41: 10، 13).

ثانيًا: خبراتنا وخبرة آبائنا السابقة مع الله مخلصنا، إذ يقول: "الذي أصعدك من أرض مصر" [1]. فقد جاء في سفر الخروج: "وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريِّين في عمود النار والسحاب وأزعج عسكر المصريِّين، وخلع بكر مركباتهم حتى ساقوها بثقلة. فقال المصريُّون: نهرب من إسرائيل، لأن الرب يُقاتل المصريِّين عنهم" (خر 14: 24-25). كما قيل: "الرب رجل الحرب، الرب اسمه، مركبات فرعون وجيشه ألقاها في البحر" (خر 15: 3-4). وترنَّمت مريم قائلة: "رنِّموا للرب فإنَّه قد تعظَّم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15: 21).

ثالثًا: يشارك الكل في هذه الحرب، كل حسب موهبته وقدراته. فكما يلتزم الشعب أن يحارب، يقوم الكاهن بدوره، إذ يتقدَّم ليخاطب الشعب مؤكِّدًا لهم معيَّة الرب، ومقدِّمًا لهم وصيَّة الرب التي هي عدم الخوف. يقوم العرفاء أيضًا بدورهم، إذ يعزلون الخائفين من وسط رجال الحرب حتى لا يثبطوا همم اخوتهم. كان من عادة الأمم أن يحملوا معهم تماثيل آلهتهم، يصحبها الكهنة كممثِّلين للآلهة. كل نصرة تتحقَّق تنسب إلى إله هذه الأمة. لهذا كان لابد لله أن يُعلن حضرته وسط شعبه أثناء المعركة وأن يسندهم الكهنة كممثِّلين لله نفسه.

"وعندما تقربون من الحرب يتقدَّم الكاهن ويخاطب الشعب.

ويقول لهم: اسمع يا إسرائيل أنتم قربتم اليوم من الحرب على أعدائكم،

لا تضعف قلوبكم، لا تخافوا ولا ترتعدوا ولا ترهبوا وجوههم" [2-3].

لا يتحدَّث هنا عن رئيس الكهنة ولا عن الكهنة بوجه عام، بل عن الكاهن الذي يرافق الجيش في معاركه. فنقرأ عن المعركة ضد الموآبيِّين في أيَّام موسى النبي: "أرسلهم موسى ألفًا من كل سبط إلى الحرب هم وفينحاس بن العازار الكاهن إلى الحرب وأمتعة القدس وأبواق الهتاف في يده" (عد 31: 6). راجع أيضًا (1 صم 4: 4؛ 2 أي 13: 12). وكان عمله الرئيسي تشجيع رجال الحرب أن الله هو قائدهم يسندهم وينصرهم.

يليق بنا ألاَّ نخاف في حربنا الروحيَّة، وكما يقول القدِّيس يوحنا كاسيان:

[لنتعلَّم في كل شيء أن نشعر بضعفنا الطبيعي، وفي نفس الوقت ندرك معونته، فنقول مع القدِّيسين:

"دحرتني دحورًا لأسقط، أمَّا الرب فعضَّدني. قوتي وتسبحتي الرب، وقد صار لي خلاصًا" (مز 118: 13-14).

"لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت، إذ قلت قد زلّّت قدماي فرحمتك يا رب تعضدني" (مز 94: 17-19).

ناظرين أيضًا أن قلوبنا تتقوَّى في مخافة الرب وفي الصبر، فنقول: "وكان الرب سندي، أخرجني إلى الرحب" (مز 18: 18-19).

وإذ نعلم أن المعرفة تنمو بالتقدُّم في العمل، نقول: "لأنَّك تضيء مصباحي أيُّها الرب، يا إلهي أنر ظلمتي، لأنَّه بك أخلص من التجربة وبك أتحصَّن". حينئذ نشعر نحن أنفسنا بالانتماء إلى الشجاعة والصبر ونسير في طريق الفضيلة مباشرة وبسهولة عظيمة وبغير جهد، فنقول: "إنَّه الله الذي يمنطقني بالقوَّة ويجعل طرقي كاملة، الذي يجعل قدميَّ كقدميّ الإيل، ويجلسني في الأعالي، ويعلِّم يديَّ الحرب".

نملك أيضًا روح التمييز، فنتقوَّى بذاك الذي به نستطيع أن نقهر أعداءنا، ونصرخ إلى الله: "تأديبك جاء عليَّ إلي النهاية، وسوف يعلِّمني تأديبك، توسِّع خطواتي تحتي فلم تتقلقل عقباي، ولأنِّي أنا هكذا أتقوَّي بمعونتك وقوَّتك".

بجسارة أقول هذه الكلمات: "أتبع أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى أفنيهم. أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجليَّ" (مز 18: 37-38).

مرة ثانية نراعي ضعفنا الخاص وندرك هذه الحقيقة أنَّه بينما نظل مثقَّلين بالضعف الجسدي لا نستطيع بدون معونته أن نغلب مثل هؤلاء الأعداء (خطايانا)، فنقول: "بك سوف نشتِّت أعدائنا"، "باسمك ندوس القائمين علينا، لأنِّي علي قوسي لا أتَّكل، وسيفي لا يخلِّصني، لأنَّك أنت خلَّصتنا من مضايقينا، أخزيت مبغضينا" (مز 44: 6-8)، لكن فضلاً عن ذلك: "تمنطقني بقوَّة للقتال، تصرع تحتي القائمين عليَّ، وتعطني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم" (مز 18: 39-40).

إذ نتأمَّل أنَّنا بأسلحتنا الخاصة لا نستطيع أن نغلب، نقول: "امسك مجنًا وترسًا وانهض إلى معونتي، أشرع رمحًا وصد تلقاء مطاردي. قل لنفسي: خلاصكِ أنا" (مز 35: 2-3).

"وتجعل يدي كسهمٍ من نحاس، وتجعل لي ترس خلاصك ويمينك تعضِّدني" (مز 18: 35).

"آباؤنا ليس بسيفهم امتلكوا الأرض، ولا ذراعهم خلَّصتهم، لكن يمينك وذراعك ونور وجهك، لأنَّك رضيت عنهم" (مز 44: 4-5).

أخيرًا بعقل مملوء غيرة نتأمَّل في كل بركاته بالشكر، فنصرخ إليه بمشاعر قلبيَّة عميقة لأجل كل هذه الأمور، لأنَّنا قاتلنا وأخذنا منه نور المعرفة وضبط النفس والتمييز (الفطنة)، ولأنَّه زودنا بأسلحته الخاصة، ومنطقنا بالفضيلة وجعل أعداءنا يهربون من أمامنا، وأعطانا القوَّة أن نحطِّمهم ونجعلهم كالرماد أمام الريح. "أحبَّك يا رب يا قوَّتي، الرب صخرتي ومنقذي، إلهي صخرتي به اَحتمي، ترسي وقرن خلاصي وملجأي، أدعو الرب الحميد فأتخلَّص من أعدائي" (مز 18: 2-4)[229]].

إنَّنا ندخل في سلسلة لا تنقطع من الحروب، يتبعها نصرات متتالية، وتمتُّع متجدِّد بقوَّة الله الغالبة بنا وفينا. يقول الرسول: "إذ أسلحة محاربتنا ليست جسديَّة، بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2 كو 10: 3-5). ويقول المرتِّل: "يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات، وأنت لا يقتربون إليك" (مز 91: 7)[230].

يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن القدِّيس بولس يشبه داود النبي في قتاله ضد عدوُّه، فكان يجري بسرعة من أمامه. [هكذا كان بولس مقاتلاً سريع الحركة ورشيقًا، وكان داود يوسَّع خطواته أثناء تعقُّبه عدوُّه، وأيضًا العريس في سفر النشيد يُشبه الظبي يقفز بسرعة على الجبال، طافرًا على التلال (نش 2: 8-9)[231]].

v     علَّمني الله أن أكون ماهرًا في القتال ضد المقاومين (الشيَّاطين) الذين يهدفون إلى إقامة حاجز يحجبني عن ملكوت السماوات[232].

القدِّيس أغسطينوس

v     إذا صلَّيت ضد آلامك (شهواتك الشرِّيرة) والشيَّاطين التي تهاجمك، تذكر ذاك الإنسان القائل: "أطرد أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى يسقط جميعهم. أسحقهم فلا يستطيعون الوقوف، يسقطون تحت قدميَّ..." (مز 18: 38) تقول هذا في اللحظة الحاسمة التي فيها تتسلَّح ضد خصمك بالتواضع[233].

القدِّيس أوغريس من بنطس

استبعاد الخائفين وضعيفي القلب:

ما يشغل فكر الله ليس حجم الجيش بل إيمان الملتحقين به، فالنصرة ليست بالعدد ولا بالقوَّة، بل برب الجنود نفسه، لهذا استعبد كل الفئات التي يمكن أن تفسد قدسيَّة الجيش ببث روح الخوف والإحباط، فإن واحدًا أفضل من ألف جندي مملوءين جُبنًا وخوفًا.

"ثم يخاطب العرفاء الشعب قائلين:

من هو الرجل الذي بنى بيتًا جديدًا ولم يُدشِّنه،

ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ يموت في الحرب فيُدشِّنه رجل آخر.

ومن هو الرجل الذي غرس كرمًا ولم يبتكره،

ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ يموت في الحرب فيبتكره رجل آخر.

ومن هو الرجل الذي خطب امرأة ولم يأخذها،

ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ يموت في الحرب فيأخذها رجل آخر.

ثم يعود العرفاء يخاطبون الشعب ويقولون:

من هو الرجل الخائف والضعيف القلب،

ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ تذوب قلوب اخوته مثل قلبه.

وعند فراغ العرفاء من مخاطبة الشعب يقيمون رؤساء جنود على رأس الشعب" [5-9].

طالبت الشريعة باستثناء أربع فئات من الاشتراك في الحرب خشية أن يحل بهم الخوف، فيرتبكون أثناء المعركة. أمَّا الفئة الرابعة وهي فئة الخائفين وضعفاء القلب فهؤلاء يلزم استبعادهم تمامًا لأنَّهم كالوباء الذي ينتشر فيهلك الآخرين. هذا ما فعله جدعون مع جيشه إذ نادى كأمر الله في آذان الشعب قائلاُ: "من كان خائفًا ومرتعدًا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد. فرجع من الشعب اثنان وعشرين ألفًا، وبقي عشرة آلاف" (قض 7: 3).

طلب من الفئات التالية حق أن ينسحبوا من المعسكر حتى لا يفسدوا نفسيَّة الجيش.

أ. من بنى بيتًا جديدًا أو اشترى بيتًا جديدًا ولم يُدشِّنه بعد [5]، أي لم يقم احتفالاً مع أصدقائه بمناسبة شرائه الذين يأتون ليهنئونه به، فليرجع إلى البيت ويستريح فيه، لئلاَّ ينشغل بالبيت واحتفاله به أثناء الحرب. الجندي الحقيقي ليس له بيت ينشغل به، بل يعيش كغريبٍ على الأرض حتى يستقر في حضن الله، في بيته السماوي.

ربَّما يقصد بالإنسان الذي بنى بيتًا جديدًا ولم يُدشِّنه بعد ذاك الذي ينشغل بالراحة الجسديَّة والبركات الزمنيَّة، ولم يحول بيته إلى كنيسة مقدَّسة، ولم يُدشِّنها ويحتفل بسكنى الرب في بيته، مثل هذا لا يستطيع أن يجاهد روحيًا.

واضح من عنوان المزمر 30 "مزمور أو أغنية عند تدشين بيت داود"، أنَّه كان من عادة إسرائيل أن يدشِّنوا البيت الجديد لله بالصلاة والتسبيح وتقديم التشكُّرات. هذا كلُّه لتأكيد تسليم كل بيت لله ليسكن وسط كل أسرة ويباركها. فإنَّه لا يمكن لمؤمن أن يسكن في بيتٍ ويشعر بالأمان ما لم يتحقَّق من رعاية الله وحمايته له. ولا ننسى أنَّه في كثير من الأمم القديمة كانت الأسرة تخصِّص جزءً من البيت للعبادة، يقيمون فيه التماثيل. على سبيل المثال كان سكان Bonny في أفريقيا غالبًا ما يقسمون أماكن السكن إلى ثلاثة أقسام، قسم لسكن الشخص أو الأسرة، والثاني يحسب مكانًا عامًا لإضافة الغير وإطعامهم، والثالث يخصَّص للـ Juju، الإلهة الثعبان serpent-god التي يعبدونها. فقد كان حتى هؤلاء الهمجيون يعتقدون بأنَّه في كل بيت يلزم أن يجد إلههم هيكلاً له.

لا يزال يوجد عند كثير من الأقباط تقليد جميل، وهو ألاَّ يسكن أحد منزلاً جديدًا ما لم يستدعِ الكاهن ويجتمع مع الأسرة ليقدِّموا صلاة "تبريك المنازل"، خلالها يطلب الكل من الله أن يسكن في وسط الأسرة، ويبارك الموضع، ويتمِّم رسالة الساكنين فيها. للأسف البعض يستدعون الأقارب والأصدقاء والجيران لإقامة حفلٍ عند بناء بيت جديد أو عند شرائه، لكنَّهم ينسون الصلاة والتسبيح لله. هذا ويخصِّص كثير من المسيحيِّين، خاصة في الشرق، المنتمين للكنائس الرسوليَّة حجرة خاصة للصلاة أو زاوية من حجرة تُزيَّن بالأيقونات حتى يشعر أهل البيت بأن المنزل كلُّه مكرَّس للرب.

ب. من غرَس كرمًا وأنفق عليه الكثير ولم يجنِ منه ثمرًا بعد. الكلمة العبريَّة هنا تعني حقلاً أو حديقة فواكه، ليس بالضرورة أن تكون غروس عنب، بل أي نوع من الفواكه أو مزارع الزيتون. أنَّه يشتاق أن يتمتَّع بالثمر، وبحسب الشريعة كان يُمنع من أكل ثمرها لمدَّة الثلاث سنوات الأولى (لا 19: 23). مثل هذا الإنسان الذي يضع قلبه في بطنه، فيشتهي أن يأكل ويشرب متلذذًا حتى وإن كان من تعب يديه لا يصلح أن يشترك في معركة السيِّد المسيح. يليق بجندي المسيح ألاَّ تكون له كروم ولا معاصر ولا موائد تشبع شهواته، بل يأكل ويشرب ممَّا يجده عند قدميه لكي يعيش ويجاهد. أنَّه لا ينشغل بشيء سوى الاستعداد لسماع صوت البوق الذي يدعوه إلى المعركة.

ج. من عقد خطبة مع فتاة واهتم أن يعد لها بيت الزوجيَّة حتى يستدعيها ويتزوَّجها، مثل هذا الإنسان إن كان قلبه مشغولاً بتهيئة البيت لعروسه لا يلتزم بالذهاب إلى المعركة. أنَّه يمثِّل الإنسان الذي لم يذق عذوبة الاتِّحاد الزيجي الروحي مع الله مخلِّصه ولم يهيِّء بعد مكان العرس السماوي ليستقر فيه، مثل هذا الإنسان لا يقدر أن يجاهد في المعركة الروحيَّة. جاء في نفس السفر: "إذا اتَّخذ رجل امرأة جديدة فلا يخرج في الجند، ولا يُحمل عليه أمر ما، حرًا يكون في بيته سنة واحدة ويسر امرأته التي أخذها" (تث 24: 5).

اتَّفق الكُتَّاب اليهود أن هذه التجاوزات سمح بها فقط في الحروب التي تُثار بحريَّة إرادة إسرائيل، أمَّا التي ألزمهم بها الرب مثل محاربة عماليق والكنعانيِّين فيلتزم بها كل الرجال دون استثناء.

إذ يُنزع الخائفون وضعيفو القلب يقيم العرفاء رؤساء قادة مملوئين شجاعة ويقين في عمل الله معهم.

يليق بنا هنا أن نميِّز بين الإنسان الذي يشعر بضعفه وعجزه، لكنَّه يثق في إمكانيَّات الله معه وبه، وبين الإنسان الخائر والضعيف القلب. فإن الله يعمل بقوَّة في الضعفاء، لكنَّه لا يسند من لا يثق فيه ويتَّكئ عليه.

هذا الخوف ينبع عن فساد في الضمير، لذا قيل: "قدِّسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم" (إش 8: 13). إن خطورة الخائرين تكمن في أنَّهم إذ يحتلُّون مراكز قياديَّة يبثُّون روح الإحباط في غيرهم، ويتسرَّب مرضهم إلى غيرهم، فلا يعملون عمل الرب ولا يتركون الآخرين يعملون. خطورة الخائرين أمَرّ وأقسى من الأعداء المقاومين للحق ولكنيسة المسيح، فعن الآخرين قيل أن الله يحكم عليهم بقضيب من حديد، أمَّا الخائرون فينزعون نعمة الله عن كثيرين ويحجبون قوَّته عنهم.

يطالبنا السيِّد المسيح بأن نحسب النفقة قبل الدخول في أيَّة معركة، "وأي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حربٍ لا يجلس أولاً ويتشاور هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفًا، وإلاَّ فمادام ذلك بعيدًا يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح" (لو 14: 31-32). لقد أدرك إليشع النبي أن الذي معه أعظم من الذين عليه. وأخطأ داود النبي خطيَّة عظمى حينما حسب النفقة بحسابات بشريَّة، متجاهلاً عنصر الإيمان فقام بعمل تعداد لشعبه (2 صم 24: 2 الخ).

غاية شريعة الحرب هذه هو تأكيد أنَّنا ننتسب لله، فما يحبُّه نحبُّه نحن، وما لا يطيقه من ظلمة وفساد ودنس يصير بالنسبة لنا عدوًا. ليس لنا شيء في ذواتنا. معاركنا هي معركة الله مع الظلمة. نحن لسنا طرفًا فيها، إنَّما نختفي في الله ليحارب هو بنا وفينا معلنًا نصرته الفائقة.

2. حصار المدن خارج كنعان:

بالنسبة للأمم البعيدة يرسل إليهم لإقامة عهود سلام، فإن قبلوا يقومون بخدمة الله وشعبه [10-15]. لا يجوز لهم أن ينزلوا في معركة مع الجيران ما لم يقدِّموا أولاً إعلانًا عامًا، فيه يطلبون الصلح.

"حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح.

فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.

وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها.

وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف.

وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة

أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.

هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا" [10-15].

اختلف المفسِّرون في شرح هذه العبارة، فالبعض يرى أنَّها تنطبق على البلاد المجاورة لأرض الموعد، ولا تنطبق على الأمم السبع التي في كنعان. وعلَّة هذا أن بقاء أيَّة بقيَّة من الأمم السبع وسط الشعب يكون عثرة لهم، ويجذبونهم إلى عبادة الآلهة الوثنيَّة وممارسة الرجاسات. ويرى آخرون أنها تنطبق على هذه الأمم أيضًا حيث تكون شروط الصلح هي:

1. جحد العبادة الوثنيَّة والدخول إلى عبادة الله الحي.

2. الخضوع لليهود.

3. دفع جزية سنويَّة.

من لا يقبل هذه الشروط لا يبقون في مدينتهم كائنًا حيًا متى كانت من الأمم السبع، أمَّا إذا كانت من المدن المجاورة فيقتل الرجال ويستبقى النساء والأطفال مع الحيوانات وكل غنائمها. أمَّا سبب التمييز فهو ألا يترك أي أثر في وسط الشعب للعبادة الوثنيَّة.

 الخضوع للعمل الشاق، تحقيق للعنة نوح لكنعان ابنه (تك 9: 25).

بالنسبة للبلاد البعيدة التي لا تتبع أرض الموعد فيمكن طلب الصلح معها وتسخير شعبها (20: 10-15). صورة رمزيَّة عن رغبة الإنسان الروحي الداخليَّة للسلام مع تحويل الطاقات من العمل لحساب الشر إلى طاقات خاضعة لحساب ملكوت الله فينا.

3. المدن المحرَّمة:

"وأمَّا مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبقِ منها نسمة ما.

بل تحرمها تحريمًا: الحثِّيِّين والأموريِّين والكنعانيِّين والفرِّزيِّين والحويِّين واليبوسيِّين كما

أمرك الرب إلهك.

لكي لا يعلِّموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم [16-18].

بالنسبة للأمم التي تقيم في أرض الموعد يلزم مقاتلتهم حتى لا يسحبوا قلب الشعب إلى الارتداد والعبادات الوثنيَّة وممارسة الرجاسات [16-18]. كانت الأمم التي تمتَّع الشعب القديم بأرضها ترمز إلى الخطيَّة، فكان إبادتهم يشير إلى تحطيم كل شر. من الجانب التاريخي كانت هذه الشعوب عنيفة للغاية تقدِّم الأطفال محرقة للآلهة وتتقدَّم النساء والفتيات للزنا لحساب الآلهة الوثنيَّة مع رجاسات أخري بشعة، لذا كانت تمثِّل خطرًا على انحراف شعب الله (20: 18). لا يستخدم مع الأمم أيَّة رحمة، لأن الفساد قد تفشَّى ودمَّر سكَّانها أبديَّتهم بأنفسهم، وصار الأمر خطيرًا حتى بالنسبة لشعب إسرائيل متى احتلُّوها إن بقيت أيَّة آثار لعبادتهم.

4. التصرَّف في أشجار المدن:

لا يجوز قطع الأشجار التي تعطي ثمرًا للأكل (20: 19)، لأنَّها خليقة الله الجيِّدة. إن كان الله يهتم هكذا حتى بالأشجار أفلا يهتم بالإنسان؟! لذا لم يكن الأمر بإبادة الوثنيِّين صادرًا عن قسوة للشريعة، إنما هم وضعوا أنفسهم تحت الضيق بشرِّهم وقسوة قلوبهم.

الالتزام بإتلاف الشجر الذي لا يثمر... ربَّما كي ينزع كل أثر للعبادة الوثنيَّة، حيث اعتاد الوثنيُّون أن يتعبَّدوا تحت كل شجرة خضراء (إر 2: 20).

"إذا حاصرت مدينة أيَّاما كثيرة محاربًا إيّاها لكي تأخذها فلا تتلف شجرها بوضع فأسٍ عليه.

إنَّك منه تأكل، فلا تقطعه،

لأنَّه هل شجرة الحقل إنسان حتى يذهب قدَّامك في الحصار.

وأمَّا الشجر الذي تعرف أنَّه ليس شجرًا يؤكل منه فإيَّاه تتلف وتقطع.

وتبني حصنًا على المدينة التي تعمل معك حربًا حتى تسقط" [19-20].

بهذا أوضح الله للشعب ألاَّ تكون الحرب هدفًا للتدمير، فالجنود أثناء حماسهم يقطعون أشجار الحقل التي تأتي بثمار ويجعلون منه عوارض في الطريق لحمايتهم من العدو، فيتلفون الأشجار والحقول التي سيستولون عليها، يحطِّمون ما هو لطعامهم وحياتهم. يلزم أن يضبط الجيش نفسه فلا يتصرَّف إلاَّ بروح الحكمة، ما فيه بنيانهم.

فهم اليهود هذه الوصيَّة بمعنى أوسع، فلا يقصد به فقط عدم تحطيمهم الأشجار التي تأتي بثمار، وإنَّما عدم كسر الأواني الصالحة للاستعمال أو تمزيق الثياب التي يمكن الاستفادة منها، أو ردم الآبار، أو هدم المباني الخ. يليق بنا أن نتطلَّع إلى السيِّد المسيح الذي يحرص أن يجمع الكسر حتى لا يفقدها المجتمع.

إن كانت الحياة في جوهرها معركة مستمرَّة أو سلسلة معارك يتمتَّع خلالها المؤمن بالنصرة الدائمة، فإنَّه يليق به في جهاده أن يكون حكيمًا. لا يكون مندفعًا، بل يعرف أن يميِّز في المعركة ما هو للبنيان وما هو للهدم، فيحطِّم الأشجار غير المثمرة ويحافظ على ما هو مثمر فيها.

قد يظن الإنسان في نفسه أنَّه قوي، فيستعرض عضلاته بقطع الأشجار المثمرة، ولا يدرك أن الامتناع عن قطعها والحفاظ عليها أثناء المعارك يتطلَّب قوَّة أعظم، فالهدم أسهل من البناء.

ليتنا في جهادنا الروحي لا نعثر أحدًا أو نحطِّم نفسيَّة أحد، فنكون قد اقتلعنا شجرة مثمرة عِوض الحفاظ عليها.


 

من وحيّ تثنيَّة 20

اقبلني جنديًا في جيش خلاصك

v     اقبلني جنديًا في جيش صلاحك.

لا أخاف قط من كل قوى إبليس وجنوده،

فأنت القائد واهب النصرة.

هوذا العدو كثير العدد، وقوي ومخادع،

لكن الذي معنا أعظم وأقوى!

لن أتراجع، ولا يخر قلبي فأنت ساكن فيه!

أنت فيَّ وأنا فيك.

أنت سائر أمامي تُحارب عنِّي.

v     لألتحق بجيش خلاصك!

قلبي ليس مشغولاً ببيتٍ جديدٍ ولا كرمٍ أو زوجةٍ.

ليس لي بيت اَنشغل به سوى كنيستك القائمة فيَّ.

هي قديمة وجديدة، لأنَّك أنت ساكن فيها يا قديم الأيَّام ويا واهب التجديد.

أنت بيتي، أنت فرحي، أنت عريس نفسي!

لا أخاف الموت لأنَّك حياتي!

v     كيف أخاف يا من أنت حال في وسطنا!

خبرات آبائنا تعلن عن نصرتك الفائقة!

لأقدِّم كل موهبة وإمكانيَّة قدَّمتها لي.

ولأعزل كل خوف عن قلبي!

v     هب لي إن أمكن أن أصنع سلامًا مع كل بشر!

هب لي ألاَّ أُقيم عهدًا مع الشرّ!

لأترفَّق بكل خاطئ،

وأتطلَّع إليه، فأراه قادمًا بالمجد في يوم الرب العظيم،

فأنت مخلِّص الخطاة!

هب لي ألاَّ أترفَّق بالخطيَّة،

بل أدمِّر مملكتها التي تتسلَّل لتحتل أعماقي!

v     طلبت من شعبك الترفُّق بالأشجار،

هب لي قلبًا رحيمًا يترفَّق بكل الخليقة حتى الجامدة!

خلقت لي العالم لا لأدمِّره،

بل لأعمل فيه فتباركه بالثمار!

هب لي أن اهتم بكل شجرة حديثة الغرس.

فتمتلئ جنَّتك بأشجار القدِّيسين الحاملة ثمار الروح!

لأكن محاربًا قويًا وجنديًا مترفِّقًا.

لأحب الحق وأترفَّق بكل ضعيف!

<<

 

 

الأصحاح الحادي والعشرون

حقوق الفئات المرذولة

شرائع خاصة بالقتيل بيدٍ مجهولة،

وبالمسبيَّات، والابن البكر، الابن المعاند،

والمعلََّّق على خشبة

تحدَّث في الأصحاح السابق عن المؤمن كجندي حقيقي يدخل المعركة تحت قيادة الله نفسه، يحارب الشر بكل قوَّة وحزمٍ، ويحمل روح الله واهب الحب فيترفَّق حتى بالأشجار فلا يدمِّرها أثناء معركته. الآن ينطلق بنا إلى دائرة الرحمة فيقدِّم لنا خلال شريعته أمثلة حيَّة للرحمة الحقَّة التي لا يمكن نزعها عن العدل، حتى لا تتحوَّل إلى نوع من التسيُّب. أراد المشرع تأكيد حقيقتين هامتين في هذا الأصحاح، وهما تقدير الحياة البشريَّة، والاهتمام بحقوق الإنسان، خاصة العاجز عن التمتُّع بحقوقه.

تحدَّث هنا عن الفئات المرذولة والمحتقرة أو المظلومة حتى نأخذ موقفًا إيمانيًا لائقًا. تحدَّث عن دم القتيل المجهول، والمسبيَّة التي تؤخذ زوجة ثم يعود فيطردها الزوج، والابن البكر من الأم المكروهة، والأب الذي يتمرَّد عليه ابنه، وجثمان من حُكم عليه بالإعدام وعُلِّق على خشبة. هذه عيِّنات متنوِّعة لفئات مرذولة أو مظلومة.

1. القتيل بيد مجهولة                 [1-9].

2. المسبيَّة التي تؤخذ زوجة         [10-14].

3. حق البكوريَّة                      [15-17].

4. الابن المتمرِّد                      [18-21].

5. المعلَّق على خشبة                [22-23].

1. القتيل بيدٍ مجهولة:

"إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعًا في الحقل لا يعلم من قتله.

يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل" [1-2].

لا يستطيع أحد أن يدرك قيمة هذه الشريعة الخاصة بالاهتمام بالدم المسفوك بيدٍ مجهولةٍ إلاَّ ذاك الذي يدرس عادات الأمم في ذلك الحين، حيث كان دم الإنسان في نظرهم تافهًا لا يساوي شيئًا، أمَّا هنا فيُحسب ذلك جريمة على الأرض، وخطيَّة في نظر السماء لا يمكن غفرانها ما لم تكن الجماعة جادَّة في البحث عن القاتل. حياة كل إنسان هي موضع الاهتمام الإلهي نفسه.

سبق فقدَّم شريعة القاتل عمدًا (19: 11)، وكيف يُسلَّم في يد وليّ الدم فيموت، فيُنزع دم البريء من إسرائيل. في هذا الأصحاح يعالج الموقف إذا لم يُعرف من هو القاتل. إن وُجد إنسان قتيل لا يؤخذ الأمر بتهاون بل يلزم البحث عن القاتل في جدِّيَّة حتى لا تتنجَّس الأرض بسفك دمٍ بريء. وكما جاء في سفر إشعياء: "لأنَّه هوذا الرب يخرج من مكانه ليُعاقب إثم سكان الأرض فيهم، فتكشف الأرض دماءها، ولا تغطِّي قتلاها في ما بعد" (إش 26). تُعتبر الجماعة كلَّها المحيطة بالموقع الذي يوجد فيه قتيل بيدٍ مجهولة مذنبة في حقِّه وأمام الله، ما لم تعمل كل ما في وسعها حتى تكتشف القاتل وتحكم عليه. من أجل هذا يجتمع شيوخ المدن المجاورة وقضاتها لفحص الأمر[234].

أمال الله أذنيه ليسمع صوت دم هابيل الصارخ إليه من الأرض (تك 4: 10). إنَّه لا يطيق أن يسمع الأعذار البشريَّة: "لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟!" (تك 4: 9).

جاءت الشريعة تؤكِّد الآتي:

أ. البحث الجاد عن القاتل، وفحص الشهود، ودراسة الظروف المحيطة بالجريمة، حتى يمكن الكشف عن مرتكب الجريمة، لكن إن لم يتمكَّن أحد من التعرُّف على المجرم فلا يجوز التسرُّع في اتِّهام أي شخص، حتى لا يُظلم أحد.

ب. يمارس الشيوخ الطقس التالي:

"فالمدينة القُربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يُحرث عليها،

لم تجرَّب بالنير،

وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى وادٍ دائم السيلان لم يُحرث فيه ولم يزرع،

ويكسرون عنق العجلة في الوادي" [3-4].

جاء في سفر الخروج (13: 13) "كل بكر حمار تفديه بشاة، وإن لم تفده فتكسر عنقه". هذا الطقس ليس ذبيحة تقدَّم لله، وإنَّما هو عمل رمزي فيه يؤكِّد شيوخ المدينة التي بالقرب من القتيل أنَّه إن سقط القاتل بين أيديهم يكسرون عنقه بلا تردُّد. أمَّا اختيارهم لوادٍ لم يُحرث فيه ولم يزرع فإشارة إلى أنَّه بسبب هذه الجريمة تصير الأرض خربة لا تصلح للزرع. يرى بعض اليهود أنَّه إن لم يُكتشف القاتل ويُقتل تترك الأرض التي كُسر فيها عنق العجلة قفر، لا تُزرع.

ج. "ثم يتقدَّم الكهنة بنو لاوي،

لأنَّه إيَّاهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب،

وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة" [5].

هكذا سفك دم إنسان يربك كل الحكام (الشيوخ) والقضاة والكهنة ليعمل الكل معًا من أجل اكتشاف القاتل.

يتقدَّم "الكهنة بنو لاوي" بكونهم خدَّام الله ملك إسرائيل، وملتزمين أن يحرصوا على إتمام الشريعة الإلهيَّة بكل أمانة. هنا يحضر الكهنة الساكنون في أقرب مدن اللآويِّين المجاورة للموضع الذي وُجد فيه القتيل. حضورهم أيضًا يُعطي للموقف قدسيَّته، ويكشف عن خطورته، يعلنوا حضرة الله نفسه ليفصل في القضيَّة. الله نفسه يهتم بهذا الأمر.

د. "ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي،ويصرِّحون ويقولون:

أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.

اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب،

ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل.

فيُغفر لهم الدم.

فتنزع الدم البريء من وسطك إذا عملت الصالح في عينيّ الرب" [6-9].

إذ يغسل جميع الشيوخ أياديهم على العجلة المكسورة العنق يعلنون أنَّهم أبرياء من سفك الدم، وأن المدينة كلها تلتزم أن تعلن عن الحق، وتكشف عن القاتل. كأنَّهم يقولون مع المرتِّل: "اَغسل يدي في النقاوة، فأطوف بمذبحك يا رب" (مز 26: 6). "حقًا قد زكًّيت قلبي باطلاً، وغسلت بالنقاوة يديَّ" (مز 73: 13). أنَّهم يعترفون أنَّهم ليس قط لم يسفكوا هذا الدم البريء بل ولم يستطيعوا أن يتعرَّفوا على القاتل لتسليمه لوليّ الدم. أمَّا بيلاطس فقد غسل يديه وهو يقول: "إنِّي بريء من دم هذا البار" (مت 27: 24). لكن قوله هذا لم يعفه من المسئوليَّة، فإنَّه لا يستطيع أن يقف أمام الله ويقول: "أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر". غسل يديه لا يجعله بريئًا من سفك دم السيِّد المسيح.

هـ. يُصلِّي الشيوخ (والكهنة) لكي يغفر الله لشعبه، فلا يتحمَّل الشعب هذا الجُرم بسبب قاتلٍ ارتكب جريمته خِفية وهرب. إن كان كل شخص مسئول عن خطئه هو وليس عن أخطاء الغير، لكن الجماعة ككل تلتزم بالعمل والصلاة من أجل الحياة الجماعيَّة المقدَّسة. عندما حزن شعب أهل كورنثوس من أجل إنسانٍ واحدٍ سقط في خطيَّة الزنا، قال الرسول: "فإنَّه هوذا حزنكم هذا عينه بحسب مشيئة الله كم أنشأ فيكم من الاجتهاد، بل من الاحتجاج، بل من الغيظ، بل من الخوف، بل من الشوق، بل من الغيرة، بل من الانتقام؛ في كل شيء أظهرتم أنفسكم أنَّكم أبرياء في هذا الأمر" (2 كو 7: 11).

من هو هذا القتيل إلاَّ البشريَّة التي حطَّمتها الخطيَّة؟! من يزيل إثمها إلاَّ ذبيحة السيِّد المسيح البار؟!

لا نعجب من الضغط الذي تضعه الشريعة على قادة المدن المجاورة لموقع الجريمة، فإنَّه في علم النفس الجنائي الحديث اكتشف العلماء أن مرتكب الجريمة غالبًا ما يحوم حول الجريمة، لهذا كثيرًا ما يكتشف الجاني بمراقبة موقع الجريمة في شيء من السريَّة وملاحظة المتردِّدين على الموقع.

غالبًا ما ترتكب جرائم القتل خِفية، لأنَّها من عمل عدوّ الخير رئيس مملكة الظلمة، لذا طالبت الشريعة أن يكون البحث عن الجاني علانيَّة في النور، حتى تسير الأمور في طريقها الصحيح.

2. المسبيَّة التي تُؤخذ زوجة:

إذ عالجت الشريعة موضوع الزواج بالمسبيَّات أوضحت حقوق الزوجات إن حدث تعدُّد زوجات، وإن كان هذا التعدُّد لم يكن مقبولاً. يمكننا القول بأنَّه من أجل قسوة قلوبهم سُمح للجنود، حسب الشريعة الموسويَّة، أن يتزوَّج الجندي بالسيِّدة التي يسبيها في الحرب، إن أراد ذلك. وقد سُمح له بذلك حتى لا يسقط في الدنس معها دون زواج، فيكون في وسط إسرائيل حرام، ويحلّ غضب الرب على الجيش كلُّه. لكن يلزمهم ألاَّ يُسيئوا استخدام هذا السماح إذ وضعت له قوانين وحدود.

واضح، كما يقول اليهود، أن الرجل هنا متزوِّج، فيُسمح له بالزوجة الثانية المسبيَّة. هنا ينسحب قلب الجندي وراء عينيه اللتين تنظران إلى امرأة فيراها جميلة ويشتهيها. أمَّا في العهد الجديد فقد حُسبت النظرة وراء الشهوة خطيَّة زنا، إذ تطالبنا شريعة المسيح ألاَّ نشتهي، فلا ينسحب القلب وراء النظرة الخاطئة.

أ. مهما كانت رغبة الجندي، ومهما بلغ جمال المرأة المسبيَّة، يجب ألاَّ يتسرَّع في الالتصاق بها، إنَّما يجب أولاً أن يتَّخذها لنفسه زوجة [11].

"إذا خرجتَ لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيًا.

ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتَّخذتها لك زوجة" [10-11].

ب. إن كانت المرأة مسبيَّة فمن حقِّه أن يتزوَّجها دون أن يطلب رضا والديها. لكنَّه يلتزم ألاَّ يقترب منها إلاَّ بعد شهر من الزمان، إذ قيل:

"فحين تدخل إلى بيتك تحلق رأسها وتقلِّم أظافرها،

وتنزع ثياب سبيها عنها،

وتقعد في بيتك،

وتبكي أباها وأمها شهرًا من الزمان،

ثم بعد ذلك تدخل عليها وتتزوَّج بها، فتكون لك زوجة" [12-13].

حلْق رأسها يرمز للحزن في ذلك الوقت في البلاد الشرقيَّة. سمح بذلك أولاً لكي لا يكون الجمال هو عِلَّة الزواج بها، فإنَّها تحلق شعرها وتقلِّم أظافرها، عندئذ لا يكون قرار الزواج فيه تسرُّع بسبب الجمال الجسدي. هذا ومن جانب آخر لا يشبع رغبته الجسديَّة على حساب مشاعرها، فيتركها وحدها لمدَّة شهر ترثي حالها وتبكي والديها اللذين فقدتهما. ويرى البعض في حلق رأسها علامة على جحدها عبادتها الوثنيَّة ودخولها إلى الإيمان بالله الحيّ. فإنَّها مع التغيير الخارجي لمظهرها يلزم أن تقبل تغييرًا داخليًا بالإيمان الصحيح. لهذا يرى اليهود أن المرأة المسبيَّة التي ترفض قبول الإيمان لا يمكن أن تُقبل كزوجة. تقليم الأظافر التي كانت النساء في منطقة الشرق يزيِّنونها بالحنَّة، خاصة عند الزواج يعني حزنها على ترك أسرتها.

إنَّها لا تبكي لحرمانها من ممارسة العبادة الوثنيَّة، بل من الالتصاق بوالديها، ونوال رضاهما وبركتهما في الزواج، والحرمان من بقيَّة أفراد أسرتها.

مدَّة بكائها هو شهر كامل، وقد جاءت الترجمة الحرفيَّة "شهر من الأيَّام"، هذا وقد كانت فترة الحزن هي أربعين يومًا (تك 50: 3). فإن كان رقم 40 يشير إلى كل أيَّام غربتنا، لذا صام موسى النبي، وإيليَّا، والسيِّد المسيح أربعين يومًا كرمز للحياة النسكيَّة كل أيَّام غربتنا، فإن بكاء المسبيَّة لمدَّة أقل من 40 يومًا يشير إلى عدم تجاهل مشاعرها البشريَّة بالسماح لها بالبكاء لكن ليس كل المدَّة، لأن زوجها يعوِّضها هذا الحزن ويهتم بإسعادها. لتحزن ولكن في رجاء أن حياتها الجديدة تعوِّضها ما قد فقدته، وربَّما أكثر ممَّا حُرمت منه، إذ لا تُعامل كمسبيَّة بل كزوجة، وكإحدى أفراد الأسرة. إنَّها تدخل في عضويَّة شعب الله.

ج. "وإن لم تسرّ بها فأطلقها لنفسها.

لا تبيعها بفضَّة،

ولا تسترقَّها من أجل أنَّك أذللتها" [14].

لأنَّه قبلها زوجة، فإن لم يُسر بها لا يجوز له أن يعاملها كقطعة أثاث يبيعها، أو كعبدةٍ، أو أسيرةٍ يسلِّمها لغيره، إنَّما يطلقها بكامل حرِّيَّتها. لها حق العودة إلى بلدها، لأنَّه أذلَّها وأحزنها.

يرى بعض الآباء مثل العلامة أوريجانوس والقدِّيس جيروم أن هذه المرأة المسبيَّة الجميلة هي الفلسفة الزمنيَّة والحكمة البشريَّة، فإنَّه يليق بالمؤمن أن يستخدم هذه الفلسفة أو الحكمة بشرط نزع كل ما تحمله من أفكار خاطئة ميِّتة. حلق الشعر وتقليم الأظافر يشير إلى ذلك.

v     نقرأ في التثنيَّة الأمر الذي يصدره صوت الرب بأن يُحلق شعر رأس المرأة المسبيَّة وجفون عينيها وكل شعرها مع تقليم أظافرها، بعد ذلك يمكن أن تصير زوجة.

هل في هذا عجب؟ أنا أيضًا إذ أعجب بجمال شكل الحكمة الزمنيَّة ونعمة بلاغتها، مشتاقًا أن أجعل من الأسيرة لديّ والعبدة زوجة لإسرائيل الحقيقي أقوم بحلق وقطع كل ما هو ميِّت فيها، سواء كان هذا عبادة أوثان أو لذَّة أو خطأ أو شهوة، آخذها طاهرة ونقيَّة، فألِدْ منها خدَّامًا لرب الصباؤوت؟

يتحدَّث إشعياء النبي عن موسى حاد به يُحلق "رأس الخطاة، وشعر أقدامهم" (إش 7: 20)، وحزقيال يحلق رأسه كرمز لأورشليم التي صارت زانية، كعلامة على الالتزام بنزع

كل ما فيها ممَّا هو بلا إحساس ولا حياة[235].

القدِّيس جيروم

بلا شك تسبِّب الحروب ارتباكات كثيرة أثناء المعارك وما بعدها. لكن هذا لا يعطي الجندي عذرًا ليتصرَّف مع الفتاة المسبيَّة بغير لياقة. ليكن الارتباك في الخارج، لكن يلزم ألاَّ يمس قلبه أو فكره أو تصرُّفاته. ليكن كل شيء في اتِّزان وبحكمة... لا تدخل الحرب إلى قلبه ولا تفسد مبادئه وقيَمِه.

ليس هناك وجه مقارنة بين ما ورد هنا عن حقوق المرأة المسبيَّة المختارة زوجة وبين ما كانت الأمم تفعل بالنساء المسبيَّات. لقد قدَّمت الشريعة أقصى ما يمكن أن يحتمله إنسان اقتنى فتاة مسبيَّة لكي يحترم كرامتها. فإنَّها إذ تصير زوجته عليه أن يدرك أنَّها ليست دُمية يلهو بها حسب أهوائه الجسديَّة، بل يحترمها كابنة إسرائيل، تشاركه عبادته لله الحيّ وحبُّه لله وخضوعه الناموس الإلهي. إن لم يهبها هذه الحقوق فليتركها لتتمتَّع بأثمن عطيَّة بشريَّة وهب "التحرُّر من العبوديَّة".

لقد قدَّمت الشريعة أساسًا حيًّا بقبول الإنسان فيما بعد الفكر المسيحي أنَّه في المسيح يسوع "ليس رجل وامرأة"، بل الكل أعضاء متساوية في الكرامة في جسد المسيح الواحد.

تقدِّم لنا هذه الشريعة صورة حيَّة عن قوَّة الحب. فإنَّه حتى في الحروب حيث يسيطر الغضب وحب سفك الدماء على كثيرين، متى سقطت فتاة مسبيَّة بين يديّ جندي، أن تحرِّك فيه الحب، فالحب يحرِّرها! الحب يزيل روح العبوديَّة لتحتل الحريَّة موضعها!

إن كان حب الجندي المقاوم والعدو ينتزع من السيِّدة روح العبوديَّة ويدخل بها إلى "بيت إسرائيل" لتمارس الحياة بحريَّة كاملة، فماذا يفعل الحب الإلهي بالنفس الخاضعة لعبوديَّة الخطيَّة؟ حب الله حرَّرنا من عبوديَّة إبليس ودخل بنا إلى "أهل بيت الله".

3. حق البكوريَّة:

بعد أن تحدَّث عن حقوق المرأة المسبيَّة التي يحبَّها مؤمن، أشار إلى حقوق الابن البكر المولود من زوجة مكروهة من رجلها. بروح العدالة لا يعامل الرجل ابنه الأكبر حسب مشاعره من نحو والدته، إنَّما يلتزم الأب باحترام حق البكوريَّة.

"إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة،

فولدتا له بنين، المحبوبة والمكروهة.

فإن كان الابن البكر للمكروهة.

فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحلّ له أن يقدِّم ابن المحبوبة بكرًا ليعطيه نصيب اثنين من

كل ما يوجد عنده،

لأنَّه هو أول قدرته له حق البكوريَّة" [15-17].

أ. يظهر هذا القانون مساوئ تعدُّد الزوجات، كيف تسبِب للرجل متاعب حتى في علاقته بأبنائه.

ب. يظهر هذا القانون عناية الله العجيبة، فإنَّه غالبًا ما يهب الله للرجل ابنه البكر من المرأة التي يبغضها حتى يحبَّها من أجل ابنه البكر أو أبنائه. هذا ما نراه في قصَّة يعقوب الذي أحب راحيل وأبغض ليئة (تك 29: 31)، ففتح الله رحمها ووهب ليئة أبناء وكانت أمًّا لابنه البكر.

ج. يليق بالوالدين ألاَّ يتعاملوا مع الأبناء في محاباة. حقًا حرمْ يعقوب ابنه البكر رأوبين حق البكوريَّة، لكن ليس لأنَّه كان يبغض أمُّه، وإنَّما لأن الابن أهان بكوريَّته بسلوكه. إن كان الوالدان عاجزين على ممارسة الحب الكامل تجاه بعضهما البعض، وهذا له خطورته العظمى حتى على الأطفال، فإنَّه على الأقل يلزم ألاَّ يفقد الوالدان روح العدالة في التعامل مع أبنائهما حتى في تحديد الميراث بعد انتقالهما من هذا العالم. يليق بهما أن يكونا عادلين متى كتبا وصيَّة خاصة بالميراث.

د. "لا يحل" للأب أن يختار ابن المحبوبة ويحسبه بكرًا، متجاهلاً البكر الحقيقي المولود من المكروهة. وقد جاءت الترجمة "لا يقدر"، بمعنى أن الشريعة الإلهيَّة تجعله عاجزًا عن تنفيذ مشاعره الخاطئة. هذا ويلاحظ أن بعض الأمم كانت تعطي البكر حق أخذ كل الميراث ويكون أشبه بأب اخوته، يعمل الكل تحت ظلُّه في بيت كبير mass family.

هـ. الإنسان الروحي يحب الآخرين كأبناء أبكار له، فيود أن يقدِّم لهم ضعفًا في وصيَّته الوداعيَّة، بل ويشتهي أحبَّاؤه الروحيِّين في جرأة أن ينالوا هذا الميراث. هذا ما اشتهاه اليشع النبي حيث طلب من معلِّمه إيليا النبي: "ليكن نصيب اثنين من روحك عليَّ" (2 مل 2: 9).

إن كانت إسرائيل قد صارت كزوجة مكروهة بسبب إصرارها على خطاياها حتى سلَّمها الله كتاب طلاقها خلال الأنبياء، فقد جاء السيِّد المسيح ابنًا لهذه الأمَّة: "إلى خاصَّته جاء وخاصَّته لم تقبله" (يو 1: 11). مع هذا فهو البكر الوارث الحقيقي، من يرتبط به يرث معه حتى وإن كانت أسرته أو والداه أشرارًا. هكذا لا نخف من انتسابنا لوالد ووالدة غير مقدَّسين، فإنَّنا في عينيّ الآب السماوي أبناء أبكار، لنا حق الميراث المضاعف.

يعتز المؤمن ببكوريَّته، إذ صار عضوًا في كنيسة الأبكار. يقول القدِّيس أكليمندس السكندري:

v     هذه هي الكنيسة البكر (عب 12: 23) تضم أبناء صالحين كثيرين، هؤلاء هم الأبكار الذين يُسجَّلون في السماء، ويمارسون عيدًا ساميًا مع ربوات الملائكة. نحن أيضًا أبناء أبكار، الذين يقومون بواسطة الله، نحن الأصدقاء الحقيقيُّون للبكر، الذين ننال معرفة الله أولاً وقبل كل شيء[236].

4. الابن المتمرِّد:

"إذا كان لرجل ابن معاند ومارد، لا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمُّه، ويؤدِّبانه فلا يسمع لهما.

يمسكه أبوه وأمُّه، ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه.

ويقولان لشيوخ مدينته: ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكِّير.

فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت،

فتنزع الشرّ من بينكم، ويسمع كل إسرائيل ويخافون [18-20].

لم ترد هذه الشريعة الخاصة بمحاكمة الابن العاق إلاَّ بعد أن قدَمت الشريعة الكثير عن مسئوليَّة الوالدين في ممارسة الحب الحقيقي والسلوك كأسرة مقدَّسة، وتقديم حياتهما كمثال حيّ للأبناء، مع خلق جو مناسب للتربية اللآئقة بالأنبياء. لقد ركَّزت الشريعة على مسئوليَّة الوالدين قبل إدانة الأولاد.

جاءت هذه الشريعة لتؤكِّد حقيقة هامة أنَّه في كل مجتمع، وفي كل جيل يوجد أولاد صالحون وأولاد أشرار. فلو أن الجميع صالحون فلا حاجة لهذا التشريع، ولو أن الكل أشرار فلا نفع منه أيضًا.

 سبق لنا الحديث عن عقوبة إهانة الوالدين[237]. رأى العلامة أوريجانوس إن العناد مع الوالدين الجسديِّين هو ظل للعناد ضد الوالدين السماويِّين: الله الآب وأورشليم العليا أمِّنا، فيقول:

[إن كان الحكم هكذا لمن يسب أسرته الجسديَّة، فكم بالأكثر من يهين الله بكلمات سب، وينكرون أنَّه خالق العالم؟! أو من يسيء إلي أورشليم السماويَّة التي هي أمِّنا كلِّنا (غلا  4: 26)؟![238]]

العصيان مع العناد يشبه التجديف، ولابد من معاقبته بنفس العقاب، والمفروض أن ذلك يتم بعد أن فشل الوالدان في تقويمه. ويلاحظ في العقوبة هنا الآتي:

أ. تتم جريمة التمرُّد ليس بسبب عجز الابن أو عدم قدرته على تنفيذ طلبات والديه أو عجزه في إدراكها، وإنَّما عن إرادة شرِّيرة وعنادٍ. أنَّه يبغض أن يصلح من شأنه، أو يخجل من انتسابه لوالديه أو عائلته، ممَّا يحزن قلبيهما ويحطِّمهما.

ب. يركِّز على خطيَّة الإسراف والسكر [20]، فإنَّها تفقد الابن عقله ليسلك بعنادٍ، مقاومًا والديه. فإن السكر يجعل الإنسان ينسى كل الشرائع. لذا كانت وصيَّة الأم لابنها لموئيل الملك: "ليس للملوك يا لموئيل، ليس للملوك أن يشربوا خمرًا ولا للعظماء المسكر، لئلاَّ يشربوا وينسوا المفروض ويغيِّروا حجَّة كل بني المذلَّة" (أم 31: 5). يربط النص العناد بالإسراف والسكر؛ وكان ذلك في نظر اليهود جريمة كبرى. عندما تحدَّث السيِّد المسيح عن الابن الضال ذكر أنَّه بدَّد ميراثه في عيشة مسرفة. وفي سفر الأمثال يعطي الويل "للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج" (أم 23: 30). كما قيل: "الحافظ الشريعة هو ابن فهيم وصاحب المسرفين يُخجل أباه" (أم 28: 7).

د. لا ينفرد الأب ولا الأم بالشكوى ضد الابن، بل يلزم أن يتَّفق الاثنان معًا على أنَّه معاند ومسرف وسكِّير. وحتى في اتِّفاقهما معًا لا يستطيعان الحكم عليه دون الالتجاء إلى الشيوخ، حيث يذهبان إلى موضع القضاء، ويدرس الشيوخ الأمر ويتحقَّقان منه قبل صدور الحكم.

هـ. يقدِّم الوالدان الشكوى للشيوخ، "فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت، فتنزع الشرّ من بينكم ويسمع كل إسرائيل ويخافون" [21]. يصعب جدًا على الوالدين أن يشتكيا ابنهما المتمرِّد وهما يعلمان أنَّه يُحكم عليه بالرجم حتى يموت. لكن الله سمح بذلك في العهد القديم لكي يُدرك الكل خطورة تربية الأبناء. فإن كان الإنسان بحسب مشاعره الطبيعيَّة يصعب عليه قبول ذلك، فماذا يكون موقفه وهو يدرك أنَّه بإهماله يسلِّم أولاده لا للرجم بل للنار الأبديَّة؟! إن ما يشغل فكر الله لا المشاعر الإنسانيَّة المجرَّدة، وإنَّما الخلاص الأبدي والمصير النهائي للإنسان. لقد طالبت الشريعة أن تكون المحاكمة علنيَّة يقوم بها الشيوخ؛ هذا يعطي الفرصة لأهل المدينة أن يشهدوا إن كان هذا العقوق بسبب إهمال الوالدين أو عنفهما أو انحلالهما، حتى لا يُظلم الأبناء.

و. وُضع هذا القانون لكي يراجع الإنسان نفسه، فإن كان العناد مع الوالدين يدفع بالإنسان إلى الرجم، فماذا يكون العناد مع الله نفسه؟!

ز. الخطيَّة، خاصة العناد، تفسد الأرض، لذا قيل: "فتنزع الشر من بينكم". وكما يقول المرتِّل: "باكرًا أبيد جميع أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز  101: 8). خطيَّة العقوق مع الإسراف والسكر موجَّهة ليس فقط ضد الوالدين بل ضد الجماعة كلَّها، لهذا تتم عقوبة المصرّ على العصيان علانيَّة أمام كل الجماعة التي يخطئ الابن العاق في حقِّها. الإنسان العاق يحطِّم سلام بيته، وينقل هذا الوباء إلى زملائه ليفسد الآخرين. لقد حذَّرنا الرسول بولس من تصرُّفات الآباء التي تسبِّب هذا الوباء، إذ يقول: "أيُّها الآباء لا تغيظوا أولادكم". فالابن يحتاج أن يعيش في جو من الحب حتى لا ينحرف إلى العنف والفساد. إنَّها مسئوليَّة الوالدين.

ح. يحكم على الابن العاق بالرجم (21: 18-21)، هكذا يكشف عن خطورة العقوق.

5. المعلَّق على خشبة:

"وإذا كان على إنسان خطيَّة حقَّها الموت فقُتل وعلَّقته على خشبة،

فلا تبِتْ جثَّته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم،

لأن المعلَّق ملعون من الله،

فلا تنجِّس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا" [21-23].

العقوبة بالإعدام مع ترك الجسد معلَّقًا على خشبة أو على شجرة أو على الصليب إلى فترة ما كان يُقصد بها الكشف عن خطورة الجريمة وبشاعتها. على ما أظن أن الشريعة قد سمحت لجثمان المجرم أن يعلَّق على الشجرة لا للتشهير به، وإنَّما ليكون عبرة لغيره، فلا يُسمع بل يُرى منظر المجرم المعلَّق على خشبة فيخاف الكل. ومع هذا فإن الشريعة تؤكِّد تقديرها للأجساد، فلم تسمح أن يُترك جسد المجرم المعلَّق على خشبة إلى ما بعد الغروب، بل يلزم دفنه.

يرى كثير من الدارسين أن التعليق على خشبة كان يتم بعد موت المجرم، وليس كوسيلة لموته.

عندما بدأ الشعب يزني مع بنات موآب وجذبن الشعب نحو الذبح للأوثان وتعلَّق إسرائيل بالوثن بعل فغور صدر الأمر الإلهي لموسى النبي: "خذ جميع رؤوس الشعب وعلِّقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل" (عد 25: 5).

كانت عادة التعليق على خشبة منتشرة عند الأمم، فعند تفسير يوسف الحلم لخبَّاز فرعون ملك مصر قال له: "يرفع فرعون رأسك عنك ويعلِّقك على خشبة وتأكل الطيور لحمك عنك" (تك 40: 19). واضح هنا أن الحكم يصدر أولاً بقطع رأسه وبعد ذلك يُعلَّق جثمانه وذلك للأسباب التالية:

أولاً: مهما بلغت بشاعة الخطيَّة، فإن الله يهتم أن تدفن الأجساد في القبور. أراد الله حفظ تكريم الأجسام البشريَّة حتى بالنسبة لأشر المجرمين. حقًا يسمح الله بالتأديب، ولكن في حدود حتى لا تُهان الطبيعة البشريَّة، يسمح بالجلد ولكن في حدود، ويسمح عند الضرورة بالإعدام، ولكن لا يبقى الجسد أكثر من نهارٍ واحدٍ.

ثانيًا: إن كان يُسمح بترك الجسم معلَّقًا في النهار، فإن الله يريدنا ألاَّ نبالغ في الخوف من الخطيَّة، وألاَّ يسيطر ذلك علينا. لنذكر خطايانا كي نتوب، لكن لتُدفن أيضًا، وننشغل بالله غافر الخطيَّة.

ثالثًا: تقدَّم هذه الشريعة طقسًا دينيًا، فبحسب الشريعة يحمل جثمان الميِّت دنسًا، لأن الموت جاء إلى العالم كثمرة للخطيَّة. فلا يبقى الجثمان غير مدفون حتى لا تتدنَّس أرض المدينة كلَّها.

رابعًا: جاءت هذه الشريعة تمس موضوع خلاصنا. ولم يوجد عار أحطّ من هذا لينزل إليه المسيح مخلِّصنا (غل 3: 13) وقد حاول حكام اليهود عبثًا أن يبعدوا اللعنة بالتمسُّك بحرفيَّة هذا الناموس (يو 19: 31). فقد قبل السيِّد المسيح أن يموت صلبًا، إذ وهو لا يعرف الخطيَّة صار خطيَّة لأجلنا. صار واهب البركة حاملاً لعنة الناموس عنَّا، فصار معلَّقًا على الصليب كمن لا يستحق أن يوجد في السماء ولا على الأرض، لكنَّه يُدفن قبل الغروب حتى يقتل اللعنة ويهبنا فيه الحياة المقامة. وكما يقول الرسول بولس: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنَّه مكتوب ملعون كل من عُلِّق على خشبة، لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح" (غلا 3: 13-14). لقد قبل مسيحنا اللعنة من أجل تقديسنا. ويقول القدِّيس بطرس الرسول: "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ" (1 بط 2: 24). وكما يقول القدِّيس يوحنا المعمدان: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيَّة العالم" (يو 1: 29).

لقد احتلَّ مخلِّصنا مكاننا لكي نحتل مكانه، قبل الصليب بكل سرور. "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمِّله يسوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله: (عب 12: 2). هذا العمل الفدائي العجيب موضع سرور الآب: "أمَّا الآب فسرَّ بأن يسحقه بالحزن؛ أن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إش 35: 10). سرّ الآب الذي قدَّم ابنه الحبيب ذبيحة إثم، أن يحمل اللعنة عنَّا، لكي يدخل بنا إلى برِّه ومجده.

يروي لنا الإنجيلي يوحنا: "ثم إذ كان استعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت، لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا. سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا" (يو 19: 31).

v     إن سأل أحد من شعبنا، ليس عن حب الحوار بل عن حب التعلُّم: "لماذا لا يحتمل الموت بطريق آخر غير الصليب؟ فليقل له أيضًا أنَّه ليس من طريق آخر غير هذا نافع لنا، وأنَّه حسنًا أن الرب يحتمل هذا من أجلنا. فإنَّه هو نفسه جاء لكي يحمل اللعنة التي حلَّت بنا، إذ كيف يمكن أن يصير هو لعنة (غلا 3: 13) ما لم يتقبَّل الموت الذي يحمل لعنة؟ هذا هو الصليب[239].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     كان الموت على الصليب في أعينهم دنسًا عظيمًا إذ لم يدركوا أنَّه كان نبوَّة... هذا الموت الذي لنا، الذي وُجد أصله في الخطيَّة، قد حمله بنفسه وسمره على الخشبة[240].

القدِّيس أغسطينوس

أخيرًا ما يؤكِّده هذا الأصحاح بخصوص كل الحالات المذكورة أنَّه حتى في العهد القديم يهتم الله بكل إنسان شخصيًا، فمن أجل دم قتيل واحد يحل بغضبه على كل المدن المجاورة له، إن أهملت في البحث عن القاتل؛ ومن أجل جثمان مجرم يُترك معلَّقًا على خشبة إلى الليل تتدنَّس الأرض كلَّها! هكذا يؤكِّد الله اهتمامه بكل إنسان شخصيًا. وفي العهد الجديد أعلن السيِّد المسيح أنَّه ليس مشيئة الله أبينا أن يهلك أحد الأصاغر (مت 18: 14)، وأن ملائكة الله تفرح بخاطئ واحدٍ يتوب (لو 15: 10)، وأن من قبِل ولدًا واحدًا باسمه فقد قبِلَه (مت 18: 5).

السيِّد المسيح لم تشغله الجماهير التي تزحمه عن زكَّا، بل أوقف الموكب كلُّه لكي يدعو نفسه للدخول إلى بيت زكَّا الذي طلب أن يرى يسوع من هو (لو 19: 2). لقد اهتم بنازفة الدم وسط الجماهير فقال: "من الذي لمسني؟" (لو 8: 45). قال بطرس والذين معه: "يا معلِّم الجموع يضيِّقون عليك ويزحمونك وتقول من لمسني؟!"


 

من وحيّ تثنيَّة 21

لألتقي بك خلال المرذولين!

v     لالتقي بك يا من صُلبت خارج المحلَّة،

صرت مطرودًا ومرذولاً!

حتى يلتقي بك المطرودون والمرذولون،

والذين لا يجدون من يسأل عنهم.

أراك تلتقي بي،

فإنَّه ليس من يضمَّني غيرك.

تبحث عن ضعفي أنا المرذول،

لأبحث أيضًا فأجدك بين المرذولين،

والتقي بك بين المطرودين!

v     أنت تهتم بالدم البريء، المسفوك بيدٍ مجهولة!

لا تترك الظلم يدنِّس الأرض.

تطلب من شعبك أن يهتمُّوا بالدم المسفوك،

وفي نفس الوقت لا يتهمُّوا أحدًا بتسرُّع!

ليغسل الكل أيديهم في النقاوة،

لا يتستَّروا على سافك الدم.

ولا يتهمُّوا أحدًا ظلمًا.

v     قتلَتني الخطيَّة وألقت بي أرضًا،

صرت جثمانًا بلا حياة!

ليس من يتطلَّع إليَّ ولا من يسأل عنِّي.

نزلت إليَّ وتطلَّعت إليَّ.

انتقمت لدمي بصليبك،

فسمَّرْت الخطيَّة وشهَّرت بعدو الخير.

بعثت فيَّ الحياة، ووهبتني القيامة!

لم أعد جثمانًا ملقيًّا بدمه على الأرض،

بل صرت ابنًا لله أتمتَّع بالأمجاد!

v     تهتم بمشاعر سيِّدة مسبيَّة وثنيَّة فقدت أسرتها وبلدها!

تطلب منها أن تبكي والديها ولا تبكي أوثانها.

تحفظ حقوقها حتى لا يحطِّمها من سباها!

يا لك من إله حكيم ورقيق للغاية!

أنت تهتم بنفسي،

لقد سبتها الخطيَّة وأذلَّها عدو الخير.

حرَّرتني وحملتني إلى حجالك.

سكبت بهاءك عليَّ!

وأقمت منِّي ملكة!

v     تهتم بالزوجة غير المحبوبة من رجلها.

غالبًا ما تهبها الابن البكر.

وتهتم بمشاعر ابنها!

v     جعلت منِّي بكرًا يا أيُّها الوحيد والفريد في البكوريَّة.

أمِّي الكنيسة محبوبة جدًا لدي عريسها،

أولادها جميعًا صاروا أبكارًا.

يتمتَّعون بميراث أبدي مضاعف.

v     تهتم بخلاص الابن المتمرِّد.

تسمح بالحزم الشديد معه من أجل أبديَّته.

تعلن لوالديه خطورة هلاكه أبديًا.

يسلِّمه والداه للشيوخ فيُقتل.

أمَّا أنا فنزعت عنِّي عقوقي،

حملتني لا إلى الشيوخ ليحموا عليَّ،

بل إلى الآب السماوي لاستقر في حضنه!

ألبستني برَّك وجعلتني شريكًا في طاعتك!

v     اعترف لك بأنِّي كسرت ناموسك،

سقطت تحت لعنة الناموس،

وصرت تحت حكم الموت محبوسًا في دائرة اللعنة.

بحبَّك دخلت بالصليب إلى دائرة اللعنة.

فجرت اللعنة وحطَّمت متاريسها،

أطلقتني حرًّا ومباركًا.

رفعت عنِّي لعنة الناموس،

ووهبتني بركات المجد الأبدي!

v     قد يستحق المجرم أن يُعلَّق على خشبة.

لكنَّك تهتم حتى بجثمانه فلا يبقى حتى الغروب.

تؤكِّد لنا تقديرك لا للنفس وحدها، بل وللجسد أيضًا.

أنت المهتم بالإنسان ككل يا خالقنا.

v     ملايين الملايين من السمائيِّين والأرضيِّين يزاحمونك،

وأنت في حبَّك تهتم بي شخصيًا.

أقول مع قدِّيسك أغسطينوس:

كأنِّي لا أرى في العالم إلاَّ أنت وحقارتي!

تعطيني كل الحب،

وأعطيك كل القلب!

هل يوجد من تحبُّه مثلي؟!

هل يوجد من يحبَّك مثلي؟!

أنا لك يا حبيبي، وأنت لي يا شهوة قلبي!

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني والعشرون

شرائع خاصة بالحُنوّ والقداسة

يعتبر هذا الأصحاح تكملة للأصحاح السابق، حيث يظهر في السابق اهتمام الله بفئة المرذولين، أو من ليس لهم من يسأل عنهم. هنا تكشف الشريعة عن غايتها ألا وهو الحنو مع كل أحد مع القداسة. فالمؤمن يتَّسع قلبه بالحب ويمتلئ حنُوًا على أخيه كما على الحيوانات والطيور. هذا الحنو يرتبط بالقداسة، فيليق بالجماعة أن تتَّسم بالحزم حتى لا تتسلَّل النجاسة إلى جماعة المؤمنين.

1. الاهتمام بما للجار أو الغريب               [1-4].

2. منع الشذوذ الجنسي                        [5].

3. الترفُّق بالطيور الحاضنة                    [6-7].

4. المحافظة على حياة الغير                   [8].

5. عدم الخلط                                  [9-11].

6. أهداب الثوب                                [12].

7. اتِّهام الزوجة بعدم البكوريَّة                 [13-19].

8. شريعة الزوجة فاقدة العذرة                [20-21].

9. الخيانة الزوجيَّة                            [22].

10.الزنا مع عذراء مخطوبة                  [23-27].

11.الزنا مع عذراء غير مخطوبة             [28-29].

12.السقوط مع زوجة الأب                    [30].

1. الاهتمام بما للجار أو الغريب:

لا يليق بالمؤمن أن يتغاضى عن أي  شيء مفقود لأخيه بل يهتم أن يردُّه إليه. يهتم حتى بالحيوان الساقط في الطريق.

"لا تنظر ثور أخيك أو شاته شاردًا وتتغاضى عنه، بل تردُّه إلى أخيك لا محالة.

وإن لم يكن أخوك قريبًا منك ولم تعرفه فضمُّه إلى داخل بيتك،

 ويكون عندك حتى يطلبه أخوك حينئذ تردُّه إليه.

وهكذا تفعل بحماره، وهكذا تفعل بثيابه.

وهكذا تفعل بكل مفقود لأخيك يُفقد منه وتجده.

لا يحل لك أن تتغاضى.

لا تنظر حمار أخيك أو ثوره واقعًا في الطريق وتتغافل عنه، بل تُقيمه معه لا محالة" [1-4].

هكذا يهتم الله حتى برعايتنا للحيوانات. في (خر 23: 4) تطالب الشريعة الإنسان أن يهتم بحمار عدوُّه أو مبغضه، فمهما بلغت العداوة بين الإنسان وأخيه يلزمه أن يترفَّق بالحيوان الذي لا ذنب له. إن كان هذا بالنسبة للعدو، فماذا يكون بالنسبة للجار أو الغريب، سواء كان يهوديًا أو أمميًا. ويلاحظ في هذه الشريعة الآتي:

أولاً: كلمة "أخ" هنا تُفهم بالمعنى الواسع، فلا يقصد الأخ حسب الجسد فقط. هذا واضح من الآية [2] "ولم تعرفه". وكأن الاهتمام بحيوانات الغير لا تقوم على أساس الاهتمام باحتياجات الأقرباء حسب الجسد، إنَّما هو عمل رحمة مقدَّم للحيوان أو الطائر، أيّا كان صاحبه.

v     الشريعة نفسها تعلِّمنا كيف نحب عدوِّنا، فإنَّه إن سقط حيوان عدوِّنا يلزمنا أن نقيمه[241].

القدِّيس جيروم

ثانيًا: يلزم ردّ القطيع الشارد إلى صاحبه أو إلى المرعى الذي ضلَّ منه، من أجل حق الجيرة، ومن أجل الترفُّق بالحيوان. هكذا لا يمكن للمؤمن أن يتغاضى أو يتجاهل حيوان جاره الشارد، بل خلال طبيعته المحبَّة لعمل الخير يرُد الحيوان الشارد.

هكذا يهتم الله حتى بالحيوانات الشاردة، فكم بالأكثر يهتم بالنفوس التي تركت بيتها السماوي، وشردت عن المرعى الإلهي، وتاهت وسط دوَّامة هذه الحياة. لقد نزل كلمة الله نفسه إلى أرضنا ليرد الخروف الضال، فتفرح السماء برجوعه. ونحن كأعضاء جسد المسيح لن يستريح قلبنا حتى نرد كل نفس إلى راعيها السماوي، وندخل بكل إنسانٍ إلى بيته، حضن الآب الأبدي.

ثالثًا: تلزمنا الشريعة أن نضم الثور أو الخروف الضال، لا أن نبعث إرساليَّة إلى صاحبه كي يأتي ويأخذه، فإن لعامل الزمن أهميَّة قصوى. كل تأخير في ضم الخروف قد يسبب ضررًا له. لنحمل الخروف ونأتي به إلى صاحبه أو إلى مرعاه بأسرع فرصة ممكنة.

رابعًا: إن لم نعرف صاحب الحيوان أو مرعاه، فلنحمله إلى بيتنا أو مرعانا كأمانة نحفظها وننفق عليها حتى نعرف صاحبها.

خامسًا: جاءت الترجمة الحرفيَّة لكلمة "شارد" "مسحوبًا"[242] بمعنى متى رأى الإنسان إحدى حيوانات أخيه يسحبها آخر لا يقف مكتوف الأيدي، ولا يسلك بروح السلبيَّة، بل يتصرَّف بما يليق كإنسانٍ أمينٍ مع صاحب الحيوان. كما أن الله لم يقف سلبيًا أمام انهيارنا حيث سلَّمنا أنفسنا لعدو الخير، وصرنا كغنمة يسوقها ويضلِّلها بعيدُا عن حظيرتها، فجاء الراعي الصالح وبذل ذاته من أجل كل حمل، لكي يردُّه إلى الحظيرة السماويَّة. هكذا لا نقف نحن في سلبيَّة إن سلب أحد إحدى حيوانات أخينا. ولا نقف في سلبيَّة إن سلب عدو الخير نفس أخينا أو ذهنه أو إرادته من المرعى السماوي لينحدر به إلى الجحيم.

يليق بنا أن نسمو فوق متطلِّبات الناموس، لكن للأسف أحيانًا ننحدر فلا ننفِّذ حتى متطلِّبات سفر التثنيَّة. إن كان سفر التثنيَّة يحثِّنا أن نهتم حتى بحمار قريبنا أو ثوره كيف لا نبالي بأفكاره وقلبه وكيانه الداخلي حين يسحبه الشيطان إلى نيران جهنَّم، مقدِّمين أعذارًا كثيرة باطلة وغير لائقة.

إن كنَّا لا نحتمل أن نرى حمار قريبنا شاردًا، فما هو موقفنا إن كان مالك الحمار نفسه شاردًا؟! لنرتفع فوق كل تبرير ونصالح أخانا إن كان في خصومة معنا مهما كلَّفنا الأمر، ونبحث عن نفس أخينا التائه أينما وجد، فإن هذا ما يطلبه حتى ناموس العهد القديم.

v     يليق بك أن تدرك أن الانفصال عمَّن تدخل معهم في صراعٍ أو المصالحة معهم أمر أقل من رفع حيوانٍ ساقطٍ تحت ثقلٍ ما.

إن كان يجب تقديم المساعدة لإقامة حمار الأعداء أليس بالأكثر يجب إقامة نفوس الأصدقاء، خاصة متى كان السقوط خطيرًا، إذ لا تسقط النفوس في وحلٍ، بل في نار جهنَّم دون أن نرفع عنهم ثقل الغضب الحال عليهم.

عندما ترى أخاك ساقطًا تحت الثقل والشيطان واقفًا يشعل الحطب بالنيران تجري عنه بقسوة لا تعرف الرحمة، الأمر الذي لا يليق أن تفعله حتى بالنسبة للبهائم.

عندما رأى السامري إنسانًا جريحًا غير معروف، ولا ينتسب إليه قط وقف وحمله على الحيوان وجاء به إلى الفندق، واستأجر طبيبًا، وأعطاه مالاً، ووعد أنَّه يقدِّم مالاً أكثر، بينما أنت ترى إنسانًا ساقطًا ليس بين لصوصٍ بل بين عصابة شيَّاطين وحل عليه الغضب، ليس في البريَّة، بل وسط الساحة، والمطلوب منك لا أن تقدِّم مالاً، ولا أن تستأجر حيوانًا يحمله، ولا تسير معه طريقًا طويلاً، إنَّما تقول له بعض الكلمات، ومع هذا تتباطأ! تعطيه ظهرك وتجري في قسوة بلا رحمة! كيف تظن أنك بعد هذا تدعو الله لتجده مملوء حنانًا؟![243]

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

تطالبنا الشريعة أن نرد ثوب أخينا المفقود منه لكي يستر به جسده، فكم بالأحرى يليق بنا أن نرد له سمعته وكرامته التي تستر على شخصه وكيانه الإنساني. فمن يستطيب الاستماع إلى مذمَّة أخيه يكون كمن لا يرد ما هو مفقود لأخيه، يتركه عاريًا لا من ثياب ماديَّة بل من كرامته السماويَّة.

مسيحيَّتنا دعوة لا لنغلق أعيننا ونهرب ونتطلَّع بمنظار ضيِّق، قائلين هذا يمسُّني وذاك يمس أخي، إنَّما هي دعوة للعمل بروح الحب واتِّساع القلب والوحدة، لحساب كل البشريَّة والاهتمام بحقوقهم وبنيانهم. وكما يقول الرسول بولس: "لا يطلب أحد ما هو لنفسه، بل كل واحدٍ ما هو للآخر" (1 كو 10: 24).

2. منع الشذوذ الجنسي:

"لا يكون متاع رجل على امرأة ولا يلبس رجل ثوب امرأة،

لأن كل من يعمل ذلك مكروه لدى الرب إلهك" [5].

لا يليق بالإنسان أن يرتدي ملابس إنسان من الجنس الآخر؛ هنا يعني اعتزاز كل جنس بما خلقه الله عليه، فلا يشتهي أحد أن يكون من الجنس الآخر. الطبيعة ذاتها تعلِّم الإنسان أن يكون متميِّزًا بجنسه حتى بالنسبة للشعر (1 كو 11: 14)، هكذا في ملبسه. أمَّا علَّة ذلك فهو:

أولاً: يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في هذه الوصيَّة اعتزاز كل إنسان بجنسه الذي وهبه الله. فالرجل يعتز برجولته، والمرأة بأنوثتها، فلا يشتهي الذكر أن يكون أنثى، ولا أنثى أن تكون ذكرًا. جمال كل جنس وصلاحه في اعتزازه بما قدَّمه له الله، مع تقديره وتقديسه للجنس الآخر، كمكمِّلٍ لجنسه وليس كمضاد أو منافسٍ له. فهو لا يحتقر الجنس الآخر، ولا يتشامخ عليه، بل يرى تكاملاً بين الجنسين، وتحقيقًا للنجاح البشري وتقدُّمه وبنيانه. يرى يد الله العجيبة وخطَّته الفائقة في كل الجنس البشري.

v     من يعصى الأمر يسبِّب ارتباكًا في كل الأمور، ويخون عطايا الله، ويلقي على الأرض الكرامة الممنوحة له من العالي، ليس فقط بالنسبة للرجل بل والمرأة. فإنَّه بالنسبة لها هي أيضًا تكون لها كرامة عظمى أن تحفظ رتبتها، وأمَّا التذمُّر على وضعها فيحمل بالحقيقة مهانة لها[244].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ثانيًا: يشعر كل جنس بمسئوليَّاته، فيقوم الرجل بعمله المناسب له في غير أنوثة، وتقوم المرأة بدورها الحيّ، بهذا يصير المجتمع متكاملاً.

ثالثًا: يرى البعض في هذه الوصيَّة ما هو أعمق من المظهر الخارجي، وهو عدم الانحراف نحو الشذوذ الجنسي، فارتداء الجنس ثياب الجنس الآخر يعني رغبة الجنس أن يحتل مكان الجنس الآخر في العلاقات الجسديَّة.

يدين القدِّيس أكليمندس السكندري ممارسة الشذوذ الجنسي مع الزنا، فيقول:

[يعلن اللوغوس هذا بصوتٍ عالٍ وبوضوح خلال موسى: "لا تضاجع امرأة، إنَّه رجس" (لا 18: 22).

عندما نصح أفلاطون الحكيم أنَّه "يجب أن تمتنع عن حقل كل امرأة ليست لك"[245] اقتبس هذا من قراءاته في الوصايا الكتابيَّة، وهي: "لا تجعل مع امرأة صاحبك مضجعك لزرع، فتتنجَّس بها" (لا 18: 20).

"يجب ألاَّ يزرع ما هو غير مثمر، بذرة غير شرعيَّة مع البويضة"[246]. لا تزرع "حيث لا ترغب في البذرة ألاَّ تنمو"[247]. لا تلمس أحدًا سوى زوجتك التي تكلَّلتَ بها"[248].

مع زوجتك وحدها يسمح لك أن تتمتَّع باللذَّة الجسديَّة من أجل إنجاب النسل، فإن هذا هو كل ما يسمح به اللوغوس. نحن الذين نشارك في العمل الإلهي للخلقة يلزمنا ألاَّ نبعثر البذار بطريقة عشوائيَّة، ولا أن نتصرَّف بغير وقار أو نلقي بذارًا حيث لا يمكن أن تنمو[249]].

رابعًا: يرى البعض أن هذه العادة وثنيَّة، فكان بين المتعبِّدين في هيكل فينوس Venus تظهر النساء متسلِّحين بأسلحة كجنود أقوياء، ويرتدي الرجال ثياب النساء.

3. الترفُّق بالطيور الحاضنة:

"إذا اتَّفق قدَّامك عش طائر في الطريق في شجرة ما أو على الأرض فيه فراخ أو بيض

والأم حاضنة الفراخ أو البيض فلا تأخذ الأم مع الأولاد.

أطلق الأم، وخذ لنفسك الأولاد، لكي يكون لك خير وتطيل الأيَّام" [6-7].

الحديث عن إطلاق الأم الحاضنة حرَّة بعد الحديث عن تثبيت التمييز بين الجنسين الرجال والنساء يبرِّره البعض بأن الشريعة أرادت تأكيد أهميَّة الأم وتقديس دورها في الحفاظ على الجنس. حتى في الطيور للأم دورها الهام.

ربَّما ظنَّ بعض النساء في المجتمعات القديمة أن للرجل دوره الهام، واِشْتَقْن لو كنَّ رجالاً فيتمتَّعن بحرِّيَّة أكثر ومراكزٍ أعظم، لذا أكَّدت الشريعة أن الأم هي الأساس الحيّ لقيام جيل جديد قوي، فلا تستهين النسوة بدورهن.

وهب الله للإنسان سلطانًا على طيور السماء كما على سمك البحار والبهائم وعلى كل الأرض (تك 1: 26)، لا ليمارسوه بلا ضابط، إنَّما بروح الرحمة والشفقة على الخليقة. جاء في سفر إشعياء: "هكذا قال الرب، كما أن السُلاف يوجد في العنقود فيقول قائل لا تهلكه لأن فيه بركة" (إش 65: 8).

حياة الطيور هامة لحفظ النوع، فكانت هذه الشريعة لازمة وحكيمة وإنسانيَّة (مت 10: 29).

يقول اليهود أن هذه الوصايا هي أصغر الوصايا في الناموس الموسوي الذي يهتم حتى بالطائر الذي في الطريق، الذي يحتضن بيضًا أو فراخًا صغيرة، حيث يُسمح بأخذ البيض والفراخ وترك الأم الحاضنة لكي تطير. والعجيب أن المكافأة هي كمكافأة من يكرم أباه وأمُّه، أي من ينفِّذ الوصيَّة الخامسة، حيث يطيل الله عمر الإنسان.

يعلن الرب دومًا اهتمامه بخليقته، حتى بالعصافير التي تبدو كأنَّها بلا ثمن (لو 12: 6؛ 1 كو 9: 6).

4. المحافظة على حياة الغير:

تقدِّم لنا هذه الشريعة مفهومًا صريحًا للحريَّة، فالإنسان له كمال الحريَّة أن يبني بيتًا ويُقيم سطحًا، لكنَّه ملتزم ألاَّ يبتهج على حساب أخيه، فقد يكون هو حذرًا، أو ليس له أولاد يخشى أن يسقطوا من سطح البيت، لكن يجب عليه أن يبني سورًا لئلاَّ يزوره أحد أقاربه ولا يكون هو أو أولاده أو أحفاده أو عبيده حذرين... فإن سقط أحدهم يطلب دمه منه!

"إذا بنيت بيتًا جديدًا فاعمل حائطًا لسطحك،

لئلاَّ تجلب دمًا على بيتك إذا سقط عنه ساقط" [8].

الله في حبُّه للإنسان يحميه ليس فقط برعايته الإلهيَّة، وإنَّما أيضًا بشريعته. الإنسان ثمين في عينيّ الله، وأيضًا في أعين مؤمنيه.

من لا يقيم حائطًا لسطح بيته يجلب على نفسه دم من يسقط من السطح بسبب الإهمال.

سطح البيت في منطقة الشرق الأوسط غالبًا ما يكون مستويًا يستضيف عليه صاحب البيت ضيوفه ليلاً، فكان لابد له من جدار للوقاية والحفظ. السقف مسطَّح، حيث يمكن للإنسان أن يتمشَّى عليه، بل وكثير من العائلات كانت تنام على السطوح في الصيف بسبب الحر. يلتزم صاحب المسكن أن يُقيم سورًا حول السطح حتى لا يسقط منه أحد. كانوا يُقيمون سورًا ارتفاعه ثلاثة أقدام ونصف. فإن سقط إنسان دون وجود هذا السور يطلب دمه من صاحب المنزل.

بحسب هذه الشريعة يرى اليهود الالتزام بعمل كل ما يحفظ حياة الآخرين من الخطر، مثل تغطية الآبار، وصيانة الجسور الخ.

5. عدم الخلط:

"لا تزرع حقلك صنفين لئلاَّ يتقدَّس الملء الزرع الذي تزرع ومحصول الحقل.

لا تحرث على ثور وحمار معًا.

لا تلبس ثوبا مختلطًا صوفا وكتَّانًا معًا" [9-10].

الخلط غير الطبيعي يقود إلى عدم النظام والفوضى وهكذا الاختلاط بالعالم. وليس من السهولة غسل الثوب المختلط بهذا الشكل.

أولاً: عدم زراعة صنفين في حقل واحد، فلا تخلط البذار معًا ثم تُزرع، ممَّا يجعل الحصاد صعبًا. هذا الحقل يشير إلي المزج بين المؤمنين وغير المؤمنين معًا في الكنيسة. كما يشير إلي القلب المتذبذب بين طريق النور وطريق الظلمة، فلا يحمل روح التمييز والإفراز، أي إلي القلب الذي لا يعرف البساطة، أو الطريق الواحد.

ثانيًا: عدم استخدام ثور وحمار معًا في سحب محراثٍ واحدٍ، إذ يعطِّل الضعيف القوي، أو يحطِّم القوي الضعيف. يليق التمييز في التعليم بين الأقوياء والضعفاء، وبين الثابتين في الإيمان وحديثي الإيمان؛ فيقدِّم لكل منهم ما هو لبنيانه.

ثالثًا: عدم استخدام نوعين من الخيوط في نسيج واحد كالصوف والكتان. فإن هذا قد يسبِّب حساسيَّة للجسم. يليق بكنيسة الله أن تكون نسيجًا واحدًا منسجمًا، ذات روح واحد وفكر واحد.

هذه جميعها صورة رمزيَّة للالتزام بعدم الخلط بين الحق وفلسفة العالم الباطلة (لا 19: 19). ربَّما أراد أن يكون شعب الله متميِّزًا بالنقاوة والاستقامة.

سبق لنا الحديث عن عدم الخلط من الجانب الحرفي، وفي الواقع العملي، وما يحمله من رموز، أثناء تفسيرنا لسفر اللآويِّين، الأصحاح 19. أمَّا سرّ المنع فهو:

أولاً: منعهم من مثل هذه العادات الوثنيَّة. لقد حذَّر الرب شعبه من اللباس الغريب الذي يحمل خلطًا بين الصوف والكتَّان، ليس لأن في اللباس ذاته خطيَّة، وإنَّما لما يحمله من معنى الشركة مع الوثنيِّين. "ويكون في يوم ذبيحة الرب إنِّي أعاقب الرؤساء وبني الملك وجميع اللآبسين لباسًا غريبًا" (صف 1: 8).

 ثانيًا: يحمل هذا القانون رمزًا نحو التزام المؤمن بالنقاوة والطهارة. ليست شركة بين المؤمن وغير المؤمن، وبين النور والظلمة، والمسيح وبليعال.

6. أهداب الثوب:

"اعمل لنفسك جدائل على أربعة أطراف ثوبك الذي تتغطَّى به" [12].

أمَّا عن "الجدائل"، فقد كان الغرض منها إظهار الشعب بمظهر مختلف عن باقي الشعوب لأنَّهم شعب الرب (عد 15: 37-41). فلا يخجل أحد من انتسابه لشعب الله؛ كما تشير إلى تذكُّر الوصايا الإلهيَّة حتى في الأمور البسيطة التي تبدو تافهة كهدب الثوب. غاية هذا القانون أن يكون المؤمن متميِّزًا عن أهل العالم، كل من يراه يعرف حتى من مظهره أنَّه منتسب لشعب الله. تكرار الوصيَّة هنا ربَّما لأن اليهود استخفُّوا بها بكونها أمرًا لا يمس حياتهم الداخليَّة، بل خاصة بالمظهر. الله يريد أن نعلن أنَّنا مكرَّسون للرب بحياتنا الداخليَّة كما بمظهرنا الخارجي، فلا نخجل من ارتباطنا به. وقد لمست نازفة الدم هدب ثوب المسيح هذا فشفيت (لو 8: 44).

7. اتِّهام الزوجة بعدم البكوريَّة:

تهتم الشريعة بالكشف عن قدسيَّة الزواج. هنا تقدِّم لنا ست حالات:

"إذا اتَّخذ رجل امرأة وحين دخل عليها أبغضها.

ونسب إليها أسباب كلام وأشاع عنها اسمًا رديًا

وقال هذه المرأة اتَّخذتها ولما دنوت منها لم أجد لها عذرة.

يأخذ الفتاة أبوها وأمَّها ويخرجان علامة عذرتها إلى شيوخ المدينة إلى الباب.

ويقول أبو الفتاة للشيوخ أعطيت هذا الرجل ابنتي زوجة فأبغضها.

وها هو قد جعل أسباب كلام قائلاً:

لم أجد لبنتك عذرة،

وهذه علامة عذرة ابنتي،

ويبسطان الثوب أمام شيوخ المدينة.

فيأخذ شيوخ تلك المدينة الرجل ويؤدِّبونه.

ويغرِّمونه بمئة من الفضَّة ويعطونها لأبى الفتاة، لأنَّه أشاع اسمًا رديًا عن عذراء من إسرائيل.

فتكون له زوجة لا يقدر أن يطلِّقها كل أيَّامه" [13-19].

العروس المخادعة التي تلتصق برجلها تدنِّس الشعب كلُّه، لذا يُحكم عليها بالرجم. كل فساد في الحياة الزوجيَّة يمس حياة الجماعة كلَّها. أمَّا من يسيء إلى سمعة زوجته كذبًا مدَّعيًا أنَّها لم تكن بكرًا يوم زواجه بها يؤدِّبه شيوخ المدينة، غالبًا بضربه بالسياط، ويدفع مائة فضَّة غرامة لأبيها كنوعٍ من رد الكرامة. هكذا يكون التأديب علانيَّة لرد سمعة الزوجة وبيت أبيها، كما تعوَّض الزوجة المتَّهمة ظلمًا بعدم السماح للزوج أن يطلِّقها كل أيَّام حياته أو حياتها.

يتطلَّع الناموس إلى الطهارة بكونها فضيلة مكرَّمة، فمن يشكك في طهارة إنسان إنَّما يهين كرامته الداخليَّة. التشهير بسمعة إنسانٍ جريمة عظمى، وكما يقول المرتِّل: "تجلس تتكلَّم على أخيك لابن أمَّك تضع معثرة" (مز 50: 20). هذا بالنسبة للتشهير بالأخ فكم بالأكثر يكون الأمر بالنسبة للتشهير بالزوجة التي صارت معه جسدًا واحدًا، أو الزوج. أنَّه يكون كطائر يفسد عشُّه ويدنِّسه.

8. شريعة الزوجة فاقدة العذرة:

"ولكن إن كان هذا الأمر صحيحًا ولم توجد عذرة للفتاة.

يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها

ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت،

لأنَّها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها

فتنزع الشرّ من وسطك" [20-21].

كما تكرَّم العروس المتَّهمَة ظلمًا، هي وأهل بيتها علانيَّة، يحكم على العروس الزانية علانيَّة. الزنا جريمة عظمى عقوبتها الرجم، لأنَّها موجَّهة ضد الله القدُّوس نفسه ملك هذا الشعب الذي كان ينبغي أن يكون مقدَّسًا للرب.

9. الخيانة الزوجيَّة:

"إذا وجد رجل مضطجعًا مع امرأة زوجة بعل،

يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة،

فتنزع الشرّ من إسرائيل" [22].

كان الرجم هو عقوبة الزنا بين المتزوِّجين أو الخطيبين لإبراز بشاعة الخيانة الزوجيَّة.

10. الزنا مع عذراء مخطوبة:

"إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها.

فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا.

الفتاة من أجل أنَّها لم تصرخ في المدينة.

والرجل من أجل أنَّه أذلَّ امرأة صاحبه.

فتنزع الشرّ من وسطك.

ولكن إن وَجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وامسكها الرجل واضطجع معه.

يموت الرجل الذي اضطجع معها وحده.

وأمَّا الفتاة فلا تفعل بها شيئًا،

ليس على الفتاة خطيَّة للموت، بل كما يقوم رجل على صاحبه ويقتله قتلاً هكذا هذا الأمر.

إنَّه في الحقل وجدها فصرخت الفتاة المخطوبة فلم يكن من يخلِّصها" [23-27].

كانت الخطبة في الشرق مساوية للزواج حتى سُمِّيت المخطوبة زوجة. في حديث القدِّيس جيروم عن دوام بتوليَّة القدِّيسة مريم كتب أنَّه لا يرتبك أحد في دعوتها زوجة يوسف مع أنَّها لم تكن إلاَّ مخطوبته، فقد اعتاد الكتاب المقدَّس أن يدعو المخطوبة زوجة كما في (تث 22: 24-25؛ 20: 7)[250].

11. الزنا مع عذراء غير مخطوبة:

"إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوُجدا.

يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضَّة،

وتكون هي له زوجة من أجل أنَّه قد أذلَّها، لا يقدر أن يطلِّقها كل أيَّامه.

من يذل عذراء يلتزم بالزواج منها وعدم تطليقها مدى الحياة" [28-29].

12.السقوط مع زوجة الأب:

لا يتَّخذ رجل امرأة أبيه ولا يكشف ذيل أبيه" [30].

أخيرًا يلتزم الابن بمراعاة قدسيَّة مضطجع أبيه.


 

من وحيّ تثنيَّة 22

ترعاني بحبَّك وتهتم بي بشريعتك

v     بحبَّك أودّ أن أتشبَّه بك.

لقد سحبني عدو الخير كما من مرعاي السماوي،

فحللتني، وعُدت بي إلى أحضان أبيك السماوي.

هب لي أن اهتم بأخي وكل ما يملكه!

لا أكف عن الصلاة مع العمل حتى يرجع إلى أحضانك.

اَهتم بنفسه وقلبه وذهنه وإرادته،

فيكون بكليَّته مقدَّسًا.

أرد له حماره الضال، أي جسده الذي فسد.

وثيابه المفقودة، أي كرامته في الرب.

وكل مفقود منه، فيصير غنيًا بك!

هب لي أن اَقتدي بك،

فأعمل لحساب كل اخوتي بلا فتور!

v     بعنايتك الإلهيَّة تحتضنِّي على الدوام.

بشريعتك تهتم بدقائق أمور حياتي.

تحرص في حبَّك أن تقيم منِّي كائنًا محبًا حتى للحيوانات والطيور.

أترفَّق بكل كائن ما استطعت!

v     كأب يشغلك أطفالك،

فتُلزِم كل صاحب بيتٍ أن يبني سورًا على سطح بيته.

تعلِّمنا أن نحرص على حياة اخوتنا بغير إهمال.

v     تشتاق إلى نقاوتي.

فلا أخلط البذور معًا،

ولا الأنسجة في ثوبٍ واحدٍ.

أُدرك أنَّه لا خلطة بين النور والظلمة.

ولا شركة بين المسيح وبليعال.

v     تود أن تميِّزنا عن أهل العالم!

تجعلنا شعبًا خاصًا مقدَّسًا لك.

تشتاق أن يكون لنا لغتنا وفكرنا حتى شكلنا الخاص.

تهتم حتى بأهداب ثوبنا لنُدرك أنَّنا مكرَّسون لك وحدك.

v     تحرص على سمعة كل إنسان،

ولا تقبل أن يشهِّر إنسان بزوجته كذبًا.

تحسب هذا جريمة عظمى!

v     تدعوني إلى القداسة لأنَّك قدُّوس.

فأكون أمينًا في علاقتي بك.

اقبل نفسي عروسًا بلا عيب ولا دنس،

يقدِّسها روحك الناري،

ويهبها الاتِّحاد بك.

v     انزع عنِّي كل فساد،

أنت وحدك القدُّوس،

بك أتقدَّس، وبدونك لا أعرف القداسة.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثالث والعشرون

جماعة الرب، وجيش الرب،

وبيت الرب

تحرص الشريعة على قدسيَّة المؤمنين فتؤكِّد لهم أنَّهم جماعة الرب، وجيش القدُّوس، وبيت الرب القدُّوس. هذا ما يؤكِّده هذا الأصحاح إذ لا يسمح بأي دنس يحل بالجماعة المقدَّسة، أو يتسرَّب إلى الجيش في حربه المقدَّس، أو إلى بيته. هذا وقد حرص هذا السفر على التحذير من أعداء الإنسان الحقيقيِّين وهم العالم الشرِّير وشهوات الجسد وإبليس. يحاربون المؤمن في حياته اليوميَّة، مع كل لحظة من لحظات عمره.

ويلاحظ أن النظرة هنا إلى الأمم الأربع، أي إلى العمونيِّين والموآبيِّين والأدوميِّين والمصريِّين، هي نظرة العصر الموسوي وتختلف كل الاختلاف عنها في أيَّام الملكيَّة المتأخِّرة.

1. المحرومون من جماعة الرب              [1-8].

2. جيش مقدَّس                                [9-14].

3. العبد الهارب                                [15-16].

4. رفض الفسق والنجاسة                     [17-18].

5. الربا                                        [19-20].

6. عدم التسرُّع في النذور                     [21-23].

7. حق الجيرة                                 [24-25].

1. المحرومون من جماعة الرب:

تقدِّم الشريعة هنا قائمة ببعض المحرومين من الدخول في "جماعة الرب"، حتى تبقى الجماعة مقدَّسة للرب. لكن ماذا يعني بجماعة الرب هنا؟ يرى البعض أنَّه يقصد هنا "شعب الله أثناء خدمتهم الدينيَّة". لم يقصد حرمانهم من خلاص أنفسهم وتعبُّدهم للرب، إنَّما حرمانهم من التمتُّع بكمال الحقوق، مثل استلام مسؤوليَّات معيَّنة أو الدخول إلى المقادس والشركة الكاملة مع الجماعة. يعني حرمان هذه الفئات من تولِّي مراكز قياديَّة في وسط الشعب، فلا يكون أحدهم شيخًا من شيوخ إسرائيل ولا قاضيًا. ويرى آخرون أن المقصود هنا مجرَّد الامتناع من الزواج منهم، فلا يتم زواج مختلط بينهم وبين الإسرائيليِّين.

ما هي الفئات الممنوعة؟

أ. المخصيُّون أو المجبوبون: "لا يدخل مخصي بالرض أو مجبوب في جماعة الرب" [1].

كان لهذا التعليم الخاص باستبعاد المخصيِّين من جماعة الرب أهميَّته الخاصة في ذلك الحين، إذ كان شائعًا بين الأمم أن يخدم جماعة من المخصيِّين الهياكل الوثنيَّة، وأيضًا الذين يحتلُّون مراكز عظيمة في القصر الملكي، خاصة الذين يخدمون في جناح الملكة وجناح النساء، حتى أن كلمة "الخصيان" صارت تطلق على أصحاب المراكز في القصر حتى وإن كانوا ليسوا مخصيِّين جسديًا[251].

مُنع المخصيُّون من الكهنوت (لا 21: 17-21) وأولادهم حتى الجيل العاشر، لتأكيد قدسيَّة كل أعضاء الجسم. فقد جاء هذا القانون لكي يمنع الإنسان من أن يخصي نفسه، خاصة إن كان بسبب نظرته إلى الأعضاء الجنسيَّة كأعضاء دنسة، أو أن العلاقات الجسديَّة في الزواج نجاسة. وقد حرَّمت الكنيسة على الذين يخصون أنفسهم حتى إن كانوا بتوليِّين من نوال أيَّة درجة كهنوتيَّة، ذلك لأنَّهم يدنِّسون النظر نحو ما خلقه الله صالحًا ومقدَّسًا.

من هنا – حتى في العهد القديم – لا يُحرم الخصي من عضويَّته في جماعة الرب إن كان مقدَّسًا للرب. وكما جاء في سفر إشعياء: "فلا يتكلَّم ابن الغريب الذي اقترن بالرب قائلاً: "إفرازًا أفرزني الرب من شعبه. ولا يقل الخصي ها أنا شجرة يابسة. لأنَّه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي ويختارون ما يسرُّني ويتمسَّكون بعهدي. إنِّي أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصيبًا واسمًا أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع" (إش 56: 3-5).

واضح أن ما يشغل ذهن الله ليس الشكل الخارجي مثل أن يكون الإنسان خصْيًا أم لا، إنَّما الأعماق الداخليَّة، حيث يختبر االخصي حفظ السبت، أي التمتُّع بالعيد الأسبوعي والفرح المستمر في الرب، وتقديس السبت كعلامة على تقديس العمر كله لحساب الرب. من يختار أن يسر الله ويتمسَّك بعهده، أي يود أن تكون له شركة دائمة معه، مثل هذا يُحسب ابنًا (أو ابنة) لله أكثر من غيره ويكون له نصيب في بيت الرب، ويتحصَّن بأسواره.

ب. أبناء الزناة: "لا يدخل ابن زني في جماعة الرب؛ حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب" [2].

ما هو ذنب الابن؛ فقد أخطأ الأب، فلماذا يُحرم الابن من الدخول في جماعة الرب؟ لا يُحرم الابن غير الشرعي من الالتصاق بالله والتمتُّع بالميراث الأبدي، إن سلك في حياة لائقة مقدَّسة في الرب. لكن هذا القانون يقصد تحريم الزنا، إذ يشعر الزاني أن ثمرة هذا الزنا لا تدخل في جماعة الرب.

من بين رجال الإيمان الذين وردت سيرتهم في سفر القضاة (قض 11)، وذكرهم بولس الرسول في قائمة رجال الإيمان هو يفتاح الجلعادي (عب 11: 22)، قيل عنه: "وكان يفتاح الجلعادي جبَّار بأس وهو ابن امرأة زانيَّة، وجلعاد ولد يفتاح... وقالوا له لا ترث في بيت أبينا لأنَّك أنت ابن امرأة أخرى" (قض 11: 1-2).

ج. نسل عمون وموآب: لقد انفصل أبوهما لوط عن إبراهيم (تك 13: 11)، فعزل نسله ممَّا يتمتَّع به أولاد إبراهيم رجل الإيمان. هذا وقد جاء عمون وموآب ثمرة سكر أبيهما والتصاقه بابنتيه. لكن قد يُقال: وما هو ذنبهما هما ونسلهما من بعد؟ جاءت الإجابة أن نسلهما أخذ موقفًا عدائيًا من شعب الله، إذ يقول:

"لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب.

حتى الجيل العاشر لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد.

من أجل أنَّهم لم يلاقوكم بالخبز والماء في الطريق عند خروجكم من مصر؛

ولأنَّهم استأجروا عليك بلعام بن بعور بن فتور آرام النهرين لكي يلعنك.

ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام،

فحوَّل لأجلك الرب إلهك اللعنة إلى بركة،

لأن الرب إلهك قد أحبَّك.

لا تلتمس سلامهم، ولا خيرهم، كل أيَّامك إلى الأبد" [3-6].

ليس من حق العموني أو الموآبي أن يدخل في الجماعة المقدَّسة حتى الجيل العاشر وذلك لحفظ الجماعة من أثر الوثنيَّة. هذا وأن من ينسحب عن فساد هذه الأمم ولا يلتصق بآلهتهم الوثنيَّة تقبله الجماعة. فراعوث الأمميَّة فاقت بالإيمان كثيرات من نساء الإيمان، صار لها سفر في الكتاب المقدَّس باسمها؛ وجاء السيِّد المسيح من نسلها، وذُكر اسمها في أنساب الرب.

إن كان عمون وموآب ابنا لوط قد عاشا بعيدًا عن الله، فإن نسليهما قد أكملا مكيالهما. فقد اتَّسم هذان الشعبان بسمتين خطيرتين في مواجهتهما لشعب إسرائيل، وهما العنف والحسد. ظهر العنف في رفضهم مساندة الشعب في البريَّة، وظهر الحسد في طلب موآب من بلعام أن يلعنهم، هذا الذي إذ فشل في رسالته قدَّم لهم خطَّة لمعثرة الشعب. لم يقدِّموا خبزًا وماء للشعب في وسط البريَّة، مع أن هذا واجب إنساني، خاصة وأنَّهم لم يطلبوا ذلك مجانًا، بل أرادوا دفع الثمن. رفضوا ذلك فقدَّم لهم الله الخبز من السماء والماء من الصخرة مجَّانًا. هكذا من يحرم نفسه من العطاء، إنَّما يحرم نفسه من التمتُّع بما لله في يوم الرب العظيم، إذ يقول لهم: "بما أنَّكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا" (مت 25: 45).

لقد طلب بنو موآب من بلعام أن يلعن شعب الله، وحوَّل الله اللعنة إلى بركة، لكن هذا لا يعفيهم من الشر الذي كمن في قلوبهم. وكما يقول المرتِّل: "أعطهم حسب فعلهم، حسب شر أعمالهم. حسب صُنع أيديهم أعطهم، رُد عليهم معاملتهم" (مز 28: 4).

يرى القدِّيس غريغوريوس النزينزي أن عدم السماح للموآبيِّين والعمونيِّين حق الدخول في بيت الله يشير إلى رفض استخدام البراهين السوفسطائيَّة المهلكة التي لحب الاستطلاع[252].

ما هو نصيب الأدوميِّين والمصريِّين؟

لقد رفض بنو عمون وبنو موآب أن يعبر الشعب بأرضهم لذا يجب ألاَّ يأتمنوا لهم [1-6]. أمَّا بنو آدوم والمصريُّون فقد استضافوهم في وقتٍ ما وإن كانوا بعد ذلك قد استعبدوهم، لذا يمكن أن يتمتَّعوا معهم بالعهد [7-8]. هكذا يليق بنا ألاَّ نتجاهل عملاً خيِّرًا قُدِّم لنا مهما بدا صغيرًا.

لئلاَّ بسبب ما قيل عن بني عمون وبني موآب يحمل الشعب روح الكراهيَّة نحو كل الشعوب يطلب منهم أن يأخذوا موقفًا لطيفًا مع بني آدوم ومع المصريِّين، إذ يقول:

"لا تكره أدوميًا، لأنَّه أخوك.

لا تكره مصريًا، لأنَّك كنت نزيلاً في أرضه.

الأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب" [7-8].

إن صار أدومي أو مصري دخيلاً، أي ترك أوثانه وقبل الإيمان بالله الحقيقي فإن لحفيده الحق في الدخول في جماعة الرب.

لقد قاومهم الأدوميُّون (عد 20: 20)، واستعبدهم المصريُّون، لكن يليق بالشعب أن ينسى هذا كله متى التقى الأدومي أو المصري بالله وثبت صدق إيمانه حتى الجيل الثالث، فيُقبل متذكِّرًا للأدومي أنَّه أخوه، وللمصري أنَّه استضافه يومًا ما في وطنه.

كثيرًا ما كان الله يذكرهم بعبوديَّتهم للمصريِّين لا ليُثير فيهم روح العداوة ضدَّهم، بل يتذكَّروا عمل الله الخلاصي العجيب. أمَّا بالنسبة للمصريِّين فيذكرون كيف فتحوا لهم بلدهم ليستضيفوهم حوالي أربعة قرون.

في اختصار طلب الله تقديس شعبه بالآتي:

أ. حرمان كل من يدنس نظرته نحو الجسد ويستهين بخلقة الله الصالحة من الشركة في العمل القيادي الروحي لجماعة الرب.

ب. من يحمل روح الكراهيَّة والحسد لأولاد الله، ومن يقدِّم معثرة لهم، ليس لهم نصيب في الشركة المقدَّسة.

ج. يليق بالجماعة المقدَّسة أن يحملوا روح الحب نحو الغير، ولا يتجاهلوا كل عمل صالح قُدِّم لهم ولو إلى حين، فيعاملونهم بالحب الممتزج بالحكمة.

2. جيش مقدَّس:

كان الشعب على وشك الدخول إلى أرض الموعد، حيث يدخلون في سلسلة مستمرَّة من المعارك ضد الكنعانيِّين، لهذا كان لزامًا وضع أسس خاصة برجال الجيش حتى يمكنهم التمتُّع بحياة الغلبة. لذلك بعد أن تحدَّث عن "جماعة الرب" وعن المحرومين من الدخول في الجماعة، وإمكانيَّة دخول الأدوميِّين والمصريِّين في جماعة الرب تحدَّث عن الجيش وتقديسه، فتحدث عن ثلاثة أنواع من التقديس.

أولاً: التقديس من الخطيَّة، "إذا خرجت في جيش على أعدائك فاحترز من كل شيء رديء" [9]. فالخطيَّة تسحب قلب الإنسان نحو الجبن، لأنَّها تربطه بالأرض والحياة الزمنيَّة. أمَّا برّ المسيح فيرفع قلبنا إلى السماء، ويهبه قوَّة تتحدَّى الموت. لهذا يليق بالمعارك الزمنيَّة أن تكون فرصًا حيَّة للدخول في معارك داخليَّة، فيتنقَّى الكل من كل شيءٍ شرِّير. بهذا يجتذبنا الكتاب المقدَّس نحو الله الذي يسمع صلوات الأبرار ويهبهم روح النجاح والنصرة. وكما يقول المرتِّل: "إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب... مبارك الله الذي لم يبعد صلاتي ولا رحمته عنِّي" (مز 66: 18، 20). لقد أكَّد صموئيل النبي للشعب أن تقديس القلب هو طريق النصرة، قائلاً: "إن كنتم بكل قلوبكم راجعين إلى الرب فانزعوا الآلهة الغريبة والعشتاروت من وسطكم وأعدُّوا قلوبكم للرب واعبدوه وحده، فينقذكم من يد الفلسطينيِّين" (1 صم 7: 3).

ثانيًا: تقديس طقسي روحي، مع التطهير من كل شر. يلزم أن يمارسوا الطقس الخاص بالتطهيرات، حتى إن كان الدنس لا إرادي كالاحتلام.

"إن كان فيك رجل غير طاهرٍ من عارض الليل يخرج إلى خارج المحلَّة لا يدخل إلى داخل المحلَّة.

ونحو إقبال المساء يغتسل بماء،

وعند غروب الشمس يدخل إلى داخل المحلَّة" [10-11].

لما كان الله قدُّوس يود أن يكون شعبه مقدَّسًا في الداخل والخارج، فإن رأى إنسان حلمًا أثاره لا شعوريًا فإن هذا لا يُحسب خطيَّة، لكن يليق به أن يغتسل حتى يكون جسده نقيًا، وأيضًا يغسل ثيابه كما جاء في (لا 15: 16): "إذا حدث من رجل اضطجاع زرع يرحض كل جسده بماء ويكون نجسًا إلى المساء؛ وكل ثوبٍ وكل جلدٍ يكون عليه اضطجاع زرع يُغسل بماء ويكون نجسًا إلى المساء".

ليس من حق الجندي وهو في وسط المعسكر إن احتلم أن يعطي لنفسه عذرًا فلا يطبق هذا القانون الخاص بتطهير جسده وثيابه، فإن المعركة تدفعه بالعكس لا إلى تجاهل الشريعة بل إلى التدقيق في تنفيذها. لينسحب في ذلك اليوم من المعركة ويتمِّم شريعة التطهير هذه لكي يقف الله في صف الجيش كله. بحسب الحسابات البشريَّة هؤلاء المحتلمون إذ ينسحبون يسبِّبون خللاً في الجيش فتقل قوَّة الجيش وقدرته، لكن بحسب الحسابات الإلهيَّة فإن انسحابهم تأكيد للاهتمام بقدسيَّة الشعب والجيش فيكون القدُّوس نفسه هو القائد وهو واهب النصرة.

إن كان هكذا يهتم الله بتقديس الكل حتى فيما يحدث لا شعوريًا كم بالأكثر يليق بالكل أن يكون مقدَّسًا في الجسد والفكر والأحاسيس.

بقوله: "ويكون لك موضع خارج المحلَّة لتخرج إليه خارجًا" [12] يؤكِّد أهميَّة النظافة داخل المحلَّة حفظًا للصحة والطهارة الشخصيَّة. إن حضور الرب في وسطهم حافز دائم على القداسة.

ثالثًا: طهارة طبيعيَّة. لتأكيد حضرة الله في وسط شعبه، خاصة أثناء معاركهم، التي هي معركته ضد إبليس وأعماله، أراد أن يكونوا طاهرين حتى من الضروريَّات، فلا يوجد في المحلَّة شيء قذر، إذ يقول:

"ويكون لك وتد مع عدَّتك لتحضر به عندما تجلس خارجًا وترجع وتغطِّي برازك.

لأن الرب إلهك سائر في وسط محلَّتك لكي ينقذك،

ويدفع أعداءك أمامك.

فلتكن محلَّتك مقدَّسة لئلاَّ يرى فيك قذر شيء فيرجع عنك" [13-14].

يتساءل البعض: كيف تهتم الشريعة الإلهيَّة بأمر كهذا، ينطق به العظيم في الأنبياء موسى؟

أ. لقد أراد تأكيد أن الطبيعة نفسها تعلِّمنا أن نميِّز أنفسنا عن الحيوانات، فيليق بنا أن نكون أنقياء في كل شيء.

ب. إن كان الله يهتم بتطهير القلب وتقديس الإنسان ككل، فإنَّه خلال الاهتمام حتى بنظافة الموضع ندرك مدى أهميَّة الطهارة والقداسة في عينيّ القدُّوس. إذ لم يُقصد بالحرب اغتصاب أرض أو ممتلكات بل تهيئة شعب الله كخميرة لتقديس الشعوب، لذا كان الإعداد لها لا بالمعدات الحربيَّة والتنظيمات العسكريَّة، إنَّما بالحياة المقدَّسة الداخليَّة والخارجيَّة كالنظافة.

ج. تكشف الشريعة ككل عن وحدة الحياة، فلا تفصل بين الشرائع التي تخص العبادة عن السلوك، ولا السلوك الأخلاقي عن السلوك فيما يخص الصحَّة العامة أو صحَّة الفرد، ولا الشرائع الخاصة بفترات الحرب عن تلك التي تخص حياة السلم. فالمؤمن إذ يحيا في الرب يهتم بكل جوانب حياته الروحيَّة والاجتماعيَّة والدراسيَّة والصحيَّة والوطنيَّة والأسريَّة. هي حياة واحدة لا تتجزَّأ.

د. تكشف الشريعة عن الحضرة الإلهيَّة حتى في لحظات الحرب: " الرب إلهك سائر في وسط محلَّتك" [14]. وكأن ما يشغل ذهن المؤمن حتى في اهتمامه بالجوانب الصحيَّة هو انشغاله بالله القدُّوس. فإن كان رئيس الكهنة يلتزم بوضع صحيفة ذهبيَّة منقوش عليها "قدس للرب"، فإن المؤمن إذ يشعر بحضرة الله في بيته يهتم بكل أثاثات البيت وكأنَّه ينقش عليها "قدس للرب". أينما وجد يشعر أنَّه كما في هيكل مقدَّس حيث يلتقي بالقدُّوس.

هـ. إن كان الله قد خلق العالم الجميل من أجل الإنسان، وقد أحب الإنسان العالم أكثر من خالقه، لهذا وهو يدعوه إلى جحد محبَّة العالم يسأله أن يحافظ على كل ما هو جميل في العالم. يود أن نعيش في جوٍ صحي بلا تلوث. أنَّنا نسمع الآن العالم يصرخ من تلوُّث البيئة، تلوُّث الهواء وتلوُّث المياه، وتلوُّث الطعام، وتلوُّث الأرض! هذا ما فعله الإنسان بعد أن تلوَّث قلبه بالخطيَّة، لوَّث العالم في جوانب متعدِّدة. أنَّنا نسمع اليوم عن تحذير لئلاَّ ننقل التلوُّث حتى إلى الكواكب التي نبعث إليها سفن فضائيَّة.

ليتنا بروح الرب نحفظ أعماقنا من كل تلوُّث فنشتاق أن نعيش حتى في عالمٍ بلا تلوُّث. الآن تقيم الدول وزارات خاصة بالبيئة لمعالجة كل تلوُّث! لنبدأ بنظافة الداخل ولا نتجاهل نقاوة الخارج أيضًا!

و. إن ما يفعله شخص واحد حتى وإن كان بنيَّة غير شرِّيرة قد يسيء إلى الجماعة كلها ويحزنها، بل وقد يحطِّمها. لهذا لاق بكل عضو أن يعمل ما استطاع من أجل نفسه بل من أجل الجماعة كلها.

3. العبد الهارب:

بعد أن تحدَّث عن التدقيق في الطهارة والنقاوة روحيًا وجسديًا وطقسيًا حتى في أمور الطبيعة الضروريَّة التي تبدو تافهة قدَّم لنا شرائع تكشف عن مدى تدقيق الإنسان في كل أمور الحياة. ابتدأ بالحديث عن العبد الأجنبي الذي يهرب من سيِّده بسبب ما يحل به من ظلم.

"عبدًا أبق إليك من مولاه لا تُسلِّم إلى مولاه.

عندك يقيم في وسطك في المكان الذي يختاره في أحد أبوابك حيث يطيب له.

لا تظلمه" [15-16].

واضح أن الشريعة الموسويَّة وإن كانت لم تلغِ نظام العبوديَّة لكنَّها بكل الطرق تحث المؤمن على الترفُّق بالعبيد ومعاملتهم كأخوة. إن كان الله قد أعطى الشعب أرض الموعد ملجأ لهم بعد أن حرَّرهم من عبوديَّة فرعون، فإنَّه يشتهي أن يقتدي شعبه به، فيفتحون قلوبهم وبيوتهم لكل نفس متألِّمة أو متضايقة.

هل من العدالة أن تحمي إنسانًا هاربًا؟

أولاً: لا يُفهم هذا القانون أنَّنا نحمي هاربًا من القانون، خاصة إن كان قد ارتكب جريمة ما، إذ يختم القانون بقوله: "لا تظلمه" ممَّا يدل على أنَّه يتحدَّث عن العبد الهارب من الظلم الذي كان يلاحقه.

ثانيًا: يرى البعض أن العبد هنا هارب من سيِّد وثنيٍ، من بلدٍ مجاورة، وقد جاء يحتمي في شعب الله ويتعبَّد لله حيث يجد سلامه الداخلي وراحته اللائقة في الله.

ثالثًا: يود الله من شعبه وأبنائه أن يكونوا ملجأ خاصة لمن هم في ضيقة، كحماية العبد الهارب من قسوة سيِّده، مع الاهتمام بالضعفاء المظلومين. وقد عرف ملوك إسرائيل بهذه الفضيلة كما يظهر من قول العبيد لبنهدد ملك الأموريِّين (1 مل 20: 30).

رابعًا: يرى البعض أن هذا التشريع يكشف عن مقاومة الله للعبوديَّة. ففي نفس السفر يشدِّد الله على المؤمن أن يرد كل ما هو مفقود لأخيه سواء كان عبرانيًا أو أمميًا، نجده يشدِّد ألاَّ يُرد العبد إلى سيِّده. فإنَّه ليس من حق الإنسان أن يملك إنسانًا ويستعبده. وقد سبق لنا الحديث عن نظرة الكتاب المقدَّس للعبوديَّة.

لا يقف الأمر عند عدم رد العبد لسيِّده، وإنَّما يلتزم المؤمن أن يُعد له مكانًا ليعيش ويعمل.

خامسًا: بينما يؤكِّد الكتاب المقدَّس أنَّه ليس من حق إنسانٍ أن يمتلك إنسانًا، أوضح أن الله وحده من حقِّه أن يمتلكنا له. "لأنَّكم قد أشتريتم بثمن فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 20). من يستعبد نفسه لله يتحرَّر داخليًا من كل عبوديَّة. وكما يقول القدِّيس أرسانيوس: "كن عبدًا لسيِّد واحدٍ خير من أن تكون عبدًا لسادة كثيرين".

4. رفض الفسق والنجاسة:

إن كان يليق بشعب الله أن يكون ملجأ حتى للعبد الهارب من الظلم، إلاَّ أنَّه يجب ألاَّ يكون ذلك للفاسق والنجس. فالدعارة مرفوضة تمامًا، وكل مكسب من خلال هذا العمل لن يُقبل كتقدمة لله القدُّوس [17-18].

"لا تكن زانية من بنات إسرائيل،

ولا يكن مأبون من بني إسرائيل.

لا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلى بيت الرب إلهك عن نذرٍ ما،

لأنَّهما كليهما رجس لدى الرب إلهك" [17-18].

لم يكن مسموحًا لإحدى بنات إسرائيل أن تبقى في وسط شعبها تمارس الزنا، ولا لأحد أبناء إسرائيل أن يمارس الشذوذ الجنسي، إذ يلزم بقاء الشعب "أمَّة مقدَّسة". عندما طلب أمنون بن داود من أخته ثامار أن تخطئ معه قالت له: "لا يا أخي لا تذلّني، لأنَّه لا يٌفعل هكذا في إسرائيل. لا تُعمل هذه القباحة" (2 صم 13: 12).

لا يُسمح لأجرة زانية أو لثمن فساد جنسي (ثمن الكلاب) أن يقدَّم لبيت الرب. هنا يشير إلى مرتكبي الفساد الجنسي بالكلاب كما جاء في سفر الرؤيا: "لأن خارجًا الكلاب والسحرة..." (رؤ 22: 15). هكذا لا يقبل الله تقدمة إنسانٍ فاسد، إذ "ذبيحة الأشرار مكرهة للرب، وصلاة المستقيمين مرضاته" (أم 14: 8). الله يريد القلب التائب الراجع إليه لا الذبائح والتقدمات بغير نقاوة قلب. الله لا يُكرَّم بما نقدِّمه له، لكنَّه يتمجَّد بحياتنا المقدَّسة فيه. لهذا لا يهتم بما نقدِّمه، بل بالقلب الذي يقدِّم هذه التقدمة. إنَّه لا يُرتشى بالمال والتقدمات.

يحذِّرنا الحكيم من المرأة الشرِّيرة التي تغوي الإنسان البسيط تحت ستار التديُّن، قائلاً: "فأمسكته وقبَّلته، أوقحت وجهها وقالت له: عليَّ ذبائح السلامة. اليوم أوفيت نذوري. فلذلك خرجت للقائك لأطلب وجهك حتى أجدك" (أم 7: 14-15).

على خلاف الجو الوثني المحيط بهم يطالبهم برفض الزنا ومضاجعة الذكور لحساب الهيكل. كان بعض الكاهنات يقمن بجوار معبد فينيس يقدِّمن أجسادهن مقابل أجرة تقدَّم لحساب الهيكل، وأن بعض المتعبِّدين من الجنسين النساء والرجال يقدِّمون أنفسهم للممارسات الشرِّيرة. وكما يقول هيرودت إن الرجاسات كانت جزءً لا يتجزَّأ من العبادة الوثنيَّة خاصة عبادة الإلهة عشتاروت[253]. وجاء في سفر ميخا عن العبادة الوثنيَّة في السامرة: "جميع أصنامها أجعلها خرابًا، لأنَّها من عقر الزانية جمعتها، وإلى عقر الزانية تعود" (مي 1: 7).

5. الربا:

لكي يكون الله حصنًا لشعبه، واهبًا إيَّاهم روح الغلبة والنصرة سألهم ليس فقط أن يتقدَّسوا في كل كبيرة وصغيرة، حتى في التقدمات التي يأتون بها إلى بيته. مع التقديس يطلب الحب المشترك بينهم، فبحبِّه قدَّم للشعب أرض الموعد، ليعيش الكل معًا بروح الشركة لا الطمع، ويشعر الكل أن ما بين أيديهم هو هبة إلهيَّة. لهذا منعهم من الربا متى احتاج الأخ أو الأخت أن يقترض مالاً أو طعامًا أو شيئًا ما.

"لا تُقرض أخاك بِرِبا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شيء ما ممَّا يُقرَض بربا.

للأجنبي تقرض بِرِبا،

ولكن لأخيك لا تقرض بِرِبا،

لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها"

[19-20].

رفض إقراض الأخ بِرِبا، لأنَّه يفترض أنَّه يطلب ذلك عن عوزٍ واحتياج. لهذا سألنا الرب ليس فقط لا نطلب الربا، بل ولا نطلب رد الدين، قائلاً: "وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردُّوا منهم، فأيّ فضل لكم، فإن الخطاة أيضًا يفعلون ذلك" (لو 6: 35). لقد أكد الرسول أنَّه ليس للطماعين أن يرثوا ملكوت الله (1 كو 6: 10).

بالنسبة للغرباء تقدِّم القروض بفوائد لأنَّه يُفترض أنَّه يطلب ذلك من أجل التجارة. فالنفع مشترك، حيث يتاجر الغريب بالمال، وينال اليهودي نصيبًا من ربحه خلال الفائدة.

6. عدم التسرُّع في النذور:

مع القداسة والحب يطلب أيضًا الجدِّيَّة فلا ينطق إنسان بكلمةٍ ما في تسرُّع، خاصة حين ينذر شيئًا للرب. وقد سبق فعالج موضوع الالتزام بالنذور في سفر العدد (ص 30).

"إذا نذرت نذرًا للرب إلهك فلا تؤخِّر وفاءه.

لأن الرب إلهك يطلبه منك فتكون عليك خطيَّته.

ولكن إن امتنعت أن تنذر لا تكون عليك خطيَّة.

ما خرج من شفتيك احفظ واعمل كما نذرت للرب إلهك تبرُّعًا كما تكلَّم فمك" [21-23].

لا يحتاج الله إلى النذور، لهذا لا تُحسب خطيَّة لمن يمتنع عن النذر، إنَّما يطلب الجدِّيَّة في كل كلمة تنطق بها الشفتان. لم يقل ما ينذر به قلبك بل ما "تكلَّم فمك"، لئلاَّ يتشكَّك أحد لمجرَّد وجود اشتياقات كثيرة نحو التكريس والعطاء ممَّا يستحيل على الإنسان أحيانًا تنفيذها. لهذا لم يرد أن يثقِّل على ضمير المؤمنين.

يقول الحكيم: "لا تستعجل فمك ولا يُسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله، لأن الله في السموات وأنت على الأرض، فلذلك لتكن كلماتك قليلة... إذا نذرت نذرًا لله فلا تتأخَّر عن الوفاء به، لأنَّه لا يُسر بالجهال، فأوفِ بما نذرته" (جا 5: 2، 4).

بكامل حرِّيتنا لنا أن ننذر أو نمتنع عن النذر، إذ لا يريد الله أن يثقِّل على أحدٍ. من ينذر فليفعل ذلك بفرح قلب، وليتمِّم ذلك. وقد جاء العهد الجديد يعلن بوضوح عن العطاء "كل واحدٍ كما ينوي بقلبه ليس عن حزنٍ أو اضطرار، لأن المعطي المسرور يحبُّه الله" (2 كو 8: 7).

7. حق الجيرة:

قانون الجماعة المقدَّسة هو الحب، فليس من حق إنسانٍ أن يعتدي على ممتلكات جاره أو حقله أو كرمه. إن جاع من حقِّه خلال الحب أن يأكل من حقل جاره، دون أن يحمل معه شيئًا، دون إساءة استغلال هذا الحق.

"إذا دخلت كرم صاحبك فكل عنبًا حسب شهوة نفسك شبعتك،

ولكن في وعائك لا تحمل.

إذا دخلت زرع صاحبك فاقطف سنابل بيدك،

ولكن منجلاً لا ترفع على زرع صاحبك" [24-25].

كانت الكروم والحقول في فلسطين مفتوحة للمشاة، وكان الثمر كثيرًا حتى يقدر من يريد أن يأكل ما يشاء.

هذا القانون تلتزم به بعض القبائل البدائيَّة، فمن حق أي عابر أن يميل على حقل ويأكل ويشبع دون أن يأخذ معه شيئًا. كما تلتزم به جماعات متمدِّنة كثيرة، فالعاملون في مصانع أطعمة أو شراب ما من حقِّهم أن يأكلوا أو يشربوا ممَّا في المصانع، لكن ليس من حقِّهم أن يحملوا شيئًا منه خارج المصانع. هذا وقد اشتهرت كنعان بفيض غلاَّتها وكرومها لهذا مهما أكل أو شرب الجار لن يمثِّل ذلك شيئًا بالنسبة للفيض الذي يقدِّمه الله لأصحاب الكروم والحقول.

عندما جاع التلاميذ ابتدأوا يقطفون سنابل ويأكلون، وإذ لاحظ الفرِّيسيُّون ذلك قالوا السيِّد المسيح: "هوذا تلاميذك يفعلون ما لا يحل فعله في السبت" (مت 12: 2؛ لو 5: 2). لم ينتقدوهم لأنَّهم أخذوا سنابل من الحقل، فهذا حق وهبته الشريعة للكل، لكنَّهم انتقدوهم لأنَّهم قاموا بالقطف فحسبوه حصادًا، وفركوه بأيديهم فحسبوه عملاً ممنوعًا في يوم السبت!

يرى اليهود أن هذه الشريعة قُدِّمت لفئتين: للعاملين في الحقول، فإنَّهم إذ يعملون من حقِّهم أن يشبعوا ويرتووا ممَّا هو بين أيديهم، وفئة المسافرين الفقراء حتى لا يخوروا في الطريق.

تحمل هذه الشريعة مبدأ هامًا وهو مع تدقيق الإنسان في حياته الروحيَّة يجب أن يتساهل مع اخوته في الأمور الماديَّة التي لا تستحق الانشغال بها، خاصة إن كان الأخ (أو الأخت) يمارس ذلك عن عوز وقدر احتياجه دون إساءة استخدام هذه المحبَّة وتلك البساطة.

تقدِّم هذه الشريعة أيضًا فرصة ليكون الإنسان سخيًا مع أخيه فيتركه في حقله أو كرمه يأكل أو يشرب بغير حدود، سوى ألاَّ يأخذ معه شيئًا أو يستغل وجوده في الحقل، فيضرب بمنجله السنابل ثم يترك ما جمعه يتبدَّد في الحقل. ففي الوقت الذي فيه تطلب الشريعة حبنا لقريبنا، تطلب من الغريب الالتزام وعدم إساءة حق الصداقة أو الجيرة فيعرف حدود ما يناله.


 

من وحيّ تثنيّة 23

جماعة مقدَّسة، وجيش مقدَّس، وبيت مقدَّس

v     هب لي أن أكون حريصًا على قدسيَّة جماعتك يا أيها القدُّوس!

أنت ترفض من يخصي ذاته عن ممارسة الكهنوت.

هب لي أن أكرم كل عضو في جسدي.

لم تخلق فيً شيئًا دنسًا.

أترقَّب، متى تعكس بهاءك على نفسي وجسدي، وكل كياني،

فأحمل شبهك وأصير أيقونة لك!

v     ليهرب منِّي كل فكر شهواني!

ولا يكون في داخلي عموني أو موآبي.

لأحمل الحب للكل بروح التمييز والإفراز.

أفتح قلبي لكل أدومي ومصري، فأقبلهم خلال حبَّك.

v     اخترتني جنديًا في جيش خلاصك.

ليتني أكون مدقِّقًا في طهارة قلبي وجسدي!

لاغتسل دائمًا بمياه حبَّك.

لأتقدَّس دومًا بدمك المطهِّر.

فتكون محلَّتك في داخلي كاملة النقاوة.

v     تقيم الدول وزارات للبيئة لمعالجة كل تلوُّث.

لتقم روحك القدُّوس مطهِّرًا إيَّاي من كل دنس.

هب لي أن أحيا بلا تلوُّث في الداخل والخارج.

فاشتم نسمات حبَّك النقي،

وأشرب من ينابيع مياهك الحيَّة التي لن يمسَّها تلوُّث!

تطلب نظافة أعماقي:

نظافة القلب والفكر والأحاسيس والمشاعر.

وتطلب نظافة الجسد بكل طاقاته،

وتسألني نظافة العالم المحيط بي،

فاحرص حتى على نقاوة الهواء الذي اشتمه،

والأرض التي أعيش عليها.

نظافتي جزء لا يتجزَّأ من الحياة البارة فيك يا أيُّها البار وحده.

v     لأكن جنديًا شجاعًا في المعركة الروحيَّة.

وأبًا حنونًا نحو كل عبدٍ مظلومٍ.

لتمتزج شجاعتي بحبِّي ولطفي.

v     أقمت هيكلك في داخلي!

لن أقدِّم فيه أجرة زانية ولا ثمن كلب.

لن أمزج عبادتي بدنس، ولا تقدمتي بفسادٍ ما.

اشتاق أن أقدِّم كل حياتي نذرًا لك.

في غير تسرُّعٍ اقبلها تقدمة حب لك.

v     هب لي أن أفتح حقل قلبي لكل إنسان.

هب لي حبًا لكل جارٍ وكل غريبٍ!

وإن استأجرت أحدًا لا انتظره يطلب أجرته،

بل أسرع بالحب وأقدِّم له حقّه.

v     في كل عمل أذكر دومًا المتضايقين،

وأراعي كل غريب ومحتاج!

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع والعشرون

سلامة الأسرة

مع شرائع أخرى

تحدَّث في الأصحاح السابق عن "جماعة الرب" وقدسيَّتها والحفاظ عليها. الآن يتحدَّث عن شرائع تمس الأسرة وكيانها، فيبدأ بالتضييق على الطلاق، والاهتمام بسعادة الأسرة حتى في فترات الحروب، والالتزام بمساندة الأسر الفقيرة والمحتاجة بطرق متنوِّعة. فقد اهتم بمن يضطرُّون إلى الرهن متحدِّثًا عنهم ثلاث مرَّات في هذا الأصحاح.

يمكن القول بأن هذا الأصحاح يحفظ حقوق الإنسان بوجه عام، كما يدافع عن حقوق المرأة في أمر الطلاق، وحقوقها في فترة عرسها (السنة الأولى من زواجها). كما يدافع عن حقوق المدينين الفقراء، وحقوق العمال الأجراء، وحق الإنسان في ألاَّ يٌعاقَب بسبب خطأ ارتكبه أقرب المقرَّبين إليه، وأخيرًا حق الإنسان في ممَّارسة الحريَّة.

1. الأسرة والطلاق                            [1-4].

2. الأسرة والتجنيد                             [5].

3. الأسرة والرهن                                       [6].

4. الأسرة ونظام العبوديَّة                      [7].

5. الأسرة والتذمُّر                             [8-9].

6. الأسرة والقروض                           [10-13].

7. الأجير والأجرة                              [14-15].

8. المسئوليَّة الشخصيَّة                        [16].

9. الأسرة والرهن                                       [17-18].

10. مراعاة المحتاجين أثناء الحصاد          [19-22].

1. الأسرة والطلاق:

لا يمكن الحفاظ على قدسيَّة جماعة الرب دون الاهتمام بقدسيَّة الأسرة والرباط الزوجي. يليق بالمؤمن أن يتطلَّع إلى الزواج في قدسيَّة ووقارٍ، حاملاً ذات فكر الله في هذا الشأن، الذي يرى الوحدة الأسريَّة يجب أن تكون أهم وأقوى وحدة تعرفها الأرض. من أجل قسوة قلوبهم سمح لهم موسى بالطلاق، حتى لا يرتكب أحد جريمة قتل للخلاص من زوجته، أو يبرِّر لنفسه أن يرتكب الزنا، فيسقط تحت الغضب الإلهي، ويتعرَّض هو ومن ارتكب معها الشر للرجم (إن كانت متزوَّجة). أمَّا في العهد الجديد حيث دخل الإنسان إلى النضوج فلم يُسمح بالطلاق إلاَّ لعلَّة الزنا (مت 19: 8-9).

لقد وضعت الشريعة حدودًا للطلاق من بينها القانون التالي:

"إذا أخذ رجل امرأة وتزوَّج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه،

لأنَّه وجد فيها عيب شيء وكتب لها طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته،

ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجلٍ آخر،

فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته،

أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتَّخذها له زوجة،

لا يقدر زوجها الأول الذي طلَّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجَّست.

لأن ذلك رجس لدى الرب.

فلا تجلب خطيَّة على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا" [1-4].

أمَّا ما وراء هذا القانون فهو:

أولاً: ألاَّ يتسرَّع الإنسان في طلب الطلاق لأي سبب، فالشريعة تستلزم أن لا يكفي أن ينطق بكلمة الطلاق، بل يلزمه أن يعلن ذلك كتابة، وأن يوقِّع على شهادة الطلاق شاهدان أو أكثر، وأن يسلِّم كتاب الطلاق للزوجة في يدها ويطلِّقها، أي يقدِّم لها احتياجاتها الماديَّة حتى لا يتسرَّع أحد بل يراجع نفسه. بجانب هذا فإنَّه إن طلَّق فليعلم أنَّه إن تزوَّجها أحد لن يمكنه الزواج منها إن طلَّقها الآخر أو حتى مات، مهما كانت الأسباب.

فيما يلي صورة من كتاب الطلاق الذي يكتبه الرجل لزوجته المطلَّقة[254]:

[في يوم... من الأسبوع، أو يوم... من الشهر...، في سنة... من خلقة العالم، أو من ملك (الإسكندر) بحسب عادتنا هنا في الموضع...، أنا فلان بن فلان من منطقة... بإرادتي الحرَّة، وبرغبة نفسي، دون أيَّة ضغوط، قد تركتكِ وتخليَّت عنكِ واستبعدتكِ يا فلانة ابنة فلان، من مدينة...، التي كنتِ زوجة لي، والآن أصرفكِ عنٍّي وأترككِ واستبعدكِ، فتكونين حرَّة، ولكِ سلطان على حياتك، وأن تتزوَّجي أي إنسان تريدين، وليس لأحد أن يرفضكِ بسبب اسمي من هذا اليوم وإلى الأبد. وهكذا يحق لكِ أن تكوني لأي إنسان. وهذا منِّي كتاب طلاق، كتاب لتخليتكِ ورسالة لاستبعادكِ، وذلك بحسب شريعة موسى وإسرائيل].

ثانيًا: يؤكِّد حق الزوجة المطلَّقة أن تتزوَّج، فيُحسب الرجل الأول بالنسبة لها كأنَّه مات، لهذا لا يجوز لها الالتصاق به بعد اتِّحادها برجل آخر، فتكون كمن التصقت بجثمان ميِّتٍ، ويحسب ذلك دنسًا.

ثالثًا: يرى البعض أن هذا القانون صدر لمنع بعض العادات الدنسة كتلك التي كان بعض المصريِّين يمارسونها، إذ كان الرجال يتبادلون الزوجات فيما بينهم. فخشية أن يطلِّق رجلان زوجتيهما ليقبل كل منهما زوجة الآخر إلى حين ثم يطلِّقاهما، ويعودان فيتزوَّجان كل واحدٍ من زوجته الأولى، فيصير الزواج والطلاق وسيلة لتحقيق هذا السلوك الدنس تحت ستار شريعة الطلاق. لذلك رفضت الشريعة الزواج نهائيًا بالزوجة الأولى متى التصقت بآخر. بهذا يدرك الرجل أن المرأة ليست ألعوبة في يده، يستطيع أن يطردها في أي وقت، ويستردَّها متى شاء، إنَّما لها كيانها البشري وشخصيَّتها التي يلزم أن يُقدِّرها الزوج.

رابعًا: يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن الشريعة لم تمنع الرجل الذي يبغض زوجته من أن يطردها ويتزوَّج أخرى، لكنَّه يلتزم أن يعطيها كتاب طلاق، ولا يجوز له أن يردَّها مرَّة أخرى حتى إن مات رجلها الثاني أو طلَّقها. والسبب في هذا أن الشريعة خشيت من أن يلتزم الرجل ببقاء الزوجة التي يبغضها فيقتلها، لأنَّه هكذا كان حال اليهود في ذلك الحين. كانوا يقتلون الأنبياء ويسفكون الدم كالماء (مز 79: 3). فطرْد الزوجة المكروهة أقل شرًا من قتلها. أمَّا علَّة عدم إعادتها فذلك لكي يُدرك الكل أنَّه يليق بقاء الزواج وعدم فسخه، فيلزم على الرجل قبل أن يطرد زوجته ويطلِّقها أن يراجع نفسه مرَّات لأنَّها لن تعود إليه[255]].

خامسًا: اختلف المفسِّرون اليهود في تفسيرهم للعبارة: "لأنَّه وجد فيها عيب شيء" [1]. ففي رأي مدرسة هلليل Hillel أن الرجل يمكنه أن يطلِّق زوجته لأي سبب يرى أنَّه غير لائق[256]. ففي أيَّام السيِّد المسيح جاءه الفرِّيسيُّون يتساءلون: "هل يحل للرجل أن يطلِّق امرأته لكل سبب" (مت 19: 3). أمَّا مدرسة شمعي Shammai فعلى النقيض رأت أنَّه ليس من حق الرجل أن يطلِّق زوجته إلاَّ لعيب قوي فيها مثل ارتكاب خطيَّة الزنا[257]. وإن كان لا يمكن تفسير العيب هنا بارتكاب الزنا، لأن هذه الخطيَّة عقوبتها الرجم لا الطلاق.

2. الأسرة والتجنيد:

بكل وسيلة أوضح الله كراهيَّته للطلاق، مشتاقًا ألاَّ يحدث في وسط شعبه، وفي نفس الوقت أعطى اهتمامًا عظيمًا لسلامة الأسرة وسعادتها، لهذا أعفى المتزوِّج حديثًا من واجب الجنديَّة لكي يقضي السنة الأولى مع زوجته في حياة سعيدة. أساس سعادة المجتمع كله هو الأسرة. فالأسرة المتهلِّلة تبعث روح الفرح على من حولها.

"إذا اتَّخذ رجل امرأة جديدة فلا يخرج في الجند،

ولا يُحمل عليه أمر ما.

حُرًا يكون في بيته سنة واحدة،

ويسر امرأته التي أخذها" [5].

لا يُسمح بالمتزوِّج حديثًا أن يشترك في حرب خلال السنة الأولى من زواجه لعدَّة أسباب منها:

أولاً: كما سبق فرأينا سابقًا استبعاد الأشخاص المشغولين بأمور تتملَّك على أفكارهم وقلوبهم ممَّا قد تسبب لهم خوفًا أو جبنًا أثناء المعركة.

ثانيًا: حفاظًا على سلامة الأسرة ووحدتها، فالإنسان في السنة الأولى كثيرًا ما يجد مشاكل في حياته الزوجيَّة حيث لم يتعرَّف الطرفان بعد على قبول إرادة الآخر وإدراك مفاهيمه كما يجب، فخروج الرجل للحرب مدَّة طويلة قد يسبب برودة في المحبَّة الزوجيَّة، أو يجد أحدهما ذلك فرصة لعدم العودة إلى الحياة الزوجيَّة.

ثالثًا: إذ كان يليق بكل شعب الله أن يكونوا طاهرين، ليس لهم خبرة في العلاقات الجسديَّة قبل الزواج، لهذا عند زواجهم تصير لهم خبرة جديدة يصعب الخلاص منها. فإن استدعى الرجل إلى الجيش يجد صعوبة للحياة بدون علاقة جسديَّة فيسقط في حب أيَّة سيِّدة يلتقي بها أثناء الحرب، خاصة إن غَلب جيشه وأسر بعض النسوة. وأيضًا قد تجد العروس التي تركها عريسها صعوبة أن تسلك بطهارة في هذه الفترة الحرجة.

رابعًا: غاية عدم خروج الرجل إلى الحرب ليس الهروب من المعركة، ولا الخوف من الموت، إنَّما يلزمه أن يصنع ما في وسعه لإسعاد زوجته.

خامسًا: يعتبر الله السنة الأولى من الزواج "حفل عرس مستمر"، لن يتكرَّر، لهذا يحرص الله بنفسه على الحفاظ عليه وتحصينه، حتى يبقى العروسان في فترة من الفرح والبهجة تسندهما كل أيَّام حياتهما. أنَّها بداية حياة جديدة، يحرص الله أن يرويها بمياه الفرح والسرور، كي يجد الله نفسه راحة فيها. وكأن فرح العروسين هو موضع سرور الله نفسه.

سادسًا: هذا الحفل المستمر لمدَّة سنة كاملة له حدوده. فهو ليس بالحفل الذي يبعث روح الكسل وعدم الالتزام، إنَّما هو حفل مؤقَّت يؤسِّس بيتًا مقدَّسا يعمل فيه الرب ويمارس العروسان دورهما بكل جديَّة. فمع أهميَّة حياة الفرح يلزم أن يرتبط الفرح بالحكمة؛ والسعادة بالعمل والالتزام بالمسئوليَّة.

سابعًا: كما يليق بالمؤمن أن يعمل لحساب الجماعة، باذلاً حتى حياته من أجلها، يليق بالدولة أيضًا أن تهتم بكل عضوٍ فيها، تهتم بالعروس المتزوَّجة حديثًا، بنفسيَّتها وسعادتها واستقرار بيتها.

3. الأسرة والرهن:

عدم رهن ضرورات الحياة حتى لا نحطِّم حياة اخوتنا.

"لا يسترهن أحد رحى أو مرداتها لأنَّه إنَّما يسترهن حياة" [6].

خلق الله الإنسان وأوجده في الجنَّة يعمل في الأرض (تك 2: 5). فمن يحرم إنسانًا من العمل إنَّما يحرمه من حياته الإنسانيَّة التي وهبه الله إيَّاها. ومن يحرم نفسه من العمل لا يأكل (2 تس 3: 10). لهذا يليق بالدائن ألاَّ يسحب من المدين أدوات عمله، بل على العكس يشجِّعه على العمل لا ليسد الدين فقط، وإنَّما لكي يأكل ويُعطي المحتاجين. وكما يوصينا الرسول بولس حتى بالنسبة للصوص: "لا يسرق السارق في ما بعد، بل بالأحرى يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يُعطي من له احتياج" (أف 4: 28).

كان رهن الرحى أو الجزء العلوي منها حيث يثبت فيه يد خشبية لتحريكه، بدونه يصير الحجر السفلي بلا قيمة، عاديُا، بسبب الفقر المدقع. الرحى هنا هي طاحونة صغيرة يستخدمها شخص، غالبًا ربَّة البيت، لطحن كميَّة من الغلال تكفي لعمل خبزٍ لمدَّة يوم واحد للعائلة. لهذا فمن يسترهن الرحى يحرم الأسرة من الطعام الضروري اليومي ألا وهو الخبز، فيكون قد حرم الأسرة كلها من حق الحياة.

ولعلَّه يقصد هنا بالرحى أنَّها خاصة بشخص عمله طحن الغلال للشعب مقابل أجرة. فهو يمنع الشخص من أن يطلب ضمانًا فيه يفقد المقترض إمكانيَّة العمل، كأن يطلب فأس النجار، أو ثوري صاحب المحراث، أو كتاب الدارس. فليس عمل الدائن أن يحطِّم إمكانيَّة المدين بل أن يسنده لكي يعيش ويقتات هو وأسرته.

 في كل العصور وفي كل الأمم الغنى قوَّة يمكن أن تكون للبنيان أو للهدم. فالغني الذي يراعي أخاه الفقير يستخدم إمكانيَّاته للخير. أمَّا من يحوِّله الغني إلى الطغيان واستغلال السلطة يكون كمن يهدم نفسه ويفترس اخوته الفقراء.

4. الأسرة ونظام العبوديَّة:

بحسب الشريعة من يسرق شيئًا ما يستحق العقوبة، لكن ليس عقوبة الإعدام، أمَّا من يسرق إنسانُا أو طفلاً ويبيعه عبدًا فهذه جريمة كبرى عقوبتها الإعدام.

"إذا وُجد رجل قد سرق نفسًا من اخوته بني إسرائيل واسترقَّه وباعه يموت ذلك السارق،

فتنزع الشر من وسطك"

خطف الناس عند الساميِّين كان عادة سببًا لإراقة الدماء، وعاقبتها شريعة حمورابي بالقتل. من يحرم إنسانًا من حريَّته الإنسانيَّة يكون كمن قتله، فيستحق القتل.

5. الأسرة والتذمُّر:

حرصت الشريعة على استقرار الأسرة وتمتُّع كل عضو بالطمأنينة والحريَّة، كما اهتمَّت بروح الطاعة بغير تذمُّرٍ. لهذا إذ يشير إلى شريعة الأبرص يذكِّرنا بما حلَّ بمريم أخت هرون عندما تذمَّرت على أخيها موسى (عد 12: 14).

"احرص في ضربة البرص لتحفظ جدًا وتعمل حسب كل ما يعلِّمك الكهنة اللآويِّين.

كما أمرتهم تحرصون أن تعملوا.

أذكر ما صنع الرب إلهك بمريم في الطريق عند خروجكم من مصر" [8-9].

ذكر هنا موضوع ضربة البرص، لأنَّه بحسب الشريعة يلتزم الكاهن أن يدخل البيت ويفحص ما فيه لئلاَّ تنتقل العدوى إلى بقيَّة الأسرة، أو لئلاَّ يسقط البيت المضروب بالبرص (المصابة أساساته بخلل) فتموت كل الأسرة (لا 14: 33-53).

دخول الكاهن إلى البيت لا يُعتبر اقتحامًا لخصوصَّات الإنسان، لأنَّه كممثِّل لله يحمل أُبوَّة وحبًا. ثانيًا لأنَّه لا يدخل البيت كقاضٍ ولا ليُشهِّر بالأسرة، بل لكي يحفظ كل شيء مقدَّسًا، ولحماية الأسرة من الضرر.

6. الأسرة والقروض:

عاد مرَّة أخرى ليتحدَّث عن الرهن مقابل القروض. ففي الآية [6] حذَّر من رهن ما هو ضروري للقوت اليومي أو الحياة اليوميَّة كرهن الرحى. هنا يحذِّر من جرح مشاعر الإنسان الذي يقترض منه، فلا يدخل البيت ليرتهن شيئًا حتى لا يجرح حياء المدين، بل يبقى خارجًا. وإن كان فقيرًا ليس لديه سوى ثوب واحد للنوم، يلزم أن يردُّه عند الغروب حتى لا يبرد المدين.

"إذا أقرضت صاحبك قرضًا ما، فلا تدخل بيته لكي ترتهن رهنًا منه.

في الخارج تقف، والرجل الذي تقرضه يُخرج إليك الرهن إلى الخارج.

وإن كان رجلاً فقيرًا فلا تنم في رهنه.

ردّ إليه الرهن عند غروب الشمس، لكي ينام في ثوبه ويباركك،

فيكون لك برّ لدى الرب إلهك" [10-13].

البيت هو قلعة الإنسان، خاصة الفقير، يشعر أن الله يستر عليه به، فدخول المقترض بيت المدين ليرهن ممَّا لديه يشعره كأن قد فقد أمانه. إن كان المدين بسبب شدَّة احتياجاته يرهن بعض لوازم بيته، يليق بالدائن ألاَّ يهين كرامة المحتاج، لأن دخول بيت المدين وأخذ الرهن يُحسب في بعض البلاد بالشرق الأوسط امتهانًا لكرامته البشريَّة.

بهذا التشريع يعطي الله درسًا للدائن الغني نفسه، ليس فقط في مراعاته لكرامة أخيه المحتاج وإنَّما في نظرته لأسرته هو. بعض الأغنياء يهتمُّون بالمال ويتجاهلون وحدة الأسرة وسلامها وسعادتها. فإن كان الغني يلتزم بمراعاة أسرة الفقير، يلزمه بالأكثر أن يهتم أيضًا بأسرته هو، ووحدتها وقدسيَّتها.

يعلمنا القانون الإلهي أن نحرص على خصوصيَّات privacy الفقير، فلا نقتحم بيته، مهما تكن الظروف.

في منطقة الشرق الأوسط يمكن للفقير أن يستغني عن ثوبه الخارجي أثناء عمله في النهار، خاصة في الزراعة أو الأعمال اليدويَّة كالنجارة والبناء الخ. لكنَّه لا يقدر أن يستغني عنه في الليل حيث يستدفئ به، حتى في فصل الصيف، إذ كثيرًا ما يكون النهار حارًا والليل باردًا في المناطق الصحراويَّة.

إذ وبَّخ الله إسرائيل على شروره قال: "ويتمدَّدون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبح" (عا 2: 8).

7. الأجير والأجرة:

كما يهتم الإنسان بأسرته يلزمه أن يهتم بعائلات الأجراء العاملين لديه في حقوله أو أعماله. فيكون عادلاً وسخيًا معهم، وحريصًا على مشاعرهم، فلا ينتظر من العامل أن يطلب أجرته في نهاية اليوم، بل يسرع هو بالعطاء.

"لا تظلم أجيرًا مسكينًا وفقيرًا من اخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك.

في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس،

لأنَّه فقير وإليها حامل نفسه،

لئلاَّ يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة" [14-15].

يليق ألاَّ يظلم صاحب العمل الأجراء بالضغط عليهم بأعمال فوق قدراتهم، أو باستخدام ألفاظ غير لائقة وإهانتهم فيكون ظالمًا لهم. وكما يقول الرسول: "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ، وصياح الحصَّادين قد دخل إلى أذني رب الجنود" (يع 5: 4). إنَّها خطيَّة عظمى أن يتجاهل إنسان حق أخيه ولا يراعي نفسيَّته. لذلك إذ يصرخ قلبه من المرارة يستمع الرب نفسه إليه.

لا تميِّز الشريعة بين أجير إسرائيلي أو أجنبي، فإنَّه يليق بالمؤمن ألاَّ يظلم أحدًا قط، خاصة الفقراء والمحتاجين، بغض النظر عن جنسيَّته أو ديانته، فالرحمة والحب هما من سمات المؤمنين الحقيقيِّين.

8. المسئوليَّة الشخصيَّة:

كانت العادة لدى الأمم الوثنيَّة أن تسقط عقوبة مرتكب الجريمة على الأسرة كلها[258]. حقًا لقد هدَّد الله شعبه بأنَّه يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيه (خر 20: 5)، لكي يحذِّرهم من ثمار الخطيَّة المُرَّة وأثرها على الأبناء والأحفاد، ولكي يردعهم لأن الإنسان أحيانًا لا يبالي بالعقوبة التي تحل عليه، لكنَّه يخشى جدًا أن تحل على أولاده وأحفاده. يلزم ألاَّ يستغل القضاة هذا التهديد الإلهي ويظنُّون أن في سلطانهم معاقبة أحد أفراد الأسرة من أجل عضو آخر فيها.

إذ يتعرَّض للحياة الأسريَّة تؤكِّد الشريعة للقضاة ألاَّ يُعاقب عضو من الأسرة بسبب عضو آخر، إنَّما يلتزم كل واحد أن يتحمَّل مسئوليَّة نفسه.

"لا يُقتل الآباء عن الأولاد،

ولا يُقتل الأولاد عن الآباء.

كل إنسان بخطيَّته يُقتل" [16].

طبَّق أمصيا بن يوآش ملك يهوذا هذا المبدأ، فقد "قتل عبيده الذين قتلوا الملك أباه، ولكنَّه لم يقتل أبناء القاتلين حسب ما هو مكتوب في سفر شريعة موسى حيث أمر الرب قائلاً: لا يُقتل الآباء من أجل البنين، والبنون لا يُقتلون من أجل الآباء" (2 مل 14: 6).

اهتم حزقيال النبي بالحديث عن المسئوليَّة الشخصيَّة في شيء من التفصيل في الأصحاح 18.

9. الأسرة والرهن:

للمرَّة الثالثة يتحدَّث هنا عن الحذر عند الرهن.

"لا تعوِّج حكم الغريب واليتيم،

ولا تسترهن ثوب الأرملة.

واُذكر أنك كنت عبدًا في مصر ففداك الرب إلهك من هناك.

لذلك أنا أوصيك أن تعمل هذا الأمر" [17-18].

يليق بالقضاة ألاَّ يعوِّجوا الحكم بل يكونوا سندًا للغرباء والأيتام في الحق، يدافعون عنهم حيث لا يجدون أصدقاء يسندونهم في ضعفهم. يذكِّرهم الله بحالهم كعبيدٍ في مصر، فإذ ذاقوا الذل يلزمهم أن يدافعوا عن من هم في مذلَّة. فإن البعض، خاصة الذين عانوا من الحرمان متى تسلَّموا مركز قيادة عوض مشاركتهم للمحرومين ومساندتهم يكونون قساة. يوجد مثل عام يقول: ضع شحَّاذًا على ظهر خيل فيقوده إلى إبليس.

10. مراعاة المحتاجين أثناء الحصاد:

جاءت القوانين هنا تراعي مشاعر كل إنسانٍ، وجاء الناموس يبث بكل وسيلة وفي كل مناسبة روح الحب والحنو نحو البشريَّة، خاصة نحو المحتاجين والغرباء. أينما وجد المؤمن وفي كل الظروف يلزمه أن يتذكَّر الفقراء ويعمل لمساندتهم. فالمعطي يقدِّم العطاء دون جرح مشاعر المحتاجين أو الغرباء. وقد جاء القانون هنا تكملة لما ورد في سفر اللآويِّين (19: 9؛ 23: 22). فقد نهى الرب الحصَّادين من أن يكمِّلوا زوايا حقولهم في الحصاد، أو يلتقطوا ما يسقط من حصادهم، أو يعلِّلوا كرومهم، بل يتركون ذلك للمسكين والغريب. هنا نجد الاهتمام بالغريب واليتيم والأرملة دون جرح مشاعرهم، فإذا نسي الإنسان حزمة في الحقل لا يرجع ليأخذها، كما يلتزم أن يترك بعض الثمار في الأشجار (24: 19-21).

"إذا حصدت حصيدك في حقلك ونسيت حزمة في الحقل، فلا ترجع لتأخذها.

للغريب واليتيم والأرملة تكون، لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يديك.

وإذا خبطت زيتونك، فلا تراجع الأغصان وراءك.

للغريب واليتيم والأرملة يكون.

وأذكر أنَّك كنت عبدًا في أرض مصر.

لذلك أنا أوصيك أن تعمل هذا الأمر" [19-22].

هكذا نلاحظ في كل الشرائع الواردة في هذا الأصحاح يهتم الله ببث روح الحب واللطف مع العدل والبرّ والإرادة الصالحة بين البشريَّة، خاصة في الأسرة، لتكون خميرة مقدَّسة تخمر العجين كله، مع الاهتمام بالفقراء والمحتاجين والغرباء. هذا هو الخيط الذهبي الذي يربط الوصايا كلها معًا، ليس في سفر التثنيَّة وحده، بل على مستوى الكتاب المقدَّس كله.

خلال هذا القانون يتعلَّم الإنسان ألاَّ ينشغل باستمرار فيمن سينال العطاء، إذ يترك العناية الإلهيَّة تقود حياته وعطاياه، حتى فيما يبدو تافهًا كنسيانه حزمة في حقل أو بقايا زيتون على الشجرة.

 

 


 

من وحيّ تثنيَّة 24

هب لي أسرة مقدَّسة

v     أبوَّتك الحانية تحتضنِّي على الدوام،

تهبني من كنيسة السماء أُمَّا لي،

ومن الملائكة اخوة أحباء!

يا لها من أسرة سماويَّة عجيبة.

أقمت من الأسرة هنا أيقونة لأسرة السماء.

لا تستطيع قوَّات الظلمة أن تتسلَّل إليها.

v     في القديم سمحت للرجل من أجل قسوة قلبه أن يطلِّق امرأته،

لكنَّك بقيت قلعة للأسرة،

ومدافعًا عن المرأة المطلَّقة!

الإنسان في غباوته يريد زوجته ألعوبة في يده،

وأنت الخالق تكرم كل رجل وامرأة!

هب لي أسرة مقدَّسة متَّحدة فيك.

لا تستطيع قوَّات الظلمة أن تتسلَّل إليها.

v     كل عروس تحلم بالشهر الأول من زواجها.

أمَّا أنت فأقمت من السنة الأولى حفل عرس دائم.

تريدنا أن نكون في فرح أسري لا ينقطع.

لكنَّه ليس فرح التهاون والتراخي،

بل فرح الإعداد للعمل والالتزام بالمسئوليَّة.

لم تسمح للمتزوِّج حديثًا أن يشترك في حربٍ ما.

لأختبر الاتِّحاد الزيجي الروحي، فترتبط نفسي بك.

وأصير جنديًا مجاهدًا بالحق.

v     كثيرون يشتهون أن يستعبدوا اخوتهم،

يشترونهم ويبيعونهم من أجل ربح زمني!

أمَّا أنت فصرت من أجل العبيد عبدًا،

سلَّمت ذاتك للخائن كعبدٍ مباع،

ووهبت العبيد حرِّيَّة أبديَّة!

أنت وحدك محرِّر النفوس.

لأتذوَّق عذوبة الحياة الأسريَّة،

فاشتاق أن يختبر الكل ما أحياه.

فلا أَسلب من أسرة إنسانًا وأبيعه للشرّ،

فأصير في عينيّ الله كقاتل نفس.

v     هب أن يكون لكل أسرة موضع خاص في قلبي.

إن اقترضت لا أرتهن شيئًا من ضروريَات حياتها.

ولا أجرح مشاعرها.

v     أنت أب الأيتام وقاضي الأرامل.

أنت قلعة المتألِّمين والمتضايقين.

أنت نصير العمَّال الأجراء المساكين.

أنت المترفِّق بالمدينين غير المقتدرين.

أنت مشغول بكل محتاج وفقير.

هب لي حبَّك، فأحمل روح لطفك!

هب لي فكرك، فأعيش من أجل الغير!

هب لي برَّك، فلا أظلم أحدًا.

أنت الحب كله، أنت البرّ ذاته،

لأقتنيك يا مصدر كل صلاح!

<<

 

 

 


 

الأصحاح الخامس والعشرون

شرائع مختلفة

امتدادًا للأصحاح السابق يُعلن الله اهتمامه ورعايته للفئات المتألِّمة حتى وإن كان الإنسان تحت العقاب. فيضع حدًا لعقوبة الجلد، ويهتم بالثور الدارس حتى لا يَكُمّ الفلاح فمه، كما يهتم بحماية الأرملة وإقامة نسل للميِّت الذي بلا نسل ليقيم اسمه. وفي نفس الوقت يقدِّم هذا الأصحاح مجموعة من الشرائع المختلفة غايتها تأكيد الاهتمام بتقديس الجماعة المنتسبة للرب.

1. أربعون جلدة                      [1-3].

2. لا تّكُمّ ثورًا دارسًا                 [4].

3. إقامة نسلٍ للميِّت                  [5-10].

4. المرأة التي بلا حياء               [11-12].

5. الغش في الموازين                [13-16].

6. تدمير عماليق                     [17-19].

1. أربعون جلدة:

تبدو الشريعة قاسيَّة للغاية مع المخطئين، إذ تبلغ العقوبة إلى درجة الرجم، لكنَّها لا تتطلَّع إلى العقوبة كغاية في ذاتها، ولا تحمل روح الانتقام، بل تنظر حتى إلى المجرم كأخ (2 تس 3: 15). يجب الترفُّق به ما أمكن دون مجاملة على حساب خلاص نفسه وخلاص اخوته. لقد تعاملت الشريعة مع الشعب اليهودي كأطفال صغار يحتاجون أحيانًا إلى الحزم الشديد حتى لا تتحطَّم رسالتهم الجماعيَّة أو الشخصيَّة.

"إذا كانت خصومة بين أناس وتقدَّموا إلى القضاء ليقضي القضاة بينهم،

فليبرِّروا البار، ويحكموا على المذنب.

فإن كان المذنب مستوجب الضرب يطرحه القاضي،

ويجلدونه أمامه على قدر ذنبه بالعدد.

أربعين جلده لا يزد،

لئلاَّ إذا زاد في جلده على هذه ضربات كثيرة يُحتقر أخوك في عينيك" [1-3].

كانت عقوبة الضرب عادة بالعصا (خر 21: 10؛ 2 صم 7: 14؛ أم 10: 13)، وهي لا تزال مستخدمة في الشرق الأوسط، حيث يُلقى الشخص على الأرض ويضرب على قدميه بالعصا. وأحيانًا يضرب بالشوك (قض 8: 16-17)، وأخرى بالسوط العادي أو به عقد صلدة (1 مل 12: 11، 14).

في هذه الآيات قُدِّمت المبادئ التاليَّة:

أولاً: يجب مواجهة المتَّهم بواسطة من يتَّهمه في حضرة القضاة، حتى يمكن التحقُّق من الأمر واكتشاف الحقيقة، فيكون كل شيءٍ في النور، ولا يتسلَّل الالتواء إلى القضاء.

ثانيًا: يجب تبرئة البار.

ثالثًا: يُحسب دنسًا من يبرِّئ المجرم، أو من يجرِّم البريء (أم 17: 15). يقول الرسول بولس: "إن فعلت الشرّ فخف، لأنَّه لا يحمل (السلطان) السيف عبثًا، إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر" (رو 13: 4). ويقول الرسول بطرس: "إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر، وللمدح لفاعلي الخير" (1 بط 2: 14).

رابعًا: تصدر العقوبة حسب جرم الإنسان وخطورته، فإن كان لا يستحق الإعدام أو الرجم عندئذ غالبًا ما يحكم بجلده، وتكون الجلدات حسب نوع الجريمة. لا يُعفي من الجلد إنسان بسبب رتبته أو مركزه الاجتماعي أو غناه.

خامسًا: غالبًا ما تنفَّذ العقوبة بوقارٍ ديني هادف، ولا تزيد عدد الجلدات عن أربعين جلدة. كان اليهود يفضِّلون أن يصدر الحكم أربعين جلدة إلاَّ واحدة (2 كو 11: 24)، لئلاَّ يحدث خطأ فيجلد إنسان أكثر من أربعين جلدة. وغالبًا ما كان السوط يحمل ثلاثة فروع، ويُضرب الإنسان 13 مرة فتكون المحصلة 39 جلدة. وضع حدود لعدد الجلدات يؤكِّد عدم معاملة المخطئ كعبدٍ أو كحيوان، لئلاَّ يسقط المؤدَّب في حالة إحباط ويظن أنَّه مُحتقر من الجميع ولا رجاء في إصلاحه. هكذا يهتم الله بنفسيَّة كل أحد. الله لا يُريد قتل المخطئ ولا تحطيمه، فهو يفصل بين الخطيَّة والخاطئ. يطلب قتل الخطيَّة وسحقها، مع إنقاذ الخاطئ وإصلاح أمره.

كان رئيس المحكمة يقرأ بصوتٍ عالٍ (تث 28: 58-59؛ 29: 9) أثناء عمليَّة الجلد، ويختم ذلك بمزمور (78: 38)، لتأكيد أن العقوبة غايتها لا الانتقام بل نفع المخطئ وبنيان الآخرين. يقول Trapp أن الأتراك إذ يجلدون بالسياط الشخص بقسوة يلتزمون بالرجوع إلى القاضي الذي أصدر الأمر ويقبلون يده، ويشكرونه، ويدفعون مالاً للضابط الذي قام بضربه بالسياط[259].

سادسًا: يتم تنفيذ الحكم في وجود من أصدر الحكم، حتى لا يتهاون المنفذون للحكم ولا يبالغون فيه، فتتحقَّق العدالة.

سابعًا: بقوله: "لئلاَّ يُحتقر أخوك في عينيك" [3]، تكشف عن اهتمام الله بكرامة الإنسان ليس فقط في عينيّ أخيه، بل في نظرة السماء إليه. فالمحاكمة التي تتم على الأرض وبواسطة قضاة بشريِّين يجب أن تكون صدى لعمل سماوي غايته عزل الشر لا الشرِّير، وإبادة الخطيَّة لا الخاطئ، وتحطيم الفساد مع تمجيد التائب على مستوى سماوي أبدي. قد يحكم عليه بالضرب أو الجلد لكي ما تقدِّمه الجماعة حجرًا كريمًا لله!

2. لا تّكُمّ ثورًا دارسًا:

"لا تّكُمّ الثور في دراسه" [4]. لا يجوز للفلاح أن يَكُمّ ثورًا دارسًا، بل أن يترك له الفرصة ليأكل وهو يعمل. يرى القدِّيس بولس أن هذا النص يشير هنا إلى خادم المذبح الذي من المذبح يأكل. إذ يجب تقديم احتياجات العاملين حتى في الكرازة بالإنجيل ليخدموا دون ارتباك بالأمور الماديَّة. يقول الرسول:

"ألعلَّ الله تهمُّه الثيران؟!

أم يقول مطلقًا من أجلنا. أنَّه من أجلنا مكتوب. لأنَّه ينبغي للحرَّاث أن يحرث على رجاء، وللدارس على الرجاء أن يكون شريكًا في رجائه.

إن كنَّا نحن قد زرعنا لكم الروحيَّات، أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديَّات؟!

ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدَّسة من الهيكل يأكلون؟!

والذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح؟!

هكذا أيضًا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون" (1 كو 9:9-14).

3. إقامة نسل ميِّت:

"إذا سكن اخوة معًا ومات واحد منهم وليس له ابن،

فلا تصر امرأة الميِّت إلى خارج لرجل أجنبي،

أخو زوجها يدخل عليها ويتَّخذها لنفسه زوجة،

ويقوم لها بواجب أخي الزوج.

والبكر الذي تلده يقوم باسم أخيه الميِّت،

لئلاَّ يمحى اسمه من إسرائيل" [5-6].

ما هو غاية هذا القانون؟

أولاً: كان الإنسان يرى في نسله امتدادًا لحياته، وبالتالي إن مات دون إنجاب ابن يعني إزالة اسمه من العالم نهائيًا. لهذا كان الأخ أو الوليّ يلتزم أن يتزوَّج أرملة الميِّت لا لشيء إلاَّ لإقامة نسلٍ للميِّت فلا يُمحى اسم الميِّت من العالم. هذه العادة قديمة قبل استلام الشريعة كما جاء في (تك 38: 8). ولا يجوز للأرملة أن تتزوَّج آخر غير الوليّ اللهمَّ إلاَّ إذا رفض الوليّ الزواج بها.

ثانيًا: أهم ما يملكه الإنسان – في العهد القديم – هو نصيبه في أرض الموعد التي قُدِّمت هديَّة إلهيَّة مجانيَّة من قبل الله للشعب كله، وقسِّمت على يد يشوع بن نون بالقرعة. فكان حرص كل سبط على أرضه يُشير إلى حرص الكنيسة على تمتُّعها بالأرض الجديدة، أورشليم العليا.

لم يكن ممكنًا للأرملة التي ليس لها أولاد أن تدير شئون الأرض بالمزروعات وبيع المحاصيل والاهتمام بالأغنام الخ. لذلك كان الزواج بالنسبة لها غالبًا ما يمثِّل ضرورة. فلكي لا تتزوَّج بإنسانٍ من عشيرة أخرى فيرث هو ونسله من بعده أرضًا ليست من عشيرته، وُضع هذا القانون، فتحفظ الأرض ليس فقط لذات السبط، وإنَّما حتى لنفس العشيرة، وإلى أقرب الأقرباء للميِّت بلا نسل، بل تُسلَّم الأرض للابن البكر الذي يحمل اسم الميِّت، فتبقى الأرض محفوظة لنفس الأسرة.

ثالثًا: في هذا القانون أيضًا كرامة للأرملة وتقديم جو من الحب العائلي لها، إذ صارت بلا زوج ولا أولاد تهتم بهم.

أساء الصدُّوقيُّون فهم هذا القانون، إذ حسبوا أنَّه دليل على عدم القيامة من الأموات، لأنَّه في القيامة لمن تكون هذه الزوجة (مت 22: 24).

يترجم البعض كلمة "ابن" بطفلٍ، كما في الترجمة السبعينيَّة والفولجاتا[260] [5]، فإن كان للميِّت ابنة يمكن أن يُقام له نسل من خلالها (عد 27: 4).

ما هو الموقف إن رفض الأخ أو الوليّ الزواج بالأرملة لإقامة نسل للميِّت؟

"وإن لم يرضى الرجل أن يأخذ امرأة أخيه،

تصعد امرأة أخيه إلى الباب إلى الشيوخ، وتقول:

قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسمًا في إسرائيل،

لم يشأ أن يقوم لي بواجب أخي الزوج.

فيدعوه شيوخ مدينته ويتكلَّمون معه،

فإن أصر وقال لا أرضى أن اتَّخذها.

تتقدَّم امرأة أخيه إليه أمام أعين الشيوخ وتخلع نعله من رجله وتبصق في وجهه،

وتصرح وتقول: هكذا يفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.

فيدع اسمه في إسرائيل بيت مخلوع النعل" [7-10].

أولاً: ليس من قانون يلزمه بذلك بغير إرادته، فإنَّه إن لم يحبَّها له حق رفضها، إذ لا تقوم العلاقة الزوجيَّة بأمر إجباري بل خلال دالة الحب والتفاهم.

ثانيًا: الوليّ الرافض الزواج بامرأة أخيه (أو قريبة الميِّت) يخلع نعليه أمام شيوخ المدينة وتبصق في وجهه وتقول: "هكذا يُفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه" ويدعى اسمه بيت مخلوع النعل. هذا الطقس يكشف عن مدى حرص الشريعة أن يبقى اسم الميِّت... لأن كل مؤمن يترجَّى أن يأتي المسيَّا من نسله.

رفض الولي أن يتزوَّج الأرملة يُعتبر استخفافًا بخطَّة الله الخاصة بحفظ كل سبط نصيبه من الأرض، بل وإن أمكن حفظ كل عشيرة نصيبها، بل وكل أسرة صغيرة. لهذا يرى البعض في هذا الرفض إساءة إلى الأرملة نفسها، وإلى الميِّت وعائلته، وإلى السبط كما إلى الشعب ككل؛ بل وإلى الله نفسه. أنَّه يستحق الإهانة.

يفسِّر بعض اليهود ذلك بأن البصق على الأرض أمام وجهه وليس على وجهه[261]. إذ لا يهتم ببناء بيت أخيه لهذا يستحق الإهانة. لا تزال في بعض بلاد الشرق الأوسط مثل بعض بلاد صعيد مصر حينما يود إنسان أن يهين آخر يبصق أمامه على الأرض.

في قصَّة راعوث إذ رفض الوليّ الزواج بها، قبل من يليه "بوعز" ذلك، ليُقيم نسلاً للميِّت، فتأهَّل أن يأتي السيِّد المسيح من نسله (را 4).

خلع النعلين بواسطة الأرملة لكي تأخذهما هو عمل رمزي يشير إلى عدم استحقاقه أن يسير بنعليه على أرض الميِّت، وقد صار للأرملة حق التصرُّف فيها بزواجها بآخر. هذا العمل الرمزي واضح من قول المرتِّل "على أدوم أطرح نعلي" (مز 60: 8؛ 108: 9)، أي أسير على أرضه وأمتلكها.

طُلب من موسى خلع نعليه أمام العليقة، وهكذا يخلع الكهنة أحذيتهم عند دخولهم الهيكل كأرض مقدَّسة، إعلانًا عن أنَّهم ليسوا بالعريس صاحب الموضع، إنَّما خدام العروس، أمَّا العريس الوحيد فهو السيِّد المسيح مخلِّص العالم.

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إنَّه بحسب الشريعة ما كان يمكن لبوعز الذي أحب راعوث أن يأخذها زوجة ما لم تخلع أولاً نعله حسب الشريعة، لأنَّه لم يكن بعد زوجها. هكذا لم يكن موسى العريس لذلك كان يجب عليه أن يخلع نعله على الأرض المقدَّسة (خر 3: 5)، وأيضًا يشوع بن نون (يش 5: 16)، أمَّا ربنا السيِّد المسيح العريس الحقيقي فلا يُحل نعله، حتى وإن حسب القدِّيس يوحنا المعمدان غير مستحقٍ أن يحلُّه (يو 1: 17) [262]].

السير حافي القدمين يُشير إلى البؤس الشديد، فكان المسبيُّون يلتزمون أحيانًا بذلك. جاء في إشعياء النبي: "اذهب وحلّ المُسح عن حقويك واخلع حذاءك عن رجليك، ففعل هكذا ومشى مُعرَّى وحافيًا. فقال الرب كما مشى عبدي إشعياء مُعرَّى وحافيًا ثلاث سنين آية وأعجوبة على مصر وكوش، هكذا يسوق ملك أشور سبي مصر وجلاء كوش الفتيان والشيوخ عُراة وحفاة مكشوفي الرأس خزيًا لمصر" (إش 20: 2-4).

وعند هروب داود من وجه ابنه أبشالوم صعد على جبل الزيتون باكيًا ورأسه مغطَّى، وكان يسير حافي القدمين (2 صم 15: 30).

4. المرأة التي بلا حياء:

من حق المرأة أن تدافع عن رجلها في وقت الشدَّة، لكن يجب أن تسلك بروح الاحتشام، لذا إن امتدَّت يدها لتمسك بعورة من يخاصم رجلها تقطع يدها.

"إذا تخاصم رجلان بعضهما بعضًا، رجل وأخوه،

وتقدَّمت امرأة أحدهما لكي تخلِّص رجلها من يد ضاربه،

ومدّت يدها وأمسكت بعورته،

فاقطع يدها ولا تشفق عليها" [11-12].

مهما تكن الظروف فإن المرأة التي تفعل ذلك، ولو بقصد إنقاذ زوجها، تكشف عن فقدانها الحياء تمامًا، وفقدان حياتها الفاضلة وكرامتها.

تُقطع يدها بلا رحمة، حتى لا يتسرَّب عدم الحياء إلى غيرها. فإنَّه خير لها أن تبقى مقطوعة اليد عن أن تعثر الفتيات والنساء. ولعل السيِّد المسيح في حديثه عن العثرة كان يُشير إلى هذا القانون: "فإن كانت عينك اليُمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنَّه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنَّم. وإن كانت يدك اليُمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنَّه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنَّم" (مت 5: 29-30). بمعنى أنَّه يليق بالمؤمن أن يكون حذرًا على الدوام من أيَّة عثرة أو خطر يحلّ به أو بمن حوله، وأن يصلب الشهوات الجسديَّة مهما كلَّفه الأمر.

5. الغش في الموازين:

لا يليق الغش في الموازين والمقاييس، كما يجب إلاَّ نحابي الوجوه فنزن لشخص بكيلٍ ولآخر بكيلٍ آخر، كأن نحابي الأغنياء على حساب الفقراء.

"لا يكن لك في كيسك أوزان مختلفة كبيرة وصغيرة.

لا يكن لك في بيتك مكاييل مختلفة كبيرة وصغيرة.

وزن صحيح وحق يكون لك.

ومكيال صحيح وحق يكون لك،

لكي تطول أيَّامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك.

لأن كل من عمل ذلك، كل من عمل غشًا مكروه لدى الرب إلهك" [13-16].

خلق الله الإنسان لكي يتعامل مع أخيه بروح العدالة. فالتجارة والمعاملات هي فرص لا ليستغلها الإنسان فيقتني شيئًا ما ظلمًا، وإنَّما لكي يمارس برّ المسيح ويختبر الأمانة، فنسمع القول: كنتَ أمينًا على القليل، أقيمك على الكثير". التهاون في الأمانة رجس في عيني الله القدُّوس والأمين. هنا نرى أن مبادئ العدالة يجب أن تسود المعاملات التجاريَّة (لو 6: 38).

أولاً: ليس فقط لا يستخدم الإنسان أوزان ومكاييل غاشة، وإنَّما لا يسمح لنفسه أن يقتنيها في بيته، حتى ولو لم يكن يستخدمها، إذ يقول: "لا يكن"، وليس "لا تستخدم". لا يجوز للإنسان أن يترك في بيته أو مكان عمله ما قد يسحبه نحو الخطيَّة.

ثانيًا: كل ظلمٍ نمارسه هو ممارسة للغش في الموازين، إذ نسيء تقدير الأمور. وكما جاء في عاموس: "اسمعوا أيُّها المتَّهممون المساكين لكي تبيدوا بائسي الأرض، قائلين... لنصغِّر الإيفة ونكبِّر الشاقل، ونعوِّج موازين الغش. لنشتري الضعفاء بفضَّة والبائس بنعلين ونبيع نفاية القمح" (عا 8: 4-6).

رابعًا: جاءت كلمة أوزان في العبريَّة: "Eben" أو "Waa’aaben"، معناها "حجر"، حيث كانت الحجارة تستخدم كأوزان. يتم الغش بأن يضع الإنسان مجموعتين من الحجارة، إحداهما ثقيلة والأخرى خفيفة، يستخدم الأولى عندما يشتري شيئًا، والأخرى عندما يبيعه. راجع (خر 16: 16؛ لا 19: 23).

خامسًا: الغش جريمة موجَّهة ليس ضد من نتعامل معه بل مع المجتمع ككل. فإن الإنسان الذي يقتني ربحه بالغش والخداع لا يشعر بقيمة ما لديه، فيبذِّره بطرقٍ خاطئة. ومن جانب آخر فإن من يقع عليه الغبن بسبب الغش هو جزء لا يتجزَّأ من المجتمع. فما يصيبه من ضرر يصيب المجتمع ككل. هذا وأن الغش ينزع عن الإنسان وعمَّن حوله بركة الرب.

يليق بكل إنسان أن يرى في متجره أو مكتبه أو مصنعه عرش الله معلنًا، والسيِّد المسيح حاضرًا. لذا يسلك بما يليق بموضع يسكنه الرب نفسه. نجاح العمل لا في كثرة الربح بل في الشهادة الحيَّة لعمل الله الذي يبارك ويهب نجاحًا للأمناء في تصرُّفاتهم.

سادسًا: الأمانة في الموازين والمكاييل تكشف عن قلب محب للعدالة، فيتمتَّع المؤمن ببركة الرب، وتطول أيَّامه على الأرض، أمَّا الغش والظلم أو المحاباة فتسقطه تحت اللعنة. فإن الله يبغض كل أنواع الغش. يقول سليمان الحكيم: "موازين غش مكرهة الرب، والوزن الصحيح رضا" (أم 11: 1). "معيار فمعيار، مكيال فمكيال، كلاهما مكرهة عند الرب" (أم 20: 10).

استخدام الموازين والكيل الحق يشير إلي روح التمييز الداخلي، فلا يزن الإنسان لنفسه بميزانٍ ولغيره بميزانٍ آخر، وكما يقول الأب ثيوناس في مناظرات القدِّيس

يوحنا كاسيان:

[فإذ يسكن في ضميرنا قاضٍ عادلٍ غير مرتشٍ، فإنَّه حتى إن أخطأ الكل لكن نقاوتنا الداخليَّة لن تنخدع قط. وهكذا يلزمنا أن نحتفظ بهدوء دائم في قلبنا المتيقِّظ بكل اجتهاد واهتمام، حتى لا يضل حُكم إفرازنا، فننشغل بمجرَّد صوم مملوء حماقة (أي مفرط) أو بتلذُّذ باسترخاء زائد. وهكذا نثقِّل قوَّتنا في ميزان غير سليم. إنَّما يجب علينا أن نضع نقاوة نفوسنا في كفَّة وقوَّتنا الجسميَّة في كفَّة أخرى، ونزنهما بحكم ضميرنا العادل، حتى لا نميل منحرفين إلى كفَّة على حساب الأخرى، أي إلى حزم غير لائق أو استرخاء بتفريط.

إذن ليس بغير سبب يوبِّخ الرب من يخدع نفسه باعتبارات غير صحيحة فيقول: "إنَّما باطل بنو آدم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق" (مز 62: 9). لهذا يوصينا الرسول المبارك أن نقبض بزمام الإفراز ولا ننحرف إلى المغالاة في أي الطريقين (رو 12: 3). ويمنع واهب الشريعة نفس الأمر قائلاً: "لا ترتكبوا جورًا في القضاءِ لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل" (لا 19: 35).

إذن يجدر بنا ألاَّ تكون في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضميرنا، بمعنى أنَّه يجب علينا ألاَّ نحطِّم من يلزمنا أن نكرز لهم بكلمة الرب، بشرائع حازمة مغالى فيها أثقل ممَّا نحتملها نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحريَّة ونخفِّف منها... لأنَّه إن كنا نزن لاخوتنا بطريقة ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة، وذلك كقول سليمان بأن الوزن المزدوج هو مكرهة عند الرب والميزان الغاش غير صالح في عينيه (راجع أم 20: 10) [263]].

يليق بنا ألاَّ يكون لنا مِكْيالان أحدهما للكهنة والآخر للشعب، فالكل أعضاء في جسد المسيح الواحد، ويخضع لرب واحد، ويتمتَّع بحياة واحدة في المسيح يسوع. إن أخطأ الكاهن، أيَّا كانت رتبته لا يعفيه كهنوته من التأديب، بل تكون عقوبته مضاعفة بسبب كثرة معرفته.

v     بالحقيقة لا يوجد تمييز بين الشعب والكهنة[264].

القدِّيس غريغوريوس النزينزي

6. تدمير عماليق:

"اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر.

كيف لاقاك في الطريق، وقطع من مؤخِّرك كل المستضعفين وراءك،

وأنت كليل ومتعب ولم يخف الله.

فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك

نصيبًا لكي تمتلكها،

تمحو ذكر عماليق من تحت السماء لا تنسى" [17-19].

إذ تحدث عن المعايير الصادقة وعدم الغش في الموازين والمكاييل قدَّم مثلاً لذلك بعماليق.

أول معركة دخل فيها الشعب كانت في رفيديم ضد عماليق (خر 17). يرى البعض أن فرعون يمثِّل الشيطان الذي استعبد الإنسان زمانًا، وقد خلص منه الشعب في مياه المعموديَّة، وعماليق يمثِّل شهوة الجسد، أو أعمال الإنسان القديم التي تحارب المؤمن، لكنَّه يغلبها بالصليب حتى تتم النصرة. قال الرب: "للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور" (خر 17: 16). فإن حربنا مع أعمال الإنسان القديم تبقى مستمرَّة مادمنا في الجسد في هذا العالم. وكما يقول الرسول: "لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلا 5: 17).

لقد كالوا بالشرّ لشعب الله لتحطيم الإيمان، لذا لاق بالشعب أن يمحو ذكرهم حتى لا يتسرَّب فسادهم ورجاستهم في وسط الشعب فيهلكون. إبادة عماليق تشير إلى محو كل أثر للخطيَّة العنيفة المقاومة لنا في طريق خلاصنا.

يليق بنا أن نكون رحماء ولطفاء، لكن بروح الحكمة والتمييز، فلا نتهاون مع الخطيَّة، ولا نفتح بابًا لعثرتنا أو عثرة الآخرين. إن أمكن نُسالم جميع الناس، ونصلِّي لأجل الجميع، لكن إن دفعت الصداقة إلى الشرّ نكون حازمين مع أنفسنا بروح الحكمة والحب.

يرى البعض أن خطأ عماليق لم يكن موجَّهًا ضد شخص معين، بل ضدّ الكنيسة كشعب الله، لهذا يقف الله نفسه محاميًا عنها. وكما قيل: "كل آلة صوِّرت ضدِّك لن تنجح".

 


 

من وحيّ تثنيَّة 25

هب لي روح العدالة المترفِّقة

v     شريعتك حازمة للغاية وعادلة ودقيقة.

تطالب بعقوبة المجرمين لا لتعذيبهم بل لتأديبهم.

تهتم بالمجرم لعلَّه حتى في تأديبه يتوب.

وإن فقد حياته الزمنيَّة تطلب أبديَّته.

v     تهتم حتى بالثور الدارس، فلا تجيز أن يَكُمّ فمه،

حتى يأكل مادام يعمل!

من أجلي يعمل الثور.

يدور ويدور ليدرس لي الغلَّة، كيف أتمتَّع بها وأحرِم الحيوان العامل لأجلي؟!

هب لي أن أعمل لحساب ملكوتك.

لأبحث عن كل خروفٍ ضال،

تفرح وتسرّ به!

تشبع بخلاص اخوتي،

أمَّا أنا فلا تتركني جائعًا قط!

ولن تَكُمّ فمي قط عن الخبز الجسدي،

ولا قلبي عن مائدة الملائكة!

v     قدَّمت لنا شريعة إقامة نسل للميِّت،

إذ كان الكل يترقَّب مجيء المسيَّا من نسله.

لم ترد أن تحزن قلب أرملة فقدت رجلها وليس لها نسل.

v     أعطيت للمرأة حق دفاعها عن رجلها،

لكن بروح الحياء والاحتشام.

v     تلزمنا شريعتك ألاَّ نغش في الموازين.

ولا نكيل لشخص بكيل ولآخر بكيلٍ آخر.

نحمل سمتك يا من لا تحابي الوجوه.

<<

 


 

الأصحاح السادس والعشرون

البكور وتجديد العهد

من أجل تقديس الشعب طلب إبادة عماليق المصمِّم على مقاومة القداسة وبث روح الفساد ونشر ممارسة الرجاسات. لكن لا يكفي الجانب السلبي، إنَّما يلتزم الشعب في أرض الموعد بالعمل الإيجابي وهو أن يقدِّموا البكور في طقسٍ دينيٍ رائعٍ. البكور هي تقدمة شكر لله واهب الأرض المقدَّسة ومعطي الخيرات، وتأكيد استمراريَّة ارتباط المؤمن بإلهه وتجديد العهد معه على أرض الغربة.

الشكر في الكتاب المقدَّس والشكر في الغرب:

يحمل طقس الشكر في العهد القديم ثلاثة عناصر هامة وهي التسبيح والعطاء وتجديد العهد مع الله أو تأكيد الطاعة له. وفي العهد الجديد صار "يوم الشكر" هو يوم الأحد، حيث تقدِّم الكنيسة ذبيحة المسيح الفريدة غير المتكرِّرة لله الآب، تقدِّم له الابن البكر. هذه هي تقدمتها، ترتبط بالتسبيح والعطاء وتأكيد العهد مع الله على مستوى فائق.

للأسف صار "يوم الشكر" في شمال أمريكا هو يوم الأكل وأحيانًا السكر والأغاني والحفلات الخليعة... ويتجاهل كثيرون العطاء والتسبيح والتمتُّع بالعهد مع الله.

يدعونا هذا الأصحاح لمراجعة مفاهيم الشكر وتقديم البكور لله بما يسرُّه وليس حسب الهوى البشري.

يلاحظ أن هذا الطقس العجيب يؤكِّد ضرورة التسبيح والشكر على كل المستويات.

·        المستوى الشخصي، فكل عضو يتقدَّم إلى بيت الرب في علاقة شخصيَّة مع الله، شاكرًا الله على الخيرات التي تمتَّع بها.

·         المستوى العائلي، فما يقدَّم إنَّما باسم الأسرة كلَّها.

·        المستوى الكنسي، فيسبِّح المؤمن الله العامل في كنيستنا منذ عصر الآباء ولا يزال يعمل وسيعمل عبر الأجيال لبنيان كنيسته.

·        المستوى القومي، فيشكر المؤمن الله من أجل معاملاته مع إسرائيل كأمَّة خاصة.

1. تقدمة البكور            [1-11].

2. العشور                  [12-15].

3. تذكر العهد               [16-19].

1. تقدَّمة البكور:

"ومتى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا وامتلكتها وسكنت فيها.

فتأخذ من أول كل ثمر الأرض الذي تحصل من أرضك التي يعطيك الرب إلهك وتضعه في سلَّة،

وتذهب إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه" [1-2].

كان يطلب من المؤمن أن يأتي بسلَّة يجمع فيها بكور الفواكه التي للرب كل سنة، وذلك بجانب السنبلة البكر التي تقدَّم عن الأرض كلها في اليوم التالي من الفصح (لا 23: 10). يُحضر كل رجل لنفسه سلَّة البكور في عيد البنطقستي (الأسابيع) عند نهاية المحصول، حيث يدعى "عيد البكور" (خر 34: 22). ويقال أنَّها تحفظ مع التقدمة الاختياريَّة حسبما تسمح به يد الإنسان (تث 16: 10).

يرى اليهود أنَّه عندما يجد الإنسان أن الثمار قد نضجت يأخذ بكورها للرب ويضعها في السلَّة التي تحوي قمحًا وشعيرًا وعنبًا وتينًا ورمَّانًا وزيتونًا وبلحًا، ويضع بين كل صنف والآخر أوراقًا من الشجر، ثم يقوم بتقديم هذه السلَّة.

تقديم البكور هي تقدَّمة شكر لله الذي وهبهم أرض الموعد بعد مرارة عبوديَّة مصر. وهي رمز للسيِّد المسيح بكرنا، به تمتَّعنا بالحياة الأبديَّة وحُسبنا ملكًا لله.

يلاحظ في هذه التقدمة الآتي:

أولاً: بهذه التقدمة يعترف المؤمن بأن كل ما لديه هو عطيَّة من الله، وأنَّه يقدِّم ممَّا وهبه الله.

ثانيًا: أن يجحد الإنسان ذاته، فيقدِّم بكور الثمار الناضجة لله، مقدِّمًا ما لله قبل ما يأخذه لنفسه، أو بمعنى آخر أن الله أولاً في كل شيء. هكذا يليق بنا أن نقدِّم باكورة حياتنا وأوقاتنا وأعمالنا ومواهبنا لله، نقدِّم أفضل ما لدينا لحسابه.

ثالثًا: إذ يقدِّم المؤمن الباكورة من أفضل المحصول يعلن أن الشعب الذي تكرَّس لله من وسط شعوب العالم يلزم أن يكون بكرًا ناضجًا، فلا نسمع ما قيل بميخا النبي: "ويل لي لأنِّي صرت كجَنيْ الصيف كخصاصة القطاف، لا عنقود للأكل، ولا باكورة تينة اشتهتها نفسي؛ قد باد التقي من الأرض، وليس مستقيم بين الناس، (مي 7: 1-2).

رابعًا: إذ يأتي المؤمن بالسلَّة حاملاً بكور المحصولات يؤكِّد أن الأرض التي وعد الله بها آباءه والتي تسلمها لا تزال بين يديه وفي ملكيَّته. فقد جاء وقت فقد الشعب أرضه واُقتيدوا إلى السبي في أشور (إسرائيل) ثم في بابل (يهوذا).

خامسًا: يرافق العطاء المادي تقدمه شكر لله، بها يعترف المؤمن بمعاملات الله مع كل آبائه عبر كل الأجيال، بأنَّها معاملات معه هو شخصيًا، إذ يقول:

"وتأتي إلى الكاهن الذي يكون في تلك الأيَّام وتقول له:

اعترف اليوم للرب إلهك إنِّي قد دخلت الأرض التي حلف الرب لآبائنا أن يعطينا إياها" [3].

بعد ذلك يضع الكاهن السلَّة أمام مذبح الرب:

"فيأخذ الكاهن السلَّة من يدك ويضعها أمام مذبح الرب إلهك.

ثم تصرح وتقول أمام الرب إلهك:

أراميًا تائهًا كان أبي، فانحدر إلى مصر، وتغرَّب هناك في نفرٍ قليل،

فصار هناك أمَّة كبيرة وعظيمة وكثيرة.

فأساء إلينا المصريُّون وثقلوا علينا وجعلوا علينا عبوديَّة قاسيَّة.

فلما صرخنا إلى الرب إله آبائنا سمع الرب صوتنا، ورأى مشقَّتنا وتعبنا وضيقنا.

فأخرجنا الرب من مصر بيدٍ شديدة وذراعٍ رفيعة،

ومخاوف عظيمة وآياتٍ وعجائب.

وأدخلنا هذا المكان،

وأعطانا هذه الأرض أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً" [5-10].

هكذا يقدِّم كل مؤمن تسبحة شكر لله على عطاياه له الشخصيَّة وعلى الشعب كله عبر الأجيال. في هذه التسبحة يعترف المؤمن بالآتي:

أ. تتطلَّع كل الأجيال إلى البركات التي تنالها، فترى أن ما تحقَّق معها هو وعد إلهي لإبراهيم الذي لم يكن إسرائيليًا بل كان آراميًا (سريانيًا)، تائهًا، لم يكن له موضع يستقر فيه. في عيد الشكر يلزمهم أن يتقدَّموا بروح التواضع، مدركين أن آباءهم إبراهيم واسحق ويعقوب لم يكونوا إسرائيليِّين. لهذا يليق بهم أن ينفتح قلبهم بالحب نحو الأمم الأخرى.

عاش إبراهيم أب الآباء في الميصة (ما بين النهرين) كما جاء في سفر التكوين (29-31). وإلى هذه المنطقة يعود أصله (تك 11: 31).

2. إذ يعتزُّوا أنَّهم أبناء إبراهيم، فإنَّه كان هو ورجاله عددًا قليلاً [5]. فما بلغوه من كثرة العدد هو هبة إلهيَّة.

3. أن شعبه وُلد فقيرًا وغريبًا ومضطهدًا في مصر، والآن صار غنيًا وعظيمًا جدًا، فلا مجال للكبرياء، ولا موضع لتجاهل غنى نعمة الله عليه. فإنَّه لا تقبل أيَّة تقدمة ما لم يصحبها تسبحة مملوءة بروح التواضع والشكر لله. هكذا خلال هذه التقدمة السنويَّة بطقوسها الروحيَّة تبقى ذكرى معاملات الله معهم وعطاياه وبركاته موضع لهجِهم المستمر.

كأنَّه في كل عام إذ يحتفل المؤمن بعيد البكور أو بيوم الشكر يسبِّح الله على البركات التالية:

·        يرجع أصله إلى آباء آراميِّين (سريان) لم يكونوا بعد شعب الله المختار، لكنَّهم محبوبون جدًا لديه ونالوا المواعيد الإلهيَّة، ودخلوا في عهد مع الله أو جدَّدوا العهد معه.

·         أن آباءه كانوا غرباء في مصر، سقطوا تحت مرارة العبوديَّة، والآن ينال هو الحريَّة.

·         كان الشعب عند دخولهم مصر قلَّة قليلة والآن صار العدد لا يُحصى.

·         نال نصيبًا من أرض الموعد التي لا تزال تقدَّم له خيرات مجَّانيَّة مستمرَّة.

·         يتمتَّع الآن بالحضرة الإلهيَّة، إذ يقف أمام الرب ليقدِّم حب وعطاء ممَّا وهبه الله، ويجدِّد العهد معه!

خامسًا: تأكيد أن ما يقدِّمه المؤمن إنَّما هو ممَّا وهبه الله له.

"فالآن هأنذا قد أتيت بأول ثمر الأرض التي أعطيتني يا رب.

ثم تضعه أمام الرب إلهك، وتسجد أمام الرب إلهك" [10].

يليق بالمؤمن أن يُترجم تسبحة الشكر إلى عمل، أو عطاء، كما فعل يعقوب: "كل ما تعطيني فإنِّي أعشِّره لك" (تك 22: 22). هذا ما عبَّر عنه سليمان الحكيم يوم تدشين بيت الرب، وما يؤكِّده رجال الله على الدوام (1أي 29: 14).

سادسًا: يُصاحب التقدمة مشاعر الفرح التي تعم البيت كله. "وتفرح بجميع الخير الذي أعطاه الرب إلهك لك ولبيتك أنت واللاوي والغريب الذي في وسطك" [11]. فالله يريد من شعبه أن يفرحوا ويتهلَّلوا، يأكلون خبزهم بالفرح وبساطة القلب، ممجدين الله (أع 2: 46-47).

سابعًا: إن كان الفرح هو عطيَّة إلهيَّة شخصيَّة يتمتَّع بها المؤمن خلال بركات الله وعبادته، فإنَّه لا يقدر المؤمن أن يمارس هذا الفرح إلاَّ خلال الجماعة، إذ يفرح معه خدَّام الكلمة والغرباء. "تفرح... أنت واللاوي والغريب الذي في وسطك" [11].

2. العشور:

بخصوص تقديم العشور في السنة الثالثة سبق أن تحدَّثنا عنها في التعليق على (تث 14: 28-29). يفترض البعض أن السنة الثالثة من السنة السبتيَّة والسنة السادسة هما سنتا العشور التي تخصِّصان للفقراء بجانب العشور المقدَّمة للهيكل.

يلاحظ في شريعة العشور الآتي:

أ. الاهتمام بكل المحتاجين مع خدَّام الرب. "متى فرغت من تعشير كل عشور محصولك في السنة الثالثة سنة العشور، وأعطيت اللاوي والغريب واليتيم والأرملة، فأكلوا في أبوابك وشبعوا" [12].

ينتقل المؤمن بعشوره إلى بيت الرب عامين ليقدِّمه للرب، أمَّا في السنة الثالثة فيقوم بالعمل في بيته. تقدَّم في السنة الثالثة رمز القيامة مع المسيح في اليوم الثالث؛ بقيامته نلنا اتِّساع القلب للجميع خاصة لخدَّام بيت الرب والغرباء والمعتازين.

بينما تقدَّم البكور والعشور في بيت الرب أمام مذبحه، تقدَّم العشور أيضًا إلى المؤمنين المحتاجين. تشير البكور إلى السيِّد المسيح السماوي الذي يحملنا إلى سمواته، وتشير العشور إلى تقديسنا فيه لتصير أرضنا أو حياتنا مقدَّسة فيه. من جانب يؤكِّد الله حضرته في وسط شعبه خلال بيته المدشَّن له، ومن جانب آخر يعلن حضرته في وسط بيوتهم، الكنائس العائليَّة المقدَّسة.

بالحب نحمل عطايانا إلى بيت الرب لنعلن شوقنا إلى الانطلاق نحو السماء، ونقدِّم عطايانا في بيتنا لنرى الرب قادمًا إلينا خلال خدَّامه (اللاويِّين) والمساكين والمحتاجين.

ب. يصاحب عطيَّة العشور شوق حقيقي للطاعة للوصيَّة الإلهيَّة إذ:

"تقول أمام الرب إلهك:

قد نزعت المقدَّس من البيت،

وأيضًا أعطيته للاوي والغريب واليتيم والأرملة حسب كل وصيَّتك التي أوصيتني بها.

لم أتجاوز وصاياك ولا نسيتها" [13].

بقوله: "أمام الرب إلهك" لا تعني بالضرورة أن يكون في الهيكل، فإن المؤمن يشعر بالحضرة الإلهيَّة أينما وُجد. قال اسحق لابنه عيسو: "وأباركك أمام الرب قبل وفاتي" (تك 27: 7).

إن كانت الوصيَّة الإلهيَّة تتطلَّب تقديم العشور التي هي مقدَّس للرب، فلا أطمع في جزء منها، بل أقدِّم لله ما أوصاني به، فإنَّني إذ أمارس هذه الوصيَّة التي تمس المادة أعلن طاعتي لكل الوصايا. لهذا فالعطاء المادي – خاصة العشور في العهد القديم – إن لم يصاحبه عطاء الإرادة الحرَّة وشوق للطاعة وتذكُّر للوصيَّة لا يكون مقبولاً لدى الله.

ج. يرافق العطاء وكل ما يصاحبه من طقوس روح الفرح مع القداسة. لهذا فإنَّه إذ يسمح في العشور الخاصة بالسنتين الأخريَّتين ببعض أجزاء من الذبائح يأكلها مقدِّمها يلزمه أن يأكلها لا بروح الطمع والشهوة، بل بالفرح السماوي مع القداسة.

"لم آكل منه في حزني،

ولا أخذت منه في نجاسة،

ولا أعطيت منه لأجل ميِّتٍ،

بل سمعت لصوت الرب إلهي،

وعملت حسب كل ما أوصيتني" [14].

لعلَّه يقصد: إنَّني لم أقدِّم شيئًا ممَّا لك لوثنٍ، أي لم أخلط بين الذبائح التي لله وتلك التي للأوثان، أو لم أحمل شركة بين العبادة لله والعبادة الوثنيَّة. قيل أن البعض كان يسفك دم الذبائح أمام الأوثان ثم يقدِّم اللحم باسم الله الحيّ.

يشهد المؤمن أنَّه لم يأكل من عشور محصولاته في حزنه (26: 14)، أي لم يستخدمه كتقدمة للأوثان، كما جاء في (هو 9: 3): "إنَّها لهم كخبز الحزن كل من أكله يتنجَّس" وفي (حز 24: 17) "ولا تأكل من خبز الناس". هذه التقدمة ارتبطت بإله الخصب الذي مات ودفن وقام، فيشترك الوثنيُّون في الحزن عليه. يؤكِّد نفس المعنى بقوله: "ولا أعطيت منه لأجل ميِّت" [14]، أي لم يشترك به في الطقس الخاص بإله الخصب لدى الكنعانيِّين. ولعلَّه بقوله: "ولا أعطيت منه لأجل ميِّتٍ" يقصد أنَّه لم يقدِّم ذبائحه وعطاياه إكرامًا لأوثانٍ ميِّتة، أو من أجل أصدقائهم أو أقربائهم الذين ماتوا.

يرى بعض اليهود أن هذا الاعتراف [13-14] يقوله للمؤمن بصوت منخفض، لأنَّه اعتراف خاص بشخصه. أمَّا الاعتراف لله بأعماله فيكون بصوت مرتفع.

د. يختم اعترافه بطلبة من رب السماء لكي يبارك شعبه.

"اطَّلع من مسكن قدسك من السماء،

وبارك شعبك إسرائيل،

والأرض التي أعطيتنا كما حلفت لآبائنا أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً" [15].

وكأن ما يقدِّمه المؤمن من عطايا وتسابيح وشكر مع صلوات وتضرُّعات إنَّما هو باسم الجماعة كلها.

هـ. يربط المؤمن بين حياته التقويَّة المخلصة وصلواته، فإن الله لا يسمع صلوات الأشرار المصمِّمين على شرِّهم، ولا يصغي لصرخات الهراطقة. يتساءل أيوب النبي: "أفيسمع الله صراخه إذا جاء عليه ضيق؟!" (أي 27: 9). ويقول المرتِّل: "إن راعيت إثمًا في قلبي لا يستمع لي الرب" (مز 66: 18). فمن ينصت لصوت الخطيَّة لا ينصت الله إلى طلبته، ولا يقبل تقدماته وذبائحه. "ذبيحة الأشرار مكرهة الرب، وصلاة المستقيمين مرضاته" (أم 15: 8). "الرب بعيد عن الأشرار، ويسمع صلاة الصدِّيقين" (أم 15: 29). "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجاب" (أم 21: 13). بمعنى آخر صلاة الإنسان تكون حتمًا مستجابة إن اقترب إليه بالتوبة والسلوك ببرّ المسيح، واتِّساع قلبه نحو اخوته.

إذ يقدِّم المؤمن شوقه نحو الله والتمتُّع ببركاته يجوع بالأكثر إلى البركات الإلهيَّة ويعطش إليها، فلا يكف عن طلب البركة بروح الحب لا الأنانيَّة. فلا يطلب ما لنفسه وحده بل لكل الشعب: "بارك شعبك!" عطش المؤمن للبركات الإلهيَّة يحسب جزء لا يتجزَّأ من ذبيحة الشكر لله.

3. تذكر العهد:

"هذا اليوم قد أمرك الرب إلهك أن تعمل بهذه الفرائض والأحكام

فاحفظ واعمل بها من كل قلبك ومن كل نفسك.

قد واعدت الرب اليوم أن يكون لك إلهًا،

وأن تسلك في طرقه، وتحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وتسمع لصوته.

وواعَدَكَ الرب اليوم أن تكون له شعبًا خاصًا كما قال لك، وتحفظ جميع وصاياه.

وأن يجعلك مستعليًا على جميع القبائل التي عملها في الثناء والاسم والبهاء،

وأن تكون شعبًا مقدَّسًا للرب إلهك كما قال" [16-19].

يرى البعض في هذه الآيات "سلسلة ذهبيَّة" تبدأ بالله وتنتهي بالله. تحوي هذه السلسلة المراحل التالية:

·        الله أولاً: هو الذي يقدِّم وصاياه.

·        إذ يتجاوب الشعب مع الوصايا بكل القلب والنفس يُعلن الله انتسابه لهم بكونه إلهًا لهم.

·        إذ يصير الله إلههم يسمعون بالأكثر لوصاياه، فيصيرون شعبه المقدَّس الخاص به.

·        إذ يسمو شعب لله فوق كل الشعوب، يحملون ما لله من ثناء واسمه القدُّوس وبهائه الفائق.

·        هذا يدخل بهم إلى ثبات أعظم كشعب للرب وانتساب أعمق لله كإله خاصٍ بهم.

هكذا يدخل الشعب في سلسلة لا تنقطع من خيرات مجيدة خلال اتِّحادهم بالله إلههم.

أمران يركِّز عليهما موسى النبي على الدوام: الأول هو الانشغال بوصايا الرب وحفظها في الأعماق الداخليَّة، والثاني هو تذكُّر عهد الله أو ميثاقه مع شعبه الخاص والتمسُّك به. فقد جاءت الشريعة تؤكِّد الأمور التالية:

§      الاتِّحاد مع الله: "وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا" (إر 31: 33).

§       الحياة المقدَّسة في الله القدُّوس: "أن تكون شعبًا مقدَّسًا للرب إلهك" [19].

§      اهتمام الله بكرامة شعبه ككل بين الشعوب، وكرامة كل مؤمن، ليقيم منهم أشبه بملاك سماوي يحمل جنسيَّة سماويَّة. يقول: "إذ صرت عزيزًا في عينيَّ مكرَّمًا وأنا قد أحببتك..." (إش 43: 4).

ما يقدِّمه موسى النبي ليست وصايا خاصة به، بل الوصايا والفرائض والأحكام التي "قد أمرك الرب إلهك أن تعمل" [16]. هذه الوصايا لا تقدَّم ولا تشيخ، بل هي وصايا يقدِّمها الله "هذا اليوم" [16].

أمَّا ثمر حفظ الوصيَّة بكل القلب والنفس والأمانة في التمسُّك بالعهد الإلهي فهو:

أولاً: أن يصير له شعبًا خاصًا [18].

ثانيًا: أن يسمو الله بشعبه ويقدِّسهم: "وأن يجعلك مستعليًا على جميع القبائل التي عملها في الثناء والاسم والبهاء وأن تكون شعبًا مقدَّسًا للرب إلهك كما قال" [19]. وكما قيل إن البرّ يرفع شأن الأمَّة، والخطيَّة تذل الشعب (أم 14: 34). إنَّه يسمو بهم فيعطيهم قدرة على الثناء أو التسبيح ليشتركوا مع العلويِّين في تسابيحهم. ويهبهم سموًا في الاسم حيث يربطهم باسمه العظيم، تقف السماء والأرض متعجِّبة من أجل الكرامة التي صارت لهم في الرب. وسموًا في البهاء حيث يعكس بهاء مجده عليهم. وأخيرًا يقدِّسهم فيصيروا قدِّيسين كما هو قدُّوس.

في الختام يمكن القول بأن هذا الأصحاح هو تسبحة شكر يعبَّر عنها بكل وسيلة.

·        التسبيح خلال الليتورجيَّة الكنسيَّة (الصلوات الجماعيَّة المرتَّبة بنظام معين).

·        التسبيح لله بممارسة روح الفرح، وبث هذا الروح في حياة الغير.

·        التسبيح بروح العطاء والبذل، فنعبِّر عن الشكر بالعمل.

·        التسبيح بالإرادة الحرة الصالحة خلال الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة وتجديد العهد مع الله.

·        التسبيح بروح العطش الدائم لله نفسه الذي يبارك شعبه بلا انقطاع!

 


 

من وحيّ تثنيَّة 26

اقبلني بكرًا لك!

v     تشتاق أن تراني بكرًا يا أيُّها البكر الفريد.

تريدني كثمرٍ ناضجٍ يقدَّم لك أمام عرشك الإلهي.

تجد في مسرَّتك يا سرّ سرور كل الخليقة.

لست في حاجة إليّ، ولا إلى عبادتي، ولا إلى مواهبي.

لكنَّك تشتهي قلبي يا أيُّها العجيب في حبُّه.

v     اقبل سلَّة بكوري، فإنِّي أجمع لك فيها من بكور عطاياك لي:

أقدِّم لك فيها شكري الفائق يا من أتيت بي من العدم.

أشكرك لأنَّك حرَّرتني، لا من عبوديَّة فرعون، بل من أسر إبليس.

عبرت بي البحر الأحمر،

إذ دخلت بي مياه المعموديَّة واهبًا لي حياة النصرة.

أعطيتني روحك القدُّوس قائدًا لحياتي.

حملتني إلى كنعان الجديدة،

أرضك التي تفيض عسلاً ولبنًا.

أقدِّم لك فرحي الدائم بك يا بهجة قلبي.

v     من سلَّة البكور هب لي أن أقدِّم العشور.

أشعر بخجلٍ شديد إذ أقدِّم لك ممَّا وهبتني.

تمتد يدك الغنيَّة لتقبل من ضعفي ممَّا لك.

لن أتقدَّم إلى هيكلك بيدٍ فارغة، لأنَّك أنت ملأتها بالخيرات.

أقدِّم إليك في بيتك كما في السماء!

أفتح أبواب بيتي بالعطاء لخدَّامك،

كما للغريب واليتيم والأرملة.

ليأتوا ويأكلوا معي ممَّا قدَّمت لي.

أراك قادمًا فيهم لتبارك قلبي وبيتي ومخازني.

v     لأحمل من بركاتك لي إلى بيتك،

ولتأتِ إلى بيتي لتقبل من عطاياك لي القليل!

ادخل إلى بيتك، وتدخل أنت إلى بيتي!

أجد راحة في قلبك، وتستريح أنت في قلبي.

<<

 

 


 

العظة الثانية

القسم الثالث

طقس اللعنات والبركات

[ص 27 – ص 28]

ألزم موسى والشيوخ الشعب عند دخولهم أرض الموعد بالآتي:

أ. نقش الوصايا على حجارة كبيرة على جبل عيبال (شكيم) يراها الجميع، وهي تشير إلى السيِّد المسيح الكلمة الإلهي الذي نزل إلينا.

ب. إقامة مذبح للرب من حجارة صحيحة، إشارة إلى السيِّد المسيح حجر الزاوية الذي قدَّم ذاته ذبيحة للآب باسمنا، سرّ شبعنا وفرحنا، إذ يقول: "تأكل هناك وتفرح أمام الرب إلهك" (27: 7). السيِّد المسيح هو سرّ دخولنا أرض الموعد السماويَّة، هو الكلمة والذبيح.

ج. وقوف 6 أسباط على جبل جرزيم ينطقون بالبركات، و6 أسباط على جبل عيبال ينطقون باللعنات (27: 12-13).

<<

 


 

الأصحاح السابع والعشرون

الوصيَّة مع الذبيحة

تمهيد للعبور:

إذ كان الله يهيِّئ الشعب بكل قيادته للعبور إلى أرض الموعد ركَّز مرارًا على حفظ الوصيَّة علامة الأمانة في قبول العهد الإلهي، وعلى الذبيحة علامة الحاجة إلى الدم للتكفير عن الخطيَّة.

إذ يتحدَّث عن الوصيَّة وارتباطها بالعبادة يؤكِّد "هذا اليوم مع أنَّه يذكِّرهم بالأحداث الماضية، ويرفع أنظارهم بروح الرجاء نحو المستقبل. هكذا في إيماننا نتطلَّع إلى الماضي والمستقبل كأنَّهما حاضران. فالماضي لا يحمل ذكريات عبرت، لكنَّه يحمل إلينا خبرة يلزم أن نعيشها في واقعنا الحاضر، والمستقبل بالنسبة لنا ليس أفكارًا نظريَّة، إنَّما نتمتَّع بعربون المستقبل، خاصة الأبديَّة في يومنا الحاضر. هكذا يحيا المؤمن في ماضي وحاضر ومستقبل حيّ فعَّال فيه.

ارتبط إعلان بركات العهد ولعناته بإقامة مذبح حجري عليه قُدِّمت تقدمات تناسب تجديد العهد [1-8]. وقف نصف الشعب على جبل عيبال، والنصف الأخير على جبل جرزيم، ليؤكِّدوا بركات العهد ولعناته. فمن يعصى العهد أو يكسره يخضع للعنة [9-14]. قدَّم قائمة باللعنات التي تحل على كاسري العهد مع الله [15-26].

1. كتابة الناموس على حجارة مكلَّسة         [1-4].

2. بناء مذبح من حجارة صحيحة              [5-10].

3. فئتان للبركة واللعنة                        [11-13].

4. اللعنات المنطوق بها على عيبال           [14-26].

1. كتابة الناموس على حجارة مكلَّسة:

"وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب قائلاً:

احفظوا جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم.

فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتشيِّدها بالشيد.

وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس،

حين تعبر لكي تدخل الأرض التي يعطيك الرب إلهك،

أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً كما قال لك الرب إله آبائك.

حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة التي أنا أوصيكم بها اليوم في جبل عيبال

وتكلِّسها بالكلس" [1-4].

لم يقدِّم موسى النبي الوصايا هنا وحده، بل قدَّمها مع شيوخ الشعب، حتى لا يظن الشعب أن موسى وحده الشيخ والذي قد قارب على الموت هو المهتم بها. كقائدٍ ناجحٍ يُشرك الآخرين معه في الخدمة، ولا ينسب كل شيء إلى نفسه وحده. لهذا كثيرًا ما يضم الرسول بولس أسماء بعض العاملين معه في رسائله مثل سلوانس وتيموثاوس، وفي رحلاته مثل برنابا ومرقس وسيلا.

لقد طلب منهم أن يكتبوا الناموس على حجارة مكلَّسة كبيرة، يكتبونها يوم عبورهم، حيث لا يقدرون على التمتُّع بأرض الموعد والتمتُّع بالوعود الإلهيَّة دون التمسُّك بالوصيَّة الإلهيَّة.

كانت الكتابة أو النقش على حجارة أو أعمدة حجريَّة أو معدنيَّة هي وسيلة نشر المراسيم أو القوانين. اقتبس Lysias قانونًا من عمودٍ كان في أريوباغس بأثينا[265]. وفي Eleusis  وُجدت أعمدَّة منقوش عليها القوانين[266]. وتحدَّث أفلاطون عن أعمدَّة توضع في الأسواق العامة عليها قوانين تنظِّم المرور[267]. واستخدم بوليبس Polybius كلمة "عمود" ليعني بها قانونًا أو أحد شروط تحالف[268].

لا يُعرف عدد الحجارة، لكن غالبًا ما كان العدد كبيرًا حتى تُنقش عليه كلمات الناموس. وتغطَّى الحجارة بالشيد (كَلْس) لتصير ناعمة ويسهل الكتابة عليها وتصير الكتابة واضحة.

يرى بعض الدارسين أن كلمات الناموس نُقشت على الحجارة ثم غطِّيت الكتابة لحفظها، وقد استخدم المصريُّون تلك الطريقة حيث كانوا يميلون للكتابة على حجارة المعابد. لكن الرأي الأرجح أن الحجارة غُطِّيت بطبقة الكلْس، ونقشت الكتابة على الكلْس، إذ الكتابة عليه أسهل بكثير من النقش على الحجارة. يذكر Thomson أنَّه رأى حجارة مغطاة بكلْس ومكتوب على الكلْس ترجع إلى 2000 عامًا تقريبًا[269].

كتابتها على حجارة كبيرة مكلَّسة وبخط واضح غايته إزالة كل عذر يحتج بها إنسان، فلم يترك الله الإنسان يعتمد على الناموس الطبيعي، وعندما قدَّم له الشريعة لم يجعلها حبيسة مكتبات الكهنة والمعلِّمين، بل مقدَّمة علانيَّة لكل إنسان يطلب الحق، وفي نفس الوقت تكون شاهدة ضدّ كل عاصٍ للوصيَّة الإلهيَّة.

ماذا يُقصد بكلمات هذا الناموس؟ يرى البعض أنَّها اللعنات التي نطق بها على جبل عيبال والتي وردت في هذا الأصحاح. ويرى آخرون أنَّها الفرائض والأحكام التي وردت في الأصحاحات (12-26) من سفر التثنيَّة. ويرى فريق ثالث أنَّها الوصايا العشر التي تسلَّمها موسى النبي من الله على جبل سيناء. يرى آخرون أن الوصايا التي قدَّمها موسى وسُجِّلت على الحجارة عددها 613[270].

يُكوّن الوادي الموجود عند سفحي جبلي عيبال وجرزيم مدرَّجًا طبيعيًا رائعًا يتَّفق مع هذه المناسبة. وقد كانت رؤية عيبال ممكنة من المكان الذي ألقى منه موسى خطابه.

2. بناء مذبح من حجارة صحيحة:

بجانب الحجارة التي سُجِّلت عليها الوصايا أُقيم مذبح للرب من الحجارة الصحيحة التي لا يعلو عليها أداة حادة (خر 20: 22)، تقدَّم عليه المحرقات وذبائح السلامة.

"وتبني هناك مذبحًا للرب إلهك، مذبحًا من حجارة، لا ترفع عليها حديدًا.

من حجارة صحيحة تبني مذبح الرب إلهك،

وتصعد عليه محرقات للرب إلهك.

وتذبح ذبائح سلامة،

وتأكل هناك وتفرح أمام الرب إلهك.

وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشًا جيدًا" [5-8].

يُقام المذبح من حجارة لا ترفع عليها حديد، حجارة صحيحة تؤخذ من الحقول دون أن تمسَّها يد ناحت بإزميله. يشير الحجر هنا إلى السيِّد المسيح الذي يتنبَّأ عنه دانيال النبي أنَّه قُطع بغير يدٍ وصار جبلاً عظيمًا جدًا (دا 2: 34-35)، لهذا رفضه البنَّاؤون، إذ لا جمال له ولا شكل كما يقول إشعياء النبي (إش 53)، لكنَّه مقبول لدى الله، صار رأس الزاويَّة.

حجارة المذبح لا يُرفع عليها حديد، أي لا تمتدّ يد بشريَّة إليها لتستخدم أيَّة آلة لتهيئتها. هكذا لا يتحقَّق خلاصنا بيدٍ بشريَّة، إنَّما خلال العمل الإلهي الحق، الذي هو عمل الصليب.

إذ قدَّم القدِّيس غريغوريوس النزينزي رثاءً على والده القدِّيس غريغوريوس الشيخ وذلك في عام 374 م تحدَّث عن دور والدته القدِّيسة نونا التي جذبته إلى الحياة الإيمانيَّة الفائقة حتى صار أسقفًا ناجحًا، وقد عاشا معًا كأخوين. يقول عن والدته كما أن يُحسب أمرًا عظيمًا ألاَّ يرفع حديد على المذبح [5]، حيث أن كل ما يكرَّس لله يلزم أن يكون طبيعيًا، ليس فيه شيء صناعي، هكذا بالتأكيد يُحسب أمرًا عظيمًا أنَّها كرَّمت الهيكل بصَمْتِها، ولم تعطٍ ظهرها قط للمائدة المكرَّمة، لا تشاحنت على الممر الإلهي... وأنَّها لم تشترك قط على مائدة دنسة غير مقدَّسة، ولم تستطع أن تحتمل العبور أو النظر حتى إلى بيت فاسد، ولم تسمح لأذنيها اللتين تستقبلان الإلهيَّات ولا لسانها الذي ينطق بالإلهيَّات أن يتدنَّسوا بقصص يونانيَّة أو أغانٍ للمسرح[271].

·        تُصعد على المذبح محرقات للرب، حيث يقدِّم السيِّد المسيح ذاته محرقة حب كامل أمام الآب نيابة عن البشريَّة.

·        تقدَّم عليه ذبائح سلامة [7]، إذ بالمسيح المصلوب تتحقَّق المصالحة بين الآب والبشريَّة، وفيه ينال المؤمن سلامه الداخلي.

·        هناك يأكل المؤمن [7]، إذ كانت الذبائح مرتبطة بالطعام علامة الشركة معًا.

·        يفرح المؤمن أمام الرب إلهه [7]، حيث يتمتَّع بظل السماء، ويحمل أيقونتها، ويعلن بهجته بالميثاق الإلهي، وفرح نفسه بالالتصاق به. إنَّنا مدعوُّون إلى وليمة مفرحة، فإن الله نفسه يُسر ويبتهج بطاعة أولاده وحبُّهم وعبادتهم القلبيَّة، فيدعوهم ليفرحوا معه ويشاركوه مسرَّته بهم.

·        "وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشًا جيدًا" [8]، فترتبط الذبيحة أو العبادة بحفظ الوصيَّة الإلهيَّة. كرَّر الوصيَّة الخاصة بكتابة كلمات الناموس على الحجارة في نفس الأصحاح مع تأكيد أن تكون "نقشًا جيدًا"، وفي الترجمة السبعينيَّة: "واضحة جدًا". لأن غاية الكتابة هي نشرها على الشعب كله، فيسهل عليهم قراءتها. وكما قال الرب لحبقوق: "اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها" (حب 2: 2).

·        يجب أن تكون كلمة الله منقوشة جيِّدًا، أو تكون واضحة جدًا، يستطيع الكل – كهنة وشعبًا – قرأتها وفهمها، وألاَّ يعلو صوت فوق صوت الكلمة الإلهيَّة. إنجيلنا هو صلب إيماننا، وهو العمود الفقري للتقليد الكنسي والحياة الكنسيَّة؛ كل قانون لا يحمل روح الكتاب باطل! إنجيلنا هو الكتاب الإلهي يقود حياتنا ويحملنا إلى حضن الله نفسه.

نقش الكلمة على حجارة بخطٍ واضحٍ، ووضعها في مكان عام، يكشف عن مسئوليَّة الكنيسة في تقديم الكلمة كما هي لكل الشعب حتى يتمتَّع الكل بها.

يُقام المذبح والحجارة المنقوش عليها الناموس على جبل عيبال حتى يجد العاصون والساقطون تحت لعنة العصيان مجالاً للرجوع إلى الله خلال الذبيحة المقدَّسة، والارتباط بالكلمة الإلهيَّة.

وضعت الحجارة على جبل عيبال حيث اللعنات لكي يدرك الكل عجز الشريعة عن أن تنزع اللعنة أو تهب الحياة، إنَّما تعطي معرفة عن الخطيَّة، وتكشف عن حاجة الإنسان إلى من يبرِّره (رو 3: 19-20، 7: 9-14). فالمكان المناسب للشريعة هو جبل اللعنات لا البركات.

بنفس الطريقة أُقيم المذبح على جبل اللعنات، لكي يدرك المؤمنون حاجتهم إلى الذبيحة الفريدة القادرة أن ترفع عنهم اللعنات، ذبيحة المسيح. أمَّا الذبائح الحيوانيَّة التي طالبهم بها الناموس فهي ليست إلاَّ ظلاً ورمزًا، لهذا تعجز عن أن تقدِّس الضمير وتطهِّر الأعماق وتهب البرّ.

"ثم كلَّم موسى والكهنة اللاويُّون جميع إسرائيل قائلين:

اَنصت واسمع يا إسرائيل، اليوم صرت شعبًا للرب إلهك.

فاسمع لصوت الرب إلهك، واعمل بوصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم" [9-10].

بقوله: "أنصت وأسمع" يُعلن عن حاجة الشعب كما كل مؤمنٍ إلى الصمت والانتباه، فكثيرًا ما يطغي صوت العالم حولنا وفينا على الصوت الإلهي. نحتاج من حين إلى آخر فترة هدوء، فيها تميل أذنا الإنسان الداخلي إلى صوت الرب وتسمعان له بكل اهتمام.

"صرت شعبًا للرب إلهك" [9]: شعب الرب هو ملك له دومًا بسبب اختياره ودعوته، لكنَّهم يصيرون كذلك حقًا عندما يقبلون كلمته ويطيعون شريعته (يو 1: 12). يذكِّرنا الله دائمًا بالدعوة التي دُعينا إليها أن نكون شعب الله، حتى كما هو قدُّوس نكون نحن قدِّيسين فيه.

إنَّها دعوة للالتصاق به والانتساب إليه، نصير شعبه، أي ننعم بالسمة الملوكيَّة السماويَّة. عندئذ تصير كل مخازن السماء وبركاتها وإمكانيَّاتها بين أيدينا.

3. فئتان للبركة واللعنة:

"وأوصى موسى الشعب في ذلك اليوم قائلاً:

هؤلاء يقفون على جبل جرزيم لكي يباركوا الشعب حتى تعبرون الأردن.

شمعون ولاوي ويهوذا ويسَّاكر ويوسف وبنيامين.

وهؤلاء يقفون على عيبال للعنة.

رأوبين وجاد وأشير وزبولون ودان ونفتالي.

فيصرخ اللاويُّون ويقولون لجميع قوم إسرائيل بصوتٍ عالٍ..." [11-14].

جبل عيبال على الضفَّة الغربيَّة من نهر الأردن، وهو قريب جدًا من شكيم، الموضع الذي كان فيه مقدس الرب إلى زمان (يش 24: 1).

الأسباط المختارة للبركة كانت من أولاد ليئة وراحيل. أمَّا الأسباط المختارة لإعلان اللعنة على جبل عيبال فهي جاد وأشير من زلفة أمَة ليئة، ودان ونفتالي من بلهة أمَة راحيل، وزبولون ورأوبين من ليئة، أمَّا اللاويُّون (أي الكهنة المنوطون بهذا العمل وليس كل سبط لاوي) كانوا غالبًا في منطقة متوسِّطة بين الجبلين (يش 8: 33)، يعلنون البركة واللعنة بصوت عالٍ حتى يسمعهم الجميع.

لم يذكر هنا البركات بل اللعنات. ويرى اليهود أنَّه كان ينطق باللعنة وما يُقابلها من البركة[272].

يظن البعض استحالة وصول الصوت إلى الشعب حين يعلن كل فريق البركة أو اللعنة، لكن بالتجربة المعاصرة ثبت أنَّه يمكن بسهولة سماع الصوت وبطريقة واضحة، خاصة وأن الناطقين كانوا جماعة كبيرة وليس فردًا واحدًا.

 4. اللعنات المنطوق بها على جبل عيبال:

إذ اقترب وقت عبور الشعب نهر الأردن للدخول إلى الضفَّة الغربيَّة كان لابد لهم أن يعرفوا حقيقة هامة، وهي أن الأرض التي سيملكونها ويرثونها هي للرب. الله هو المالك، وأمَّا الأجرة فهي "الطاعة". بهذه الطاعة ليس فقط يثبتوا في أرض الرب، بل يصير لهم نصيب في الأرض الجديدة، في أورشليم العليا.

جاءت اللعنات الخاصة بالعصيان أو كسر إحدى الوصايا العشرة والبركات الخاصة بالطاعة للوصيَّة الإلهيَّة إنَّما كمفتاح للشعب كي يتمتَّعوا بالأرض، ويمتلئوا رجاءً في السماء عينها!

جاءت اللعنات مبتدئة بالخطايا الموجَّهة ضدّ الله نفسه مباشرة، كعبادة الأوثان [15]، ثم ضدّ الوالدين [16]، وضدّ العدالة الاجتماعيَّة [17]، ثم ضدّ المنكسرين والمحتاجين [18-19]. أي بدأ بالله فالوالدين فالمجتمع عامة ثم فئة المعوزِّين. يلي هذا اللعنات ضدّ الطهارة والعفَّة [20-23] ثم القتل [24-25]، وأخيرًا قدَّم وصيَّة عامة خاصة بحفظ الوصايا.

يلاحظ أن السفر أورد كلمات اللعنات بالتفصيل دون كلمات البركات؛ هذا وكانت كلمات اللعنات تقرأ أولاً وبعد ذلك البركات، كل بند بمفرده، اللعنة ثم البركة. ذلك لتأكيد أنَّه لا يوجد من يقدر أن يهرب من اللعنة، إلاَّ الذي يلجأ إلى المخلِّص. كما قيل: "إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيِّد فمن يقف؟!" (مز 130: 3). "لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنَّه مكتوب: ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (غلا 3: 10)، "الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (رو 3: 12).

إعلان اللعنات ثم البركات يؤكِّد حاجة البشريَّة إلى التهديد أولاً بالعقوبة، وإذ ينضجون يستعذبون البركات. هذا واللعنة كما سبق فرأينا ليست إلاَّ ثمرَّة طبيعيَّة لانعزال الإنسان الله مصدر البركات. وأمَّا البركات فهي دخول في الحياة المطوَّبة، وتمتُّع بالشركة مع الله. الخطيَّة تحمل تأديبها فيها لأنَّها تعزل الإنسان عن مصدر حياته، والطاعة تحمل بركاتها إذ تحملنا إلى الله مصدر الحياة والشبع.

"ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتًا أو مسبوكًا رجسًا لدى الرب عمل يديّ نحات

ويضعه في الخفاء.

ويجيب جميع الشعب ويقولون: آمين.

ملعون من يستخف بأبيه أو أمِّه.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من ينقل تخم صاحبه.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يضل الأعمى عن الطريق.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يعوِّج حق الغريب واليتيم والأرملة.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه لأنَّه يكشف ذيل أبيه.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يضطجع مع بهيمة ما.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمِّه.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يضطجع مع حماته.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يقتل قريبه في الخفاء.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من يأخذ رشوة لكي يقتل نفس دم بريء.

ويقول جميع الشعب: آمين.

ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها.

ويقول جميع الشعب: آمين" [15-26].

عدد اللعنات 12 بعدد الأسباط.

ويلاحظ في هذه اللعنات:

أولاً: تكرار كلمة "جميع" ليدرك أنَّه ليس إنسان فوق الوصيَّة، الكاهن أو العلماني، الغني أو الفقير، الرجل أو المرأة. كل أعضاء الجماعة من قادة وشعب ملزمون بحفظ الوصيَّة.

ثانيًا: في نهاية كل عبارة يعلن الكل: "آمين"، علامة قبول الجميع الالتزام والتجاوب مع الوصيَّة. إجابة الشعب المستمرَّة بكلمة "آمين" تحمل المعاني التالية:

1. تأكيد معرفة كل عضو في الشعب بأن ثمرة الخطيَّة هي اللعنة.

2. أن هذه الثمرة يجتنيها الإنسان بكسره أيَّة وصيَّة من وصايا الناموس، وليس بكسر كل الوصايا معًا أو وصايا معيَّنة. وإنَّما كما يقول الرسول يعقوب: "لأن من حفظ كل الناموس وإنَّما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل، لأن الذي قال لا تزنِ قال أيضًا لا تقتل؛ فإن لم تزنِ ولكن قتلت فقد صرت متعدِّيًا الناموس" (يع 2: 10-11).

3. يحمل هذا شعور كل إنسان بالذنب، ليس له أن يبرِّر نفسه.

4. اعتراف ضمني بأن الناموس صالح، وإنَّما الخطأ هو فيَّ.

5. الإنسان المتديِّن يحتاج إلى ترديد كلمة "آمين" أكثر من غيره، وبسبب تديُّنه يلبس أحيانًا رداء الرياء. لهذا يلزمه أن يكون صريحًا مع نفسه، معلنًا أن السقوط في العصيان يدفع به إلى اللعنات.

v     أقول خضع الشعب لهذه اللعنة، لأنَّه لا يوجد إنسان استمرَّ عاملاً كل الناموس أو حافظًا له، لكن المسيح حوَّل هذه اللعنة بلعنة أخرى "ملعون من عُلِّق على خشبة". بهذا كل من عُلِّق على شجرة ومن عصى الناموس صار ملعونًا، وكان من الضروري لذاك الذي يريد أن يحرِّر من اللعنة أن يكون هو نفسه حرًا منها. لهذا أخذ المسيح على نفسه اللعنة الأخرى ليحرِّرنا من اللعنة.

هذا يشبه إنسانًا بريئًا تعهَّد أن يقبل حكم الموت عن آخر، وبهذا خلَّصه من العقوبة. إذ أخذ المسيح على نفسه ليس لعنة العصيان بل اللعنة الأخرى لينزع اللعنة عن الآخرين. إذ "لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش" (إش 51: 9، 1 بط 2: 22). وبموته خلص المائتين من الموت، وبحمله اللعنة خلَّصهم منها[273].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

"في الخفاء" [24]: يمكن ارتكاب كل الخطايا المذكورة هنا سرًّا، لذلك يتوجَّه التحذير إلى ضمير الفرد. ولقد دعا الله الشعب كله ليشجبوا هذه الخطايا علنًا.

"كلمات هذا الناموس" [26] يرتبط الشعب بالعهد بطريقة اللعنة، وهي طريقة معروفة في الشرق (أع 23: 12) وقد تكرَّر هذا العمل مع نحميا (10: 29) وذكره بولس (غل 3: 10) وقد حمل المسيح اللعنة على نفسه (غل 3: 13) ليحرِّر شعبه منها.

ثالثًا: مع كل إعلانٍ عن لعنة كان جميع الشعب يقول آمين. أمَّا وقد جاء ذاك القادر أن يحمل اللعنة عنَّا، فإنَّنا نترنَّم مع الرسول بولس قائلين: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنَّه مكتوب ملعون كل من عُلِّق على خشبة" (غلا 3: 13).

مع كل صرخة: "آمين"، يشعر كل مؤمن حقيقي بعجز الناموس لا عن تقديم بركة، وإنَّما حتى عن تقديم الحياة، إذ سقط الكل تحت الموت. يترقَّب المؤمن مجيء المخلِّص المسيَّا القادر وحده أن يحمل عنَّا اللعنة ويهبنا حياته الطوباويَّة. "كنَّا محروسين تحت الناموس مُغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن. إذًا قد كان الناموس مؤدِّبنا إلى المسيح لكي نتبرَّر بالإيمان" (غلا 3: 23-24).


 

من وحيّ تثنيَّة 27

لتقم من قلبي لوحيّ شريعة،

ولتجعل منه مذبحًا لك

v     قلبي بين يديك، بروحك الناري انقش وصيَّتك عليه.

أقم منه لوحيّ شريعة،

يحملان عمل إصبعك الإلهي.

v     من ينزع وصيَّتك عنِّي ينتزع قلبي،

ويحرمني من حياتي.

تبقى وصيَّتك في داخلي حتى أعبر الأرض الجديدة.

هي كنزي ورصيدي السماوي.

v     لتجعل من قلبي مذبحًا مقدَّسًا لك.

عليه تُقدَّم محرقات الحب، إذ يحترق كل كياني حبًا لك.

عليه أقدِّم ذبيحة السلامة، فأنت هو سرّ مصالحتي مع أبيك القدُّوس.

أنت واهب السلام الحق!

لتقم في قلبي وليمة حب تقدَّم على مذبحك.

حيث تدخل وتتعشَّى معي وأنا معك!

حوِّل قلبي إلى وليمة فرح، فترد لي بهجة خلاصك.

v     قلبي يتهلَّل بوصيَّتك ويشبع بمذبحك.

يتأمَّل في البركات التي تعلنها بلا انقطاع، ولا تجد اللعنات لها موضعًا فيه.

لتقف أنت في قلبي وتمد يدك بالبركة.

أنت هو سرّ الطوبى الحقَّة.

<<

 

 


 

الأصحاح الثامن والعشرون

البركات واللعنات

إذ اقترب موسى النبي من الانتهاء من حديثه الوداعي مع شعبه الذي أوشك على الدخول إلى أرض الموعد قدَّم لهم حق الخيار بين الطاعة أو العصيان، كاشفًا عن بركات الطاعة للوصيَّة الإلهيَّة أو الإخلاص للعهد الإلهي. كما كشف عن لعنات العصيان أو كسر العهد. يؤكِّد هذا الأصحاح حريَّة الإنسان في اختيار إحدى الطريقين، فالأمر بين يديه، إذ نعمة الله مستعدَّة دومًا للعمل في حياة الراغبين فيها.

يلاحظ في الحديث عن البركات واللعنات الآتي:

1. يقدِّم الله بركاته لشعبه ولبنيه كهبة مجَّانيَّة أو نعمة من قبله، لكنَّه في حبُّه للإنسان يسأله ألاَّ يعيش بروح الاستهتار والتشويش، بل يسلك كما يليق بشعب منتسب لله، أو كابن يرتبط بروح أبيه، يريد أن يراهم ناضجين روحيًا.

2. لم يكن ممكنًا للشعب في بداية طريقه الروحي أن تقدَّم له المكافآت والجزاءات على المستوى الأبدي، وإنَّما على مستوى حياته الزمنيَّة، حتى متى جاء كلمة الله ونضج المؤمن تصير نظرته أعظم وفكره أكثر نضوجًا ليطلب السماويَّات ويخشى العقوبة الأبدي.

3. هذه العطايا أو اللعنات لها مفهومها الخاص بالنسبة للمسيحي على ضوء الفكر الإنجيلي، واللقاء مع السيِّد المسيح، الذي يرفعه لا ليطلب بركات زمنيَّة ولا ليخشى من الضربات الأرضيَّة إنَّما يطلب لنفسه واهب البركات ويخشى الحرمان من الشركة معه في الأمجاد السماويَّة.

1. بركات الطاعة                              [1-14].

أولاً: التصاق البركة بالمطيع            [1-6].

ثانيًا: النصرة على الأعداء               [7].

ثالثًا: التمتُّع بالغنى                      [8].

رابعًا: التمتُّع بالقداسة                   [9].

خامسًا: التمتُّع بالكرامة                  [10].

سادسًا: التمتُّع بالأثمار                  [11].

سابعًا: الطبيعة خادمة للمطيع           [12].

ثامنًا: التمتُّع بروح القيادة                [13-14].

2. لعنات العصيان                             [15-68].

أولاً: التصاق اللعنة بالعاصي            [15-19].

ثانيًا:المعاناة من الاضطراب              [20].

ثالثًا: المعاناة من الوبأ                   [21-22].

رابعًا: الطبيعة تقاوم للعاصي            [23-24].

خامسًا: الهزيمة أمام الأعداء            [25-26].

سادسًا: حرمان من كل عطيَّة           [27-35].

سابعًا: فقدان الكرامة                    [36-37].

ثامنًا: حرمان من تعب اليدين            [38-42].

تاسعًا: انحدار واِنهيار                    [43-46].

عاشرًا: السقوط تحت العبوديَّة           [47-57].

حادي عشر: حلول ضربات مصر        [58-60].

ثاني عشر: حلول الفناء                 [61-67].

ثالث عشر: ارتداد إلى مصر             [68].

 

1. بركات الطاعة

جاءت البركات هنا قبل اللعنات ليعلن الله أنَّه بطيء في الغضب وسريع في إظهار المحبَّة والرحمة، فإنَّه يُسر بأن يبارك، مشتاقًا ألاَّ يسقط أحد تحت اللعنة. أوضح رغبة الله في نجاح شعبه وتقديسه [1-14]. جاء الوعد بفيضٍ من البركات الجسديَّة والماديَّة لمن يخلص للعهد في طاعة للوصيَّة. هذا ويليق بنا في تعاملنا مع الله أن نمتلئ برجاء البنين في محبَّة الله أبيهم عن أن نرتعب منه في خوف العبيد من غضب السيِّد.

يقدِّم لنا الشروط التي على أساسها ننال البركات ألا وهي:

·        الاستماع باجتهاد لصوت الله [1-2] لكي نحمل في داخلنا إرادته المقدَّسة [13].

·        الطاعة للوصيَّة والسير في طريقه الإلهي [9]، لا مرة واحدة ولا مرات، بل نحفظها على الدوام، ونسير في طريقه إلى نهايته لا إلى المنتصف.

·        ألاَّ ينحرف الإنسان عن الطريق يمينًا أو يسارًا، وذلك بعدم المبالغة في الأمور وعدم التهاون فيها.

يميِّز هنا بين نوعين من البركات، متكاملين معًا، وهما البركات التي تحل بالشعب ككل معًا، وتلك التي تحل بالعضو وأسرته، وإن كان لا يمكن الفصل بين العضو والجماعة كلها. فمن جهة البركة الجماعيَّة يقول:

"وإن سمعت سمعًا لصوت الرب إلهك،

لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم،

ويجعلك الرب إلهك مستعليًا على جميع قبائل الأرض" [1].

يبدأ البركات بعمل الله مع الجماعة حيث يرفعها على جميع قبائل الأرض؛ فإن كان الله ساكنًا في الأعالي فإنَّه يقيم من كنيسته جماعة سماويَّة، يحملها روحه القدُّوس كما إلى العرش، فتصير عالية فوق جميع قبائل الأرض.

هذا هو عمل الطاعة، بينما ننحني بإرادتنا أمام الله، إذا به يرفع فكرنا وإرادتنا وكل أعماقنا لنحمل سمات سماويَّة، ونصير كمن لا نُحصى بين الأرضيِّين، ننعم بالشركة مع السمائيِّين. إذ يتحدَّث عن البركة الإلهيَّة يُنسب الله للشعب فيكرِّر التعبير: "الرب إلهك".

أولاً: التصاق البركة بالمطيع:

يشتهي كل إنسان أن يتمتَّع بالبركة متسائلاً: كيف يمكنني بلوغها؟ لكن النبي هنا يكشف لنا عن حب الله الفائق، الذي يود أن يحملنا إلى حياته المطوَّبة لكي نختبرها. البركات هي التي تسعى وراء الإنسان، إذ كثيرًا ما يظن الإنسان أنَّه غير أهلٍ لها، حتى في يوم الرب العظيم يقول المؤمنون: "متى رأيناك جائعًا فأطعمناك؟" (مت 25: 27). إنَّنا في حاجة لا أن نسعى وراء البركة بل أن نفتح لها أبواب قلبنا. يرى النبي البركة أشبه بكائن أو شخص يسعى وراء المؤمن لكي يدركه ويلتصق به ويتَّحد معه، إذ يقول:

"وتأتي عليك جميع البركات، وتدركك، إذا سمعت لصوت الرب إلهك" [2].

يوجِّه الحديث إلى الشعب ككل كما لو كانوا شخصًا واحدًا، فسرّ البركة هو وحدة الشعب معًا، لينعم الجميع معًا بما هو لبنيانهم إن سلكوا في الطاعة لصوت الرب.

إنَّها تأتي إلى المؤمن لكي تدركه وتقدِّم له ذاتها بكل غناها الفائق وإمكانيَّاتها الإلهيَّة. تتقدَّم لتبارك كل جوانب حياته الداخليَّة والخارجيَّة وكل علاقاته، فتهبه سلامًا في القلب ومع الغير.

بعد أن كشف عن البركات الإلهيَّة بكونها كائنًا يعمل فينا ويقطن في داخلنا، إذ هي ظل لشخص السيِّد المسيح الذي جاء إلينا، أوضح الجوانب التالية لهذه البركات:

§      أنواعها: بركات أرضيَّة ونفسيَّة وروحيَّة.

§      امتدادها: تعمل في المدينة كما في القرية [3]. تحل البركة في كل موضع، أي ننعم ببركات سماويَّة تخص مدينة أورشليم العليا، وبركات زمنيَّة تخص حقل الخدمة في هذا العالم.

§      عملها: بركات تمس كل جوانب حياتنا. "مباركة تكون ثمرة بطنك (تقديس الروح)، وثمرة أرضك (تقديس الجسد)، وثمرة بهائمك (تقديس الطاقات البشريَّة)" الحياة الداخليَّة والخارج [4].

§      اهتمامها: تهتم حتى بالاحتياجات اليوميَّة للإنسان. "مباركة تكون سلَّتك (الكماليَّات كالفاكهة بالنسبة لذلك الوقت) ومعجنك (الضروريَّات كالخبز اليومي)" [5].

§      مركزها: ترافق الإنسان وتلتصق به في كل تحرُّك، في دخوله وخروجه [6].

§      قدرتها: تحفظه من الأعداء وتهبه روح النصرة [7].

§      إمكانيَّاتها: تهبه غنى حقيقيًا، بركة في الخزائن، بل يصير هو نفسه "شعبًا مقدَّسًا" أي "بركة" للغير [8].

§      غايتها: تقيمنا قدِّيسين للقدُّوس [9].

§      مكافأتها: تهب المؤمن كرامة ومخافة [10].

§      نتائجها: إثمار دائم [11].

§      دورها: تفتح أبواب السماء للمؤمن فيض بركة بلا حصر. "يفتح لك الرب كنزه الصالح ليعطي مطر أرضك في حينه (أي يرسل روحه القدُّوس فينا) وليبارك كل عمل يدك" [12].

§      رسالتها: تقيم من المؤمن قائدًا ناميًا [13].

أ. "مباركًا تكون في المدينة، ومباركًا تكون في الحقل" [3]. تحل البركة بالمؤمن بغض النظر عن ظروفه، إن كان رجل المدينة العامل في التجارة أو الصناعة، أو كان في الحقل عاملاً في الزراعة أو الرعي. أنَّه يتمتَّع بالحياة الإلهيَّة المباركة أو المطوَّبة مهما كان عمله أو مركزه أو دوره في المجتمع.

كان يُقال "أوجد الله القرى، وأوجد الإنسان المدن". وها هو الله يؤكِّد رعايته للمدينة كما للقريَّة. يبارك المدينة ببرِّه الإلهي فيزيل عنها جوَّها الملوَّث، فلا يكون للشرّ موضع فيها، بل يتنسَّم رائحة المسيح الذكيَّة.

ب. "ومباركة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، وثمرة بهائمك، نتاج بقرك وأُناث غنمك" [4]. خلق الله الأرض وكل ما عليها وما فيها من أجل الإنسان، فإن تبارك الإنسان حلّت البركة على الأرض الخادمة له بكل إمكانيَّاتها وحيواناتها. أمَّا إن حلَّت به اللعنة فيقول له الله: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيَّام حياتك؛ وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل" (تك 3: 17-18).

تحل البركة بالأعماق الداخليَّة "ثمرة بطنك"، وتحل بالحياة الخارجيَّة "ثمرة أرضك"، كما تحل بالجسد بكل غرائزه "ثمرة بهائمك".

ج. "مباركة تكون سلَّتك ومعجنك" [5]. يرى البعض أن السلَّة تمثل المكان الذي يخزن فيه الإنسان الفواكه والمحاصيل الزراعيَّة. وأمَّا المعجن (الصغير) فهو الإناء الذي يعجن فيه الإنسان خبزًا يكفي العائلة ليوم واحدٍ. هكذا يبارك الله احتياجات الإنسان اليوميَّة، فلا يعتاز إلى شيء.

د. "مباركًا تكون في دخولك، ومباركًا تكون في خروجك" [6]. وكما يقول المرتِّل: "الرب يحفظ خروجك ودخولك من الآن وإلى الدهر" (مز 121: 8). بركة الرب ليس فقط تحل في حياة الإنسان الداخليَّة والخارجيَّة لتبارك كيانه كله كما أعماله وممتلكاته، وإنَّما تسير معه وترافقه أينما حلَّ، في خروجه كما في دخوله.

ثانيًا: النصرة على الأعداء:

"يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك.

في طريق واحدة يخرجون عليك،

وفي سبع طرق يهربون أمامك" [7].

لم يعد الله المؤمن المطيع ألاَّ يُحاربه عدو، بل على العكس يؤكِّد قيام أعداء ضدُّه، لكن المقاومة تؤدِّي به إلى النصرة والغلبة، فيتمتَّع بأمجاد وأكاليل. فالأعداء ليسوا إلاَّ خطوة نحو المجد. حياتنا معركة دائمة، حيث يخرج عدو الخير بكل جنوده وأعماله الشرِّيرة، مع خبرته الطويلة، ومكره وخداعه ليهاجم المؤمن مركزًا عليها كما في طريق واحدة، لكنَّه سرعان ما يتبدَّد العدو أمام نعمة الله واهبة النصرة. فيهرب العدو من أمام وجه المؤمن متشتِّتًا كما في طرقٍ كثيرة.

ثالثًا: التمتُّع بالغنى:

"يأمر لك الرب بالبركة في خزائنك،

وفي كل ما تمتد إليه يدك،

ويباركك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك" [8].

إذ ترافق بركة الرب المؤمن وتسكن فيه، ليس فقط ترفعه إلى السماء فيكون له اسم أعلى من جميع الشعب، وإنَّما تبارك حتى في إمكانيَّاته الزمنيَّة "خزائنه"، وتجعل يديه بركة، فتتبارك كل ما تمتد إليه يداه، حتى الأرض تتبارك بسببه. ببركة الرب يسبح المؤمن قائلاً: "القليل الذي للصديق خير من ثروة أشرار كثيرين" (مز 37: 16).

يفتح الله أبواب السماء أمام الأمين كمن يقدِّم له من كنزه كل ما هو جديد. ولا تعرف البركة حدودًا، فإن كانت تفتح أبواب السماء أمام المؤمن ليجد فيها كل شبعه، فإنَّها في نفس الوقت تقدِّس الأرض التي يمشي عليها، والعمل الذي تمتد إليه يداه فتمتلئ مخازنه بالغنى. أمَّا الغنى الذي لا ترافقه بركة الرب فيصير كارثة، ولن يُشبع الإنسان. وكما يقول الحكيم:

"من يحب الفضَّة لا يشبع من الفضَّة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخلٍ. هذا أيضًا باطل.

إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها، وأي منفعة يصاحبها إلاَّ رؤيتها بعينيه؟!

يوجد شرّ خبيث رأيته تحت الشمس. ثروة مصونة لصاحبها لضرره. فهلكت تلك الثروة بأمرٍ سيِّئ، ثم ولد ابنًا وما بيده شيء. كما خرج من بطن أمِّه عريانًا يرجع ذاهبًا كما جاء ولم يأخذ شيئًا من تعبه فيذهب به في يده" (جا 5: 10-15).

يقول الرسول يعقوب: "هلمَّ أيُّها الأغنياء ابكوا موَلوِلين على شقاوتكم القادمة؛ غناكم قد تهرَّأ وثيابكم قد أكلها العُثّ" (يع 5: 1-2). على العكس إن وُجدت بركة الرب حتى وإن لم تمتلئ مخازن الإنسان فإنَّه يُحسب غنيًا. يقول المرتِّل: "القليل الذي للصديق خير من ثروة أشرار كثيرين" (مز 37: 16).

رابعًا: التمتُّع بالقداسة:

"يقيمك الرب لنفسه شعبًا مقدَّسًا كما حلف لك، إذا حفظت وصايا الرب إلهك، وسلكت في طرقه" [9].

"يقيمك" نفس الكلمة التي استعملها المسيح عن إقامة ابنة يايرس (مر 5: 41) ووردت في (تث 18: 15، 18)، وهي تعلن إقامة شيء جديد. من أثمن العطايا والبركات الإلهيَّة أن يقيم الله من الناس شعبًا مقدَّسًا، ويجعل من الإنسان كائنًا ينتسب لله، يحمل برُّه الإلهي وقداسته.

مفهوم التقديس هو تخصيص الإنسان بكل كيانه لله القدُّوس، فإن كان الله منشغلاً بخلاص الإنسان ومجده، فالمؤمن في تجاوبه مع محبَّته لله يكرِّس طاقاته بروح الله القدُّوس للعمل لحساب ملكوته.

هذه البركة تحمل أيضًا معنى الاستقرار والتأسيس الثابت، فكنيسة الله، وكل بيت، بل وكل قلب يحتاج إلى يد الله الفائقة لكي تثبت فيها مملكته. وكما يقول لوقا الإنجيلي: "فكانت الكنائس تتشدَّد في الإيمان وتزداد في العدد كل يوم" (أع 16: 5). ويقول الرسول بولس لأهل روميَّة: "لأنِّي مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحيَّة لثباتكم" (رو 1: 11). ولأهل كولوسي: "فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه، متأصِّلين فيه ومبنيِّين فيه وموطَّدين في الإيمان" (كو 2: 6-7). وفي رسالته إلى العبرانيِّين: "لا تُساقوا بتعاليم متنوِّعة وغريبة لأنَّه حسن أن يثبت القلب بالنعمة" (عب 13: 9). كما يقول الرسول بطرس: "وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع بعدما تألمتم يسيرًا هو يكمِّلكم ويثبِّتكم ويقوِّيكم ويمكِّنكم" (1 بط 5: 10). "لذلك لا أُهمل أن أذكِّركم دائمًا بهذه الأمور وإن كنتم عالمين ومثبَّتين في الحق الحاضر" (2 بط 1: 12).

هكذا يثبِّت الله شعبه في القداسة التي له لنصير أيقونة له، لا تستطيع كل القوى أن تشوِّهها أو تزيلها. إنَّها من عمل الروح القدس في أعماقنا.

خامسًا: التمتُّع بالكرامة:

"فيرى جميع شعوب الأرض أن اسم الرب قد سُمِّي عليك،

ويخافون منك" [10].

"اسم الرب" هو الرب كما يعلن عن نفسه، فحينما يُدعى علينا اسمه إنَّما نقتنيه، فنحمل مخافته وكرامته فينا، لذا تخاف جميع شعوب الأرض منَّا. قيل عن الإسرائيليِّين الروحيِّين: "ولهم التبنِّي والمجد" (رو 9: 4). نال إسرائيل الظل، أمَّا نحن فننال النعمة والحق، إذ يقول الرسول: "لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الأشياء" (عب 10: 1).

بالطاعة تُعلن مخافة الله العاملة فينا، وإذ نخاف لئلاَّ تجرح مشاعر حبُّه، يرد لنا هذه المخافة بمخافة الآخرين لنا. من يكرم الله يكرمه الله؛ ومن يخافه يهبه مهابة ومخافة. قيل عن الكنيسة الأولى: "وصار خوف في كل نفس" (أع 2: 43).

يخشى العالم صلوات الأبرار، مع أنَّها لا تحمل كراهيَّة أو بغضه لهم. يشعرون بالمخافة أمام الله الذي يُسر بهم ويسكن فيهم.

إذ يُدعى علينا اسم الرب يليق بنا أن نحمله، لا بالشكل الخارجي، بل بالثبوت فيه. وكما يقول الرسول بولس: "لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليُّون" (رو 9: 6). وفي يوم الرب العظيم يتم الفصل بين الذين يحملون اسمه شكليًا، والذين يحملون قوَّته روحيًا إذ "ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبَّأنا؟! وباسمك أخرجنا شيَّاطين؟! وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة؟! فحينئذ أصرِّح لهم أنِّي لم أعرفكم قط، اذهبوا عنِّي يا فاعلي الإثم" (مت 7: 21-23).

سادسًا: التمتُّع بالإثمار:

"ويزيدك الرب خيرًا في ثمرة بطنك، وثمرة بهائمك، وثمرة أرضك، على الأرض التي حلف الرب لآبائك أن يعطيك" [11].

مع الكرامة التي يتمتَّع بها المؤمن كهبة إلهيَّة يهبه الله خيرًا متزايدًا لا ينقص، خيرًا في أولاده ثمرة بطنه، وخيرًا في ممتلكاته كالبهائم، وخيرًا في الأرض التي يسكن فيها.

سابعًا: الطبيعة خادمة للمطيع:

"يفتح لك الرب كنزه الصالح، السماء ليعطي مطر أرضك في حينه،

وليبارك كل عمل يدك،

فتقرض أممًا كثيرة،

وأنت لا تقترض" [12].

إذ يفتح المؤمن قلبه لله بالطاعة تفتح السماء أبوابها لتمطر لا كنوزها بل واهب كل الكنوز، مطر الروح القدس الذي يعمل في حياة المؤمن، واهبًا إيّاه روح البركة والنصرة مع الخلود.

v     حتى السماء تدعى أيضًا جديدة عندما لا تعود تصير نحاسًا، بل تعطي مطرًا، والأرض تصير مثلها جديدة عندما لا تكون عقيمة[274]...

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

الإنسان الأمين في علاقته مع الله يرى أبواب السماء مفتوحة أمامه ليسحب من المخازن لا أمطار من مياه، بل يسحب طبيعة الحب، فيشتاق أن يقرض ويُعطي لا أن يأخذ. يتَّسع قلبه بالحنو ويفيض على كل من حوله بغير حسابٍ.

ثامنًا: التمتُّع بروح القيادة:

"ويجعلك الرب رأسًا لا ذنبًا،

وتكون في الارتفاع فقط ولا تكون في الانحطاط،

إذا سمعت لوصايا الرب إلهك التي أنا أوصيك بها اليوم لتحفظ وتعمل.

          ولا تزيغ عن جميع الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم يمينًا أو شمالاً لكي تذهب وراء آلهة أخرى تعبدها" [13-14].

مع ارتباط الطاعة بالتواضع يهب الله أولاده لا روح الخنوع والمذلَّة، بل روح القيادة الصادقة الحيَّة، فيصير المؤمن رأسًا لا ذنبًا. يقول الحكيم عن اقتناء الحكمة الإلهيَّة: "ارفعها فتُعلِّيك، تمجِّدك إذا اعتنقتها، تُعطي رأسك إكليل نعمة" (أم 4: 28-29). يهب الله أولاده روح النمو الدائم، فيرتفعون دومًا ولا يهبطون، ينمون بطيئًا لكنَّه نمو دائم وثابت، لن يُقهر.

إذ يرتبط المؤمن بمخلِّصه الابن الوحيد، البكر، يصير هو أيضًا بكرًا. وفي طاعته لملك الملوك يصير ملكًا. ويبقى في حركة نموّ دائم مشتاقًا أن يبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح.

v     يتطلَّب الناموس من الشخص الذي يحفظه ألاَّ يترك الطريق الذي يقول عنه الرب أنَّه "ضيِّق وكرب" (مت 7: 14)، فلا ينحرف يسارًا ولا يمينًا.

يقوم هذا التعليم على أن الفضيلة تتميَّز بهذا (الاعتدال). فإن كل شر يعمل طبيعيًا خلال نقص الفضيلة أو المبالغة فيها. ففي حالة الشجاعة، الجبن هو نقص للفضيلة، والتهوُّر هو مبالغة فيها...

هكذا كل الأمور الأخرى التي فيها تجاهد من أجل البلوغ إلى ما هو أفضل، تأخذ الطريق الوُسطى بين الشرور المتجاورة.

الحكمة تتمسَّك بالطريق بين المكر والبساطة. فليست حكمة الحيَّة ولا بساطة الحمامة (مت 10: 16) يمكن أن تُمدح، إن اختار الشخص إحداهما وحدها. بالأحرى الفضيلة هي اتِّحاد هاتين الاثنتين معًا بقوَّة في الطريق.

الإنسان الذي ينقصه الاعتدال متسيِّب، والذي يسير إلى ما وراء الاعتدال يصير ضميره معذَّبًا (1 تي 4: 2) كقول الرسول. فالواحد يسلِّم نفسه للملذَّات بلا ضابط، والآخر يدنِّس الزواج كما لو كان زنا. أمَّا السلوك في الطريق الوسطى بينهما فهو الاعتدال[275].

القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

2. لعنات العصيان

إذ أظهر الجانب المبهج للسحابة المتَّجه نحو الطاعة يقدِّم لنا الجانب المظلم الذي يتَّجه نحو العصيان. فإنَّنا إن لم نحفظ وصايا ليس فقط نُحرم من البركات الموعود بها، إنَّما نلقي بأنفسنا تحت اللعنة التي تقدِّم كل بؤس كما تقدِّم البركات كل سعادة.

أعلن الله عن قوَّة بركاته وفاعليَّتها في حياة المؤمن، وفي نفس الوقت كشف عن خطورة العصيان، حتى لا يظن المؤمن أن الحياة الروحيَّة هي حب بلا ضابط ولا قانون. يقدِّم صورة بشعة لما يحل بالشعب بسبب انحرافه عن الله مصدر حياته ونموُّه وفرحه وشبعه وتقديسه وحريَّته الداخليَّة. يرى كثيرون أن هذا الجزء من الأصحاح يمثِّل أرهب ما ورد في الكتاب المقدَّس. قال متى هنري أن إنسانًا ما إذ قرأ هذا الجزء لم يحتمل ما ورد فيه من لعنات، فنزع هذا الأصحاح من الكتاب المقدَّس. لم يدرك هذا أن الحب لابد من أن يُغلَّف بالحزم؛ ومحبة الله الفائقة لا يمكن التمتُّع بها دون المخافة الإلهيَّة.

في كل أمَّة يوجد أناس هم أطفال روحيًا يحتاجون إلى شيء من الخوف كي يرفعهم إلى النضوج ليقبلوا الطاعة خلال الحب. ما يدعوه هنا باللعنات إنَّما يعبَّر به عن الغضب الإلهي ضد الخطيَّة ذاتها أو الشر. غضب الرب مقدَّس، لا يمكن فصله عن الحب؛ فهو يغضب على الخطيَّة، مشتاقًا أن يحرر الخاطئ منها. فاللعنات هي ثمر طبيعي لاعتزال الإنسان الله مصدر كل بركة. فعندما نتحدَّث عن ما يسمح به الله من لعنات، فإن هذه ليست مصدرها الله كلي الحب وصانع الخيرات، إنَّما هي ثمرة إرادتنا الشرِّيرة التي تعتزل مصدر البركة.

الحب الحقيقي يرافقه الإخلاص والجديَّة في العمل، لا التراخي والتهاون وعدم الإخلاص.

اللعنة في الكتاب المقدَّس:

تمثِّل البركات واللعنات عنصرًا جوهريًا في الحياة الروحيَّة وفي الفكر الكتابي. لكن شتَّان ما بين نظرة الكتاب المقدَّس للعنة ونظرة العالم الوثني لها. فالوثنيون يتطلعون إلى اللعنة بكونها غضب إلهي أو من فعل السحر، لا تُنزع من الإنسان خلال التوبة والسلوك الروحي الحيّ، إنَّما خلال استخدام التعاويذ والأعمال السحريَّة. أمَّا الكتاب المقدَّس فيرى في اللعنة الآتي:

اللعنة هي ثمرة طبيعيَّة للخطيَّة، يذوق العاصي عربون مرارتها في العالم لعلَّه يراجع نفسه ويتوب عن خطيته، وإلاَّ فإنَّه يذوق كمال المرارة في العالم العتيد. إن كانت البركة هي عطيَّة الله للبار، فإن اللعنة هي ثمرة الشر الذي يرتكبه العاصي (أم 11: 31). الخطيَّة تدخل بالارتباك والفوضى والفساد إلى النفس، فيصير كل ما هو في داخل الإنسان وخارجه فاسدًا (راجع غلا 6: 8؛ رو 6: 21).

اللعنة عملها هو الفساد: تفسد الفكر والقلب والإرادة وكل كيان الإنسان الداخلي. من بركات الرب علينا إنَّنا لا ندرك تمامًا مدى ما تفعله اللعنة فينا، خاصة في الحياة العتيدة، حتى لا نسقط في اليأس. فما يظهره هذا الأصحاح من عمل اللعنة في حياة الإنسان إنَّما هو ظل لما يحدث في أعماق النفس وينكشف في يوم الرب العظيم.

اللعنة تحرم الطبيعة من الثمر الطبيعي: لقد وضع الله للطبيعة نواميسها لكي تتمم عملها وتأتي بالثمار المتزايدة لسعادة الإنسان. أنَّها تعجز عن تحقيق هذه الثمار بدون العون الإلهي. اللعنة هي اعتزال الإنسان لله ضابط الكل، لهذا ترتبك نواميس الطبيعة بسببها.

اللعنة هي تجرُّد من الحياة: حيثما حلَّت عزلت الإنسان عن الله مصدر الحياة، فيدب فيه الموت أينما وجد.

لا نسقط في اللعنة بلا سبب، ولا لسببٍ تافه، فإن الله لا يبحث عن فرصة ليقف ضدنا، ولا يود أن يدخل معنا في صراع، إنَّما يسقط تحت اللعنة الفئات التالية:

أولاً: الذين يحتقرون الله، ويرفضون الاستماع إليه [15]، فيحسبون صوته كمن لا يستحق الإنصات إليه.

ثانيًا: الذين يعصونه [20]. الله لا يلقينا خارجًا ما لم نلقه نحن خارج حياتنا.

إمكانيَّة اللعنة:

لا يريد الله للإنسان اللعنة بل البركة، فقد خلقه لكي يتمتَّع بشركة الحياة معه، لكن الخطيَّة تحوِّل النور إلى ظلمة، وعذوبة الحياة إلى مرارة، والطعام إلى سم.

§    اللعنة تحوِّل عقل الإنسان الفائق في قدرته وإمكانياته إلى مركز ارتباك للإنسان كله. أنَّها أشبه بفيروس virus يحل بالكمبيوتر ليفسد كل الذاكرة ويربك كل الملفات data التي به.

§    اللعنة تحوِّل الطبيعة الجميلة الخادمة للإنسان إلى أداة لآلامه ومتاعبه.

§    اللعنة تحوِّل الجسد الذي يشارك النفس في تهليلها بالله خالق الكل إلى مركز شهوات تحطِّم النفس والجسد معًا.

§    اللعنة تحوِّل الأبناء عوض كونهم مصدر فرح وبهجة إلى مصدر قلق.

§    اللعنة تجعل من الممتلكات ليس سرّ قناعة للإنسان بل علَّة اضطراب.

§    اللعنة تفسد نظام الطبيعة الفائق بنواميسها الدقيقة إلى حالة من الفوضى.

§    أخيرًا إذ تحل اللعنة بالإنسان يصير كما في غير وعيه، يرى في الشمس أتون نار، وفي الطبيعة وكالة لعنات لا تنتهي، وفي المستقبل ظلمة محطِّمة للنفس.

الهروب من اللعنة:

بصفة عامة كل اللعنات تحل علينا وتسيطر علينا حتى إن سعينا إلى الهروب منها والتغلُّب عليها [15]. قل عن الخاطئ إن غضب الله يتبعه ولا يمكن له الهروب من يده (أي 27: 22). لا يوجد من يهرب من الله بل من يهرب إليه، ليس من يهرب من عدالته بل من يهرب إلى رحمته (مز 21: 7-8).

أينما ذهب الخاطئ تتبعه اللعنة، وأينما وُجد تحل عليه وتستقر. أسوار المدينة لا تحميه، والهواء النقي للحقل لا يحفظه من الدخان المفسد. تحل اللعنة على بيت الشرِّير (أم 3: 33). وحين يخرج من البيت، فإنَّه لا يستطيع أن يتركها في البيت ويهرب منها، إذ تدخل إلى أحشائه وتتسلل إلى عظامه.

اللعنة بالنسبة له كالأرض التي يقف عليها كما حدث مع قايين (تك 4: 11). تحل اللعنة في السلَّة والمخزن أي في عقله وضميره (تي 1: 15)، فلا يجد راحة مطلقًا، بل يفقد سلام قلبه وفكره.

تحل اللعنة على ما تمتد إليه يديه [20]، فيدخل في حالة إحباط شديدة.

يهدد الله بأحكام قاسية كما في (حز 14: 21). إن لم يرتدع الإنسان يسقط في أحكام مضاعفة.

اللعنة والنبوَّة:

يرى البعض أن ما ورد هنا من لعنات كانت نبوات تحقَّقت عبر العصور:

                        §          الغزوات الأشوريَّة والكلدانيَّة التي أُشير إليها في (إر 4: 13) [15].

                        §          السبي البابلي لمدَّة 70 عامًا.

                        §          الاحتلال الروماني كأعداء غرباء [49-50].

                        §          حصار أورشليم بواسطة تيطس كما جاء في يوسيفوس المؤرخ[276].

                        §          بيع مئات بل آلاف من اليهود عبيدًا عبر العصور.

يقول القدِّيس أثناسيوس الرسولي:

v     يتَّجه هؤلاء الأشرار نحو قتل أنفسهم بكل أنواع الشهوات... نعم، فإنَّهم حتى عندما يعيشون يكونون في عارٍ، إذ يحسبون بطونهم آلهتهم، وعندما يموتون يتعذبون[277].

أولاً: التصاق اللعنة بالعاصي:

كما يشبِّه البركات بشخص يجري وراء المؤمن يود أن يلحق به ويدخل إلى أعماقه هكذا تفعل اللعنات. فإن الصراع قائم بين الله وإبليس، الله يود أن يقتني الإنسان ابنًا له ليهبه شركة أمجاد أبديَّة، وإبليس يبذل كل الجهد ليقتنيه ابنًا معه يشاركه في الهلاك.

"ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم،

تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك" [15].

تحاول اللعنات أن تقتفي أثر الإنسان حيثما ذهب لتقدِّم له على الدوام كل ما هو مضاد للبركات. تود اللعنات أن تمتد لتعمل في الإنسان إن كان في المدينة أو الحقل، تمس حياته الداخليَّة كما الخارجيَّة، تفسد حتى عمله اليومي، ترافقه في دخوله كما في خروجه.

"ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل.

ملعونة تكون سلَّتك ومعْجنك.

ملعونة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، نتاج بقرك وإناث غنمك.

ملعونًا تكون في دخولك، وملعونًا تكون في خروجك" [16-19].

اللعنة هنا هي تجريد المدينة والقريَّة والإنسان من كل لمسات الحياة، فيدب الموت في كل مكان.

ثانيًا: المعاناة من الاضطراب:

"يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله،

حتى تهلك وتفنى سريعًا من أجل سوء أفعالك إذ تركتني" [20].

إن كان ثمر الروح هو الحب الممتزج بالفرح (غلا 5: 23)، حيث يحمل الروح النفس كما إلى السماء لتذوق الفرح الأبدي وهي بعد وسط اضطرابات العالم وهمومه وتجاربه، فإن عمل الخطيَّة خاصة العصيان هو حرمان الإنسان من هذا الجو السماوي. إذ بالعصيان يعطي الإنسان ظهره لله مصدر الفرح الحقيقي، لذا فهو يلقي بنفسه في جحيم القلق والاضطراب، حاملاً روح الزجر وعدم الشكر في كل عملٍ تمتد إليه يده. أنَّه يدفع نفسه بنفسه إلى الدمار الداخلي.

ثالثًا: المعاناة من الوبأ:

"يلصق بك الرب الوبأ حتى يُبيدك عن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها.

يضربك الرب بالسُل والحمَّى والبرداء والالتهاب والجفاف واللفح والذبول، فتتبعك حتى تفنيك" [21-22].

جاءت كلمة "الوبأ" في الترجمة السبعينيَّة "الموت"، فإنَّه إذ يرفض الإنسان الالتصاق بالله مصدر الحياة، بعصيانه يدفع بنفسه إلى الموت. تحل به الأمراض بكل أنواعها حتى يذبل جسده مع نفسه، ويفقد كل حيويَّته ويصير أشبه بميِّت قد فنيَ!

تحل الأمراض بأنواعها المختلفة بالإنسان، كما تُصاب الزراعة بالأمراض مثل اللفح. جاء في عاموس: "ضربتكم باللفح واليرقان، كثيرًا ما أكل القمص جناتكم وكرومكم وتينكم وزيتونكم فلم ترجعوا إليّ يقول الرب" (عا 4: 9). وأيضًا الذبول الذي تسببه الرياح الشرقيَّة كما جاء في حلم فرعون: "هوذا سبع سنابل يابسة رقيقة ملفوحة بالريح الشرقيَّة" (تك 41: 23)، حيث تضرب الرياح الساخنة السنابل قبل أن تحمل الثمار فتجف.

رابعًا: الطبيعة تقاوم العاصي:

"وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا،

والأرض التي تحتك حديدًا.

ويجعل الرب مطر أرضك غبارًا وترابًا ينزل عليك من السماء حتى تهلك" [23-24].

الطبيعة التي خلقها الله للإنسان لشبعه وإسعاده تقف ضده، فتصير السماء نحاسًا لا تقدِّم مطرًا، والأرض حديدًا لا تنبت فيها البذور، فتحل المجاعة بالأرض ويُعاني الإنسان من نقص المحاصيل. وكما سبق فحذرهم الرب: "فأحطم فخار عزكم وأصيِّر سماءكم كالحديد وأرضكم كالنحاس، فتفرغ باطلاً قوتكم، وأرضكم لا تُعطي غلتها، وأشجار الأرض لا تعطي ثمارها" (لا 26: 19-20).

عِوض سقوط أمطار من السماء على الأرض لترويها تسقط رمالاً ثقيلة، وغُبارًا يعمي العينين. يفقد الإنسان راحته ورؤيته للأمور كما ينبغي.

هكذا إذ يعطي الإنسان ظهره لله يفقد عطيَّة روحه القدُّوس فتصير نفسه "السماء" كالنحاس لا تحمل ثمر الروح، ويحمل الجسد روح العناد والمقاومة فيكون كالحديد.

خامسًا: الهزيمة أمام الأعداء:

"يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك.

في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم،

وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض.

وتكون جثَّتك طعامًا لجميع طيور السماء ووحوش الأرض،

وليس من يزعجها" [25-26].

قبل دخولهم أرض الموعد وتمتعهم بالنصرة على الأمم القاطنة في كنعان أكد لهم أنَّهم إن خالفوا وصيته يفقدون نصرتهم وكرامتهم وتصير جثثهم مأكلاً لطيور السماء ووحوش البريَّة، سواء على مستوى الشعب ككل أو على مستوى الفرد. وكما قال أخيَّا النبي لامرأة يربعام: "من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب، ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء، لأن الرب تكلم" (1 مل 14: 11). وجاء في المزمور: "اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك، نجَّسوا هيكل قدسك، جعلوا أورشليم أكوامًا، ودفعوا جثث عبيدك طعامًا لطيور السماء. لحم أتقيائك لوحوش الأرض" (مز 79: 2). ويقول الرب على لسان إرميا النبي: "لذلك ها أيام تأتي يقول الرب... تصير جثث هذا الشعب أكلاً لطيور السماء ولوحوش الأرض ولا مزعج" (إر 7: 32-33).

الترجمة الحرفيَّة لعبارة "قلقًا في جميع ممالك الأرض" هي "تحركها جميع ممالك الأرض من هنا وهناك، إلى أعلى وإلى أسفل"، أي تصير أشبه بكره تلعب بها كل ممالك الأرض. وكما قيل: "وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض" (إر 15: 4)، "وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض عارًا ومثلاً وهزأة ولعنة في جميع المواضع التي أطردهم إليها" (إر 24: 9؛ راجع إر 29: 18).

سادسًا: حرمان من كل عطيَّة:

إن كان الله قد ضرب المصريِّين الذين استعبدوا الشعب وقد رفض فرعون السماح للشعب أن يخرج ليذبح للرب في البريَّة ويعيِّد، فإن هذا الشعب متى عصى الرب ورفض الالتقاء معه خلال الطاعة والأمانة للعهد يسقط تحت الضربات دون محاباة. لا يحابي الله أمَّة على أمَّةٍ، إنَّما تتمتع الأمَّة ببركات الرب أو تخضع للضربات حسب موقفها من الوصيَّة. لهذا يقول: "يضربك الرب بقرحة مصر" [27]. أنَّها ضربات جسديَّة وعقليَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة وأسريَّة واقتصاديَّة وعسكريَّة الخ.

أ. ضربات جسميَّة: حيث يصاب الجسم بالقروح والبواسير والجرب والحكَّة. يمتلئ الجسم بقروح خبيثة من أسفل القدم إلى قمَّة الرأس.

"يضربك الرب بقرحة مصر، وبالبواسير والجرَب والحكَّة حتى لا تستطيع الشفاء" [27].

ب. ضربات عقليَّة: حيث يُصاب الإنسان بنوع من الجنون، فيكون غير قادرٍ على أخذ القرار الحكيم في تدبيره لأمور حياته. ويُصاب بالعمى الفكري في وسط النهار، في الظهيرة يتلمس في الظلام ولا ينجح في طرقه، فيكون كقادة اليهود الذين انطمَست عيونهم عن رؤية السيِّد المسيح، "شمس البر"، فأحبوا الظلمة ورفضوا نور العالم. كما يسقط الإنسان في "حيرة قلب"، فلا يعرف الحق من الباطل، يصير مترددًا في قراراته.

"يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب.

فتتلمس في الظهر كما يتلمس الأعمى في الظلام" [28-29].

لقد أُصيب الشعب اليهودي بالعمى الروحي، فمع أنَّه دعاهم عبده ورسوله، إذ كان يليق بهم أن يكرزوا بالمسيَّا مخلص العالم، انطمست عيونهم عن رؤيته، وأذهانهم عن فهم النبوات الواردة عنه. لذا يوبخهم: "أيها العُمْي أنظروا لتبصروا. من هو أعمى إلاَّ عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله؟! من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب؟!" (إش 42: 18-19). وجاء في صفنيا: "يمشون كالعمى لأنَّهم أخطأوا إلى الرب" (صف 1: 17). كما يقول معلمنا بولس الرسول عن رافضي كلمة الإنجيل: "الذين فيهم إله هذا الدهر أعمى أذهان غير المؤمنين لئلاَّ تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2 كو 4: 4).

ج. ضربات اجتماعيَّة: يسقط تحت الظلم الاجتماعي، يصرخ كل أيام حياته ممَّا يحل به من ظلم وليس من يستجيب، ولا من ينصفه. يئن من الظلم متَّهمًا من هو حوله، وهو لا يعلم أن عصيانه لله ورفضه لمحبة الله يفقده حتى التمتُّع بحقوقه الاجتماعيَّة.

"ولا تنجح في طرقك،

بل لا تكون إلاَّ مظلومًا مغصوبًا كل الأيام وليس مخلص" [29].

د. ضربات أسريَّة: تحل به الضربة في أسرته، يخطب فتاة، فيأخذها آخر. يسقط أيضًا تحت السبي ويسلم أولاده وبناته عبيدًا لشعب آخر.

"تخطب امرأة ورجل آخر يضطجع معها.

تبني بيتًا ولا تسكن فيه.

تغرس كرمًا ولا تستغله.

يذبح ثورك أمام عينيك ولا تأكل منه.

يُغتصب حمارك من أمام وجهك ولا يرجع إليك.

تُدفع غنمك إلى أعدائك وليس لك مخلص" [30-31].

هـ. ضربات عسكريَّة: في المجال العسكري تُسلم بلده للعدو بسبب خطاياه، فيصير أولاده وبناته عبيدًا للغرباء. يراهم بعينيه في مذلة حتى تضعفان وهو في عجز من أن يعمل شيئًا لهم. كل ثمار بلده يتمتَّع بها العدو، ليبقى مع الشعب في جوعٍ وعارٍ.

"يُسلم بنوك وبناتك لشعب آخر،

وعيناك تنظران إليهم طول النهار،

فتكلاَّن وليس في يدك طائلة" [32].

يرى البعض أن تعبير "ليس في يدك طائلة" يعني "لا تكون يدك نحو الله القدير"، غير أن البعض يرى أنَّها تعني "لا تكن ليدك قدرة". فاليد التي لا تمتد بالعمل نحو الله القدير تفقد قدرتها وإمكانياتها، فتصير بلا قوَّة للعمل.

و. ضربات اقتصاديَّة وماديَّة: يُضرب في ممتلكاته، إذ يبني بيتًا ليستقر فيه مع أسرته يؤخذ منه ليبقى بلا استقرار. ويغرس كرمًا لكي يتمتَّع بالعنب ويفرح بالخمر لكنه لا يأكل منه عنقودًا ولا يشرب منه كأس خمر. يُذبح ثوره أمام عينيه ولا يأكل منه. ويُغتصب حماره ولا يرجع، ويَنهب الأعداء غنمه وليس من يخلصه من هذا الظلم.

"ثمر أرضك وكل تعبك يأكله شعب لا تعرفه،

فلا تكون إلاَّ مظلومًا ومسحوقًا كل الأيام.

وتكون مجنونًا من منظر عينيك الذي تنظر.

يضربك الرب بقرح خبيث على الركبتين وعلى الساقين حتى لا تستطيع الشفاء من أسفل قدمك إلى قمَّة رأسك" [33-35].

وكما جاء في صفنيا النبي: "فتكون ثروتهم غنيمة وبيوتهم خرابًا، ويبنون بيوتًا ولا يسكنونها، ويغرسون كرومًا ولا يشربون خمرها" (صف 1: 13). وفي ميخا: "أنت تزرع ولا تحصد؛ أنت تدوس زيتونًا ولا تدهن بزيتٍ، وسلافة ولا تشرب خمرًا" (مي 6: 15).

سابعًا: فقدان الكرامة:

"يذهب بك الرب وبملكك الذي تقيمه عليك إلى أمَّة لم تعرفها أنت ولا آباؤك،

وتعبد هناك آلهة أخرى من خشب وحجر.

وتكون دهشًا ومثلاً وهزأة في جميع الشعوب الذين يسوقك الرب إليهم" [36-37].

تحدَّث عن الضربة العسكريَّة ألا وهي اِنهيار الأمَّة بسبب الخطيَّة ليصير الشعب تحت السبي. الآن يحدثنا عن إحدى اللعنات الخاصة بفقدان الكرامة. فقد خُلق الإنسان ليحيا على الأرض سيِّدًا، وليس أن يستعبده أحد. خلقت الأرض وكل ما عليها وما تحتها وما حولها لخدمة الإنسان، ولم يُخلق الإنسان ليكون عبدًا لأخيه. لكنه إذ يسلم نفسه بنفسه للعبوديَّة للخطيَّة عوض الحريَّة التي يهبها الله لنفسه يسمح الله له أحيانًا بالحرمان من الكرامة والحريَّة لكي يقف أمام أعماقه ويفحصها حتى تسترد حريَّتها وتتحرر من عبوديَّة إبليس، بالعودة إلى الله محررها.

والعجيب إنَّنا نلاحظ هنا الآتي:

أولاً: إن ما يحدث لنا من مرارة مثل السبي وما يلحقه من عبوديَّة ومذلة وسخرية هو بسماح إلهي، إذ يقول: "يذهب بك الرب... يسوقك الرب إليهم".

ثانيًا: يبدو كأن الله قاسٍ في التأديب، فيُقيم أمَّة غريبة لتأديب شعبه. من كان قاسيًا على نفسه ولا يهتم بخلاصها وتحررها من العبوديَّة يسمح لها بعبوديَّة مؤقَّتة قاسية، لكن إلى حين.

ثالثًا: إذ يعصى الشعب الله ويرفض وصاياه، يسمح بأسره بواسطة أمَّة وثنيَّة. هناك يسقط الشعب في العبادة الوثنيَّة إذ يمتثلون بمن سباهم، ويبقون في مذلَّة حتى يرجعوا إلى الله، لا ليعبدوه فحسب، بل ويستجيبون لوصيته. لقد تحقَّق هذا حرفيًا إذ قام أشور بسبي إسرائيل وبابل بسبي يهوذا، وصارت المملكتان في مذلَّة السبي حتى رجوعهم إلى أورشليم.

ثامنًا: حرمان من تعب اليدين:

"بذارًا كثيرة تخرج إلى الحقل وقليلاً تجمع،

لأن الجراد يأكله.

كرومًا تغرس وتشتل وخمرًا لا تشرب ولا تجني،

لأن الدود يأكلها.

يكون لك زيتون في جميع تخومك، وبزيت لا تدهن،

لأن زيتونك ينتثر.

بنين وبنات تلد ولا يكونون لك،

لأنهم إلى السبي يذهبون.

جميع أشجارك وأثمار أرضك يتولاه الصرصر.

وتأتي عليك جميع هذه اللعنات وتتبعك وتدركك حتى تهلك،

لأنك لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحفظ وصاياه وفرائضه التي أوصاك بها.

فتكون فيك آية وأعجوبة وفي نسلك إلى الأبد" [38-46].

بقوله "إلى الأبد" يُعلن رفضه لإسرائيل نهائيًا ما دامت ترفض الإيمان بالمسيَّا الحقيقي، فهي كشعب لم يعد مختارًا من الله، إذ تقاوم مخلص العالم. أمَّا من يرجع إلى الإيمان ويقبل من تحقَّقت فيه النبوات التي بين أيديهم فيجد ذراعيّ الله مبسوطتين له بالحب والقبول. أنَّه ينتظر البقيَّة الباقيَّة الأمينة (إش 10:22؛ 6: 13؛ رو 9: 27؛ 11: 5).

v        (كلمة الله) طعام للنفس وحليها وأمانها، ففي عدم الاستماع إليها مجاعة وحرمان[278].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

تاسعًا: انحدار واِنهيار:

"الغريب الذي في وسطك يستعلي عليك متصاعدًا، وأنت تنحط متنازلاً.

هو يقرضك، وأنت لا تقرضه،

هو يكون رأسًا، وأنت تكون ذنبًا" [43-44].

عاشرًا: السقوط تحت العبوديَّة:

من يرفض أن يخدم الله يلتزم بخدمة الآخرين قسرًا، ومن لا يتعبَّد لله يصير عبدًا للكثيرين. لهذا كثيرًا ما كان القدِّيس أرسانيوس يردد: [كنْ عبدًا لسيِّد واحدٍ، ولا تكن عبدًا لكثيرين].

"من أجل أنك لم تعبد الرب إلهك بفرح وبطيبة قلب لكثرة كل شيء.

تُستعبد لأعدائك الذين يرسلهم الرب عليك في جوعٍ وعطشٍ وعُريٍ وعوزٍ كل شيء.

فيجعل نير حديد على عنقك حتى يهلكك.

يجلب الرب عليك أمَّة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمَّة لا تفهم لسانها؛ أمَّة

جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد.

فتأكل ثمرة بهائمك وثمرة أرضك حتى تهلك ولا تُبقي لك قمحًا ولا خمرًا ولا زيتًا ولا نتاج بقرك ولا إناث غنمك حتى تفنيك" [47-51].

بسبب العصيان غار أشور على إسرائيل وسباه (إش 5: 26؛ 38: 11؛  23: 19)، وغار البابليون على يهوذا وسباه، لكن هنا يتحدَّث بالأكثر عن الدولة الرومانيَّة.

يشبِّه الأمَّة التي تقوم بتأديب الشعب بالنسر الطائر، وكان ذلك نبوَّة عن احتلال الإمبراطوريَّة الرومانيَّة لهم (بعد أشور وبابل ومادي وفارس واليونان). كان النسر هو العلامة المميزة في الجيش الروماني. حتى أن كلمة نسر في اللاتينيَّة aquila يستخدمها بعض الكتَّاب اللآتين بمعنى فرقة عسكريَّة[279].

هذه الأمَّة لا تفهم لسانها لأنَّها تتحدث باللآتينيَّة. أمَّة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد، إذ كان شعار الرومان "القوَّة أو العنف هو الحياة".

"وتحاصرك في جميع أبوابك حتى تهبط أسوارك الشامخة الحصينة التي أنت تثق

بها في كل أرضك،

تحاصرك في جميع أبوابك في كل أرضك التي يعطيك الرب إلهك.

فتأكل ثمرة بطنك لحم بنيك وبناتك الذين أعطاك الرب إلهك في الحصار والضيقة التي يضايقك

بها عدوك.

الرجل المتنعم فيك والمترفه جدًا تبخل عينه على أخيه وامرأة حضنه وبقيَّة أولاده الذين يبقيهم.

أن يعطي أحدهم من لحم بنيه الذي يأكله لأنَّه لم يبقَ له شيء في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في جميع أبوابك" [52-55].

يظن الإنسان أنَّه قادر أن يحتمي في الأسوار العالية القويَّة، لكن اللعنة تسحبه من حيث يظن أنَّه في مصدر أمانه ليجد نفسه فاقد القُوى. لا تستطيع حصون المدن أن تحميه (تث 9: 1)، ولا الخيل والمركبات (مز 20: 7)، ولا كثرة العدد أو الغنى (أم 10: 15)، ولا الحنكة السياسيَّة أو الالتجاء إلى تحالفات مع قوى غريبة (إش 30) أن تحمي الإنسان، لأن يد الله القويَّة تفارقه.

ليتنا لا نختفي في البرّ الذاتي، إذ يستد كل فم أمام الله (رو 3: 19)، ولا أن نضع ثقتنا في أمور باطلة (مت 3: 9، 7: 22)، ولا أن نبرر أنفسنا بأعذارٍ (مت 25: 26؛ لو 14: 18).

يقدِّم صورة غاية في المرارة للملكة المدللة، صاحبة السلطان المحمولة دائمًا على الأكتاف، وقد أذلتها العبوديَّة، إذ يقول:

"والمرأة المتنعِّمة فيك والمترفِّهة،

التي لم تُجرَّب أن تضع أسفل قدمها على الأرض للتنعم والترفه.

تبخل عينيها على رجل حضنها وعلى ابنها وبنتها.

بمشيتها الخارجة من بين رجليها،

وبأولادها الذين تلدهم،

لأنها تأكلهم سرًا في عوزٍ كل شيء، في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في أبوابك" [56-57].

كانت الملكات يبالغن في الزينة والتظاهر بالرقَّة لينلن احترامًا وكرامة، لكن كرامة الإنسان، أيّا كان جنسه رجلاً أو امرأة، أو مركزه، ملكًا أو عبدًا، ليس في الزينة الخارجيَّة ولا فيما يتظاهر به، بل بما تحمله أعماقه من شخصيَّة وقوَّة صالحة وحكمة علويَّة وارتباط داخلي بالسماوي.

هنا يصف الملكات، كيف كنّ يعشن في ترف وتنعُّم حتى أن بطن أقدامهن لا تلمس الأرض. هؤلاء يعانين من الذل والمرارة بسبب السبي.

حادي عشر: تحل به ضربات مصر:

"إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس المكتوبة في هذا السفر لتهاب هذا الاسم

الجليل المرهوب الرب إلهك،

يجعل الرب ضرباتك وضربات نسلك عجيبة.

ضربات عظيمة راسخة وأمراضًا رديَّة ثابتة.

ويرد عليك جميع أدواء مصر التي فزعت منها، فتلتصق بك" [58-60].

واضح أنَّه لا يقصد بهذا الكتاب "سفر التثنية" لكنه يقصد ما قد سبق فسجله موسى النبي من وصايا وشرائع تسلمها من الله.

"الاسم الجليل المرهوب" [58] أسماء الله في التثنية تستحق الدرس، فهو الإله الحي (5: 26)، وإله آبائنا (6: 3)، وإله الآلهة، ورب الأرباب (10: 17، رؤ 19: 16)، والصخر... إله أمانة (32: 4)، والعلي (32: 8)، والإله القديم (33: 27). ولكن أكثر الأسماء استعمالاً هو "الرب إلهك".

ماذا يعني بقوله: "هذا السفر"؟ أثناء إلقاء العظات لم يكن سفر التثنية بعد قد سُجل كسفرٍ، فماذا يعني موسى النبي بالسفر هنا؟ يرى البعض أنَّه سفر الشريعة التي تسلمها موسى النبي من الله.

يربط بين تنفيذ الوصيَّة أو العمل بها وبين التمتُّع بمخافة الرب إلهنا. خلال مخافة الرب نحفظ الوصيَّة، وخلال حفظ الوصيَّة نتذوق عذوبة المخافة الربانيَّة فنختبرها عمليًا وننمو فيها.

ضرب الله المصريين بالضربات العشر الواردة في سفر الخروج [7-11]، حتى يتمتَّع شعبه بالخروج ويتسلم الوصيَّة الإلهيَّة، ويدرك العهد مع الله، الآن إذ يرفض الشعب التجاوب مع الوصيَّة، ولا يحفظها يستحق السقوط تحت ذات الضربات التي سقط تحتها المصريون.

ثاني عشر: حلول الفناء:

"أيضًا كل مرض وكل ضربة لم تُكتب في سفر الناموس هذا يسلطه الرب إلهك حتى تهلك.

وكما فرح الرب لكم ليحسن إليكم ويكثركم، كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم،

فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.

ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها،

وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها ولا آباؤك من خشب وحجر.

وفي تلك الأمم لا تطمئن، ولا يكون قرار لقدمك،

بل يعطيك الرب هناك قلبًا مرتجفًا وكلال العينين وذبول النفس.

وتكون حياتك معلقة قدامك وترتعب ليلاً ونهارًا، ولا تأمن على حياتك.

في الصباح تقول: يا ليته المساء،

وفي المساء تقول: يا ليته الصباح،

من ارتعاب قلبك الذي ترتعب، ومن منظر عينيك الذي تنظر" [61-67].

كانت مسرة الله أن يحسن إلى شعبه ويخلصهم من العبوديَّة، ويكثرهم. هذا هو فرحه! الآن إذ رفض الشعب الالتصاق به يقوم بتأديبهم حتى كما إلى الفناء، لعل البقيَّة ترجع إليه، لذا يفرح أيضًا بتأديبهم وتشتيتهم وسط الشعوب من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.

الله لا يُسر بموت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا (حز 18: 32)؛ والسيِّد المسيح نفسه بكى على أورشليم الساقطة (لو 19: 41).

يرى البابا أثناسيوس الرسولي في قول موسى النبي: "وتكون حياتك معلقة قدامك" نبوَّة عن موت السيِّد المسيح حيث عُلق على خشبة الصليب ولم يؤمن به اليهود[280].

v     لو أنَّهم اهتموا بنبوَّة موسى ما كانوا علّّقوه، ذاك الذي كان هو حياتهم[281].

البابا أثناسيوس الرسولي

بقوله "حياتك معلقة قدامك" [66]، يعني أنَّها كشيء معلق بخيط أمام الشخص ينتظر سقوطه بين لحظة وأخرى.

ثالث عشر: الارتداد إلى مصر:

"ويردك الرب إلى مصر في سفنٍ في الطريق التي قلت لك لا تعُد تراها،

فتُباعون هناك لأعدائك عبيدًا وإماء وليس من يشتري" [68].

لعل أقسى لعنة هي ارتدادهم إلى مصر ليباعوا عبيدًا لأعدائهم. يوضعون كما في سوق العبيد، وفي اشمئزاز يرفض الناس شراءهم. أي صاروا أقل قيمة من العبيد.

يرى البعض أن "مصر" هنا رمز لما حلَّ باليهود حين سقطوا تحت السبي لدول كثيرة، لكن البعض يرى أن هذا قد تم حرفيًا بعد استيلاء تيطس على أورشليم، إذ حمل عدد كبير من اليهود إلى مصر وصاروا في عبوديَّة مُرَّة وقاسية. وإلى عهد هادريان جماعات من اليهود كانوا يباعون كعبيدٍ[282].

يقول البعض أن أقسى عدو على الأرض ضد البشريَّة هو الإنسان، فإنَّه إذ يستبد بأخيه يصير أكثر شراسة من الوحوش الكاسرة. لهذا ترك التهديد بالسبي والعبوديَّة إلى نهاية اللعنات بكونها أقساها.

 


 

من وحيّ تثنيَّة 28

لتلتصق بركتك بي

v     في غباوتي كنت أبحث عن بركتك،

حاسبًا أنَّها بعيدة عني جدًا من يقدر أن يقتنيها؟!

وجدتها تقف على باب قلبي تقرع.

تطلب صداقتي وحبي وخضوعي.

لتدخل بركتك إلى أعماقي وتلتصق بي، فإني مريضة حبًا!

v     لتعمل بركتك في حياتي:

في عملي وفي بيتي وفي كنيستي.

لتحتل كل كياني:

نفسي وجسدي وفكري وكل طاقاتي.

لتملك في داخلي وتقود كل كياني.

لتعمل في أكلي وشربي ونومي ويقظتي.

v     نعم لتكن بركتك هي القائد:

تحرك كل كياني في معركة الروح.

بها أغلب كل عدو وأنتصر على كل فساد.

بها أتمتع بأكاليل مجد أبدي.

v     لتُقم بركتك حُرَّاسًا على مخازن قلبي.

تحوِّله إلى مقدس لك.

فأتمتع بالاقتداء به يا كلِّي القداسة.

وأصير أيقونة حيَّة لك يا أيها القدُّوس وحده!

v     لتحملني بركتك إلى سمواتك،

ولتكشف لي أسرارك الإلهيَّة.

وتهبني نصيبًا في حجالك الفائق.

التقي بك، واَتحد معك، يا عريس نفسي السماوي.

v     بركتك تحوِّل حياتي إلى فرح سماوي لا ينقطع.

بركتك تجعل مني رأسًا لا ذنبًا.

بركتك تفتح لي كنوز السماء،

وتبارك خيرات الأرض،

وكل ما تمتد إليه يداي.

بركتك ترفعني إليك فأبقى معك إلى الأبد!

<<

 

 


 

 

الفصل الثالث

 

 

 

 

 

 

العظة الثالثة

[29 – 30]

 

v    تذكير بالعهد                        [ص 29]

v    إمكانية تحقيق العهد                        [ص 30]

         


 

الآن إذ يقدم موسى النبي عظته الوداعية الأخيرة (تث 27-30) يتحدث عن المستقبل في أرض الموعد. فيها نجد ما يُدعى بالوعد الفلسطيني الذي أقامه الله مع إسرائيل.

دخل الله مع البشرية في عهود ابتدأت منذ الإنسان الأول وانتهت بالوعد الفائق الذي سجله السيد المسيح في جسده على الصليب.

·        الوعد مع آدم Adamic Covenant. نال آدم وعدًا إلهيًا بفتح باب الرجاء في الخلاص الذي يسحق رأس الحيَّة والذي تحقق بالصليب.

·        الوعد مع نوح Noahic Covenant. نال نوح وعدًا إلهيًا بعد تجديد الأرض بالمياه، هذا الذي يتحقق بروح الله القدوس خلال ذبيحة المسيح.

·        الوعد مع إبراهيم Abrahamic Covenant. نال إبراهيم وعدًا بأن بنسله تتبارك كل الأمم حيث فتح المسيح أبواب كنيسته للعالم كله.

·        الوعد مع موسى Mosaic Covenant. نال موسى وعدًا حيث استلم الناموس والوصايا الإلهية، وإذ جاء المسيح، جاء الكلمة الإلهي ذاته ليحل في وسطنا.

·        الوعد في فلسطين Palestinian Covenant. أما الوعود التي قدمت في كنعان فهي رمز للدخول إلى كنعان العليا، السماء المفتوحة خلال ملك المجد. وتحقق هذا كله بالعهد الذي نلناه في المسيح يسوع.

·        الوعد المسياني أو العهد الجديد.

لكي يحفظ هذا الشعب العهد الذي قطعه الرب معهم في أرض موآب وفي حوريب (29: 1) دعاهم موسى وقدم لهم هذه العظة كتجديد للعهد. بعد أن تحدث عن بركات الطاعة للوصية ولعنات العصيان، واشتراك الأسباط في الإعلان عنها علانية أمام كل الشعب نطق بالعظة الثالثة والأخيرة. وإن كان بعض الدارسين يعتبرون العظة الثالثة تبدأ بالأصحاح 27. وقد شملت هذه العظة الآتي:

1. تذكيرهم ببركات الرب معهم (29: 1-17)، إذ حررهم من عبودية فرعون، ورعاهم في البرية، ووهبهم نصرة على ملوك، وأعطاهم أرض الموعد ليخدمهم الأمم. غاية هذا كله الدخول مع الله في عهد بكونهم شعبه المقدس الخاص به، هم له وهو لهم (29: 13). يقيم هذا العهد مع الجميع: الرؤساء والشعب، الأطفال والنساء (29: 10).

2. تحذير من الانحراف وراء الآلهة الغريبة على مستوى الفرد أو الجماعات (29: 18)، يحذرهم من الانحراف عن الله واهب الحياة. يحذرنا معلمنا بولس: "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله، لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا فيتنجس به كثيرون" (عب 12: 15). فإنهم مخادعون، كالزوان الذي يتسلل في الحقل ليفسد الحنطة، كالجذور التي تثمر "علقمًا وأفسنتينًا" (29: 18).

3. ثمرة العصيان، هي اللعنات الواردة في العظة السابقة (تث 28) إذ يصيروا عبرة للأجيال (28: 22-29).

4. لكي يشجعهم على التمتع بالطاعة للوصية أوضح:

أ. انفتاح باب التوبة: لا نيأس مادمنا في العالم، فإن الله ينتظر توبتنا ليردنا إليه (30: 1-10)، هو قادر أن يقدسنا بختن قلوبنا (30: 6) لتلتهب حبًا نحوه. الله يفرح لخيرنا ويُسر بنا (30: 9)، إن كنّا نرجع إليه مخلصين "بكل القلب وكل النفس" (30: 10).

ب. الوصية ليست صعبة: ولا هي خارجة عنا (رمز للسيد المسيح الساكن فينا). " الكلمة قريبة منك جدًا في فمك وفي قلبك لتعمل بها" (30: 14)، (رو 10: 6-8).

ج. حرية إرادتنا: "انظر. قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر" (30: 15). فنحن بلا عذر مادام الله يقدس حرية إرادتنا لنختار طريقنا دون إلزام أو قهر.

<<

 


 
الأصحاح التاسع والعشرون

تذكير بالعهد

في كل سفر التثنية، بل في كل الكتاب المقدس، ليس أمر يشغل ذهن رجال الله مثل التمتع بالعهد مع الله، هذا الذي قدمه الله لإبراهيم ولنسله من بعده. وانشغل به موسى النبي وجماعة الأنبياء عبر العصور حتى جاء السيد المسيح وختمه بدمه الثمين.

عاد موسى ليذكرهم بمعاملات الله معهم في الخروج وفي البرية [2-9]، حاثًا إيَّاهم على الوفاء بالعهد الإلهي كجيلٍ جديدٍ اختاره الرب ليكون ممثلاً لله نفسه على الأرض [10-21]. إنه عهد جماعي، فيه يعلن أن الله يؤكد انتماء الشعب إليه وسط الأمم [22-29].

لم يذكر طقس تجديد العهد الذي مارسه الجيل الجديد.

1. تذكير بالعهد                       [1-9].

2. طرفا العهد                        [10-15].

3. عبادة الأوثان كسر للعهد         [16-28].

4. السرائر للرب                      [29].

1. تذكير بالعهد        :

تميل طبيعة الإنسان للنسيان، خاصة فيما يخص بعلاقته مع الله، لهذا يدفعنا الله نحو التجديد العهد معه، مذكرًا إيَّانا بمعاملاته معنا في الماضي. الآن قبل انتقال موسى النبي من هذا العالم ذكَّر الشعب مرة ومرات بما فعله الله معهم ومع آبائهم، منذ كانوا يعانون من العبودية في مصر حتى بلغوا جبل موآب. لقد سبق فأقام عهدًا مع أبيهم إبراهيم بتجديد العهد. إنه لا يقدم عهدًا جديدًا يختلف عما أقيم في سيناء بل يُريد تأكيد وتثبيت ذلك العهد نفسه وتجديده.

الله أمين في عهده الأبدي الذي لا يتغير، لكن الإنسان بقلبه الفاسد ينسى أو يتناسى من أجل شهوة أو كبرياء أو مكسب مادي، لهذا يحتاج إلى من يذكِّره دومًا لتجديد العهد مع الرب مخلصه.

أوضح موسى النبي أن شروط العهد ليست من عنده، إنما عليه أن يفك الختوم

ويكشف عمَّا وضعه الرب نفسه.

"هذه هي كلمات العهد الذي أمر الرب موسى أن يقطعه مع بني إسرائيل في أرض موآب فضلاً عن العهد الذي قطعه معهم في حوريب" [1].

مع أن العهد يحمل ذات الروح سواء الذي سبق فقطعه في حوريب والذي يقطعه الآن في أرض موآب، إلا أن الله يقدمه لكل جيل بما يناسب ظروفهم، كمن يقوم بتجديده. يود الله أن يؤكد لكل جيل كأن العهد خاص بهم وليس بالعهد الخاص بالأجيال السابقة. إنه عهد يناسب الجيل الحاضر.

أولاً: يبدأ العهد دائمًا بالإشارة إلى الأحداث العظيمة التي تمت، والتي تكشف عن معاملات الله مع شعبه:

"ودعا موسى جميع إسرائيل وقال لهم:

أنتم شاهدتم ما فعل الرب أمام أعينكم في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وبكل أرضه.

التجارب العظيمة التي أبصرتها عيناك،

وتلك الآيات والعجائب العظيمة" [2-3].

الخروج من مصر، والتحرر من عبودية فرعون، وما صحب ذلك من آيات وعجائب تكشف عن خطة الله من نحو شعبه، وغايته من العهد الذي يقطعه معهم.

مع أنه يتحدث مع جيلٍ جديدٍ وُلد في البرية لكنه يتحدث عن الخروج من مصر، قائلاً لهم: "أنتم شاهدتم، أمام أعينكم، أبصرتها عيناك". فما شاهده آباؤهم وتحدثوا عنه لأبنائهم كخبرة ملموسة يحسب كأن الجيل التالي قد عاين بنفسه الأحداث ورأى صنيع الرب معهم.

ثانيًا: تشهد الأحداث الماضية عن معاملات الله، وتكشف عن عهده، لكن المشكلة في الإنسان الذي لا يطلب فهمًا وحكمة، الأمر الذي يحزن قلب موسى من جهتهم.

"ولكن لم يعطكم الرب قلبًا لتفهموا،

وأعينًا لتبصروا،

وآذانًا لتسمعوا إلى هذا اليوم" [4].

الله يود أن يعطي قلبًا للفهم، وكما يقول الحكيم: "الأذن السامعة والعين الباصرة الرب صنعهما كليتهما" (أم 20: 12)، لكن لا يقدمه لمن يقاوم.

كثيرون لهم أعين ترى وفي نفس الوقت لا ترى، لأنهم لا يريدون الحق، بل يطلبون ما هو لشهواتهم. لقد جاء السيد المسيح إلى خاصته، وخاصته رأته لكنها لم تره بعيني الإيمان، لهذا لم تقبله. وكما يقول الرسول بولس: "لو عرفوا رب المجد لما صلبوه".

وهب الله الإنسان قلبًا يحمل بصيرة داخلية وآذان روحية، فيستطيع المؤمن أن يرى ويسمع. لكن إذ يرفض الطاعة لله يصير كمن لم يُوهب قلبًا للفهم ولا أعينًا للبصر ولا آذان للسمع. ومع كل ممارسة للطاعة بروح الحب ترتفع النفس كما على درجة من سلم السماء، يقودها نور الروح القدس الذي يطهر أعماقها فتصير قادرة على الرؤيا والاستماع للصوت الإلهي. بهذا يكون تجديد العهد مع الله ليس مجرد تقديم وعود لله بالتجاوب مع حبه، وإنما بالتجاوب العملي مع روح الله، وقبول النعمة الإلهية في الحياة العملية، فتصعد النفس يومًا فيومًا كما إلى السماء عينها.

ثالثًا: عمل الله دائم ومستمر، لم يقف عند خروجهم من مصر، ولا عند هلاك فرعون وجنوده، لكنه عال الشعب أربعين سنة في البرية، حيث لم يعوزهم شيء. إذ يشير إلى معاملات الله المملوءة حنوًا نحو شعبه في وسط البرية لا يتكلم موسى النبي، بل يقدم الله نفسه لينطق بها.

"فقد سرت بكم أربعين سنة في البرية لم تٌبل ثيابكم عليكم،

ونعلك لم تبلَ على رجلك.

لم تأكلوا خبزًا، ولم تشربوا خمرًا ولا مسكرًا.

لكي تعلموا أني أنا الرب إلهكم" [5-6].

قام بدور القائد، حيث سار بهم، واهتم بثيابهم وأحذيتهم وطعامهم وشرابهم. يقدم لهم ليس فقط ما هو ضروري؛ وإنما حتى الخمر الذي يرمز للفرح.

رابعًا: نوالهم حياة الغلبة والنصرة على الأعداء.

"ولما جئتم إلى هذا المكان خرج سيحون ملك حشبون وعوج ملك باشان للقائنا للحرب فكسرناهما.

وأخذنا أرضهما وأعطيناها نصيبًا لرأوبين وجاد ونصف سبط منسى" [7-8].

مع النصرة أعطاهم أيضًا فيض غنى، إذ سلمهم أرض الأعداء نصيبًا لهم.

يدعوهم موسى النبي إلى حفظ العهد، وتحقيقه عمليًا لكي ينالوا نجاحًا في كل شيء.

"فاحفظوا كلمات هذا العهد، واعملوا بها لكي تفلحوا في كل ما تفعلون" [9].

لم يشر موسى النبي في تجديد العهد إلى الذبائح الحيوانية ولا إلى طقوس التطهيرات، فإنه يعلم أن الشعب لا ينسى هذه الأمور. الأمر الذي ركز عليه موسى في تجديد العهد هو "الطاعة"، أو إخلاص القلب في الالتقاء مع الله على مستوى الحب؛ هذا هو موضوع تجديد العهد: القلب المكرس لله بالحب والطاعة! العين المقدسة لترى، والأذن المقدسة لكي تسمع صوت الله!

2. طرفا العهد:

طرفا العهد هما:

- الله الذي يريد أن يقيم منهم شعبًا له، ويكون لهم إلهًا [12]، له معرفة كاملة بشعبه، وصاحب سلطان مطلق عليهم.

الطرف الآخر هو الشعب كله، من رؤساء أسباط وشيوخ ورجال ونساء وأطفال، وأيضًا الغرباء الذين دخلوا معهم في الإيمان.

"أنتم واقفون اليوم جميعكم أمام الرب إلهكم:

رؤساؤكم أسباطكم شيوخكم وعرفاؤكم وكل رجال إسرائيل.

فأطفالكم ونساؤكم وغريبكم الذي في وسط محلتكم ممن يحتطب حطبكم إلى من يستقي

ماءكم" [10-11].

يقيم الله عهده مع الجماعة بكل عناصرها من قادة وشعب؛ كبار وصغار، رجال ونساء، عبرانيين ودخلاء، جيل حاضر وأجيال مقبلة.

يبدأ بالعظماء رؤساء الأسباط إذ يليق بهم أن يحنوا رقابهم تحت النير الإلهي، ويدخلوا معه في عهدٍ، حيث يجدون في نير العهد حبًا فائقًا ومراحم غزيرة ونجاحًا في كل شيء.

يشترك في العهد النساء والأطفال الصغار، فالكل مدعوون للتمتع بهذا العهد. لهذا يقول السيد المسيح: "دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات".

يشترك في الدعوة الغرباء الذين جحدوا الوثنية ودخلوا في الإيمان بالله. عندما دخل السيد المسيح بيت ذكا رئيس العشارين قال: "إذ هو أيضًا ابن إبراهيم" (لو 19: 9).

لا يحرم العبيد من التمتع بالعهد، هؤلاء الذين يلتزمون بجمع الحطب أو يستقون ماءً.

بمعنى آخر لا يوجد إنسان عظيم يترفع عن أن يدخل في عهد مع الله ويرتبط بقيوده، ولا يوجد إنسان لا يُدعى للتمتع ببركات العهد. في المسيح يسوع لا يوجد عبد ولا حر (كو 3: 11). يقول الرسول بولس: "دُعيت وأنت عبد فلا يهمك" (1 كو 7: 21).

"لكي تدخل في عهد الرب إلهك وقسمه الذي يقطعه الرب إلهك معك اليوم.

لكي يقيمك اليوم لنفسه شعبًا، وهو يكون لك إلهًا.

كما قال لك، وكما حلف لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب" [12-13].

الدعوة مقدمة للذين كانوا حاضرين في اجتماع روحي مقدس وأيضًا تضم الغائبين، إذ يقول:

"وليس معكم وحدكم أقطع أنا هذا العهد وهذا القَسَم،

بل مع الذي هو هنا معنا واقفًا اليوم أمام الرب إلهنا،

ومع الذي ليس هنا معنا اليوم" [14-15].

جاءت كلمة "تدخل" في العبرية تحمل معنى يصعب ترجمته، فهو لا يعني توقيع عقد مشترك في شكلية، وإنما دخول إلى العقد في أعماقه. وكأن العقد هو موضع لقاء يدخل فيه الله مع الجماعة المقدسة معًا، كما في حجال عرسٍ، أو في اتحاد عجيب!

يريد الله أن يقطع عهده مع كل شعبه، سواء الذين حضروا أمامه أو الذين بسببٍ قهري كالمرض لم يستطيعوا. هؤلاء لا يستبعدون من العهد، فإنهم وإن كانوا لم يشتركوا في العبادة ولم يأتوا إلى بيت الرب لكنهم حاضرون فيه بالروح دون الجسد.

لعله يقصد بغير الحاضرين الأجيال القادمة، فالعهد ممتد إلى آخر الدهور.

أما ملخص العهد كله فهو: "لكي يقيمك اليوم لنفسه شعبًا وهو يكون لك إلهًا" [13]، مقدمًا حياة آبائنا مثلاً حيًا للدخول في العهد مع الله. "كما حلف لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب" [13].

3. عبادة الأوثان كسر للعهد:

رأينا من الجانب الإيجابي يود الله أن يقيم منهم شعبه الخاص، أما من الجانب السلبي يود أن يعطوا ظهورهم للعبادة الوثنية، مصدر كل خطية في ذلك الحين.

ربما يتساءل البعض: لماذا يتحدث عن السلبيات؟ أما كان يكفي الحديث عن الإيجابيات؟ الواقع العملي الذي عاش فيه اليهود في بدء نشأتهم في مصر يؤكد ضرورة الحديث في السلبيات، إذ حمل اليهود في قلوبهم العبادة الوثنية المصرية، كم بالأكثر حينما يستقرون في كنعان ويرثون أماكن العبادة الوثنية، ويسكن في وسطهم بعض الوثنيين، وأيضًا توجد أمم وثنية تحيط بهم؟!

أولاً: كانوا في خطر حتى بعد خروجهم من مصر أن يحملوا في قلوبهم العبادة الوثنية برجاساتها في قلوبهم.

"لأنكم قد عرفتم كيف أقمنا في أرض مصر،

وكيف اجتزنا في وسط الأمم الذين مررتم بهم.

ورأيتم أرجاسهم وأصنامهم التي عندهم من خشب وحجر وفضة وذهب،

لئلا يكون فيكم رجل أو امرأة أو عشيرة أو سبط قلبه اليوم منصرف عن الرب إلهنا لكي

يذهب ليعبد آلهة تلك الأمم.

لئلا يكون فيكم أصل يثمر علقمًا وأفسنتينًا" [16-18].

جاءت كلمة "أصنامهم" في العبرية لتعني كتل ضخمة لا شكل لها يصعب حملها لذا يدحرجونها؛ وقد استخدمت كثيرًا في الكتاب المقدس ليعني بها "تماثيل الأصنام". هكذا آلهتهم أشبه بثقل لا شكل له، عاجز عن الحركة، ويصعب حملها، لا تستحق إلا دحرجتها إلى هياكل الأوثان، بل دحرجتها من القلب حتى يتفرغ القلب لسكنى الله وحده.

يحذرهم لئلا يتسلل المرض إلى شخص واحد، رجل أو امرأة، عندئذ يحل بالعشيرة كلها، ثم بالسبط كله. هكذا تفسد الخميرة الفاسدة العجين كله. يصير إنسان واحد أصلاً ليثمر علقمًا وإفسنتينًا، يحمل سمًا ومرارة ويمرر حياة الجماعة كلها ويهلكها. وكما يقول الرسول بولس: "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله، لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع انزعاجًا، فيتنجس به كثيرون" (عب 12: 15).

هكذا قد يبدأ شخص واحد يتشكك في الإيمان، فيصير أشبه بالعشب في وسط حقل يتسلل ليفسد الحقل كله، يصير مملوء أعشابًا تحرم الحنطة من الثمار المطلوبة. يحذرنا الرسول بولس ممن يجحد الإيمان قائلاً: "ملاحظين (باجتهاد)" (عب 12: 15) فإنه يصير أشبه بجذور خفية تحمل ثمارها من يقطف منها يأكل سمًا مميتًا ومرارة لنفسه. هكذا في كل عصر يوجد من ينبت داخل الجماعة كما يحوط البعض خارجها لقتل الإيمان الحي وتحطيم الحياة الجديدة، فتهلك النفوس. وقد حذرنا السيد المسيح نفسه من ذلك، خاصة ما سيحدث في الأيام الأخيرة من ارتداد حتى إن أمكن أن يضل المختارون. كثيرون يضلّون عن "الإيمان المسلم مرة للقديسين".

التعاليم الفاسدة تصير أصل مرارة تفسد قلوب المؤمنين وتحرمهم من ثمار الروح، فتكون سرّ مرارة لهم.

v     فإنه حتى إن وجد جذر من هذا النوع (المُرّ) لا تدعه أن ينمو بل اقطعه، حتى لا يحمل ثمره الخاص به، وحتى لا ينجس ويفسد الآخرين أيضًا.

بسبب صالح دعا الخطية مرارة، فإنه لا يوجد شيء ما أكثر مرارة من الخطية[283].

القديس يوحنا الذهبي الفم

في القديم كان الشعب في خطر الانحراف نحو العبادة الوثنية وإنكار الإيمان بالله الحيّ، أما وقد تم الخلاص الإلهي فقد تحوّلت حرب عدو الخير إلى جذب المؤمنين نحو جحود العمل الخلاصي وإنكار لاهوت السيد المسيح والاستهانة بعمله الفدائي على الصليب. هكذا في كل عصر يعرف عدو الخير كيف يحطم الإيمان.

ثانيًا: يظن الخاطئ – خاصة عابد الأوثان – أنه في سلام وأمان فيجذب معه غيره. عِوض أن يحذر من هذا النبات القاتل المملوء سمًا مع مرارة، يهنئ الإنسان نفسه كمن قد اقتنى سلامًا خلال تخيلات قلبه القاسي والمصر على الشر.

"فيكون متى سمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه قائلاً:

يكون لي سلام، أي بإصرار قلبي أسلك لإفناء الريّان مع العطشان" [19].

في العهد القديم كان عدو الخير يعمل بكل طاقاته لكي يخدع الإنسان نفسه فيسكر ويترنح ظانًا أنه في عبادته للأوثان يفرح ويمارس الحياة، ولا يحرم نفسه من شهوات الجسد والرجاسات. ولا تزال الحرب قائمة، حرب خداع النفس، فيطلب الإنسان إيمانًا مرتبطًا بالطريق الواسع ليحقق كل شهوات جسده بضمير مستريح، عِوض الصليب الضيق. هكذا نجد العالم يتسم بنوع من الميوعة في الإيمان، فكثيرون ينادون بأنهم لا ينكرون وجود الله، لكنهم يجحدونه بانسكابهم في الطريق الواسع السهل.

كثيرون يخدعون أنفسهم بالرجاء الكاذب تحت ستار الإيمان، وهم منحرفون عن الحق، مدعين أنهم مملوءون سلامًا.

لهذا فإن غضبه يحل على هذا الإنسان، ويسقط تحت اللعنات، ويمحو الرب اسمه من تحت السماء [20].

لا يقف الأمر عند الإنسان الساقط في الوثنية، لكنه إذ يجتذب الكثيرين إلى الشر يدفع بالأمة كلها للدمار.

"لا يشاء الرب أن يرفق به،

بل يدخن حينئذ غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل،

فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب،

ويمحو الرب اسمه من تحت السماء.

ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في

كتاب الشريعة هذا" [20-21].

إذ يحطم الشرير نفسه بارتباطه بالعبادة الوثنية وإصراره على ذلك، ويحطم من حوله لا يترفق به بل يسمح بتأديبه، ويدخل به كما إلى أتون الغضب الإلهي، إذ يصعد "دخان" الغضب الذي يبيده، ويمحو اسمه من تحت السماء، ويعزله من الجماعة المقدسة، إذ لا يستحق التمتع بالعهد الإلهي معهم، بل يسقط تحت اللعنات.

"فيقول الجيل الأخير بنوكم الذين يقومون بعدكم والأجنبي الذي يأتي من أرض بعيدة حين

يرون ضربات تلك الأرض وأمراضها التي يمرضها بها الرب.

كبريت وملح كل أرضها،

حريق لا تزرع ولا تنبت ولا يطلع فيها عشب ما، كانقلاب سدوم وعمورة وادمة وصبوييم

التي قلبها الرب بغضبه وسخطه" [22-23].

إذ تسمع الأجيال المقبلة والأمم الغريبة عما حلً بالشعب الذي ملك الأرض وورثها ثم عاد فحلّت الكوارث بسبب عبادتهم الوثنية يقفون في دهشة متسائلين عن سبب ذلك كله.

"ويقول جميع الأمم:

لماذا فعل الرب هكذا بهذه الأرض؟

لماذا حمو هذا الغضب العظيم؟

فيقولون: لأنهم تركوا عهد الرب إله آبائهم الذي قطعه معهم حين أخرجهم من أرض مصر.

وذهبوا وعبدوا آلهة أخرى، وسجدوا لها، آلهة لم يعرفوها ولا قسمت لهم.

فاشتعل غضب الرب على تلك الأرض حتى جلب عليها كل اللعنات المكتوبة في هذا السفر.

واستأصلهم الرب من أرضهم بغضب وسخط وغيظ عظيم،

وألقاهم إلى أرض أخرى كما في هذا اليوم" [24-28].

يبدأ الرب تأديباته بالوباء والأمراض لعلهم يتوبون ويرجعون [22]، فإن لم يستجيبوا يدمر الأمة كلها كسدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم التي قلبها الرب بغضبه وسخطه [23]. صار خراب مدن السهل مثالاً مشهورًا للعقاب الإلهي، وقد أشار هوشع إلى هذه الآية [8] الذي تدل نبوته على أنه كان يعرف سفر التثنية.

بهذا يكونوا عبرة للأجيال القادمة حين تدرس تاريخ الآباء فتسمع عما فعله الأشرار بأنفسهم، ويكونوا عبرة للأمم الغريبة أيضًا. وكما يقول الرسول بطرس: "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله. فإن كان أولاً منا، فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله؟!" (1 بط 4: 17).

الأرض التي وُهبت لهم تفيض عسلاً ولبنًا تصير أمثولة أمام العالم بدمارها بسبب الخطية. فإنه ليس لدى الله محاباة، إنه يدين الذين له كما الآخرين. الذين يعرفون أكثر تكون دينونتهم أقسى وأمَرّ. يقول الرب: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض، لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم" (عا 3: 2). وجاء في دانيال: "وكل إسرائيل قد تعدى على شريعتك وحادوا لئلا يسمعوا صوتك، فسكبت علينا اللعنة والحلف المكتوب في شريعة موسى عبد الله لأننا أخطأنا إليه. وقد أقام كلماته التي تكلم بها علينا وعلى قضاتنا الذين قضوا لنا ليجلبه علينا شرًا عظيمًا ما لم يُجر تحت السموات كلها كما أجرى على أورشليم..." (دا 9: 11-12).

"آلهة لم يعرفوها" [26]: يعتقد الوثنيون أن لكل شعب إلهًا يرثون عبادته كتراث للقبيلة، لذلك سيستغرب الأمم إذا ترك اليهود إلههم ليعبدوا آخر لم يعرفوه.

4. السرائر للرب:

يختم موسى النبي حديثه عن رفض إسرائيل بتأكيده أن الله وحده العارف السرائر، خطته فائقة يصعب إدراكها.

"السرائر للرب إلهنا،

والمعلنات لنا ولبنياننا إلى الأبد، لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة" [29].

لهذه العبارة أهمية خاصة في الكشف عن غاية الرؤى والإعلانات الإلهية، فإن الله لا يقدمها لإشباع حب الاستطلاع فينا ولا لإشباعنا عقليًا، وإنما لأجل بنياننا ونمونا عمليًا. الإعلانات والمعجزات ليست استعراضًا لأسرار الله وقوته، بل هي دعوة للتمتع بها في حياتنا العملية.

حينما أعلن لنا الكتاب المقدس عن الخلقة كمثال، تحدث في بساطة لأجل نفعنا، دون الحديث في أسلوب علمي ولا فلسفي. فكلمة الله ليست كتابًا علميًا أو فلسفيًا بل هو كلمة إلهية تحمل الإنسان إلى حضن الله عمليًا. تعلن عن أبوة الله وشوقه للدخول في عهدٍ معنا وعمله الخلاصي حتى نتجاوب معه بالإيمان الحيّ العملي والطاعة الكاملة.

الإعلانات الإلهية ليست حوارات عقلية لكنها هي تنازل إلهي خلال الحب ليتعرف الإنسان على محبوبه، ويشتاق أن ينطلق إليه ويتمتع بالسكنى معه الآن وعلى مستوى أبدي. لهذا تُقدم لكل إنسان قدر ما يحتمل، وما هو لنفعه، وتبقى أسرار الله غير المحدودة رصيدًا نتمتع به في الأبدية لا ينضب، ندركه بأعماق جديدة مستمرة بشوق عظيم ورغبة متزايدة حتى في الأبدية.

يقول موسى النبي: "الأسرار للرب... والمعلنات لنا"، وكأن ما يعلنه لنا إنما هو ما يخصنا، وليس لإدراك الله المطلق كما هو! للقديس يوحنا الذهبي الفم مقال مسهب عن "طبيعة الله غير المدركة" يكشف فيها عن إعلانات الله عن طبيعته للخليقة السماوية والأرضية قدر ما يستطيعون أن يتمتعوا.

"المعلنات لنا"، إذ صرنا "وكلاء أسرار الله" (1 كو 4: 1)، صارت إعلانات الله تعني بالنسبة التزامًا ومسئولية للشهادة عنها أمام الغير. فالرؤى إعلانات ليست موضوع فخر بل دعوة للعمل والكرازة. لهذا إذ يتحدث الرسول عن كشف السرّ الإلهي يربطه بالخدمة، قائلاً: "السرّ المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال لكنه الآن قد أُظهر لقديسيه، الذين أراد الله أن يعرفهم ما هو غنى مجد هذا السرّ في الأمم، الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد؛ الذي ننادي به منذرين كل إنسان، ومعلمين كل إنسانٍ بكل حكمة لكي نُحضر كل إنسانٍ كاملاً في المسيح يسوع" (كو 1: 26-28).

من يتمتع بالسر يشتهي أن يشاركه الكل ذات الخبرة، فلا يكف عن الصلاة والعمل لأجل تحقيق ذلك. وكما يقول الرسول بولس: "كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته، مستنيرة عيون أذهانكم..." (أف 1: 17-18).

هذا وأنه مهما نلنا من إعلانات، فإننا نعرف السرّ الإلهي جزئيًا (1 كو 13: 9)، ما دمنا لا نزال في الجسد في هذا العالم الحاضر.

كأن النبي موسى يؤكد خضوعنا لحكمة الله الفائقة، فإنه يعلن لنا قدر ما نحتمل، وما فيه نفعنا، لكن تبقى خطة الله فائقة بالنسبة للعقل. يقول السيد المسيح لتلاميذه: "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" (أع 1: 7). كما قال لتلميذه بطرس عن يوحنا الحبيب: "إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا لك؟! اتبعني أنت" (يو 21: 22). ويقول الرسول بولس: "لا يخسركم أحد الجعالة راغبًا في التواضع وعبادة الملائكة، متداخلاً في ما لم ينظره، منتفخًا باطلاً من قبل ذهنه الجسدي" (كو 2: 18).

يدعونا الرب لطلب المعرفة والجهاد فيها، لأنه يشتاق أن نحمل معرفة صادقة من عنده، لكن فيما هو لبنياننا وقدر احتمالنا، فلا نرتئي فوق ما نرتئي (رو 12: 3). هكذا كل معرفة وكل رؤيا لا تكون بلا هدف بل لنفعنا وبنياننا.

لهذه العبارة تقدير خاص لدى اليهود، حاسبين أنها تقدم مواضيع غاية في الأهمية تخصهم.

 

 


 

من وحي التثنية 29

لتجدد العهد معي!

v     إنها ليست صرخات قلبي نحوك:

لتجدد العهد معي.

إنها صرخات روحك الناري فإنك تشتاق إليّ.

تود أن تجدد عهدك مع شعبك في كل جيل.

تشتاق أن يختم كل مؤمن مستجيبًا للعهد.

v     صنعت مع آبائي آيات وعجائب.

ولازلت أنت هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.

تصنع معي وتقدم لي أكثر مما أسأل وفوق ما أطلب!

أنت القائد العجيب،

تهتم بخلاصي ونصرتي.

تهتم حتى بثيابي وطعامي وشرابي.

تشتاق أن تملأ حياتي فرحًا حقيقيًا.

v     أنت واهب النصرة.

تحطم أمامي قوات الظلمة بكل طاقاتها.

وتدخل بي إلى الأرض الجديدة لأمتلكها.

تهبني مع النصرة غنى فائقًا،

ويصير النجاح مرافقًا لي في كل عملٍ تمتد إليه يداي.

v     لأقف أمامك في حضرتك،

لا لتدينني بل لتوقع عهد الحب بيننا.

أنت تعرفني تمام المعرفة.

تعرف سقطاتي وفسادي وضعفاتي.

لا تستنكف من قطع عهد معي.

v     أقمت عهدك مع العظماء والعبيد،

مع الرجال والنساء والأطفال.

مع العبرانيين والدخلاء، حتى الأسرى منهم.

ها أنا أتقدم لكي تقيمني من المزبلة.

وتجعلني كوعدك الصادق بين أشراف أشراف شعبك.

لأعطي ظهري لإبليس وكل مغرياته.

لن أسمح أن يتسلل فكر إلى أعماقي.

فإنه يصير أصل علقم ومرارة لكل كياني!

v     هل من عذوبة أفضل من حبك!

وهل من مرارة أقسى من الخطية!

أنت عذوبة حبي التي تنزع عني كل مرارة الخطية!

v     لأقطع معك عهدًا يا أيها الحكمة السماوي.

فتكشف لي أسرارك،

وتعلن في أعماقي حقك وخطتك!

أنت هو الحكمة عينها وكاشف كل الأسرار!

<<

 

 


 

الأصحاح الثلاثون

إمكانية تحقيق العهد

بعد أن ذكرهم بالعهد الإلهي، وتحدث عن خطورة تجاهل العهد أو كسره حتى إن سقط في هذا إنسان واحد، خشي لئلا يسقط السامعون في اليأس. لهذا تحدث عن إمكانية تحقيق العهد وحفظ الوصية. أمام الإنسان طريقان: الحياة أو الموت، الطاعة أو العصيان.

1. الله ينتظر رجوعك                [1-10].

2. الوصية قريبة منك                [11-14].

3. القرار بين يديك                   [15-20].

1. الله ينتظر رجوعك:

يقدم الله وعده الإلهي للراجعين، وإن كان البعض يرى في هذا الوعد نبوة عن عودة إسرائيل وقبولهم الإيمان في آخر الدهور. يقدم وعدًا مشروطًا، أما الشرط فهو الرجوع إلى الله، وهو وعد مقدم لكل خاطئ أو عاصٍ.

"ومتى أتت عليك كل هذه الأمور: البركة واللعنة اللتان جعلتهما قدامك.

فإن رددت في قلبك بين جميع الأمم الذين طردك الرب إلهك إليهم،

ورجعت إلى الرب إلهك،

وسمعت لصوته حسب كل ما أنا أوصيك به اليوم أنت وبنوك بكل قلبك وبكل نفسك،

يرد الرب إلهك سبيك ويرحمك،

ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بددك إليهم الرب إلهك.

إن يكن قد بددك إلى أقصاء السموات،

فمن هناك يجمعك الرب إلهك ومن هناك يأخذك.

ويأتي بك الرب إلهك إلى الأرض التي امتلكها آباؤك فتمتلكها

ويحسن إليك ويكثرك أكثر من آبائك" [1-5].

يلاحظ هنا:

أولاً: لا طريق للخلاص من اللعنات والتمتع بالبركات إلا بالرجوع إلى الله. "اذكروا هذا وكونوا رجالاً؛ رددوه في قلوبكم أيها العصاة" (إش 46: 8). إنه يدعو الذهن ليرجع فيذكر الله الأمر الذي يهبهم رجولة روحية، أي نضوجًا وقوة. ولا يكفي الذهن وحده، بل يلزم أن يحتل الرب القلب فيردد اسمه بالحب على الدوام. فإن كان تذكر معاملات الله في الماضي تدفع الإنسان إلى التوبة، فيليق ترجمة التوبة بالحب.

التوبة هي طريق الخروج من الأكل مع الخنازير إلى الدخول إلى بيت الآب حيث يجد التائب أباه راكضًا إليه يقبّله ويصنع له وليمة، بل ويقف مدافعًا عنه قدام اخوته (لو 15).

ثانيًا: الاستماع الكامل إلى صوت الرب، والطاعة لوصاياه، والخضوع لإرادته [2]. يلزم ترجمة التوبة إلى طاعة عملية. هذا الصوت موجه إلى الإنسان كما إلى عائلته، خاصة بنيه [2]، لكي يتقبلوا الوصية بكل القلب وكل النفس، أي بكل القوة، أو بفرح شديد ورغبة صادقة كاملة.

بقوله "بكل قلبك وبكل نفسك" [2]، يعلن إن الله لن يقبل أقل من كل الحب وكل القدرة، إنه يطلب القلب والنفس بالكلية، وبدونهما يرفض أية عبادة أو خدمة أو عطاء!

ثالثًا: الطاعة لكل الوصايا، إذ يقول: "تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم" [8]. وكما يقول يعقوب الرسول: "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل" (يع 2: 10). فالإنسان المقدس للرب يهتم بكل الوصايا، كقول المرتل: "حينئذ لا أخزى إذا نظرت إلى كل وصاياك" (مز 119: 6).

رابعًا: إذ نرجع إلى الرب ونسمع له ونطيع كل وصاياه، يردنا نحن أيضًا كما من بين الشعوب ومن أقاصي السموات [3-4]. ماذا يعني بأقاصي السموات سوى أن أذنيه تسمعان لصرخات القلب التائب فيصنع معه المستحيلات! يعلن الله حنوه الفائق على الراجعين، فيقول: "من أجل ذلك حنت أحشائي إليه، رحمة أرحمه يقول الرب" (إر 31: 20).

خامسًا: غالبًا ما ننظر إلى معاملات الله مع آبائنا بكونها عجيبة وفريدة لن تتكرر. لكن هنا يؤكد أن الله مستعد أن يعمل مع كل الأجيال بذات القوة، بل ويقول: "ويكثرك أكثر من آبائك" [5].

سادسًا: إذ نرجع إلى الله يفرح الرب بنا، فإن هذا هو موضع سروره. "لأن الرب يرجع ليفرح لك بالخير كما فرح لآبائك" [9].

سابعًا: برجوعنا إليه ترتد اللعنات التي حلت بنا على أعدائنا، أي على الشياطين التي كانت تحثنا على العصيان.

"ويجعل الرب إلهك كل هذه اللعنات على أعدائك وعلى مبغضيك الذين طردوك" [7].

ثامنًا: قد يتساءل البعض "ماذا نفعل ونحن عاجزون على تنفيذ الوصايا؟ كيف نحب الله من كل القلب؟" إنه عمل الرب نفسه فينا إن سلّمناه حياتنا. "ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا" [6]. يستطيع الإنسان أن يختن جسده أو جسد الآخرين، لكن من يقدر أن يختن القلب وقلوب نسله إلا الله وحده الذي يفحص القلوب وينتزع الشر عنها ويجددها؟! وكما يقول الرسول بولس: "وبه أيضًا خُتِنتم ختانًا غير مصنوعٍ بيدٍ بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات" (كو 2: 11-12). "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي. وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان. الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو 2: 28-29).

ما دام الختان هو ختم العهد، فيليق بهذا الختم أن يمس لا الجسد وحده بل القلب، لينسحب بالكامل في محبة الله، ويلتزم بشروط العهد. لنرجع إليه فيعمل بروحه القدوس فينا، هذا الذي يستطيع وحده أن يختن القلب. "ارجعوا عند توبيخي، هأنذا أفيض لكم روحي؛ أعلمكم كلماتي" (أم 1: 23).

تاسعًا: إذ يتحدث عن الرجوع إلى الله يكرر في هذه الآيات العشرة تعبير "الرب إلهك" 12 مرة، ليؤكد الدالة التي بين الإنسان والله بكونه إلهه المشتاق إليه كأولاد له. وكما قيل في إرميا النبي: "ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم. ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا" (إر 3: 22).

عندما كان يهدد باللعنات كان يشير إلى الله، إله القوة، ديان الجميع، لكنه إذ يدعوهم إلى التوبة يؤكد عودتهم إلى الأحضان الإلهية بكون الرب إلههم، إله العهد والنعمة.

أخيرًا نلاحظ في حديثه هنا عن التوبة والرجوع إلى الله يؤكد عطية الله الفائقة ألا وهي حرية الإرادة، من حق الإنسان أن يختار طريق البركات أو طريق اللعنات [1]. وإذ يشتاق الإنسان إلى الله إلهه يجد الإمكانيات الإلهية بين يديه.

"وأما أنت فتعود تسمع لصوت الرب

وتعمل بجميع وصاياه التي آنا أوصيك بها اليوم.

فيزيدك الرب إلهك خيرا في كل عمل يدك، في ثمرة بطنك وثمرة بهائمك وثمرة أرضك.

لأن الرب يرجع ليفرح لك بالخير كما فرح لآبائك.

إذا سمعت لصوت الرب إلهك لتحفظ وصاياه وفرائضه المكتوبة في سفر الشريعة.

هذا إذا رجعت إلى الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك" [8-10].

2. الوصية قريبة منك:

أمام البركات الفائقة التي وعد بها الله الراجعين إليه بالتوبة لابد من تأكيد أن الرجوع إليه أمر غير عسير.

الوصية في جوهرها هي دخول من الباب الضيق والطريق الكرب للالتقاء مع الله الذي يعشق الإنسان ويقدم له كل إمكانيات سماوية. كثيرون يهربون من الوصية حاسبين أنها لا تتناسب مع طبيعتهم، إنما تناسب أُناسًا سمائيين. لهذا أوضح النبي مستلم الشريعة أن الوصية سهلة، بين أيدينا، وفي قلبنا. مكانها هو القلب، تملأه عذوبة وحبًا.

"إن هذه الوصية التي أوصيك بها اليوم ليست عسرة عليك (ليست مخفية عنك)، ولا بعيدة منك.

ليست هي في السماء، حتى تقول من يصعد لأجلنا إلى السماء، ويأخذها لنا ويسمعنا

إياها لنعمل بها.

ولا هي في عبر البحر، حتى تقول من يعبر لأجلنا البحر، ويأخذها لنا ويُسمعنا إياها لنعمل بها.

بل الكلمة قريبة منك جدًا، في فمك وفي قلبك لتعمل بها" [11-14].

ماذا يقصد بالوصية غير العسرة أو غير المخفية إلا كلمة الله الذي صار جسدًا وحل بيننا، وُلد في بيت لحم اليهودية، الذي جاء ليقدم الخلاص عن العالم كله؟! إنه ليس معزولاً عنا في السماء، نصعد إليه لكي نقتنيه، ولا هو في أعماق البحار ننزل إليه لكي ننعم به، بل صار قريبًا جدًا منا، ساكنًا في أعماقنا. وكما يقول الرسول يوحنا: "الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا" (يو 1: 14). وصار إنجيله منطوقًا به في أفواهنا، ومحفورًا في قلوبنا.

هذا ما أدركه الرسول بولس، إذ يقول: "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليُحْدِر المسيح. أو من يهبط إلى الهاوية أي ليُصعد المسيح من الأموات. لكن ماذا يقول؟ الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التي نكرز بها. لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت" (رو 10: 6-10). يرى القديس بولس في حديث موسى النبي هنا عن الوصية التي بين أيدينا وفي قلبنا إنما يقصد كلمة الله الذي بتجسده حلّ بيننا وسكن في أعماقنا، فصار بين أيدينا (رو 10: 6-8).

اعتاد الفلاسفة في ذلك الحين أن يجربوا الأفكار لعلهم يتعلمون الفلسفة، لكن مسيحنا جاء بنفسه إلينا ليقدم نفسه "الفلسفة" الحقة، بكونه "حكمة الله".

صارت كلمة الكرازة بالإنجيل في فم الكنيسة، إذ قيل: "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملا 2: 7). إنها في الفم حيث يتحدث الله مع كل إنسان باللغة التي يفهمها. وهي في القلب حيث توجد الكلمة غير مغلفة بتعبيرات غامضة، بل تتلامس مباشرة مع مشاعر الإنسان وعواطفه وكل أعماقه.

الله الذي يحب الإنسان لن يقدم له وصية فوق طاقته، ولا هي ببعيدة عنه، بل سهلة وبين يديه ويدخل بها إلى قلبه، قادر أن يدرك مفهومًا صادقًا لها، وإن يكتشف إمكانياته المقدمة له.

في مناظرات القديس يوحنا كاسيان عالج ما يبدو من تناقض بين دعوة السيد المسيح لنا أن ندخل من الباب الضيق وقوله: "لأن نيري حين وحملي خفيف" (مت 11: 30).

يتحدث القديس أثناسيوس الرسولي عن إمكانية النفس البشرية على التعرف على الله، مستخدمًا هذه العبارة قائلاً:

v     إن معرفتها وفهمها الدقيق لا يحتاج إلا إلى أنفسكم. وإن كان الله فوق الكل، لكن المعرفة فينا، ويمكننا أن نجدها في أنفسنا. كمثال أولي يعلمنا موسى قائلاً: "كلمة الإيمان في قلبك". وقد أعلن المخلص نفس الأمر، وأكد ذلك عندما قال: "ملكوت الله في داخلكم" (لو 17: 12).

لأنه إذ لنا في أنفسنا الإيمان، وملكوت الله، يمكننا أن نرى بسرعة وندرك ملك المسكونة وكلمة الله المخلص[284].

القديس البابا أثناسيوس الرسولي

v     يقول الرسول بولس: "لكن الكلمة قريبة منك" (رو 10: 8). تبدأ النعمة في المنزل، فهناك يوجد مصنع كل الفضائل[285].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     إن كان ملكوت الله كقول ربنا ومخلصنا لا يأتي بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، إنما ملكوت الله داخلكم (لو 17: 20-21)، لأن الكلمة قريبة جدًا في فمنا وفي قلبنا (رو 10: 8)؛ فمن الواضح أن من يصلي لكي يأتي الملكوت إنما يصلي بحق لكي يظهر فيه ملكوت الله ويأتي بثمرٍ ويكمل. كل قديس يأخذ الله كملكٍ له، ويطيع شرائع الله الروحية، إنما يسكن الله فيه كمدينة منظمة جدًا[286].

العلامة أوريجانوس

3. القرار بين يديك:

مرة أخرى في أكثر وضوح يؤكد أن الوصية التي صارت قريبة جدًا تنتظر قرار الإنسان دون أي ضغط أو إلزام.

"انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر" [15].

الحياة والخير حاضران الآن أمام المؤمن، إن قبلهما يتمتع بهما ليعبر إلى البركات المقبلة. موضوعان أمامه لكي يدرك سرهما فلا يكون له عذر فيما بعد، ولكي يشعر بأهميتهما، وأخيرًا لكي يأخذ قراره المصيري.

لقد استخدم الله كل وسيلة لكي يحث الإنسان الحر على قبول الحياة والتمتع بالسعادة الأبدية. فالإنسان يحركه أمران أو أحدهما، وهما الخوف والرجاء.

فمن جهة الخوف يقول:

"بما أني أوصيتك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه

وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها.

 فان انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لإلهة أخرى وعبدتها،

فإني أنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلكون.

لا تطيل الأيام على الأرض التي أنت عابر الأردن لكي تدخلها وتمتلكها.

اشهد عليكم اليوم السماء والأرض " [16-19].

ومن جهة الرجاء يقول:

"قد جعلت قدامك الحياة والموت؛

البركة واللعنة.

فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك،

إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به،

لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك،

لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب أن يعطيهم إياها"

[19-20].

v     الآن إذ نوضع كما بين الماء والنار، وكما بين اعلي الصلاح وأخطر الشرور (ابن سيراخ 15: 17-18)، بين دمار الجحيم السفلي والفردوس العلوي، فلنسمع الرب يصرخ إلينا في الكتاب المقدس لصلاحٍ عجيبٍ، إذ يقول: "وضعتكم بين الموت والحياة، فاختاروا الحياة لكي تحيوا" [19].

بخصوص هذين الطريقين ينصحنا الرب في الإنجيل إذ يقول: "واسع هو الطريق الذي يقود إلي الموت، وكثيرون يدخلون هذا الطريق. ما أضيق الباب والطريق الذي يقود إلي الحياة، وقليلون الذين يجدونه" (مت 7: 13-14).

تحققت العودة إلي الفردوس بالطريق الكرب الضيق، بينما يتحقق النزول إلي الجحيم السفلي بالطريق الواسع. لذلك إذ لا نزال نستطيع وفي مقدورنا بالعون الإلهي الاختيار، لنصعد إلي فرح الفردوس خلال الطريق الكرب الضيق عوض أن نبلغ إلي عقوبات الجحيم خلال الباب الواسع[287].

v     انظر يا إنسان فإنه أمامك "الماء والنار، الحياة والموت، الصلاح والشر" (ابن سيراخ 15: 17-18)، السماء والجحيم، الملك الشرعي والطاغية القاسي، عذوبة العالم الباطلة وطوباوية الحق للفردوس. لقد أعطيت القوة بنعمة المسيح: "يبسط لكم يده للطريق الذي تختاره" (ابن سيراخ 15: 17) [288].

الأب قيصريوس

لقد سبق فأوضح الله اشتياقه أن يحيا الإنسان مباركًا ومطوّبًا: "لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها" [16].

لقد أعلن خطورة الموقف، فقد اشهد الله على الإنسان السماء والأرض أنه قد قدَّم لهم كل إمكانية البركة من جانبه، وبقي أن يختار المؤمن ذلك من جانبه هو. "أشهد عليكم اليوم السماء والأرض؛ قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك" [19].

أخيرًا يؤكد الوصيتين "محبة الله" و"الطاعة له". إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به، لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك، لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب أن يعطيهم إياها" [20].


 

من وحي تثنية 30

إني منتظرك يا ابني!

v     كثيرًا ما كسرت عهدك.

لكن صوتك العذب يرن في أذنيّ:

"إني منتظرك يا ابني".

أنت تترقب رجوعي إليك.

أنت تشتاق إلى عودتي إلى أحضانك.

v     لأذكر عملك معي،

وأفتح قلبي بالحب لك، فأترجم التوبة إلى عملٍ.

لأترجم رجوعي الفكري بالطاعة العملية.

فاستمع إلى صوت وصيتك المحيية.

إذ تهبني ذاتك فأقتنيك،

لن تقبل أقل من الفكر كله والقلب كله والحياة كلها.

تمتلكني وتقتنيني، مقدمًا ذاتك فيَّ فأقتنيك.

اقترب إليك فتقترب أنت إليّ.

v     أريد أن أرجع إليك.

ردني من وسط الشعوب،

حررني من السبي القاتل لنفسي.

أنت إله المستحيلات!

v     أرجع إليك فتغمرني ببركاتك

وتنزع عني كل لعنات عصياني.

ترد كل اللعنات التي حلت بي على رأس أعدائي.

أفرح إذ تفرح أنت بي، وتحملني إلى أحضانك.

تسندني بروحك، وتختن قلبي، فأعمل بقوة لتنفيذ وصيتك.

من يقدر أن يقترب إلى قلبي ويختنه غيرك؟

من يدفنه إلا أنت أيها القائم من الأموات؟

v     أرجع فأجدك إلهي،

تنسب نفسك إليّ، وأنا لك.

أنا ابنك الخاص، وأنت إلهي أنا.

v     لأرجع إليك، فأنت في داخلي تنتظرني.

لست محتاجًا أن أصعد إلى السحاب لالتقي بك،

ولا أن انحدر إلى أعماق البحار.

بل أن أدخل إلى أعماق نفسي لالتقي بك!

v     علمتني أخذ القرار المصيري.

أمامي أنت يا أيها الحياة،

وأيضًا العدو الموت حاضر قدامي.

لاختارك أنت أيها الكلي الصلاح!

<<

 

 

 


 

 

الفصل الرابع

 

 

 

 

 

 

 

 

أعمال ووصايا ختامية

[31 - 34]

 

v                 نصيحة أخيرة مع تحذير       [ص 31].

v                 نشيد موسى الوداعي          [ص 32].

v                 مباركة الشعب                  [ص 33].

v                 موسى على جبل نبو           [ص 34].


 

أعمال ووصايا ختامية

يقدم لنا هذا الفصل الأخير أعمال ووصايا ختامية غاية في الأهمية وهي:

أولاً: يشوع خلف موسى (تث 31). تظهر قيادة موسى النبي الناجحة من تلمذته ليشوع.

القائد الناجح هو الذي يهتم بالصف الثاني من القيادة ليمتد العمل ولا يتوقف. في تواضع يعلن: "أنا اليوم ابن مئة وعشرين سنة، لا أستطيع الخروج والدخول بعد..." [2]. يعلن فرحه بأن تلميذه يحقق ما لم يستطع هو أن يحققه هو: "الرب قد قال: لا تعبر هذا الأردن... يشوع عابر قدامك كما قال الرب" [2-3].

متى يشتهي كل قائد نجاح الغير أكثر من نجاحه هو؟! سند موسى الشعب لكي يحقق يشوع رسالته، كما سند يشوع معلنًا: "الرب سائر أمامك، هو يكون معك، لا يهملك ولا يتركك. لا تخف ولا ترتعب" [8].

ثانيًا: تأكيد الالتزام بقراءة الشريعة علنًا أمام كل الشعب حتى الأطفال في عيد المظال في سنة الإبراء (السنة السابعة).

ثالثًا: تراءى الرب في الخيمة ليبارك استلام يشوع القيادة. تحدث الرب مع شعبه في صراحة مؤكدًا دخولهم أرض الموعد وانحرافهم بعد ذلك، كما أوصى يشوع: "تشدد وتشجع... أنا أكون معك" [23].

رابعًا: التزام اللاويين بكتابة الشريعة (التوراة) ووضعها بجوار تابوت العهد.

خامسًا: النشيد الختامي (تث 32). كأمر الله [19] نطق موسى النبي في اللحظات الأخيرة من حياته بذلك النشيد الذي يقصر خيال أعاظم الكتاب والشعراء عن أن ينطقوا بمثله.

سادسًا: بركة الأسباط، إذ لم يكن ممكنًا لموسى النبي في أبوته للشعب أن يرحل من هذا العالم دون أن يبارك شعبه سبطًا سبطًا، وذلك كما فعل يعقوب مع أولاده (تك 49).

سابعًا: صعود موسى إلى جبل نبو حيث مات هناك ودفنه الرب.

<<

 


 

الأصحاح الحادي والثلاثون

نصيحة أخيرة مع تحذير

أكد موسى النبي أن الله هو القائد الحقيقي لشعبه، كما قادهم في أيام موسى سيقودهم خلال يشوع. أوصى أيضًا الكهنة وجميع شيوخ إسرائيل أن يقرأوا التوراة في سنة الإبراء في عيد المظال. لم يذكر شيئًا عن طقس تجديد العهد هنا سوى تسجيل كلمة الله وقراءتها [9-13]. كما ظهر الرب له وأنذر الشعب ألا ينحرف عن الإيمان بعد موته.

1. تشجيع الشعب ويشوع                     [1-8].

2. قراءة التوراة في سنة الإبراء              [9-13].

3. ظهور الرب في الخيمة                     [14-23].

4. تسليم كتاب التوراة                         [24-30].

1. تشجيع الشعب ويشوع:

جاءت اللحظات الحاسمة التي أعلن فيها موسى النبي أنه قد بلغ المائة وعشرين عامًا من عمره، ولم يعد له استطاعة للعمل، فسلم القيادة ليشوع قبل نياحته وشجعه هو وكل الشعب.

"فذهب موسى وكلم بهذه الكلمات جميع إسرائيل،

وقال لهم: أنا اليوم ابن مائة وعشرين سنة.

لا أستطيع الخروج والدخول بعد.

والرب قد قال لي لا تعبر هذا الأردن.

الرب إلهك هو عابر قدامك.

هو يبيد هؤلاء الأمم من قدامك فترثهم.

يشوع عابر قدامك كما قال الرب" [1-3].

أولاً: عاش موسى 120 عامًا مثل نوح الذي كرز بالبرّ في عالم شرير. عاش 40 عامًا في قصر فرعون يتعلم حكمة المصريين (أع 7: 20، 23)، 40 عامًا يجول في أرض مديان يتهيأ للرعاية والخدمة (أع 7: 29-30)، 40 سنة قائدًا للشعب بتوجيه الله نفسه.

كشف لنا موسى النبي عن نظرته لهذه السنوات في صلاته الواردة في المزمور 90. فإنه لا يقدر عمره بالسنوات وامتدادها بل ببركة الرب. "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل" (مز 90: 4). تطلع موسى إلى سنوات عمره الثمانين الأولى بكونها تحمل قوة جسدية مع تعب وبلية. أما الأربعون سنة الأخيرة فمع شيخوخة الجسد تحمل قوة الروح، هي عطية الله له للعمل. يقول: "أيام سنيننا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية. لأنها تُقرض سريعًا فتطير" (مز 90: 10).

ثانيًا: يعتبر موسى عمل الله مع خليفته يشوع هو عمل معه هو شخصيًا، فما يتمتع به يشوع كأنما تمتع هو به. فقد اعترف أنه قد شاخ جسديًا وصار غير قادرٍ على الخروج والدخول بعد. وإن الله عابر قدامه. كيف؟ لأن الله يعمل في يشوع! هذه هي روح القيادة الحقة التي لا تحمل شيئًا من الأنانية، فيهيئ القيادة المقبلة ويحسب نجاحها نجاحًا له.

لم يطلب موسى النبي يومًا إضافيًا على عمره ليتمم العمل ويدخل بالشعب إلى أرض الموعد، لكنه يطلب ويعمل قدر المستطاع لكي يحقق خليفته ما قد بدأ هو به. هكذا يليق بنا ألا نقلق من أجل قصر أيام عمرنا، لكننا نسأل ونعمل لكي نهيئ للقيادات القادمة أن تتمم ما قد بدأنا فيه أو ما قد تسلمناه من الأجيال السابقة.

ثالثًا: كثيرًا ما يردد موسى النبي الحكم الإلهي: "لا تعبر هذا الأردن". بلا شك كان مشتاقًا أن يعبر، لكن عبور الشعب بعده هو عبور له.

رابعًا: لن نجد قائدًا يشجع جنوده بقوة عند تركه لهم مثلما فعل موسى النبي، إذ يؤكد لهم أن النصرات التي تحققت في أيامه تكثر بعد رحيله، لأن سرّ النصرة لا يكمن فيه بل في الحضرة الإلهية.

"ويفعل الرب بهم كما فعل بسيحون وعوج ملكي الأموريين اللذين أهلكهما وبأرضهما.

فمتى دفعهم الرب أمامكم تفعلون بهم حسب كل الوصايا التي أوصيتكم بها.

تشددوا وتشجعوا.

لا تخافوا ولا ترهبوا وجوههم،

لأن الرب إلهك سائر معك،

لا يهملك ولا يتركك" [4-6].

الله الحال في وسط شعبه عمل في أيام موسى، ويبقى يعمل عبر الأجيال. وكقول الرسول بولس: "حتى أننا نقول واثقين: الرب معين لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي إنسان؟!" (عب 13: 6).

خامسًا: دعوة يشوع وإقامته خلفًا له وتوصيته أمام كل الشعب، مؤكدًا لهم نجاحهم المستمر.

"فدعا موسى يشوع وقال له أمام أعين جميع إسرائيل:

تشدد وتشجع لأنك أنت تدخل مع هذا الشعب الأرض التي أقسم الرب لآبائهم أن يعطيهم إياها،

وأنت تقسمها لهم.

والرب سائر أمامك. هو يكون معك.

لا يهملك ولا يتركك.

لا تخف ولا ترتعب" [7-8].

إذ الرب سائر أمامهم ويكون معهم لا يوجد مجال قط للخوف من إمكانيات العدو وخبراته الطويلة.

أثبت يشوع نجاحه في مواقف كثيرة، لكنه محتاج إلى تذكير مستمر لعمل الله معه، خاصة وأنه داخل في مرحلة جديدة من العمل.

طالبه موسى النبي أن يكون مثالاً حيًا للشعب فلا يخاف ولا يرتعب، لأنه إن ارتبك القائد انهار الكل وراءه. من أخطر الضربات لخدام الكلمة والقادة أن يفقدوا ثقتهم في الله، فلا يظهروا بالحق أقوياء في الرب، عاملين بروح القوة لا الضعف. فإن خوف القائد أو شكواه للشعب يُحطم نفسيتهم ويهز إيمانهم.

ليدرك القائد أن الله سائر أمامه يهيئ له الطريق ويقوده في الطريق الملوكي، وأنه معه، أي يصحبه في رحلاته ويسنده في كل عمل صالح. إنه لن يسمح له بالانهيار ولا يتخلى عنه.

"لا تخف ولا ترتعب" [8] يأتي الخوف طبيعيًا للإنسان الساقط فيحتاج إلى كلمة تشجيع باستمرار وهذا ما نجده من التكوين إلى الرؤيا (تك 15: 1، رؤ 1: 17).

2. قراءة التوراة في سنة الإبراء:

"وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل" [9].

تقول "المشنا" اليهودية أن قراءة الخمسة الأصحاحات الأولى من السفر مع أجزاء أخرى منه كانت تجري في الأعياد.

كتب موسى النبي في اللحظات الأخيرة عظاته والوصايا الواردة في الأصحاحات السابقة. يرى بعض الحاخامات أن موسى النبي كتب 13 نسخة من الأسفار الخمسة، وأعطى كل سبط نسخة، ووضع الثالثة عشرة في تابوت العهد. آخرون يرون أنه كتب نسختين، قدَّم واحدة للكهنة واللاويين للاستعمال العام كما جاء هنا [9]، والأخرى وضعت في تابوت العهد يُرجع إليها، خاصة حين يكسر الشعب الناموس، وينحرفوا إلى العبادة الوثنية، تسمى "نسخة الرب". يقول الأسقف باتريق[289] إن موسى كتب الأسفار الخمسة، أو أكملها.

أما عن قراءتها مرة كل سبع سنوات فيقول:

"وأمرهم موسى قائلاً:

في نهاية السبع السنين في ميعاد سنة الإبراء في عيد المظال.

حينما يجيء جميع إسرائيل لكي يظهروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره،

تُقرأ هذه التوراة أمام كل إسرائيل في مسامعهم" [10-11].

حدد سنة الإبراء، السنة السابعة موعدًا للقراءة العامة لكل الشعب للتوراة. هذا بجانب قراءة الأسرة اليومية لبعض الفقرات من الشريعة، وأيضًا كان مُوسى يقرأ في كل سبت في المجامع (أع 15). هذه القراءات سواء الخاصة في البيت أو الخاصة بالجماعات المحلية كل أسبوع لا تكفي بل تلزم القراءة العامة لكل الشعب.

سنة الإبراء مناسبة لقراءة كل الشريعة، حيث يتحرر العبيد، ويبرأ المديونين من ديونهم، وترجع الأراضي المباعة أو المرهونة، فيشعر الكل الأغنياء خلال عطائهم وسخائهم والفقراء خلال مساندتهم قد تهيأت نفوسهم للطاعة للوصية الإلهية. إن كانت الوصية تدفع الإنسان لعمل الخير، فإن عمل الخير يسند النفس لقبول الوصية والتجارب معها. غالبًا ما كان يُقرأ سفر التثنية كله مع مختصر من بقية أسفار موسى الخمسة.

في عيد المظال على وجه الخصوص يفرح الكل أمام الرب (لا 23: 40)، ويسكن الشعب أسبوعًا في خيام مصنوعة من أغصان الشجر، فيشعر الكل أنهم غرباء على الأرض، لهذا يسمعون الوصية الإلهية. وكأنهم يقولون مع المرتل: "غريب أنا على الأرض فلا تخفي عنك وصاياك" (مز 119). تُقرأ التوراة حيث وصية الرب هي مصدر الفرح الحقيقي. ينصت الكل إليها بكل بهجة قلب وفرح.

تُقرأ التوراة كل سبع سنوات، حيث سبت السنوات، إذ في وصية الله راحتنا وسبتنا الحقيقي. السنة السابعة تشير إلى العمل الإنجيلي حيث الحرية في المسيح يسوع وغفران الخطايا، السنة المقبولة لدى الرب (لو 1: 74-75).

لم تكن النساء وأطفالهن ملزمون أن يصعدوا في الأعياد الأخرى، أما في عيد المظال يلتزم الكل الرجال مع النساء والأطفال أن يصعدوا للعيد، فيسمع الكل الشريعة.

"اجمع الشعب: الرجال والنساء والأطفال والغريب الذي في أبوابك،

لكي يسمعوا ويتعلموا أن يتقوا الرب إلهكم،

ويحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة" [12].

طلب أن يجتمع الأطفال مع والديهم ومع الدخلاء في الإيمان لكي ينصتوا لكلمة الله ويحرصوا على التمتع بمخافة الرب. هكذا تقدم لهم الخميرة، فيختمر عجين الجيل الجديد. ينشأ الأطفال في جو كتابي، لا يشغلهم شيء سوى محبة الله والتمتع بوعوده الصادقة في مخافةٍ ووقارٍ.

من الذي يقرأ التوراة في عيد المظال في سنة الإبراء؟

للأسف لم يمارس الشعب ذلك، ولم يسمعوا لهذه الوصية سوى مرات محدودة للغاية منذ أيام يشوع حتى مجيء السيد المسيح. مرت قرون طويلة دون ممارسة هذا الطقس المهوب. قام يشوع بقراءة جميع كلام التوراة أمام بني إسرائيل من الشعب والشيوخ والعرفاء وقضاة مع الكهنة اللاويين حاملي تابوت عهد الرب، وأمام الغرباء الداخلين في الإيمان (يش 8: 33-35).

وعندما بنى سليمان الهيكل جمع الكل وقرأ أيضًا من التوراة، لذلك دعي نفسه "المبشر Preacher" (جا 1: 1-2، 12؛ 7: 27؛ 12: 8؛ 10: 9).

وأرسل الملك يهوشفاط رؤساء يهوذا ليعلموا ومعهم سفر شريعة الرب (2 أي 17: 9).

"صعد الملك (يوشيا) إلى بيت الرب مع كل رجال يهوذا وسكان أورشليم والكهنة واللاويين وكل الشعب من الكبير إلى الصغير، وقرأ في آذانهم كل سفر العهد الذي وُجد في بيت الرب. ووقف الملك على منبره وقطع عهدًا أمام الرب" (2 أي 34: 30-31).

وعند عودة الشعب من بابل اجتمع كل الشعب كرجلٍ واحدٍ إلى الساحة وقرأ عزرا الكاتب سفر شريعة موسى (نح 8: 1-3).

"وأولادهم الذين لم يعرفوا يسمعون ويتعلمون أن يتقوا الرب إلهكم كل الأيام،

التي تحيون فيها على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لكي تمتلكوها" [13].

3. ظهور الرب لموسى في الخيمة:

"وقال الرب لموسى هوذا أيامك قد قربت لكي تموت.

ادع يشوع وقفا في خيمة الاجتماع لكي أوصيه.

فانطلق موسى ويشوع ووقفا في خيمة الاجتماع" [14].

إذ جاءت اللحظات الحاسمة التي فيها ينهي موسى النبي أحاديثه مع شعبه، قال له الرب: "هوذا أيامك قد قربت لكي تموت". كلما قربت أيام رحيل موسى تراءى الرب بالأكثر له ليُدرك أن رحيله ليس إلا عبورًا إلى الرب ليراه وجهًا لوجه. إنه عطية إلهية مفرحة. كلما تجلى الرب في أعماق النفس تهيأ قلب الإنسان للموت بفرح وبهجة قلب.

دُعي موسى ويشوع للقاء مع الرب، واحد لكي يستعد للرحيل ويسلم عجلة القيادة في يد تلميذه، والآخر لكي يستعد لحمل آلام الرعاية ويستلم روح الأبوة الصادقة والقيادة الناجحة من معلمه.

ظهر مجد الرب لموسى النبي، وهذه هي المرة الوحيدة التي نقرأ فيها عن ظهور مجد الرب في هذا السفر، بينما نقرأ عنه ثلاث مرات في الأسفار السابقة. ويرى البعض أن ظهور مجد الرب هنا قبيل موت موسى إشارة إلى ظهور الشريعة الجديدة، العهد الجديد عند شيخوخة حرفية العهد القديم.

"فتراءى الرب في الخيمة في عمود سحاب،

ووقف عمود السحاب على باب الخيمة" [15].

هكذا كلما تمتعنا بالحياة الإنجيلية وأدركنا عبورنا نحو السماء يتراءى الرب في خيمتنا نحن المتغربين، ويعلن مجده فينا.

ماذا قال الرب لموسى؟

أولاً: أن شعبه سيكسر العهد مع الله، هذا الذي من أجله جاهد موسى النبي أربعين عامًا، لكي يتمتع الشعب بالحب الإلهي، ويكون له نصيب في أرض الموعد رمز السماء. أما علة كسر العهد فهو ارتباطهم بالعبادة الوثنية ونسيانهم الله مخلصهم.

"وقال الرب لموسى: ها أنت ترقد مع آبائك،

فيقوم هذا الشعب ويفجر وراء آلهة الأجنبيين في الأرض التي هو داخل إليها فيما بينهم،

ويتركني وينكث عهدي الذي قطعته معه.

فيشتعل غضبي عليه في ذلك اليوم، واتركه واحجب وجهي عنه، فيكون مأكله،

وتصيبه شرور كثيرة وشدائد.

حتى يقول: في ذلك اليوم أما لأن إلهي ليس في وسطي أصابتني هذه الشرور؟!

وأنا أحجب وجهي في ذلك اليوم لأجل جميع الشر الذي عمله إذ التفت إلى آلهة أخرى" [16-18].

يؤكد الله أن كسر العهد هو من جانب الإنسان، إذ يقول: "يتركني وينكث عهدي الذي قطعته معه". فاللوم يقع على جانب الإنسان وحده.

في مرارة سقط شعب الله في عبادة آلهة الكنعانيين الذين كانوا أصحاب البلد، والآن يدعوهم الرب أجنبيين، لأنه سلم ملكية أرضهم لشعبه. لكن شعبه بعد أن تسلم الأرض رفض الله واهب الأرض وارتبط بالآلهة الغريبة التي عجزت عن حماية شعبها. هكذا إذ يقدم الله لنا كل إمكانية يسقط البعض في عبادة المال خلال الطمع أو عبادة بطونهم خلال النهم أو عبادة الملذات خلال الشهوات الشريرة.

ثانيًا: يقول الرب لموسى: "أنت ترقد مع آبائك" [16]، مع أن موسى رقد في جبل موآب، بعيدًا عن المناطق التي رقد فيها آباؤه. لهذا فإنه لا يمكن تفسير هذا القول الإلهي عن رقاد الجسد المجرد، وإنما عن راحة نفسه التي ترقد على رجاء مع نفوس آبائه السابقين له.

جاء في الترجوم ليوناثان بن عُزيل عن هذه العبارة: [أنت ترقد في التراب مع آبائك، وسترقد نفسك في كنز الحياة العتيدة مع آبائك[290]].

ثالثًا: الله في حكمته العجيبة يُعطي كل إنسان حسب قلبه. فإذ يطلب شعبه أن يترك الله [16]، يقدم لهم الله سؤل قلوبهم بأن يحجب وجهه عنهم [17]. هم أعطوا الله القفا لا الوجه، لهذا نزع وجهه عنهم فحُرموا من إشراقات حبه ولم يعودوا يتمتعون ببهاء مجده. بقوله: "احجب وجهي عنه"، يعني نزع نعمته عنهم وحمايته لهم.

رابعًا: تعليم إسرائيل خلال الترانيم والأغاني أو التسابيح. في مقدمة سفر الأمثال تحدثت عن اللغات التي يتحدث بها الله مع الإنسان، من بينها لغة التسبيح أو الترنيم. وها هو الله نفسه يطلب من موسى في اللحظات الأخيرة من حياته على أرض موآب أن يعلم شعبه بهذه اللغة.

"فالآن اكتبوا لأنفسكم هذا النشيد،

وعلم بني إسرائيل إياه.

ضعه في أفواههم،

لكي يكون لي هذا النشيد شاهدًا على بني إسرائيل" [19].

لقد وضع موسى النشيد بإعلان الروح له، مقدمًا فيه تحذيرًا لشعبه الذي يحنث بالوعد ويكسر العهد.

إن كان النشيد لم يمنع الشعب من الارتداد عن عبادة الله الحيّ إلا أنه قدَّم بابًا للتوبة والرجوع إلى الله. فإنهم إذ يتركون الرب ويسقطون في المرارة يتذكرون خلال النشيد المحفوظ عن ظهر قلب أن الله سبق فأنذرهم، وأنه لا يزال ينتظرهم، فإنه لا يُسر بسقوطهم. وكأن الله قد أعد لهم الدواء مقدمًا إياه لهم حتى متى أصيبوا يجدوا علاجًا إلهيًا قائمًا بين أيديهم.

خامسًا: قدَّم الله لهم إمكانيات للشبع والراحة، فعوض تقديم ذبيحة شكر، سقطوا في الارتداد.

"لأني أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم الفائضة لبنًا وعسلاً،

فيأكلون ويشبعون ويسمنون ثم يلتصقون بآلهة أخرى ويعبدونها،

ويزدرون بي وينكثون عهدي.

فمتى أصابته شرور كثيرة وشدائد يجاوب هذا النشيد أمامه شاهدًا،

لأنه لا ينسى من أفواه نسله.

إني عرفت فكره الذي يفكر به اليوم قبل أن ادخله إلى الأرض كما أقسمت.

فكتب موسى هذا النشيد في ذلك اليوم وعلم بني إسرائيل إياه.

وأوصى يشوع بن نون وقال: تشدد وتشجع، لأنك أنت تدخل ببني إسرائيل الأرض التي أقسمت لهم عنها وأنا أكون معك" [20-23].

4. تسليم كتاب التوراة:

"فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها،

أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً" [24-25].

إذ أكمل موسى النبي كتابة كلمات التوراة سلمها للاويين حاملي تابوت العهد، لا في طقس شكلي ومجاملات قاتلة، وإنما في صراحة ووضوح وتحذير، إذ قال لهم:

"خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم.

لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.

هوذا وأنا بعد حيّ معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب،

فكم بالأحرى بعد موتي؟!" [26-27].

ملخص خبراته الطويلة لأربعين عامًا ليس أن الشعب بكل قيادته قد قاومه مرارًا كثيرة، وإنما قاوموا الرب نفسه بالرغم من معاملات الله الفائقة معهم على يدي موسى، فماذا يكون حالهم بالأكثر بعد رحيله.

لقد أعلن لهم ما سيحدث معهم بعد موته:

"خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدا عليكم.

لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به،

ويصيبكم الشر في آخر الأيام،

لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم" [28-29].

عندما جاء السيد المسيح إلى العالم وقدم الخلاص المجاني أعلن أيضًا قبل موته أنه سيظهر مسحاء كذبة وأنبياء كذبة يضللون الناس (مت 24: 24). هذا أيضًا ما قاله الرسول بولس بخصوص ظهور معلمين كذبة بعد موته.

"فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه" [30].

 

 


 

من وحي تثنية 31

هب لي روح القيادة الحقة

v     هب لي أن اقتدي بموسى أول قائد لشعبه.

أرى في نجاح القيادات الجديدة نجاحًا لي.

لا أنسب شيئًا من النجاح لنفسي.

بل كما وهبني الرب نجاحًا يهب الأجيال الجديدة ما هو أعظم وأقوى.

الله هو العامل عبر كل الأجيال.

v     علمني أن أحمل روح الرجاء في الجيل الجديد.

فأراك عاملاً فيهم بقوة.

أبث فيهم روح الشجاعة حتى يعملوا بك بروح القوة.

v     لنقتدي بموسى مستلم الشريعة.

نقدم للأجيال القادمة شريعة الرب منقوشة في قلوبنا،

معلنة في سلوكنا وحياتنا.

نحفظ وديعة التقليد الثمينة،

ألا وهي الحياة الإنجيلية العملية الصادقة.

v     كانت الشريعة كلها تُقرأ علانية في سنة الإبراء.

يسمعها حتى الأطفال في مخافة الرب.

يسمعونها في عيد المظال وهم في خيام!

لنقرأها دومًا للأجيال الجديدة.

لتكن كلمة الله مغروسة في كل قلب.

يجدون لذتهم فيها أثناء غربتهمّ

نقدمها لهم بروح الفرح الحقيقي.

يرونها سرّ بهجتنا الداخلية!

v     في أيام موسى الأخيرة كنت تتراءى له كثيرًا.

التهب قلبه بالحنين للانطلاق نحوك.

وسلم ذات الروح للقائد الجديد!

ليس لي ما أقدمه لهم سوى رؤياك!

v     ختم موسى حياته بالتغني بنشيد روحي.

هب لي أن أحمل روح التسبيح،

فتتقبل الأجيال القادمة لغة التسبيح.

<<

 

 


 

الأصحاح الثاني والثلاثون

نشيد موسى

تحت قيادة روح الله القدوس يقدم لنا موسى النبي نشيده الأخير. دُعي هذا النشيد مفتاح كل نبوة لأنه يتكلم عن ولادة الأمة وطفولتها ثم جحودها وارتدادها وأخيرًا عقابها فرجوعها.

قدم لنا موسى النبي أغنية تحمل فكرًا لاهوتيًا حيًا، فإنه كنبي لا يفصل بين الموسيقي واللاهوت. موسيقي بلا لاهوت تصير نوعًا من الميوعة ومضيعة للوقت، ولاهوت بلا موسيقي تفقد الإنسان رقته. إن كان اللاهوت يعتني بالإنسان ليقيم منه أيقونة حية لله، تحمل صورة للحياة المتهللة، فإن اللاهوت لا غنى له عن الموسيقى، إذ تقيم من الإنسان كائنًا سماويًا متهللاً وشاكرًا بلا انقطاع.

الحياة الإيمانية الصادقة هي قطعة موسيقية تعلن عن التناغم في حياة الإنسان بين سلوكه الزمني وتذقه لعربون الأبدية.

إن كانت حياة موسى النبي سلسلة لا تنقطع من الجهاد المستمر، وقد ذاق المرارة من قسوة قلب الشعب، لكن حياته في حقيقتها سيمفونية حب متهللة، سلسلة من التسابيح. فعند بدء انطلاقه إلى البرية إذ وهبه الله النصرة على فرعون وسط البرية ترنم موسى مع الشعب بنشيدٍ عندما جاءوا إلى البئر التي حفرها شرفاء الشعب (عد 21: 17)، وها هو الآن يختم موسى حياته بتسبحة رائعة، إذ دُعي للانطلاق من العالم ورأى بعيني الإيمان كنعان السماوية، فتهللت نفسه وهو على ضفاف نهر الأردن. يرى في الله الأب الذي يرافق ابنه كل الطريق، يقوده ويهتم بكل احتياجاته الروحية والمادية. تراه النفس كالنسر الذي يرف على فراخه، ويبسط جناحيه فيحميها، يترفق بها ويحملها على منكبيه، يعطيها كل رعايته ولا يتركها تعتاز إلى غيره. يشبعها وسط القفر، فيُخرج لها من الحجر عسلاً ومن صوان الصخر زيتًا، أي يصنع من أجلها المستحيلات[291].

سجل لنا موسى النبي في هذا النشيد ما تحمله أعماقه من جهة الله مخلصه، كما حمل مرارة وأنينًا من جهة ارتداد الشعب عن عبادة الله والارتباط بالرجاسات الوثنية، مما

جعلهم يسقطون تحت التأديب الإلهي.

حث موسى شعبه على الطاعة لله، وأخيرًا أمر الرب موسى بالصعود إلى جبل نبو لكي ينظر أرض كنعان ويموت.

1. مقدمة النشيد                               [1-2].

2. عظمة الله وبره                             [3-4].

3. انحراف الشعب وحنثه بالعهد                [5-6].

4. تذكير الشعب بأعمال الله                    [7-14].

5. شعب جاحد                                 [15-18].

6. تأديب الشعب الجاحد                        [19-43].

7. دعوة للطاعة                               [44-47].

8. دعوة موسى لصعود جبل نبو               [48-52].

1. مقدمة النشيد:

أدرك موسى عبوره عن العالم وتسليم القيادة في يدي تلميذه يشوع، وإذ جدد الجيل الجديد العهد مع الله قدَّم لله تسبحة رائعة يمجد فيها الله العظيم البار [1-4]. بالرغم من شر الشعب [5-6]. عدد أعمال الله فهو الخالق والمخلص والمحامي ويبقى أمينًا في عهده مع شعبه.

يفتتح موسى النبي نشيده قائلاً:

"أنصتي أيتها السموات فأتكلم،

ولتسمع الأرض أقوال فمي.

يهطل كالمطر تعليمي، ويقطر كالندى كلامي.

كالطل على الكلا، وكالوابل على العشب" [1-2].

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[292] أنه إذ لا يوجد إنسان يسمع ويشهد للأمور الإلهية تُستدعى السماء للشهادة.

يدعو موسى النبي الملائكة وكل الطغمات السمائية، كما يدعو كل الأمم لكي تشهد على ما ينطق به بخصوص معاملات الله مع شعبه، ورد فعل الشعب تجاه عمل الله من خيانة وجحود. ويرى القديس أكليمندس السكندري[293] أن الله يستدعي المؤمنين أصحاب المعرفة السماوية (السماء) كما يستدعي من انشغلت قلوبهم بالأرضيات (الأرض) للشهادة.

نرى في إشعياء النبي (1: 2) كما في ميخا النبي (6: 2) دعوة الطبيعة للشهادة في محاكمة الإنسان أو في الخصومة القائمة بين الله وشعبه.

يسأل موسى السماء والأرض أن تنصتا له... ينادي النفس والجسد ليُسبحا معًا بنشيد حب الله ورعايته مقابل قسوة الإنسان وعصيانه. كلمات الله تحول القفر جنة، وكالندى تعطي برودة وسلامًا للنفس.

استخدم موسى النبي التسبحة للشكر وتمجيد الله (خر 15)، وها هو يستخدمها هنا للتعليم. بنفس الروح جاءت كثير من مزامير وتسابيح داود النبي تحت عنوان "من أجل التعليم". ويقول الرسول بولس: "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب" (كو 3: 16).

تعليم موسى ليس من عندياته، لكنه كالمطر النازل من السماء من عند الرب، وكما جاء في إشعياء: "لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعًا للزارع وخبزًا للأكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليّ فارغة بل تعمل ما سررت به، وتنجح في ما أرسلتها له" (إش 55: 10-11).

إنها لا تعتمد على حكمة البشر إنما "كالندى من عند الرب كالوابل على العشب الذي لا ينتظر إنسانًا ولا يصير لبني البشر" (مي 5: 7). المطر هو عطية الله، "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فُلحت من أجلهم تنال بركة من الله" (عب 6: 7).

إنه ينطق بتعاليمه كالمطر الذي يبدأ بقطرات قليلة متوالية لكن سرعان ما تتحول إلى كميات ضخمة لا يستطيع أحد أن ينكرها. أو أن ما يعلنه موسى النبي هو كلمة الله التي تكون إما كالندى ترطب الكثيرين أو كالمطر الشديد أو السيول التي تهلك، كما حدث في أيام نوح. يكون التعليم فعّالاً وقويًا حين يصير كالندى والمطر الخفيف الذي لا يسبب إزعاجًا ولا يُسمع له صوت، فتدخل الكلمة إلى القلب بروح هادئ. "ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض" (مز 72: 6).

v     أتُريد أن تعرف بأية طريقة يُدعي المؤمنون سحابًا في الكتاب المقدس

يقول إشعياء:" وأوصى الغيم ألا يمطر عليه مطرًا" (إش 5: 6).

كان موسى سحابة، لذلك يقول:" يهطل كالمطر تعليمي" [2]. رسائل الرسل هي مطر روحي بالنسبة لنا. كحقيقة واقعة ماذا يقول بولس في رسالته إلي العبرانيين؟ "لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرًا" (عب 6: 7). مرة أخري يقول:" أنا غرست وأبُلس سقي" (1 كو 3: 6) [294].

القديس جيروم

v     إن كنا نحن البشر جميعًا نرغب في أن نروي حدائقنا، وإن لم توجد فيها مياه، نسحب المياه من البحر باذلين جهدًا عظيمًا، فإنه كم بالأكثر يلزم أن نبذل بالأكثر لكي نمد خضراوات أجسادنا (بالمياه) هذه التي في جنة الرب، أي في كنيسة الله، فنروي الأماكن الجافة بالمياه، ونلين الأماكن القفر بأنهار الكتاب المقدس والمجاري الروحية أو ينابيع الآباء القدامى، لكي بعد هذا نقتلع ما هو ضار ونغرس ما هو نافع؟

كما جاء في الرسول بولس نقول نحن خلفاؤه، وإن كنا أقل منه قدرة: "أنا غرست وأبلس سقي، ولكن هو الذي ينمي" (1 كو 3: 6).

فبمعونة الله يليق بنا أن نتمم ما هو من جانبنا، لنستمر في الغرس والسقي، فإننا إن تممنا التزامنا فإن الله يقدم إحسانه[295].

الأب قيصريوس

2. عظمة الله وبره:

"إني باسم الرب أُنادي.

أعطوا عظمة لإلهنا.

هو الصخر الكامل صنيعه.

إن جميع سبله عدل، إله أمانة، لا جور فيه، صديق وعادل هو" [3-4].

ما هو التعليم الذي يقدمه موسى كالمطر النازل على الأرض ليحولها إلى جنة مثمرة؟

أولاً: عظمة الله التي تظهر في رعايته لخليقته، فهو "الصخر الكامل في صنيعه"، وقد تكررت كلمة "الصخر" في الأصحاح ست مرات، وكأنه هو الصخر لكل خليقته التي أوجدها في الأيام الستة. إنه الصخرة غير المتزعزعة، عليه تُبنى الكنيسة وفيه تختفي، فلا يلحق بها ضرر.

ثانيًا: الله "كامل في صنيعه"، كل ما خلقه صالح. وبالتالي هو صالح وكامل في عنايته بخليقته، كل ما يسمح به هو لخير شعبه. وكما يقول الحكيم: "قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد، لا شيء يُزاد عليه، ولا شيء ينقص منه" (جا 3: 14-15). عمل الإنسان مهما كان فاضلاً فهو غير كامل، أما عمل الله فكامل جدًا. لذا يقول السيد: "متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطّالون" (لو 17: 10).

ثالثًا: الله عادل وأمين، ليس فيه جور. وكما يقول النبي: "من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور؟! وفهيم حتى يعرفها؟! فإن طرق الرب مستقيمة والأبرار يسلكون فيها، وأما المنافقون فيعثرون فيها" (هو 14: 9). إنه الحق الذي لن يوجد فيه باطل ولا كذب، لا يخطئ قط متى أدّب. يعرف ما هو لبنيان الإنسان وما هو لصالح الجماعة، دون أن يظلم أحدًا. وكما يقول المرتل: "ليخبروا بأن الرب مستقيم، صخرتي هو ولا ظلم فيه" (مز 92: 15).

يُدعي الله "أمينًا" (1 كو 10: 3)، ويُدعى الإنسان أمينًا. يقول البابا أثناسيوس أن كلمة "أمين" تحمل معنيين في الكتاب المقدس، الأول "الإيمان" و"الثقة" وهذا يناسب البشر، والمعنى الثاني أنه "موضع ثقة" وهذا يناسب الله. فإبراهيم كان أمينًا لأنه آمن بكلمة الله، والله أمين كقول داود في المزمور: "الرب أمين في كل كلماته" (مز 145: 14 LXX)، لن يكذب[296].

3. انحراف الشعب وحنثه بالعهد:

مع أمانة الله التي لا يشوبها شائب انحرف الشعب وفي غباوة حنث بوعده مع الله. يقدم النبي مقابلة بين سمات الله وسمات شعبه. الله عظيم في حبه وعدله وحكمته، كالصخر لا يتغير يتكئ عليه المؤمنون في طمأنينة، وفيه يحتمون. لا تستطيع الحية أن تزحف على الصخر، لذا من يختبئ فيه لا تصيبه لدغات العدو. أيضًا من الصخر فاضت المياه للشعب في البرية [20]. أما الشعب فأفسد نفسه (هو 13: 9)، إذ في غباوة تجاهلوا أبوة الله. لكل إنسان ضعفاته حتى أولاد الله، أما هؤلاء فجيل ملتوٍ أعوج، محتاج أن يذكر عمل الله مع آبائهم ليرجعوا عن فساد قلوبهم.

"أفسد له الذين ليسوا أولاده عيبهم.

جيل أعوج ملتوٍ.

الرب تكافئون بهذا يا شعبًا غبيًا غير حكيم؟!

هو عملك وأنشأك" [5-6].

بسلوكهم المعوج في معاملاتهم مع الله الأمين لم يضيروا الله في شيء إنما أفسدوا أنفسهم. هم مصدر خطيتهم، وهم علّة فسادهم وهلاكهم. وكما قيل: "هلاكك يا إسرائيل أنك عليّ على عونك" (هو 13: 9). "إن كنت حكيمًا فأنت حكيم لنفسك، وإن استهزأت فأنت وحدك تتحمل" (أم 9: 12).

كأنه يُعاتبهم قائلاً: ها أنتم تهلكون أنفسكم بإرادتكم الشريرة مدعين أنكم أولاد الله وأنكم منتسبون له. هل هذه هي المكافأة التي تقدمونها لله أبيكم والذي اقتناكم له؛ هذا الذي خلقكم وأوجدكم كأمة وشعب خاصٍ به؟!" إنه أب عجيب خلقهم وعالهم حتى في البرية ورعاهم وحمل أثقالهم، أفلا يشعرون بأحشائه الملتهبة حبًا لهم؟! ما يفعلونه إنما من قبيل الجحود وتجاهل حب الله وغنى بركاته عليهم. وكما يقول النبي: "فإن للرب خصومة مع شعبه، وهو يحاكم إسرائيل. يا شعبي ماذا صنعت بك؟ وبماذا أضجرتك؟ اشهد عليَّ. إني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية، وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم. يا شعبي أذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب، وبماذا أجابه بلعام بن بعور..." (مي 6: 2-5). إنه ضلال جنوني، إذ يقول: "يا شعبًا غبيًا غير حكيم؟!"

يميز هنا بين الخطايا التي تصدر عن ضعف مع شوق حقيقي للقداسة وجهاد من أجل البرّ في الله، وبين الخطايا التي تصدر عن عمدٍ وفي إصرارٍ دون رغبة حقيقية في التوبة والرجوع إلى الله. الأولى تصدر عن أولاد لله محبين ومجاهدين، والثانية تصدر عن مقاومين للحق. إنهم يخدعون أنفسهم فيظنون أنهم أولاد الله بينما هم مقاومون له.

"هو عملك وأنشأك" [6] كل البشر خليقة الله، ولكن المفديين فقط هم أولاده الحقيقيون (يو 1: 12).

4. تذكير الشعب بأعمال الله:

إذ وجه الاتهام إلى الشعب في كسره للعهد مع الله دعاهم إلى إصلاح الموقف بتذكر معاملات الله معهم في الماضي عبر الأجيال ومنذ القدم، موضحًا كيف اهتم الله بهم، مقدمًا لهم كل إمكانية.

أولاً: اختار الله شعبه نصيبًا له.

"اذكر أيام القدم وتأملوا سني دورٍ فدورٍ.

اسأل أباك فيخبرك، وشيوخك فيقولوا لك.

حين قسم العلي للأمم،

حين فرق بني آدم نصب تخومًا لشعوب حسب عدد بني إسرائيل.

إن قسم الرب هو شعبه. يعقوب جبل نصيبه" [7-9].

يليق بالمؤمن أن يتعلم من آبائه ليس فقط كلمة الله ووصاياه (تث 6: 7؛ خر 12: 26-27)، وإنما عمله معهم عبر العصور. وكما يقول المرتل: "لا تخفي عن بنيهم إلى الجيل الآخر مخبرين بتسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنع. أقام شهادة في يعقوب، ووضع شريعة في إسرائيل التي أوصى آباءنا أن يعرفوا بها أبناءهم. لكي يعلم الجيل الآخر. بنون يولدون فيقومون ويُخبرون أبناءهم، فيجعلون على الله اعتمادهم ولا ينسون أعمال الله بل يحفظون وصاياه" (مز 78: 4-7).

كما يليق بالآباء أن يعلموا أولادهم وصايا الرب ويخبروهم عن عنايته العملية معهم، يليق أيضًا بالأبناء أن يشتاقوا إلى معرفة هذه الأمور لكي تكون خير قائد ومرشد لهم في طريقهم.

بالعودة إلى التاريخ الذي يشهد به الآباء والشيوخ، ندرك أن الله حين فصل أبناء آدم إلى أمم وشعوب وضع حدودًا كان يجب أن تلتزم بها ولا تتعدى أمة على أمة، أما بالنسبة لإسرائيل فجعل لها معزة خاصة إذ حسبها شعبه الخاص.

لقد دعيت أفريقيا بلد حام (مز 78: 51، 105: 23، 27؛ 106: 22)، وغالبًا ما صارت له ولنسله من بعده، وكانت أوربا من نصيب يافث، وآسيا من نصيب سام، أما أرض فلسطين فحسبت من نصيب الرب، يقدمها لشعبه الخاص. تقسيم العالم هكذا إلى ثلاثة أقسام بين أبناء نوح الثلاثة دُعي بالهجرة العامة، وقد تحققت بعد حوالي قرنين من عصر نوح. هذا تم قبل برج بابل بخمسة قرون حيث تفرقت البلاد إلى شعوب كثيرة بلغات مختلفة.

جاء في الترجمة السبعينية: "حين قسم العليّ للأمم، حين فرّق بني آدم نصب تخومًا لشعوبٍ حسب عدد ملائكة الله"، وكأن الله ائتمن كل أمة في يد ملاكٍ. أما بالنسبة لشعبه فاستلم قيادته بنفسه بكونهم نصيبه الخاص.

جاء في التقليد اليهودي كما في المسيحية الأولى أن الله قد عين ملاكًا خاصًا لكل أمة أو شعب، لكن الملاك لا يُلزم الأمة على سلوك معين. أما بالنسبة لكنيسة العهد القديم كما الجديد فقد عين رئيس الملائكة رئيس جند الرب مدافعًا عنه، وإن كان قد عهدها لروحه القدوس لتكون له.

v     توجد هنا شهادة أن للقديسين ملائكة، بل ولكل البشر[297].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى البعض في قوله "حسب عدد بني إسرائيل" تعني أن كنعان وأولاده الإحدى عشر (تك 10: 15) عددهم 12 يقابل الرب الـ 12 سبطًا لإسرائيل حيث ترث الأسباط أرض كنعان وأولاده.

بقوله إن قسم الأرض ووضع حدودًا أوضح أنه يليق بالبشرية إلا تصارع لكي تغتصب من بعضها البعض. وكما قال الرسول بولس: "وصنع من دمٍ واحدٍ كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم" (أع 17: 26)، ويقول المرتل: "السموات سموات للرب، أما الأرض فأعطاها لبني البشر" (مز 115: 16). هكذا قدَّم الأرض لبني البشر ليعيشوا معًا في سلام، كل يسند أخاه لا أن يصارع معه.

من العجيب أن الله خالق السماء والأرض، مالك الكل، يحسب شعبه نصيبه الذي يُسر به، إذ يرى فيه الجنة المغلقة (نش 4: 12) التي يتمشى فيها ويستريح. حقًا يمكن القول بأن الله نصيب المؤمن بكون الأخير محتاجًا إلى الأول، يجد فيه كنزه وغناه وشبعه وفرحه وبهجة قلبه، أما أن يحسب الله الإنسان نصيبه، هذا الذي لا يحتاج إلى شيء، فذلك من أجل تكريم الله للإنسان. إنه تنازل أبوي فائق، يحسب ابنه الذي لا يملك شيئًا خاصًا به، ونصيبه.

v     إن كانت رغبتنا أن نكون ميراث الرب ونصيبه، فلنكن في شجاعة وقوة... لا يكن فينا شيء ضعيفًا، لا شيء يكون مهزوزًا، لا يكون فينا شيء ما لا يصلح أن يكون ميراثًا. فإن المسيح يتمجد في قديسيه، قائلاً: ميراثي كامل (جذاب)[298].

القديس جيروم

كأن الله قد أخرج شعبه من العبودية، واهتم بهم في البرية، لا ليهبهم أرضًا تفيض عسلاً ولبنًا، وإنما يقدم لهم ذاته، فيصير هو نصيبهم، وهم نصيبه.

"وجده في أرض قفر،

وفي خلاء مستوحش خرب.

أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه" [10].

ماذا يقصد بقوله وجده في أرض قفر سوى أنها أرض مصر التي كانت مع كل خيراتها تحسب أرض قفر، لأن الشعب كان تحت السخرية، ساقطًا في العبودية تحت يد فرعون القاسية. وربما يقصد البرية التي خرجوا إليها من مصر في طريقهم إلى أرض كنعان. كانوا في برية موحشة خربة، لكن الله أحاط بهم كمظلة يحتمون تحتها. فقد صار كسحابة تظللهم نهارًا، وكعمود نور يقودهم ليلاً. وكما يقول إستفانوس رئيس الشمامسة عن موسى النبي: "هذا هو الذي كان في الكنيسة في البرية مع الملاك الذي كان يكلمه في البرية ورعاهم وعلمهم".

لقد سمح ببقائهم في البرية طوال هذه المدة لكي يعزلهم عن العالم فينسون كل ما تعلموه من رجاسات وثنية في مصر، ولكي يصير الرب نورًا لهم ومظلة تحميهم، يقدم لهم طعامًا من السماء وشرابًا من الصخرة، ولا يحتاجون إلى ملابس ولا أحذية ولا أدوية، فيكون الله وحده هو شبعهم.

يقول المرتل: "وهداهم طريقًا مستقيمًا ليذهبوا إلى مدينة سكن" (مز 107: 7). دائمًا يقودنا الرب في الطريق المستقيم حتى وإن بدا أنه تيه في البرية نسير كما في دائرة مغلقة. لقد علمنا كيف نهتم بالرعاية الهادئة الطويلة للأجيال القادمة كما رعى شعبه أربعين عامًا في البرية.

"وصانه كحدقة عينه" [10]. يمكننا القول أن الله هو حدقة عيننا، به نرى الأمور غير المنظورة، ونتمتع بمعونة أسراره الإلهية. أما أن نصير نحن كحدقة عينه فهذا أمر عجيب وفائق في تقدير الله للإنسان. لا يوجد حب أعظم من هذا أن الخالق يحسب الإنسان كحدقة عينه، يهتم به ويحفظه ويصونه كمن يريد أن يحفظ بصره. يا له من تنازل إلهي فائق!

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص بين عبارة معرفة موسى لله وجهًا لوجه وبين شوق العروس لقبلات عريسها بلا انقطاع حيث تتغنى: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 1: 2). فإنها إذ تلتقي النفس بالله وتتقبل منه قبلاته يزداد شوقها بالأكثر إليه لتطلب قبلات فمه بعد رؤيتها له. تطلب الله كما لو لم تكن قد رأته قط من قبل، ولا تتوقف هذه الرغبة قط من داخلها مع كل تمتع بالله يلتهبون برغبات متزايدة أكثر فأكثر[299].

"كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه،

ويأخذها ويحملها على مناكبه،

هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي" [11-12].

يحرك النسر عشه ثم يبسط جناحيه ويرف على جناحيه لكي يلزم صغاره على الاستعداد لترك العش والتمرن على الطيران. هكذا حرك الله كل ما هو حول شعبه بالضربات العشرة لكي يحركهم للرحيل من أرض مصر، والطيران في البرية لكي يدخلوا إلى أرض الموعد أو بالأحرى لكي يحملهم إليه. إذ يقول: "وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ" (خر 19: 4).

محبة النسور لصغارها ليس أن تحميها فحسب، بل أن تعلم صغارها وتدربهم على الطيران، فهي ليست محبة خاملة قاتلة لهم، لكنها محبة عاملة تسند الصغار وتهبهم إمكانيات جديدة. هكذا يحرك الله حياتنا لكي تنطلق في برية هذا العالم وسط الآلام كمن يطير إلى حضن الله، ونجد لنا فيه استقرارًا وراحة. إنه لا يحركنا نحو الحياة المترفة المدللة، لكن لكي يحمينا ويحوط حولنا وفي نفس الوقت نطير كما إلى السماء غير مبالين بضيقات العالم وتجاربه.

سبق أن تحدثنا عن جناحي الله أثناء دراستنا لسفر المزامير (مز 17: 8)، ورأينا أن جناحي الله هما المحبة والرحمة كقول القديس أغسطينوس[300]. كما يشيرا إلي جناحي الكاروبيم المظللين علي تابوت العهد حيث كان مجد الله يظهر هناك. ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أنه يليق بالمؤمن ليس فقط أن يحتمي تحت جناحي الله، وإنما أن يسترد جناحيه اللذين فقدهما بالخطية.

v     جناحا الله يمثلان قوة الله وبركاته وعدم فساده وما إلي ذلك.

كل هذه الخصائص الإلهية وُجدت في الإنسان حينما كان يشبه الله في كل شيء. لكن انحرافنا إلي الشر سلبنا أجنحتنا، ومن ثم أُعلنت نعمة الله لنا وأنارتنا. برفضنا الفساد والشهوات العالمية ينمو فينا جناحا القداسة والبر من جديد[301].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     يمكن تفسير هذه العبارة (تث 32: 11؛ مز 91: 1) بخصوص المخلص، إذ قدَّم لنا ظل (ملجأ) جناحيه علي الصليب... لقد ارتفعت يد الرب إلي السماء ليس طلبًا لمعونة، وإنما لكي تظللنا نحن خليقته البائسة[302].

القديس جيروم

وحده حرك شعبه للخلاص، أما الآلهة الأجنبية الوثنية فكانت عاجزة عن تقديم الخلاص للمصريين.

"اركبه على مرتفعات الأرض فأكل ثمار الصحراء،

وأرضعه عسلاً من حجر،

وزيتًا من صوَّان الصخر" [13].

قدم لشعبه المستحيلات، فأخرج لهم من الصحراء ثمارًا ومن الحجر عسلاً ومن صوان الصخر زيتًا [13]، أما أروع ما قدمه فهو دمه الثمين: "دم العنب شربته خمرًا" [14].

بقوله "اركبه مرتفعات الأرض" يقصد أنه خرج به إلى نصرات متوالية، لا يعرف السقوط والهزيمة، بل يعيش دومًا كما على القمم العالية. عِوض خبز المذلة الذي كانوا يأكلونه في مصر تحت العبودية جلسوا على قمم الجبال يأكلون ثمار الصحراء حيث الحرية والكرامة.

ولعلّه يقصد بمرتفعات الأرض أن الشعب انطلق إلى جبال كنعان، هناك الخضرة والثمار الفائضة، يتمتعون بالعسل الذي يقدمه النحل في وسط الحجارة، والزيت الذي من أشجار الزيتون التي تملأ المنطقة.

إنها صورة حيّة للمسيحي الذي ينطلق كما إلى عربون السماء فيحيا في المرتفعات، لا سلطان للخطية عليه، يأكل من ثمر الروح في وسط برية هذا العالم، ويتمتع بعذوبة المسيح كالعسل، ومن زيت الروح القدس الذي يسند النفس ويملأها صحة وسلامًا.

"وزبدة بقر ولبن غنم مع شحم خرافٍ وكباشٍ أولاد باشان وتيوس مع دسم للشعب (كلية) الحنطة،

ودم العنب شربته خمرًا" [14].

يقدم الله لنا الزبدة والشحم كطعام روحي للناضجين، واللبن كشرابٍ للأطفال الصغار. يقدم مع الطعام الروحي الشراب الروحي، الخمر، الذي يشير إلى الفرح. فهو يشبع احتياجات الكبار والصغار، ويهب الكل فرحًا داخليًا.

نحن نعلم أن الحيوانات لا النباتات لها الكلية kidney، أما هنا فيقول "من دسم كلية الحنطة"، وكأن الحنطة تقدم غذاء نقيًا دسمًا خالصًا من كل شوائب كما تفعل الكلية.

v     ما هو عنقود العنب المتدلي من الخشب إلا ذاك العنقود الذي تدلّى من الخشبة في الأيام الأخيرة، والذي صار دمه مشربًا مخلِّصًا لمن يؤمن به؟! "اشربوا دم العنب". إنه يقصد بهذا الآلام المخلصة[303].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

5. شعب جاحد:

بعد أن عرض موسى النبي في نشيده راية الله العجيبة من كل ناحية تحدث عن ارتداد إسرائيل عن الله.

"فسمن يشورون ورفس،

سمنت وغلظت واكتسبت شحمًا،

فرفض الإله الذي عمله وغبي عن صخرة خلاصه" [15].

"يشورون" [15] اسم شعري حبي لإسرائيل يترجم في السبعينية "المحبوب".

يشبِّه إسرائيل بفرسٍ أكل وشبع وسمن وغلظ وامتلأ شحمًا، فبدأ يرفس صاحبه الذي أوجده، وفي غباوة استهان بالله صخرة خلاصه. قدَّم الله لهم من خيراته فعِوض تقديم ذبيحة شكر له، يرفعون أقدامهم ليرفسوا الله نفسه. عندما يوبخهم الله خلال أنبيائه يثورون كبقرة جامحة وثورٍ غير معتاد أن يحمل النير. بكبريائهم لا يحتملون كلمة توبيخ حتى إن صدرت من الله خالقهم.

v     ليس الجسد ولا الطعام هما من الشيطان إنما الترف وحده هو هكذا[304].

v     هذه (الأحزان) تسحب الرحمة، وتقدم لنا الحنو، ومن الجانب الآخر فإن ذاك (الغنى) يرفعنا إلى كبرياء غبي ويقودنا إلى الكسل، ويدفع الإنسان إلى مظاهر كثيرة تجعله متشامخًا. لهذا يقول المرتل: "خير ليّ يا رب أنك أذللتني فأتعلم أحكامك" (مز 119: 71)... كما "الرب يعرف عندما يقضي أحكامًا" (مز 9: 16) [305].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     مديح الهراطقة هو الدهن الذي يمسحون به رؤوس البشر ويعدونهم بملكوت السماوات. هذا يجعل الرأس سمينة بالكبرياء. في الكتاب المقدس كل ما هو سمين يعبر عما هو غير مقبول، إذ قيل: "أكل يعقوب وشبع، سمن ورفس، سمن وغلظ وصار نهمًا" [15] [306].

القديس جيروم

أما أخطر علامة للثورة ضد الله فهي عبادة الأوثان:

"أغاروه بالأجانب، وأغاظوه بالأرجاس.

ذبحوا لأوثان ليست الله.

لآلهة لم يعرفوها أحداثٍ قد جاءت من قريب لم يرهبها آباؤكم.

الصخر الذي ولدك تركته،

ونسيت الله الذي أبدأك" [16-18].

عبادة الأوثان هي أخطر مثل للارتداد عن الله، هذه التي خلالها يسقطون في الآتي:

أولاً: عِوض الخضوع لله بروح الطاعة والحب، يغيظون الله بالعصيان والبغضة، مقدمين قلوبهم التي هي عرش الله كرسيًا للأوثان.

ثانيًا: عِوض القداسة يمارسون الرجاسات.

ثالثًا: يرفضون الله القريب منهم، أبوهم الذي ولدهم، ويرتبطون بالأجانب الغرباء عنهم، الذين لا يحملون لهم روح الأبوة والحنان. استبدلوا الأب بالغرباء.

رابعًا: قد يكون للأبناء شيء من العذر إن سقطوا في نفس العبادة الوثنية التي سقط فيها آباؤهم، أما أنهم يعبدون آلهة جديدة لم يسبق أن يتعبد لها آباؤهم فهم بلا عذر.

خامسًا: جاءت الآية [17] "ذبحوا للشياطين" في الترجمات السبعينية والفارسية والقبطية والفولجاتا.

6. تأديب الشعب الجاحد:

من أجل محبته لهم واهتمامه بخلاصهم يقوم الله بتأديب شعبه الجاحد بطرق كثيرة.

"فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته" [19].

هل يرذل الله بنيه وبناته؟ إذ التحف البنين والبنات بالخطية تطلع الرب القدوس إليهم فإذا بهم غير راغبين في الاتحاد معه، إذ لا يمكن أن تقوم الشركة بين القداسة والخطية. بهذا وضعوا أنفسهم في مركز المرذولين. وكما يقول المرتل: "وتنجسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم، فحمي غضب الرب على شعبه وكره ميراثه" (مز 106: 39-40).

"وقال: أحجب وجهي عنهم، وأنظر ماذا تكون آخرتهم.

إنهم جيل متقلب أولاد لا أمانة فيهم" [20].

بقوله يحجب وجهه عنهم يعني يُعلن عن عدم سروره بتصرفاتهم، فإذا أعطوا الرب القفا لا الوجه، يصرف وجهه عنهم فلا يتمتعون بمسرته. يعاتبهم الرب قائلاً: "قائلين للعود أنت أبي، وللحجر أنت ولدتني؛ لأنهم حوّلوا نحوي القفا لا الوجه، وفي وقت بليتهم يقولون: قم خلصنا" (إر 2: 27). مع أنهم أولاد لكنهم فقدوا البنوة لله بسبب عدم أمانتهم، أو عدم جديتهم وثباتهم في الله أبيهم. صاروا أُناسًا تافهين بلا هدف، لا يُعتمد عليهم ولا يوثق فيهم.

"هم أغاروني بما ليس إلهًا.

أغاظوني بأباطيلهم.

فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا،

بأمة غبية أغيظهم" [21].

كثيرًا ما يقول الله: "أغاروني". اقتبس الرسول هذا في (رو 10: 19) ويتكرر الفكر في (هو 1: 9) وهدف الغيرة والسخط هذا هو جذب القلوب لترجع إليه.

إذ تجاهلوا أبوته الحانية وارتبطوا بالرجاسات يسمح بتأديبهم مستخدمًا ذات الشعب الذي تعلموا منه الرجاسات: "أنا أُغيرهم بما ليس شعبًا، بأمة غبية أغيظهم" [21]. ما يظنه الإنسان سرّ فرحه ولذته يتحول إلى إذلاله. قوله "أغِيرهم" تحمل الحب الإلهي فهو يثيرهم للتوبة. يرى القديس بولس (رو 10: 19) في ذلك نبوة عن قبول الأمم الإيمان لكي يرجع اليهود في آخر الأزمنة ويقبلوا المسيا المخلص. فكما رفض الشعب الإسرائيلي الله وتعبد لمن هو ليس إلهًا، هكذا رفض الله إسرائيل ودعا الأمم شعبًا مقدسًا له لكي يغيرهم، لعلهم يرجعون إليه ويتركون جحودهم للمخلص فيؤمنوا به في آخر الأيام.

v     يليق بهم من جهته أن يكونوا قادرين على تمييز الكارزين ليس فقط من جهة عدم إيمانهم فحسب، وعدم كرازتهم بالسلام (إش 52: 7)، وعدم تبشيرهم بالأخبار السارة، ولا من جهة الكلمة التي غرست في كل منطقة في العالم، ولكن من جهة الحقيقة عينها أنهم صاروا أقل من الأمم الذين صاروا في كرامة أعظم[307].

القديس يوحنا الذهبي الفم

"إنه قد اشتعلت نار غضبي،

فتتقد إلى الهاوية السفلى،

وتأكل الأرض وغلتها،

وتحرق أسس الجبال" [22].

إن كانوا يعتمدون على كثرة العدد، فإنهم كما بنار يحترقون فيهبطون إلى الهاوية، أي إلى منتهى البؤس والشقاء. وإن كانوا يثقون في قوتهم فستحرق أسس جبالهم، إذ لا يوجد حاجز ما يعوق التأديب الإلهي الذي يحل بالأشرار المقاومين للحق. يرى البعض أن هذه العبارة تحمل فكرًا نبويًا عن حرق الهيكل في أيام تيطس الروماني، حيث لا يبقى من الأساسات حجر على حجر (مت 24).

"أجمع عليهم شرورًا وأنفد سهامي فيهم" [23].

تشبه أحكام الله الخاصة بالتأديب كالسهام التي تطير بسرعة فائقة لا يمكن مقاومتها (أي 6: 4؛ مز 21: 8، 12؛ 38: 2-3؛ 64: 7؛ 91: 5). إن كان مسيحنا هو السهم الإلهي الذي يصوبه نحو النفس فتصرخ: "إني مجروحة حبًا" (نش 2: 5)، فإن تأديبات الرب أيضًا كالسهام التي تصوب نحو النفس لكي تنسحق بالتوبة فتعود ليشفيها المخلص من كل جراحاتها.

أما التأديبات التي يذكرها هنا فهي:

أولاً: الجوع "إذ هم خاوون (أو يحترقون) من جوع" [24].

يُسمح للإنسان بالمجاعة من الخبز المادي لكي يدرك مجاعته الداخلية، فيطلب الخبز النازل من السماء. وكما يقول: عاموس: "هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أُرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب" (عا 8: 11).

ثانيًا: الوباء والأمراض "ومنهوكون من حُمى" [24]، أو "من حرارة حارقة"، حيث لا تقدر مياه العالم كلها أن تهب النفس برودة وهدوءً، إنما دموع التوبة وحدها تنزع هذه الحرارة التي أثارها الفساد، أو النار التي أشعلتها الخطية.

ثالثًا: الوباء "ودواء سام" أو "خراب مدمر"، فمن لا يبالي بما يصيب نفسه من وباء يسمح الله لجسده بالوباء ليُدرك ما حلّ بأعماقه.

رابعًا: هياج الخليقة ضده "أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حمة زواحف الأرض" [24]. تتعطش الحيوانات المفترسة نحو افتراس الإنسان وتبث الثعابين سمومها، فيحيط الخطر بالإنسان من كل جانب.

خامسًا: الحروب وما تسببه من دمار في كل شيء.

"من خارج السيف يثكل، ومن داخل الخدور الرعبة.

الفتى مع الفتاة، والرضيع مع الأشيب.

قلت أبددهم إلى الزوايا، من الناس ذكرهم.

لو لم أخف من إغاظة العدو من أن ينكر أضدادهم من أن يقولوا يدنا ارتفعت وليس الرب فعل كل هذه" [25-27].

إذ يستخدم الرب الأشرار لتأديب أولاده يعود ليرى هؤلاء الأشرار قد امتلأوا كبرياء حاسبين أن ما حدث ليس بسماحٍ إلهيٍ، وإنما بيدهم الرفيعة [27]، لذا يؤدبهم هم أيضًا بسبب إهانتهم لله.

أقسى التأديبات التي يسقط الإنسان فيها هو أن يسقط تحت يد أخيه الإنسان، خلال الحروب أو الأَسر أو العبودية. أمر السهام التي يلجأ إليها الله لتأديب الإنسان هو الإنسان نفسه، إذ يصير أحيانًا أكثر قسوة من الحيوانات المفترسة، بل وأكثر عنفًا من الموت، حيث يشتهي الإنسان الموت ليخلص من يد أخيه فلا يجده.

هكذا يضع الشرير نفسه في مرارة المُرّ، إذ يصير الله الرحوم مؤَدِبًا. يُعاني جسده من الجوع والعطش، ويصير كما في أتون نار ليس من إمكانية لإطفائه، ويحل الخراب بكيانه، وتهيج الطبيعة ضده، ويصير أخوه الإنسان سهمًا قاتلاً ومدمرًا له. هذا كله لكي يدرك الإنسان خطورة ما حل بأعماقه فيلجأ إلى الله مخلصه، فيرفعه ويسنده. ليحمل الإنسان مخافة الرب فلا يخاف من كل هذه الأمور، بل تتحول إلى بنيانه وتصير موضوع نصرته وإكليله.

لكن الله الذي لا يُريد هلاك الخاطئ بل أن يرجع ويحيا، لا يؤدب بلا حدود، ولا يغضب إلى الأبد، بل غضبه حب، وتأديباته للخلاص. لهذا يعود فيرحم شعبه الراجع إليه.

أولاً: يرجع عن غضبه لئلا يظن العدو الذي نال نصرة على الشعب فعل ذلك عن قوةٍ واقتدارٍ، وليس بسماح إلهي لتأديب شعبه [27].

ثانيًا: يليق بالشعب الساقط تحت التأديب أن يرجع إلى عقله، فيتمتع ببصيرة روحية، ليرى نهاية التأديب وغايته.

"إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم.

لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم" [28-29].

يليق بهم أن يتفطنوا لما يحدث معهم ويروا ما حل بهم من خراب، لا بسبب قوة العدو وحنكته العسكرية، وإنما بسبب رفض الشعب لله صخرته التي يحتمي فيها.

يدعو شعبه "أمة عديمة الرأي وبلا بصيرة"، فإنها إذ تركت الله فقدت الحكمة وأُصيبت بالعمى، ولم تدرك حقيقة الأمر.

بالمنطق البشري: "كيف يطرد واحد ألفًا، ويهزم اثنان ربوة؟" [30]. لا يمكن أن يتم ذلك "لولا أن صخرهم باعهم والرب سلمهم" [30]. ليس من مبررٍ آخر لدمارهم بهذه الصورة غير الطبيعية سوى تركهم لله حاميهم والمدافع عنهم، فسلمهم مؤقتًا للأعداء.

v     أمين هو ذاك الذي يقدر بأن ألفًا يطاردهم واحد، وعشرة آلاف يهربون أمـام اثنين،

لأن النصرة في المعركة لا تتحقق بالعدد بل بالبر[308].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يقارن بين الله الصخرة الحقيقية القادرة على حماية الشعب، وبين الآلهة الوثنية التي يحتمي فيها الأمم (ربما يقصد هنا الرومان) كصخور لهم، فيقول: "ليس كصخرنا صخرهم، ولو كان أعداؤنا القضاة" [31]. فإن الوثنيين أنفسهم إن أقاموا أنفسهم قضاة لحكموا بأن الله إله إسرائيل الذي لا يُقارن بصخرة الآلهة الوثنية.

إن كان قد سمح الله للوثنيين بالنصرة لتأديب شعبه، ذلك لأنهم صاروا أشرارًا؛ "لأن من جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة عنبهم عنب سم، ولهم عناقيد مرارة. خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل" [32-33]. صارت حياتهم حياة سدوم، وأعمالهم كأعمال عمورة، تحولوا إلى شعب يحمل في داخله السم القاتل.

يرى البعض أن الكروم هنا تشير إلى تعاليمهم التي نقلوها عن الوثنيين فصارت لهما سمًا قاتلاً.

ثالثًا: الله المحب لا يتسرع في التأديب، بل يُطيل أناته جدًا، فإن أصر شعبه على الشر يقدم لهم مما وضعوه في المخازن وختموا عليه بعنادهم، فيسقطوا تحت التأديبات المُرّة.

"أليس ذلك مكنوزًا عندي مختومًا عليه في خزائني؟!

لي النقمة والجزاء.

في وقت تزل أقدامهم.

إن يوم هلاكهم قريب والمهيآت لهم مسرعة" [34-35].

يرى البعض أنه يتحدث عن شعب إسرائيل في عبادته للأوثان، فيطيل أناته حتى يحل وقت التأديب. ويرى آخرون أن ذلك يخصهم بسبب ما فعلوه بالأنبياء حيث قتلوهم واضطهدوهم عبر العصور. ويرى فريق ثالث أن هذا النص ينطبق أيضًا على الكنعانيين والأمم الوثنية، فإن الله لم يُسرع بتأديبهم، إنما أطال أناته عليهم جدًا، وأخيرًا بددهم أمام شعبه.

رابعًا: ما يحل بالشعب من هزيمة ليس بسبب قوة العدو، لكن كحكم الله إلههم الذي يدينهم لكي يردهم إليه بالتوبة. يمسك بمشرط الطبيب ليجرح فيشفي أمراضهم.

"لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يُشفق.

حين يرى أن اليد قد مضت ولم يبقً محجوز ولا مطلق.

يقول: أين آلهتهم الصخرة التي التجأوا إليها؟!

التي كانت تأكل شحم ذبائحهم، وتشرب خمر سكائبهم.

لتقم وتساعدكم وتكن عليكم حماية!

انظروا الآن. أنا أنا هو وليس إله معي.

أنا أُميت وأُحيي. سحقت وإني أشفي، وليس من يدي مخلص.

إني أرفع إلى السماء يدي وأقول: حيّ أنا إلى الأبد.

إذا سننت سيفي البارق وأمسكت القضاء يدي أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضي.

أسكر سهامي بدمٍ، ويأكل سيفي لحمًا.

بدم القتلى والسبايا ومن رؤوس قواد العدو.

تهللوا أيها الأمم شعبه،

لأنه ينتقم بدم عبيده،

ويرد نقمة على أضداده،

ويصفح عن أرضه عن شعبه" [36-43].

إنه يدين شعبه وعلى عبيده يشفق، بمعنى أنه يحكم عليهم بالتأديب لكن خلال مراحمه الإلهية. أو لعله إذ رجعوا إليه يحكم لصالحهم فيقف ديّانًا لحسابهم ضد الأمم التي أذلتهم والتي تفتخر بآلهتها كصخرة يختفون فيها.

الله يسمح بجرح النفس بتأديبات لأجل شفائها من أمراضها وفسادها، كما يجرحها أيضًا بجراحات الحب الإلهي، فتترنم قائلة: "إني مجروحة حبًا" (نش 2: 5). الذي يجرحها هو السيد المسيح، الحب الحق ، كلمة الله السيف ذو الحدين، يجرحها بسهام المعرفة الروحية السماوية فتئن ليلاً ونهارًا مشتاقة إلى معرفة أعظم حين ترى الرب وجهًا لوجه!

v     يعلمنا الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8)، فقد صوّب ابنه الوحيد "السهم المختار" (إش 49: 2) نحو المختارين، غارسًا قمته المثلثة في روح الحياة.

رأس السهم هو الإيمان، الذي يربط ضارب السهم بالمضروبين به. وكأن النفس ترتفع بمصاعد إلهية، فترى في داخلها سهم الحب الحلو يجرحها، متجملة بالجروح...

إنه جرح حسن وألم عذب، به تخترق "الحياة" النفس، إذ بواسطة دموع "السهم" تفتح النفس الباب الذي هو مدخلها[309].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     إن التهب أحد ما في أي وقت بالحب الصادق لكلمة الله، إن تقبل أحد الجراحات الحلوة لهذا السهم المختار، كما يسميه النبي، إن كان قد جُرح أحد برمح معرفته المستحقة كل حب حتى أنه يحن ويشتاق إليه ليلاً ونهارًا، فلا يقدر أن يتحدث إلا عنه، ولا ينصت إلا إليه، ولا يفكر إلا فيه، ولا يميل إلى أية رغبة أو يترجى سواه. متى صار الأمر هكذا تقول النفس بحق: "إني مجروحة حبًا". إنها تتقبل جرحها من ذاك الذي قيل عنه: "جعلني سهمًا مختارًا، وفي جعبته يخفيني" (إش 49: 2).

يليق بالله أن يضرب نفوسنا بجراحات كهذه، يجرحها بمثل هذه السهام والرماح، ويضربها بمثل هذه الجراحات الشافية...

ما دام الله "محبة"، فإنهم يقولون عن أنفسهم: "إني مجروحة حبًا". حقًا إنها دراما الحب، إذ تقول النفس: "إني تقبلت جراحات الحب".

النفس التي تلتهب بالشوق نحو حكمة الله، أي التي تقدر أن تنظر جمال حكمته، تقول بنفس الطريقة: "إني مجروحة بالحكمة".

والنفس التي تتأمل سمو قدرته، وتدهش بقوة كلمته، يمكنها القول: "إني مجروحة

بالقدرة"...

والنفس التي تلتهب بحب عدالة الله وتتأمل عدل تدابير عنايته تقول بحق: "إني مجروحة بالعدل".

والنفس التي تتطلع إلى عظمة صلاحه وحنو محبته ينطق أيضًا بنفس الطريقة.

أما الجرح الذي يشمل هذه الأمور جميعها فهو جرح الحب الذي به تعلن العروس: "إني مجروحة حبًا"[310].

العلامة أوريجانوس

v     ما كان يمكن لشاول المضطهد أن يموت ما لم يُجرح من السماء (أع 9: 4)، وما كان يمكن للمبشر أن يقوم إلا بالحياة التي أعطيت له بدم (المسيح) [311].

v     شاول هُدم، وبولس المبشر بُني...

قيل لإرميا: "قد وكلتك... لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" (إر 1: 10). لهذا فإن هذا هو صوت الرب: "أنا أجرح وأنا أشفي" [39]. إنه يضرب فساد العمل، ويشفي ألم الجرح. هذا ما يفعله الأطباء حينما يقطعون ويجرحون ويشفون. يمسكون بالسلاح (المشرط) لكي يضربوا، يحملوا حديدًا ويأتوا لكي يشفوا[312].

القديس أغسطينوس

v     ليت غير الأصحاء يجرحون، فإنهم إذ يجرحون كما يليق يصيرون أصحاء[313].

v     ذات الرب، طبيبنا الإلهي، يستخدم أدواته هو وخدامه بواسطتكم... وذلك حسب قوله: "أنا أجرح وأنا أشفي" [39] [314].

القديس أغسطينوس

يؤكد الله حبه للإنسان، وأنه إن قاوم إنما يُقاوم عدو الخير، فاضحًا الآلهة الوثنية التي تأكل شحم الذبائح وتشرب خمر السكائب، لكنها عاجزة تمامًا عن إنقاذ من يتعبد لها. يقول لهم: "امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها لتخلصكم هي في زمان ضيقكم" (قض 10: 14). "أين آلهتك التي صنعت لنفسك؟! فيقوموا إن كانوا يخلصونك في وقت بليتك" (إر 2: 28). الله يود أن ترجع عروسه إليه وتتحد معه ولا تبقى بعد في زناها. تقول "أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذ كان خير لي من الآن" (هو 2: 7).

يعيِّر العدو شعب الله قائلاً: "لا يخدعك إلهك الذي أنت متوكل عليه" (إش 37: 10)، "من هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟" (دا 3: 15). ويُعلن الله عن حضرته وسط شعبه كسرّ غلبته ونصرته، مؤكدًا: "أنا أنا هو وليس إله معي... حي أنا إلى الأبد". إنه الإله الوحيد صاحب السلطان المطلق، الذي لا ينافسه آخر، ولا يحتاج إلى آخر، من يقتنيه يقتني النصرة. إنه يميت لكن ليس إلى الأبد، بل يُحيي. يسحق ويشفي، وكما يقول إرميا النبي: "من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول... فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه" (مرا 3: 22-32). ويقول هوشع النبي: "هلم نرجع إلى الرب، لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا" (هو 6: 1).

قارن البابا أثناسيوس في حواره مع الأريوسيين، بين الآية [39] وما ورد في (عب 13: 8) أن يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد، مؤكدًا لاهوت السيد المسيح[315].

يقسم الله بذاته، إذ يرفع يديه إلى السماء ويقول "حيّ أنا إلى الأبد" [40]، ليعلن أنه سيرد للمقاومين شرهم عليهم.

يختم موسى النبي نشيده بالدعوة إلى الفرح والتهليل في الرب [43]، مقدمًا ثلاثة أسباب للفرح.

·        دعوة الكنيسة القادمة من الأمم لتمارس فرحها في الرب، حيث تصير الأمم شعبه المتهلل به.

·        يهب الله كنيسته غلبة ونصرة على العدو.

·        يعلن الرب مراحمه، ربما يقصد عودة اليهود إلى الإيمان بقبولهم السيد المسيح، فيتهللوا مع كنيسة الأمم إذ يصير الكل كنيسة واحدة متهللة.

7. دعوة للطاعة:

بعد أن تغنى موسى بنشيده الختامي الذي مع ما حمله من مرارة بسبب عصيان الشعب وارتداده لكنه خُتم بالفرح، ودعوة الكثيرين إلى الرب. الآن يقدم لهم دعوة للطاعة لجميع كلمات هذه التوراة.

"فأتى موسى ونطق بجميع كلمات هذا النشيد في مسامع الشعب هو ويشوع بن نون.

ولما فرغ موسى من مخاطبة جميع إسرائيل بكل هذه الكلمات قال لهم:

وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم لكي توصوا أولادكم أن

يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة.

لأنها ليست أمرًا باطلاً عليكم بل هي حياتكم.

وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها" [44-47].

أتى موسى [44] غالبًا من خيمة الاجتماع حيث وهبه الله أن ينطق بهذا النشيد النبوي، والذي تلاه وسبح به أمام الشعب كله. الآن يسألهم أن يتقبلوا الكلمات الإلهية بكونها حياتهم، وأن يقدموها لأبنائهم كي يختبروا الحياة الحقة خاصة في أرض الموعد.

يشوع [44] كان اسمه أولاً هوشع ومعناه "خلاص"، فغيّر موسى اسمه إلى يشوع الذي يعني "الله خلاص" (عد 13: 8، 16) ويظهر الاسم الأول في الأصل العبري هنا، وقد يرجع ذلك إلى أن يشوع أراد ذلك.

ينادي موسى الشعب قلبيًا للوداع فإن يوم موسى قد انتهى، أما طول يومهم هم فيتوقف على طاعتهم. يسوع وحده يقدر أن يقول "أنا معكم كل الأيام" (مت 28: 20).

8. دعوة موسى للصعود على جبل نبو:

"وكلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلاً:

اصعد إلى جبل عباريم هذا جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا،

وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكًا.

ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك، كما مات هرون أخوك في جبل هور

وضُم إلى قومه.

لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين، إذ لم تقدساني

في وسط بني إسرائيل.

فانك تنظر الأرض من قبالتها، ولكنك لا تدخل إلى هناك إلى الأرض التي أنا أعطيها لبني

إسرائيل" [48-52].

دعاه الرب أن يصعد على جبل نبو ليرى أرض الموعد من هناك، دون أن يدخلها هو وأخوه هرون بسبب تصرفهما عند ماء مريبة في قادش (32: 47؛ عد 27: 14) إذ لم يقدسا الله في وسط الشعب، ربما لأن موسى وهرون لم يمجدا اسم الله قبل ضرب الصخرة بواسطة عصا موسى (عد 20: 10). لقد غفر له الله ما قد صنعه، لكنه حتى اللحظات الأخيرة يذكره بضعفه ليبقى ثابتًا في تواضعه، متذكرًا ضعفاته.

قبل موسى التأديب قبل موته، لكنه دخل أرض الموعد عند تجلي السيد المسيح على

جبل تابور. لقد نظر الأرض أيضًا قبل موته وتهللت نفسه إذ حسب ما يناله شعبه كأنما ناله هو.

تمم موسى النبي رسالته، لهذا دعاه الرب أن يصعد على الجبل ويموت هناك وينضم إلى قومه، كما سبق فمات أخوه هرون.

العظيم موسى الذي سبق أن اختفى من فرعون وانسحب إلى مديان خوفًا منه عندما صدر له الأمر "ارجع إلى مصر" (راجع خر 3: 10) لم يخشَ ذلك. مرة أخرى عندما أُمر أن يصعد على جبل عباريم وأن يموت، لم يتأخر في جُبن، وإنما بفرح انطلق إلى هناك[316].

البابا أثناسيوس الرسولي

 


 

من وحي تثنية 32

لأشهد لك بتسبحتي الدائمة

v     عبّر موسى عن فرحه بك بتسابيح قلبه التي لا تنقطع.

شهد لك وسط شعبك حتى في تسابيحه لك.

عظيم أنت في حبك.

أنت صخرة الدهور فيك تحتمي نفسي.

أنت كامل في صنيعك لا تعرف إلا الصلاح!

عنايتك بي تفوق كل عقل!

v     كل فساد فيّ إنما هو من عمل يديّ!

فإني أشرب من ذات الكأس التي أمزجها!

أنت صالح ولا يصيبك ضرر،

كل مقاومة مني وجحود يرتد عليّ

أنقذني من فسادي وتذمري يا كلي الصلاح.

v     أعمالك معي عبر التاريخ تفوق كل عقلٍ.

قدمت لي كل شيء.

وهبتني نصيبًا من الأرض كي لا أنازع اخوتي.

وأعطيتني ذاتك نصيبًا لكي أهبك حياتي نصيبًا لك!

أنا محتاج إليك يا مصدر الغنى،

أما أنت فمن حبك الفائق تحسبني نصيبك المفرح!

v     تحفظني كحدقة عينك يا أيها العجيب في حبك.

تحرك عشي بالضيقات وترف كالنسر حولي،

كي أترك عش العالم وأطير معك في السماء.

أتحرك فتحملني إليك يا مجدي!

تحرك عشي لكي لا أبقى في طفولة خاملة.

وفي انطلاقي تعولني فلا اعتاز إلى شيء.

v     قدمت لي بفيض فأكلت وشبعت وسمنت.

عوض تقديم ذبيحة شكر لك رفست في غباوة.

انشغل قلبي بالخيرات وجحد واهبها.

من ينزع عني جحودي وغباوة قلبي؟!

لتمتد يدك للتأديب،

فإني لن ائتمن يدًا غيرها.

هي تجرح وتشفي، تميت وتحيي!

لتصوب سهام تأديبك نحوي،

فإنها تجرح قلبي لا لتقتله بل لتلهبه حبًا!

تجرح الجسد بضربات تبدو قاسية،

لكي أدرك بنعمتك جراحات نفسي المهلكة.

خطيتي تفقدني حتى البركات الجسدية،

تثور ضدي الطبيعة، ويتحول إلى سهم قاتل لي.

من ينقذني من خطيتي إلا مراحمك الإلهية؟

v     لتتهلل نفسي مع العظيم في الأنبياء موسى:

وانتظر صعودي كما على جبل نبو فأتمتع بانطلاق نفسي إليك.

<<

 

 

 


 

الأصحاح الثالث والثلاثون

مباركة الشعب

بعد ترنم موسى النبي بالنشيد ليختم حياته متهللاً بالرغم من إدراكه ما سيحل بالشعب حيث يجحدون الإيمان ويسقطون تحت التأديب الإلهي قدَّم البركة للشعب ككل، كما قدمها لكل سبط. لم نسمع عن زوجة موسى ولا عن أولاده أو بناته حسب الجسد، ولم يوصِ أحدًا منهم بشيء، ولا اهتم بتدبير أمورهم المادية، لكنه حسب الشعب كله أولاده، فأبى أن ينطلق من هذا العالم دون أن يباركهم.

هذا وقد بدأ البركة بالشعب ككل وختمها بهم أيضًا كجماعة واحدة مقدسة. فمع اهتمامه بكل سبطٍ على حده، لكن لن يتمتع سبط ما بالبركة ما لم يتحد مع اخوته بوحدانية الروح والفكر ويصير الكل شعبًا واحدًا لله الواحد.

بعد أن تحدث موسى النبي كأب وقائد في صراحة ووضوح أمام كل الشعب خلال النشيد النبوي الذي كشف عما سيحل بهم بسبب ارتدادهم عن الإيمان لم يرد أن يكون هذا النشيد هذا خاتمة أحاديثه. فإنه وإن امتلأ حزنًا على ما سيحل بشعبه الذي كرّس كل قلبه وإمكانياته في الرب لبنيانه لكنه قدَّم بركته لكل سبط من الأسباط. لم يرد أن يظهر أنه راحل في العالم مملوء غضبًا، وإنما يخرج مستريحًا مشتهيًا أن يكون شعبه مباركًا في الرب.

قبل مغادرة موسى شعبه قدَّم لهم وصيته وباركهم في أسلوب شعري كما بارك يعقوب أولاده (تك 49: 2-27). البركة التي نطق بها يعقوب استعرضت أعمال أولاده التي منها ما هو مخجل. أما البركة هنا فتستعرض تصرفات النعمة الإلهية من حيث ارتباطهم بعهدٍ مع الله. لقد شكر إله الخلاص والعهد [2-5]، وذكر الأسباط بأسمائهم مقدمًا بركة نبوية لكل سبط [6-25]، ثم ختم حديثه بمديح لرب إسرائيل [26-28]، ووعد بأن مختاري الرب ينالون نصرة على أعدائهم [29].

يتضح من العدد الأول أن البركة كُتبت بعد موت موسى، وربما كتب موسى بنفسه الجزء الذي سبق البركة، أو كتبه شخص سمع موسى يتكلم. هذه البركة حديث نبوي ممزوج بالصلاة والشكر (لو 2: 28).

حُذف اسم شمعون، ربما لحفظ عدد الأسباط 12. ولقد استوعب سبط يهوذا سبط

شمعون فيما بعد. حملت البركات الموجهة إلى الأسباط (عدا شمعون) كلمات معزية، تعلن أفكار الله ونعمته التي يسبغها على شعبه.

1. مباركة الشعب                              [1].

2. مجد الله وسط شعبه                        [2-5].

3. بركة رأوبين                                [6].

4. بركة يهوذا                                 [7].

5. بركة لاوي                                 [8-11].

6. بركة بنيامين                               [12].

7. بركة يوسف (إفرايم ومنسى)               [13-17].

8. بركة زبولون ويسّاكر                      [18-19].

9. بركة جاد                                   [20-21].

10. بركة دان                                 [22].

11. بركة نفتالي                               [23].

12. بركة أشير                                [24-25].

13. بركة جماعية                                      [26-29].

1. مباركة الشعب:

"وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته" [1].

تعتبر هذه الآية عنوانًا للأصحاح كله. تكشف عن حب موسى الأبوي واشتياقه نحو نموهم وخلاصهم، مع أنه يموت دون أن يشاركهم فيما ينالونه.

"موسى رجل الله" [1] هذا يظهر أن موسى ليس الكاتب نفسه. ولقد أطلق كالب هذا اللقب على موسى (يش 14: 6) ثم في عنوان مزمور 90 فقط.

2. مجد الله وسط شعبه:

أظهر موسى النبي الأساس الذي عليه يتبارك اخوته ألا وهو إعلان مجد الله من أجلهم في مناطق متنوعة: في سيناء وفي سعير وفي جبل فاران وفي ربوات القدس.

"فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير،

وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس.

وعن يمينه نار شريعة لهم" [2].

يبدأ البركة برؤيته للرب القادم من سيناء، كالشمس عند إشراقها بمجدٍ. يرى الله الذي يسلم شعبه شريعته أو وصيته، لكي يسلكوا بالقانون السماوي، فيتمتعوا بطبيعة ملائكية ويكون لهم شركة في الحياة السماوية المطوّبة. لقد وهبهم الشريعة النارية ليجعل منهم أشبه بكائنات نارية تتشبه بالله النار الآكلة.

جاء في ترجوم أورشليم أن الله نزل ليقدم الشريعة، فقدمها على جبل سعير للأدوميين لكنهم رفضوها، لأنه جاء فيها وصية: "لا تقتل". ثم قدمها على جبل فاران للإسماعيليين فرفضوها، لأنه جاء فيها وصية: "لا تسرق". وإذ جاء إلى جبل سيناء لإسرائيل قالوا: "كل ما يقوله الرب نفعل".

لقد تنازل الله ليقدم شريعته، ويتحدث مع شعبه في مجد وبهاء، إذ قيل: "أشرق" و"تلألأ". يرى البعض أيضًا الله إذ تنازل وقدم شريعته النارية لموسى على جبل سيناء أعلن بهاء مجده، فأشرق على جبل سعير وتلألأ على جبل فاران، وهما جبلان بعيدان عن بعضهما البعض. وكأن حلول مجد الله على جبل سيناء قد أبرق على كل المنطقة حتى صارت الجبال البعيدة مشرقة ومتلألئة.

ويرى آخرون أن مجد الله نزل على جبل سيناء حيث استلم موسى النبي الشريعة، وهذا له الأولوية بكونه أهم حدث في تاريخ العهد القديم. كما أعلن مجده على جبل سعير، كما جاء في سفر القضاة: "يا رب بخروجك من سعير لصعودك من صحراء أدوم الأرض ارتعدت، السماوات أيضًا قطرت، كذلك السحب قطرت ماءً. تزلزلت الجبال من وجه الرب وسيناء هذا من وجه الرب إله إسرائيل" (قض 5: 4). كما ظهر مجد الرب في فاران حيث قيل: "ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل" (عد 14: 10).

أتى من ربوات القدس [2] تترجم السبعينية كلمة "القدس" إلى "ملائكة"، وهذا غالبًا هو المعنى الحقيقي (أع 7: 53). اختلف البعض في تفسير "ربوات القدس"، هل هي منطقة رابعة أعلن فيها الرب مجده، أم تشير إلى مجيء الرب في كل مرة هذا الذي يحوط به ربوات الملائكة القديسين، كما جاء في رسالة يهوذا عن مجيئه (يه 14). وقيل في المزامير: "مركبات الله ربوات ألوف مكررة" (مز 68: 17).

ظهر الله لشعبه ليقدم لهم "الشريعة النارية" [2]، لأنها قدمت في وسط النار (تث 4: 33)، وهي تعمل كالنار تأكل الشر، تبغي تنقية النفس من الفساد. وقد حلّ الروح القدس على كنيسة العهد الجديد في شكل ألسنة نارية (أع 2) ليقدموا الإنجيل الناري، ويحولوا النفوس إلى نيران حب متقدة نحو الله والناس.

أما قوله "عن يمينه نار شريعة لهم"، فإن اليمين تشير إلى القوة كما إلى البركة، فبالشريعة نتمتع بقوة الله وننال يمين البركة.

"فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك،

وهم جالسون عند قدميك يتقبلون من أقوالك" [3].

تشير اليد إلى الرعاية الإلهية، ففي سفر الرؤيا تظهر الكنائس السبع في يد الرب يسوع (رؤ 1: 16). يمينه متسعة تضم الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور، وكما يقول عن خرافه: "لا يخطفها أحد من يدي" (يو 10: 28). أما عن جلوس شعبه عند قدميه يتقبلون أقواله فيُشير إلى بقاء الشعب عند سفح الجبل ينتظر موسى النبي الذي ارتفع إلى القمة ليلتقي مع الله ويستلم الشريعة ويسلمها للشعب. بقاؤهم عند سفح الجبل حيث مجد الله العجيب، والجبل يدخن، أشبه بجلوس التلاميذ عند قدمي معلمهم يسمعون له بروح التواضع والرغبة في التعلم.

ظهور الله المجيد (33: 2-5) بكونه الملك الحقيقي لكل الأسباط؛ عن يمينه دستوره شريعة نارية، قانونه "حبه لشعبه"، يحمل شعبه المقدس في يده، فلا يُحرم أحد من رعايته. هم يشتهون الجلوس عند قدميه أما هو فيحملهم في أحضانه بالحب. هذا والجلوس عند القدمين إشارة إلى الرغبة في التعلم والتلمذة. لقد أحب شعبه وأراد أن يقدم لهم شريعته، فلاق بهم أن يجلسوا عند قدميه بتواضع ليتمتعوا بها كميراث لهم، إذ يقول:

"بناموسٍ أوصانا موسى ميراثًا لجماعة يعقوب.

وكان في يشرون ملكًا حين اجتمع رؤساء الشعب أسباط إسرائيل معًا" [4-5].

ناموس الرب هو ميراثنا وكنزنا وغنانا. وكما يقول المرتل: "ورثت شهاداتك إلى الدهر، لأنها هي بهجة قلبي" (مز 119: 111).

إذ اجتمع رؤساء الشعب كان موسى في وسطهم كملك أو قائد عام لكل إسرائيل، يقدم لهم شريعة ملك الملوك، لكن للأسف فيما بعد رفضوه. يقول الرب: "قلتم لي لا، بل يملك علينا ملك والرب إلهكم ملككم" (1 صم 12: 12).

"كان في يشورون ملكًا" [5] قد تشير إلى يهوه (قارن 1 صم 12: 12) أو الملك المسيا المذكور في عدد 3، أو عن موسى.

3. بركة رأوبين:

"ليحيي رأوبين ولا يمت،

ولا يكن رجاله قليلين" [6].

ربما تضائل عدد هذا السبط بسبب خطية داثان وأبيرام (عد 16: 1، 30). لقد اشترك من أبناء رأوبين داثان وأبيرام مع قورح في مقاومة موسى (عد 16: 1-3)، لكن قلب موسى المتسع لا يحمل الذكريات المُرّة بل يطلب البركة للسبط. رأوبين هو الابن البكر بين أولاد يعقوب، فإنه وإن كان قد فقد كرامة البكورية لكن موسى النبي بدأ به حتى لا تتحطم نفسيته. لقد تحدد ميراثه في شرق الأردن، لكن كان لزامًا على رجاله أن يعبروا الأردن مع بقية الأسباط ويحاربوا في المقدمة (عد 32: 27) حتى ترث بقية الأسباط. لهذا طلب لهم موسى أن يحيوا ولا يموتوا، وأن يزداد عددهم وإن كانوا لا يتمتعون بكرامة البكورية. إذ كان ميراثه على الحدود لذلك أكد له أن الله يحميه ويسند رجاله فلا تبتلعهم الأمم المجاورة لهم (عد 32: 27).

هذه هي بداية كل بركة أن نتمتع مع رأوبين بأن نحيا "الحياة الأبدية" ولا نموت "الموت الثاني"، فلا تكون إمكانياتنا وأمجادنا قليلة، بل ننعم بالمجد الأبدي ونُحسب في عيني السماء جيشًا عظيمًا جدًا جدًا (حز 37: 10).

4. بركة يهوذا:

"وهذه عن يهوذا، قال:

اسمع يا رب صوت يهوذا، وآت به إلى قومه.

بيديه يقاتل لنفسه، فكن عونًا على أضداده" [7].

جاءت بركة يهوذا سابقة لبركة لاوي، لأنه في العهد القديم كرامة الملك (سبط يهوذا الملوكي) أعظم من كرامة الكهنوت، وإن كان الاثنان يتحدان معًا في شخص السيد المسيح بكونه الملك والكاهن. يهوذا يسبق لاوي، لأن كهنوت العهد الجديد المرتبط بكهنوت المسيح أعظم من الكهنوت اللاوي.

أدرك يهوذا ضعفه وهو السبط الملوكي لهذا يلجأ إلى الله كسندٍ له.

بركة يهوذا موجهة إلى داود رمز السيد المسيح؛ يبرز داود كرجل صلاة يسمع الله صوته، وكرجل عمل يجاهد بيديه ليغلب العدو. مسيحنا يشفع بدمه ويحب عمليًا بالصليب. ما هو صوت يهوذا الذي يسمع له الرب من أجل قومه، إلا صوت السيد المسيح، الوسيط بين الله والناس، من أجل غفران خطايا شعبه. لقد نزل إلى المعركة ليقاتل بنفسه نيابة عن البشرية، وفي تواضع لجأ إلى الآب مع أنه واحد معه، لكي فيه نتمتع بالعون الإلهي. مع رأوبين نطلب أن نتمتع بالحياة الأبدية، فلا يكون للموت سلطان علينا. ومع يهوذا نتمتع بقبولنا لدى الآب فنحسب أبناء صلاة، مقبولين لديه، حاملين قوته في جهادنا الروحي ضد العدو.

5. بركة لاوي:

"وللاوي قال: تُميمك وأوريمك لرجلك الصديق الذي جربته في مسّة،

وخاصمته عند ماء مريبة.

الذي قال عن أبيه وأمه لم أرهما،

وباخوته لم يعترف،

وأولاده لم يعرف،

بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك.

يعلمون يعقوب أحكامك، وإسرائيل ناموسك.

يضعون بخورًا في أنفك، ومحرقاتك على مذبحك.

بارك يا رب قوته، وارتضِ بعمل يديه.

حطّم متون مقاوميه ومبغضيه حتى لا يقاوموا" [8-11].

يتحدث موسى النبي عن السبط الذي ينتمي إليه، لكنه لم يشر إلى ذلك، ولا إلى دوره، بل أشار إلى دور هرون أخيه رئيس الكهنة ومن يحل محله. إنه حامل الأوريم والتميم على صدره (خر 28: 30) لكي يتعرف على إرادة الله، ويقدمها للشعب. الأوريم يشير إلى الاستنارة أو الرؤيا أو الحكمة، والتميم إلى الكمال أو التكامل. مسيحنا هو رئيس الكهنة الذي فيه ننعم بالحياة المتكاملة والاستنارة أبديًا.

"تميمك وأوريمك" [8] تترجمها السبعينية "نورك وحقك" (مز 43: 3).

دعاه الصديق أو القديس، الممسوح رئيس كهنة الله، رمز للسيد المسيح القدوس وحده. مع ما تمتع به من حياة مقدسة لكنه في ضعف سقط عند ماء مريبة مع موسى النبي وحُرم الاثنان من دخول أرض الموعد. لهذا صارت الحاجة إلى رئيس كهنة الخيرات العتيدة الذي وحده بلا ضعف، ربنا يسوع المسيح.

لقد كرس هرون نفسه للرب، فصار كمن لا يرى أباه وأمه ولا يحابي اخوته حسب الجسد، ولا أولاده، إذ صار أبًا للشعب كله بلا تمييز. خدمة اللاويين ألزمتهم بالاهتمام بالشعب أكثر من عائلاتهم، أما مسيحنا فأخلى ذاته لأجلنا. هم قدموا بخورًا ومحرقات وذبائح، أما السيد المسيح فهو الرائحة الذكية لدى الآب يشفع فينا، وهو المحرقة والذبيحة القادرة على الخلاص.

غاية هذا السبط: التكريس لله، وحفظ الوصية، وصيانة العهد، والتعليم، وتقديم العبادة النقية. لذلك قيل: "كان عهدي معه (لاوي) للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى، فإتقاني ومن اسمي ارتاع هو" (ملا 2: 5).

كانت البركة بالنسبة للاوي هامة للغاية، إذ لم يكن له نصيب في الأرض، بل الرب هو نصيبه، يُشبع كل احتياجاته. لذلك طلب موسى من الله أن يبارك في قوته (إمكانياته).

6. بركة بنيامين:

"ولبنيامين قال: حبيب الرب يسكن لديه آمنًا.

يستره طول النهار، وبين منكبيه يسكن" [12].

قد يكون معنى هذا أن الله حمل بنيامين على كتفيه كما يفعل الراعي. أو أن الهيكل سيكون على حدود أرض هذا السبط، كنبوّة. جاء بنيامين بعد لاوي مباشرة لأن الهيكل الذي يعمل فيه الكهنة على حدود نصيب بنيامين. وقد جاء بنيامين قبل يوسف (إفرايم ومنسى)، لأن بنيامين ملاصق لبيت داود والهيكل وأكثر كرامة من السامرة التي في نصيب إفرايم. كانت أورشليم من نصيب هذا السبط (يش 18: 28). ومع أن صهيون مدينة داود تابعة لسبط يهوذا، إلا أن جبل المريّا الذي بُنيَ عليه الهيكل كان من نصيب بنيامين. لهذا فإن الهيكل فوق الجبل كالرأس بين كتفين أي يسكن الرب بهيكله بين كتفي بنيامين. إقامة الهيكل على جبل المريّا التابع لبنيامين يشير إلى أن بنيامين يعيش في ظل الهيكل، تحت حماية هيكل الرب نفسه. وكما يقول المرتل: "المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون الذي لا يتزعزع بل يسكن إلى الدهر، أورشليم الجبال حولها والرب حول شعبه من الآن وإلى الدهر" (مز 125: 1-2).

"بنيامين" معناها "ابن اليمين". وكأنه إذ يطلب الإنسان أن يحيا إلى الأبد ولا يخضع للموت الثاني (سبط رأوبين)، وأن يمارس الحياة الملوكية خلال الصلاة الدائمة مع الجهاد في المعركة الروحية (سبط يهوذا)، مكرسًا حياته للطاعة للوصية والعبادة لله (سبط لاوي)، يحق له أن يكون ابنًا لليمين، يُحسب للرب، يثبت فيه، ويستتر تحت ظلاله، ويستقر بين منكبيه (سبط بنيامين). دعي بنيامين "حبيب الرب"، وقد كان بنيامين الابن المحبوب ليعقوب، ابن يمينه (تك 49: 27). وقد جاء شاول الملك من هذا السبط وأيضًا الرسول بولس. من يلتصق بالرب يصير حبيبه ويتمتع بالأمان فيه، ويجد راحة بين كتفيه، أي في أحضانه.

7. بركة يوسف (سبطيْ إفرايم ومنسى):

"وليوسف قال: مباركة من الرب أرضه بنفائس السماء بالندى وباللجة الرابضة تحت.

ونفائس مُغلات الشمس ونفائس منبتات الأقمار.

ومن مفاخر الجبال القديمة،

ومن نفائس الآكام الأبدية.

ومن نفائس الأرض وملئها ورضى الساكن في العليقة.

فلتأتِ على رأس يوسف، وعلى قمة نذير اخوته.

بكر ثوره زينة له، وقرناه قرنا رئم، بهما ينطح الشعوب معًا إلى أقاصي الأرض.

هما ربوات إفرايم وألوف منسى" [13-17].

في بركة يعقوب أعطى النصيب الأكبر ليوسف (تك 49)، وهكذا فعل موسى النبي.

تتركز قوة يوسف في كونه نذير اخوته، وقدرته على تحطيم الأعداء والغلبة عليهم. دعاه موسى النبي "نذير اخوته" [16]، ولما كان النذير أو المكرس هو الشخص الذي ينفصل عن الآخرين ليكرس حياته وإمكانياته لحساب ملكوت الله هكذا فُصل يوسف عن اخوته وبيع عبدًا وعاش شبابه في مصر بعيدًا عنهم لأجلهم، إذ قال لهم: "لا تخافوا، لأنه هل أنا مكان الله؟! أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعبًا كثيرًا. فالآن لا تخافوا أنا أعولكم وأولادكم" (تك 50: 19-21). كان الله قد سمح بعزله إلى حين لأجل استبقاء حياة اخوته، فحُسب نذير اخوته.

جاءت بركة السبطين الخارجين من يوسف عظيمة في الكمية، وعظيمة في القوة. جاءت المدن الخصبة في ميراثهما؛ هنا يعلن أن سرّ الخصوبة أو البركة هو نعمة الله "نفائس السماء" [13]. عظيمة هي بركته حتى في أرضه التي ترتوي ببركات الرب من السماء وبالينابيع التي تنفجر من تحت. هكذا يبارك الرب الإنسان في جسده (أرضه) حيث يمطر عليه بمياه الروح، وتفيض فيه ينابيع الروح في الأعماق، فيحمل الجسد ثمار الروح القدس، ويصير جنة الله المثمرة والمحبوبة لديه. يقول المرتل: "تعهدت الأرض وجعلتها تفيض. تغنيها جدًا. سواقي الله ملآنة ماءً" (مز 65: 9).

بجوار مباركة الأرض ومباركة الأمطار وأيضًا الينابيع يبارك في عمل الشمس والقمر والكواكب بالنسبة له. بحرارة الشمس تقدم الأرض أفضل أنواع الغلات، ورطوبة القمر تسندها لتأتي بكل نفيس. يفهم البعض الآية [14] بأن الله يسخر فصول السنة التي ترتبط بالشمس والقمر والكواكب لكي يتمتع الإنسان بالثمار المتكاثرة كل في حينه. هكذا يبارك الرب في جنة النفس الداخلية، يشرق عليها شمس البر نوره ويمدها بحرارته الروحية فتتمتع بالثمر الفريد المتكاثر. وتبسط الكنيسة (القمر) نورها عليها، ويحوط بها القديسون كنجوم السماء، فتكون دائمة الإثمار، تقدم الثمر المناسب في الوقت اللائق به.

بينما تئن بعض البلاد من الجفاف بسبب الجبال والتلال القفراء، إذ بهذا السبط يتمتع بأفضل أنواع الأشجار المثمرة التي تنبت على الجبال والآكام. هكذا ترتفع النفس كما على جبال كلمة الله وتلالها، فلا تعيش عند السفح مع الجماهير بل تصعد كما مع التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا في معية المسيح حيث تتمتع بالتجلي، وتدرك أسرار العهد القديم من الشريعة (موسى) والأنبياء (إيليا) وتحيا على جبل تابور في مجد الرب الفائق. فيعيش المؤمن كجبل الله الثابت الذي لن يتزعزع.

كما يتمتع السبط بثمار الجبال والتلال هكذا تحمل له الأراضي السفلية والوديان غلات كثيرة، فيفرح بعطايا الله النفسية من محاصيل غلال وخضراوات ونباتات صغيرة تكون كالعليقة. هكذا أينما وُجدت النفس لا تعرف إلا الإثمار الدائم، تتمتع بالبركات السماوية النازلة من فوق، وتشكر الله على بركاته الزمنية الأرضية لإشباع احتياجات جسده واحتياجات اخوته. بهذا تحل البركة على رأسه ويُحسب نذيرًا لاخوته، إذ يرى كل البركات التي بين يديه ليس لأجله وحده بل من أجل بنيان اخوته ونموهم الدائم.

لعله يقصد بنفائس الأرض، ما تقدمه له من معادن ثمينة وحجارة كريمة، كقول أيوب: "أرض يخرج منها الخبز، أسفلها ينقلب كما بالنار. حجارتها هي موضع الياقوت الأزرق وفيها تراب الذهب" (أي 28: 5-6). كما تقدم الأرض الخبز لإشباع الجسد، تقدم أيضًا المعادن النفيسة الحجارة الكريمة للعمل والزينة. هكذا يجد المؤمن بركات فائقة فتشبع نفسه بالخبز السماوي، وتتزين ببهاء مجد الله.

يكلل موسى النبي هذه البركات التي تحل على هذا السبط سواء خلال مياه الأمطار وينابيع الأرض، وثمار الجبال والتلال، ونفائس الأرض من حجارة كريمة ومعادن ثمينة بما هو أعظم ألا وهو تلاقي إرادته مع الإرادة الإلهية، فيحمل فيه إرادة مقدسة مقبولة لدى الله. "ورضى الساكن في العليقة" عند دعوته للخدمة، فكانت ملتهبة نارًا دون أن تحترق (خر 3: 2).

هذه هي البركة الفائقة حين يسحب الله القلب والفكر والأحاسيس إليه، ويدخل بالمؤمن إلى أسراره الفائقة، خاصة أعماله الخلاصية من تجسد وصلب وقيامة، فينطلق حاملاً شهادة حيّة إنجيلية، مشتاقًا أن يسحب كل نفس من عبودية فرعون وينطلق بها في البرية نحو كنعان السماوية.

إذ يبلغ موسى النبي إلى التمتع بالإرادة المقدسة كأعظم بركة يقول: "فلتأتِ على رأس يوسف وعلى قمة نذير اخوته" [16].

هذه عن بركات الثمار الروحية المتزايدة أما عن بركة القوة فيراه النبي كالثور البكر الذي كان رمزًا للعظمة الملوكية. إنه قوي وقادر أن ينال النصرة على الشعوب إلى أقاصي الأرض. لقد جاء يشوع بن نون قائد الشعب إلى أرض الموعد وعلى يديه تمت النصرات المتوالية حيث طرد كل الكنعانيين واستلم أرض الموعد، وهو من سبط إفرايم بن يوسف. في إفرايم وجدت المدينة الملوكية لمملكة إسرائيل أو مملكة الشمال. ومن منسى خرج جدعون ويفتاح ويائير القضاة، الذين كانوا زينة بلدهم ومملوءين بالبركة والقوة.

يرى البعض أنه شبه بالثور البكر، لأن يوسف نال البكورية التي فقدها رأوبين (1 أي 1: 2)، ولأن باشان التي هي من نصيب منسى كانت مشهورة بالثيران والبقر (مز 22: 12). كان الثور عند اليهود من أهم الحيوانات من أجل أنه كان مقبولاً لدى الله من بين الحيوانات التي تقدم ذبيحة لله، ولأجل نفعه في الأعمال الزراعية، خاصة في حرث الأرض.

قرناه يشبهان قرني الرئم لينطح ويغلب. فقد اتسم سبط إفرايم بالقوة. هذا ومن جانب آخر فإن قرناه يحملان جمالاً خاصًا، ويشيران إلى القوة والسلطة (مز 75: 5، 10؛ 89: 17، 24؛ 112: 9؛ دا 8: 3؛ لو 1: 96؛ رؤ 17: 3).

أعطى لإفرايم الربوات ولمنسى الألوف وذلك كما تنبأ يعقوب أن الأصغر إفرايم يكون أعظم من الأكبر (تك 48: 19)، وقد تحقق ذلك كما جاء في تعداد الشعب (عد 1: 33-35).

8. بركة زبولون ويسّاكر:

"ولزبولون قال: افرح يا زبولون بخروجك، وأنت يا يسّاكر بخيامك.

إلى الجبل يدعوان القبائل.

هناك يذبحان ذبائح البر،

لأنهما يرتضعان من فيض البحار، وذخائر مطمورة في الرمل" [18-19].

ذكر السبطان معًا لأن زبولون ويسّاكر هما ابنا يعقوب من ليئة، وفي تقسيم الأرض كانا جارين. اشتهر سبط زبولون بوجود مواني بحرية في نصيبه (تك 49: 13)، لهذا كان كثير من الأمم يعبرون بأرضه، ودخل بعضهم إلى الإيمان بالله تاركين عبادة الأوثان. أنهما يدعوان القبائل إلى الجيل ليقدما ذبائح البرّ عوض الذبائح للأوثان. فتشير البركة هنا إلى انفتاح القلب على الغير والكرازة والشهادة الإنجيلية أمام الآخرين. لقد اغتنوا جدًا خلال التجارة البحرية، كرمز للغنى في العمل الروحي.

ماذا يقصد بالذخائر المطمورة في الرمل؟

يرى يوناثان بن عزوئيل أن رمال زبولون كانت من أجود الأنواع التي تصلح في صناعة الزجاج، فكانت أشبه بكنوز بين أيديهم. ويرى آخرون أن من صدف السمك الذي كان في رمال السواحل هناك استخرجوا صباغة الأرجوان الثمينة، فصارت ككنزٍ مخفيٍ في الرمل. ويرى فريق ثالث أن هذه الكلمات هي تعبير مجازي عن الغنى العظيم الذي ينالونه من التجارة البحرية.

كما يفرح يسّاكر بتجارته خلال الخيام يفرح زبولون بتجارته البحرية، هكذا وهب الله لكل شخص أو أمة ما يشبع احتياجاتها، البعض بالعمل في البر، والآخرون في البحر. يفرحنا الله أينما وُجدنا، سواء كنا في البر أو البحر. ليس لنا أن ننتفخ على الغير بسبب مواهبنا ولا أن نُصاب بصغر نفس بسبب مواهب الآخرين. إنما ليعمل كل واحد حسبما وُهب له. ليشكر زبولون الله من أجل المواني البحرية، ويسّاكر من أجل نجاح تجارته خلال الخيام. "أيضًا كل إنسانٍ أعطاه الله غنى ومالاً وسلطة عليه حتى يأكل منه ويأخذ

نصيبه ويفرح بتعبه، فهذا هو عطية الله" (جا 5: 19).

بالتجارة البحرية كما بالعمل من خلال الخيام يدعون الأمم إلى الجبل، حيث هيكل الرب قائم. فيستخدمون العمل فرصة للشهادة للرب ودعوة الآخرين لخدمة الرب.

لقد بدأت خدمة السيد المسيح في أرض زبولون (مت 4: 14-15)، دُعي بعد ذلك الشعب للجبل أي لمملكة المسيح التي تُدعى جبل بيت الرب (إش 2: 2).

يرى البعض أن يسّاكر بسكناه في الخيام كان مدركًا لأيام الأعياد أكثر من غيره فكان يدعو الغير للاحتفال بها. ويرى آخرون أن الخيام هنا يقصد بها خيام مدرسية حيث كان بعضهم يهوون الدراسة والمعرفة، لذا كان لهم دورهم القيادي مع أنهم ليسوا بالسبط الملكي ولا الكهنوتي. لهذا يرمزون إلى عمل الشعب الإيجابي والشعور بالمسئولية.

وهبهم الله غنى حتى متى دعوا الغير للصعود إلى جبل بيت الرب يرونهم قادمين حاملين عطايا كثيرة وبفيض، فيكونون مثالاً حيًّا لهم. يتحدث إشعياء النبي عن مجد كنيسة العهد الجديد وغناها الروحي فيقول: "تتحول إليك ثروة البحر، ويأتي إليك غنى الأمم" (إش 60: 5).

تحوّل تجارتها لمجد الله: "وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب. لا تُخزن ولا تكنز، بل تكون تجارتها للمقيمين أمام الرب لأكل إلى الشبع واللباس الفاخر" (إش 23: 18).

9. بركة جاد:

"ولجاد قال: مبارك الذي وسع جاد.

كلبوة سكن، وافترس الذراع مع قمة الرأس.

ورأى الأول لنفسه، لأنه هناك قسم من الشارع محفوظًا،

فأتى رأسًا للشعب يعمل حق الرب وأحكامه مع إسرائيل" [20-21].

كان جاد أحد الأسباط التي نالت نصيبها من أرض الموعد، إذ كان نصيبه شرقي الأردن. وقد تنبأ موسى النبي عن البركة التي لجاد وهي:

أولاً: وسع جاد، حقًا كان جاد قد نال نصيبه، لكن أرضه اتسعت أكثر. قيل عنهم أنهم متعلمون القتال وأنهم دخلوا في حرب مع الهاجريين وانتصروا عليهم، ونهبوا

غنائم كثيرة وسكنوا مكانهم (1 أي 5: 18-22).

بروح الغلبة والنصرة سكنوا كلبوة يمزقون الذراع مع إكليل الرأس، أي يحطمون قوة العدو (الذراع) وينتزعون كرامتهم ومجدهم (إكليل الرأس). في أيام داود كان بعض الجاديين وجوههم كوجوه الأسود "من الجاديين انفصل إلى داود إلى الحصن في البرية جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا اتراس ورماح، وجوههم كوجوه الأسود، وهم كالظبي على الجبال في السرعة" (1 أي 12: 8).

ثانيًا: "ورأى الأول لنفسه"، أي بحكمة اهتم جاد بأن ينال نصيبه أول الجميع، في شرقي الأردن قبل العبور مع يشوع إلى الضفة الغريبة. وكما يقول المرتل: "ويحمدونك إذا أحسنت إلى نفسك" (مز 49: 18). هكذا من يهتم بخلاص نفسه، ويعطي الأولوية لميراث النفس عن متطلبات الجسد يكون مستحقًا للمديح. لم يأخذ ما لنفسه في أنانية إذ انطلق يحارب من أجل بقية الأسباط، "فأتى رأسًا للشعب يعمل حق الرب" [21]. كان يعمل في طاعة ليشوع بن نون، إذ أجابوه قائلين: "كل ما أمرتنا به نعمله، وحينما ترسلنا نذهب" (يش 1: 16)، وقد نفذوا ذلك (يش 4: 12-13). لقد انهوا عملهم "وعندما صرفهم يشوع أيضًا إلى خيامهم باركهم" (يش 22: 7-9).

كانوا سريعي الحركة، وقد أُشير إليهم في التوزيع قبل رأوبين (عد 32: 2). بينما قام يشوع بتوزيع الأراضي على الأسباط نال جاد وأصحابه نصيبهم من موسى مقدم الشريعة.

"الشارع"، استقروا فيها حسب الشريعة أو بعناية الله [21].

10. بركة دان:

"ولدان قال: دان شبل أسد يثب من باشان" [22].

تربط التقاليد اليهودية سبط دان بالارتداد. شبههم يعقوب بالحية (تك 49: 17)، وموسى بشبل الأسد، إذ كان لهم رأس الحية وقلب الأسد.

يرى المفسرون اليهود أن باشان موضع كان تنتشر فيه الأسود تبحث عن فريسة. فقد عرف سبط دان بالقوة. "وخرج تخم بني دان منهم وصعد بنو دان وحاربوا لشم وأخذوها وضربوها بحد السيف وملكوها وسكنوها ودعوا لشم دان كاسم دان أبيهم" (يش 19: 47).

لقد نشا في سبط دان كشبل ونما وصار يبحث عن فريسة له بين الفلسطينيين.

11. بركة نفتالي:

"ولنفتالي قال: يا نفتالي اشبع رضى وامتلئ بركة من الرب،

واملك الغرب والجنوب" [23].

أعطى هذا السبط الأرض الجميلة الخصبة الواقعة جنوب وغرب بحر الجليل.

تطلع إلى هذا السبط بدهشة ممتدحًا إياهم. ربما تشير البركة هنا إلى إرادة الشعب المحصنة أمام الله. أما سرّ الرضى والامتلاء بالبركة وأنه يملك في الغرب والجنوب فلأن السيد المسيح ملك الملوك قد أشرق ببهائه هناك. وكما يقول الإنجيلي: "وترك الناصرة وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون وأرض نفتالي طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا عظيمًا. والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور" (مت 4: 13-16). كان السيد المسيح يعتبر كفر ناحوم مدينته (مت 9: 1؛ مر 2: 1).

الامتلاء من البركة هنا ربما يشير إلى خصوبة أراضيها. يرى اليهود أنه بسبب خصوبتها كان هذا السبط أول من يقدم البكور للهيكل، كما اشتهر سكان كفر ناحوم وبيت صيدا بالغنى.

12. بركة أشير:

"ولأشير قال: مبارك من البنين أشير.

ليكن مقبولاً من اخوته،

ويغمس في الزيت رجله.

حديد ونحاس مزاليجك وكأيامك راحتك" [24-25].

كانت أرضه مشهورة بالزيتون. يقدم موسى النبي أربع نبوات عن أشير تحمل في ذاتها علامات البركة، فإن ليئة دعت ابنها أشير قائلة أنها سعيدة (تك 30: 13).

أولاً: زيادة العدد "مبارك من البنين أشير"، ليتمتع بكثرة عدد البنين الذين يدخلون في عهد مع الرب ويتمتعون به كمصدر بركة وليس كثقلٍ عليهم.

ثانيًا: الاهتمام بالاخوة "ليكن مقبولاً من اخوته"؛ أي ليكون معهم في اتحاد واتفاق. ليكونوا مملوءين محبة ونية صالحة من جهة الذين يعيشون في وسطهم.

ثالثًا: يتمتعون بخيرات كثيرة "ويغمس في الزيت رجله". كأنه بسبب كثرة الخيرات ليس فقط يدهن جسمه بالزيت، بل يغمس رجله فيه، إي يغسلون أقدامهم بالزيت أو بالعطور.

v     يقول الرب أن الكاهن واللاوي عبرا بالجريح ولم يكن لديهما زيت ولا خمر لتضميد

جراحات ذاك الذي جرحه اللصوص (لو 10: 31-32)، إذ لم يكن لهما ما يسكبانه على جراحاته.

يعلن إشعياء: لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُليّن بالزيت" (إش 1: 6). أما الكنيسة فلها زيت به ترطب جراحات أبنائها، لئلا تنتشر قسوة الجرح وتتعمق. لقد صار لها الزيت الذي تقبلته سرًا. بهذا الزيت غسل أسور قدميه [24] [317].

القديس أمبروسيوس

رابعًا: فيض من المعادن المستخرجة من أراضيهم حتى أنهم يصنعون أحذيتهم من الحديد والنحاس. من الجانب الرمزي تشير الأحذية المعدنية إلى القوة والبهاء، والقدرة على السير في الطرق الوعرة. "حديد ونحاس مزاليجك".

"كأيامك قوتك" يعني استمرارية القوة في حياتهم فلا يخوروا قط في الطريق.

13. بركة عامة لكل إسرائيل:

"ليس مثل الله يا يشورون.

يركب السماء في معونتك والغمام في عظمته" [26].

يستحق الله كل حمد، فإنه فوق شعبه وتحته وخلفه وأمامه وحوله، يقف شخصه خلف الطبيعة ووراء الأسرار ربًا ومخلصًا لشعبه. كل أمة تفتخر بإلهها، لكنه ليس مثل إله يشورون.

دعي الشعب كله "يشورون" أي "الشعب المستقيم"، أو كما جاءت في الترجمة السبعينية "المحبوبون". يسرع الله إلى معونته راكبًا السماء كمركبة إلهية: "يركب السماء في معونتك والغمام في عظمتك". يشير الغمام إلى السرية وعدم القدرة على إدراك عظمة الله في رعايته لشعبه. إنه يركب السحاب لكي يعين شعبه ويسنده، معلنًا عظمة حبه واهتمامه في الغمام. إنه صاحب سلطان على كل الطبيعة، التي يسخرها لحساب شعبه.

"الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت.

فطرد من قدامك العدو وقال: أهلك.

فيسكن إسرائيل آمنًا وحده.

تكون عين يعقوب إلى أرض حنطة وخمر، وسماؤه تقطر ندى.

طوباك يا إسرائيل.

من مثلك يا شعبًا منصورًا بالرب ترس عونك وسيف عظمتك.

فيتذلل لك أعداؤك وأنت تطأ مرتفعاتهم" [27-29].

من جهة الإمكانيات والسرعة يستخدم السحاب ليعين شعبه. ومن جهة الخبرة فهو الإله الأزلي القديم غير المتغير، يبسط ذراعيه من تحت شعبه كي لا يسقطوا. أذرعه لن تنهزم، ولا يقدر عدو أن يحطمها ليخطف شعبه من بينها، بل يبقى شعبه محمولاً على الأذرع الأبدية. إذ تبقى الأذرع الأبدية تحت الكنيسة لن تغرق مطلقًا، إذ هي محمولة على صخر الدهور، ولا تقدر أبواب الجحيم عليها (مت 16: 18). "هو في الأعالي يسكن، حصون الصخور ملجأه، يعطي خبزه ومياهه مأمونة" (إش 33: 16).

إنه أزلي قبل الدهور ولن يخضع للزمن. وكما جاء في حبقوق "ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي. لا نموت!" (حب 1: 12).

لا يحتاج الشعب إلى سلاح يحميه، بل يصير الرب نفسه سلاحه، هو ترسه وسيفه. جعل الله من نفسه ملجأ لشعبه [27]، يسكن فيه الشعب آمنًا. فالنفس إذ تثبت في الله تدرك أنها في بيتها في آمان حقيقي. يقول المرتل: "ارجعي يا نفسي إلى راحتك، لأن الرب قد أحسن إليك" (مز 116: 7). "أنت ستر لي، من الضيق تحفظني" (مز 32: 7). يعطي الله شعبه النصرة على العدو ليحطمه، فيصير مهوبًا.


 

من وحي تثنية 33

افتح فمي للبركة

v     وهبتني فمًا ولسانًا لأبارك ولا ألعن.

لتكن أنت في فمي، فأبارك كل من يلتقي بي.

لأتمتع أيضًا ببركتك على لسان نبيك موسى.

اجلس عند قدميك مع الذين عند سفح الجبل.

أتأمل جبل الله المتقد نارًا. فتمتلئ نفسه من بهاء مجدك.

وتشرق كلمتك في داخلي.

v     مع رأوبين أراك واهب الحياة.

لا أخاف الموت ما دمت أنت ساكن فيّ.

v     مع يهوذا أدرك أن أذنيك تميلان نحوي.

تنصتان إلى صلوات قلبي الخفية.

وتستجيبان لطلبات نفسي.

تحطم عدوي وتقاتل خطاياي.

فأنال بك نصرات متوالية.

v     مع لاوي أكرس كل حياتي لك.

أنت وحدك نصيبي.

لا انشغل بأبٍ أو بأمٍ أو زوجةٍ أو أولادٍ. أنت هو الكل لي.

أحبهم فيك، وأخدمك فيهم.

قدسني، فأصير شاهدًا لك يا أيها القدوس.

اقبل كهنوتي، ولتشتم صلاتي رائحة بخور ذكية.

استلم ذبائح الشكر والتسبيح.

علمني أن أحفظ عهدك إلى التمام.

v     مع بنيامين هب لي موضعًا عن يمينك.

تدعوني حبيبك فتطمئن نفسي بك.

استتر تحت ظل جناحيك،

وأسكن آمنًا بين منكبيك.

v     مع ابني يوسف إفرايم ومنسى هب لي من خيرات حبك.

تبارك أرضي، فتقدم ثمارًا متزايدة.

تحول أعماقي إلى جبال راسخة تحمل ثمارًا عظيمة،

تملأ أرضي بالمعادن النفيسة.

تهبني مع الغنى الروحي قوة وجمالاً وجلالاً.

أنت غناي وقوتي ومجدي!

v     مع زبولون أخدمك في البحار،

ومع يسّاكر أشهد لك في الخيام!

اقبل خدمتي في البحار كما في البر!

v     مع جاد تهبني أن اهتم أولا بخلاص نفسي.

توسع أرض قلبي لتقبل كل غريب ومحتاج!

v     مع دان تجعلني كشبل أسد،

مملوء شبابًا وحيوية وقوة في الروح!

v     مع نفتالي تهبني بركة خصوبة أرضي، فلا أوجد عقيمًا قط.

بل أحمل دومًا ثمر الروح المتزايد.

v     مع أشير أغمس في الزيت رجلي.

تفيض عليّ بالبركات فأغسل قدمي بالعطور الروحية.

ألبس أحذية من حديد، فأسير في الطرق الوعرة بلا خوف.

هكذا تتعطر قدمي بالحب، وتسلك بروح الحزم والقوة.

<<

 

 


 

الأصحاح الرابع والثلاثون

موسى على جبل نبو

هذا هو الفصل الختامي، فبعد أن قدَّم موسى النبي الثلاثة أحاديث الوداعية ثم النشيد الختامي والبركة لكل الأسباط صعد إلى جبل نبو "فسجة" Pisagh ليتطلع على أرض الموعد التي وعد بها الله آباءه، ثم أسلم الروح حسب قول الرب، وقام الرب نفسه بدفنه في قبر غير معروف [5-6]. حزن الشعب عليه جدًا، فقد تنيح ذاك الذي كان يتحدث مع الله كما يكلم الرجل صاحبه، "وجهًا لوجه" [10].

1. موسى على جبل نبو              [1-6].

2. نضارة موسى                     [7].

3. أيام بكاء مناحة موسى           [8].

4. يشوع خلف موسى                [9].

5. الخاتمة                            [10-2].

1. موسى على جبل نبو:

"وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو إلى رأس الفسجة الذي قبالة أريحا،

فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان.

وجميع نفتالي وأرض افرايم ومنسى وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي والجنوب والدائرة

بقعة أريحا مدينة النخل إلى صوغر.

وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم واسحق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها.

قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر.

فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب" [1-5].

عين الله لموسى الموضع الذي فيه يموت (تث 32: 49-50). ترك الشعب في سهول موآب وصعد كأمر الرب إلى جبل نبو إلى قمة الجبل في منطقة تدعى رأس الفسجة. يبدو أن "فسجة" هو اسم كان يطلق على قمم بعض الجبال. إذ اعتاد موسى أن يلتقي مع الله على الجبل لاستلام الشريعة، لذا حتى موته تَم على جبل "نبو"، أي على مرتفع عالٍ، ليرى بالإيمان ما وعد الله به آباءه وما يتحقق مع شعبه فيفرح وتتهلل نفسه كأنه قد نال الوعد بنفسه.

الفسجة معناها "المكسورة"، أي كسر يظهر في قمة جبل، وقد يكون الاسم لقمة جبل أوشا.

كان موسى من وجوه كثيرة خادمًا نموذجيًا للرب، وكان شعاره "كما قال الرب".

لم يرتبك موسى حين صدر له الأمر بذلك، بل حسب الموت عطية إلهية، إذ أكمل رسالته وانطلق إلى الله مرسله. عرف النبي المكان الذي فيه تُطلب نفسه، ومع هذا لم يتحاشاه بل صعد إليه بكامل حرية إرادته، وربما كان متهللاً لأنه أكمل رسالته بسلام، وحسب الموت صعودًا. صعد إلى أعلى منطقة هناك وحده دون معاونة أحد. وكان شيخًا في المائة والعشرين من عمره. ولم يكن أحد قط في صحبته.

لم يره أحد وهو يموت، إما لأن الله لم يرد أن يكشف عن موضع جثمانه، خشية أن يبالغ اليهود في تكريمه. أو لعله أراد أن يؤكد أن أولاد الله لا يحتاجون إلى عون بشري في لحظات خروجهم من العالم، إذ أن الله نفسه يكون لهم عونًا.

تطلع موسى النبي من الجبل إلى أسفل ليرى كنعان، أرض الموعد، فتتهلل نفسه من أجل تحقيق الوعود الإلهية، ورفع بصره إلى فوق ليرى كنعان السماوية.

حقًا لم تكل عينا موسى وهو في المائة والعشرين من عمره، لكن رؤيته لكل أرض كنعان من الجبل لا يمكن أن تكون بقدرة طبيعية، إنما وهبه الله هذه الإمكانية لكي تفرح نفسه مع ما سيتمتع به شعبه في القريب العاجل.

يلقب هنا موسى العظيم في الأنبياء وأول قائد للشعب بعبد الرب أو خادمه [4]. هذا اللقب يشير إلى صاحب مركز خاص يتمتع به الشخص كمن يعمل في بلاط ملك الملوك، وله مكانة خاصة لدى الله. تمتع بهذا اللقب أيضًا إبراهيم أب الآباء (تك 26: 24)، ويشوع بن نون (يش 24: 29)، وداود أول ملك بار لشعبه (2 صم 7: 50)، كما حمل الأنبياء شهود الحق ذات اللقب (2 مل 9: 7).

لم يقف الأمر عند أشخاص معينين بل يشتهي الرب أن يكون لكل عضو في كنيسته دوره الشخصي الحيّ، لذا دعي إسرائيل بهذا اللقب (إش 41: 8). إنه يود أن يحرك حتى الغرباء ليُحققوا إرادته المقدسة ورسالته، فدعي ملكًا غريبًا بهذا اللقب (إر 25: 9).

أما وقد صار كلمة الله المتجسد نفسه "عبد الرب" له أربع تسابيح تدعى "تسابيح عبد الرب" (إش 42: 41)، فإنه يود كل نفس أن ترتبط به لتنال كرامته وتتمتع بتسابيحه الخلاصية. وقد سبق لي الحديث في شيء من التوسع عن "عبد يهوه" أو "عبد الرب" في تفسير سفر إشعياء[318].

حتى مجيء كلمة الله المتجسد لم يقم نبي أعظم من موسى، أما وقد جاء الابن ذاته، فلم تعد هناك مقارنة بين الابن صاحب البيت وبين العبد خادم البيت (عب 3: 1-6).

"ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور،

ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" [6].

دفنه الرب نفسه، ربما بواسطة ملائكته الذين قاموا بحفل رقاده ودفنه. اهتم الله بجثمان موسى، فإن موت الأبرار عزيز لديه. لم يدفنه مع آبائه، إنما في أرض موآب في موضع لا يعرفه إنسان. هكذا وإن كان الله يهتم حتى بجثماننا، إلا أنه ينبغي ألا ننشغل بالموضع الذي ندفن فيه.

كتب ريباريوس Riparius كاهن Aquitane للقديس جيروم بخصوص مقاومة فيجلانتيوس Vigilantuis الذي كان يحارب تكريم رفات القديسين والسهر في أعيادهم، متطلعًا إلى هذه الرفات كأشياء دنسة. وأجاب عليه القديس جيروم مقدمًا أمثلة كثيرة من العهدين عن تكريم أجساد الراقدين في الرب. جاء في رسالته: [إني أسأل فيجيلانتيوس: هل رفات بطرس وبولس دنسة؟ هل كان جسد موسى دنسًا، هذا الذي قيل عنه – حسب النص العبري الصحيح – أن الرب نفسه قد دفنه؟[319]].

قارن القديس جيروم[320] بين موت موسى وموت يشوع، موضحًا أنه في موت موسى النبي حدثت مناحة، أما في موت يشوع فلم يحدث ذلك (يش 24: 30). فإن كان موسى يرمز لليهود الذين تحت الناموس، فإن يشوع يرمز للمسيحيين تحت قيادة يسوع. خلال الناموس يحل البكاء كما بالليل، وبيسوع يحل السرور كما بالنهار (مز 30: 5).

قيل: "تولول موآب على نبو" (إش 15: 2). الجبل الذي صعد عليه موسى النبي لينظر من بعيد أرض الموعد فتتهلل نفسه، كان يمثل مركز دفاع للموآبيين. الموضع الذي تهلل فيه موسى ولول الموآبيون. ما يفرح قلب المؤمن يحطم نفس الجاحد عديم الإيمان.

ماذا يقول التاريخ عن هذا؟ إن موسى عبد يهوه مات إذ يهوه أصدر أمره، ولم يجد أحد قط قبره، عيناه لم تكلا، ووجهه لم يتجعد. من هذا نتعلم أنه عندما يكمل إنسان أعمالاً عظيمة كهذه يُحسب مستحقًا لاسم سامٍ كهذا، فيُدعى "عبد يهوه"، وذلك كالقول بأنه أفضل من كل الآخرين. فإنه لا يمكن لأحدٍ أن يخدم الله ما لم يصر أسمى من كل أحدٍ في العالم. هذا بالنسبة له هو نهاية الحياة الفاضلة، الغاية التي تتم بواسطة كلمة الله.

يتحدث التاريخ عن "موت"، موت محيي، لا يتبعه قبر، ولا يملأ مقبرة، أو يسبب كللاً للعينين أو شيخوخة للشخص.

ماذا إذن نتعلم مما قيل؟ أن يكون لنا هدف واحد في الحياة، أن ندعى خدام الله بالحياة التي نعيشها. عندما تهزم كل الأعداء (المصريين، عماليق، الأدوميين، والمديانيين)، وتعبر المياه، وتستنير بالسحابة، وتتمتع بالعذوبة بالخشبة، تشرب من الصخرة، وتذوق الطعام الذي من فوق، وتصعد الجبل خلال الطهارة والقداسة، وعندما تبلغ ذلك، وعندما تنال تعاليم خاصة بالسرّ الإلهي بصوت الأبواق، وتقترب إلى الله بإيمانكم في الظلمة التي لا تُخترق، وهناك تتعلم أسرار خيمة الاجتماع وكرامة الكهنوت. وعندما تكون المثال تنحت في قلبك التعاليم الإلهية التي تسلمتها من الله، وعندما تحطم التمثال الذهبي (أي عندما تنزع من حياتك شهوة الطمع)؛ وعندما ترتفع إلى العلويات حتى أنك تظهر أنك تصد سحر بلعام (تفهم السحر الخدّاع الماكر للحياة، الذي به ينسحب الناس ببعض فلسفات شيشرون فيتحولون كما إلى حيوانات غير عاقلة ويتخلون عن طبيعتهم اللائقة بهم)؛ وعندما تبلغ كل هذه الأمور، وتزهر عصا الكهنوت فيك، فلا تسحب أية رطوبة من الأرض، بل يكون لها قوتها الفريدة للإثمار. (أي اللوز الذي في البداية يكون طعمه مُرًّا وخشنًا لكنه يحوي في الداخل ما هو حلو وصالح للأكل، عندما تحطم كل ما يضاد ما يليق بك كما ابتلعت الأرض داثان، واحترق قورح بالنار، عندئذ تقترب من الهدف. أقصد الهدف الذي من أجله تصنع كل الأمور[321].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

2. نضارة موسى:

وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات،

ولم تكل عينه، ولا ذهبت نضارته" [7].

في المزمور 90 يقول موسى النبي: "أيام سنيننا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة وأفخرها تعب وبلية" (مز 90: 10). كيف يقول هذا وقد عاش هو 120 سنة، إلا لأنه حسب أن أيامه انتهت عند الثمانين مع القوة، وإما الأربعين عامًا فهي هبة من الله له، حيث كان في حكم الموت ووهبه الله الحياة لكي يخدم لحساب ملكوته؟!

عاش موسى 120 سنة ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، إشارة إلى تمتع المؤمن باستنارة دائمة وشبوبية دون أن تُصاب نفسه الداخلية بالعمى أو عجز الشيخوخة (مز 103: 5). المسيحي الحقيقي لا يعرف إنسانه الداخلي الشيخوخة، بل يجدد الروح القدس مثل النسر شبابه.

لم تكل عينه مثل اسحق (تك 27: 1) ويعقوب (تك 48: 10). ولا ظهرت عليه علامات الشيخوخة، بل كان جسمه ناضرًا كشابٍ مملوء قوة وحيوية. إن الوجه الذي صار لامعًا بانعكاس بهاء الله عليه (خر 34: 30) لن تصيبه شيخوخة الضعف.

v     لا تكل العين ولا يشيخ الإنسان. فإنه كيف يمكن للعين التي هي في النور على الدوام أن تكل بواسطة الظلمة التي انفصلت عنها على الدوام؟ الإنسان الذي بكل وسيلة يبلغ إلى عدم الفساد في كل حياته لن يصيبه فساد في ذاته. لأنه بالحق من يصير أيقونة الله، والذي لا ينحرف بأية طريقة عن السمة الإلهية يحمل في نفسه العلامات المميزة لها ويظهر في كل شيء أنه على شاكلة الأصل، يحمل نفسه بما هو غير فاسدٍ ولا متغيرٍ، ولا يشترك في أي شر نهائيًا[322].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

3. أيام بكاء مناحة موسى:

"فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يومًا،

فكملت أيام بكاء مناحة موسى" [8].

ويقول ترجوم يوناثان أن الرب أناط بميخائيل رئيس الملائكة حفظ قبر موسى.

إن كان الله قد دفن موسى، وقد أقيمت له جنازة فريدة ملائكية، لكن الله لم يمنع الشعب من التعبير عن مشاعرهم، فبكوا ثلاثين يومًا على هذا القائد العجيب.

4. يشوع خليفة موسى:

"ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة،

إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو إسرائيل،

وعملوا كما أوصى الرب موسى" [9].

كما امتلأ موسى بروح الحكمة امتلأ تلميذه يشوع بذات الروح، بوضع موسى يديه عليه، أي بسيامته. لماذا لم يضع يدًا واحدة، إلا لأنه فعل مثل يعقوب عندما بارك حفيديه إفرايم ومنسى، فوضع يديه على شكل صليب. اليد اليمنى على إفرايم الذي من جهة اليسار واليد اليسرى على منسى الذي من جهة اليمين. هكذا نتسلم روح القيادة خلال صليب رب المجد يسوع.

5. الخاتمة:

"ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه.

في جميع الآيات والعجائب التي أرسله الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون وبجميع

عبيده وكل أرضه.

وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل"

[10-12].

خُتم السفر بالكشف عن عظمة موسى بكونه كان ملاصقًا للرب، يراه وجهًا لوجه، وكما قيل إن الله كان يكلمه كما يكلم الرجل صاحبه (خر 32: 32). لم يتحدث معه خلال رؤى وأحلام، بل حديثًا مباشرًا صريحًا وعلنيًا. كأن سر قوته هو الالتقاء مع الله والحوار معه.

صنع الله على يديه خلاصًا من عبودية فرعون، وأعلن خلاله المجد الإلهي خاصة عندما سلمه الشريعة على جبل سيناء.

توحي هذه الأعداد الختامية بأن كاتبها كان شخصًا متأخرًا عن زمن يشوع. ولعل العازار أو أحد الشيوخ أضافها بعد موت يشوع (يش 24: 31).

كنبي قاد موسى الشعب (هو 12: 13) وسلمهم الاعلان المعطى له (29: 29)،

وأشار إلى المسيح (18: 15). وجهًا لوجه [10]. في كل اليد الشديدة [12]. لم يكن عمل الله عن طريق موسى بالكلام فقط بل بالأعمال التي ما كان يمكن أن تنسى، فالآيات والعجائب التي صنعها في مصر كانت الإعداد الإلهي للعمل الفدائي الأعظم الذي تم في الجلجثة.

الجبال في الكتاب المقدس:

للجبال في الكتاب المقدس مكانة خاصة، فهي المواضع المحببة لله ليلتقي فيها مع شعبه، أو يقدم فيها عطايا وإعلانات خاصة. وعليها نال رجال الله نصرات ضد الشر، أو منها حمل المؤمنون الأخشاب التي يستخدمونها لبناء هيكل الرب. ولعل اختياره للجبال كأماكن لنوال بركات إلهية سماوية، إنما لكي يدعو المؤمن كي يرتفع بقلبه وفكره وكل أحاسيسه عن كل ما هو أرضي لكي يلتقي بالله السماوي.

كان المرتل يرفع عينيه إلى الجبال المقدسة مترقبًا العون الإلهي.

إن كان موسى النبي قد استلم الشريعة الإلهية على الجبل، ورأى كنعان من قمة الجبل، وهناك سلم روحه في يديّ الله الذي اهتم بروحه كما بجثمانه إنما ليؤكد حاجتنا إلى الصعود على "جبل بيت الرب". قيل: "يكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم (إش 2: 2).

ما هذا هو الجبل إلا شخص السيد المسيح الصخرة الحقيقية التي تفيض مياه الروح على شعبه (1 كو 10: 4)، الجبل الذي رآه دانيال النبي الذي يملأ الأرض (دا 2: 34، 45). يقول القديس أغسطينوس: [الجبل كما تعلمنا الشهادة النبوية هي الرب نفسه[323]]. ويدعونا العلامة أوريجانوس أن نصعد إلى الجبال العالية، قائلاً: [يكفي أنك لا تبقى على الأرض، ولا تسكن الوديان، ولا تبطئ في الأماكن المطمورة[324]].

لعل أهم الجبال المذكورة في الكتاب المقدس هي:

1. جبل أراراط: في تركيا حاليًا، عليه استقر فُلك نوح (تك 8: 4)؛ حيث تستقر الكنيسة التي خلُصت من طوفان العالم في الأعالي، في السماء عينها، إذ ليس لها موضع في الأماكن السفلية.

2. جبل سيناء: أو حوريب، شمال شرقي مصر، حيث استلم موسى النبي الشريعة (خر 19: 2-25). فإننا ننسحب مع موسى على الجبل لننعم باستلام وصيته في أعماق النفس التي يكتبها لا على ألواح حجرية، بل على القلب ذاته بروحه القدوس الناري.

3. جبل عيبال: مقابل جبل جرزيم، وقد أمر موسى النبي أن يُبنى مذبح للرب على هذا الجبل عند دخولهم أرض الموعد. إذ لا يقدر أن يقدم المؤمن حياته ذبيحة حب لله وهو مرتبك بالسفليات.

4. جبل جرزيم: عليه تحدث السيد المسيح مع المرأة السامرية عند البئر (يو 4: 20)، التي تركت جرتها وانطلقت إلى المدينة تدعو كل سكانها ليأتوا ويروا ويسمعوا، فيختبروا ما اختبرته: عذوبة عمل المخلص محب البشرية.

5. جبل نبو: أو الفسجة Pisgab، من عليه تطلع موسى على أرض الموعد، التي رآها بعينيه دون أن يدخلها. إذ كان موسى رمزًا للناموس، فإنه عاجز عن أن يدخل بالمؤمن إلى السماء، كنعان الأبدية، إنما يكشف له عنه من بعيد لكي يرتبط بيسوع (يشوع بن نون) القادر وحده أن يحمله إليها. قيل أن الله دفن موسى على هذا الجبل بيديه، فكان لابد أن يموت الجسد أو الحرف الذي للناموس كي نتمتع بالحياة المقامة في المسيح يسوع خلال الروح.

6. جبل الكرمل: عليه انتصر إيليا النبي على أنبياء البعْل (1 مل 18: 9-42). فمن لا يصعد على جبل الرب لن يقدر أن يحطم إبليس وجنوده وخدامه وكل حيله وكل سلطانه.

7. جبل جلبع: عليه قُتل الملك شاول وأبناؤه في معركة ضد الفلسطينيين (1 أي 10: 1، 8). على الجبال المقدسة يسقط رئيس هذا العالم وينحدر ميتًا.

8. جبل هرون: يمثل الحد الشمالي عند دخول الشعب كنعان (يش 11: 3، 17).

9. جبل الزيتون: عليه قدَّم السيد المسيح حديثه عن مجيئه الأخير (مت 24: 3)، فإنه إذ يزهد الإنسان الأرضيات يصعد كما على جبل الزيتون ليجلس عند قدمي المخلص يستعذب وعده بالمجيء.

10. جبل لبنان: مصدر أخشاب الأرز التي استخدمها سليمان الحكيم في بناء الهيكل الذي في أورشليم (1 مل 5: 14، 18). هكذا تصعد النفس إلى جبال الرب، خشبة الصليب مع عريسها المصلوب؛ فإنه إن لم تُصلب معه لن تستطيع أن تُقيم هيكله المقدس في أورشليم الداخلية، في أعماق القلب.


 

من وحي تثنية 34

هبني عطية الموت!

v     متى تتحقق رسالتي بنجاح،

فأصعد مع موسى النبي واستلم هبة الموت.

ليتني لا أموت وأنا عند سفح الجبل.

بل أصعد إلى قمة الجبل المقدس.

ارتفع فوق كل فكر أرضي وشهوة زمنية.

هناك يلتهب قلبي شوقًا نحو رؤياك.

لست أطلب مكانًا يدفن فيه جثماني،

ولا أطلب إنسانًا يهتم بتكفيني ودفني.

وإن عشت وإن مت فأنا لك.

أنت ترعاني حتى لقائي معك.

v     لتمتد يداك فتعملان خلالي.

وأتلامس مع قيادات الجيل الجديد متهللاً.

أنت هو القائد الحق عبر كل الأجيال.

<<

 

 


 

محتويات

العهد الإلهي عون في رحلتنا اليومية

مقدمة في سفر التثنية

اسم السفر، تاريخ كتابته، كاتب السفر، شهادات داخلية عن كاتب السفر، الاختلافات بين سفر التثنية وأسفار موسى السابقة، مفتاح السفر، سماته، موسى النبي كمعلم، الشريعة والحب، سفر التثنية والفكر اللاهوتي، سفر التثنية بين أسفار موسى، سفر التثنية وسفر إرميا، سفر التثنية والشعب اليهودي، سفر التثنية والعهد الجديد، سفر التثنية والتجربة على الجبل، سفر التثنية ومعاهدات الشرق الأوسط، التثنية كميثاق مع الله، العهد وحفظ حقوق الخليقة، سفر التثنية والحرب المقدسة، وحدة السفر، أهم ما ورد فيه، محتوياته، أقسامه.

الفصل الأول: العظة الأولى: [ص1 - ص4]

الأصحاح الأول: كما يحمل الإنسان ابنه

مقدمة، الله يحقق وعده لآبائهم، مشاركة الشعب في تدبير أمورهم، التشكك وإرسال الجواسيس، إصرار على العصيان.

الأصحاح الثاني: الإفراز في التعامل مع الغير

ارتحالهم في البرية ، عدم محاربة الأدوميين، عدم محاربة الموآبيين، محاربة سيحون وعوج.

الأصحاح الثالث: النصرة على عوج ملك باشان

ضرب عوج ملك باشان، تقسيم أرض عوج، تضرع موسى لدخول كنعان، رؤية موسى لكنعان، وصية موسى ليشوع.

الأصحاح الرابع: دعوة إلى الاقتراب من الله والالتجاء إلى مدن الملجأ

الطاعة للوصية الإلهية، الوصية الإلهية والجيل الجديد، رفض العبادة الوثنية، العهد الإلهي والعبادة الوثنية، الإله الواحد محب شعبه، مدن الملجأ، خاتمة العظة الأولى.

الفصل الثاني: العظة الثانية: [ص5 - ص28] الوصايا ودستور الشريعة

العظة الثانية: القسم الأول: الأسس العامة العهد الإلهي [5 - 11]

الأصحاح الخامس: الوصايا العشرة، قلب العهد الإلهي

عهد إلهي حاضر، الوصايا العشرة، تسلمه الشريعة.

الأصحاح السادس: الوصية والأرض الجديدة

الوصية والأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، الوصية كمرافق للمؤمن أينما وُجد، الوصية والتمتع بالبركات، الوصية وتذكر التحرر من العبودية.

الأصحاح السابع: لا شركة مع الوثنية

لا شركة مع الوثنيين، تحذير من الوثنيين، بركات حفظ العهد، وعد بالنصرة على الشر.

الأصحاح الثامن: ضيقات القفر وبركاته

حفظ الوصية غاية القفر، عينا الرب تترفقان وسط القفر، تأديب أبوي، سعة بعد القفر، الشكر من أجل بركات الرب، تذكر عطايا الرب، عدم الاتكال على الذات، عدم الاتكال على آلهة غريبة.

الأصحاح التاسع: بماذا يتبرر الشعب؟

الله هو قائد المعركة، النصرة ليست بسبب برّهم الذاتي، هزيمة الأمم بسبب شرّهم، أمانة الله في مواعيده مع آبائهم، شعب متذمر منذ البداية، شعب يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة، غضب موسى النبي وكسر لوحيّ العهد، اشتراك رئيس الكهنة في خطأهم، قبول سحق العجل عِوض عن سحقهم، سلسلة من التذمر والسخط، موسى النبي يشفع فيهم.

الأصحاح العاشر: غنى عطايا الله لهم

إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاؤه الكهنوت اللاوي، فرز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم، دعوة لمخافة الرب والالتصاق به.

الأصحاح الحادي عشر: أيامنا كأيام السماء

أحبب الرب الذي تراه، احفظ وصاياه فتطول أيام حياتك، اعبد الرب بكل قلبك فتشبع، سمر وصاياه على قلبك فتختبر أيام السماء، تمتع ببركة الطاعة لا لعنة العصيان.

العظة الثانية: القسم الثاني: العهد الإلهي والعبادة [12 –26]

الأصحاح الثاني عشر: الهيكل وإزالة كل أثرٍ للوثنية

إزالة آثار الوثنية، إقامة بيت الله، الامتناع عن شرب الدم، الأكل أمام الرب، الاهتمام باللاوي، عدم أكل الدم، عدم الاستفهام عن العبادة الباطلة.

الأصحاح الثالث عشر: الغواية إلى العبادة الوثنية

النبي الكذاب، القريب الذي يغوي، المدينة التي تغذي.

الأصحاح الرابع عشر: شرائع للتقديس - الجنازات، والأطعمة، والعشور

عادات جنائزية، الحيوانات الطاهرة، الأسماك الطاهرة، الطيور الطاهرة، الجثة الميتة، العشور.

الأصحاح الخامس عشر: الحياة السبتية

السنة السبتية، الاهتمام بالفقراء، العبد العبراني، البكور.

ملحق الأصحاح الخامس عشر: عن العبودية في الكتاب المقدس وفكر الآباء

مفهوم العبودية، الوثنية ونظام الرق، العبودية عند اليهود، أنواع العبودية، جلب العبيد، حقوق العبيد، تحرير العبيد، تحرير الأَمَة، حقوق السادة من نحو العبيد، عبودية الأممي، المسيحية والاهتمام بالعبيد، نظرة القديس غريغوريوس أسقف نيصص للعبودية.

الأصحاح السادس عشر: الأعياد السنوية

عيد الفصح، عيد الأسابيع، عيد المظال، الأعياد والعطاء، الأعياد والعدالة، عدم الخلط بين عبادة الله والأوثان.

الأصحاح السابع عشر: حزم مع عابدي الأوثان والقضاة والملك

عقوبة عابدي الأوثان، خضوع القضاة للنظام، التزامات الملك.

الأصحاح الثامن عشر: خدام الرب

نصيب الكهنة واللاويين، لا عائفون ولا سحرة، النبي المنتظر.

الأصحاح التاسع عشر: مدن الملجأ والشاهد الكاذب

مدن الملجأ، نقل التُخُم، شهادة الزور.

الأصحاح العشرون: القانون العسكري

الخروج للحرب، التعامل مع المدن التي يحاربونها، المدن المحرمة، التصرف في أشجار المدن.

الأصحاح الحادي والعشرون: القتيل بيدٍ مجهولة، شرائع خاصة بالمسبيات، والابن البكر، الابن المعاند، والمعلق على خشبة

القتيل بيد مجهولة، المسبية التي تؤخذ زوجة، حق البكورية، الابن المتمرد، المعلّق على خشبة.

الأصحاح الثاني والعشرون: شرائع خاصة بالحنو والقداسة

الاهتمام بما للجار أو الغريب، منع الشذوذ الجنسي، الترفق بالطيور الحاضنة، المحافظة على حياة الغير، عدم الخلط، أهداب الثوب، اتهام الزوجة بعدم البكورية، شريعة الزوجة فاقدة العذرة، الخيانة الزوجية، الزنا مع عذراء مخطوبة، الزنا مع عذراء غير مخطوبة، السقوط مع زوجة الأب.

الأصحاح الثالث والعشرون: جماعة الرب، وجيش الرب وبيت الرب

المحرومون من جماعة الرب، جيش مقدس، العبد الهارب، رفض الفسق والنجاسة، الربا، عدم التسرع في النذور، حق الجيرة.

الأصحاح الرابع والعشرون: سلامة الأسرة مع شرائع أخرى

الأسرة والطلاق، الأسرة والتجنيد، الأسرة والرهن، الأسرة ونظام العبودية، الأسرة والتذمر، الأسرة والقروض، الأجير والأجرة، المسئولية الشخصية، الأسرة والرهن، مراعاة المحتاجين أثناء الحصاد.

الأصحاح الخامس والعشرون: شرائع مختلفة

أربعون جلدة، لا تكم ثورًا دارسًا، إقامة نسل للميت، المرأة التي بلا حياء، الغش في الموازين، تدمير عماليق.

الأصحاح السادس والعشرون: البكور وتجديد العهد

تقدمة البكور، العشور، تذكر العهد.

العظة الثانية: القسم الثالث: طقس اللعنات والبركات [27 –  28]

الأصحاح السابع والعشرون: الوصية مع الذبيحة

تمهيد العبور، كتابة الناموس على حجارة مكلسة، بناء مذبح من حجارة صحيحة، فئتان للبركة واللعنة، اللعنات المنطوق بها على عيبال.

الأصحاح الثامن والعشرون: البركات واللعنات

1. بركات الطاعة: أولاً: التصاق البركة بالمطيع، ثانيًا: النصرة على الأعداء، ثالثًا: التمتع بالغنى، رابعًا: التمتع بالقداسة، خامسًا: التمتع بالكرامة، سادسًا: التمتع بالأثمار، سابعًا: الطبيعة خادمة للمطيع، ثامنًا: التمتع بروح القيادة.

2. لعنات العصيان: أولاً: التصاق اللعنة بالعاصي، ثانيًا: المعاناة من الاضطراب، ثالثًا: المعاناة من الوبأ، خامسًا: الهزيمة أمام الأعداء، سادسًا: حرمان من كل عطية، سابعًا: فقدان الكرامة، ثامنًا: حرمان من تعب اليدين، تاسعًا: انحدار وانهيار، عاشرًا: السقوط تحت العبودية، حادي عشر: تحل به ضربات مصر، ثاني عشر: حلول الفناء، ثالث عشر: ارتداد إلى مصر.

الفصل الثالث: العظة الثالثة [ص 29- ص 30]

الأصحاح التاسع والعشرون: تذكير بالعهد

تذكير بالعهد، طرفا العهد، عبادة الأوثان كسر للعهد، السرائر للرب.

الأصحاح الثلاثون: إمكانية تحقيق العهد

الله ينتظر رجوعك، الوصية قريبة منك، القرار بين يديك.

الفصل الرابع أعمال ووصايا ختامية [ص 31 – ص 34]

الأصحاح الحادي والثلاثون: نصيحة أخيرة مع تحذير

تشجيع الشعب ويشوع، قراءة التوراة في سنة الإبراء، ظهور الرب في الخيمة، تسليم كتاب التوراة.

الأصحاح الثاني والثلاثون: نشيد موسى

مقدمة النشيد، عظمة الله وبره، انحراف الشعب وحنثه بالعهد، تذكير الشعب بأعمال الله، شعب جاحد، تأديب الشعب الجاحد، دعوة للطـاعة، صعود موسى جبل نبو.

الأصحاح الثالث والثلاثون: مباركة الشعب

مباركة الشعب، مجد الله وسط شعبه، بركة رأوبين، بركة يهوذا، بـركة

لاوي، بركة بنيامين، بركة يوسف (إفرايم ومنسى)، بركة زبولون ويسّاكر، بركة جاد، بركة دان، بركة نفتالي، بركة أشير، بركة جماعية.

الأصحاح الرابع والثلاثون: موسى على جبل نبو

موسى على جبل نبو، نضارة موسى، أيام بكاء مناحة موسى، يشوع خلف موسى، الخاتمة.

<<

 

 


 

[1] In Hebr hom. 28:3.

[2] Gerhard von Rad: Deutronomy, 1966, p. 105-107; studies im Deutronomy` 1953, p. 15-16.

[3] Pulpit Commentary

[4] QS 1:16.

[5] QS 10:10.

[6] QS 1:18ff.

[7] J.A. Thompson: Deuteronomy (Tyndale O.T. Commentaires), 1974, p. 11.

[8] Grhard von Rad: The Problem of the Hexateuch and On the Essays, 1966, p. 27-33.

[9] V. Korosec: Hethitische Staatvertrage, 1931.

[10] D. J. McCarthy: Treaty and Covenant Analcta Biblica, 21, 1963, p. 131 ff.

[11] Moshe Weinfield: Deuteronomy and the Deuteronomic School, 1972.

[12] S. R. Driver: A Critical and Exegetical Commentary on Deuteronomy, 1902, p. Ixxviii-Ixxxiv.

[13] J. Vernon McGee: Deuteronomy, 1991, p. viii.

[14] Ibid.

[15] Cf: The Pulpit Commentary, Deuteronomy.

[16] Josephus: Antiq. 4:8,22.

[17] راجع للمؤلف: الخروج، ص 9.

[18] راجع للمؤلف: الخروج، ص 213، 214.

[19] راجع  للمؤلف المزمور 119: غِنى كلمة الله ولذتها.

[20] راجع  للمؤلف المزمور 119: غنى كلمة الله ولذتها.

[21] Discourse 22.

[22] In Defence of His Flight to Pontus, 77.

[23] Adam Clarke, Deuteronomy, 1.

[24] راجع سفر  العدد، 1995م، أرض مصر 226.

[25] للمؤلف: سفر العدد، 1995م، ص225.

[26] Barnes’ Notes.

[27] Origen: In Num.

[28] In N um. Hom. 13.

[29] In 1 Cor. hom. 1:4.

[30] J. Vernon McGee: Deutronomy, p. 15,16.

[31] Adam Clarke, Deuteronomy, 1.

[32] Barnes’ Notes.

[33] Matthew Henry Commentary

[34] Adam Clarke Commentary.

[35] Adam Clarke Commentary.

[36] Adam Clarke Commentary.

[37] Barnes’ Notes.

[38] Adam Clarke Commentary

[39] Contra Gentes, 45.

[40] On Exodus, homily, 8:4.

[41] On Ps. Homily, 57.

[42] Paschal Epistles, 4:3.

[43] St. Gregory of Nazianzus: On Pentecost, 12.

[44] St. Ambrose: The Duties of the Clergy, Book 3, 18(105).

[45] St. Ambrose: The Duty of the Clergy, Book 1:14:164,165.

[46] St. Augustine: Confessions 5:30:4.

[47]  للمؤلف: الإنجيل بحسب متى، 1983 – ص343.

[48] Letter 123 to Agruchia.

[49] So-called Second Letter of Clement 3:4.

[50] Fr. Caesarius of Arles: Sermons 100,100a.

[51] Sermon 100:1.

[52] Sermon 100:2.

[53] Sermon 100:3.

[54] Sermon 100:4.

[55] Sermon 100:5.

[56] St. Augustine: On the Gospel of St. John, trac. 41:2.

[57] See In John, hom. 56.

[58] راجع تفسير اللاويين، اصحاح 23.

[59] للمؤلف: المسيح في سرّ الافخارستيا، 1973، أرض مصر 125.

[60] City of God, 22:30.

[61] St. Basil the Great: Letters 46:1.

[62] Letters to the Fallen Theodore 1:15.

[63] St. Ambrose, Letter 63:41,42.

[64] St. Ambrose: Duties of the Clergy, Book 1, ch. 2 (7).

[65] St. Ambrose: The Christian Fait, Book .1,3 (23).

[66] St. Ambrose: The Christian Fait, Book 3, 12 (102).

[67] St. Ambrose: Duties of the Clergy, Book 2, 50 (262).

[68] St. Ambrose: Concerning Virginity, Book 2:6 (40).

[69] Exegetic homilies, hom. 17.

[70] On the Making of Man, 8:5.

[71] St. Augustine: On Ps. 6.

[72] Exegetic Homilies, hom. 17.

[73] Concerning the Statues, hom. 6:18.

[74] Paschal Epistles, 11:6

[75] A Preliminary Discourse Against the Eunomians, 5.

[76] In Acts, hom. 16.

[77] In Acts. hom. 27.

[78] Concerning the Statues, hom. 17:2.

[79] See Adam Clarke Commentary.

[80] Apologia De Fuga, 25.

[81] St. Augustine: On Ps. 91 (90).

[82] St. Augustine: On Ps. 81.

[83] Adam Clorke Comm.

[84] In John hom. 14:2.

[85] St. Ambrose: Letter 50:26.

[86] Discourses Against the Arians, 4:26.

[87] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tract. 43:5.

[88] St. Ambrose: The Duties of the Clergy, Book X, 17 (92).

[89] Ladder, step 14.

[90] St. Jerome: Against Jovinianus, Book 2:15.

[91] St. Jerome: Ep. 22:10.

[92] St. Jerome: Letter 130:10.

[93] Epistle 7:5.

[94] St. Jerome: Letter 69:6.

[95] In Ephes. Hom. 23.

[96] Matthew Henry Commentary.

[97] Hom. 2, On Our Lord 1:17.

[98] St. Augustine: On Ps. 8.

[99] الحب الرعوي، 1965، ص147.

[100] المرجع السابق، ص160.

[101] المرجع السابق، ص164.

[102] Origen: Commentary on Matthew, 41.

[103] Sermons 159:6.

[104] In 2 Cor. hom. 30:4.

[105] Comm. On Canticle , sermon 4.

[106] In 1 Tim. Hom. 16.

[107] Book of Perfection, 2.

[108] In Eph. Hom., 17.

[109] See St. Gregory of Nyssa: Against Eunomius, Book 2: 13.

[110] Ancient Christian Comm. On Scripture, Mark, p. 21.

[111] Sermons on the N.T. Lessons. 40:8.

[112] On the Gospel of St. John, 6:21.

[113] On the Psalms, 50:2.

[114] To the Bishops of Egypt, 3.

[115] St. Jerome: Letters 46:2

[116] راجع للمؤلف: المسيحي والعبور إلى السماء، 1998، ص19- 20.

[117] In Matt. hom., 19:7.

[118] In Matt. hom., 22:4.

[119] On Prayer 26:1.

[120] Morals on Job 7:9,10.

[121] De Principiis 2:6:3.

[122] Adam Clarke Commentary.

[123] Comm. On th Gospels.

[124] Sermons, 234.

[125] Cf. Paschal Letters, 1:7f.

[126] St. Basil: On the Spirit, 62.

[127] Matthew Henry Commentary.

[128] منشورات النور: مجموعة الشرع الكنسي، لبنان 1975م، ص865.

[129] Sermon 54:3.

[130] Comm. On Matthew, 32.

[131] Commentary on Matthew, 42.

[132] St. Augustine: On Ps. 5.

[133] St. Augustine: On Ps. 6.

[134] On Ps. 6:1.

[135]  2 Apology, 12. راجع للمؤلف: عطية الموت، 1998.

[136] Boniface Ramsey: Beginning to Read the Fathers, p. 218.

[137] In Ephes. hom. 1.

[138] راجع تفسير اللاويين، اصحاح 11.

[139] In Ps. Hom. 1.

[140] In John, hom, 18:4.

[141] Ep. Of Barnabas 10:11,12; St. Clement of Alexandria: Paedag. 3:11; St. Irenaeus: Adv.

[142] Origen: In Lev. Hom. 7:6.

[143] St. Jerome: On Ps. hom. 23.

[144] St. Clement of Alexandria: Stromata 5:8; Paedagogus 3:11.

[145] St. Irenaeus: Adv. Haer. 5:8:4.

[146] Disputation with Manes, 42.

[147] Letters 34:2-4

[148] Adam Clarke Commentary.

[149] J. Vernon MeGee: Deuteronomy, ch. 15.

[150] Homilies on Genesis, hom. 55.

[151] St. Jerome: The Perpetual Virginity of Blessed Mary, 10.

[152] St. Jerome: Letter 107:7.

[153] للمؤلف: من تفسير وتأمُّلات الآباء الأوَّلين: الخروج، أصحاح 21.

Nelson's Illustrated Bible Dictionary, article Slave, Slavery,

New Unger's Bible Dictionary, Moody Press of Chicago, Illinois, article Service,

International Standard Bible Encyclopaedia, article Slave, Slavery,

R. H. Barrow, Slavery in the Roman Empire (1928),

I. Mendelsohn, Slavery in the Ancient Near East (1949),

W. L. Westermann, The Slave Systems of Greek and Roman Antiquity (1955),

M. I. Finley, ed., Slavery in Classical Antiquity (1960),

 J. Vogt, Ancient Slavery and the Idea of Man (1974),

N. Turner, Christian Words (1980), p. 389-90.

[154] القمص شنودة السرياني (نيافة الأنبا يوأنس): الكنيسة المسيحيَّة في عصر الرسل، 1971م، صفحة 41).

Schaff: History of the Christian Church, vol. 1, p. 445-6.

[155] Josephus: Antiq. 12:2:2-3.

[156] The New Westminster Dictionary of the Bible, p. 889.

[157] J. Hastings: Dictionary of the Apostolic Church, 1954, vol. 2, p. 509.

[158] Council of Gangra Canon 3.

[159] Fr. Tadros Malaty: The Coptic Church “Church of Alexandria,” Melbourne, 1975, p. 77.

[160] Frend: Martyrdom and Persecution in the Early Church, 1965, p. 297.

[161]  قوانين الرسل القدِّيسين 4، 7، 46.

[162]  فصل 4، (راجع للمؤلِّف: قانون الإيمان للرسل والديداكيَّة ص 36).

[163] Paedagogus 3:12.

[164] Lactantus: Instit. 5:16.

[165] Epistl. ad Polycar. 4.

[166] De Civ. Dei. 19:15.

[167] In Cor., hom. 40.

[168] In 1 Cor. hom 40:5.

[169] In Matt. hom 63:4.

[170] In 1 Cor. hom. 40:5, in Eph. hom 22:2.

[171] De rebus suis 80-82.

[172] De Spiritu Sancto 20:51.

[173] De Beatitudinibus,1.

[174] De Oratione Dominica, 5.

[175] Ibid.

[176] Ibid.

[177] De Beatitudinibus, 3.

[178] Contra Eunomium, 1:35.

[179] Antirrheticus adversus Apollinaruim, 23.

[180] De Hominis Oplficio 16:14 PG. 44:185 A. 

[181] De Beatitudinibus, 8.

[182] In Eccles. Hom. 4.

[183] Ibid.

[184] Ibid.

[185] Ibid.

[186] Ibid.

[187] Ibid.

[188] Ibid.

[189] In Sanctum Pascha. 

[190] Contra Usurarios.

[191] De Morstuis.

[192] Paschal Letters, 19:1.

[193] Paschal Letters, 6:1.

[194] Joseph Parker: The People’s Bible, vol. 4, Deuteronomy 16:11.

[195] Sermon 13.

[196] St. Jerome: On Ps. hom. 61.

[197] J.A. Thompson: Deuteronomy, 1973, p. 201,202.

[198] J. Vernon McGee: Deuteronomy, ch 17.

[199] St. Jerome: Letter 14:8.

[200] St. Augustine: Letter 48:2.

[201] للمؤلف: الحب الرعوي، 1965، ص230.

[202] المرجع السابق، ص230،231.

[203] المرجع السابق، ص233.

[204] On Ps. 33 (32).

[205] On Ps. hom. 9.

[206] On Ps. hom. 56.

[207] Antiqu. 4:4:4.

[208] De Praemiis Sacerdot.

[209] Cf. St. Jerome: Letter 6:1,2 PL 22:608-9; Commmen. On Melach. 2:3,4 PL 25:1554-5.

[210] Cf. St. Jeromeon Mark 11:1-10, hom. 81 (VII).

[211] Adam Clarke Commentary.

[212] In John, hom. 14:2.

[213] St. Jerome: Against the Pelagians, Book 1,14.

[214] Life of Moses, 6.

[215] Life of Moses, 6.

[216] Life of Moses, 7.

[217] Life of Moses, 8.

[218] Life of Moses, 9.

[219] Life of Moses, 10.

[220] Commentary on Galat.2.

[221] In John, hom. 16.

[222] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tract. 15:23.

[223] Adam Clarke Commentary.

[224] راجع كتاب "الكنيسة تحبك" ترجمة المؤلف.

[225] In 1 Tim. Hom. 15.

[226] St. Augustine: Ps. 56.

[227] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tract. 36:10.

[228] Pulpit Commentary, Deuteronomy, p. 331.

[229] St. John Cassian: Institutions, 12:17.

[230] راجع تفسير المزامير، مز 18.

[231] The Beatitudes, Sermon 2.

[232] On Ps 17 (18).

[233] Chapters on Prayer, 135.

[234] Josephus: Antiq. 4:8:16.

[235] St. Jerome: Letter 70:2.

[236] Paedagogos 1:5.

[237] راجع تفسير اللاويين، ص208-209.

[238] In Lev. Hom. 11:2.

[239] De Incarnatione Verbi Dei, 25:1-2.

[240] St. Augustine: On Ps. 38.

[241] St. Jerome: Against the Pelagians, Book 1:30.

[242] The People’s Bible, vol. 4, p. 305.

[243] In Matt. Hom. 15:15.

[244] In 1 Cor. hom. 26:4.

[245] Laws 8:839 A.

[246] Laws 8:841 D.

[247] Laws 8:839 A.

[248] Laws 8:841 D.

[249] Paedagogos 2:10:91: David G. Hunter: Marriage in the Early Church, Minneapolis, 1992,

[250] St. Jerome: The Perpetual Virginity of Blessed Mary, 4.

[251] راجع تفسير "دانيال"، ص19.

[252] See The Last Farewell, 17.

[253] Herod. 1:99.

[254] Biblioth. Rab of Bartolocei, vol 4, p. 4450 (Adam Clarke Commentary).

[255] cf In Matt. hom. 17.

[256] Mishna: Gittin, 9:10.

[257] Lightfoot, Hor. Heb. Et Talm, on Matt. 5:31, opptom 2:290 (Pulpit Commentary, Deut., p. 381).

[258] Wsther 9:13,14; Herod. 3:118,119p Ammian: Marcell 23:6; Curtius 6:11.20 etc. Pulpit: Deut., p. 382.

[259] Pulpit Comm., Deuteronomy, p. 394.

[260] LXXl Hiseohus: Antiq. 4:8,23, Matt. 25; Maimon: In Jibbum 2:6-9.

[261] Talmud, Jebam, 106, Maimon, In Jibbum 4:6-8.

[262] St. Ambrose: The Christian Faith, Book 3, 10 (71).

[263] Cassian: Conferences 21:22.

[264] In Defense of His Flight to Pontus.

[265] Eratos th, 31:12.

[266] Polluk 10:97.

[267] De Legg. 11., p. 916E.

[268] Hist. 24:4,12, 26:1,4.

[269] Thomson: Land and the Book, ii, p. 204.

[270] Pulpit Commentary, Deuteronomy, p. 419.

[271] On the Death of His Father, 10.

[272] Talmud Bab. Sotah, c.7; Targum Hierosp in lot; Surenhus, mishna, 3:262.

[273] Commentary on Galat. 3:13.

[274] In Hebr.  hom. 14:6.

[275] Life of Moses 287-290.

[276] Josephus: Wars of the Jews, Book 5:10:3; 6:3:3,4; 6:6:2.

[277] Paschal Letters 7.

[278] In Matt. hom. 2:10.

[279] Caes. Hisp. 30; cf Matt. 24:28.

[280] De Incarnatione Verbi Dei, 35:2.

[281] Paschal Letters, 10:5.

[282] Josephus. De Bell, Jud. 6:9:2; Philo: Flace and Leg. Ad Laium.

[283] In Hebr. hom. 31:1.

[284] Contra Gentes, 30:1-2.

[285] St. Gregory of Nyssa: On Virginity, ch, 23.

[286] Origen: On Prayer 25:1.

[287] Sermon 150:2.

[288] Sermon 151:5.

[289] Matthew Henry Commentary.

[290] Adam Clarke Commentary.

[291] للمؤلف: نشيد الأناشيد 1980 ص10.

[292] In Heb. Hom 23:8.

[293] Stromata 4:26.

[294] On Ps. hom. 73.

[295] Sermon 1:6.

[296] Discourses Against the Arians, 2:6.

[297] In Matt. hom. 54.

[298] On Ps. hom. 61.

[299] Commentary on Canticle, hom. 1.

[300] On Ps. 17 (16):8.

[301] Commentary on Canticle, 15.

[302] On Ps. hom. 68.

[303] Life of Moses, 268.

[304] In 1 Cor. hom. 39.

[305] In Hebr. hom. 33:8

[306] On Ps. hom. 51.

[307] In Rom. hom. 18.

[308] St. Gregory of Nyssa: Answer to Eunomius’ Second Book.

[309] Sermons on Cant. 4.

[310] Comm. On Cant. 3:8.

[311] St. Augustine: On Ps. 102.

[312] St. Augustine: On Ps. 51.

[313] On Ps. 114:7.

[314] St. Augustine: Letter 219:2.

[315] Discourses Against the Arians, 1:36; 2:10.

[316] Defense of His Flight, 18.

[317] St. Ambrose: Letter 41:19,20.

[318] المؤلف: إشعياء، 1988، ص19-21.

[319] St. Jerome: Letter 109:1.

[320] St. Jerome: Letter 60:6.

[321] Life of Moses, 314-317.

[322] Life of Moses, 318.

[323] Sermons on N.T. Lessons 39:2.

[324] In Num. Hom. 3.

 

الصفحة الرئيسية