يشوع
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
إذ نقف بكل إجلال وتقدير أمام العظيم في الأنبياء، موسى مستلم الناموس، وأول قائد لشعب الله، الذي أخرجهم من عبودية فرعون القاسية بذراع قوية ويدّ رفيعة، ولكنه كممثل للناموس عجز عن أن يدخل بهم إلى أرض الموعد، لينعموا بمدينة الملك العظيم أورشليم، ويقيموا هيكل الرب. كان لابد أن يجتاز بهم البرية، ولكنه يقف عند حافة نهر الأردن، على جبل موآب، ينظر أرض الميعاد من بعيد دون أن يدخلها، حتى يظهر القائد الجديد يشوع كممثل يسوع ربنا القادر وحده أن يحقق ما عجز عنه الناموس، فيدخل بنا إلى الميراث، وبه تتحقق المواعيد التي طال إنتظار البشرية لها.
خلال هذه النظرة الإنجيلية نرى في سفر يشوع إنجيلاً مفتوحًا، يستمد قوته من عمل ربنا يسوع المسيح الخلاصي، وفي نفس الوقت يكشف أسرار العهد الجديد ويبرزها بغنى فائق.
ليت إلهنا الصالح يسوع يستخدم هذا العمل ليدفعنا خلاله للاشتياق نحو التمتع بميراثنا الأبدي فيه، خلال عمل روحه القدوس الناري.
القمص تادرس يعقوب ملطي
- مقدمة |
|
- الفصل الثاني الأصحاحات [13- 19] |
|
الأصحاح الثالث عشر (التقسيم) |
|
|
الأصحاح الرابع عشر (نصيب كالب) |
|
- الفصل الأول الأصحاحات [1 - 12] |
|
الأصحاح الخامس عشر (نصيب يهوذا) |
الأصحاح الأول (الله هـو العـامل) |
|
الأصحاح السادس عشر (نصيب أفرايم) |
الأصحاح الثاني (الإيمـان العـامل) |
|
الأصحاح السابع عشر (نصيب منسي) |
الأصحاح الثالث (إمكانية المعمودية) |
|
الأصحاح الثامن عشر (نصيب بنيامين) |
الأصحاح الرابع (حجارة نهر الأردن) |
|
الأصحاح التاسع عشر (أنصبة بقية الأسباط) |
الأصحاح الخامس (الاستعداد للحرب الروحية) |
|
- الفصل الثالث الأصحاحات [20- 22] |
الأصحاح السادس (سقوط أريحا) |
|
الأصحاح العشرون (مدن الملجأ) |
الأصحاح السابع (الهزيمة في عاي) |
|
الأصحاح الحادي والعشرون (مدن اللاويين) |
الأصحاح الثامن (الاستيلاء على عاي) |
|
الأصحاح الثاني والعشرون (مذبح بلا ذبيحة) |
الأصحاح التاسع (حيلة بني جبعون) |
|
- الفصل الرابع الأصحاحان [23-24] |
الأصحاح العاشر (ضرب الخمس مُلوك) |
|
الأصحاح الثالث والعشرون (تسليم الوديعة) |
الأصحاح الحادي عشر (المؤامرة الكبرى) |
|
الأصحاح الرابع والعشرون (حجر الشهادة) |
الأصحاح الثاني عشر حدود (أرض الميراث) |
|
|
أولاً: شخص يشوع
لكي نتفهم سفر يشوع يليق بنا أن نتلمس شخصية يشوع بن نون، خاصة في فتـرة التصاقه بموسى النبي، قبل استلامه قيادة الشعب ليدخل بهم إلى أرض الموعد المقدسة... وإن كنا قد سبق فتعرضنا لها أثناء دراستنا لسفر الخروج والعدد.
"يشوع" كلمة عبرية تعني "يهوه هو الخلاص"، أو "الله مخلص". إسمه في الأصل "هوشع" (عد 13: 8)، أو "يهوشوع" (1 أي 7: 27).
لما كان اسم "يشوع" هو بعينه "يسوع" في العبرية، لذلك أضفى هذا الاسم على السفر جاذبية خاصة، بكونه يمثل رمزيًا شخص يسوع كمخلص البشرية وأعماله معنا، مما جعل الآباء يسجلون في تأملاتهم كل كلمة وكل تصرف ورد في السفر بكونه رمزًا لعمل يسوع المسيح لخلاصنا.
إن اسم "يسوع" كما يقول الرسول بولس يفوق كل اسم، أُعطي لكلمة الله المتجسد "لكي تجثوا باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض" ( في 2: 9-10)... ولما كان يشوع بن نون هو أول من حمل هذا الإسم، فإن هذا لم يتم مصادفة ولا بدون هدف، إنما ليُعلن عمل ربنا يسوع المسيح القيادي حيث يدخل بنا إلى أورشليم العليا، بعد أن يعبر بنا في الأردن، لننعم بالأرض الجديدة، ونتناول الحنطة الجديدة، ونتعبد في هيكل الرب بطقس تعبدي فائق.
يقول العلامة أوريجانوس [إن أحدًا من الأجيال القديمة الأولى لم يحمل هذا الاسم سوى يشوع بن نون. حقًا إن هابيل بميلاده "أُبتدئ يدعى باسم الرب" (تك 4: 26)، لكنه لم يتأهل لنوال الاسم. ونوح تأهل وحده في كل جيله أن ينال نعمة في عيني الله (تك 6: 8-9) ومع هذا لم ينعم بالاسم. حتى إبراهيم الذي وُعد بنوال العهد، وإسحق ابن الموعد، ويعقوب مختلس البركة (تك 28: 36). وموسى الآمين في كل بيت الله (عد 12: 7، عب 3: 2)، هؤلاء جميعًا لم يستحق أحدهم التمتع بهذا الشرف[1]].
يشوع بن نون، من سبط إفرايم، وُلد في مصر، وخرج مع موسى النبي إلى البرية، وتتلمذ على يديه، ولكننا لم نسمع عنه في الكتاب المقدس إلاَّ في معركة رفيديم حيث عينه موسى النبي كقائد للشعب في المعركة الأولى بعد الخروج وكانت ضد عماليق (17: 9)، وكان عمره آنئذ حوالي 44 عامًا.
في دراستنا لسفر الخروج تعرضنا لهذه المعركة، وما تحمله من رموز[2]، ولكنني ما أريد تأكيده هنا هو أن ذكر يشوع أولاً في هذه المعركة كبداية تعارف معه إنما يحمل فهمًا خاصًا يود الوحي الإلهي تقديمه. لقد قيل: "وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم، فقال موسى ليشوع: انتخب لنا رجالاً وأخرج حارب عماليق، وغدًا أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي، ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق" (خر 17: 8-10). لعل الوحي أراد تأكيد أن لقاءنا مع مع رب المجد يسوع إنما يكون أولاً خلال معركة الصليب، خلالها ينتخب مؤمنيه كرجال أقوياء يحاربون إبليس وكل جنوده، فينعمون به على النصرة الروحية ضد قوات الظلمة. إننا في تعرفنا على يسوعنا الحيّ سواء في البشارة بتجسده أو ميلاده أو ختانه أو صومه أو تجربته أو عماده أو خدمته إلخ... إنما نراه خلال الصليب.
إننا نلتقي بيشوع بن نون لأول مرة كقائد جيش غالب، أما سرّ غلبته فهو حمله اسم "يشوع" غالب الشيطان. يقول الأب لكتانتيوس: [لقد أُختير قائدًا للجيش ضد عماليق المهاجم لبني إسرائيل، لكي يغلب العدو خلال رمز اسمه. ويقود الشعب إلى أرض الميعاد[3]].
لماذا طلب موسى من يشوع أن ينتخب رجالاً ويحارب عماليق؟ قلنا أن موسى يمثل الناموس، ويشوع يمثل يسوع المسيح واهب النعمة، وكما يقول الإنجيلي: "لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1: 17). كأن الناموس ممثلاً في موسى قد كشف عن عماليق العدو العنيف وأوضح خطورة الموقف، لهذا صرخ ليسوع المسيح القادر وحده أن يختار رجالاً روحيين يهبهم إمكانية النصرة. كشف الناموس عن عماليق الحقيقي، كقول الرسول: "لم أعرف الخطية إلاَّ بالناموس فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته" (رو 7: 7)، لكنه لم يقدر أن ينزعها، لذا قدمني ليسوع غالب الخطية، كقول الرسول نفسه: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). وكأن عمل الناموس مزدوج: الكشف عن خطورة المعركة مع عماليق (الخطية)، والإعلان عن الحاجة إلى يسوع كقائد للمعركة الروحية وواهب الغلبة.
يعلق العلامة أوريجانوس على هذا النص الكتابي (خر 17: 8-10)، قائلاً: [اعترف موسى بعدم قدرته على تحريك الجيش. إعترف بعجزه عن قيادته، ومع أنه هو الذي صنع الخروج من أرض مصر (خر 32: 11). لهذا يقول الكتاب أنه نادى يشوع وقال له: "انتخب لنا رجالاً وأخرج"، تُرى على من وقعت مسئولية محارية عماليق؟![4]].
يا لها من صورة رمزية رائعة، إذ يقول موسى ليشوع: "انتخب لنا رجالاً وأخرج". وكأنه صوت الناموس الموسوي الذ هيأ الطريق للمخلص، وها هو يصرخ إليه، سائلاً إياه أن يختار مؤمنيه كرجال ناضجين (1 كو 16: 3)، ليس فيهم عجز الطفولة ولا تدليل النساء[5]. يخرجون إلى الحرب الروحية معه و به، ذاك الذي بتجسده وإخلائه ذاته خرج إلينا لكي يغلب بالنيابة عنا، باسمنا ولحسابنا. لقد رآه يوحنا الحبيب: "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2). لقد خرج في طاعة للآب محب البشر حتى الموت (في 2: 8)، ومن أجل محبته ليّ (غل 2: 20). ليحمل الموت عن كل واحدٍ منا، مصارعًا عماليق الحقيقي!
في دراستنا لسفر العدد تحدثنا عن يشوع كجاسوس مختار عن سبطه، قدم لنا هو وكالب رفيقه تقريرًا صحيحًا عن أرض الموعد، ينبع عن إيمانها بمواعيد الله الصادقة. رأينا ضرورة التحام يشوع بكالب (قلب) كعلامة التقاء إيماننا بيسوع كمخلص بإخلاص القلب وقداسته لنوال المواعيد الإلهية[6].
يقول الكتاب: "فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله" (خر 24: 13). فإن كان موسى يُشير إلى الناموس العاجز عن تقديم الخلاص كيف يمكن أن يُقال عن يشوع وهو رمز ليسوع المسيح أنه خادم موسى؟
يوضح العلامة أوريجانوس مفهموم كلمة (خادم) هنا، قائلاً: [كيف كان يخدمه؟ ليس كتابع له، أو كمن هو أقل منه، وإنما كمعين وحامي له[7]].
كيف يحسب يسوع المسيح ربنا خادمًا أو معينًا له. لقد حقق الناموس ما كان يهدف إليه، وقد عجز عن تحقيقه، ألا وهو خلاص البشرية. لقد كشف الناموس الداء لكنه لم يقدر أن يقدم العلاج سوى أن يسلمنا إلى السيد المسيح كطبيب حقيقي للنفس. أو بمعنى آخر، ما قد فعله الناموس هو أنه أعلن حكم الموت علينا مؤكدًا ضرورة اعدامنا، كالقائد الذي يضع طاقية الإعدام على المجرم فينتظر الكل تنفيذ الحكم، فالناموس دان الخطية فينا، فصرنا جميعًا تحت لعنة الناموس، عوض التمتع بالخلاص تأكدت اللعنة وصرنا تحت حكم الموت. لهذا جاء ربنا يسوع المسيح لينزع "طاقية الإعدام" ويبدد سلطان الموت لا بالكلام والأوامر إنما بالحب العملي، فحمل جسدنا ليقبل الموت فيه، ويحمل دينونتنا في جسده، هذا الذي لا يقدر الموت أن يحبسه ولا الإدانة أن تثبت عليه، فيقوم ليقيمنا في جسده أبرارًا، لا تقدر بعد اللعنة أن تملك علينا. لهذا يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غل 3: 13). كما يقول: "لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه في ما كان ضعيفًا بالجسد فالله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو 8: 3). وكأن السيد المسيح قد حقق مقاصد الناموس، أي خلاصنا، بحمله الدينونة في جسده محررًا إيانا من الحكم. لقد صارت تحت الناموس لكي يحررنا نحن من حرفيته القاتلة. يقول العلامة أوريجانوس: [ربما تسأل: كيف أن يسوع ابن الله، كان خادمًا لموسى؟ لأنه عندما "جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس" (غل 4: 4) [8]].
يتحدث البابا كيرلس الكبير عن كيفية خضوع السيد المسيح للناموس لكي يفتدينا من لعنته، قائلاً: [الآن نجده مطيعًا لناموس موسى، وبعبارة أخرى نجد الله المشّرع ينفذ القانون الذي شاء فسّنه! أو كما يقول الحكيم بولس: "لما كنا قاصرين كنا مستعبدين تحت أركان العالم، ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غل 4: 3-5). وكيف افتدانا؟... بحفظه وصايا الناموس. وبعبارة أخرى، أطاع المسيح الفادي عوضًا عنا الله الآب طاعة تامة. كما هو مكتوب: "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا" (رو 5: 19). سّلم المسيح نفسه للناموس أسوة بنا، لأنه يليق به أن يكمل كل برّ، واتخذ صورة عبد، وأصبح واحدًا منا، نحن الذين بطبيعتنا تحت نير الناموس، بل دفع نصف الشاقل، وهو المقدار الذي فرضته الحكومة الرومانية على أفراد الشعب... فإذا رأيت المسيح يُطيع الناموس فلا تتألم ولا تضع المسيح الحرّ في زمرة العبيد الأرقاء، بل فكر في عمق السرّ العظيم، سرّ الفداء والخلاص[9]].
أعلن موسى النبي إقامة يشوع خلفًا له في حضرة ألعازر رئيس الكهنة وقدام كل الجماعة (عد 27: 18-23). وكأن الناموس يُعلن لشعب الله خلال العمل الكهنوتي الحاجة إلى يسوع كقائد جديد يدخل بهم إلى الميراث الأبدي.
كان لابد أن يموت موسى (يش 1: 2). ليتسلم يشوع القيادة، فإن كانت النفس قد ارتبطت بالناموس الموسوي كرجلها فلا يمكن لها أن ترتبط بيسوع إلاَّ بعد موت الرجل الأول. يقول الرسول بولس: "أم تجهلون أيها الأخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس، أن الناموس يسود على الإنسان مادام حيًا، فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحيّ، ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل. فإذًا مادام الرجل حيًا تُدعى زانية إن صارت لرجل آخر. إذًا يا إخوتي أنتم أيضًا قد متم للناموس بجسد المسيح لكي تصيروا لآخر للذي أُقيم من الأموات لنثمر لله." (رو 7: 1-4).
ويقول العلامة أوريجانوس: [كان يلزم أن يموت الناموس حتى لا يُتهم المؤمنون بالزنا[10]]. كما يقول: [إن لم نفهم كيف يموت موسى لن نقدر أن نفهم كيف يملك يسوع. إن كنت ترى أورشليم قد تهدمت والمذبح زال، فلا تنظر تقدمات أو الذبائح أو إراقة دم ولا كهنة ولا أحبارًا ولا طقوسًا دينية (يهودية)، إن رأيت هذا كله قد توقف فقل إن موسى عبد الرب مات (يش 1: 2). إن وجدت أنه ليس أحد يأتي "ثلاثة مرات سنويًا أمام وجه الرب" (خر 23: 17، 22)، ولا من يقدم عطايا في الهيكل، ولا من يذبح فصحًا ولا من يأكل فطيرًا أو يقدم بكورًا أو يقدس الأبكار (خر 22: 28)... قل "موسى عبد الرب مات". لكنك إذ ترى الأمم يدخلون الإيمان والكنائس تُقام والمذابح غير المغطاة بدم حيوانات بل مقدسة بدم المسيح الكريم (1 بط 1: 19)... فقل إن يشوع احتل مركز موسى ونال الرئاسة، لكن ليس يشوع بن نون، بل يسوع ابن الله. عندما نرى "المسيح فصحنا قد ذُبح" (1 كو 5: 7)، وترانا نأكل فطير الطهارة والحق (1 كو 5: 8)، وتنظر ثمر الأرض الصالحة يتضاعف في الكنيسة ثلاثين وستين ومئة (مت 13: 8-23)... عندما ترى "أبناء الله الذين كانوا متفرقين قد اجتمعوا معًا" (يو 11: 52) وترى شعب الله يقدس السبت لا بالامتناع عن أعمال الحياة اليومية وإنما بالكف عن أعمال الخطية، عندما ترى هذا كله فقل إن موسى عبد الرب مات وأن يسوع ابن الله نال الرئاسة[11]]. ويمكننا في اختصار أن نردد كلمات الأب لكتانتيوس: [لقد خلف يشوع موسى ليظهر أن الشريعة الجديدة التي تُعطى خلال يسوع المسيح تخلف الناموس القديم الذي أُعطي خلال موسى[12]].
هذا ولا يمكننا تجاهل الدور الرئيسي الذي قام به موسى النبي في تلمذته ليشوع، حتى أعتبره القديس أمبروسيوس مثلاً حيًا للتلمذة الحقيقية، إذ يقول: [حسن جدًا أن يلتصق الإنسان برجل صالح. إنه لمفيد للغاية أن يتبع الشاب رجالاً عظماء وحكماء، لأن من يعيش في صحبة الحكماء يكون هو أيضًا حكيمًا، من يرتبط بالأغبياء يُحسب غبيًا. الصداقة مع الحكماء هي عون عظيم يسندنا في تعليمنا، وبرهان أكيد على استقامتنا. فالأحداث عادة يمتثلون بسرعة بمن يلتصقون بهم]. هذه الفكرة لها أساسها في الواقع العملي، حيث ينشأ الأحداث مشابهين بمن يلتقون بهم خلال علاقات كاملة.
يشوع بن نون صار عظيمًا هكذا: لأنه كان في وحدة مع موسى! وكانت هذه الوحدة هي الوسيلة ليست فقط لتثقيفه بمعرفة الناموس وإنما أيضًا لتقديسه وناواله نعمته! فعندما كانت عظمة الرب تشرق في الخيمة خلال الحضرة الإلهية، كان يشوع في الخيمة! عندما كان موسى يتحدث مع الله كانت السحابة المقدسة تغطي يشوع (خر 24: 12 إلخ). لقد كان الكهنة والشعب يقفون أسفل الجبل بينما كان يشوع وموسى يصعدانه عند استلام الشريعة... وعندما نزل عمود السحابة وتحدث الله مع موسى وقف يشوع كخادم أمين بجانبه، ولم يخرج الشاب من الخيمة بينما وقف الشيوخ من بعيد مرتعبين.
في كل موضع كان يشوع يحتفظ بالوحدة مع القديس موسى وسط هذه الأعمال العجيبة والأسرار الرهيبة. لهذا صار في صحبته عند حديث الله معه، وخلفه في السلطة (تث 34: 9)...
جميلة هي هذه الوحدة التي قامت بين الشيخ والشاب، واحد يقدم شهادة، والآخر يعطي راحة، واحد يرشد والآخر يعطي بهجة! [13]].
لا أريد الإطالة في الحديث عن بقية حياة يشوع وأعماله، خاصة وأن ما سيرد بعد ذلك يتكلم عنه بشيء من التفصيل أثناء دراستنا للسفر نفسه، مكتفيًا هنا بوضع الخطوط العريضة حتى يسهل ربط السفر معًا.
لقد أعطى يشوع الشعب ثلاثة أيام لإعداد الزاد من أجل عبور الأردن والدخول إلى أرض الموعد (يش 1: 10-11)، وكأنه يرينا يسوع المسيح الذي يهبنا إمكانية القيامة معه (اليوم الثالث) كزاد ننعم به في حياة الأردن لنرث الحياة الجديدة، ونتمتع بالطعام الروحي الجديد.
أرسل يشوع جاسوسين على ملك أريحا، فآوتهما راحاب الكنعانية الزانية، وخبأتهما بين عيدان الكتان على السطح. إنها صورة رمزية رائعة لإرسالية تلاميذ المسيح إلى الشعب الأممي ليتقبلوا الإنجيل في حياتهم الخفية، وتستتر كلمة الكرازة بين عيدان الكتان، أي في العمل الكهنوتي (لأن الكتان رمز النقاوة، ومنه تصنع ملابس الكهنة) الذي يرتفع روحيًا على السطح.
لقد طاردهما ملك أريحا، وكأنه بالجسد الذي يشتهي ضد الروح (غل 5: 17)، فيطلب أن تنزل النفس من الأعالي (السطح) إلى الهاوية، لا تستتر ببر المسيح وأعماله الكهنوتية (عيدان الكتان).
لعل عبور نهر الأردن يمثل أحد الأعمال الرئيسية ليشوع بن نون، وقد جاء في صورة بهية خاصة إن قورن بعبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى، الأمر الذي نترك الحديث عنه إلى تفسير الأصحاح الثالث.
إن كان سفر يشوع يسميه البعض [سفر الحروب والنصرة]، فإننا نستطيع أن نلقبه بسفر "الراحة" إذ جاء فيه: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23). وحينما أراد الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين أن يقارن بين يسوع ويشوع إنما تحدث عن "الراحة". فإن يشوع دخل بالشعب إلى الراحة المؤقتة في أرض الموعد، لكن بقيت الراحة الحقيقية في شخص المسيح. الذي فيه يجد الآب راحته إذ يجدنا أولاده موضع سروره، وفيه نجد نحن أيضًا راحتنا إذ نرى الآب آبانا فاتحًا أحضانه الأبدية لنستقر فيها خلال دخولنا في المسيح يسوع ربنا.
أخيرًا أترك الحديث عن هذا القائد العظيم، يشوع رمز يسوعنا الحيّ، أثناء دراستنا للسفر، خاصة تقسيم أرض الميعاد الذي يُشير إلى تمتعنا بالميراث الأبدي بالمسيح يسوع ربنا.
ثانيًا: سفر يشوع
يؤكد التلمود اليهودي أن يشوع بن نون هو كاتب السفر، فيما عدا العبارات الخمس الأخيرة، التي غالبًا ما أضافها فينحاس بن العازر بن هرون (24: 33)، وجاء أغلب الدارسين يؤكدون أن الكاتب هو يشوع فيما عدا الفقرات التي حدثت بعد موت يشوع.
ومما يؤكد أن يشوع هو الكاتب أن السفر يسجله لنا شاهد عيان لكثير من الأحداث، فيقول: "عندما سمع جميع ملوك الأموريين الذين في عبر الأردن غربًا وجميع ملوك الكنعانيين الذين على البحر أن الرب قد يبس مياه الأردن من أمام بني إسرائيل حتى عبرنا ذابت قلوبهم" (5: 11) (راجع 5: 6)، وأن راحاب كانت حيّة أثناء كتابة السفر، إذ يقول الكاتب: "وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم" (6: 25). وإن السفر سجل قبل سليمان كما يظهر من (يش 16: 10) بمقارنته بـ (1 مل 9: 16)، ففي سفر يشـوع يذكر أن بني إفرايم لم يقدروا أن يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، بينما في ملوك الأول يذكر أن فرعون مصر أخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين فيها وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان. بل وكتب السفر قبل داود النبي إذ جاء فيه أن بني يهوذا لم يقدروا على طرد اليبوسيين من أورشليم إلى ذلك اليوم (يش 15: 63)، بينما جاء في (2 صم 5: 5-9) أن داود ضرب اليبوسيين الذين في أورشليم. سُجل السفر قبل القرن 12 ق.م حيث فيه يذكر إسم الصيدونيين (يش 13: 4-6). وقد صار "الفينيقيين" في القرن الثاني عشر بعد أن صعدت صور على صيدون؛ وقبل سنة 1200 ق.م أي قبل غزو الفلسطنيين للأرض، إذ لم يُذكر الفلسطنييون بين سكان المنطقة أيام غزو يشوع (ص 12).
أما الحوادث التي تحققت بعد يشوع فهي موته (24: 29، 30)، وغلبة كالب على حيرون (يش 15: 13، 14؛ قض 1: 20)، وعثينيئل على دبيسر (يش 15: 15- 19؛ قض 1: 11- 15)، ودان على لشم (يش 19: 47؛ قض 18)... ولعل هذه الفقرات أضافها رئيس الكهنة بعد نياحة يشوع بن نون.
عند سفح جبل موآب، وقف شعب بني إسرائيل بخيمة الاجتماع وتابوت العهد مع كهنة الرب واللاويين يتطلعون إلى أرض الموعد عبر الأردن التي طالما كانوا يترقبون نوالها، يأملون في القائد الجديد يشوع أن يعبر بهم إليها فتتحقق فيهم مواعيد الله لآبائهم حقًا لقد استطاع موسى في عهده أن ينعم بأرض جلعاد شرقي الأردن، وهي أرض تصلح لرعاية الغنم، وطلب السبطان والنصف (رأويين وجار ومنسي) أن يمتلكوها، ولكن لم يكن ممكنًا أن ينال أحد شبرًا واحدًا من الميراث سواء شرقي الأردن أو غربه في أيام موسى، بل كان يلزم أن ينتظر الكل القائد الجديد الذي وحده له حق تقديم الميراث. وكأن هذا السفر هو سفر الميراث يعلن أن بيسوع المسيح وحده ينال رجال العهدين القديم والجديد الميراث الأبدي.
يشمل هذا السفر تاريخ نحو 31 عامًا من موت موسى إلى موت أليعازر بن هرون، أي بعد موت يشوع بحوالي 6 سنوات. وبحسب التقليد الكنسي تمت هذه الأحداث حوالي عام 1450 ق.م وقد رأى البعض أن ذلك تم في حدود 1200 ق.م[14] بحجة أن بعض المستندات الأثرية تكشف عن أن هذه المنطقة كانت خاضعة لفرعون سنة 1600 ق.م وأيضًا سنة 1200 ق.م... لكن بعض الدارسين يرون أن الغزو المصري كان يتم في فترات متقطعة على مناطق محددة، فيمكن أن يكون قد حدث غزو سابق لامتلاكهم الأرض في أيام يشوع، وأن غزوًا جديدًا قد حدث على مناطق معينة بعد عصر يشوع.
في الدراسات العلمية للعهد القديم يضع بعض الدارسين هذا السفر مع أسفار موسى الخمسة كمكمل لها، حيث تسمى بالسداسيات أما في التقسيم العبري فينقسم العهد القديم إلى أسفار موسى الخمسة، وأسفار الأنبياء الأولين الذي يفتتح بهذا السفر، ثم الأنبياء المتأخرين.
ويلاحظ أن هذا السفر يبدأ بكلمة "وكان" وكأنه يربط ما بينه وبين السفر السابق "التثنية" بحرف العطف "الواو". على أي الأحوال يعتبر هذا السفر يمثل حلقة متكاملة مع الأسفار الخمسة خاصة سفري الخروج والعدد. فإن كان الخروج يمثل العبور من أرض العبودية إلى البرية متجهين نحو كنعان، فإن سفر العدد هو سفر الجهاد في البرية بقصد التمتع بالميراث. وإذ يأتي سفر يشوع يحقق غاية الخروج وغاية العدد بقصد الدخول إلى أرض الموعد وتوزيع الميراث على الأسباط. يمكننا أن نقول أن سفر يشوع هو سفر "القيامة مع المسيح" الذي لا ينفصل عن سفر الخروج الذي يمثل "صلب السيد"، ولا عن سفر العدد الذي يمثل "الجهاد"!
مركز هذا السفر بالنسبة لأسفار موسى الخمسة كمركز سفر الأعمال بالنسبة للأناجيل الأربعة. فإن كانت الأسفار الخمسة في جوهرها إنما تقدم وعود الله للآباء بمتلاك الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، وقد قدمت الشريعة الموسوية ليمارس المؤمن الطاعة لله ويتعرف على العبادة الحقة والخلاص خلال الذبيحة، فإن سفر يشوع يعتبر بحق هو بداية تاريخ الكنيسة في أرض الموعد، حيث بدأت فعلاً في نوال الميراث، وتمتعت بشيء من الاستقرار في الأرض المقدسة لتلهج في شريعة الرب وتتعبد له في هيكله المقدس وتقدم الذبيحة بغير انقطاع. إنه سفر كنيسة العهد القديم في بدء انطلاقها بعدما استقرت في كنعان لتحيا ممثلة للعبادة الحيّة وسط عالم أممي دنّسته رجاسات الوثنية. إنه يشبه سفر أعمال الرسل بكونه سفر كنيسة العهد الجديد في بدء إنطلاقها بعدما استقرت بالروح القدس في المسيح يسوع ميراثها الحق، خلاله تمارس طاعة الشريعة الجديدة التي وردت في الأناجيل الأربعة وتمارس العبادة بالروح والحق، وتقدم ذبيحة المسيح الفريدة! إنها تنعم بما حملته إلينا الأناجيل المقدس من بشارة الفرح الجديدة!
1. شمل هذا السفر أعمال بني إسرائيل في بدء حياتهم الجديدة حيث عبروا نهر الأردن واستقروا في أرض الموعد، حتى يحين الوقت لإقامة هيكل الرب الذي يقدم ظلاً للسماويات. حقًا لقد ضم هذا السفر الحروب العديدة عن دخولهم الأرض ونصرتهم على الأمم ليملكوا هناك، لكن في الحقيقة هو سفر "أمانة الله" في تحقيق مواعيده للإنسان بالرغم من عدم أمانتنا. لقد رأينا في سفري الخروج والعدد عصيان الإنسان المستمر ومقابلته عطايا الله بجحود ومرارة، واستخدم الله كل وسيلة لإعلان غضبه ليس انتقامًا لنفسه ولكن عدم قبوله كقدوس رجاساتهم وعصيانهم، وأخيرًا اضطر أن يحرم الجيل الأول كله من التمتع بالميراث عدا يشوع وكالب (عد 14: 30). ومع ذلك فبفرح حقق الله وعده مع أبنائهم، مقدمًا لهم كل ما سبق فوعد به آبائهم. إن الله يبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانتنا، ويترجى خلاصنا، وشتهي مجدنا بالرغم من جحودنا المستمر.
2. كشف لنا هذا السفر "مفهوم الخلاص"، فإن كان الله قد عبر بالشعب الأردن إنما ليملكوا مع يشوع عوض الأمم أصحاب الرجاسات. إنها بحق صورة حية لمفهوم الخلاص، ألا وهو أننا بالرب نطرد من قلبنا كل الرجاسات لنتحرر من سلطان الخطية كمن يطرد ملوكًا من مدنهم ويهدم حصونهم ويبدد جيشهم ويغتصب أرضهم، أما غاية هذا العمل فهو أن يملك يشوع الحيقيقي كملك الملوك، يملك فينا فنصير نحن به ملوكًا، وأصحاب سلطان في الرب. يعبر القديس يوحنا الدرجي عن هذا السلطان الذي يصير لنا بالرب، قائلاً: [كن متسلطًا على قلبك مثل ملك، لكنك تجلس في عمق الاتضاع! تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء العذب أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل (مت 8: 9)[15]].
الله لا يُريد أن يملك فينا لكي يستعبدنا، ولا يطلب عبادتنا كعبيد أو حتى كأجراء، ولكنه وهو يملك يجعلنا ملوكًا... يُريدنا أبناء أصحاب سلطان داخلي في النفس إنه ليس كما صوره الوجوديين يُريد أن يحطم حريتنا أو يكتم أنفاسنا.
3. أبرز هذا السفر "قداسة الله" إذ لا يطبق الخطية، ولا يقدر أن يهادنها. لقد استخدم شعبه في تأديب الوثنيين المصريين على الرجاسات المُرّة، هؤلاء الذين قال عنهم الرسول: "لأنهم لم عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات... الذين استبدلوا حق الله بالكذب، وأتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق" (رو 1: 21- 25). وفي نفس الوقت ألزم شعبه كأداة تأديب أن يكونوا مقدسين، أن انحرفوا عن قداسته سقطوا تحت التأديب ليس لمجرد عقابهم وإنما بغية تقديسهم بالعودة إلى "سرّ قداستهم".
4. يُشير هذا السفر إلى الخلاص بيسوع المسيح ربنا بدخل الإنسان إلى الحياة الجديدة تحت قيادة قائد جديد في أرض جديدة وينعم بطعام جديد. إنه سفر الميراث الذي ننعم بعربونه هنا خلال تمتعنا بالحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع، والذي وهبنا سلطانًا على قوات الشر وإمكانية طرد كل شر وشبه شر لننعم بالراحة السماوية فيه. وكأننا نقول مع الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع، ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع" (أف 2: 6).
5. إن كان هذا السفر هو "سفر الخلاص المجاني" حيث يحقق الله وعوده من أجل أمانته ولأجل اسمه الذي دعي علينا، لكنه هو سفر الطاعة لله، فلا نصرة بدون طاعة، ولا تمتع بالميراث خلال العصيان! إيماننا بنعمة الله المجانية يجب أن يلتحم بالطاعة لله، فيُعلن كإيمان حيّ عامل بالمحبة.
6. يعتبر سفر يشوع أيضًا هو سفر قبول الأمم، فإن كان لابد للشعب أن يرث كنعان بعد طرد الوثنيين، لكن الله لا يرفضهم، إنما يرفض وثنيتهم وشرهم، وحينما أعلنت راحاب الكنعانية الزانية إيمانها تمتعت وعائلتها بالخلاص، وصار لها الشرف الذي حُرم منعه كثير من العبرانيات أن من نسلها يأتي المسّيا المخلص. لقد سُجل اسمها في سلسلة نسب السيد (مت 1: 25)، الأمر الذي حُرم منه كثير حتى من أبطال الإيمان والأنبياء! الله لا يرفض إنسانًا في البشرية، بل يطلب خلاص الجميع: "يُريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4).
7. معاملات الله مع الإنسان حملت وسيلة جديدة. قبلاً كان الله يتحدث مع أولاده خلال الأحلام والرؤى وخدمة الملائكة، أما الآن فقد تسلم موسى الشريعة، لذا صار حديث الله مع شعبه خلال الوصية المسلمة أو المكتوبة. كان الوصية الرئيسية للقائد الجديد هي: "كن متشددًا وتشجع جدًا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي. لا تمل عنها يمينًا أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك..." (يش 1، 7، 8). وعندما زحف يشوع إلى أرض الموعد اختار جبل عيبال كمركز لهم في ذلك الحين، عليه بنى مذبحًا للرب وكتب على الحجارة نسخة من توراة موسى (يش 8: 32)، ثم "قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب ما كُتب في سفر التوراة، ولم تكن كلمة من كل ما أُمر بها موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأصفال والغريب السائر في وسطهم" (يش 8: 34-35).
8. بدأ سفر يشوع بموت موسى كممثل الناموس حتى يتسلم يشوع القيادة ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كما انتهى السفر بموت يشوع ليعلن أنه لا يمكن التمتع بالميراث ولا الاستقرار والراحة إلاَّ بموت ربنا يسوع عنا فنموت معه ونحيا معه وبه.
لقد أثارت الحروب المذكورة في سفر يشوع تسؤلات: أما كان يمكن الله أن يهب هذا الشعب الميراث دون إلزامهم بقتل الشعوب القاطنة هناك؟
1. أظهرت الاكتشافات الحديثة حالة المجتمع في كنعان في ذلك الحين، وصورت مدى الانحطاط الخلقي الذي بلغه الإنسان، والفساد الذي لا يُعبر عنه، فقد عبد الإنسان الإله ملوخ والإلهة عشتاروت وإلتزمت النساء بارتكاب الشر كتقدمة للآلهة مع أمور أخرى غير لائقة[16]. لقد حمل الفساد موتًا روحيًا وهلاكًا أبديًا لا يمكن أن يعبر عنه، فما صدر من حكم إلهي يحققه شعب الله لم يكن إلاَّ كشفًا عن بشاعة ثمرة الخطية وتدميرها للحياة. لقد اختارت هذه الشعوب الهلاك لنفسها بنفسها، فالله في قداسته لا يطيق الفساد ولا يقبله، وحينما يأمر بإبادته فإنه لا ينتقم لذاته وإنما يحقق ما اختاره الإنسان لنفسه.
2. ما حدث لم يكن لصالح شعب إسرائيل وحده، وإنما في الحقيقة هو لصالح البشرية عامة، فإن هذه المنطقة كانت مركزًا هامًا للتجارة، وكان التجار يحملون في أسفارهم مع معاملاتهم التجارية الفساد وكأنه "الموت الأسود" ليتحرك في كل اتجاه في العالم المعروف حينئذ[17]. لقد أراد الرب أن يعطي للبشرية درسًا، وأن يحمي العالم من هذا الوباء. هذا ومن جانب آخر إذ كان الله يعد الشعب اليهودي ليكون خميرة للعالم في الشهادة له أمر بإبادة كل فساد حولهم حتى ينشأوا في جو نقي. يقول الوحي الإلهي: "لكي لا يُعلموكم أن تعملوا جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم" (تث 20: 18).
ارتبطت شخصية يشوع بربنا يسوع المسيح بكونه الرمز الذي يسبق المرموز إليه، أم أوجه الشبه فكثيرة نذكر منها:
1. جاء يشوع بعد موسى مستلم الناموس، كرمز لربنا يسوع المسيح الذي جاء بعد الناموس يحقق ما عجز عن آدائه، يقول الرسول بولس: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن، لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها" (رو 10: 4-5). كما يقول: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئًا، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله (عب 7: 18، 9).
2. يشوع قاد الشعب قديمًا إلى النصرة كرمز لربنا يسوع المسيح واهب الغلبة على الخطية والموت وكل قوات الظلمة. يقول الرسول: "الذي نجانا من موت مثل هذا وهو يُنجي" (2 كو 1: 10)، "ولكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14).
3. إذ تعرض الشعب لغضب الله مزق يشوع ثيابه وسقط على الأرض يشفع فيهم أمام تابوت العهد حتى المساء (يش 7: 7-10)، وأيضًا إذ سقطت البشرية تحت الغضب أخلى كلمة الله ذاته ونزل إلى الأرض ليشفع فينا بدمه لدى أبيه.
وكما يقول الرسول يوحنا: "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 2).
4. قام يشوع بتقسم أرض الميراث، ويقول الرسول عن عمل المسيح فينا: "الذي فيه أيضًا نلنا نصيبًا معينين سابقًا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أف 1: 11).
لما كان سفر يشوع هو سفر الميراث حيث أعلن تحقيق مواعيد الله لشعبه بدخولهم أرض الميراث، التي هي أرض كنعان، لذلك أشعر بالضرورة تلزمني بالحديث عن هذه الأرض والشعب القاطن فيها.
كنعان هو ابن حام الرابع (تك 10: 6، 1 أي 1: 8)، قطن نسله في الأرض الواقعة غرب الأردن، والتي دعيت باسم كنعان، كما دعيت أيضًا أرض إسرائيل (1 صم 13: 19). والأرض المقدسة (زك 2: 12) وأرض الموعد (عب 11: 9) وأرض العبرانيين (تك 40: 15) نسبة إلى عابر جد إبراهيم. كان الفينيقيون والعبرانيون يعتبرون فنيقية جزءًا من كنعان، سكنها إبراهيم ووُعد بها ملكًا لنسله (تك 12: 5، 8)، ثم سكنها إسحق ويعقوب وأولاده (تك 26: 45)، ولكن يعقوب تركها بسبب المجاعة (تك 46) وذهب مع أولاده إلى مصر.
في أيام يشوع كان الكنعانيون بقبائلهم المختلفة أو شعوبهم غالبًا ما يقطنون في الوديان والمناطق الساحلية حيث يوجد الماء بصورة نسبية أوفر وأسهل مما يوجد على الجبال. كانوا يقطنون في مدن محصنة منتشرة في المناطق السهلة، كل مدينة لها ملك خاص أشبه بدويلة مستقلة، لها حكامها وأشرافها وجيشها ومشاريعها التجارية ومؤسساتها الدينية وعبيدها، ولا توجد حكومة مركزية[18].
يمكننا تقسيم الكنعانيين إلى ثلاثة فئات من الشعوب أو القبائل:
أ. قبائل مستقرة، بلغت درجة من الحضارة مثل الفينيقيين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، هؤلاء الذين صاروا من أهم تجار البحار في العالم القديم. كما توجد قبائل أخرى أصغر مستقرة في الوديان والتلال ما بين البحر الأبيض والأردن مثل الأموريين، أو شرق الأردن مثل الموآبيين وبني عمون.
ب. قبائل تُحسب نصف بدو، مثل بني آدوم وأخرى أصغر منها.
ج. قبائل بدو تمامًا، أي جماعات رحّل، مثل بني مديان والإسماعيليين وعماليق، الذين كانوا يجولون في الصحراء العربية[19].
وفيما يلي فكرة مختصرة عن بعض هذه القبائل:
هم ذرية عناق، يُشير الاسم "عنق" إلى ضخامة الجسم. يصورهم التقليد العبري كجبابرة لطول قامتهم وشدة بأسهم في الحرب (عد 13: 28، 33؛ تث 2: 10، 21؛ 6: 2). أقام ثلاثة من بني عناق في منطقة حبرون (عد 13: 32)، بينما قطن الباقي بالمدن المجاورة خلال التلال. خافهم العبرانيون قبل أن يحاربوهم، حتى حاربهم يشوع بن نون واستولى على ممتلكاتهم وقسمها بين اليهود، وأعطى حبرون لكالب بن يفئة (يش 11: 21-22؛ 14: 12، 15). وهم يحسبون من الرفائيين، وكانوا مضرب الأمثال من جهة كثرة عددهم وضخامة جسمهم (تث 2: 10)، ويظن أن جليات الجبار هو واحد منهم[20].
يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "الرفائيين" تعني "أمهات متراخيات"، بينما يراها البعض أنها تعني "أرواح الراحلين" أو "ظلال الموت. وقد استخدم هذا الاسم في العهد القديم بأكثر من معنى:
المعنى الأول: يقصد به إحدى قبائل منطقة كنعان قبل إسرائيل. سبق فضربهم كدرلعومر ملك عيلام (تك 14: 5)، وفي سفر التثنية جاء عن الرفائيين كمجموعة شعوب سابقة لإسرائيل، بعضهم سكن في أرض موآب، وقد دعاهم بني موآب بالإيميين (تث 2: 11)، والبعض كان يقطن في أرض العمونيون، وكان هؤلاء يدعونهم زمرميين (تث 2: 20)، والبعض سكن في باشان وكان عوج آخر ملوكهم (3: 13)، هذا الاتساع من توزيع الرفائيين جعل بعض الدارسين يرون أن كلمة "رفائيين" تعنى لغويًا "السالفين" وإن كان هذا التفسير مشكوك فيه، ولكن في رأيهم أن كل شعب يُقيم في منطقة يدعو الشعب السابق له بالرفائيين أي السابقين لهم[21].
المعنى الثاني: يقصد به الأموات[22] الذين في الهاوية، الذين لا يسبحون الله، ترجمت في سفر الأمثال بالأخيلة (2: 18، 21: 16) الذين بلا عمل ولا حياة[23].
المعنى الثالث: تستخدم كلمة "الرفائيين" أو "رفايم" كاسم لوادي قريب من أورشليم وبيت لحم[24]، جنوب غرب أوشليم ووادي هنوم[25]، عرف بخصوبته (أش 17: 5). أخذ اسمه عن الرفائيين الذين غالبًا ما قطنوه فترة من الزمن. يسمى حاليًا "وادي البقاع".
يرى البعض أنها مأخوذة من الكلمة الأكادية "أمر" بمعنى الأمر، أو ربما تعني "حارس أو نصير أو عميل patron"[26].
بداية تاريخهم غامض، لكنهم لعبوا دورًا همًا في منطقة الهلال الخصيب؛ تمتد منطقة نفوذهم من فلسطين إلى الصيصة. خلال الثلاثة آلاف سنة ق.م. دعى البابليون سوريا وفلسطين بأرض الأموريين. وكانت الأسرة الأولى لبابل التي أقماها Sumu-abu حوالي عام 1894 ق.م أمورية، أهم ملك فيها هو حامورابي (القرن 18/ 17 ق.م.)، انتهت هذه الأسرة عندما نهب الحويون بابل[27].
يُدرج الأموريون مع بقية الشعوب أو القبائل الكنعانية، كأبناء كنعان، وهم من نسل حام، هذا التقسيم يبدو أنه على أساس جغرافي أكثر منه أثنولوغي (علم الأخلاق والأجناس أو أصول السلالات البشرية)[28]. وفي أيام إبراهيم ظهروا بالقرب من البحر الميت في حصون تامار (تك 14: 7)، "وكان ساكنًا عند بلوطات ممرا الأموري أخي أشكول وأخي عاز، وكانوا أصحاب عهد مع إبرام" (تك 14: 13). وفي (تك 48: 22) دعيت شكيم مدينة أمورية. كان لهم مملكة في شرق فلسطين تحت حكم سيحون التي هزمها الإسرائيليون (عد 21: 21). وفي غرب فلسطين -حسب التقليد اليهودي- سكن الأموريون على الجبال بينما سكن الكنعانيون على سواحل البحر وفي وادي الأردن (عد 13: 9)، وفي سفر يشوع (10: 5) ركز الملوك الخمسة لأورشليم وحبرون ويرموت ولخيش وعجلون كملوك أموريين، غلبهم يشوع عند جبعون... وقد بقى بعض الأموريين في أرض كنعان بعد افتتاحها، وقد كانوا منتشرين على نطاق وأسع، في كل منطقة كنعان، وفي زمن صموئيل النبي صنع معهم العبرانيون صلحًا (1 صم 7: 14)، وقد استخدمهم سليمان في التسخير (1 مل 9: 20-21). هذا ويبدو أنه بسبب أهميتهم كان اسم "الأموريين" يطلق بوجه عام على كل شعب منطقة كنعان (يش 7: 7، قض 6: 10).
"جبعون" اسم عبري يعني "تل"، وهي المدينة الرئيسية للحويين من أهل كنعان، ينتمون أيضًا إلى الأموريين (2 صم 21: 2)، وكانوا يمتلكون كغيرة وبئيروت وقرية يعاريم (9: 17).
حاليًا هي قرية الجيب تقوم على قمة هضبة في شمال غرب أورشليم، على بعد حوالي 8 أميال من أورشليم، بجوار رأس وادي عجلون[29]. غير أن المدينة القديمة كانت أكثر اتساعًا وارتفاعًا عن التل المجاور الذي تقوم عليه القرية الحالية. قام J. B. Pritchard باكتشافها على أربعة فصول ابتداء من عام 1956، وقد أكدت اكتشافاته ما جاء في الكتاب المقدس عنها كمدينة ملوكية عظيمة (10: 2). وأكدت الاكتشافات أن جبعون في أيام الحكم الإسرائيلي كانت أعظم مركز لتصنيع الخمور، حتى دعوا هذه المنطقة بالمناطق الصناعية[30].
لقد صارت جبعون من نصيب بنيامين (يش 18: 25)، وقد أُعطيت هي ومسارحها لبني هارون كإحدى مدن اللاويين (يش 21: 17).
في العبرية Hawwa وتعني "قرية من الخيام" وفي العربية حواء تعني مجموعة خيامة. أحد أجناس كنعان قبل غزو العبرانيين (تك 10: 17، خر 3: 17، يش 9: 10) وقد انتشروا في مجتمعات متعددة، ولم يكونوا مختونين. سكن بعضهم في شكيم في أيام يعقوب (تك 33: 18؛ 34: 2، 14-24) وظل لسلالتهم تأثير في المدينة لأجيال عديدة بعد الغزو (قض 9: 28). والبعض سكن في جبعون وما يجاورها وقد حصلوا على عهد سلام مع يشوع (يش 9). كان لهم مقر واسع، ربما كان في سفح جبل لبنان، من جبل حرمون إلى مدخل حماة (يش 11: 3، قض 3: 3). وكانت لهم قرى يملكونها في هذه المناطق الجبلية الشمالية إلى أيام داود (2 صم 24: 7). الذين كانوا في فلسطين استخدمهم سليمان في التسخير (1 مل 9: 20- 22؛ 2 أي 8: 7).
ربما يسأل البعض إن كان الحويون كشعب لهم وجود حقيقي مستقل. في الواقع إن الحوريين Horites, Hurrians عاشوا في وسط فلسطين وسوريا في تاريخ مبكر، ويرى البعض أن لبسًا قد حدث بين الكلمتين "حويين" و "حوريين" في النص العبري. ففي سفر التكوين (26: 2) ذُكر أن صبعون حوّي، بنيما في نفس الأصحاح (36: 20، 39) أنه حوري. وجاءت كلمة "حوّي" في العبرية في (تك 34: 2) مترجمة في السبعينية "حوري"... والاحتمال القائم هو أن قسمًا من الحوريين يُعرف بالحويين، وأن كلمة "حوري" هي الأصل[31].
6. الحثيون[32]... Hittites
منذ عام 1871 عندما اكتشفت نقوش في كركميس بدأت معرفتنا بالحثيين الذين يمثلون إمبراطورية شرقية عظيمة بجوار إمبراطور بني وادي النيل ووادي دجلة والفرات، أزدهرت الإمبراطورية الخاصة بالحثيين في آسيا الصغرى ما بين 1900 ق.م، 1200 ق.م تقريبًا، ولا يُعرف على وجه التحقيق العنصر الذي ينتمي إليه الحثيون، فهناك جنس منهم يشاهد في آثار مصر له أنف كبير، ويبدو أن الأرمن الحديثين هم سلالة جماعة من الأمة.
كلمة "حثيون" تستخدم على الأقل في ثلاثة معانٍ:
أ. المواطنون الذين قطنوا في منتصف الأناضوليا. (Hattians)
ب. المواطنون الذين عاشوا حول عاصمة حاتوشاش (Nesians) أي الناسيون.
ج. الذين عاشوا في جنوب الإمبراطورية، يتحدثون بلغة محتفظ بها في الهيروغليفية.
من الناحية التاريخية يجب وضع حد فاصل يميز بين الإمبراطورية الحثية، والولايات الحثية في شمال سوريا وجنوب شرق آسيا الصغرى، وبحسب علم الحفريات، تنطبق كلمة حثيين على بقايا ثقافة شهيرة فريدة موجودة في آسيا الصغرى، شمال سوريا وشمال المصيصة Mespotamia. وبالرغم من المشابهة بين آثار حثي آسيا الصغرى، وتلك التي في شمال المصيصة وشمال سوريا (بما في ذلك منطقة طورس)، فهناك بعض العوامل التي تبين انفصالاً عامًا بين الجماعتين. ويظهر أن ثقافة الحثيين الأناضوليين قد تركزت في كبادوكية، التي تبين أوانيها الفخارية صلات نسب كثيرة لطرواده Troy.
على أي الأحوال جاء المفتاح الحقيقي لمشكلة الحثيين باكتشاف 10.000 لوحة طينية في تركيا ببوغاز كوي (موقع حتوشاش القديم)، منقوشة بحروف أشورية إسفينية أو مسمارية، وهي تمثل عددًا من اللغات: السومرية والأكادية والحثية. والنقوش على الآثار الحثية مكتوبة بالحروف الحثية الهيروغليفية، وهي تمثل اللسان الثاني في الأهمية لدى الإمبرطورية. وهي تبدو آرية "هندية أوروبية". كانت مستخدمة في الإمبراطورية الحثية من سنة 1600- 700 ق.م.
يقسم المؤرخون المحدثون تاريخهم إلى ثلاث مراحل[33]: المملكة القديمة والمملكة الحثية، الممالك الحثية الجديدة، الأمور التي يطول الحديث عنها.
جاء في العهد القديم عن الحثيين أنهم ذرية حث ثاني أبناء كنعان. ونقرأ عن إبراهيم أنه اشترى مغارة المكفيلة من عقرون الحثي (تك 23: 10-18)، وأن عيسو اتخذ إمرأتين حثيتين (تك 26: 34)، وأن العبرانيين قد تزاوجوا فيما بعد معهم (قض 3: 5-6). وكان لداود أصدقاء حثيون (1 صم 26: 6)، وتزوج بتشبع امرأة أوريا الحثي (2 صم 11: 2-27). وكان لسليمان نساء حثيات (1 مل 11: 1) وقد استخدم الحثيين في التسخير (1 مل 9: 20-22). وقد اعتبرهم العبرانيون شعبًا قويُا معروفًا، اعترفوا بأرضهم (1: 4)، يذكرونهم مع ملوك آرام (1 مل 10: 29)، ويضعونهم في مرتبة واحدة مع المصريين كدليل على عظمتهم (2 مل 7: 6).
7. اليبوسيون... Jebusites
يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "يبوس" تعني "يدوس بالأقدام"، فتحمل معنى رمزيًا لمن يدنس الشيء وينجسه بقدميه.
تظهر كلمة "يبوس" كاسم مدينة أورشليم في (قض 19: 10؛ أي 11: 4)، وإن كان بعض الدارسين يرونها تضم أيضًا الجبال المحيطة بها بينما يرى آخرون أنها تنحصر فقط في صهيون أو مدينة داود القائمة في الجبل الشرقي.
ظهر اليبوسيون كإحدى القبائل القاطنة في كنعان (تك 15: 20؛ عد 13: 29؛ تث 7: 1؛ يش 3: 10؛ قض 3: 5؛ 1 مل 9: 1؛ نح 9: 8). وهم من سلالة كنعان (تك 10: 16؛ 1 أي 1: 14)، أخضعهم يشوع لكنهم لم يتركوا أورشليم (يش 15: 63؛ قض 1: 21)، وبقوا فيها حتى أيام داود، وقد استخدمهم سليمان الملك في التسخير (1 مل 29: 21)، وبقى البعض في اليهودية إلى ما بعد رجوع السبي (عز 9: 1-2).
8. الفرزيون... Perizzites
يرى بعض الدارسين أنها تعني "أهل قرية مفتوحة"، ويرى العلامة أوريجانوس أنها تعني "الثمر الكثير".
لاحظ البعض أن الفرزيين يحصون أحيانًا وحدهم مع الكنعانيين (تك 13: 7؛ 34: 30؛ قض 1: 4) مما جعلهم ينظرون إليهم كالرفائيين من السكان الأصليين للمنطقة، عنصرهم مختلف عن الكنعانيين وأقدم منهم في البلاد. وقد أحصوا مع السبعة شعوب الذين أكد الرب على شعبه ألا يقطع معهم عهدًا أو يصاهروهم (تث 7: 2-3)، ولكنهم مع هذا صاهروهم (قض 3: 5). وقد استخدم سليمان الحكيم في التسخير (1 مل 9: 20).
9. الجرجاشيون... Girgashite
أُحصي الجرجاشيون مع القبائل الكنعانية (تك 15: 21، تث 7: 1، يش 3: 10؛ 24: 11، نح 9: 8)، وهي من القبائل التي لا نعرف عنها شيئًا.
يجب ألا نخلط بينهم وبين الجرجسيين المذكورين في العهد الجديد (مت 8: 28-33؛ مر 5: 1)، إذ لا ارتباط بينهم.
سفر يشوع وعلم الآثار...
بفضل عمليات التنقيب التي قام بها بروفيسير سيلين Prof. Sellin في منطقة أريحا وما حولها ظهر التطابق بين ما ورد في سفر يشوع والاكتشافات الأثرية[34]. يرى أن أساسات الأسوار التي بناها الكنعانيون حول مدنهم بسهولة يمكن التعرف عليها، فقد استخدموا حجارة كثيرة الأضلاع والزوايا أما الإسرائيليون فكانوا يستخدمون الحجارة المربعة الجوانب. لا تزال حطام أسوار أريحا محفوظة وبقايا منزل على السور ارتفاعه ستة أقدام قائمًا.
يقول الدكتور جون إلدر[35] أن أعمال التنقيب قد دلت على أن أريحا من أقدم المدن في العالم، وترجع أسسها إلى حوالي عام 6700 ق.م، وأن مواصفات المدينة تتفق مع (يش 2: 15) يحيط بها جداران يتصلان من أعلى بوصلات عرضية مقامة عليها منازل سكنية، والجداران الآن ساقطان على الأرض في مكانهما، وللمدينة مدخل واحد (يش 2: 5-7). ويلاحظ على الآثار أن المدينة كلها محروقة بالنار كما تُشير طبقة الرماد وبقايا الأخشاب المحترقة (يش 6: 24)، ولكن الدلائل كلها تُشير إلى أن المدينة لم تُنهب قبل إحراقها فالقمح والعدس والبصل والبلح وجد في صوامع من الطين، حتى العجين اُكتشف في أوانية لأن يشوع قد حّرم أخذ شيء من المدينة (يش 6: 17-18). أخيرًا فإن الدلائل تُشير إلى أن المدينة المحترقة قد تركت كما هي بدون بناء لعدة قرون، هذا يتفق مع لعنة يشوع (يش 6: 26، 1 مل 16: 34) وتثبت أيضًا أن خراب المدينة قد تم حوالي عام 1500 ق.م، وهذا يتفق مع تقرير الوحي.
أقسام السفر:
أولاً: الحروب الروحية والنصرة ص [1-12].
1. الاستعداد للميراث [1-5].
2. ميراث القسم الأوسط [6-8].
3. ميراث الجنوب [9-10].
4. ميراث الشمال [11-12].
ثانيًا: تقسيم الأرض [13-19].
ثالثًا: مدن اللاويين ومدن الملجأ [20-22].
رابعًا: وصايا وداعية [23-24].
الفصل الأول
الحروب الروحية والنصرة
1. الاستعداد للميراث [1-5].
2. ميراث القسم الأوسط [6-8].
3. ميراث الجنوب [9-10].
4. ميراث الشمال [11-12].
الإستعداد للميراث
قدم لنا سفر الخروج صورة حية للعبور من أرض العبودية والإنطلاق من أسر فرعون، لكن هذا العمل يبقى ناقصًا بلا نفع ما لم يدخل العابرون إلى أرض الموعد ويتمتعوا بمواعيد الله. العبور في سلبيته خروج، وفي إيجابيته دخول! هو تحرر من أسر إبليس لأجل التمتع بالدخول إلى الأحضان الإلهية في المسيح يسوع قائد العبور الروحي الحق.
وكما استلزم الخروج استعدادات طويلة ظهرت في ظهور موسى كأول قائد للشعب، وعمل الله معه في علاقته بفرعون وبالشعب، وتجلى الله في الخلاص خلال الضربات خاصة ضربة البكور التي استلزمت ذبح خروف الفصح، وانشقاق البحر الأحمر... هكذا أيضًا احتاج الدخول إلى الميراث إلى استعدادات كثيرة سجلها سفر يشوع في الأصحاحات الخمسة الأولى:
ففي الأصحاح الأول: أعلن الله أنه هو العامل الحقيقي في هذا الخلاص. هو الذي يختار يشوع، وهو الذي يسنده ويسند الشعب بكلمته واهبة الحياة، وبطعامه الروحي الذي يقدمه لهم، وأمانته في تحقيق مواعيده.
وفي الأصحاح الثاني: يبرز الجانب البشري في شخص راحاب الأممية الزانية، التي بالرغم من فقرها الشديد في التمتع بالخلاص، لكنها بالإيمان الحيّ دخلت كعضوة في الجماعة المقدسة، بل وجاء المسيّا المخلص من نسلها.
وفي الأصحاح الثالث: قدم لنا إمكانية الأردن، حيث يدخل بنا يسوع المسيح بنفسه إلى مياهه الحلوة، لنعطي للبرية ظهرنا، متأملين في الميراث الأبدي ليس كأمر غريب أو بعيد عنا!... بالمعمودية المقدسة تتحقق الاستنارة فندرك ما لا يدرك!
وفي الأصحاح الرابع: تظهر الكنيسة المختفية في مياه الأردن حيث يحمل الأسباط اثني عشر حجرًا تُمثل الكنيسة. فلا عبور للميراث الأبدي خارج الكنيسة الخفية، أي العضوية في جسد المسيح.
أخيرًا في الأصحاح الخامس: يتم الختان الثاني ويعيّد الفصح، فلا دخول للميراث بالإنسان العتيق، إنما يلزم ختان القلب ليحّل الإنسان الجديد عوض القديم. هذا كله إنما يتحقق خلال المسيح يسوع فصحنا.
في إختصار نقول إن الإمكانيات التي صارت لنا للتمتع بالميراث الأبدي هي:
1. أدراك أن الله هو العامل فينا وقائدنا الروحي (ص 1).
2. التمتع بالإيمان الحيّ العملي (راحاب الزانية ص 2).
3. التمتع بالبنوة خلال المعمودية (عبور الأردن ص 3).
4. الدخول فى العضوية الكنسية (ص 4).
5. خلع الإنسان القديم ولبس الجديد خلال الفصح الجديد (ص5 ).
الأصحاح الأول
الله هـو العـامل
"اختيار يشوع"
أُفتتح السفر بإعلان موت موسى وتسليم يشوع القيادة، وقد أبرز الوحي بكل وضوح في إعلان تسليم يشوع القيادة أن القائد الحقيقي هو الله، الذي يختار خدامه ويهبهم عونًا وحكمة، ويسندهم بشريعته "كلمته الإلهية"، ويرافقهم في كل عمل.
1. موت موسى ليملك يشوع [1-2].
2. أمانة الله في وعوده [3-5].
3. معيته للخدام [5-7].
4. شريعته كسفر للخدام [8-9].
5. الزاد الإلهي [10-11].
6. الدور الإنساني [12-18].
1. موت موسى ليملك يشوع...
"وكان بعد موت عبد الرب أن الرب كلّم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات، فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل" [1-2].
الله الذي سبق فاختار موسى لقيادة الشعب بالانطلاق به من أرض العبودية إلى جبل سيناء حتى يتسلم الشريعة الإلهية كمرشد ومعين وسط برية هذا العالم، مؤكدًا له: "إني أكون معك" (خر 3: 12)، وهو بعينه يُعلن موت موسى وإقامة يشوع كقائد عبور ومحقق للميراث. كان لابد لموسى أن يموت ليظهر يشوع، فينتهي عهد الناموس لننعم بعهد النعمة، فإن الله هو العامل في العهدين بخطته الإلهية المتكاملة... إن سّر القوة في خدمة موسى أو يشوع إنما في الدعوة التي تقدم لهما من الله لتحقيق مقاصد إلهية.
الله الذي اختار موسى ممثلاً لناموسه هو الذي سمح بموته ليقيم يشوع ممثلاً ليسوع ابنه الوحيد الجنس، وقد سبق لنا في مقدمة هذا الكتاب الحديث عن الارتباط بين موت موسى وقيام يشوع، أو إبطال الناموس للتمتع بالنعمة.
يقول الأب قيصريوس أسقفArles : [مات موسى وحكم يشوع! لقد بطل الناموس القديم وحكم يشوع الحقيقي، أي يسوع. حقًا يشهد الإنجيلي: "كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا" (لو 13: 13). هذا وقد جاء في الإنجيل "موسى" بمعنى "الناموس" إذ قيل: "عندهم موسى والأنبياء" (لو 16: 29)، أي عندهم الناموس والأنبياء، ويقول الرسول: "لكن حتى اليوم حين يُقراء موسى" (2 كو 3: 15)، أي يُقرأ الناموس. إذًا، يبطل الناموس يصعد يسوع ربنا إلى العرش[36]]. وفي تعبير أخر يقول القديس إيريناوس: [كان لائقًا أن يُخرج موسى الشعب من مصر، وأما يسوع فيدخل بهم إلى الميراث. كان موسى كممثل للناموس يجب أن يتوقف، أما يشوع (يسوع) فبكونه الكلمة الذي صار جسدًا فيُبشر للشعب...[37]].
الله هو الذي دعى موسى للعمل، الآن يدعو يشوع، أو على حد تعبير الرسول بولس أن الله كلمنا قبلاً خلال الناموس والأنبياء كلمنا في هذه الأيام في ابنه (عب 1: 1).
لم يقف الأمر عند دعوة يشوع، وإنما بقى الله هو القائد الروحي الحقيقي العامل خلال يشوع، فقد أصدر له أمره "قم أُعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم" [2]. نستطيع في شيء من التجاسر أن نقول أن هذا الأمر الإلهي يمثل عملاً رمزيًا يكشف عن العلاقة بين الآب وابنه الحبيب يسوع. فإن كان يسوع قد أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8). فقد أقامه الآب ليس كعطية خارجية يمنحه إياها، وإنما كإعلان عن قبول الصليب خلال إرادة الآب بأن يقوم الابن، فيعبر هو وشعبه نهر الأردن (مياه المعمودية)، فننال شركة الميراث الأبدي. يسوع هو القيامة ( يو 11: 25)، سبق فأعلن عن نفسه أنه صاحب السلطان أن يضع نفسه حتى الموت وأن يأخذها (يو 10: 18). من أجلنا يقبل الموت ومن أجلنا يتقبل القيامة التي هي ليست بطبيعة خارجية تمنح له، إذ هو واهب الحياة (يو 11: 25). هذا ما أعلنه رمزيًا بقول الله ليشوع: "قم أُعبر" فقد قام الابن في طاعة للآب وعبر بنا قبرنا، واهبًا إيانا قوة القيامة خلال معموديته، حتى نترنم قائلين: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات" (أف 2: 6).
لم يكن ممكنًا لموسى النبي أن يعبر الأردن ليدخل ارض الميراث، فإنه لا يحمل قوة القيامة ولا السلطان لتحطيم التنين الراكد في المياه (إش 27: 1)، أما يشوع فحمل رمز المسيح يسوع الذي يعبر بقوة محطمًا التنين وكاسرًا شوكة الموت بقيامته (رؤ 20: 2، 1 كو 15: 55).
2. أمانة الله في وعوده...
"كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى" [3].
لقد سبق فأكد الله لموسى أن يهبهم الأرض التي سبق فوعد بها الآباء: إبراهيم وإسحق ويعقوب، فإن الله يبقى أمينًا في وعوده بالرغم من عدم أمانتنا، كقول الرسول: "فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء؟! أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟! حاشا! بل ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا (رو 3: 3-4). فإن كان الجيل الخارج من مصر من عبودية فرعون قد عصى الله، لكن الله يبقى أمينًا فيحقق وعوده لأولادهم.
إنه أمين في وعوده، وهو الذي يعرف "ملء الزمان" الذي فيه يقدم عطاياه بخطته الإلهية المحكمة لخلاصنا وخيرنا. فالإنسان بسبب ضعفه البشري وإرتباطه بالزمن الزائل يود أن يرى الله واهبًا إياه كل شيء في الحال، لكن الله الذي يهتم بخلاصنا ليس فقط يعرف ماذا يقدم وإلى أي مدى يهب وإنما يحدد الموعد المناسب أيضًا حتى تُحقق هباته غايته فينا... لقد طلب إبراهيم وسارة ابنًا ربما لسنوات طويلة حتى شاخا ويئسا، فطلبت سارة من رجلها أن أن يقيم له نسلاً من جاريتها، لكن الله أعطاها إسحق من أحشائها (التي صارة في حكم الموت) ابنًا مباركًا، جاء في الوقت المناسب ليُحقق نصيبًا من خطة الله لخلاص البشرية كلها! أعطاها ما لم تكن تتوقعه أو تحلم به، لكن في الوقت الذي يحدده هو!
الله أمين في مواعيده، حتى إن حسبناه قد تأخر في العطية، هذا من جانبه أما من جانبنا فلا يليق بنا أن نقابل إيجابية حب الله نحونا بسلبيتنا، ولا أمانته بعدم الأمانة، لهذا يقول الرب لأسقف كنيسة سميرنا: "كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" (رؤ 2: 10). لكن من أين لنا أن نحمل هذه السمة، أي سمة الأمانة، إلاَّ باتحادنا بالأمين وحده، القادر أن يهبنا سماته عاملة فينا؟! يقول الرسول بولس: "أمين هو الذي يدعوكم الذي سيفعل أيضًا" (1 تس 5: 24)، إنه الأمين وحده القادر أن يهبنا أمانته عاملة فينا خلال شركتنا معه!
هذا من جهة أمانة الله وإلتزامنا بالأمانة أيضًا خلال اتحادنا معه، أما من جهة العطية التي قدمها فيقول: "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته".
كأن الله يُريد أن يدخل بنا إلى سباق بلا نهاية، فإنه يعطي بلا حدود، إنما نحن الذين نقدم الحدود. لنجر سريعًا مادمنا في العالم، ولنطأ كل محبة للعالم تحت بطون أقدامنا، فإنه كل موضع تدوسه بطون أقدامنا يقدمه لنا الله ملكًا وهبة من عندياته!
لقد عاش آباؤنا في هذا السباق، يريدون أن ينعموا بالميراث المجاني خلال جهادهم بالرب الذي لا ينقطع، كقول الرسول: "لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات، ليس أني قد نلت أو صرت كاملاً لكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع. أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أنيّ قد أدركت، ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في 3: 11- 14).
أما عن الميراث، ألعل الله يهمه أن نرث أرضنا أو يقصد المعنى الحرفي لوطء الأرض ببطون أقدامنا؟! لست أظن هذا، فإن كان قد سبق فوعد الشعب في العهد القديم بالأراضي التي تطأها أقدامهم، إنما كان هذا في جوهره يحمل ما هو أعظم: ميراثنا لمواضع علوية ندخل إليها ونقطن فيها! يرى بعض الآباء أن هذه الأراضي إنما تُشير إلى المركز الذي كان لإبليس وجنوده قبل السقوط، حيث كان ملاكًا نورانيًا مقربًا لله، كوكب الصبح المنير، هذا الذي سقط مع ملائكته، وبسقوطه أيضًا وطأ قلوبنا تحت قدميه، إذن، علينا تحت قيادة يشوع الحقيقي أن نسترد أرضنا ونطأ إبليس وجنوده تحت أقدامنا كوعد السيد أنه وهبنا سلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19). فلا نسترد قلوبنا فحسب إنما نحتل المركز الذي كان لإبليس قبلاً.
في هذ يقول العلامة أوريجانوس: [أنظروا بماذا وعد يشوع جنوده في ذلك الحين؟ "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته" (1: 23). كان الوعد بالنسبة للذين كانوا في ذلك الوقت يمثل أرض الكنعانيين والفرزيين واليبوسيين وكل الأمم التي نُزعت عنهم أرضهم ميراثًا بعد طرد سكانها غير المستحقين لها! أما بالنسبة لنا فهذه الكلمات تضم وعودًا أخرى: توجد أجناس شيطانية مقتدرة، نشن عليها الحرب ونصارعها بعنف شديد في هذه الحياة. فإن وطأنا بأقدامنا هذه القوات العظيمة وغلبناها في القتال نحتل أرضهم ومقاطعاتهم وممالكهم هذه التي يوزعها علينا الرب يسوع، فإن هؤلاء المقتدرين كانوا قبلاً ملائكة، لهم شركة في بهاء ملكوت الله. ألم نقرأ في أشعياء ما يقوله عن أحدهم: "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟!" )إش 14: 12). كان مسكن رئيس الشياطين ظاهرًا في السموات، لكنه إذ صار ملاكًا ساقطًا أستطيع أن أغلبه وأطأه تحت قدمي؛ فإذ تأهلت بالرب يسوع أن أسحق الشيطان تحت قدمي (رو 16: 20) صار ليّ الحق في التمتع بمكان رئيس الشاطين في السموات. بهذا نفهم وعد ربنا يسوع أن كل موضع تدوسه بطون أقدامنا يهبه لنا. لكي لا تظنوا أننا نقدر أن ننعم بهذا الميراث ونحن نيام في غفوة الجمود والإهمال[38]]. ويقدم لنا العلامة أوريجانوس (شيطان الغضب) كمثال ينبغي أن نذله تحت أقدامنا لكي نطرده من أرض الموعد (قلوبنا) ليماك يسوع فيها عوضًا عنه، قائلاً: [لقد أسقط الغضب الملاك من رتبته، فإن لم تنتصر عليه في قلبك، إن لم تستبعد عنك كل حركات الإثارة والغضب لن تقدر أن تنال الموضع الذي شغله هذا الملاك كميراث. لكن لا يمكنك طرده من أرض الموعد وأنت متراخ. هكذا أيضًا بالنسبة للكبرياء والحسد والأنانية والنجاسة. كل هذه الرزائل لها ملائكتها المؤذية التي توحي بالشر وتحرض عليه، إن لم تنتصر عليها في قلبك مطهرًا إياه منها، هذا الذي سبق فتطهرّ بنعمة المعمودية، لن تنعم بالميراث الموعود قط[39]].
وللعلامة أوريجانوس تفسير رمزي آخر، وهو أن المؤمن لكي ينعم بالميراث الروحي الأبدي يلزمه أولاً أن يطأ بقدميه الأراضي المنخفضة أي يطأ التفسير الحرفي القاتل لكي ينعم بالتفسير الروحي الذي يرفعنا إلى السمويات. الذي يسلك بروح الناموس الحرفي يعيش بفكر أرضي، أما من يسلك بالنعمة فيحيا روحيًا في السمويات. إنه يقول: [ما هي هذه المواضع التي تدوسها بطون أقدامنا؟! إنها رسالة الناموس الموضوعة على الأرض وترقد في الأعماق المنخفضة فلا يمكنها أن ترتفع قط مادمنا نسلك في حرفية الناموس. لذلك إن أردت أن ترتفع من الحرف إلى الروح، وتعلو من المدلول التاريخي إلى إدراك أسمي، فإنك بهذا تكون قد ارتفعت إلى المواضع السامية التي يُورثها لك الله. إن كنت تقدر أن تدرك الرموز فيما هو مكتوب وتفهم الأمور الإلهية، إن كنت تبحث بروحك وإدراكك "الأشياء التي من فوق حيث يجلس المسيح عن يمين الله" (2 كو 3: 1)، فإنك ترث هذه الأمور كقول مخلصنا وفادينا: "حيث أكون أنا هناك يكون خادمي أيضًا" (يو 12: 26). إن كنت قد بلغت إلى المسيح الجالس عن يمين الله بإيمانك وحياتك ونقاوتك وفضيلتك وبطن قدميك الذين غسلهما يسوع (يو 13: 5) فإن ترث هذه المواضع التي يهبها الله لك، وتصير وارثًا لله ووارثًا مع المسيح (رو 8: 17)[40]]. هكذا يرى العلامة أوريجانوس أن وطء الأرض بالقدمين إنما تعني انطلاقة النفس بإدراكاتها الروحية إلى الفكر الروحي والتفسير العميق لكلمة الله خلال الحياة الإيمانية النقية والمقدسة بالرب.
أما إمتداد الأرض التي يرثونها فيحددها الله هكذا: "من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات" [4]. ويلاحظ في هذا النص:
أولاً: تبدأ حدودها بالبرية، فإن أرض الموعد في الحقيقة هي قلوبنا التي صارت خلال انفتاحها لعدو الخير كبرية خربة بلا حياة، يدخلها يشوع الحقيقي لتتحول من حالة البرية القاحلة إلى الجنة المثمرة التي تُفرح قلب الله. لذلك يقول النبي "تفرح البرية والأرض اليابسة" (إش 35: 1)، كما يقول أن: "بني المتوحشة أكثر من بني ذات البعل" (54: 1). وفي سفر النشيد يُقال للعروس: "من هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها" (نش 8: 5). يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [نحن الذين كنا قبلاً غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السموات، وندخل السموات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي[41]]. هكذا نرتفع عن البرية لا لندخل إلى جنة أرضية أو فردوس زمني، إنما إلى السموات عينها، ونكون أمام العرش الإلهي.
ثانيًا: يقول "من البرية ولبنان هذا"؛ وفي الترجمة السبعينية "موضع لبنان Antilibanon وليس لبنان ذاتها... فالميراث لا يوهب فقط لمن كانوا في البرية وإنما أيضًا للذين كانوا في "موضع لبنان". ويرى العلامة أوريجانوس أن لبنان تُشير إلى اليهود، أما "موضع لبنان" فيُشير إلى الأمم التي احتلت مركز اليهود خلال الإيمان. فيقول: [إذا تأملت الأمة الأولى التي حسب الجسد، إسرائيل، والتي كانت الزيتونة الجيدة (رو 11: 24) فإفهم أنها لبنان الحقيقية، لكن بسبب قلة إيمانها نُزع ملكوت الله منها وأعطى لأمة تعمل أثماره (مت 21: 43). متى رأيت الأمة المطرودة، والأخرى تحتل موضعها في الملكوت إفهم أن الأمة الثانية هي "موضع لبنان" التي هي "كنيسة الله الحيّ" (1 تي 3: 15)، والتي جمعت من الأمم أيضًا (رو 9: 24) بيسوع المسيح ربنا[42]].
ثالثًا: "إلى النهر الكبير نهر الفرات... وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" [4]. دخل نهر الأردن في تخم العبرانيين بكونه "نهر الحياة" أي المعمودية المقدسة التي بدونها لن ننعم بالميراث، ولا تكن لنا حياة. يقول الرائي: "وأراني نهرًا صافيًا من ماء الحياة لامعًا كبلور خارجًا من عرش الله والخروف" (رؤ 22: 1)، لكن لا تدخل إلى أرض الموعد مياه هذا العالم التي تملأ النفس تلفًا فلا النهر الكبير ولا البحر الكبير... يقول الرائي عن الأبدية: "ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد فيما بعد" (رؤ 21: 1). لتبقى مياه هذا العالم خارج تخم أرض الموعد فلا تدخل إلى قلوبنا ولا تقلق نفوسنا حتى تعبر أيامنا بسلام!
"نحو مغرب الشمس يكون تخمكم" [4]، وكأن شمس البر لن يغرب عن أرضنا قط، إنه يبقى دائمًا يشرق فينا، واهبًا إيانا إستنارة روحية لا تتوقف!
3. معيته للخدام...
"لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.
كما كنت مع موسى أكون معك.
لا أهملك ولا أتركك.
تشدد وتشجع.
لأنك أنت تُقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أُعطيهم" [5-6].
إن كان الله قد دعى يشوع للعمل، إنما ليكون الله نفسه هو العامل به وفيه... "كما كنت مع موسى أكون معك". كأنه يقول له: "إن كان موسى قد نجح في تحقيق رسالته فأنا سرّ نجاحه، وأكون أيضًا معك كسرّ نجاحك!
خلال هذه المعية الإلهية لا يكون للخادم عدو شخصي، فيرى كل الناس أحباء له، يشتهي خلاصهم. وإن وجد مقاوم فهو عدو الخير الذي يُهيج الناس، وليس الناس أنفسهم، لذلك يقول له: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك" [5]. لا يعني هذا أن الخادم لا يجد من يقاومه، إنما يدرك أن المقاوم الحقيقي هو رئيس مملكة الظلمة! في هذا يقول الرسول: "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12).
وخلال المعية مع الله أيضًا يدرك الإنسان أنه مختف في الله قائد المعركة الحقيقي فلا يخاف ولا يرهب قوات الظلمة، لأنها ليست ثائرة عليه وإنما على القائد الإلهي نفسه. لهذا يؤكد الله ليشوع: "لا أهملك ولا أتركك، تشدد وتشجع". فالله يُريد في خدامه أن يكونوا مملوئين رجاء وثقة فيه، كما يثق الجند في قائدهم. هذا ما نلمسه بقوة في كلمات معلمنا بولس الرسول الذي أدرك أن سيده هو الغالب الحقيقي، الذي غلب كرأس حين جاءنا بالجسد، ولا يزال يغلب قوات الظلمة خلال الجسد أي خلال خدامه وكنيسته، إذ يقول: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" (2 كو 2: 14). كما يقول: "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رو 8: 37).
4. شريعته كسند للخادم...
إن كان الله هو الذي يختار الخادم وهو الذي يدعوه ويسنده ويكون معه كسرّ غلبته فلا يقف إنسان في وجهه كل أيام حياته، إذ يخفيه داخله هو بمواجهة كل هجوم يثيره إبليس، فإنه أيضًا يُقدم شريعته لخادمه ليلهج فيها نهارًا وليلاً، تكون كسرّ تقديس له وسرّ حكمته الإلهية تُعينه في خدمته. لهذا يؤكد الله على يشوع:
"إنما كن متشددًا وتشجع جدًا، لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي،
لا تمل عنها يمينًا ولا يسارًا لكي تفلح حينما تذهب.
لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهارً وليلاً..." [7-8].
أمران هامان في حياة الخادم يركز عليهما الله في هذا الحديث مع يشوع، وهما أيضًا مترابطان معًا ومكملان بعضهما البعض:
أولاً: التأكد أن الله معه فيسلك متشددًا ومتشجعًا، يعمل بقوة ويقين شديد، واثقًا في الله العامل به ومعه تحت كل الظروف يقول الرسول: "إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس ويقين شديد" (2 تس 1-5). لهذا أكثر من مرة يؤكد الله على يشوع "كن متشددًا وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب" [7-9]، وبنفس الروح يقول لأرميا النبي: "لا تقل إنيّ ولد... لا تخف من وجوههم لأنيّ أنا معك لأنقذك يقول الرب... فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنيّ أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 7-8، 19). بقدر ما يختفي الخادم في الله لا يخاف غيره، إذ يبقى مطمئنًا فيه، وكما يقول القديس يوحنا الدرجي: [الذي صار خادمًا لله يخاف سيده وحده، أما من لا يخاف سيده فغالبًا ما يخاف حتى من خياله[43]].
ثانيًا: التمسك بشريعة الله عمليًا، فإنه إذ يختفي في الله مرسله يخاف الله وحده، أي يخش أن يجرج مشاعر أبوته الإلهية بكسر وصيته وعده تحقيق إرادته، لهذا يلهج في شريعة الرب ليلاً ونهارًا حتى تشغل كل قلبه وفكره وأحاسيسه وسلوكه الخفي والظاهر. بهذا تصير كلمة الله طعام الخادم وشرابه وسلاحه وسرّ راحته، أو قل جزءًا لا يتجزأ من حياته إن صح هذا التعبير. هذا هو سرّ القوة في حياة الخادم الداخلية وفي كرازته. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [يليق بنا حقًا لا أن نطلب معونة الكلمة المكتوبة فحسب، بل أن تظهر حياتنا نقية هكذا، فتكون لنا نعمة الروح عوض الكتب بالنسبة لنفوسنا. فكما كتبت بالحبر في الكتب تسجل بالروح في قلوبنا[44]]. كما يقول: [عدم معرفة الكتب المقدسة هو علة كل الشرور؛ إذ ندخل المعركة عُزل من السلاح، فكيف نقدر أن نغلب؟![45]].
هكذا يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن كلمة الله هي السلاح الحقيقي للخادم، لا يتقبلها خلال المعرفة الذهنية فحسب، أو الحفظ عن ظهر القلب، إنما خلال الحياة بها، فتشهد حياته لها عمليًا. حقًا ما أحوج العالم اليوم إلى قادة روحيين يعيشون الحياة المقدسة، ويمارسون كلمة الله كسرّ حياة لهم قبل أن يكرزوا بها بأفواههم!
5. الزاد الإلهي...
طلب يشوع من عرفاء الشعب أن يخبروا الشعب ألا يتسرعوا بل يتهيأوا للعبور حاملين معهم زادًا لمدة ثلاثة أيام. فمن هم هؤلاء العرفاء؟ وما هو الزاد؟
كان هؤلاء العرفاء هم المدبرين الذين يعملون تحت المسخرين المصريين لحساب عدّ الطوب (خر 5: 6)، أما بعد الخروج فيعملون كرؤساء ألوف ومئات وعشرات لتحقيق العدالة (تث 1: 15).
ما هو هذا الزاد؟...
أولاً: يرى الأب قيصريوس أن هذا الزاد لمدة ثلاثة أيام ثم بعده يعبرون الأردن للتمتع بالميراث إنما هو الإيمان بالثالوث القدوس. إذ يقول: [اليوم الثالث كما نعلم هو سرّ الثالوث. أي طعام يلزمنا أن نعده حتى نبلغ اليوم الثالث؟ يبدو ليّ أنه يليق بنا أن نفهم الزاد بالإيمان، فالمسيحيون يبلغون سرّ المعمودية (نهر الأردن) بالإيمان بالثالوث... حقًا أيها الإخوة لن يعاين الإنسان أرض الموعد الحقيقية أي الطوبى الأبدية ما لم يعبر خلال سرّ المعمودية[46]].
ثانيًا: يرى نفس الأب في الزاد لمدة ثلاثة أيام لعبور الأردن أنه التمتع بسمات الإيمان والرجاء والمحبة إذ يقول: [الإيمان والرجاء والمحبة[47]].
ثالثًا: يرى العلامة أوريجانوس أن الزاد الذي يلزمنا أن نحمله في داخلنا لكي نتبع يشوعنا الحقيقي لندخل أرض الموعد الأبدية إنما هو الكتاب المقدس أو كلمة الله مدركة بطريقة روحية ومعلنة عمليًا في حياتنا. يقول العلامة: [بعد ذلك يقول يشوع: "هيئوا لأنفسكم زادًا للطريق"، واليوم إن أصغيت يقول لك يسوع: "إن تبعتني فهيئ لنفسك زادًا للطريق". الزاد في الحقيقة هي الأعمال التي ترافقنا في سفرنا مع المخلص خلال الطريق العتيد. ليتنا في دراستنا للكتاب المقدس نحذر من القراءة السريعة المتهاونة، وإلاَّ فكيف نستخلص الزاد؟![48]].
رابعًا: يمكننا أن نقول بأن هذا الزاد الذي يبقى معنا ثلاثة أيام إنما هو إمكانية الحياة المقامة في المسيح يسوع. فنحن نعلم أن رقم "3" يُشير إلى القيامة التي بدونها لا نقدر أن نعبر الأردن، ولا ندخل أرض الموعد، إن الزاد الذي نهيئه لأنفسنا ليس من عندياتنا، لكنه إقتناء حياة المسيح المقامة كحياة لنا، بدونها نبقى في البرية حتى نتحول إلى جثث هامدة غير قادرة على الحركة. في دراستنا لسفر الخروج تحدثنا عن سرّ الأيام الثلاثة حيث كان الحديث مع فرعون "الآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا" (خر 3: 18)، وكان فرعون يبذل كل الجهد ألا يدخلوا إلى سرّ الأيام الثلاثة، وكأنه بإبليس الذي يُريد أن يحرم الإنسان من قوة القيامة مع المسيح، فلا تُقبل عبادته ولا ينعم بالميراث. قد سبق فاختبر أبونا إبراهيم هذا السرّ حيث سار ثلاثة أيام ليقدم ابنه ذبيحة حب الله (تك 22: 4)، متطلعًا إلى علامة القيامة من الأموات، فقدم ابنه الحبيب في يقين أن الله قادر على الإقامة من الأموات (11: 9) [49].
6. الدور الإنساني...
علامة حب للإنسان ليس فقط أن يهبه ولكنه يُشركه معه في العمل، لكي تلتحم إرادة الله الفائقة بإرادة الإنسان التي تتقدس باتحادها مع الله في ابنه... هذا ما برز بكل وضوح في الحديث الإلهي مع يشوع بن نون، فإن كان الله هو العامل في الدخل كواهب قوة القيامة والعبور فإن يشوع ملتزم مع الشعب أن يقوم ويعبر [1]. الله يهب الميراث مجانًا كوعده لكن ليس للكسالى والمتراخين، وإنما يقدم كل موضع تدوسه بطون أقدامهم [3] مشجعًا إياهم على السير لأجل الميراث. إنه يعلن معيته مع خادمه [5] ومساندته له ضد كل هجوم من العدو لكن الخادم ملتزم أن يتشدد ويتشجع لا يخاف إنسانًا [6-7]. الله يهبه شريعته كسند له، ولكن الخادم ملتزم أن يلهج فيها نهارًا وليلاً حتى تصلح طريقه وينجح [8]. يطلب منهم أن يهيئوا لأنفسهم زادًا، وهو يقدم لهم الزاد! يا للعجب فإن محبة الله الغنية تهب كل شيء مجانًا لكنها دون احتقار لإرادة الإنسان أو تجاهل لجهاده ومحبته!
وقد برز هذا الجانب الإنساني بكل وضوح في تصرف يشوع مع السبطين والنصف (رأويين وجاد ونصف منسي) الذين أرادوا أن يستقروا غرب نهر الأردن (عد 23: 1-5) في أرض جلعاد، وقد وافق موسى على ذلك مشترطًا أن يتركوا نساءهم وأطفالهم ومواشيهم في الأرض، لكن الرجال يعبرون مع بقية الأسباط نهر الأردن ولا يعودوا إلى جلعاد حتى يتمموا كل الجهاد مع إخوتهم ويمتلك الكل أرض كنعان... وقد حمل ذلك رمزًا لكنيستي العهد القديم والعهد الجديد، الأولى يمثلها السبطين والنصف، والثانية التسعة أسباط ونصف، وقد سبق لنا الحديث عن ذلك بأكثر تفصيل[50]. لقد كان الله قادرًا أن يُخلص التسعة أسباط ونصف دون جهاد السبطين والنصف... لكن الله يُقدس العمل البشري والوحدة، فألزمهم بالعمل مع إخوتهم مادامت لهم قوة للعمل. ماداموا قادرين على الجهاد. لا يستخدم الله المعجزات إلاَّ بالقدر الذي فيه لا يوجد طريق آخر للخلاص من المأزق!
في شيء من الوضوح أود أن أوكد تقديس الله لمؤمنيه، روحيًا وفكريًا وعاطفيًا وجسديًا، إحدى علاقات هذا التقديس أنه يستخدم الإنسان للعمل والجهاد ولا يتدخل بالعمل المعجزي الفائق إلاَّ عند الضرورة، في حالة العجز البشري! فقد كان يمكن لله الذي أخرج الشعب بيد قوية وذراع رفيعة، وعالهم أربعين سنة في البرية، وصنع لهم معجزات بلا حصر أن يقدم لهم أرض الموعد دون جهاد هذه الأسباط (السبطين والنصف) أو حتى دون جهاد كل الأسباط، لكن لو حدث هذا لما تقدست وحدة الشعب ككل ولما نالت هذه الأسباط بركة عمل الله بها.
أقول حينما نطلب أن تكون حياتنا مليئة بالعمل المعجزي الفائق إنما نطلب حرماننا من تقدير الله لنا الذي يُريد أن يعمل بقلبنا وفكرنا وأحاسيسنا وأيدينا، مقدسًا كل ما وهبنا للعمل بطريقته الخفية فينا حتى يدخل بنا أرض الميراث مكللين.
الأصحاح الثاني
الإيمـان العـامل
"راحاب والجاسوسان"
إن كان الأصحاح السابق في جوهره هو إعلان عن سرّ مصرة الخادم بكون الله هو العامل فيه، فإننا في الأصحاح نقف عند حقيقة هامة أراد الكتاب المقدس أن يوضحها قبل التمتع بالميراث ألا وهي أن الخلاص للجميع، يتمتع به كل مؤمن حقيقي. إن كان اليهود قد خرجوا من نير العبودية لينعموا بالميراث لكن كثيرين منهم لم يتمتعوا به بسبب عدم إيمانهم بينما استطاعت المرأة الكنعانية الزانية أن يكون لها نصيب في الميراث. كأن الله يؤكد أنه لا يرفض الأمم لكنه يرفض عدم إيمانهم ورجاساتهم!
1. إرسال الجاسوسين [1].
2. الجاسوسان وراحاب الزانية [2].
3. ملك أريحا وراحاب [3].
4. الجاسوسان على السطح [4-6].
5. طلب علامة أمانة [7-21].
6. الجاسوسان على الجبل [22].
7. الجاسوسان لدى يشوع [23-24].
1. إرسال الجاسوسين...
"فأرسل يشوع بن نون من شطيم رجلين جاسوسين سرًا، قائلاً: إذهبا أنظرا الأرض وأريحا" [1].
إن كان يشوع يرمز ليسوع كلمة الله المتجسد، فمن هما الجاسوسان اللذان أرسلهما يشوع إلى الأرض وأريحا ليكسبا راحاب الزانية كإنسانة مؤمنة، تفتح بيتها لهما، وقلبهما لإلههما، وتسألهما علامة أمانة لخلاصها وخلاص أهل بيتها؟
أولاً: إن كان يشوع يمثل يسوع المسيح ربنا، فإن الجاسوسين المرسلين من قبله غالبًا ما يمثلان الإرساليتين اللتين بعثهما السيد إلى العالم، أي الإثني عشر تلميذًا والسبعين رسولاً، هؤلاء الذين بدأوا باليهود وكملوا بالأمم. وقد قبلت الشعوب الأممية رسالتهم في قلوبهم كسرّ خلاص لهم.
ويرى القديس جيروم أنهما يمثلان الرسولين بطرس وبولس بكونهما خادمي الختان والأمم، إذ يقول: [إذ يرغب يسوع في أن يقود شعبه إلى الإنجيل يرسل رجلين إلى أريحا خفية، يرسل أحدهما لأهل الختان والأخر للأمم: بطرس وبولس. لقد طلبت أريحا قتلهما، لكن الزانية أدخلتهما، هذه بالطبع تعني الكنيسة المجتمعة من الأمم، والتي آمنت بيسوع. لقد جمتهما بسلام على سطحها، وأخفتهما هناك حيث إيمانها العلوي. خبأتهما بين عيدان الكتان مع أنها زانية[51]].
ثانيًا: يرى الأسقف قيصريوس إنهما يشيران إلى وصيتي الحب: محبة الله ومحبة الناس، إذ يقول: [أرسل يشوع جاسوسين، لأن يشوع الحقيقي يرسل وصيتي الحب. ماذا قدم الرجال الذين أرسلهما يشوع الحقيقي ليعلنوه لنا سوى أن نحب الله والناس؟![52]]. أن كان غاية الكرازة بالإنجيل أن نتقبل رب المجد يسوع فينا، إنما نتقبله يسكن في داخلنا، فيهبنا سماته عامله فينا، حبه للآب وحبه للبشر!
2. الجاسوسان وراحاب الزانية...
صارت راحاب مثلاً حيًا للإيمان العامل فينا، فعندما أراد القديس أمبروسيوس أن يحث العذارى على عدم احتقار المتزوجات المؤمنات بل حتى الزانيات إن رجعن وعشن في الطهارة، قال: [كانت راحاب الزانية، لكن آمنت بالله فوجدت خلاصًا[53]] ويتحدث القديس يوحنا ذهبي الفم عن هذا الإيمان الفعّال، قائلاً: [لو أنها قالت في نفسها: كيف يمكن لهؤلاء المسبيين المنفيين اللاجئين والذين يعيشون في القبائل المتشردة (بلا مدن) أن يغلبوننا نحن الذين لنا مدينة بأسوار وأبراج؟! لكانت قد هلكت![54]].
لقد سمعت راحاب الزانية ككل أهل المدينة، بل وكل سكان المنطقة عن عمل الله مع شعبه، كيف يبّس مياه بحر سوف أمامهم عند خروجهم من مصر منذ حوالي أربعين عامًا، وكيف خلصهم من سيحون وعوج ملكي الأموريين [10] لكنها وحدها التي آمنت به وفتحت بيتها للرسولين، كما فتحت فمها لتشهد لله، قائلة: "إن الرب قد أعطاكم الأرض وإن رعبكم قد وقع علينا وأن جميع سكان الأرض ذابوا من أجلكم... سمعنا فذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم، لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت" [9-11].
أعلنت إيمانها عمليًا فعرضت حياتها للخطر، وطلبت من الجاسوسين أن يحلفا لها أن ينقذاها هي وكل أقاربها! استطاعت امرأة أممية زانية، تسكن في مدينة مُدانة، أن تعلن إيمانها بأعمالها لتنال وعدًا أكيدًا بالخلاص. يقول الرسول بولس: "بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الجاسوسان بسلام" (عب 11: 31). ويقول معلمنا يعقوب: "كذلك راحاب الزانية أيضًا أما تبررت بالأعمال إذ قبلت الرسل وأخرجتهم في طريق آخر؟!" (يع 2: 25)... أعلن الرسول بولس عن إيمانها وأعلن الرسول يعقوب عن أعمالها، وفي الحقيقة لا يمكن عزل هذا عن ذاك!
بالإيمان أيضًا تركت راحاب طريق زناها لتعيش مقدسة للرب، يرى القديس جيروم أن "راحاب" تعني (مكان رحب) أو (كبرياء)، هذه التي خلال الإيمان قبلت طريق الاتضاع الضيق عوض طريقها القديم المتسع. يقول: ["كانت قبلاً تسلك الطريق الرحب المؤدي إلى الموت" (مت 7: 13)، فقد سحبها كبرياؤها إلى الهلاك، لكن أخيرًا تحولت إلى الاتضاع]، كما يقول في نفس العظة: [كانت في وقت ما على الطريق الرحب المؤدي للهلاك لكنها صعدت بعد ذلك إلى فوق، إلى ذاكرة الله[55]].
بينما هلك شعب الله بسبب عدم الإيمان فماتوا في البرية، إذًا بالأممية الزانية تغتصب المواعيد الإلهية بالإيمان الحيّ العامل، فيصير لها ولعائلتها نصيب في أرض الموعد، ويأتي المسّيا المخلص متجسدًا من نسلها (مت 1: 5)، فصارت تصرفاتها تمثل أعمالاً نبوية. في هذا يقول القديس أكليمندس الروماني: [ها أنتم ترون أيها الأحباء أنه لم يكن لهذه المرأة الإيمان فحسب بل والنبوة[56]].
بروح النبوة تحدثت مع الجاسوسين معلنة ما سيحدث لشعب الله، قائلة: "علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض" [9]، لكن ما هو أعظم أن تصرفاتها بل وشخصيتها صارت نبوة عن قيام كنيسة الأمم عند مجيء يشوع الحقيقي. في هذا يقول الأسقف قيصريوس: [تلك الزانية أيها العزيز المحبوب تمثل الكنيسة التي كانت قد اعتادت على ارتكاب الزنا مع أصنام كثيرة قبل مجيء يسوع. على أي الأحوال إذا جاء المسيح لم يحررها من الزنا فحسب وإنما صّيرها بتولاً بعمل معجزي فائق. يقول عنها الرسول: "لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2). لقد كانت نفس كل واحد منا زانية، إذ كانت تعيش في آلام (أهواء) الجسد وشهواته، لكنها قبلت جاسوسي يشوع وتحقق فيها ما قاله الرسول: "لأننا كنا قبلاً ظلمة أما الآن فنور في الرب" (راجع أف 5: 8)[57]].
هكذا صارت راحاب تمثل كنيسة الأمم التي قبلت إرسالتي المسيح (التلاميذ والرسل) وأخفت في داخلها وصيته "محبة الله ومحبة الناس"، فصارت الكنيسة المقدسة له. أما أقوله عن الكنيسة في كليتها أقوله أيضًا عن كل نفس منا بكونها عضوًا حيًا في الكنيسة، كانت قبلاً في ظلمة الشر وقبلت خلاص ربنا يسوع فيها.
3. ملك أريحا وراحاب...
إذ قبلت راحاب الجاسوسين بالإيمان الحيّ العامل بالمحبة، هاج ملك أريحا على الجاسوسين. وهذا ليس بالأمر الغريب أو الجديد، فإنه مع كل إرسالية إلهية أو عمل إلهي يهيج عدو الخير ليبعث إرسالية شيطانية بقصد تحطيم إيمان راحاب. إذ خلق الله لآدم حواء معينة، استغل عدو الخير الحية لتكون محطمة لآدم كما لحواء. وإذ أرسل الله موسى وهرون ليخلصا الشعب من عبودية فرعون أرسل العدو الساحرين ليحطما عمل الله. وإذ بعث الله أنبياءه مثل إرميا وحزقيال وإشعياء، بعث العدو في نفس العصر أنبياء ونبيات كاذبات. وإذ جاء أخيرًا السيد المسيح لابد أن يظهر المسيح الدجال مقاومًا لكنيسة المسيح إلخ... في كل عصر مع كل عمل روحي توجد مقاومة، بل وفي حياة كل إنسان كلما تهيأ للتوبة هاجت الحرب ضده، ربما من جسده أو من أقربائه وأحيانًا من العاملين في الكنيسة!!
4. الجاسوسان على السطح...
"أما هي فأطلعتهما على السطح ودارتهما بين عيدان كتان لها منضدة على السطح" [6].
ماذا فعلت راحاب بالجاسوسين؟
لقد خبأتهما في بيتها،
ثم أطلعتهما على السطح فكان قلبها معهما، حتى وإن بقيت بالجسد تتحدث مع مندوبيّ ملك أريحا،
وخبأتهما بين عيدان كتان؟
يا لها صورة رمزية رائعة تكشف عما يحدث في كنيسة العهد الجديد، فقد قبل الأمم إرسالية يسوع ربنا كجاسوسين، وأخفوا الإيمان بالمخلص في قلوبهم كما في بيوتهم الداخلية، كما فعلت راحاب. وإذ دخل الإيمان إلى القلوب انطلق بها إلى السطح، أي رفعها من حرفية الناموس القاتلة التي تهبط بالقلوب إلى أسفل، لكي تنطلق خلال حرية الروح إلى فوق كما إلى السطح، فتفتح بصيرتها لمعاينة السماويات وإدراك الأمجاد الإلهية خلال الاتحاد مع الآب في المسيح يسوع ربنا بالروح القدس.
يمكننا أن نقول أن اليهود الذين يتمسكون بالحرف يعيشون في الطابق الأسفل محرومين من الاستنارة الروحية، وكأنهم قد وضعوا برقعًا على وجه موسى حتى لا يعاينوا المجد، أما الأمم فإذ قُدمت لهم الإرسالية الخاصة فتح الروح القدس قلوبهم ليقبلوها داخلهم، وانطلق بهم كما بجناحي حمامة من طابق إلى طابق، أي من مجد سماوي إلى مجد، ليبلغ بهم إلى السطح وينعموا بالوجود في القمة بغير برقع أو عائق! يقول: "فإذ لنا رجاء مثل هذا نستعمل مجاهدة كثيرة. وليس كما كان موسى يضع برقعًا على وجهه لكي لا ينظر بنو إسرائيل إلى نهاية الزائل، بل أغلظت أذهانهم... لكن حتى اليوم حين يُقرأ موسى البرقع موضوع... وحيث روح الرب هناك حرية، ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3: 12-18). يقول الأسقف قيصريوس: [لقد ارتفعا إلى السطح إشارة إلى الكنيسة التي تقبل تعاليم الرسل ليس بطريقة منحطة بل مرتفعة، إذ لم تتبع الحرف القاتل مع اليهود، بل قبلت الروح المحيي النازل من السماء[58]].
كثيرون قبلوا الإيمان في داخلهم كما فعلت راحاب، ولكنهم في جفاف روحي رفضوا عمل الروح فيهم ليرفعهم من مجد إلى مجد حتى ينطلق بهم إلى السطح كمعاينة الأمجاد الإلهية. هؤلاء يحملوان اسم المسيح لكنهم في تراخيهم وتهاونهم يعيشون في الطوابق السفلية، وكأنهم يريدون أن يرتدوا إلى الحياة الناموسية الجافة عوض الارتفاع إلى السماويات والشركة مع الطغمات السماوية في تسابيحهم وفرحهم وبهجة قلبهم الداخلي.
لقد دارتهما راحاب على السطح بين عيدان الكتان رمز "بياض" الحياة السماوية النقية، والتي لن ينالها الإنسان وهو متراخ. يقول القديس جيروم: [الكتان يصير له البياض الناصع بجهاد كثير واهتمام. أنتم تعرفون أنه يُزرع في الأرض، التي هي سوداء وبلا جمال...، لكنه أولاً يرتفع فوق الأرض، ثم يُكسر، ويُجدل ويُغسل وبعد ذلك يُدق، وأخيرًا يُمشط، وبعناية فائقة وعمل شاق يصير في النهاية أيضًا. هنا نجد المعنى، فقد أخذت هذه الزانية الرسولين وغطتهما بكتانها حتى يقوم هذان العاملان بتحويل كتانها إلى البياض[59].
هذا وعيدان الكتان أيضًا تذكرنا بثياب الكهنوت في العهدين، فإن كنيسة العهد الجديد "راحاب"، إذ قبلت الإيمان بالسيد المسيح وانطلقت بقلبها إلى السطح لتحيا بالسماويات، إنما يتحقق لها هذا خلال العمل الكهنوتي... أقصد كهنوت السيد المسيح، بكونه "رئيس الكهنة الأعظم" الذي يشفع فينا بدمه. وكما يقول الرسول بولس: "فمن ثمَّ يقدر أن يخلص أيضًا إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم، لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (عب 7: 25-26). خلال هذا الكهنوت الجديد، على مستوى فائق قدم لنا نعمة الكهنوت، بظهوره في كهنته يعمل بنفسه فيهم، وكما يقول الرسول بولس: "كونوا أنتم أيضًا مبنين كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح... وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي" (1 بط 2: 5، 9). خلال العمل الكهنوتي في المسيح يسوع رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا وراعيها تقدم الكنيسة ذبيحة الحب المقبولة لدى الآب، وترتفع بأعضائها ليشتركوا مع السمائيين - كما على السطح- في تسابيحهم وليتورجياتهم. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن ليتوروجيا الأفخارستيا: [كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم، ويتغنى بالتسبحة المقدسة[60]].
5. طلب علامة أمانة...
بروح النبوة أدركت راحاب الزانية مواعيد الله لشعبه، فاستقبلت الجاسوسين لكي لا تعيش بعد كزانية، وإنما ترتفع بالإيمان معهما إلى السطح، تلتحف بالكتان النقي متحررة من شهوات الجسد وأهوائه. لقد أرادت أن تنعم هي وعائلتها بنصيب في هذه المواعيد الإلهية، فلم يقف إيمانها عند ثقتها في إمكانيات الله وأمانته مع شعبه وإنما وثقت أنه يهبها هي أيضًا وكل أهل بيتها، كثيرون لهم الإيمان بعمل الله مع البشرية لكنهم لا يدخلون في علاقات شخصية مع الله على مستوى حياته الخاصة الداخلية ومستوى أهل بيته.
في ثقة الإيمان قالت: "الآن إحلفا ليّ بالرب وأعطياني علامة أمانة، لأنيّ قد عملت معكما معروفًا، بأن تعملاً أنتما أيضًا مع بيت أبي معروفًا، وتستحييا أبي وأمي وأخوتي وأخواتي وكل ما لهم وتخلص أنفسنا من الموت" [12-13].
كان إيمانها على المستوى الشخصي والدالة التي تفرح قلب الله، لكن ليس في أنانية وانعزالية، فطلبت من أجل أبيها وأمها وأخوتها وأخواتها وكل ما لهم! هذا هو إيماننا المسيحي الحيّ الذي فيه يلتقي المؤمن بخالقه ومخلصه كمن له: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ، الراعي بين السوسن" (نش 2: 16)، لكن خلال عضويته الكنسية، فلا يعتزل الجماعة بل يدرك أنه يحيا مع مسيحها كعضوٍ فيها، حتى وإن كان متوحدًا لا يلتقي مع أحد بالجسد!
يمكننا أيضًا إن سلكنا بالتفسير الرمزي أن نقول أن راحابنا أي إيماننا يصرخ لخلاص النفس بكونها الآب والجسد بكونه الأم، وتقديس الحواس والعواطف وكل فكر بكونهم الإخوة والأخوات، وتقديس كل موهبة لحساب الرب لكونها "مالهم"!
كانت الإجابة: "هوذا نحن نأتي إلى الأرض فإربطي هذا الحبل من خيوط القرمز في الكوة التي أنزلتنا منها، واجمعي إليكِ في البيت أباكِ وأمكِ وإخوتكِ وسائر بيت أبيكِ، فيكون أن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج قدمه على رأسه، ونحن نكون برئين" [18-19]. العلامة التي أُعطيت هي "الحبل القرمزي"، إشارة إلى دم السيد المسيح، الذي بدونه لا يمكن الخلاص. يقول الرسول بولس: "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب 9: 22)، كما يقول الرسول بطرس: "عالمين أنكم إفتديتم لا بأشياء تغني بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1 بط 1: 18-19) يقول القديس أمبروسيوس: [فقدت الزانية كل رجاء في وسائل الأمان (البشري) وسط دمار المدينة، لكن إيمانها غلب، فقد ربطت حبلاً قرمزيًا على الكوة! رفعت علامة إيمانها وشعار آلام الرب، حتى يكون رمز الدم السري الذي يخلص العالم في الذاكرة[61]].
لم يكن لراحاب أو أهل بيتها أن يتمتعوا بالخلاص لو خرجوا من البيت الذي علق على كوته الخيط القرمزي، إذ لا خلاص خارج الكنيسة المفدية بدم المسيح. يقول القديس كبريانوس:
[أتظنون أنكم قادرون أن تصمدوا وتحيوا إن انسحبتم من الكنيسة لتقيموا لأنفسكم بيوتًا ومواضع مختلفة، وقد قيل لراحاب: "اجمعي إليك في البيت أباكِ وأمكِ وإخوتكِ وسائر بيت أبيكِ، فيكون أن كل من يخرج من أبواب بيتكِ إلى خارج فدمه على رأسه، ونحن نكون بريئين؟!
في هذا أعلن السرّ، أن الذين يريدون أن يحيوا ويهربون من هلاك العالم يلزمهم أن يجتمعوا معًا في بيت واحد وحدهم، أي في الكنيسة، أما من يخرج من بين هؤلاء المجتمعين هناك معًا، أي إن كان أحد بالرغم من نواله نعمة في الكنيسة يتركها ويخرج خارجًا، فدمه على رأسه؛ هو مسئول عن هلاك نفسه، الأمر الذي أوضحه بولس موصيًا بتجنب الهرطوقي...[62]]
[من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح[63]]، [فإنه ليس مسيحيًا من هو ليس داخل كنيسة المسيح[64]]، [إذ كيف يمكن أن يكون أحد مع المسيح إن كان لا يسلك داخل عروس المسيح، وإن لم يوجد في كنيسته؟![65]].
وللقديس كبريانوس عبارته المشهورة: [من ليس له الكنيسة أمًا، لا يقدر أن يكون الله أباه![66]]
6. الجاسوسان على الجبل...
"قالت لهما: إذهبا إلى الجبل لئلا يصادفكما السعاة، وإختبئا هناك ثلاثة أيام حتى يرجع السعاة ثم إذهبا في طريقكما... فإنطلقا وجاءا إلى الجبل ولبثا هناك ثلاثة أيام حتى رجع السعاة. وفتش السعاة في كل الطريق فلم يجدوهم" [16، 22].
لماذا طلبت راحاب منهما أن يذهبا إلى الجبل؟ وأن يبقيا هنالك ثلاثة أيام حتى يرجع السعاة؟
إذ قبلت راحاب الزانية الإيمان بالله هاج ملك أريحا، ودخل معها في عداوة ليس لأجل ذاتها وإنما من أجل إيمانها، هذا لاق بها أن ترتفع بإيمانها على جبل الله المقدس ويبقى هناك ثلاثة أيام حتى لا يقدر إبليس (ملك أريحا) أن يبلغ إليه بسعاته الأشرار.
لعل هذا الجبل يُشير إلى السيد المسيح نفسه الذي تحدث عنه دانيال النبي بكونه الحجر الذي قطع بغير يدين (دا 2: 34)، هذا "الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها" (دا 2: 35). هذا هو الحجر المقدس الذي يرفعنا إليه فيحطم إبليس ويسحقه كالتمثال، ليصير هو جبلاً يرتفع إليه جماعة الأمم.
والجبل المقدس أيضًا هو كلمة الله التي ترفعنا إلى السماويات، فلا نسقط في فخاخ ملك أريحا ولا نقع بين سعاته، التي تُشير إلى شهوات الجسد، وكما يقول العلامة أريجانوس: [أصبحت الزانية معرضة لحقد ملك أريحا، لماذا؟ لأن "الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد" (غل 5: 17)، مكتوب أيضًا: "إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم" (يو 15: 18). إذن، يوجد ملك عدو لهذه الزانية، هو "رئيس هذا العالم" (يو 12: 31) الذي يطارد جواسيس يسوع ويريد أن يتخلص منهم، ولكنه لا يقدر أن يضع يده عليهم إذ يسيرون على الجبل (يش 2: 22)، ويطلبون أعالي التلال وقمم الجبال. النفس الزانية التي فينا تصرخ: "رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني" (مز 121: 1). حقًا إن رئيس هذا العالم لا يقدر أن يصعد هذه المناطق ويصل إلى يسوع في المرتفعات، مع أنه في التجرية أخذه إلى موضع عالي وقال له: اطرح نفسك إلى أسفل (مت 4: 6)، فإنه لا يحب سوى الساقطين إلى الأعماق السفلية. إذ هناك يملك، وهناك يقيم مسكنه، ومن هناك يهبط إلى جهنم[67]].
وقد تأثر قيصريوس أسقف Arles بتفسير أوريجانوس بل واقتبس الكثير من عبارته إذ يقول: [اقتفى ملك أريحا أي الشيطان أثر جاسوسي يشوع، ولكنه لم يقد أن يأسرهما إذ صعدا على الجبل. إنهما لم يسيرا في الأماكن المنخفضة ولا ابتهجا بالوديان أي الملذات بل سلكا قمم الجبال ليقولا مع المرتل: "رفعت عيني على الجبال من حيث يأتي عوني". رئيس هذا العالم لا يقدر أن يرتفع وراءهما، إذ هو يحب ما هو منحط وسهل الإنكسار، لذا غالبًا ما يقود المبتهجين بالملذات، ويملك عليهم، ويجعل له مسكنًا فيهم، وينحدر بهم ومعهم إلى الهاوية.
7. الجاسوسان لدى يشوع...
"ثم رجع الرجلان ونزلا عن الجبل وأتيا إلى يشوع بن نون، وقّصا عليه كل ما أصابهما. وقالا ليشوع: إن الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها، وقد ذاب كل سكان الأرض بسببنا" [23-24].
إن كان الجاسوسان يشيران إلى إرسالية، أو خدامه، فإن الخادم إذ يسلك على الجبال، أي يعيش في الكتاب المقدس بكونه الجبل المقدس الذي منه ينال الخادم العون، وعليه يرتفع فوق كل أمور الحياة الزمنية، ليلتقي مع السيد المسيح الصاعد إلى سمواته عند جبل الزيتون إلخ... يعود الخادم فينزل ويأتي إلى يشوع [23]. وكأنه خلال كلمة الله الجبل العالي يدخل الخادم إلى أعماقها ليكشف رب المجد يسوع نفسه ينتظره ليتسلم منه تقرير نجاحه. لقد جاء التلاميذ إليه فرحين يقولون: "يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك" (لو 10: 17). فقال لهم: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق في السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضربكم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات" (لو 10: 18-20). إنهم كجاسوسى يشوع اللذين جاءا إليه يعلنان نصرتهما في الرب فأكد لهما يشوع "الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها"، وكأنه يقول إنه يتمم مواعيده لنرث الملكوت.
إن كان السيد المسيح غير المنفصل عن أبيه يقضي أحيانًا الليل كله في حديث مع أبيه، فكم بالحري يليق بنا كخدام أن نلتقي بيسوعنا - كقائد موكب النصرة - ونقدم له تقريرًا عن كل صغيرة وكبيرة حتى يتحقق عمله فينا بلا عائق، ويدخل بنا إلى أرض ميراثه!
أخيرًا فإن الجاسوسين قد إختبآ ثلاثة أيام قبل رجوعهما إلى يشوع [16، 22]، وكأنه لا يمكن اللقاء مع يسوع القائم من الأموات إلاَّ بدخول الخادم نفسه في الحياة المقامة (رقم 3)... إن كان سعاة الملك يريدون قتلهما، فبدخولهما في سرّ الأيام الثلاثة أو سرّ القيامة مع يسوع ربنا يثابران في جهادهما ورعايتهما حتى يقدران أن يلتقيا به!
في إيجاز يمكننا أن نمتدح راحاب الزانية من جوانب متعددة.
أ. قبلت الجاسوسين سرًا، أي قبلت إرسالتي يسوع الخاصتي بالإيمان به في قلبها سرًا.
ب. رفعتهما إلى السطح، أي تحوّل إيمانها إلى حياة سماوية علوية.
ج. خبأتهما بين عيدان الكتان إشارة إلى قبولها الحياة الطاهرة عوض الزنا.
د. طلبت علامة أمانة، إذ قبلت المواعيد الإلهية وآمنت ليس كعطية عامة فحسب وإنما أيضًا كعطية شخصية لها ولأهل بيتها.
هـ. طلبت منهما الذهاب إلى الجبل أي لا يسلكا بعد في الأمور السفلية الدنيئة.
و. بوضع خيوط القرمز على بيتها صار رمزًا لكنيسة العهد الجديد المقدسة بالدم.
ز. طلبت من الجاسوسين أن يبقيا ثلاثة أيام في الجبل حتى لا يقتلهما رسل ملك أريحا، إعلانًا عن التمسك بالقيام مع المسيح حتى لا يمسك بنا عدو الخير.
الأصحاح الثالث
إمكانية المعمودية
"عبور نهر الأردن"
إن كان هذا السفر قد افتتح بالكشف عن الحقيقة الرئيسية في الخدمة وهي أن الله هو العامل في خدامه (ص 1)، ليدخل بهم مع شعبه إلى ميراثه، وجاءت قصة الجاسوسين وراحاب الزانية تؤكد أن الإيمان بالله المخلص إيمانًا عمليًا هو الطريق لبلوغ الميراث الإلهي والتمتع بمواعيد الله، فإننا الآن إذ نقف عند شاطئ الأردن نكتشف إمكانية المعمودية في العبور، أو إمكانية عمل الله الخلاصي بالمعمودية للتمتع بالميراث. يقول العلامة أوريجانوس: [أحداث الأردن هي صورة للسرّ الذي يتم في المعمودية[68]].
1. الانتظار ثلاثة أيام [1-4].
2. الاستعداد للعبور [5-6].
3. يشوع يتمجد في الأردن [7-8].
4. التابوت في الأردن [9-12].
5. الند الواحد [13-17].
1. الانتظار ثلاثة أيام...
إذ قدم الجاسوسان تقريرهما عن عمل الله معهما انطلق الموكب كله نحو الأردن، حيث "بكر يشوع في الغد وارتحلوا من شطيم وأتوا إلى الأردن وكل بني إسرائيل، وباتوا هناك قبل أن يعبروا، وكان بعد ثلاثة أيام أن العرفاء جازوا في وسط المحلة إلخ..." [1-2].
إن كان الجاسوسان قد قدما تقريرًا واقعيًا ليشوع أن أريحا كلها في حالة رعب وخشية، وأن راحاب قد قبلتهما في بيتها وارتفعت بهما إلى السطح لينطلقا إلى الجبال ويأتيا إليه، إنما كان هذا إشارة إلى كلمة الكرازة بين الموعوظين حيث يدرك هؤلاء أنه بيسوع المسيح المخلص تنهدم كل حصون الشر ويرتعب رئيس الظلمة ويتحقق الخلاص لمن يحتضن إرسالية يسوع المسيح وإنجيله... ولكن لن يتحقق لهم هذا إلاَّ بالانطلاق إلى نهر الأردن تحت قيادة "يشوع الحقيقي" نفسه! لابد للإيمان أن يُختم بالمعمودية حتى يمكن العبر إلى الميراث والتمتع بمواعيد الله وهباته المجانية! فالارتحال من شطيم إلى الأردن بقيادة يشوع هو إلتزام الموعوظين بالعبور إلى المعمودية.
ارتحلوا من شطيم، التي تعني "شجر السنط"، الموضع الذي حاول فيه بلعام أن يلعن شعب إسرائيل (عدد 22-24)، والذي فيه ضل الشعب وراء بنات موآب ومديان وبعل فغور (عدد 25) لينطلقوا خلال الأردن إلى أرض الموعد. إرتحلوا من اللعنة والضلال والفجور (بعل فغور) للحياة الجديدة المقدسة بالمعمودية. لكن هذه الانطلاقة احتاجت إلى وقوفهم مع يشوع ثلاثة أيام قبل عبور الأردن، وهنا ندخل في سرّ الأيام الثلاثة التي طالما تحدثنا عنها ونبقى نتحدث عنها، بكونها سرّ القيامة مع المسيح في اليوم الثالث. فلا عبور في الأردن وتمتع بإمكانيات المعمودية إلاَّ خلال الدفن مع السيد ثلاثة أيام به ومعه! يقول الرسول بولس: "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟! فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة (رو 6: 3-4). ويقول: "العماد هو الصليب. ما قد حدث بالنسبة للمسيح في الصلب والدفن يصنعه العماد معنا، وإن كان ليس بذات الطريقة. لقد مات المسيح بالجسد ودفن، أما نحن فنموت عن الخطية وندفن... إن كنت تشاركه الموت والدفن، فبالأولى تشاركه القيامة والحياة[69]".
والثلاثة أيام كما رأينا في الأصحاح الأول[70] يشير إلى الثالوث القدوس فلا عبور في مياه المعمودية إلاَّ بعد إعلان إيماننا بالثالوث القدوس، حيث نتقبل البنوة للآب والعضوية في جسد الابن الوحيد ويقوم الروح القدس بتثبيتنا في الابن. بمعنى آخر أن المعمودية هي تمتع بعمل الثالوث القدوس في حياتنا، فبدون إيماننا به لا نفع للعماد!
بعد اجتياز الثلاثة أيام أي قبول قوة القيامة المسيح وإعلان الإيمان بالثالوث القدوس اجتاز العرفاء، أي رؤساء الألوف والمئات والعشرات في وسط المحلة، وأمروا الشعب، قائلين: "عندما ترون تابوت عهد الرب إلهكم والكهنة اللاويين حاملين إياه فارتحلوا من أماكنكم وسيروا وراءه، ولكن يكون بينكم وبينه مسافة نحو ألفي ذراع بالقياس، لا تقربوا منه لكي تعرفوا الطريق الذي تسيرون فيه، لأنكم لم تعبروا هذا الطريق من قبل" [3-4].
يقول القديس أغسطينوس: [الأردن يعني "نزولهم" إذن لتنزلوا حتى ترتفعوا، ولا ترتفعوا لئلا تهبطوا[71]]. إن كانت المعمودية هي نزول لأجل الصعود، فإن طريقها غريب على بني البشر الذين سقطوا في الكبرياء، ولا يريدون أن ينزلوا، حتى إن أرادوا لا يقدرون. إنه طريق جديد لابد أن يفتتحه ذاك الذي وحده استطاع أن يتضع وهو العظيم، كلمة الله المتجسد. فعبور تابوت عهد الرب يحمله الكهنة اللاويين أمام الشعب إنما يعني افتتاح السيد المسيح طريق المعمودية بنفسه، يتقدم إليها باتضاعه فيرفعنا إلى بنوته لله. الابن صار عبدًا، لكيما في مياه المعمودية يرفع العبيد إلى البنوة لله!
لو لم يقدس السيد المسيح مياه الأردن لصارت المعمودية مياه مجردة بلا فاعلية، لهذا يقول القديس أمبروسيوس: أنها [تحمل نعمة المسيح[72]]. وفي الطقس القبطي ترشم المياه بالصليب، ويغطس الصليب فيها إعلانًا عن أن المصلوب - تابوت العهد الحقيقي- قد دخل الأردن وقدّسه.
لقد طلب العرفاء من الشعب أن يكون بينهم وبين التابوت نحو ألفي ذراع قياس، ذلك لأن رقم 2 يشير للحب الذي يجعل الإثنين- المحب والمحبوب- واحدًا، لأن الحب جاء في الوصيتين الأولى والثانية من الناموس، وقد دفع السامري الصالح درهمين للفندق من أجل محبته لله ولأخيه الجريح، وقدمت الأرملة فلسين علامة محبتها لله والناس. أما رقم 1000 فيشير للحياة السماوية، لذلك فإن رقم 2000 يشير إلى الحب على المستوى السماوي الروحي، سواء كان الحب لله أم للناس. كأن طالب العماد يلزم لكي ينال بركات المعمودية أن يقبل الحب الجديد في مياه المعمودية. بهذا ينعم المعمد ببركة سكنى الله فيه، هذا الذي لا يسكن إلاََّ في القلوب المتسعة حبًا. يقول القديس أغسطينوس: [إن وُجد الحب إنما يوجد تكميل الناموس أيضًا (رو 13: 10)، حيث يسكن الله فيك، وتكن أنت عرشًا له[73]].
إن كنا في مياه المعمودية نصير أعضاء مقدسة في جسد المسيح، فإننا بالحقيقية نحمل سمته التي عبر عنها القديس يوحنا الحبيب: "الله محبة" (1 يو 4: 8)، وإن كانت المعمودية هي ميلادًا جديدًا فإن الرسول يؤكد: "كل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لا يعرف الله" (1 يو 4: 7-8)، وكأن من يغلق قلبه عن الله والناس لا ينفعه ميلاده في مياه المعمودية شيئًا، بل يكون سرّ دينونة عليه... نال إمكانية الحب خلال الميلاد الجديد لكنه لم يمارسه. وإن كانت المعمودية هي سرّ استنارة النفس، فإنه بدون الحب يعيش الإنسان في الظلمة، كقول الرسول: "من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة (1 يو 2: 9)... هكذا لا يمكن عزل الأردن عن طبيعة الحب السماوي الموهوبة لنا بالروح القدس.
أما قوله: "لا تقربوا منه لكي تعرفوا الطريق الذي تسيرون فيه، لأنكم لم تعبروا هذا الطريق من قبل" [4]، إنما يشير إلى أن هذا الطريق جديد بالنسسبة لنا، لم نختبره من قبل، ولم يكن ممكنًا التمتع والاقتراب إليه لو لم يدخل السيد أولاً ويفتحه!
إن كان عبور يشوع يمثل عبور يسوع المسيح كمخلص لنا، لأن كلمة يشوع تعني "يهوه الخلاص"، فإن عبور التابوت يشير إليه ككلمة الله، إذ يحمل داخله لوحي الشريعة، وعبور الكهنة يشير إليه كرئيس كهنة أعظم، وكأننا في مياه المعمودية نلتقي بيسوعنا المخلص، كلمة الله واهب الحياة، رئيس الكهنة الذي يشفع فينا لدى الآب خلال دمه الكريم. فيها نثبت في جسده المقدس لننال خلاصنا وننعم بحياته فينا، وتصير لنا دالة لدى الآب خلاله!
2. الاستعداد للعبور...
"قال يشوع للشعب: تقدسوا لأن الرب يعمل غدًا في وسطكم عجائب" [5]. لقد طالبهم يشوع بالتقديس ليروا عجائب الله في وسطهم. حقًا ليست هذه العجائب هي ثمن تقديس أنفسهم، إنما هي عطايا مجانية تقدم لمن يعلن اشتياقه وإيمانه بعمل الله خلال جديته واستعداده لقبول نعم الله وعطاياه. في دراسنا لطقس المعمودية رأينا الاستعدادات الواجبة على طالبي العماد حتى يتأهلوا لنوال هذا السرّ[74]. كان طالبوا العماد في الكنيسة الأولى يلتزمون بدراسات معينة وفحص دقيق من جهة إيمانهم وسلوكهم كما يلتزمون بالصوم والصلاة مع السهر قبيل العماد. يقول العلامة ترتليان: [يجدر بالآتين إلى المعمودية أن ينشغلوا على الدوام بالصلوات والأصوام والمطانيات والأسهار، كل هذا مع الاعتراف بالخطايا السابقة[75]]. وللقديس كيرلس الكبير حديث رائع مع طالبي العماد: [إن اقترب يوم عرسكم أما تتركوا كل شيء وتتفرغوا تمامًا لإعداد الوليمة؟! لقد اقترب يوم تكريس نفوسكم لعريسها السماوي، أما تكفوا عن الانشغال بالأمور الزمنية لتربحوا الروحية؟! ليتنقى ذهنكم كما بنار في وقار! لتُصهر نفوسكم كالمعدن فتزول الشوائب ويبقى المعدن الخالص... صلوا بأكثر مثابرة لكي يجعلكم الله مستحقين الأسرار السمائية الخالدة...[76]].
3. يشوع يتعظم في الأردن...
"فقال الرب ليشوع: اليوم أبتدئ أعظمك في أعين جميع إسرائيل لكي يعلموا أني كما كنت مع موسى أكون معك. وأما أنت فأمر الكهنة حاملي تابوت العهد قائلاً: عندما تأتون إلى ضفة مياه الأردن تقفون في الأردن" [7-8].
يليق بالإنسان أن يعظم الله خلال عبادته وسلوكه الداخلي وتصرفاته مع الآخرين، أما هنا فنجد الله نفسه يؤكد ليشوع: "اليوم أبتدئ أعظمك" [7]. كيف يعظم الله يشوع؟ لقد ارتبطت عظمة يشوع في عيني الله والناس بعبور نهر الأردن (4: 14)، وكأنها صورة رمزية لبداية إعلان عظمة ربنا يسوع خلال الأردن، أما وجه المقارنة في هذا الشأن فيظهر في الآتي:
أولاً: يقول له: "لكي يعلموا أنيّ كما كنت مع موسى أكون معك" [7]. هذا هو ما أعلنه عبور نهر الأردن، إذ كشف عن معية الله ليشوع. أما بالنسبة لربنا يسوع فإن عبوره الأردن أو عماده قد كشف عن علاقته مع الآب، بكونه ابن الله الوحيد، وموضع سروره، إذ "السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه، صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 3: 16-17). وقد دعي العيد الخاص بعماد السيد: "عيد الظهور الإلهي"، خلاله ليس فقط ظهر الثالوث المقدس بكون الابن في المياه والروح نازلاً عليه والآب يتحدث عنه من السماء، إنما ظهر عمل الثالوث المقدس واضحًا في حياتنا. فخلال المعمودية يهبنا الروح القدس الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع، ويفتح عن بصيرتنا الداخلية لندرك مركزنا الجديد كأبناء الآب ننعم ببنوته وسروره، لأننا أعضاء جسد ابنه المحبوب.
ثانيًا: لعل يشوع أيضًا قد تعظم خلال حمل الكهنة تابوت العهد وتقدمهم للشعب حتى يعبر الكل مياه الأردن. هذه هي المرة الأولى التي فيها نجد التابوت المقدس محمولاً بواسطة الكهنة وقائمًا بدور قيادي للشعب الذي التزم أن يبقى على بعد نحو ألفي ذراع قياس [4]... هذا التصرف أبرز جوانب كثيرة في عمل يشوعنا الحقيقي في مياه المعمودية، نذكر منها الآتي:
أ. لقد تعظم يشوعنا الحقيقي ليس بحملنا تابوت العهد وإنما بما وهبه لنا في الأردن الجديد حيث صرنا نحمل الثالوث القدوس نفسه. صرنا نحن أنفسنا هيكل الله المقدس، نتقبل روحه القدوس فينا خلال سرّ الميرون. صار ملكوت الله داخلنا (لو 17: 21)، يسكن الله فينا ويملك علينا.
ب. حمل الكهنة للتابوت إنما يشير إلى عطية الله للإنسان، والتابوت يمثل الحضرة الإلهية، وحمله إنما يعني اقتراب الإنسان لله بعد فترة عداوة طويلة، لقد كان الإنسان يتطلع إلى الله كنار آكلة لا يمكن الاقتراب إليه. أما وقد دخل يشوعنا الأردن، فإنه دخل بنا لا إلى الاقتراب إليه فحسب وإنما إلى الاتحاد مع الآب فيه. ففي المياه المقدسة يعمل الروح الناري فينا، لا ليحرق ننفوسنا وإنما ليبدد إنساننا القديم ويحرق العداوة واهبًا إيانا استنارة روحية خلالها ندرك بنوتنا لله وإتحادنا معه. لذلك يقول العلامة أوريجانوس: [طوبى للذين صاروا قريبين! لقد اقتربوا وجاوروا النار التي تنيرهم ولا تحرقهم[77]]. إن كان في التجسد الإلهي قد اتحد اللاهوت بالناسوت، ورأينا ابن الله ينزل إلينا ويحلّ في وسطنا قريبًا منا بل كواحد منا: ففي الأردن أعطانا أن نرتفع نحن إليه ونقترب منه لنحمل حياته الإلهية فينا ويرفعنا إلى سمواته. هذا هو ما يمجد يشوعنا الحقيقي لا باقترابنا لحمل التابوت مع كهنة العهد القديم وإنما بارتفاعنا إلى السموات ووجودنا مع الله متحدين معه في ابنه بروحه القدوس الناري.
يتحدث القديس غريغوريوس أسقف نيصص عن عمل الأردن في حياتنا قائلاً بإيجاز: [لقد تعظم الأردن، إذ هو يجدد البشر ويزرعهم في فردوس الله[78]].
مرة أخرى يدعونا القديس غريغوريوس النيصي للتمتع بالمعمودية التي يتمجد يشوعنا فيها خلال عمله في حياتنا، قائلاً: [إنك تتمرغ في الوحل إلى وقت طويل، إسرع إلى الأردن، لا بدعوة من يوحنا وإنما خلال صوت المسيح! في الحقيقة إن نهر النعمة يجري في كل موضع، إنه لا ينبع في فلسطين لتختفي في البحر المجاور، لكنه يغطي العالم كله، ويدخل الفردوس، ويفيض على الأنهار الأربعة النازلة من هناك، ويرد للفردوس الأمور الثمينة أكثر مما تجلبه الأنهار الأخرى. فإن هذه الأنهار تقدم روائح طيبة وزراعة للأرض وثمارًا، أما هذا النهر فيجلب أُناسًا مولودين بالروح القدس! إمتثل بيشوع بن نون وحمل الإنجيل كما حمل التابوت! أترك البرية أي الخطية وأعبر الأردن. إسرع نحو الحياة حسب المسيح، ونحو الأرض التي تفيض ثمار الفرح فتجري فيها مجاري اللبن والعسل. حّطم أريحا المسكن القديم ولا تتركها مخصبة[79]].
لقد سبق فتحدثنا بشيء من التفصيل عن فاعلية المعمودية في حياتنا، الأمر الذي بحق يمجد يسوعنا الذي عبر بنا هذا النهر المقدس[80].
ج. التزم الشعب أن يبقى على بُعد حوالي ألفين ذراعًا من التابوت إنما يشير إلى مؤمني العهد القديم ككل الذين وإن كانوا ينعمون بالخلاص لكن عن بُعد، خلال الرموز والنبوات، أي خلال الظلال وشبه السماويات، أما مؤمنوا العهد الجديد فيرمز لهم بالكهنة حاملي التابوت، وفي هذا وذاك يتمجد يشوعنا ويتعظم.
ثالثًا: تعظم يشوع أيضًا إذ بعبوره الأردن ظهر الكهنة كقادة للشعب خلال حملهم التابوت، بكونهم المنارة التي تحمل النور الإلهي ليضيء للكل. فالتابوت إذ يحّوي لوحي العهد يرمز للكرازة بالكلمة الإلهية، الأمر الذي بدونه لا يقدر أحد أن يعبر إلى أرض الموعد ويتمتع بالميراث الأبدي. يقول العلامة أوريجانوس: [إنها طغمة الكهنة واللاويين التي تقف عن قرب من تابوت عهد الرب حيث يوجد الناموس فيه، إذ يلزمهم أن يبّصروا الشعب بوصايا الله، كقول النبي "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 119: 105)، هذا النور المُضاء بواسطة الكهنة واللاويين، حيث يوجد من بينهم من يضع السراج على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت (مت 5: 15)[81]]. أما في أردن العهد الجديد فلا يحمل الكهنة تابوتًا يحوي الشريعة منقوشة على حجرين إنما يحملون "كلمة الله" منقوشًا في قلوبهم بالروح (2 كو 3: 3) متجليًا بسماته في حياتهم الداخلية وسلوكهم الظاهر، يقدمونه لا بكلمات الوعظ فحسب وإنما بالروح القدس الذي يُدخل الكلمة إلى قلوب السامعين. يقول الرسول بولس: "إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس وبيقين شديد كما تعرفون أي رجال كنا بينكم من أجلكم" (1 تس 1: 5).
رابعًا: تعظم يشوع أيضًا بعبور الشعب خلال القيادة التابوت لهم، فما كان يمكنهم أن يعبروا ما لم يتقدم يشوع والكهنة حاملي التابوت ويقفوا في الأردن، إذ قيل ليشوع: "عندما تأتون عند ضفة مياه الأردن تقفون في الأردن" [8]. إنها صورة رمزية لحقيقة الخلاص، فما كان لنا أن ننعم بالحياة الجديدة ولا أن نجتاز الأردن بقوة ما لم يدخل يسوعنا المحيي الأردن بنفسه، ويقف فيه لكي يحملنا على كتفه وينطلق بنا إلى ملكوته. حقًا إن مياه المعمودية بدون المسيح تصير ماًء عاديًا قادرًا على غسل الجسد دون تقديسه، عاجزًا على الدخول إلى أعماق النفس.
لقد إلتزم يشوع والكهنة أن يقفوا في الأردن، يا لها من صورة رمزية لعظمة يشوعنا الحقيقي الذي دخل بنا إلى مياه الأردن لنراه واقفًا فنقف معه وفيه. حقًا لقد دفن في المياه كما في القبر، لكن لم يكن ممكنًا للموت أن يحبسه ولا للقبر أن يغلق عليه، بل وقف قائمًا من الأموات، واهبًا إيانا الحياة المقامة. إننا نُدفن معه بالمعمودية للموت (رو 6: 4)، لا لنبقى في حالة دفن بل في حالة قيام معه وفيه. هذا هو سرّ تعظيم يشوع الحق، إذ أُعلن في مياه المعمودية سرّ صليبه ودفنه وقيامته، كسرّ واحد متلاحم!
خامسًا: يتعظم يشوع بإستلامه القيادة رمزًا للإستلام يشوع الحقيقي قيادة نفوسنا عند عبورنا الأردن الجديد وبعده أيضًا. يتحدث القديس أمبروسيوس عن قيام السيد نفسه بالعمل السري أثناء العماد، قائلاً: [لا تنظر إلى استحقاقات الأفراد... آمن أن الرب يسوع حاضر عند استدعاء الكاهن، هذا الذي قال: "لأنه حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20)، فكم بالأكثر حينما تكون الكنيسة موجودة، وسرائره حاضرة، يمنحنا بالأكثر إعلان حضرته؟![82]]. وفي أكثر من موضع يطالبه القديس يوحنا الذهبي الفم ألا ننظر إلى الكاهن أثناء الخدمة السرائرية بل إلى السيد المسيح نفسه العامل خفية فيه. أما بخصوص قيادة ربنا يسوع نفوسنا بعد العماد، فيقول العلامة أوريجانوس: [إذ عبرت نهر الأردن بواسطة الكهنة تدخل أرض الميعاد، هذه الأرض التي فيها يتعهدك يشوع - بعد موسى- ويكون مرشدك في طريقك الجديد[83]].
4. التابوت في الأردن...
يقول يشوع: "بهذا تعلمون أن الله الحيّ في وسطكم، وطردًا يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والحويين والجرجاشيين والأموريين واليبوسيين. هوذا عهد سيد كل الأرض عابر أمامكم في الأردن" [10-11].
في هذه العبارة يظهر بوضوح وجود خطين رئيسيين ومتكاملين معًا في ليتورجيا المعمودية، ألا وهما إقامة مملكة إبليس بظهوره في وسط أولاده، ساكنًا فيهم، وطرده أو تحطيمه مملكة إبليس المرموز إليها بهذه الأمم الوثنية. وقد تحدثنا بإفاضة عن هذين الخطين عن دراستنا للمعمودية[84].
ومما يجدر ملاحظته أن عبو نهر الأردن، وإن كان قد أبرز حلول الله وسط شعبه واهبًا إياهم النصرة على مملكة الظلمة، فإنه من جانب آخر أيضًا يكشف عن عمل الله مع أولاده إذ يخضع الطبيعة لحسابهم. فمادمنا نحمل الخالق فينا نخضع الخليقة لنا، ولتعمل في طاعة لحسابنا. يقارن العلامة أوريجانوس بين خضوع الطبيعة للمؤمنين لصالحهم، ومقاومتها للأشرار، قائلاً: [يشعر الشرير بكراهية نحو كل الخليقة، كما جاء عن المصريين الذين يشعرون بعداوة نحو الأرض والمياه والهواء والسماء. أما بالنسبة للبار فحتى ما يبدو قاسًا يتحول له إلى سهول ومنحدرات رقيقة. الإنسان البار يعبر البحر الأحمر كمن يمش على اليابسة، أما المصري الذي يريد عبوره فيُبتلع فيه. بالنسبة للبار يكون الماء سورًا له عن يمينه وعن يساره (خر 14: 22-29)! ليتقدم البار إلى متاهات البرية المرعبة فيجد طعامًا له من السماء (مز 78: 24). هكذا في الأردن كان تابوت العهد يقود شعب الله؛ كان الكهنة واللاويون يقفون، والمياه كما لو كانت قد أخذت في دهشة تقف أمام أسرار الله إجلالاً، تنحصر عن مجراها، وتتجمع في جانب ككومة لتقدم لشعب الله طريقًا بلا أخطار (يش 3: 15). لا تندهش أيها المسيحي عندما نروى لك ما حدث مع الشعب القديم، فإن كلمة الله يعدك يا من تعبر نهر الأردن - خلال سرّ المعمودية- بخيرات أعظم بكثير وأسمى، إنه يعدك بطريق وممر خلال الهواء. اسمع ما يقوله القديس بولس عن الأبرار: "سنُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، هكذا نكون كل حين مع الرب" (1 تس 4: 17). بل، يليق بالبار ألا يخشى شيئًا، فإن الخليقة كلها في خدمته. استمع أيضًا إلى الوعود التي يقدمها لنا الله بالنبي: "إذا مشيت في النار فلا تُلدغ واللهب لا يحرقك، لأنيّ أنا الرب إلهك" (إش 43: 2). هكذا يكون البار كمن في مخدعه (في راحة) وأينما وجد، تُظهر له الخليقة كلها خضوعًا له (تك 1: 26، مز 8: 7)... إذن، إذ تذكر هذه العلامات التي لا يُسمع عنها الخاصة بعظمة الله: البحر المنشق إلى إثنين بسببك وماء النهر المتوقفة عند المنبع، فإنك ترجع وتصرخ: "مالك أيها البحر قد هربت، ومالك أيها الأردن قد رجعت إلى خلف، ومالكن أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش، وأيتها التلال مثل حملان الغنم" (مز 114: 5- 8). وتجيبك كلمة الله: "أيتها الأرض تزلزلي من قدام الرب من قدام إله يعقوب، المحوّل الصخرة إلى غدران مياه، الصوان إلى ينابيع مياه"[85]]. لقد أردك القديس أوغسطينوس ذلك، ففي مناجاته لله يقول: [لقد كرست كل خليقتك لخدمتي حتى يمكنني أن أتكرس أنا لخدمتك بالكلية]، كما يقول: [أخضعت كل شيء تحت قدمي الإنسان (مز 8) حتى يمكنه أن يتكرس بكليته لك. لهذا لن تقم عليه سيدًا سواك، إنما أقمته هو سيدًا على خليقتك![86]].
5. الند الواحد...
عبور نهر الأردن تحت قيادة يشوع إختلف تمامًا عن عبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى النبي، فالأخير تحقق خلال انشقاق البحر وعبور الشعب حيث كانت المياه الملحة على الجانبين كسور لهما، أما هنا فالمياه "المنحدرة من فوق تنفلق وتقف ندًا واحدًا" [13]، بمعنى أن المياه المنحدرة من أعلى تبقى حيث المنبع متوقفة في هذا الجانب الأيمن، أما النازلة في البحر الميت المالح فتنحدر فيه ويجف موضعها. فتكون المياه حلوة من جانب واحد ونحو المنبع وليس كسورين من الجانبين كما في عبور البحر الأحمر. هذا الأمر لم يتحقق مصادفة لكن حمل رمزًا للعهد الجديد ندركه خلال تقديم مقارنة بين العبورين في شيء من الاختصار، مع توضيح الجوانب الرمزية في كل تفاصيل العبور الجديد:
أولاً: في دراستنا لسفر الخروج تعرضنا للحديث عن عبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى النبي بكونه رمزًا للمعمودية، فما هو وجه الاختلاف بينه وبين عبور نهر الأردن تحت قيادة يشوع بن نون! ما أريد توضيحه هنا أن العبورين في الواقع يمثلان جانبين متكاملين لسرّ المعمودية، فالأول يشير إلى خلع الإنسان العتيق، والثاني يشير إلى التمتع بعطية الإنسان الجديد، وهما عملان في حقيقتهما عمل واحد متكامل، فلا تمتع بالإنسان الجديد ما لم يُخلع القديم ولا يمكن خلع القديم ما لم نلبس الجديد. لهذا وإن كنا نقارن بين العبورين إنما في الحقيقة هما عبور واحد ممتد فيه يخلع طالب العماد الإنسان العتيق الذي أعلنه الناموس (موسى) وفضحه مظهرًا ثمره أي الموت الأبدي، ويلبس الإنسان الجديد الذي تقدمه النعمة الإلهية بيشوعنا الحق، كقول الإنجيلي: "لأن الناموس بموسى أُعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1: 17). الأول يمثل الصليب مع المسيح والثاني يمثل القيامة معه، لهذا تحقق الأول بضرب البحر بالعصا (الصليب) أما الثاني فبوقوف الكهنة حاملي التابوت (القيامة)!
ثانيًا: في عبور البحر الأحمر تحت قيادة موسى انشقت المياه إلى إثنين وصارت كسورين عن يمينهم وعن يسارهم، أما هنا فالمياه اجتمعت عند المنبع بينما انحدرت الأخرى إلى البحر الميت ليجف الطريق أمامهم. يرى العلامة أوريجانوس في ذلك صورة حية لعمل المعمودية التي [جعلت الإثنين واحدًا، ونقضت حائط السياج المتوسط، فقد تراكمت المياه في ناحية واحدة[87]]. خلال موسى أو الناموس انشقت البشرية إلى يهود وأمم، أما في المسيح يسوع فنلنا بالمعمودية روح الوحدة، ليس فقط بيننا وبين السماء، وإنما بين بعضنا البعض... حيث تجمعت الكنيسة من كل الأمم وكل الشعوب وكل الألسنة، وصار الكل أعضاء في الجسد الواحد.
طريق الناموس ضيق لا يمكن أن يعبر فيه إلاَّ شعب واحد، وتحصره المياه كسورين عن اليمين واليسار، أما طريق يشوع الجديد فمتسع تتجمع المياه من جانب واحد، يمكن أن يعبر فيه كل العالم، منفتح للجميع بلا تمايز عنصري!
هذا ومن ناحية أخرى، ليس بدون سبب بقيت المياه العذبة من جانب واحد، على يمينهم عند العبور، بينما انحدرت المياه من الجانب الآخر في البحر الميت المالح [16]. يقول العلامة أوريجانوس: [لو كان الذين يتعمدون جميعهم يحتفظون بعذوبة الروح الإلهي الذي نالوه، ولا يعود واحد منهم إلى مرارة الخطية، ما كان بالتأكيد قد كتب أن جزءًا من النهر يُقذف في هوة البحر المالح. لهذا فإن هذه الكلمات كما يبدو ليّ تشير إلى وجود اختلاف بين المعمدين... فإنه يوجد من ينال المعمودية المقدسة ويرجع فيُسلم نفسه لاهتمامات العالم وميول الشهوات، فيشرب من كأس الشهوة المالح مرة أخرى. لقد رُمز عن هؤلاء بالجزء من الماء الذي يتدفق إلى البحر ويفنى في المياه المالحة. أما الجزء الذي يظل متوفقًا، ويحتفظ بعذوبته، فيمكن أن يشير إلى الذين في غير تراجع يحفظون العطية التي نالوها من الله. وطبيعي هؤلاء الذين خلصوا يمكن أن يُرمز لهم بجزء واحد، لأنه أيضًا لا يوجد سوى "خبز الله (الواحد) هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم" (يو 6: 33)، كما يوجد "إيمان واحد ومعمودية واحدة وروح واحد" (أف 4: 4-6)[88]]...
ثالثًا: العبور تحت قيادة موسى يدخل بنا إلى طريق بين سورين من الماء المالح، أما تحت قيادة يشوع فالمياه عذبة والطريق متسع... الأول يعبّر عن الناموس الذي يدخل بنا إلى المرارة ويجعلنا كمن هم محصورين وفي خطر، أما الثاني فيعبّر عن نعمة ربنا يسوع العذبة والغنية، التي تعطي للنفس فرحًا أثناء عبورنا هذا العالم.
رابعًا: العبور الأول كان في اضطراب فالعدو من خلف والمياه المالحة من الجانبين أما العبور الثاني فكان في سلام، ليس من عدو خلفنا ولا من مياه مالحة حولنا... إنه الطريق الذي هو "يسوعنا الحق"، فيه نستريح ولا نخاف العدو، ولا تقدر المياه المالحة أن تقترب إلينا.
خامسًا: في العبور الأول ينتظر الشعب برية قاحلة يسيرون فيها أربعون عامًا، وأن كان الله لم يتركهم وسط البرية بل كان يرعاهم بنفسه ويهتم بكل احتياجاتهم الروحية والجسدية والأدبية، أما في العبور الثاني فيرى المؤمن أرض كنعان ليست بعيدة عنه وأورشليم قريبة إليه جدًا. ففي المسيح يسوع ربنا نرى أورشليم العليا واضحة بالإيمان ومواعيده السماوية ليست ببعيدة، إنما ننعم بعربونها. والعجيب أنه في العبور الثاني تبقى المياه عند المنبع متوقفة في الأعالي... وكأنها تُشير إلى ارتفاع النفس المؤمنة إلى فوق لتحيا في السمويات ولا تنحدر إلى مياه البحر الميت.
سادسًا: يقول العلامة أوريجانوس: [عندما أخرج موسى الشعب من أرض مصر لم يكن هناك أي نظام بين الجموع ولا طقس لدى الكهنة، هكذا كانوا يعبرون ماء البحر... لكن عندما يقود سيدي يشوع الجيش فلننظر فإن: "الكهنة يسيرون أمام الشعب حاملين تابوت العهد على أكتافهم... حيث تُحفظ فيه الشريعة والمائدة المقدسة (المن)"[89]].
سابعًا: في العبور الأول كان الكل صامتًا، أما في العبور الجديد فكان الكهنة يحملون الأبواق علامة الغلبة والنصرة.
ثامنًا: في العبور الأول لم يحمل الشعب ذكرى للعبور، أما في العبور الجديد فحملوا معهم إثنى عشر حجرًا إشارة إلى الكنيسة المقدسة التي وجدت في أعماق الأردن... أي انطلقت سريًا خلال المعمودية.
تاسعًا: تحقق العبور عندما استقرت بطون أقدام الكهنة حاملي تابوت الرب في مياه الأردن، إشارة إلى سحق السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم للشيطان تحت قدميه. فعبورنا إنما هو ثمرة سحقه لقوى الظلمة!
عاشرًا: توقيت عبور نهر الأردن كان دقيقًا، فنحن نعلم أن النهر مقابل أريحا حوالي 150-180 قدمًا عمقًا، وقد تم العبور أثناء الفيضان، ما بين شهري إبريل ومايو، فتكون المياه مضاعفة والنهر متسعًا في عرضه وشديدًا في سرعته، إشارة إلى عمل الله في المعمودية إنه يفيض وبطريقة فائقة!
الأصحاح الرابع
حجارة نهر الأردن
لما كان نهر الأردن يشير إلى سرّ المعمودية المقدسة في جانبها الإيجابي، لهذا انتخب يشوع إثنى عشر رجلاً من الشعب يحملون اثنى عشر حجرًا من أعماق الأردن ليقيموها في الجلجال إعلانًا عن قيام الكنيسة المقدسة خلال المعمودية.
1. الحجارة التذكارية [1-8].
2. الحجارة التي نصبت في القاع [9].
3. الإسراع في العبور [10-11].
4. عبور الجند المتجردين [12-13].
5. مهابة يشوع [14].
6. الصعود إلى الجلجال [15-24].
1. الحجارة التذكارية...
"وكان لما انتهى جميع الشعب من عبور الأردن أن الرب كلم الشعب، قائلاً: انتخبوا من الشعب إثنى عشر رجلاً، رجلاً واحدًا من كل سبط وأمرهم قائلاً: احملوا هنا من وسط الأردن من موقف أرجل الكهنة راسخة إثني عش حجرًا وعبروها معكم وضعوها في المبيت الذي تبيتوا فيه الليلة" [1-3].
لقد أمر الله يشوع أن ينتخب من الشعب 12 رجلاً، هؤلاء الذين بحق إذ يحملون إثني عشر حجرًا من قاع الأردن من موقف الكهنة إنما يعلنون قيام الكنيسة بكونها جسد المسيح الخفي، الذي تمتع بوجوده خلال مياه المعمودية. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن رقم 12 يشير إلى الكنيسة المقدسة هذه التي تجتمع من الأربع جهات المسكونة (مر 13: 27) خلال المعمودية باسم الثالوث المقدس (3 × 4)[90]]، أو يمكننا القول أن الثالوث القدوس يملك على البشرية في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، فيكون رقم 12 إنما يشير إلى ملكوت الله على البشرية كلها، أي إلى الكنيسة التي تضم أعضاءً من كل الأمم والشعوب.
أُعلنت هذه الكنيسة خلال هذا الرقم في العهد القديم حيث كان عدد الأسباط الممثلين لشعب الله أو ملكوته على الأرض في ذلك الوقت إثني عشر (تك 35: 12)، وفي العهد الجديد إختار السيد إثني عشر تلميذًا يدينون الإثني عشر سبطًا (مت 19: 28)، حتى أورشليم السماوية التي في جوهرها تعني ملكوت الله فينا إلى الأبد، أو كما يلقبها معلمنا يوحنا "مسكن الله مع الناس" (رؤ 21: 3). لها إثنا عشر بابًا (رؤ 21: 12)، ثلاثة أبواب في كل اتجاه. وفي إيليم وجد الشعب إثني عشر عين ماء (خر 15: 27)، إشارة إلى الكنيسة التي صار لها الروح القدس (عين الماء) سرّ حياتها وتعزيتها وسط برية هذا العالم، وإذ أقام موسى مذبحًا للرب أقام إثني عشر عمودًا (خر 24: 4). كشفًا عن أن الكنيسة إنما هي أعمدة حية في هيكل الرب السماوي ومذبحًا روحيًا عليه وفيه تقدم ذبيحة الصليب الفريدة الأبدية. وبنفس الفكر أقام إيليا النبي مذبحًا من إثني عشر حجرًا عند تقديم الذبيحة (1 مل 18: 31). وفي الطقس اليهودي يضع رئيس الكهنة إثني عشر حجرًا كريمًا على الصدرية التي يلبسها عندما يقف في حضرة الله، وكأنه بيسوع المسيح رئيس الكهنة السماوي الحامل كنيسته في قلبه وعلى كتفيه، ويقدمها لدى الآب على الدوام. ويرى القديس إيريناؤس أن ملابس الكهنة في العهد القديم كانت تحمل إثنى عشر جرسًا (خر 28: 2)[91]]، نحن نعلم أن الثوب يُشير إلى الجسد، وكأن كاهننا يسوع المسيح إنما يرتدي كنيسته كثوب أبيض بلا دنس يُضيء كالنور (مت 17: 2)، تتحرك معه أينما تحرك لتعطي أصوات أجراس الفرح والتهليل لقديسيه والإنذار للمهملين خلاصهم!
2. الحجارة التي نصبت في القاع...
"ونصب يشوع إثنى عشر حجرًا في وسط الأردن تحت موقف أرجل الكهنة حاملي تابوت العهد" [9]. في الوقت الذي فيه أخذ الرجال إثنى عشر حجرًا من القاع، جاءوا إلى القاع أيضًا بإثنى عشر حجرًا ونصبوها هناك. ويرى الأسقف قيصريوس: [إن الإثنى عشر حجرًا الذين جاءوا بها إلى القاع إنما هي آباء العهد القديم، بينما الإثنى عشر حجرًا التي حملوها من القاع إنما تشير إلى تلاميذ المسيح[92]]. الحجارة المحمولة إلى القاع تُشير إلى اليهود الذين دفنوا في البرية واختفوا، أما الحجارة التي رُفعت من القاع فتٌشير إلى الأمم الذين انطلقوا إلى أرض الموعد خلال المعمودية.
في الواقع لا نستطيع أن نفصل بين الحجارة التي رُفعت إلى الجلجال على الأكتاف لتبنى في الجلجال، والحجارة التي أُقيمت في قاع الأردن، فالأولى إنما تُشير إلى الكنيسة بكونها جسد المسيح الذي اجتاز الأردن واحتمل الصليب والموت والدفن كل يوم ليقوم أيضًا مع رأسه ويختبر معه كل يوم الحياة الجديدة المقامة، أم الحجارة الأخرى فتُشير إلى استمرار الصليب مع المسيح. كأن المؤمن الحقيقي يلزمه أن يقوم مع السيد ويختبر كل يوم الجلوس معه في السماويات ليحيا بفكر ملائكي في حياة علوية مقدسة، وفي نفس الوقت يقف على شاطئ الأردن ليرى نفسه مدفونًا في أعماقه مع مخلصه ليختبر معه القيامة.
والعجيب أن الكتاب المقدس يحدثنا عن الحجارة المرفوعة إلى الجلجال حيث الملكوت (أرض الموعد) قبل الحديث عن الحجارة التي تنصب في وسط الأردن، مع أن الدفن يسبق القيامة، والألم يسبق الرحة، والهوان يسبق المجد، لكن في الواقع الروحي لا انفصال بين الصليب والقيامة، والألم مع السيد المسيح والتمتع براحته، واحتمال الهوان من أجله لنوال مجده. كان السيد معلقًا على الصليب وهو القيامة قبل أن تتحقق قيامته، وكان يدخل الآلام مع أن أمجاده أزلية! والمسيحي لا يقدر أن يقبل الدفن والألم والهوان ما لم يدرك بروح الله قيامة المسيح وراحته ومجده! لهذا يقول الرسول بولس: "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته لعلى أبلغ إلى قيامة الأموات" (في 3: 10-11). فإنه لا يقدر أن يدخل إلى شركة آلامه ما لم يعرف قوة قيامته، وحينئذ يقبل الموت بفرح على رجاء يوم القيامة العظيم!
ليت قلبنا يجول كل يوم في الجلجال - أرض الموعد - ليجد لنفسه موضعًا بين الحجارة الحية، مدركًا قوة السيد العاملة فيه لترفعه من مجد إلى مجد، وتدخل به إلى أعماق السماويات، وعندئذ ينطلق إلى شاطئ الأردن ليدرك أنه لا يقدر أن ينطلق إلى الجلجال الحقيقي ما لم يدفن في أعماق الأردن! إنه يتهلل بقوة القيامة لكنها ليست خارج الصليب والدفن مع رب المجد يسوع!
أخيرًا يؤكد لنا الكتاب المقدس أنه لا تمتع بهذه الهبات الإلهية إلاَّ في يسوع المسيح، الذي قيل عنه: "وأما أنه صعد فما هو إلاَّ إنه نزل أيضًا إلى أقسام الأرض السفلى، الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل" (أف 4: 9-10).
3. الإسراع في العبور...
"وأسرع الشعب فعبروا، وكان لما انتهى كل الشعب من العبور أنه عبر تابوت الرب" [10-11]. يقدم لنا العلامة أوريجانوس صورة حية لمفهوم العبور السريع، إذ يقول: [يبدو ليّ أن الكلمات: "وأسرع الشعب فعبروا" ليست إضافية وضعها الروح القدس بلا ضرورة، إنما يليق بنا نحن الذين نقبل إلى معمودية الخلاص ونتلقى أسرار كلمة الله ألا نسلك برخاوة أو تهاون، بل نسرع بالعمل حتى نعبر تمامًا. والعبور "تمامًا" إنما يعني تنفيذ كل الوصايا. لنسرع بالعبور خلال تتميم ما هو مكتوب: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3)، فإذ نترك كل كبرياء ونحتضن إتضاع يسوع نستحق التطويب الموعود به. وإذ تتمم هذه الوصية لا نتوقف بل نعبر إلى بقية الوصايا مثل: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر" (مت 5: 6)، وطوبة للحزانى (الباكين) الآن في هذا العالم... "طوبى للودعاء" (مت 5: 4)، "طوبى لصانعي السلام" (مت 5: 9). وبهذا نستحق أن نسمع أننا أولاد الله (مت 5: 9). ولنسرع بالعبور خلال فضيلة الصبر واحتمال الاضطهادات. بهذا البحث النشط والحار للبلوغ إلى كل كمال غايته نصرة الفضيلة، يتم عبور الأردن بسرعة... لكننا إذ ننتهي من هذا العبور نكون قد بلغنا مرامنا، وعندئذ يليق بنا أيضًا أن نكون في يقظة وحذر لئلا خلال الإهمال الزائد في سيرتنا نتعثر: "أما أنا فكادت تزل قدماي" (مز 73: 2). كأن النبي يقول يلزمنا ألا نكون أقل حمية في الاحتفاظ بالفضائل عنه عندما كنا نبحث عنها[93]].
إذن لنسرع بالعبور خلال الإيمان العامل، فنحيا مجاهدين في تتميم الوصايا الإلهية، وفي الاحتفاظ بما نلناه من عطايا وفضائل من قبل الله. ففي القديم إذ تباطأ لوط وعائلته أمسك الملاكان "بيده وبيد إمرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لما أخرجهما إلى خارج أنه قال: أهرب لحياتك، لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة، أهرب إلى الجبل لئلا تهلك" (تك 19: 22). وبالفعل أسرع لوط وإمرأته وبنتاه وهربوا، ولكن إمرأة لوط لم تقدر أن تحتفظ بعطية الخلاص فبعدما أسرعت عادت بقلبها إلى الوراء فصارت عمود ملح!!
يحذرنا القديس يوحنا الدرجي من التباطؤ في العبور وعدم الإسراع، خاصة في بدء حياتنا الروحية، إذ يقول: [التباطؤ في بداية المعركة الروحية بالذات يؤكد موتنا العتيد أن يحدث، وهذا أمر مكروه وخطير. البداية الحازمة بالتأكيد تفيدنا، حتى وإن تراخينا فيما بعد. فالنفس القوية في بدايتها، عندما تتوانى تذكر حماسها السابق، الأمر الذي يدفعها إلى التقدم، وبهذا تحصل على أجنحة[94]].
والعجيب أن الكهنة حاملي تابوت العهد لم يخرجوا من القاع حتى يسرع كل الشعب بالعبور [11]. يا لها من أبوة حقة، فإن الراعي الصالح لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين، فإن كان هو الذي يفتتح الطريق ويمهده لهم، لكنه يبقى محتملاً آخر الصفوف حتى يطمئن على أولاده جميعًا، لقد بدأ الكهنة بالعبور وختموا العبور، وكأنهم يحملون سمة سيدهم الذي وهو فوق الكل احتل آخر الصفوف ليحتضن كل البشرية، هذا الذي هو البداية والنهاية، الأول والآخر (رؤ 22: 13).
4. عبور الجند المتحاربين...
"وعبر بنو رأوبين وبنو جاد ونصف سبط منسي متجهزين أمام بني إسرائيل كما كلمهم موسى نحو أربعين ألفًا متجردين للجند، عبروا أمام الرب للحرب إلى عربات أريحا [12-13].
في دراستنا لسفر العدد طلبت هذه الأسباط من موسى النبي أن تُترك لهم أرض جلعاد شرقي الأردن ميراثًا ولا يكون لهم نصيب غرب الأردن مع بقية الأسباط، ووافق موسى على ذلك بشرط أن ينزل الرجال مع إخوتهم (عد 32). وهنا يؤكد الوحي الإلهي أن نحو أربعين ألفًا من هذه الأسباط متجهزين ومتجردين للحرب خرجوا أمام الشعب وأمام الرب للعمل. ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أولاً: أن عدد الخارجين للعمل أو الحرب من هذه الأسباط هو نحو أربعين ألفًا، فإن كان رقم 4 يُشير للجسد الذي هو من الأرض "أربع جهات المسكونة"، فإن رقم 1000 يُشير للحياة السماوية أو الروحية كما سبق فذكرنا في دراستنا السابقة. وكأن هؤلاء الرجال قد نزلوا لمشاركة الجماعة جسديًا وروحيًا، يشاركونهم في الأمور الزمنية والأمور السماوية. ما أسهل أن نشارك الآخرين جسديًا بحضورنا أفراحهم أو مناسبات الحزن، لكن مع هذه المشاركة الجسدية يلزم أن نشاركهم روحيًا بالقلب والفكر. على سبيل المثال عند مشاركتي لإنسان في حفل نجاحه لا أكتفي بالحضور أو تقديم هدية ولكن ما هو أعظم أن أشاركه قلبيًا وروحيًا، مشتهيًا نجاحه الروحي وتمتعه بالعطايا الإلهية. لتكن شركتنا مع بقية الأعضاء خلال الرأس يسوع المسيح الذي يهتم بنا روحيًا وجسديًا ونفسانيًا وإجتماعيًا وثقافيًا... إنه يريدنا ناجحين في كل جوانب حياتنا.
ثانيًا: يؤكد الوحي أنهم عبروا "أمام بني إسرائيل" وأيضًا "أمام الرب"، فلا يكفي أن نعمل لحساب الجماعة المقدسة لنموها روحيًا وغلبتها على ظلمة الشر، وإنما يلزم أن يكون عملنا داخليًا لحساب رب هذه الجماعة. كثيرون يخدمون في الكنيسة ويعملون أعمالاً مجيدة "أمام بني إسرائيل"، لكنهم لا يقدمون العمل لحساب الله ولا يظهرون "أمام الرب"... إنما يخدمون الناس أو يخدمون كرمتهم ومجدهم الذاتي لا الله.
ثالثًا: يصفهم الكتاب "متجهزين" و"متجريدين للحرب". يقول العلامة أوريجانوس: [من هم هؤلاء الرجال الذين يقدمهم الكتاب كمتمنطقين أو متجهزين تجهيزًا خفيفًا؟ لا أستطيع أن أقدم من ذاتي شيئًا، لكننا نتعلم هذا من رسائل الرسول... "ممنطقين أحقاءكم بالحق" (أف 6: 14). أترى كيف أن بولس يعرف هؤلاء المتمنطقين أنهم يرتدون منطقة الحق؟! هكذا يليق بنا أن يكون "الحق" هو منطقتنا، إن كنا بالحق أمناء نحو هذا السر الممثل بهذا السلاح الحربي (الروحي). فإن كان الحق هو منطقة الجندية الخاصة بالمسيح ففي كل مرة نخطيء في الحديث وننطق بالكذب نكون قد خلعنا عنا منطقة جندية المسيح. أما إن كنا بالفعل نحيا في الحق فإننا نكون مسلحين للجهاد. إن كنا نسلك بالكذب فنحن عزل من السلاح! آه! ليتنا نمتثل بهؤلاء الأربعين ألفًا الممنطقين للحرب، الذين عبروا أمام الرب، فنكون ممنطقين بالحق، ليتنا أيضًا لا ننسى ما يقوله الكتاب "ممنطقين أمام الرب"، فلا يكفي أن نجعل الحق ظاهرًا أمام الناس، إذ يمكننا أن نخدع الناس ونبدو كصادقين، لكننا لا نُحسب ممنطقين بالحق إلاَّ إن حفظناه أمام الرب، لا أقصد الحق الذي يسمعه الناس في أقوالنا بل الذي يراه الله في أعماق قلوبنا. فلا يكون في شفاهنا غشًا، ولا يكون في قلوبنا خداعًا، إذ يلوم النبي هؤلاء "المخاطبين أصحابهم بالسلام والشر في قلوبهم" (مز 28: 3)[95]].
5. مهابة يشوع...
"فهابوه كما هابوا موسى كل أيام حياته" [14]. يقول العلامة أوريجانوس: [كل إنسان تحت الناموس يهاب موسى، لكنه متى انطلق من الناموس ليعبر إلى الإنجيل تتغير عبادته وتتغير مهابته، كقول الرسول: "لأنيّ مُت بالناموس للناموس لأحيا لله، مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 19)[96]].
الذين يعيشون تحت الحرف القاتل يهابون الناموس ويرتعبون، أما الذي يحيا في حرية الروح فيهاب يسوعنا الحيّ مخافة الابن الذي يخشى جرح مشاعر أبيه! إننا نهابه خلال الحب الذي يرفعنا من مخافة العبيد إلى مخافة البنين المقدسة. فقد قيل عن السيد المسيح نفسه: "ولّذته تكون في مخافة الرب" (أش 11: 3).
6. الصعود إلى الجلجال...
كلم الرب يشوع أن يأمر الكهنة حاملي تابوت العهد أن يصعدوا الأردن بعد أن أطمأن أن جميع الشعب قد صعد أمامه، وعندئذ رجعت مياه الأردن إلى مكانها وجرت إلى كل شطوطه، وكان صعود الشعب من الأردن ليحلوا في الجلجال في اليوم العاشر في الشهر الأول، وهنا نلاحظ الآتي:
أولاً: أن الشعب قد صعد من الأردن إلى أرض الموعد في نفس الموعد الذي فيه اقتنى كل واحد شاه لتقديمها ذبيحة فصح للعبور (خر 12: 3). وكأنه في اليوم الذي كانوا فيه يحتفلون بسر الفصح هو بعينه الذي فيه يتحقق صعودهم من الأردن لتطأ أقدامهم أرض الموعد؛ وكأن صعودهم إلى الميراث إنما يتحقق خلال الفصح، أي سر الصليب, فلا نصرة لنا ولا ميراث لنا خارج دائرة الصليب!
هذا وأن اليوم الذي فيه بدأ التحرك بالخروج من العبودية هو بعينه اليوم الذي فيه بدأ التحرك بالدخول إلى الحرية، وكأن الخروج والدخول يمثلان عملاً واحدًا متكاملاً لا يفصل بينهما زمن. ففي الصليب كما في المعمودية أنطلق من عبودية فرعون الحقيقي لأدخل إلى حرية مجد أولاد الله في يشوع الحق؛ أخلع بالروح القدس الإنسان القديم بأعماله الشريرة التي ربطتني كل زمانيّ لألبس بالروح القدس الإنسان الجديد بطبيعته المقدسة في المسيح يسوع لأكمل أيام غربتي حرًا في الرب!
ثانيًا: تحقق ذلك أي الصعود إلى أرض الميراث في العاشر من الشهر الأول، ولما كان الشهر الأول يُشير إلى بداية سنة جديدة، فإن هذا الصعود يُشير إلى الدخول في الحياة الجديدة خلال تمتعنا بالإنسان الجديد الداخلي لنحيا بفكر المسيح (في 2: 5) ونحمل سماته فينا. أما رقم 10 فيُشير إلى الكمال الزمني كما يُشير إلى الوصايا العشر، وكأننا ندخل إلى الميراث في كماله حين نكمل جهادنا على الأرض ونعلن بالمسيح يسوع متمم الوصايا أننا غير كاسرين للناموس... حقًا كنا قبلاً كاسرين الناموس، لكننا في المسيح يسوع الذي صار تحت الناموس (غل 4: 4) من أجلنا، صرنا غير كاسرين له. بالحياة الجديدة (الشهر الأول) نرتفع من تحت الناموس إلى فوق الناموس لنحيا في برّ الله بروحه القدوس!
ثالثًا: لقد دعى أول معسكر للشعب بعد عبورهم الأردن ودخولهم كنعان بالجلجال أي "متدحرج" أو "دائرة"، وجاء هذا الاسم يعلن عن دحرجة عار العبودية القديم (يش 5: 9). فمع أنهم انطلقوا من عبودية فرعون منذ حواليّ 40 عامًا لكنه لم يُنزع عنهم عار العبودية إلاَّ بوطأة أقدامهم أرض الجلجال (في كنعان)، وكأنه لا ينزع عنا عار الخطية إلاَّ بدخولنا "دائرة الأبدية"وتمتعنا بعربون الميراث الأبدي في داخلنا.
في حديث الله عن أعماله مع شعبه يتحدث عن تحريرهم من أرض العبودية والانطلاق بهم إلى الجلجال (في 6: 5) وكأنها آخر موضع يستقر فيه الشعب، مع أنه من الجانب الجغرافي هي أول موقع داخل كنعان استقروا فيه... فبنوالهم الجلجال حسبهم الله كأنهم تمتعوا بكل كنعان. وللجلجال ذكريات كثيرة تكشف عن أعمال الله معهم في هذه الأرض الجديدة، منها:
أ. كان الجلجال مركز عمليات يشوع، فيه أقام الإثنى عشر حجرًا تذكاريًا (يش 4: 19)، وفيه اختتن الشعب ثانية (يش 5: 9)... وهكذا إذ نعبر إلى الحياة السماوية (الدائرة) يتسلم يسوعنا حياتنا ويدبر كل أمورنا حتى يكمل انتصارنا به.
ب. يظهر الجلجال كموضع مقدس حتى أيام صموئيل (1 صم 7: 6)، فيه أُقيم شاول ملكًا (1 صم 10: 8، 11: 14 إلخ)، وغالبًا ما كان به هيكل[97]. هكذا يصير قلبنا الجلجال الحق الذي يقدسه روح الله، فيجعل منه هيكلاً له، ويقيمنا ملوكًا متحدين بملك الملوك، لنا سلطان روحي على قوات الظلمة (الشياطين) وكل أعمالهم.
ج. كان الجلجال أيضًا مركز لعمليات شاول الحربية ضد الأمم خاصة عماليق... فحينما يتقدس القلب يتحول إلى موقع حربي روحي ضد الشر والخطية، لحساب الله!
أخيرًا هناك أحداث كثيرة حدثت في الجلجال، فإليه ذهب رجال يهوذا لمقابلة داود عندما رجع من جلعاد (2 صم 19: 16)... وللأسف تحول هذا الموضع فيما بعد كمركز للعبادة الوثنية أيام الملوك الذين تولوا الحكم بعد يربعام، فهجاه الأنبياء ولعنوه (هو 4: 15، 9: 15؛ 12: 11؛ عا 4: 4؛ 5: 5).
يحتمل أن تكون هي بيت الجلجال المُشار إليه بعد السبي (نح 12: 29). أما موقع الجلجال فغير معروف بدقة، يرى البعض أنه قرابة النتلة (خرابة الأثلة) بجوار بركة جلجولة على بعد حوالي ثلاثة أميال وعن جنوب شرق عين السلطان، ويقترح آخرون أنها خرابة مفجير على بعد ميل وربع شمال شرق أريحا القديمة (عين سلطان)[98].
الأصحاح الخامس
الأستعداد للحرب الروحية
كانت الأذهان منحصرة في افتتاح الأرض الجديدة وتقسيمها والتمتع بخيراتها، لكن الله أوقفهم قليلاً في الجلجال لكي يكشف لهم حقيقة روحية هامة، أن النصرة لا تقوم على كثرة العدد ولا قوة الذراعين، وإنما خلال الحياة المقدسة في الرب الواهب للميراث. لقد قدم الله لهم الأسلحة الروحية التي خلالها يعمل فيهم حتى ينعموا بمواعيده المجانية، بالرغم من المقاومة الشديدة التي يثيرها عدو الخير.
1. هياج الأمم ضدهم [1-2].
2. الختان الثاني [3-9].
3. عمل الفصح [10].
4. التقوت بغلة الأرض [11-12].
5. ظهور رئيس الجند رب [13-15].
1. هياج الأمم ضدهم...
إذ عبر الشعب نهر الأردن هاج جميع ملوك الأموريين والكنعانيين عليهم جدًا، وبدأ التكتل ضدهم، بل ضد إلههم! هذه معركة ظاهرة تحمل صورة للمعركة الأصيلة التي تقوم بين الله وإبليس، فإن الأخير لا يقدر أن يحتمل النور، ولن يقبل دخول أحد في العضوية في ملكوت الله. فمع كل نجاح روحي يثور العدو ويحارب إن لم يكن علانية فخفية، وإن لم يكن خلال الغرباء فخلال الأقرباء، بل خلال الجسد نفسه وأحيانًا خلال من يحملون اسم الخدام في الكنيسة... لهذا ينصحنا السيد قائلاً إن أعداء الإنسان أهل بيته (مت 10: 36).
عبورهم نهر الأردن ليس نهاية الجهاد بل بدايته، وتمتعنا بالمعمودية المقدسة لا يعني بلوغنا كمال النصرة، إنما يعني تمتعنا ببركات إلهية جديدة تثير بالأكثر الشيطان ضدنا. ومع كل غلبة وكل نصرة تزداد الحرب الوحية، وهكذا يرتفع المؤمن من مجد إلى مجد خلال نصرات متوالية، وهجوم الخطية المستمر ضده.
إن أول عمل أوضحه الله لشعبه بعد عبور نهر الأردن هو الكشف عن وجود مقاومين وكأن أول خطوة تلزمنا في حياتنا الروحية هو إدراكنا لحقيقة الموقف: وجود عدو خطير يحدق بنا، ليس من لحم ودم، بل كما يقول الرسول: "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12). هذا العدو لا يتوقف عن مصارعتنا بكل الطرق الظاهرة والخفية، ليلاً ونهارًا حتى يحطم إيماننا ورجاءنا في المسيح يسوع. لكنه يجب علينا ونحن نكتشف خطورة هذا العدو وخداعاته المرة أن ندرك إمكانيات يشوعنا الحق القادر أن يحطم إبليس ويبدد حيله ويسحب سلطانه علينا. لهذا يصرخ القديس أغسطينوس قائلاً: [هوذا المجرب يأتيني كجيش قوي لكنه لا يقدر أن يغلبني، لأنك كسرت مهابته وأعطيتني شجاعة أمامه[99]].
أما الأسلحة الروحية التي صارت لنا في المسيح يسوع فتبدأ بالختان الثاني، أو الختان الروحي.
2. الختان الثاني...
"في ذلك الوقت قال الرب ليشوع: أصنع لنفسك سكاكين من صوان، وعُد فأختن بني إسرائيل ثانية" [2].
حين وعد الله إبراهيم بأرض كنعان لتكون له ولنسله ملكًا أبديًا (تك 17: 8) كان الختان هو ختم العهد بموجبه تتحقق مواعيد الله.
لماذا يقول الله ليشوع: "إختن بني إسرائيل ثانية"؟ حقًا لم يكن بني إسرائيل في ذلك الحين مختتنًا، لأن كل الذكور الذين خرجوا من مصر هلكوا في البرية، ولم يدخل كنعان منهم سوى يشوع وكالب. فلكي ينعم نسل إبراهيم هذا بالوعد التزم بالختان في الجلجال لكي يدخلوا في العضوية المقدسة لشعب الله، فقد حذر الله إبراهيم: "أما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها، إنه قد نكث عهدي" (تك 17: 4). كانت الضرورة ملحة أن يختتنوا ما داموا قد تركوا البرية، ووجدت الظروف المناسبة للختان... لكن لماذا يقول "إختن... ثانية"؟ يجيب العلامة أوريجانوس على هذا السؤال: [إننا نقول عمن تهذب تحت الناموس وتلقى تعاليم موسى تاركًا أخطاء الوثنية وهاجرًا عبادتها وخرافتها أنه قد تمم الختان الأول الذي حسب الناموس. لكننا إن كنا قد انتقلنا من الناموس والأنبياء إلى الإنجيل فإننا نختن ثانية بواسطة "الضخرة (التي) كانت المسيح" (1 كو 10: 4) وعندئذ تتحقق فينا كلمة الرب ليشوع: "اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر" [19][100]].
هذا أيضًا ما أوضحه الأب لكتانتيوس بقوله: [لا يكون هذا الختان الثاني للجسد كما كان الختان الأول الذي لا يزال اليهود يمارسونه، إنما هو ختان القلب والروح الذي يهبه المسيح، يسوع الحقيقي[101]]. وقد التجأ القديس كبريانوس إلى هذه العبارة من بين العبارات التي اقتبسها من العهدين القديم والجديد ليؤكد لليهود الحاجة إلى ختان الروح وبطلان ختان الجسد[102].
لقد تم الختان الثاني في الجلجال قبل الاستيلاء على مدن كنعان مباشرة، كان ذلك لكي يؤكد لكل عضو في الجماعة أن الدفن في الأردن والقيامة يخصان السيد المسيح نفسه الذي دُفن وقام، حتى باتحادنا معه نُصلب معه ونُدفن ونقوم أيضًا. إنه تحقيق للمعمودية على المستوى الشخصي لكل عضو في الجماعة. ففي الجلجال نرى الإثنى عشر حجرًا المحمولين من قاع الأردن يمثلون جسد المسيح في كليته وقد تمتع بالدفن والقيامة، أما في الختان فنرى كل عضو في الجماعة ينعم بالدفن والقيامة.
يؤكد الكتاب: "صنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل القلف" [3]. إن كان الصوان أو الصخر يُشير إلى السيد المسيح (1 كو 10: 4)، فإن هذه السكاكين إنما تُشير إلى صليب السيد الذي يقبله المؤمن ليصلب معه ويختن عن كل أعمال الإنسان العتيق، متمتعًا بالإنسان الجديد المقام من الأموات!
هكذا يظهر الختان كقوة حياة داخلية، حيث ينعم الإنسان بالشركة العملية مع قائده الحقيقي- يسوع المسيح - يقبل صلبه لينعم بقوة قيامته واهبه الغلبة والنصرة على إبليس، بل وعلى الموت نفسه!
لقد "أقاموا في أماكنهم في المحلة حتى برئوا، وقال الرب ليشوع: قد دحرجت عنكم عار مصر فدعى اسم ذلك المكان الجلجال إلى هذا اليوم" [9].
كلمة "جلجال" تعني "دحرجة"، فإن الله يريد أن يدحرج عنهم عار العبودية الذي ارتبط به ذهن الشعب القديم بمصر. يقول العلامة أوريجانوس: [لنقترب إلى معنى هذه العبارة، فإن كل الناس حتى إن كانوا تحت الناموس وقبلوا تعاليم موسى ففيهم عار مصر أي عار الخطية. من يمكن أن يُقارن ببولس حتى في حفظ الناموس؟ إذ يقول: "من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم" (في 3: 6), ومع هذا فإنه يعلن بنفسه: "لأننا كنا نحن أيضًا قبلاً أغبياء غير طائعين ضالين مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة عائشين في الخبث والحسد ممقوتين مبغضين بعضنا بعضًا" (تي 3: 3). ألاَّ يعني هنا عار مصر؟!... لكن جاء يسوع وأعطانا الختان الثاني "بغسل الميلاد الثاني" (تي 3: 5)، وطهّر أرواحنا وطرح عنا هذا العار وأعطانا عوضًا عنه الوعد بالضمير الصالح نحو الله. إذن الختان الثاني هو الذي نزع العار وطهرنا من رذائلنا وأخطائنا... إذن إن كنا بالإيمان قد عبرنا مجرى الأردن بفضل الإنجيل وتطهرنا بالختان الثاني فلا نخشى عار الخطية السابقة. أتسمع: "لقد دحرجت عنكم عار مصر؟![103]]. كما يقول أيضًا: [هذا ما يريد الرب أن يقوله في الأناجيل إذ يقول: "مغفورة لك خطاياك" (مر 2: 5)، لكنه يقول: "لا تخطيء أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14). فإن كنت لا تخطيء قط بعد نوال غفران الخطايا يكون بالحقيقة قد دحرج عنك العار. أما إذا ارتكبت خطايا جديدة فإنك بهذا ترجع إلى العار القديم، بل بالحري تكون في حالة أشر كمن "داس ابن الله الوحيد وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا" (عب 10: 29)... نعم من يُسلّم نفسه للزنا بعد قبوله الإنجيل يكون عاره أكثر جسامة من الذي يفعل ذلك وهو تحت الناموس. لأنه كما قيل: "أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟!" (1 كو 6: 15). أترى كيف بالتكاسل يتراكم العار الراجع إليك ويثقل عليك؟!. آه! إنه لا يكون اتهامك هو النجاسة إنما تدان كمنتهك للمقدسات، فقد قيل عنك: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل الله" (1 كو 6: 9)، "إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله" (1 كو 3: 17)[104]]. كما قال: [أضف إلى ذلك أن "الذي يزني يخطيء إلى جسده" (1 كو 6: 18)، ليس إلى جسده الذي صار هيكلاً لله بل إلى جسد الكنيسة كلها، فمن يدنس جسده؛ فكعضو ينتشر الدنس في الجسد كله... إذن لكي يكمل فينا الختان الثاني ويُنزع عنا عار مصر العتيق، لننفصل تمامًا عن هذه الأدناس، فنكون أنقياء في الجسد والروح لنرفع "أيادي طاهرة" (1 تي 2: 8) وفم طاهر وشفاه طاهرة، ممجدين الله بقلب صادق، بصلواتنا وأعمالنا، في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والسلطان إلى الأبد الآباد[105]].
إذ نعرف عدونا الروحي ونقتني الختان الثاني الذي يُطهرنا من كل دنس ويحررنا من كل سلطان لهذا العدو لكي لا يكون له في قلبنا ميراث يلزمنا أن نتسلح أيضًا بالفصح الجديد.
3. الفصح الجديد...
"فحّل بنو إسرائيل في الجلجال وعملوا الفصح في اليوم عشر من الشهر مساءً في عربات أريحا" [10].
في دراستنا لسفر الخروج تحدثنا في شيء من التفصيل عن الفصح، وارتباط الفصح القديم بالجديد. وأما هنا إذ عبروا الأردن إلى أرض الميراث التزموا قبل البدء في الجهاد أن يتمتعوا بالختان الثاني حتى متى برئوا من جراحاتهم في الجلجال يقيموا الفصح الجديد في الرابع عشر من الشهر مساءً في عربات أريحا. وهنا نلاحظ:
أولاً: إرتباط الختان بالفصح إنما هو ارتباط المعمودية بالأفخارستيا، الفصح الجديد؛ فلا يمكن لمؤمن أن يتمتع بسرّ الفصح ويشترك فيه ما لم يكن قد خُتن قلبيًا في المعمودية. ففي مياه المعمودية ننال العضوية في جسد المسيح، وبالأفخارستيا ننعم بالجسد المقدس لنثبت فيه وهو فينا. هذ الارتباط يذكرنا بطقس المعمودية القديم حيث كان غالبية الموعوظين ينالون سرّ العماد ليلة عيد الفصح المجيد، عيد الغلبة على الموت ونوال قوة القيامة في المسيح يسوع القائم من الأموات، ويخرج المعمدون حديثًا لابسين ثياب النصرة البيضاء ومعهم السرج المنيرة، ليدخلوا إلى خورس المؤمنين ينعمون بالتناول من الأسرار المقدسة "سرّ الأفخارستيا" بعد العماد مباشرة. بالمعمودية عبروا من الإنسان العتيق إلى الإنسان الجديد، وبالأفخارستيا يعبرون من الأرض إلى السماء عينها باتحادهما مع الله في المسيح يسوع فصحنا الحقيقي.
ثانيًا: لم يكن ممكنًا للشعب أن يترك أماكنه في المحلة لينطلقوا للحرب ما لم يبرأوا أولاً بعد ختانهم [8]، فإن كنا قد نلنا الصلب مع إنساننا القديم في مياه المعمودية فيلزمنا أن نهّم بالأبراء التام بخلع عاداتنا الشريرة تمامًا. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إنه نوع من الجهاد المؤلم أن نترك عادات الخطية القديمة لندخل إلى طريقة حياة جديدة تمامًا... في رأيي هذا هو الوقت الذي يقول عنه الكتاب يلزمنا أن نظل فيه مقيمين في مواضعنا كما في ألم الختان حتى يتم الإلتئام والبرء. يتم الإلتئام عندما نقوم بواجباتنا الجديدة بدون ضجر ونتعود على ما كنا نظنه قبلاً أنه صعب بسبب عدم تعودنا عليه. ونقول إننا قد برئنا بالحق عندما تختفي نقائصنا بقوة العادة الجديدة وتتحول الفضيلة فينا إلى طبيعة ثانية[106]].
4. التقوت بغلة الأرض...
مّر شعب بني إسرائيل في طعامهم بثلاث مراحل: المرحلة الأولى عند خروجهم من مصر: "حمل الشعب عجينهم في ثيابهم" (خر 12: 34)، وإذ نفذ العجين ولم يعد لهم خبز دخلوا في المرحلة الثانية وهو أن الله أمطر عليهم المن من السماء، هذا الذي قال عنه السيد المسيح: :آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا" (يو 6: 49). وأخيرًا إذ دخلوا أرض الموعد "أكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرًا وفريكًا في نفس ذلك اليوم وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض ولم يكن بعد لبني إسرائيل منّ" [11-12].
في المرحلة الأولى ارتبط العجين بثيابهم (خر 12: 34) أي بجسدهم، فيأكلون من أجل حاجة الجسد، حيث كانوا في مرحلة الطفولة الروحية، مرتبطين بالجسد والأرضيات. ولكنه إذ خرج بهم إلى البرية قدم لهم المن من السماء ليؤكد لهم أنه هو الذي يعولهم ويهتم بهم روحيًا وجسديًا فلا يقلقون على أجسادهم، أما في الأرض الجديدة فيقدم كلمة الله نفسه الخبز السماوي، قائلاً: "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6: 51) وكأن المؤمن يمر بثلاث مراحل، في المرحلة الأولى يأكل ليعيش، وفي المرحلة الثانية لا يضطرب متكلاً على الله الذي يقوته بكل طريقة، أما الثالثة ففيها يجد الإنسان في الله نفسه طعامه الأبدي المشبع!
5. ظهور رئيس جند الرب...
إذ عبر يشوع بشعب الله نهر الأردن وانطلق إلى الجلجال يقيم الحجارة التذكارية وقد تقدس الشعب بختانه الثاني وتمتعه بالفصح والغلة الجديدة... صار كل شيء جديدًا بالنسبة لهم... تقدم يشوع نحو أريحا [14]، ربما كان بمفرده قد أدرك أنه وحيد بلا موسى، يرى حربًا من صنف جديد، مدينة بأسوار عالية وحصون تقدر أن تبقى فترة طويلة تحت الحصار، ولا يمكن ليشوع أن يتجاهلها وينطلق إلى مدينة أو قرية أخرى فإنها تمثل عدوًا يبقى خلفهم يضربهم من الظهر! ولعل يشوع كان يفكر في هياج الأمم والشعوب الكنعانية عليه [1-2]... على أي الأحوال كان يشوع رجل الإيمان، لهذا تقدم إليه كلمة الله كرئيس جند الرب ليسنده!
إن كان الله نفسه هو الذي يُطهّرهم قلبيًا بالختان الجديد، ويثبتهم فيه بالفصح الجديد ويشبعهم بالغلة الجديدة، فإنه لا يمتنع عن أن يظهر كلمته الحيّ بصورة ملموسة ليؤكد ليشوع: "أنا رئيس جند الرب، الآن أتيت" [14]. إنه ليس مجرد ملاك أو رئيس ملائكة بل كلمة الله نفسه، إذ يقول له: "اخلع نعلك من رجلك لأن المكان الذي أنت واقف عليه هو مقدس" [15]، الحديث الذي قيل لموسى النبي أيضًا حين ظهر له الرب في شكل عليقة متقدة نارًا (خر 3). وقد سبق فرأينا بأكثر تفصيل أن خلع النعلين إنما تأكيد بضرورة خلع الاهتمامات الأرضية المميتة وترك المجد الباطل، وتأكيد أن الخادم ليس هو عريس الكنيسة بل خادمها أما العريس الحق فهو يسوع العامل فينا[107]. ويقول العلامة أوريجانوس: [عرف يشوع بالروح ليس فقط أنه من عند الله، إنما هو الله نفسه، فإنه ما كان يعبده لو لم يعرف أنه هو الله[108]]. أما دعوته رئيس جند الرب، فليست بغريبة عن كلمة الله الذي قيل عنه في أشعياء "هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب، رئيسًا وموصيًا للشعوب" (55: 4)، ويظهر في سفر الرؤيا جالسًا على فرس أبيض، متسربل بثوب مغموس بدم والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزًا أبيض ونقيًا ومن فمه يخرج سيف ماضٍ (رؤ 19: 11-15).
عجيبة هي محبة الله وعظيمة هي رعايته، فإذ يُدخل مؤمنوه في حرب ضد إبليس وأعماله الشريرة يتقدم إليهم كرئيس جند غالب ولكي يغلب بهم. وإذ يظهر عدو الخير كأسد يزأر يفترس (1 بط 5: 8) يتقدم أيضًا كلمة الله الأسد الخارج من سبط يهوذا (رؤ 5: 5). إذ نجوع يقدم نفسه خبزًا حيًا من يأكل منه لا يجوع، وإن شعرنا بالوحدة يتقدم كصديق فريد يسندنا بل كعريس روحي حق يملأ كل فراغ فينا، وإن شعرنا بالضياع يقدم نفسه الطريق والحق، وإن أصابنا الموت يتقدم إلينا بكونه القيامة! في محبته يقدم لنا كل شيء لكي يسد كل عوز فينا!
أخيرًا يرى القديس أنبا أنطونيوس الكبير في حديث يشوع بن نون مع رئيس جند الرب مثلاً حيًا للتمييز بين الرؤى السماوية والشيطانية، إذ يقول: [عندما تُشاهد رؤيا لا تسقط خائفًا، إنما مهما كان الأمر اسأل بشجاعة: من أنت؟ ومن أين جئت؟ فإن كانت الرؤيا مقدسة فإنك تتأكد من ذلك بتحويل الخوف إلى فرح. أما إن كانت من الشيطان ففي الحال تتضعف الرؤيا أمام ثبات ذهنك... هكذا سأل ابن نون ليعرف من هو هذا الذي يعينه[109]].
الأصحاح السادس
سقوط أريحا
إذ قدم الله لشعبه تحت قيادة يشوع كل إمكانية للتمتع بالميراث، واجتاز بهم الأردن ووقفوا أما أريحا المدينة التي لها شهرتها عبر الأجيال والمحصنة بأسوار، وكان لابد أن تنهار أريحا أمام الشعب لكي تتحقق مواعيد الله... هنا أيضًا يقدم لهم الله إمكانيات جديدة للغلبة والنصرة!
1. مدينة أريحا
2. الدوران حول المدينة [1].
3. الضرب بالأبواق [4].
4. هتاف الشعب [5-16].
5. ناموس المحرم [17-21].
6. خلاص راحاب [22-25].
7. لعنة أريحا [26-27].
1. مدينة أريحا...
"أريحا" تعني "مدينة القمر" أو "مكان الروائح العطرية"، تقع على بعد خمسة أميال غرب نهر الأردن، وعلى بعد 17 ميلاً شمال شرقي أورشليم. أما أريحا المذكورة في هذا السفر فموضعها الآن "تل السلطان" على بعد ميل من غرب أريحا الحديثة، والتي تدعى الآن الريحا وتلال أبو العليق.
اشتهرت أريحا منذ العصور القديمة بزراعة النخيل (تث 34: 1، 3، قض 3: 13) والموز والبرتقال والورد (سيراخ 24: 14)، وأشجار الجميز (لو 19: 4)، والبلسم وكثير من أشجار الفاكهة.
أعطيت أريحا ضمن نصيب بنيامين، على الحدود بين بنيامين وإفرايم (يش 16: 1، 7؛ 18: 12-13). وكان عجلون ملك موآب يسكن فيها حين ضرب إسرائيل وأذلهم بسبب شرهم (قض 3: 12-13). وفيها أقام رسل داود الذين أرسلهم إلى حانون ملك بني عمون فحلق لهم لحاهم وقص ثيابهم من الوسط، وقد بقوا حتى نبتت لحاهم ورجعوا (2 صم 10: 1-5). وفي أيام آخاب بن عمري ملك إسرائيل بنى حيئيل البيتئيل أريحا ففقد بكره عند وضع الأساسات وصغيره عند نصب الأبواب بسبب نبوة يشوع (1 مل 16: 34، يش 6: 26). وفي أريحا زار إيليا وأليشع جماعة الأنبياء قبل انتقال إيليا، ورجع أليشع إلى هؤلاء الأنبياء (2 مل 2: 4، 15)، ويبدو أن النبع الذي أبرأه أليشع بعد طرح الملح فيه (2 مل 2: 21) هو عين السلطان، وعندما أُطلق سراح أسرى يهوذا الذين أسرهم جيش إسرائيل بقيادة فقح بن رمليا أتوا بهم إلى أريحا (2 أي 28: 15). وبالقرب منها قبض البابليون على صدقيا ملك يهوذا (أر 52: 5)، وقد رجع مع زربابل من السبي 345 نفسًا من سكان أريحا السابقين ونسلهم (عزرا 2: 34، نح 7: 36) وساعد البعض منهم في بناء سور أورشليم (نح 3: 2).
بنى هيرودس الكبير قلعة بالقرب من أريحا، وقد مات هناك. وفي أيام السيد المسيح كانت فرقة من الكهنة تسكن في أريحا، وكانوا يسافرون كثيرًا من أورشليم إلى أريحا، كما يظهر ذلك من مثل السامري الصالح (لو 10: 30-31). وفي أريحا أعاد السيد المسيح البصر لبرتيماوس ورفيقه (مت 20: 29، مر 10: 46، لو 18: 35)، وفيها أيضًا زار السيد المسيح بيت زكا (لو 49: 1-10).
2. الدوران حول أريحا...
أريحا كأول مدينة حصينة تواجه الشعب القديم للتمتع بالميرث تمثل العالم وقد وضع في الشرير، أو بمعنى أدق تمثل محبة العالم الزمني كعائق يعوق النفس عن انطلاقها نحو الأبدية للتمتع بالميراث الحقيقي، يثقلها فلا ترتفع بأجنحة الروح القدس من مجد إلى مجد. وفي نفس الوقت أيضًا تمثل الأنا بكونها أخطر عائق يقف أمام المتدينين - إن صح هذا التعبير- لكي يفقدهم شركتهم مع الله واهب النصرة ومانح الميراث الأبدي. خطران يواجهان الإنسان في جهاده الروحي: محبة العالم أو الزمنيات وهذه تمثل الضربة الشمالية، والأنا أو الذات وهي تمثل الضربة اليمينية حيث يحسب الإنسان نفسه أفضل من غيره وأبر منه!
يتحدث العلامة أوريجانوس عن أريحا بكونها تمثل العالم وقد وضع في الشرير أو تمثل الشر ذاته، قائلاً: [جاء في الإنجيل: "إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص" (لو 10: 30). هنا نتعرف جيدًا على صورة آدم الساقط من أورشليم منحدرًا إلى منفى هذا العالم. والأعميين اللذين كانا من أريحا (مت 20: 30) هذين اللذين قابلهما يسوع ووهبهما البصر ألم يمثلا رجال هذا العالم الذين أصابهما عمى الجهل، والذين من أجلهم جاء ابن الله؟! إذن، مدينة أريحا هي هذا العالم الذي نحن فيه، والذي يجب أن ينهدم[110]]. ويتحدث عن معركة أريحا بكونها معركة ضد شر هذا العالم ميدانها القلب، قائلاً: [لنذهب إلى الحرب ولنهاجم أخطر مدينة في هذا العالم، أي الشر، ولندمر أسوار الخطية المتعجرفة، هل تنظر حولك لتعرف الطريق الذي يلزمك أن تسلكه، وميدان القتال الذي يليق بك أن تختاره؟!... أحصر بحثك في داخلك، فالمعركة التي تقاتل فيها هي فيك، هناك يوجد بناء الشر الذي يجب هدمه! ليُطرد عدوك من أعماق قلبك! لست أقول هذا من عندياتي بل من المسيح. إستمع له: "لأنه من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف" (مت 15: 19). ألعلك تعي عظمة هذا الجيش المعادي لك، والذي يتقدم نحوك في أعماق قلبك؟ هؤلاء هم أعداؤنا الذين يجب أن نذبحهم في المعركة الأولى، ونطمسهم في التراب في الخط الأول، إن كنا قادرين أن نهدم أسوارهم ونستأصلهم ولا تبقى منهم نسمة (يش 11: 14)، ولا يبقى منهم فرد واحد يستريح فينا ويحيا من جديد ويبرز في أفكارنا. بهذا يعطينا يسوع الراحة العظمى: "يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب أمناء إسرائيل" (في 4: 4)[111]].
يصف الكتاب المقدس أريحا هكذا: "وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل" [1]. إنها تمثل الإنسان المنغلق على ذاته، لا ينفتح قلبه بالأخذ والعطاء، إنما يكون كمدينة مغلقة ليس من يخرج منها ولا من يدخل فيها. إنها منعدمة الحب! أما الإنسان المتسع القلب بالمسيح محب البشر، فإنه يعيش بفكر منفتح يفتح أعماقه لكل إنسان بحكمة إلهية، ويخرج من قلبه كل محبة مشبعة للآخرين.
هذه هي أريحا ممثلة العالم الموضوع في الشرير، أو الشر ذاته، خاصة الأنا، وقد استخدم الله طريقة فريدة في الغلبة على أريحا لم تتكرر في بقية الحروب أو الاستيلاء على المدن. فإن موقعة أريحا - إن صح هذا التعبير- تعتبر أول موقعة في أرض الموعد بعد عبور نهر الأردن، وقد أراد الله أن يعلن بطريقة ملموسة أن الحرب له والنصرة هي من عنده، وأن سلاحهم الحقيقي والجوهري هو الإيمان. يقول الرسول بولس: "بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام" (عب 11: 30).
في سقوط أريحا لم يستخدم الله التدبيرات العسكرية والحكمة البشرية ولا رجال الحرب ولا الأسلحة، مع أنه ألزم الشعب باستخدام هذه الأمور في المواقع التالية، ليؤكد لهم منذ البداية أنه وإن كان يُقدّر الحكمة البشرية ويستخدم العمل البشري متى تقدّس لكنه يبقى الله وحده سرّ نصرتنا على الخطية! لقد أمرهم أن يدوروا حول المدينة مرة كل يوم لمدة ستة أيام حتى تنهك قواهم، أما في اليوم السابع فيدورون حول المدينة سبع مرات حتى لا تبقى لهم قدرة على المشي وعندئذ يهتفون هتافًا عظيمًا إعلانًا عن إيمانهم بالله واهب النصرة، فيدافع عنهم ويهبهم ما وعدهم به.
لعل الدوران يُشير إلى "الدخول إلى الأبدية" بكونها تمثل الحياة التي بلا نهاية كالدائرة. فبالحياة الأبدية التي صارت لنا في المسيح يسوع ربنا نستطيع أن نهدم أسوار أريحا المتشامخة وبيوتها الشاهقة، فلا يقدر العالم بكل إغراءاته أن يجتذب قلوبنا، ولا الشر بكل خداعاته أن يسحب أفكارنا إليه، والذات بكل صولجانها أن تأسر النفس وتغلق عليها. "الأبدية" أو "الحياة مع المسيح الأبدي" هو طريق الغلبة أو النصرة الداخلية، خلالها يُبتلع الزمن المائت، ومن أمامها تهرب كل أوهام العالم الشرير والمجد الباطل... حقًا إن دخولنا إلى السماء ونحن بعد على الأرض يرفعنا فوق كل ضعف ويقتلع من داخلنا جذور الشر الدفينة!
أيضًا الدوران مرة كل يوم خلال الستة أيام الأولى إنما يُشير إلى العمل الدائم كل أوقاتنا (أيام العمل الأسبوعية)، أما الدوران سبع مرات في اليوم السابع فمعناه أنه في يوم راحتنا، اليوم السابع، نعمل لحساب الرب مضاعفًا، ونجاهد جهادًا كاملاً (رقم 7 يُشير إلى الكمال)، فبهذا الجهاد يتحقق حفظ السبت روحيًا، أي الراحة في يوم الرب. حقًا إن يوم الرب أو يوم الراحة فيه، ليس يوم تراخ أو كسل إنما يوم جهاد مستمر بالنعمة المجانية العاملة فينا حتى تنهدم الحصون الشيطانية تمامًا، وتصلب فينا الأنا، ويملك يشوعنا الحقيقي في داخلنا، ويستريح في قلبنا كما في عرشه ونحن نستريح فيه، ولا يكون للخطية سلطان علينا، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بإن السبت قد كسر هنا حرفيًا، لكنه حُفظ روحيًا، إذ تزايد العمل جدًا فتزايدت النصرة أكثر من كل يوم[112]]. ويقول القديس أغسطينوس: [من لا يخطئ، فهذا بحق يحفظ السبت[113]]، يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذا استرحنا من الخطية[114]]، ويقول القديس جيروم: [لم يكن يشعل اليهود نارًا في السبت، أما نحن فعلى العكس يلزمنا أن نشعل نار الروح القدس ونحرق كل رذيلة وخطية[115]]، وللعلامة أوريجانوس تعبير رائع عن مفهوم يوم الرب: [الإنسان الكامل هو ذاك الذي ينشغل دومًا بكلمات الرب وأعماله وأفكاره، بهذا يحيا في أيام الرب على الدوام وتصير كل أيامه أيامًا للرب[116]]. لقد كان بالحق يومًا للرب حين داروا حول أريحا سبع مرات وضربوا بالأبواق وهتفوا وهتفوا للرب الذي حطم قوى الشر وسلطانه ليملك يشوع وكل أولاده معه!
3. الضرب بالأبواق...
في اليوم السابع إذ يدورون سبع مرات حول المدينة يضرب الكهنة بالأبواق في الدورة السابعة [4، 16]. وقد سبق لنا في دراستنا لسفر العدد (10: 1-10) أن تحدثنا عن لغة الأبواق بكونها كلمة الله التي ينطق بها الكهنة على الدوام، القادرة أن تهب المؤمنين حياة النصرة الروحية وتبعث فيهم الفرح الداخلي وتهليل القلب[117]. يقول القديس أمبوسيوس: [ليس كل أحد له الحق أن يضرب بالبوق، ولا يدعو الآخرين للاجتماع المقدس، إنما مُنح هذا الامتياز للكهنة وحدهم[118]].
يتحدث العلامة أوريجانوس عن أبواق الكهنة التي ضُربت لتهدم أسوار أريحا، قائلاً: [أريحا تمثل العالم الحاضر، قوة أسوارها تُهدم عندما يبوق الكهنة. السور القوي الذي يخدم هذا العالم هو عبادة الأوثان ونسب الألوهية للمصنوعات بخداع شيطاني وأعمال العرافين الكذبة والمجوس... نضيف إلى ذلك أفكار الفلاسفة المختلفة (الإلحادية)، وأيضًا التعاليم التي نشأت عن المجادلات... هذا كله كان كسور مرتفع يسند العالم. لكن إذا جاء الرب يسوع - الذي يمثله يشوع بن نون - أرسل الكهنة والرسل لضرب بوق من فضة (عد 10: 2، مز 98: 6)، أي تقديم التعاليم السامية السماوية في الوعظ، لقد ضُرب البوق الكهنوتي الأول في إنجيل متى وأيضًا في مرقس ولوقا ويوحنا، كل ضرب بأبواق الكهنة. ضرب أيضًا بطرس بوقين في رسالتيه، وأيضًا يعقوب ويهوذا، ويوحنا في رسائله، ولوقا في سفر أعمال الرسل. أما الأخير (بولس) فقد ضرب بالأبواق خلال رسائله الأربعة عشر، ملقيًا بالصواعق على أسوار أريحا لينزل بها حتى الأرض، هادمًا أبنيتها ومحطمًا كل آلات الحرب التي لها من عبادة أوثان وآراء الفلاسفة[119]].
ويتحدث الأسقف قيصريوس عن أبواق الكهنة، قائلاً: [تُشير أريحا إلى هذا العالم، وكما سقطت أسوارها عند ضرب الأبواق هكذا تسقط الآن مدينة هذا العالم أي الكبرياء بأبراجها التي هي الطمع والحسد والخلاعة مع كل شعبها؛ أي يجب أن تتحطم كل شهوة شريرة وتُباد خلال كرازة الكهنة المستمرة. لهذا يليق بالكهنة ألا يصمتوا في الكنيسة بل بالحري يتممون قول الرب: "نادِ بصوت عالي، لا تمسك، ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم" (إش 58: 1). إننا مطالبون أن نصرخ وننادي بصوت عالِ دون توقف حتى نستبقي على خلاصنا. يقول: "ناد ولا تمسك" لئلا تهلك بصمتك بسبب شر الخاطئ. بينما تراعى إحساساته في حياء تفشل في الاهتمام بصحته (الروحية). لا تجعل جراحاته تسوء بسبب صمتك، إذ يجب أن تُشفى خلال التصويت. هذا ما يلزمنا أن ننادي، وننادي بصوت عالِ حتى لا يقل أحد إنه لم يسمع الصوت أو أن صوت الكاهن غير معروف لديه[120]]. كما يقول: [البوق هام بالنسبة للخطاة لا ليخترق آذانهم فحسب وإنما ليهز قلوبهم، لا ليفرحهم فحسب وإنما ليوبخهم. يليق بصوت البوق أن يشجع السهارى على صنع الخير، ويرعب المهملين على خطاياهم. وكما في المعركة يرعب البوق الجندي الخائف بينما يلهب روح الشجاع، هكذا بوق الكاهن يهين فكر الخاطئ ويشجع روح البار... هذا هو عمل البوق يبدد فعل الخطاة ويثبت أعمال الأبرار[121]]. وأيضًا يتحدث عن أبواق الكهنة، قائلاً: [يقول الطوباوي بولس: "إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح" (2 كو 10: 4-5). ألا ترى أن ألسنة الكهنة حسب كلمات الرسول هي أسلحة كلامية تبدد الأفكار الباطلة وتأسر الكبرياء المتشامخ[122]؟!].
4. هتاف الشعب...
طلب الله من يشوع أن "جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا" [5] عند سماعهم صوت البوق الذي يضربه الكهنة، "فيسقط سور المدينة في مكانه ويصعد الشعب كل رجل مع وجهه" [5]. وقد ترجم البعض كلمة "هتاف" بمعنى "صيحات الفرح"، بينما يراها البعض مثل العلامة أوريجانوس كهتاف الوحدة التي يصرخ بها الجنود معًا بروح واحدة عندما يتحمسون في المعركة. وكأنما سقوط أسوار أريحا، أو هدم مملكة إبليس لا يتطلب حياة الفرح للفرد منعزلاً عن الجماعة، وإنما هتاف النصرة المنطلق من الجماعة كلها بروح واحد. حقًا إنه هتاف الجهاد الروحي ضد الخطية ومملكة إبليس المملوء رجاءً وفرحًا خلال الوحدة معًا. لهذا يقول المرتل: "اهتفي للرب يا كل الأرض، اعبدوا الرب بفرحٍ" (مز 100: 1)، وأيضًا: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز 89: 15).
إذ داروا حول أريحا سبع مرات أُرهقوا جسديًا وصاروا كمن في حكم الموت، عاجزين تمامًا لا عن الحرب وإنما حتى على السير على الأقدام، وهذا إذ يشير إلى الدوران إلى الحياة الأبدية نقول بأن موتهم قد ابتلعته غلبة الأبدية ونصرتها كقول الرسول: "فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة أُبتلع الموت إلى غلبة" (1 كو 15: 54). وكأن الكل إذ تمتع بالأبدية في المسيح يسوع ينطلق بهتاف الفرح والتهليل علامة الغلبة على الموت والتمتع بنصرة الأبدية، قائلين مع الرسول: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هوية؟!... شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كو 15: 55، 57). هكذا يمتزج جهادهم المضني بتهليل قلوبهم. وتلتحم الحرب الروحية بخبرة الفرح السماوي!
لهذا تحدث آباء الكنيسة - حتى النساك منهم - عن حياة الفرح الداخلي في المسيح يسوع، والتهليل وسط دموع التوبة وأتعاب الجهاد الروحي، محذرين من السقوط تحت روح الغم الذي يدخل بنا إلى اليـأس فيحطم إيماننا. إنهم يؤكدون التزامنا بالهتاف الداخلي العظيم وسط جهادنا المضني. يقول الأسقف أغناطيوس بريانشاينتوف: [إن جاءك فكر أو إحساس بالغم فمن المفيد أن تتذكر قوة الإيمان، وكلمات الرب الذي منعنا من الخوف والغم، معلنًا ومؤكدًا لنا مواعيد الله بأنه حتى شعور رؤوسنا محصاة، وأنه ليس شيء يمكن أن يحدث لنا بدون عنايته وسماحه[123]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الخطية لا تحطم كاليأس، فإن من يخطئ متى كان ساهرًا بسرعة يتوب ويصلح ما قد حدث، أما من تعلم اليأس وعدم التوبة فيفشل في إصلاح الأمر بعدم قبوله علاجات التوبة[124]]. كما يتحدث أيضًا عن ارتفاعنا على حزن الضيقات ومرارتها بتقديم هتافات الشكر المفرحة، قائلاً: [ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيء، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات، الضيقة هي صلاح عظيم. هذا ما نتعلمه من أطفالنا الذين بدون ضيقة لا يتعلمون شيئًا نافعًا، أما نحن ففي حاجة إلى الضيق أكثر منهم[125]].
يركز العلامة أوريجانوس على وحدة الروح في الهتاف المفرح، إذ يعلق على قول المرتل: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز 89: 15)، قائلاً: [لم يقل طوبى للشعب الذي يمارس البر، ولا للشعب العارف الأسرار، ولا لمن له معرفة بالسماء والأرض والكواكب، وإنما "طوبى للشعب العارفين الهتاف". أحيانًا مخافة الله تهب الإنسان فرحًا (هتافًا)، لكنها تهب ذلك لشخص واحد؛ لهذا على سبيل المثال قيل: "طوبى للرجل الخائف الرب" (مز 112: 1)... أما التطويب هنا فيقدم بفيض... لماذا؟ لأن كل الشعب يشترك فيه، الكل يعرف صحبة التهليل. لهذا يبدو ليّ أن هتاف الفرح يعني وحدة القلب وترابط الروح معًا... عندما يرفع الشعب صوته باتفاق واحد، يتحقق فيه ما جاء في سفر الأعمال من حدوث زلزلة (أع 1: 13)... فينهدم كل شيء ويبطل هذا العالم[126]].
إن كانت أبواق الكهنة تُشير إلى كلمة الله وعمل الكرازة الذي لا ينقطع، فإن هتاف الشعب يعني وحدانية القلب الذي يولد فرحًا وتهليلاً خلال الغلبة على مملكة الظلمة. الكهنة يكرزون بالتوبة والشعب ينعم بعطايا الله وغلبته على العالم خلال وحدة الحب الحقيقي! لهذا يقول الكتاب: "جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا" [5]. مسيحيتنا إذن تقوم على أساس العلاقة الشخصية بين الله والنفس البشرية، ولكنها ليست في عزلة وانفرادية وإنما خلال اتحادها مع بقية الأعضاء بروح واحد خلال الرأس الواحد.
يربط العلامة أوريجانوس بين أبواق الكهنة وهتافات الشعب داخل النفس، إذ يرى يشوع الحقيقي يدخل النفس لكي يفتتحها مملكة له، محطمًا أسوار أريحا الداخلية. يقول إنه يليق بنا ككهنة أن نحمل في داخلنا الأبواق، ونضرب بها لكي نستبعد الأفكار والكلمات غير اللائقة، نضرب بالأبواق أي نسبح بمزامير وتسابيح وأغاني روحية (1 كو 3: 16)، أو نضرب بأبواق أسرار الناموس ورموز الأنبياء وتعاليم الرسل التي تعمل معًا بانسجام في داخلنا... هذه جميعها تفجر في داخلنا شعبًا يهتف هتافًا عظيمًا، فتهتف أفكارنا وعواطفنا وكل ما بداخلنا بفرح ولا يكون فيها دنس أو غش أو كذب؛ يهتف ما فينا بروح متناسق ومتكامل، عندئذ تنهدم أسوار محبة العالم فينا ويملك يسوعنا في داخلنا، لنقول مع الرسول: "أما أنا فحاشا ليّ أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم ليّ وأنا للعالم" (غل 6: 14).
إن ضرب أبواق العهد القديم (الناموس والأنبياء) في انسجام مع أبواق العهد الجديد، أي دراسة الكتاب المقدس في وحدة واحدة بطريقة روحية بناءه، يخلق أيضًا هتافًا منسجمًا في الإنسان، فيهتف الجسد بقدسية أعضائه مع النفس بقدسية طاقاتها والأحاسيس والعواطف والمواهب... تعمل جميعًا بروح الوحدة تحت قيادة الروح القدس، بفرح حقيقي حيث يملك ربنا يسوع عليها.
5. ناموس المحرّم...
"فتكون المدينة وكل ما فيها محرمًا للرب... وأما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها، وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسًا للرب وتدخل في خزانة الرب" [17-19].
لقد أراد الرب في بدء ميراثهم ألا ينصرف قلبهم وفكرهم ووقتهم إلى الغنيمة والمكسب المادي، لهذا حرم عليهم نوال شيئًا من أريحا، لكنه في المواقع التالية يسمح لهم بالغنائم مؤكدًا لهم أنهم إذ ينصرفون عن الزمنيات في أريحا يعطيهم الروحيات والزمنيات أيضًا في الحروب التالية، وكما يقول الرب نفسه: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم".
يُعلق العلامة أوريجانوس على شريعة المحرم هذه هكذا: [حقًا إن يشوع قال: "أما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها" ها هو معنى هذا الكلام: إحرصوا ألا تحفظوا شيئًا من العالم في داخلكم، لئلا يصير في وسط جماعة المؤمنين العادات الرذيلة... لا تخلط أمور العالم مع ما للمسيح، ولا تدخلوا بحاجات العالم إلى مقدسات الكنيسة. يحذرنا يوحنا من ذات الأمر إذ يضرب بالبوق في رسالته، قائلاً: "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1 يو 2: 15). ويقول بولس نفس الشيء: "لا تشاكلوا هذا الدهر" (رو 12: 2)، فإننا إذ نسلك على منوال أهل العالم نكون قد رحبنا بالمحرمات. نذكر على سبيل المثال: الاشتراك في أعياد الوثنيين بعد أن صرنا مسيحيين يعني دخول المحرم إلى الكنيسة، وأيضًا دراسة التنجيم ودراسة طير الطيور... هو دخول المحرم من أريحا إلى معسكر السيد وتدينه، مما يؤدي إلى هزيمة شعب الله...
6. خلاص راحاب...
"وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: أدخلا بيت المرأة الزانية وأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها... واستحيى يشوع راحاب الزانية وبيت أبيها وكل ما لها، وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم" [22، 25].
بالإيمان خلصت راحاب وحدها مع كل بيت أبيها من الدمار، بل ودخلت هذه الأممية إلى وسط إسرائيل لتغرس في شجرة الزيتون الحقيقية.
يقول العلامة أوريجانوس: [بأي طريقة نفهم أن راحاب "سكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم؟" عادة يستخدم الكتاب هذا التعبير "إلى هذا اليوم" عندما يتحدث عن بقاء الشيء إلى نهاية الحياة. على سبيل المثال عندما يقول: "هو أبو الموآبيين إلى اليوم" (تك 19: 37) يعني "إلى نهاية العالم". وأيضًا في الإنجيل: "فشاع هذا القول إلى هذا اليوم" يعني إلى نهاية العالم وتكميله. لكن كيف نقول أن راحاب "سكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم؟" ألا نفهم من هذا أنها انضمت إلى إسرائيل الحقيقي (كنيسة العهد الجديد) إلى هذا اليوم؟! إن أردت الاستنارة لفهم الطريقة التي بها انضمت راحاب إلى إسرائيل فلتلاحظ كيف أن "زيتونة البرية طُعمت فيها فصرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها" (رو 11: 17)... فإننا نحن الذين كنا أغضان زيتونة برية جئنا من أمم مختلفة وتثبتنا في الأصل. نحن الذين كنا نعيش في الزنا ونعبد الحجارة والخشب عوض الله الحقيقي (تث 4: 28) داخلنا إلى الإيمان بالسيد المسيح وصرنا إلى هذا اليوم الشعب الذي من فوق، بينما الشعب الآخر (اليهود) فبسبب قلة إيمانه صار من أسفل... الذين كانوا أولين صاروا آخرين (مت 19: 30)[127]].
7. لعنة أريحا...
إذ صارت أريحا تمثل الشر الذي يلزم هدمه تمامًا وإبادته، لذلك "حلف يشوع في ذلك الوقت، قائلاً: ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا، ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها" [26]. وقد تحقق ذلك حرفيًا عندما قام حيئيل البيتئيلي ببنائها إذ يقول الكتاب: "بأبيرام بكره وضع أساسها، وبسجوب صغيرة نصب أبوابها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد يشوع بن نون" (1 مل 16: 34).
لقد تحطمت أريحا بأسوارها الشامخة إلى الأبد علامة تحطيم الشر وهدم عدم الإيمان. يقول القديس أغسطينوس: [إلى متى تقوم هذه الأسوار؟ لا تبقى على الدوام! فإن التابوت يدور حول أسوار أريحا، ويأتي وقت - في المرة السابعة لدورانه - فيه تنهدم كل أسوار مدينة عدم الإيمان والتناقضات. ولكن إلى أن يتحقق هذا يليق بالإنسان أن يتعب في ممارساته محتملاً المقاومين ليختار أجنحة ينطلق بها...[128]].
حقًا لتُدمر أريحا إلى الأبد وتخلص راحاب الزانية، أي ليزول الشر الذي غلب العالم كقول الكتاب: "العالم كله قد وضع في الشرير" (1 يو 5: 19)، الآن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة" (1 يو 2: 16)، فينهدم الشر ولا يقوم حتى تحيا راحاب التي كانت زانية عروسًا مقدسة وعفيفة للرب (2 كو 11: 2). بهذا لا تعود الزانية تسلك في زناها بل في قداسة الرب كقول الرسول: "هكذا كان أُناس منكم، لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11).
الأصحاح السابع
الهزيمة في عاي
انتصر الشعب على أريحا المدينة الضخمة المحصنة، لكنهم انهزموا أمام قرية عاي الصغيرة، لأنه في وسطهم حرام، ولم يعد الله في وسطهم حتى ينزعوا الخميرة الفاسدة ويتقدسوا له.
1. خيانة عخان [1].
2. الهزيمة أمام عاي [2-5].
3. يشوع الشفيع [6-9].
4. سرّ الهزيمة [10-15].
5. نزع الخميرة الفاسدة [16- 26].
1. خيانة عخان...
"وخان بنو إسرائيل خيانة في الحرام، فأخذ عخان بن كرمي بن زبدي بن زارح من سبط يهوذا من الحرام، فحمى غضب الرب على بني إسرائيل" [1].
ليس عجيبًا أن تنتهي النصرة الفائقة على أريحا بارتكاب عخان هذا الحرام وقيامه بهذه الخيانة وسط شعب الله، فإن هذا العمل يمثل بشاعة الطبيعة البشرية التي تُقابل عطايا الله الفائقة والمجانية بالجحود عوض الشكر. أمام أسوار أريحا الشاهقة تقف في مذلة تنتظر خلاص الله العجيب، وإذ تنهار الأسوار ويخضع لها الأعداء تعود فتقدم خيانة عهد الله!! حقًا كثيرون كانوا جبابرة واستطاعوا بالنعمة أن يهزموا أريحا ويحطموا جبروتها، لكنهم في فساد قلبهم الداخلي تحطموا أمام قرية عاي الصغيرة بسبب الحرام الذي تسلل إلى القلب في الداخل.
على أي الأحوال لقد سمح الله أن يبدأ الميراث بالنصرة القوية تلوها مباشرة الهزيمة المؤلمة ليكون ذلك درسًا للأجيال كلها، ان الغلبة هي من عند الله والفشل هو بسبب شرنا. وأنه كلما انتصرنا بالنعمة الإلهية يلزمنا بالحري ونحن نشكر الله على عطاياه أن نحذر لئلا يتسلل الشر إلينا خلال تهاوننا فندخل إلى الهزيمة أمام خطايا تبدو لنا صغيرة وتافهة. في هذا يقول الرسول بولس: "أقمع جسدي وأستبعده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 9: 27). ولهذا السبب يحذرنا كاتب النشيد: "خذوا لنا الثعالب الصغار المفسدة الكروم، لأن كرومنا قد أقعلت" (نش 2: 15)، وكأنه كلما كرز الرسول وأثمر في حياة الآخرين بالأكثر أقمع جسده واستعبده خوفًا من سقوطه، وكلما أقعل الكرم وظهرت الثمار يخشى الكرام عليه من الثعالب الصغار لئلا تفسده… كلما نلنا نصرة على أريحا في داخلنا أو في حياة الآخري وتمتعنا بالنعم الإلهية المجانية ونحن نقدم الشكر لله ويزداد يقيننا في عمله الإلهي نحذر لئلا يتسلل العدو إلينا خلال الصغائر. يقول القديس مرقس الناسك: [يقدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو كأنها تافهة في أعيننا، لأنه بغير هذا لا يقدر أن يقودنا إلى الخطايا العظيمة[129]].
ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا (يش 7: 1) أن عخان أخطأ فإذا بغضب الرب يسقط على كل الشعب. يقول العلامة أوريجانوس: [يليق بنا ألا نهمل هذه العبارة فإنه إذ يرتكب شخص واحد خطية يُجلب الغضب على الشعب كله. كيف تحدث هذه الكارثة؟ عندما يُريد الكهنة - مدبروا الشعب - أن يظهروا متسامحين مع الخطاة، لأنهم يخشون لسانهم لئلا يثور ضدهم، ناسين الحزم اللائق بكهنوتهم. إنهم بهذا يرفضون تنفيذ ما هو مكتوب: "الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف" (1 تي 5: 20)، وأيضًا: "اعزلوا الخبيث من بينكم" (1 كو 5: 13). هؤلاء الكهنة غير ملتهبين بغيرة الرب ولا يمتثلون بالرسول الذي يأمر: "أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح" (1 كو 5: 5). إنهم يسلكون بغير مبالاة لنصائح الإنجيل من جهة الخطاة. عندما نرى خاطئًا فلنذهب إليه بمفردنا، ثم نحدثه على فم شاهدين أو ثلاثة، أما إن استهتر حتى بعد لوم الكنيسة له ولم يتب فليفرز من الكنيسة ويحسب كالوثني والعشار (مت 18: 5)[130]].
2. الهزيمة أمام عاي...
لم يكن ممكنًا أن يحدث تحركًا نحو أريحا المحصنة إلاًّ بعد أن أعلن الله ليشوع "قد دفعت بيدك أريحا وملكها جبابرة البأس" (6: 2)، أما هنا فإذ تسلل الحرام إلى وسط الشعب، وعاي قرية صغيرة، لم نسمع صوت الرب يعلن شيئًا ليشوع، ولا استشار يشوع الرب قبل إصعاد رجال للتجسس أو تحديد عدد رجال الحرب... ولو أن يشوع استشار الرب لكان الرب منعه من القيام بأي عمل قبل تنقية الفساد الذي تسلل إلى شعبه خفية، وبالتالي ما كانت قد حدثت الهزيمة أمام عاي.
استهتر الجواسيس بقرية عاي، إذ قالوا ليشوع: "لا يصعد كل الشعب بل يصعد نحو ألفي رجل أو ثلاثة آلاف رجل ويضربوا عاي. لا تكلف كل الشعب إلى هناك لأنهم قليلون" [3]. حقًا إن سكان عاي قليلون، لكن شعب الله بعد أن تخلى الله عنهم وفارقهم صاروا ليس فقط قليلين بل وكلا شيء. وكما يقول الحكيم: "الشرير يهرب ولا طارد، أما الصديقون فكشبل ثبيتٍ" (أم 28: 1). هذا ما حذر به الله شعبه على فم موسى النبي "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك... يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك، في طريق واحدة تخرج عليهم وفي سبع طرق تهرب أمامهم وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض. وتكون جثتك طعامًا لجميع طيور السماء ووحوش الأرض وليس من يزعجها" (تث 28: 15، 25-26). هكذا أخطأ الجواسيس في حساباتهم إذ تطلعوا بمنظار بشري وتجاهلوا فقدانهم سرّ نصرتهم الخفي، ألا وهي الحياة المقدسة في الرب! لقد ظنوا أن ألفين أو ثلاثة آلاف قادرون على ضرب عاي، مع أن عاي كانت تحتاج أولاً إلى ضرب الفساد الداخلي في الشعب وإلى قيام جميع الشعب مع يشوع إلى المدينة وإقامة كمينين من ثلاثين ألف جبار بأس ومن خمسة آلاف (يش 8: 5، 3، 12).
ضرب أهل عاي نحو ستة وثلاثين رجلاً من الشعب [5]، وهو ذات رقم الرشومات لسرّ الميرون حيث يدهن الكاهن 36 رشمًا على كل أعضاء المعمد حديثًا من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، وكأن عاي الضعيفة استطاعت أن تقتل كل الأعضاء الإنسان وتبددها بسبب الحرام المختص في داخل القلب! إن فكرة شريرة نظنها بسيطة وهينة إذ نستسلم لها تفقدنا طهارة كل الجسد، بل وتفقدنا كل حياتنا!
أما ثمر هذا كله فهو: "ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء" [5]. هذا هو عمل الخطية، لقد حطمت الشعب كله وأفقدته كل شجاعة وقوة وصيرت قلبه كالماء يسيل وليس من يقدر أن يعين أو يسند. لهذا لا تعجب إن كان إرميا النبي إذ يدرك فاعلية الخطية المرّة يقول: "أحشائي أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن فيَّ قلبي، لا أستطيع السكوت لأنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب" (إر 4: 19). وإذ حمل السيد خطايانا قال على لسان النبي: "كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي" (مز 22: 14)، يا لبشاعة الخطية!
3. يشوع الشفيع...
"فمزق يشوع ثيابه، وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء هو وشيوخ إسرائيل ووضعوا ترابًا على رؤوسهم" [6].
وقف يشوع كشفيع عن الشعب أمام الله، فمزق ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام التابوت إلى المساء، يحمل صورة رمزية لشفاعة ربنا يسوع المسيح الكفارية الذي أخلى ذاته وكأنه قد نزع عنه ثوب مجده من أجلنا، ونزل إلى الأرض هذا الذي ترتعب أمامه القوات السمائية وأعلن كمال حبه محققًا المصالحة على الصليب عند المساء. يقول عنه أشعياء النبي: "سكب للموت نفسه، وأُحصى مع الأثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين" (53: 12)، وأيضًا يوحنا الحبيب: "وإن أخطأ أحدنا فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، هو كفارة لخطايانا، ليس خطايانا فقط بل وخطايا العالم أيضًا" (1 يو 2: 1). كما يقول الرسول بولس: "فمن ثمَّ يقدر أن يخلص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم" (عب 7: 25).
إن ثمن شفاعته ليس تمزيقًا لثوبه أو سقوط وجهه على الأرض كما فعل يشوع، وإنما هو الحيّ الأبدي حمل جسدًا ليسكب للموت نفسه، حاملاً آثامنا وضعفاتنا ليدينها في جسده، فيُحصى مع الأثمة هذا الذي لا يعرف خطية! يقدم حياته عن البشرية التي حملت العداوة ضده بإرادتها، إذ هو وحده قادر أن يسلم نفسه للموت وفي نفس الوقت قادر أن يقوم، صار لنا شفيعًا حيًا يقدمنا إلى أبيه كأعضاء جسده الحيّ، فنجد لنا موضع راحة في أحضانه الأبوية. شفاعته ليست كلامًا ولا مجرد صراخ لكنه دخول بنا، فيه نتبرر بدمه ونحسب موضع سرور الآب!
يقول القديس أغسطينوس إن ربنا يسوع يُصلي من أجلنا، ويُصلي فينا في الوقت الذي فيه نحن نصلي إليه: [يوجد مخلص واحد، ربنا يسوع المسيح ابن الله، الذي يُصلي من أجلنا، ويصلي فينا، وإليه نحن نصلي، يُصلي عنا ككاهننا، ويصلي فينا بكونه رأسنا، ونُصلي إليه بكونه إلهنا[131]].
4. سرّ الهزيمة...
أعلن الله ليشوع سرّ الهزيمة، مقدمًا له العلاج:
"قم، لماذا أنت ساقط على وجهك:
قد أخطأ إسرائيل بل تعدوا عهدي...
لأنهم محرومون ولا أعود أكون معكم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم.
قم، قدس الشعب...
في وسطك حرام يا إسرائيل،
فلا تتمكن للثبوت أمام أعدائك حتى تنزعوا الحرام من وسطكم" [10-13].
يلاحظ في العبارات السابقة الآتي:
أولاً: يقول الله ليشوع "قم" مرتين، في المرة الأولى: "قم لماذا أنت ساقط على وجهك"، وفي الأخرى: "قم قدس الشعب". وكأن الآب إذ يرى الابن حاملاً الموت عنا بإرادته يطلب منه أن يقوم... وبقيامته يقدس الشعب. يقوم الابن المتجسد فيقيمنا معه بلا خطية!... سفر يشوع هو سفر القيامة، لأنه بدونها لن يتحقق لنا الميراث ولا يكون لنا نصيب في المواعيد الإلهية.
ثانيًا: سرّ الهزيمة إن المؤمنين صاروا محرومين وقد فارقهم الرب حتى يبيدوا الحرام من وسطهم. إذ استولى أحدهم على ما هو محرم حمل في داخله طبيعة هذا المحرم، فصار محرومًا وأصغى بهذا على كل الشعب. إقتناء الشر يعطينا طبيعته، وإقتناء المقدسات يجعلنا قديسين. من يقتني الخطية الباطلة يصير باطلاً، ومن يقتني الله يحمل فيه الحياة الإلهية وتصير له السمات الجديدة على صورة خالقه.
ثالثًا: إن كان دخول الحرام في وسطنا هو سرّ هزيمتنا فالعلاج يحمل جانبين متكاملين: إبادة الحرام من وسطنا، إقتناء القداسة، لا يكفي الجانب السلبي وهو نزع الشر وإنما يلزم العمل الإيجابي وهو اقتناء القدوس ذاته. لذا يقول الله ليشوع أن يبيد الحرام وأن يقوم فيُقدس الشعب.
5. نزع الخميرة الفاسدة...
ما كان يمكن للشعب أن يتمتع بالحياة المقامة المقدسة إن لم تُنزع عنهم الخميرة الفاسدة التي تفسد العجين كله (1 كو 5: 6)؛ كان لابد من إبادة الحرام تمامًا لكي يعودوا فيتمتعوا بمعية الله الدائمة. وهنا نلاحظ الآتي:
أولاً: للأسف السبط الذي أنجب لنا القديسة مريم التي تحني رأسها بالطاعة لله لتقبل حلول الكلمة في أحشائها فيخرج مخلص العالم الأسد الخارج من سبط يهوذا، يخرج عخان بن كرمي الذي أعثر الشعب وحطمه. لعل الله سمح بذلك لكي نحذر السقوط ولا نستهين بالعثرة مهما بدت بسيطة، فالسبط الذي أُعطيت له الوعود خرج منه هذا الذي استحق الإبادة، مواعيد الله الأمينة وعطاياه الإلهية المجانية تهبنا رجاءً ويقينًا لكن مع حذر فإن عخان رأى فاشتهى ثم أخذ وطمر [21]، إذ يقول: "رأيت في الغنيمة رداءً شنعاريًا ومئتي شاقل ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلاً فاشتهيتها وأخذتها، وها هي مطمورة في الأرض في وسط خيمتي والفضة تحتها". تبدأ العثرة بالرؤية غير المقدسة فالشهوة فالعمل ثم إخفاء الشر في الأرض وسط الخيمة حتى لا يبقى للشر أثر يمكن إدراكه.
ثانيًا: لم يصفح الله عن عخان ربما لعدة أسباب. السبب الأول لأن هذا التصرف كان الأول من نوعه بعد دخولهم كنعان. فأراد الله من البداية أن يعطيهم درسًا يبرز فيه بشاعة الخطية مؤكدًا ضرورة بترها. هذا ما حدث مع الحطاّب الذي كان يجمع الحطب يوم السبت فكان أول كاسر للسبت، وقد جاء حكم الرب عليه، "قتلاً يقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة" (عد 15: 35)، وأيضًا مع حنانيا وسفيرة كأول عائلة تكذب على الروح القدس في عصر الرسل (أع 5: 3). أما السبب الثاني فهو أن عخان قد تمتع بالبركات الإلهية ورأى بنفسه في نهر الأردن الطريق ينفتح ليعبر، وأسوار أريحا تنهدم لكي يرث، لذلك كان جزاؤه مُرًا وقاسيًا. لو أنه انتظر لنال نصيبه من غنائم عاي وغيرها من المواقع كما ورث أرض الموعد، لكنه إذ احتقر بركات الله مهتمًا بالأمور الأرضية فقد هذه وتلك! السبب الثالث أن عخان لم يشعر بالتوبة ولا اعترف في البداية وانتظر حتى كشف الله السبط الذي أخطأ [16] فالعشيرة [17] ثم عُرف البيت وأخيرًا عُرف اسمه وعندئذ اضطر أن يعترف... لقد أخفى الجريمة ولم يقدم التوبة حتى بعد انكسار الشعب...
على أي الأحوال، صار عخان درسًا للكنيسة كلها عبر الأجيال، من جهة كشف أن سرّ الهزيمة في حياة المؤمن أو الجماعة هو "الحرام" الذي يجد له موضعًا في وسطنا! من جهة أخرى صار عبرة لكل من يخطئ... ليس له ما يقدمه من عذر وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [عندما أُتهم عخان بالسرقة لم يحتج أنه كان غيورًا في الحروب، لكنه إذ ثبتت معصيته رجمه الشعب كله بالحجارة[132]]، وأخيرًا صار درسًا حيًا لكل الأجيال من جهة التزام المؤمن أن يبيد كل أثر للخطية في حياته دون مناقشة. لقد أباد يشوع بن نون كل أثر لعخان وكل ماله، حتى نُسلم حياتنا الداخلية وسلوكنا بين يدّي الله يسوعنا الحيّ الذي وحده يقدر أن يقتلع جذور خطايانا، فلا يترك فينا أثرًا للشر أو شبه الشر، لنتمسك بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به تُقطع كل عثرة فينا فلا نهلك، متذكرين وصية السيد لنا: "إن كانت عينك اليمين تعثرك فاقلعها والقها عنك، لأنه خيرٌ لك أن يُهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك..." (مت 5: 29، 30).
ثالثًا: كانت مادة الجريمة هي:
أ. رداء شنعاريًا نفسيًا [21]، أي رداء مستوردًا من شنعار (بجوار بابل) وهي المنطقة التي أُقيم فيها برج بابل (تك 11: 2)، وإليها سبى بعض اليهود (إش 11: 11، زك 5: 11).
إن كان الرداء يُشير إلى الجسد، فإن اشتهاء الرداء البابلي أو الشنعاري إنما يُشير إلى شهوة الجسد للتنعم بأمور الأمم وملذاتهم. ففي سفر حزقيال يوبخ الله يهوذا لأن إسرائيل أختها "عشقت بني أشور الولاة والشحن الأبطال الملابسين أفخر لباس" (حز 23: 12). لقد حمل عخان البذار الأولى لشهوات الجسد مع الأمم، لذلك كان لابد من إبادتها في بداية انطلاقها... لقد دنس الجسد الذي خلقه الله مقدسًا!
ب. مائتي شاقل فضة [16]، إن كان الرداء يُشير إلى شهوات الجسد، فإن المائتي شاقل فضة تُشير إلى محبة المال... الذين يقتنون الفضة على حساب إخوتهم المحرومين. والفضة تُشير أيضًا إلى كلمة الله، وكما أن الإنسان الشرير يسيء إلى جسده المقدس بتدنيسه إياه فإنه أيضًا يسيء فهم كلمة الله فيطمرها في الأرض تحت خيمته، أي يستخدمها بمفهوم أرضي لحساب خيمة جسده بدلاً من أن يتقبلها لترفعه إلى السماويات لحساب روحه كما لخلاص جسده!
ج. لسان ذهبي [16]، يُشير إلى لسان الفلاسفة الملحدين الذي يبدو ذهبيًا وبراقًا. يقول العلامة أوريجانوس: [لست أظن أن سرقة القليل من الذهب كانت خطية كافية لتدنيس كنيسته العظيمة... لسان الذهب هي مذاهب الفلاسفة الفاسدة التي تبدو لامعة. احرص لئلا يغريك بهاء صنعتهم وتخدعك حلاوة لسانهم الذهبي. تذكر أمر يشوع بأن كل ما هو ذهبي في أريحا فليكن محرمًا. إن كنت تقرأ مقالات الشعراء البراقة التي تحكي عن الآلهة فلا تترك نفسك تسحرها فصاحتهم. فإنك إذ أخذتها ووضعتها في خيمتك، أي تركت تعاليمهم تدخل إلى قلبك، تتدنس الكنيسة كلها. هذا ما فعله فالنتينوس وباسيليدس البائسين. فقد سرقا اللسان الذهبي الذي في أريحا وحاولا أن ينقلا المبادئ الفلسفية الرديئة إلى الكنيسة فيدنسوا كل كنيسة الله[133]].
د. خمسين شاقلاً: رقم 50 يُشير إلى روح الحرية والوحدة، ففي خيمة الاجتماع كانت الستارتان تتحدان معًا خلال خمسين عروة في إحدى الجانبين من كل ستارة (خر 26: 4-5) ترتبط العرى كلها بواسطة خمسن أشظة ذهبية إشارة إلى سرّ الوحدة بين الشعبين (اليهودي والأمم) إنما بحلول الروح القدس في يوم الخمسين حيث ينالون روح الحرية في المسيح يسوع والذي يهب الوحدة أيضًا. وفي اليوبيل - في السنة الخمسين - كان العبيد من اليهود يتحررون، والأرض المرهونة يفك رهنها، ويشعر الكل بالحرية... هنا عخان يتسلم الحرية لطمره في الأرض تحت خيمته، أي يستخدم الحرية المقدسة لحساب جسده ومطالبه الزمنية فتصير إباحية واستهتارًا.
في اختصار إن ما فعله عخان هو تدنيس للمقدسات أو المواهب التي قدمها الله له لراحته وسلامه فاستخدمها لتحطيمه وهلاكه:
استخدم الجسد (الثوب) للشهوات عوض أن يكون معينًا للنفس في الحياة المقدسة،
واستخدم كلمة الله بفكر خاطئ عوض أن ترفعه للسمويات،
واستخدم الفكر في الفلسفات البراقة غير البناءة عوض أن يكون عمله لمجد الله،
واستخدم الحرية كفرصة للجسد عوض أن تكون سرّ انطلاقه إلى حضن أبيه بلا عائق أو قيود.
الأصحاح الثامن
الأستيلاء على عاي
بسبب الخطية تحطم الشعب أمام قرية عاي الضعيفة، والآن إذ تقدس الكل ونُزع الحرام من وسطهم لم ينالوا الغلبة والنصرة عليها فحسب، إنما قدموا في طريقة غلبتهم نبوة رمزية لعمل الله الخلاصي.
1. عمل كمين لعاي [1-17].
2. ضرب عاي [18-28].
3. صلب ملك عاي [29].
4. إقامة مذبح للرب [3-31].
5. الاهتمام بالشريعة [32-35].
1. عمل كمين لعاي...
إذ نُزع الشر من وسط الشعب: "قال الرب ليشوع لا تخف ولا ترتعب. خذ معك جميع رجال الحرب وقم اصعد إلى عاي. أنظر، قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه" [1]. وأمره أن يقسم الشعب فريقين: الفريق الأول يمثل كمينًا يختفي وراء مدينة عاي، من جهة الغرب بينها وبين بيت إيل. ويبدو أن هذا الفريق أيضًا قد انقسم إلى قسمين: كمين يتكون من 30 ألف رجل جبار بأس [3] يختفي بالقرب من بيت إيل حتى يستطيعوا أن يصدوا أي تحرك لشعب بيت إيل لإنقاذ عاي، والآخر يتكون من نحو خمسة آلاف رجل [12] يكمن بالقرب من عاي ليقتحمها عندما يعطيهم يشوع إشارة بذلك؛ أما الفريق الثاني فهو الفريق الظاهر يقوم تحت قيادة يشوع بالانطلاق نحو عاي من مدخلها الأمامي، ويكون حين يخرج أهل عاي للقائهم يهربون من أمامهم فتخرج كل مدينة عاي وراءهم، وتبقى المدينة بلا ساكن فينطلق الكمين ويستولي عليها محاربًا أهل عاي من الخلف.
حمل هذا التصرف صورة حية لعمل الله الخلاصي على مستوى كنيسة العهد الجديد ككل وعلى مستوى كل عضو فيها، فهو يمثل غلبة الكنيسة الجامعة على الشيطان "ملك عاي"، وسلبه كل سلطانه وإمكانياته، كما يمثل غلبة كل نفس عليه.
من جهة الكنيسة ككل فالفريقان يمثلان عنصرين في كنيسة العهد الجديد، جماعة من أصل يهودي وأخرى من أصل أممي، فالفريق الذي كان تحت قيادة يشوع، والذي اقترب من مدخل عاي من الأمام لكنه تظاهر بالهروب حتى يجتذب ملك عاي وكل جيشه وشعبه خارج مدينته إنما يمثل الجماعة التي من أصل يهودي والتي قبلت الإيمان بيسوع، وجاءت أمام المدينة علانية، إذ جاءت خلال الناموس والأنبياء، لتهجام بيسوعها مملكة الظلمة وتحطم الشيطان رئيسها. هذه الجماعة هي التي قال عنها السيد: "لم أُرسل إلاَّ لخراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 25: 24)، كما قال الرسول عنهم: "مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودي أولاً ثم اليوناني" (رو 2: 20). أما تظاهرهم بالهروب أمام مدينة عاي، فكما يقول العلامة أوريجانوس: [تظاهروا بالهروب كل الذين كانوا يتبعون يشوع، إذ هربوا من ثقل الناموس، وحفظ السبت حسب الشريعة، وختان الجسد، وتقديم ذبائح دموية. لكننا إذ نتأمل حركتهم الثانية نجد أن الذين تبعوا يشوع الكامل ومتمم الناموس لم يهربوا "بل رجعوا واقتحموا المدينة"[134]].
تظاهروا بالهروب حتى خرج ملك عاي وشعبه من مدينته وعندئذ ارتدوا عليهم وغلبوهم؛ هكذ ظهر اليهود الذين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح أنهم تحت قيادة يشوع الحقيقي تقهقروا عن الناموس وأعماله لكنهم عادوا يدركون الناموس وأعماله بالروح لا الحرف. لقد انعتقوا من تحت الناموس ليعيشوا لا ككاسري الناموس أو مزدرين بأعماله وطقوس شريعته وإنما ليدخلوا إلى أسراره الروحية ويتفهموا أعماقه ويحققوا غايته تحت قيادة "يشوع الحقيقي" الحامل لعنة الناموس عنا.
أما الفريق الآخر فيمثل كمينين أحدهما يتكون من 30 ألف رجل بأس يقتربون من بيت إيل خلف عاي، والآخر يتكون من نحو 5 آلاف رجل خلف عاي مباشرة؛ هذان الكمينان يمثلان جماعة المؤمنين من أصل أممي. كان يشوع هو المدبر لهما وهو الذي اختارهما، لكنه لم يكن بالجسد في وسطهما، وذلك كالأمم الذين لم يحل رب المجد يسوع جسديًا في وسطهم كما حدث مع اليهود، وإنما سمعوا عنه سماع الأذن وعرفوه خلال كرازة التلاميذ والرسل. هؤلاء أيضًا لم يتقدموا إلى المدينة من الأمام بل كانوا مختفين من ورائها... إذ لم يكن لهم الناموس ولا الأنبياء ولا أُعطيت لهم عهود ولا مواعيد. وكما يقول الرسول: "إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر (بالناموس) أدركوا البر، البر الذي بالإيمان" (رو 9: 30). جاءوا من خلف، ليس لهم معرفة سابقة بالناموس والشريعة والنبوات، لكنهم بالإيمان الذي في قلبهم اقتحموا المدينة وحطموا قوات الظلمة وسلبوا إبليس سلطانه وجبروته... وكان عملهم ملتحمًا مع كل الفريق الأول بقيادة يشوع نفسه!
ولعل الرقمين 30.000، 5000 الخاصين بالكمينين الغالبين لإبليس وكل جنوده يحملان مفهومان روحيين. فرقم 30.000 هو حصيلة ضرب 3 × 10 × 1000. فإن كان رقم 3 يُشير للإيمان بالثالوث القدوس أو لسرّ القيامة مع المسيح كما رأينا في الأصحاحات السابقة، ورقم 10 يُشير إلى الناموس حيث الوصايا العشر، ورقم 1000 يُشير للحياة السماوية، فإن هذا الرقم في كليته إنما يعني أن هذا الفريق من الأمم الذي لم يتسلم الناموس الموسوي ولا تعرف عليه، باللإيمان بالثالوث القدوس كما بتمتعه بالحياة المقامة في المسيح يسوع صار متممًا للناموس (10) ولكن بطريقة روحية أو سماوية (1000). لم يكسر الأمم (المؤمنون) الناموس ولا احتقروه وإنما في الإيمان صاروا في المسيح يسوع القائم من الأموات متبررين، كمن قد أكملوا الوصايا وحققوها بفكر روحي سماوي وليس بطريقة حرفية قاتلة. أما رقم 5000 فيُشير إلى تقديس حواس هؤلاء المؤمنين الذين كانوا قبلاً يعيشون في الظلمة ويتمرغون في الدنس، بالإيمان الحيّ تقدّست حواسهم الخمس وصارت لهم السمة الروحية السماوية (1000).
كما كانت الخطة متكاملة، فلا يمكن لفريق أن ينجح بمفرده، إنما يعمل الإثنان معًا، هكذا تظهر الكنيسة متكاملة بقبول أعضاء من أصل يهودي وآخرين من أصل أممي، بالرغم من اختلاف الثقافة والفكر والظروف.
إن تطلعنا إلى هذه الخطة التي قدمها الله ليشوع ليغلب عاي ويستولى عليها بكونها تمثل الحرب الروحية في حياة كل واحد منا، فإننا نحتاج نحن أيضًا إلى خطة مماثلة، فنحارب روحيًا خلال الجهاد الظاهر تحت قيادة يشوع مثل العبادة الليتورجية والأصوام والصلوات العائلية والشخصية والاشتراك في العطاء وعمل المطانيات إلخ... هذا كله يلتحم مع الحياة السرية الخفية التي تعمل ككمين تضعه النفس ضد الخطية ومملكتها وذلك تحت رعاية يسوع المسيح نفسه المخلص، مثل تنهدات القلب، والصلوات السهمية (صلاة يسوع الدائمة) وتقديس الإرادة والأحاسيس إلخ... الأمور التي لا يراها أحد ولا يدركها إلاَّ السيد نفسه. بمعنى آخر، نقول أن جهادنا الروحي ضد مملكة الظلمة إنما يكون بتقديس الجسد وأعماله الظاهرة وتقديس النفس بأعمالها الخفية، فلا انفصال للجسد في قدسيته عن الروح ولا تعارض بينهما ماداما يسلكان بالروح تحت قيادة ربنا يسوع الواحد، وهكذا تلتحم حياتنا الظاهرة مع الخفية كحياة واحدة متكاملة، تتناغم كل تصرفتنا سواء كانت في الكنيسة أو في البيت أو في العمل أو مع الأصدقاء أو المضايقين، فنعمل بروح واحد منسجم يليق بقائدنا الروحي محب البشر، وتصير حياتنا في مجملها ومن كل جوانبها حياة واحدة متناسقة أشبه بالقيثارة التي يضرب عليها رب المجد يسوع بروحه القدوس فيخرج من كل وتر نغم خاص به لكنه متناسق مع بقية الأوتار ومتكامل، يساهم في سيمفونية الحب التي لا يُنطق بها، التي يقدمها القائد لأبيه السماوي بروحه القدوس.
2. ضرب عاي...
لم يكن ضرب عاي بحيلة بشرية، إنما بخطة إلهية استخدم الله فيها خدامه وشعبه؛ وإن كان هو الذي دبّر وهو الذي وهب النصرة. ففي البداية أمر خادمه يشوع أن يقوم ويصعد إلى عاي [1]، معلنًا أن يعطيه النصرة [1]، مقدمًا له خطة الحرب ذاتها [2]... وكان الرب نفسه يتابع كل خطواته، إذ يقول: "فقال الرب ليشوع مدّ المزراق الذي بيدك نحو عاي لأنيّ بيدك أدفعها... فقام الكمين بسرعة من مكانه وركضوا عندما مدّ يده ودخلوا المدينة وأخذوها وأسرعوا وأحرقوا المدينة بالنار" [18-20]. كان الله هو العامل وسط شعبه لكنه ليس بدونهم! إنه يفرح ويسرّ بأن يعمل لحسابهم وبهم ومعهم أيضًا! إنه يُقدّر الإنسان ويرفع من شأنه، فيهبه الخلاص مجانًا كنعمة إلهية لكنه ليس متجاهلاً الجانب الإنساني والإرادة الإنسانية بل والعمل الإنساني!
كان الأمر الإلهي أن يمد يشوع يده بالمزراق أو السهم نحو عاي لكي يدفعها الرب في يده... هذا الأمر إنما يرمز لعمل التجسد الإلهي حيث تُشير "اليد" إلى أقنوم الابن، أما بسطها فيعني إعلانها... وكأن الابن أعلن ذاته خلال التجسد، مصوبًا صليبه كمزراق يهدم به حصون إبليس ويحرق مملكته بنار روحه القدوس!
يؤكد الكتاب المقدس: "ضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت" [22]. ويعلق العلامة أوريجانوس على هذه العبارة، قائلاً: [يحوي هذا النص أسرارًا، فالمعنى الذي نستخلصه هنا هو أنه يجب ألا نبقي شيطانًا واحدًا حيًا بل نقتلهم جميعًا حتى النهاية... فالقديسون هم الذين يقتلون سكان عاي ويدمرونهم ولا يتركوا أحدًا منهم يفلت. نعم إن هذا يجعل قلبهم مدققًا، فلا يخرج منه فكر شرير (مر 7: 21)؛ ويلاحظون أفواههم فلا تخرج كلمة ردية منها (أف 4: 29). هيا بنا إذن لنحارب هكذا، ونضرب عاي بحد السيف، فنطرد القوات المعادية. يمكنني أيضًا أن أهز قلب الخاطئ وذلك بسيف فمي، حيث أضرب الزنا والرذيلة، وإن بقى أي شر أزيله بحد السيف، أي بكلمات فمي فلا يبقى منهم شارد أو منفلت. آه! في اليوم الذي فيه يزول كل الأعداء (أي الخطايا) يتمجد الله كما في عيد، وأمام فشل أعدائنا نبتهج بفرح جليل. هذا على ما أظن ما قصده النبي عندما قال في مزموره: "باكرًا أبيد كل أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز 101: 8)، أي يقطع العدو الشيطان الذي يدفع البشرية لفعل الإثم. عندما نسمع "مدينة الله" نذكر نفس كل واحد منا بكوننا "حجارة حية" (1 بط 2: 5)، تبنى بفضائل من كل نوع... لعلك لا تثق بكلامي إذ أتحدث عن الحرب ضد الخطية، لكن ثق في القديس بولس القائل لنا: "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب 12: 4). فإذ يعرض لك الحرب ضد الخطية حتى الدم ألا تعني أن تقودها حتى النهاية. هذا ما يؤكده الكتاب الإلهي إذ قيل: قدسوا الحرب... "حارب حروب الرب" (1 صم 18: 17). ماذا يعني تقديس الحرب إلاَّ أن نقتل كل أعداء نفوسنا أي الشهوات القاتلة. "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض" (كو 3: 5)، أي لتنزع عنكم كل شهواتكم الشريرة![135]].
3. صلب ملك عاي...
"وأحرق يشوع عاي وجعلها تلاً أبديًا، خرابًا إلى هذا اليوم، وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء. وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته على الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم" [29].
يعلق العلامة أوريجانوس على هذا التصرف، هكذا: [لقد سبق فقلنا أن ملك عاي يمكن مقارنته بالشيطان، فكيف عُلق هذا الأخير على خشبة؟ إن صلب يسوع كان يحمل جانبين... فقد صُلب ابن الله في الجسد بطريقة منظورة، بينما صُلب الشيطان بطريقة غير منظورة، "إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا (كو 2: 14)... ويعلن الرسول: "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب" (كو 2: 14). إذن، يوجد معنيان لصليب الله، المعنى الأول يذكره بطرس الرسول: "فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً" (1 بط 2: 21)، والآخر أن الصليب يقدم كأس انتصار المسيح على الشيطان[136]].
إن كان السيد المسيح قد عُلق على خشبة الصليب ليعلن كمال محبة الله، "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16)، فإنه على الصليب قد سّمر السيد ديننا الأبدي وحطم قوة إبليس نازعًا إيانا من مملكته، فلم يعد له سلطان علينا (كو 2: 14-15). بالصليب قبلنا أن نُصلب مع ربنا يسوع فتُصلب فينا كل شهوة ردية وكل محبة زمنية باطلة، لذا يقول الرسول: "حاشا ليّ أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم ليّ وأنا للعالم" (غل 6: 14). كأن الصليب يحمل وجهين: وجه الحب الإلهي الذي قدمه الابن الوحيد بقبوله إياه بسرور من أجلنا طاعة لأبيه، مما دفعنا لقبول شركة الصليب معه كإعلان لحبنا له، والوجه الآخر هو تسمير إبليس وأعماله وظلمته وخداعاته فلا يكون لها سلطان علينا! بمعنى آخر عُلق السيد المسيح على الصليب جاذبًا إيانا بحبه، ومسمرًا عدونا الروحي! يقول القديس جيروم: [على الصليب خزى الشيطان وكل جيشه. بالتأكيد صُلب المسيح جسديًا، وإذ به يصلب الشيطان على الصليب[137]].
والعجيب أن تعليق ملك عاي على الصليب ارتبط بحرق عاي وجعلها تلاً أبديًا، وكأن صلب قوات الظلمة وسلبه مملكتها إنما يكون أيضًا بانفتاح نيران جهنم لإبليس وملائكته (مت 25: 41). ويعلق العلامة أوريجانوس على القول "أحرق يشوع عاي وجعلها تلاً أبديًا خرابًا إلى الأبد" [28]، قائلاً: [إن هذه العبارة تنطبق على المعنى الروحي أكثر من الحدث التاريخي، فإن الموضع الذي يشغله إبليس يصير خرابًا وتحرق مملكته، وذلك حين يملك الرب ويدين المسكونة، فلا يعود أحد يخطئ ولا يكون للخطية موضع، إذ يُقال للغالبين من الفريقين (اليهود والأمم): "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعّد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34)، ويقال للآخرين: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41).
ليت يشوعنا الحقيقي يدخل كغالب ومنتصر في قلبنا؛ إن وجد فيه موضعًا لإبليس أي (عاي الداخلية) يحرقها بنار روحه القدوس ويجعلها تلاً أبديًا وخرابًا لا تعرف بعد للخطية مكانًا؛ ويُصلب ملكها فلا يكون له فينا سلطان! ليرفعه يشوعنا على خشبة لنراها "شجرة معرفة الخير والشر" (تك 2: 9)، عليها يُعلق السيد المسيح الخير الأعظم واهبًا إيانا قوة حياة (2 كو 13: 4)، وعليها يعلق الشر ليُفنى ويموت عنا!
4. إقامة مذبح للرب...
إذ دخل يشوع أرض الموعد وتحققت له النصرة على أريحا كما على عاي، تمم ما أمر به موسى من إقامة مذبح من الحجارة: "وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب، قائلاً: "احفظوا جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم، فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتشيدها بالشيد وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس حين تعبر لكي تدخل الأرض التي يعطيك الرب إلهك أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً" (تث 27: 1-3). وقد حدد موضع إقامته وطريقة إقامته وغايته بكل دقة (تث 27: 4-8). ويلاحظ في إقامة هذا المذبح الأتي:
أولاً: لقد حدد الله مقدمًا موضع إقامته بـ "جبل عيبال"، وزمان إقامته: بعد عبور الأردن وقبل الانتهاء من الحروب والشعور بالراحة فيها (يش 11: 22).
جبل عيبال هو جبل السلامية حاليًا على الجانب الشمالي من نابلس، يعرف بارتفاعه (حوالي 3077 قدمًا فوق سطح البحر) سطحه صخري، لا ينبت الزيتون إلاَّ في أسفله. وهو موازي لجبل جرزيم، ليفصل بينهما مجرد وادي ضيق (تث 27: 12-13)، بالقرب من واحات مورا (تث 11: 30) وقرب شكيم (تل 12: 6، 35: 4)[138]. اختار الله هذا الجبل لكي يرتفع الشعب عليه بعد الاستيلاء على أريحا وعاي وقبل الدخول في بقية الحروب حتى ترتفع قلوبهم منذ بداية تمتعهم بمواعيد الله إلى فوق فلا ينشغلون بالأرض في ذاتها ولا بثمرها المادي من لبن وعسل، وإنما ينطلقون إلى الأعالي يطلبون السماويات مقدمين الشكر لله ويسألونه العون حتى يتممون جهادهم وينعمون بكمال الميراث. ليس لهم أن ينتظروا حتى تنتهي كل الحروب ويقيموا مذبح الرب في أورشليم، إنما يلزمهم من البداية أن ينعموا باللقاء مع الله خلال الذبيحة حتى يتمتعوا بكمال مواعيده.
إن مذبح الرب في أورشليم يُقام على يدي سليمان فيما بعد حين يتم الاستقرار تمامًا، وكأنه يمثل دخولنا السماء عينها لننعم بالوجود في حضرة الرب وجهًا لوجه خلال ذبيحته الأبدية، أما مذبح الرب في عيبال فيُشير إلى دخولنا إلى عربون السماء أثناء جهادنا على الأرض لننعم بالوجود الدائم في حضرة الرب خلال الإيمان لا العيان، خلال ذبيحته المقدسة!
ما أحوجنا في وسط جهادنا، بعد نصرتنا على أريحا وسقوطنا ثم قيامنا في عاي أن نرتفع على جبل عيبال لنقدم ذبيحة شكر لله، فننعم به هو شخصيًا بكونه غاية جهادنا وسرّ نصرتنا الروحية... بهذا يتحدد هدفنا وسط جهادنا الروحي فلا ننحرف حتى نكمل كل أيام غربتنا لننطلق إلى مذبح أورشليم العليا!
ثانيًا: يقام هذا المذبح من حجارة صحيحة "لم يرفع أحد عليها حديدًا" [30]. ما هي هذه الحجارة الصحيحة التي لم يرفع أحد عليها حديدًا، إلاَّ النفوس المؤمنة التي التفت بمسيحها فجعلها حجارة حيّة تتحد معًا خلاله "حجر الزاوية"؛ والتي صارت فيه صحيحة بعد أن حطمها عدو الخير؛ ولم يرفع أحد عليها حديدًا إذ صارت لعريسها رب المجد يسوع فلا يقدر العدو أن يقترب عليها بشره كما بحديد، بل هي محفوظة في يدي مخلصها (يو 10: 28) لا يمسها الشرير (1 يو 5: 18). هذه هي الحجارة التي تتحد معها كحجارة حيّة مقدسة فتظهر مذبحًا واحدًا للرب وهيكلاً مقدسًا له، يسكن بروحه فيه!
يتحدث العلامة أوريجانوس عن هذه الحجارة الحيّة، قائلاً: [إننا كلنا نحن الذي نؤمن بيسوع المسيح نُسمى "حجارة حيّة"، كقول الكتاب: "كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حيّة، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 5). فيما يخص الحجارة الأرضية نضع أكثر الحجارة صلابة ومتانة أولاً حتى يمكن أن يُوضع عليها البناء كله، أما الحجارة التي تليه فهي الأقل متانة، وهكذا يكون الترتيب حتى أننا نجد في النهاية الأكثر ضعفًا في القمة تقريبًا بالقرب من السقف. هذا أيضًا ما نفهمه من جهة الحجارة الحية التي لبنائنا الروحي. ما هي الحجارة الموضوعة على الأساس؟ إنها "الرسل والأنبياء" كقول بولس: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف 2: 20). فلكي تجاور هذه الحجارة القائمة على أساس يجب أن تعرف أن المسيح نفسه هو أساس الذي يقوم عليه البناء، الأمر الذي يؤكده بولس الرسول بقوله: "فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح" (1 كو 3: 11). طوبى للذين استطاعوا أن يقيموا بناءً مقدسًا نقيًا على بناء أكثر طهارة[139]].
يقول أيضًا: [لكن في هذا البناء، أي الكنيسة، يجب أن يوجد هيكل، فإنني أعتقد من كان منكم "حجارة حيّة" يقدر أن يكون هيكلاً، فيهتم بالصلاة، ويقدم تضرعاته ليلاً ونهارًا، ويذبح ذبيحة توسلاته؛ بهذا يبني الله هيكله[140]].
ويتحدث عن مفهوم الحجارة الصحيحة التي لم يرفع عليها أحد حديدًا، قائلاً: [ماذا تعني الحجارة الصحيحة في رأيك؟ إنها الضمير الذي يليق أن يكون في كل أحد صحيحًا، ليس فيه نجاسة أو دنس جسدي أو روحي، فيحسب من الذين لم يرفع أحد عليهم الحديد، أي الذين لم يتقبلوا "سهام الشرير الملتهبة"، بل أطفأوها وحدّدوها بترس الإيمان. هؤلاء الذين لم يقبلوا قط حديد الحرب ولا حديد القتال والمنازعات وإنما يعيشون في سلام وهدوء كما يليق باتضاع المسيح. هذه هي الحجارة الحية التي يبني بها المسيح مخلصنا هيكله، حجارة صحيحة لم يرفع عليها أحد حديد، بهذا يريد أن يُقدم محرقات للرب وذبيحة سلامة. وإنني أعتقد أن الحجارة الصحيحة التي بلا دنس يمكن أن يكونوا الرسل القديسين الذي يشكلون معًا وبأجمعهم هيكلاً واحدًا، خلال وحدة قلوبهم ونفوسهم. يقول الكتاب: "كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة" (أع 1: 14). كانوا يفتحون أفواههم قائلين: "أيها الرب العارف قلوب الجميع" (أع 1: 24). إنهم كانوا قادرين أن يصلوا معًا في كامل الاتفاق بصوت واحد وروح واحد، لذلك يمكن أن يبنوا هيكلاً واحدًا بكل سهولة، فيه يمكن أن يُقدم يسوع ذبيحة للآب! أما من جانبنا نحن فعلينا أن نسعى لكي يكون لنا القول الواحد، والنفس الواحدة والفكر الواحد (1 كو 1: 10)، "لا شيء بتحزب أو بعجب" (في 2: 3)[141]].
ليت يشوعنا الحقيقي يتقبل كل مؤمن منا كحجر حيّ ملتحم به، ومقدس فيه بروحه القدوس، فنُحسب حجارة صحيحة بلا عيب، نتحد بالحب معًا في انسجام وتكامل كمذبح واحد عليه تُقدم ذبيحته المقدسة موضع سرور أبيه!
ثالثًا: "وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى..." [22]؛ هكذا يلتحم المذبح بالشريعة؛ أو العبادة بالوصية. فلا قبول لحياتنا كذبيحة حب لله بالعبادة وحدها دون الطاعة للوصية الإلهية، ولا طاعة للوصية ما لم يعمل الله فينا خلال الذبيحة والعبادة. حياتنا مع الله وحدة واحدة، لا يمكن تقسيمها إلى حياة تعبدية وأخرى سلوكية، إنما هي حياة في المسيح يسوع الواحد، ونحن نعبد الله نقدم حياتنا السلوكية ذبيحة لله في المسيح يسوع الذبيح الفريد، وفي سلوكنا المسيحي نحن نمارس هذا السلوك لنقدمه ذبيحة لله في المسيح يسوع قائد نفوسنا.
إن كنا بيشوعنا الحقيقي نصير حجارة حيّة في مذبحه المقدس إنما لنحمل فينا ربنا يسوع المسيح الذبيح، وإن كان يشوعنا يكتب وصيته علينا إنما لكي نتقبل ربنا يسوع كلمة الله الحيّ في داخلنا. هو الذبيحة وهو الوصية، فينا يُعلن خلال ذبيحة صليبه، كما يُعلن خلال وصيته.
ما فعله يشوع من كتابة توراة موسى على حجارة المذبح إنما يُشير إلى سر الأفخارستيا الذي به تُقدم لنا الذبيحة المقدسة غير منفصلة عن كلمة الإنجيل والوصية. لهذا لا يُقام هذا السرّ بدون قداس الموعوظين حيث نتقبل فيه الكلمة المكتوبة والمعلنة خلال الكتاب المقدس[142]].
5. الاهتمام بالشريعة...
إذ بنى يشوع مذبحًا للرب في جبل عيبال، وكتب نسخة توراة موسى أمام بني إسرائيل، يقول الوحي: "وجميع إسرائيل وشيوخهم والعرفاء وقضاتهم وقفوا جانب التابوت من هنا ومن هناك مقابل الكهنة اللاويين حملي تابوت عهد الرب، الغريب كما الوطني، نصفهم إلى جهة جبل جرزيم ونصفهم إلى جهة جبل عيبال كما أمر موسى عبد الرب أولاً لبركة شعب إسرائيل، وبعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب كل ما كُتب في سفر التوراة" [33-34].
هكذا يُقام احتفال مهيب حيث يقف ستة أسباط على جبل عيبال، هم رأويين وجاد وأشير وزبولون ودان ونفتالي؛ وستة أسباط على جبل جرزيم، يتبادلون القراءة، حيث يقرأ فريق جبل جرزيم البركة والفريق الآخر اللعنة؛ الفريق الأول يعلن بركة الرب لطائعي الوصية والفريق الآخر يعلن اللعنة على مقترفي الجرائم والآثام والحائدين على وصايا الرب.
لقد سبق فتحدثنا عن جبل عباريم، أما بالنسبة لجبل جرزيم فهو صخري منحدر، يكون الحد الجنوبي للوادي الذي تقع فيه نابلس أو شكيم. ارتفاعه حوالي 2849 قدمًا فوق سطح البحر المتوسط و700 قدمًا فوق المدينة، يبعد حوالي 40 ميلاً شمال أورشليم. يقول يوسيفوس[143] إنه في عهد الإسكندر الأكبر بنى سنبلط هيكلاً في جبل جرزيم مقابل هيكل أورشليم، ذلك لأن الكهنة اليهود قد هددوا زوج ابنته منسي أخا يدوع رئيس الكهنة ألا يقبلوه في الهيكل ما لم يُطلق ابنة سنبلط، فأقام له هذا الهيكل حتى لا يطلقها. ويعتبر هذا الهيكل هو أصل الهيكل السامري الذي أشارت إليه السامرية في حديثها مع السيد المسيح (يو 4: 20-21). وكانت بئر يعقوب في سفح الجبل والذي يُسمى الآن بجبل الطور[144].
حقًا لقد تسلم موسى الشريعة على لوحين حجريين، أما الآن فيكتب يشوع الشريعة على حجارة المذبح، لماذا؟ يقول العلامة أوريجانوس: [إن أردت أن ترى كيف صارت الشريعة الأولى بلا فائدة فكتب يشوع الشريعة الثانية اسمع ما يقول الإنجيل: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء... وأما أنا فأقول لكم" (مت 5: 33)... هذه هي التوراة التي كتبها يشوع على حجارة حيّة وصحيحة، فتظهرون "أنكم رسالة المسيح مخدومة منا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية" (2 كو 3: 3)[145]]. هكذا بعد أن تسلم موسى الشريعة في لوحين منفصلين عن المذبح جاء يشوع ممثلاً ليسوع ربنا ليكتب الشريعة على الحجارة الصحيحة الحيّة، أي في قلوبنا الداخلية، المذبح الخفي لله، إذ يكمل العلامة أوريجانوس تعليقه على هذا الأمر قائلاً: [حتى الآن يكتب يشوع التوراة، بواسطة كلامنا، في قلوب الذي يتقبلون الكلمة بإيمان صحيح وبكل روحهم، وبأذن صحيحة وقلب صحيح وفكر غير رديء، فيرون بالإيمان ويسمعون ويتمسكون بما تقوله لهم حيث يجب أن تكتب التوراة على "حجارة صحيحة"[146]].
بعد كتابة الشريعة على الحجارة الحية أُقيم المحفل المهيب انطلقت فئة على جبل جرزيم، جبل البركة، والأخرى على جبل عيبال، جبل اللعنة التي تهدد الخطاة. ويلاحظ أن الأسباط الأكثر شرفًا ونبلاً ارتفعت إلى جبل جرزيم لتنطق بالبركة التي تحل على المؤمنين السالكين في طاعة للشريعة، أما الأسباط الأخرى الأقل نبلاً فارتفعت على جبل عيبال تردد اللعنة التي تحلّ بالأشرار العصاة. ويرى العلامة أوريجانوس أن هذا المحفل إنما يُشير إلى وجود فئتين من المؤمنين، إحداهما أكثر غيرة من الأخرى، وأكثر مبادرة نحو المخلص: [الفئة الأولى ملتهبة بالشوق نحو المواعيد السماوية، تُظهر حماسًا ونشاطًا عظيمًا حتى لا يفلت منها التطويب الأبدي، ترغب ليس فقط أن تستحوذ على البركة ويكون لها "شركة ميراث القديسين" (كو 1: 12) وإنما أن تكون دائمًا في الحضرة الإلهية، مع الرب على الدوام. أما الفئة الثانية فتبحث أيضًا عن الخلاص لكن بحب أقل التهابًا من الفئة السابقة، مكتفية ألا تذهب إلى النار الأبدية وألا تطرح "في الظلمة الخارجية" (مت 8: 12)... الذين يتقدمون إلى جبل جرزيم مختارون للبركة، وهم يتقدمون ليس خوفًا من العقاب إنما شوقًا للبركة ولتنفيذ الوصايا. أما الآخرون الذين يتقدمون إلى جبل عيبال والذين يطلق عليهم لفظ "اللعنة" فهم يمثلون المتقدمين خشية العقاب وخوفًا من العذابات، فيتممون ما هو مكتوب في الناموس ويبلغون إلى المخلص خلال هذا المنهج. الرب وحده هو الذي يعرف من كان بيننا يصنع الخير لأجل ذاته، والذين على العكس يبحثون عنه خوفًا من جهنم[147]].
يؤكد الوحي الإلهي أن يشوع بن نون هذا هو الذي قرأ سفر التوراة، أو ناموس موسى قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم [34-35]، وهنا يلاحظ الآتي:
أولاً: قام يشوع بنفسه بقراءة توراة موسى، وكأنه يمثل يشوعنا الحقيقي، ربنا يسوع الذي قام ليملك فينا بعد موت الحرف الموسوي ليقرأ لنا الناموس الموسوي، لكن ليس خلال البرقع، ولا خلال الرموز والظلال، إنما يدخل بنا إلى أسراره الخفية بفكر روحي فائق. يقول العلامة أوريجانوس: [لقد قرأ يشوع الناموس عندما أظهر سرّ الناموس. فإننا نحن أعضاء الكنيسة الجامعة لا نحتقر ناموس موسى بل نقبله بشرط أن يقوم يسوع بقراءته، فإننا لا نفهمه كما ينبغي ما لم يقرأه المسيح فندركه أحكامه ونظرته. نعم ألم يستلم بولس طريقة تفكير يسوع عندما قال: "نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" وأيضًا - تلميذا عمواس- "قالا بعضهما لبعض: ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يُكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب" (لو 24: 32)، إذ كان المسيح قد "ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو 24: 27)[148]].
ثانيًا: يتحدث ربنا يسوع إلى "جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم" [35]. ماذا يقصد بهذه الفئات؟
أ. يتحدث عن الرجال الإسرائيليين بكونهم "جماعة إسرائيل"، وكما سبق أن تحدثنا في سفر العدد أن كل عضو في الكنيسة أو "جماعة إسرائيل الجديد" سواء كان رجلاً أو امرأة، شيخًا أو طفلاً، شبًا أو فتى... يلزم أن يلتزم بالرجولة الروحية أو النضوج لا يعرف تدليل النساء ولا عجز الأطفال، لذا جاءت الوصية الرسولية لكل الأعضاء "كونوا رجالاً". ولهذا جاء إحصاء الشعب قديمًا يحوي الرجال دون النساء والأطفال (عد 1: 2-3).
ب. إن كان يشوع يتحدث إلى جماعة إسرائيل كرجال ناضجين يتقبلون الوصية الإلهية، هؤلاء الذين ينعمون بالطعام القوي بسبب التمرن إذ صارت لهم الحواس المدربة على التمييز بين الخير والشر (عب 5: 14) لكنه أيضًا يُقدم الطعام اللائق بالنساء واللبن الخاص بالأطفال. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن فئة النساء والأطفال والغرباء تمثل النفوس الضعيفة التي لا تزال تحتاج إلى اللبن[149]]. إن كان الرجال يمثلون النفوس القوية ذات الحواس المدربة، فإن النساء يمثلن النفوسة الضعيفة والمحتاجة إلى من يسندها فتمتثل بالنفوس القوية. يسوعنا الحق لا يرفض حتى هذه النفوس بل يقوم بنفسه بالحديث معها حتى يرتفع بها من حالة التدليل والترف إلى المثابرة والنضوج. أما الأطفال روحيًا فلا يحتقرهم ربنا يسوع بل يحتضنهم ويعولهم باللبن حتى ينضجوا ويصيروا قادرين على التمتع بالطعام القوي. ولا يتخلى السيد حتى عن الغرباء، أي الموعوظين الذين يرغبون في الدخول إلى الجماعة المقدسة، فإنه يتحدث معهم حتى يسرع بهم إلى العضوية في جسده المقدس ويحسبون أبناء الله الحقيقيين.
إذ خشى العلامة أوريجانوس أن يُفهم النص الذي بين أيدينا على أساس وجود تفرقة بين الجنسين: الذكور والإناث، قال: [الكتاب المقدس في الواقع لا يُقيم تفرقة بين الرجال والنساء حسب الجنس، وإنما أمام المسيح لا يوجد فرق بين الجنسين، بل يتحقق الاختلاف في القلب الذي يقسم (المؤمنين) إلى رجال ونساء. فكم من نساء يمتثلن أمام الله كرجال أقوياء، وكم من رجال يحسبون كنساء متكاسلات؟! ألا تعتقد معي أنه يجب أن يُحصى بين النساء والرجال القائلين: "لا أستطيع أن أبيع كل ما ليّ وأعطيه للفقراء، ولا أقدر أن أقدم خديّ للضارب، ولا أن أبارك من يلعنني أو أُصلي من أجل المُسيئين إليَّ، أو أحتمل من يضطهدني؟![150]].
على أي الأحوال أيًا كان حال نفوسنا يلزمنا أن نسمع ليشوع الحقيقي وهو يتحدث معنا، فإن كان رجالاً نسمع لنثبت فيه وننمو إلى قياس ملء قامته، وإن كنا نساءً ننصت لكي ينزع تراخينا ويدخل بنا إلى النضوج الروحي، وإن كنا أطفالاً فلنجري إليه حتى يرفعنا إلى الرجولة الروحية، وإن كنا لا نزال غرباء لنقبل إليه حتى يُقربنا إليه ويحملنا فيه إلى أبيه السماوي.
الأصحاح التاسع
حيلة بني جبعون
إذ ملك القسم الأوسط (أريحا وعاي) بدأ الزحف تجاه الجنوب (ص 9، 10)، لكن أهل جبعون إذ يقطنون جنوب غرب أريحا اسرعوا بتدبير حيلة لإقامة عهد مع يشوع ورجاله حتى لا يهلكوا، فسقط يشوع ورجاله معه فى شباك الحيله:
1. هياج الأمم عليهم [1-2].
2. حيلة بني جبعون [3-13].
3. انخداع يشوع ورجاله [14-20].
4. إذلال بني جبعون [21-27].
1. هياج الأمم عليهم...
"ولما سمع جميع الملوك الذين فى عبر الأردن فى الجبل وفى السهل وفى كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون اليبوسيون، إجتمعوا معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد" [1-2].
عبور نهر الأردن لم يكون خاتمة الجهاد بل بدايته، فإذ سمع الأمم الساكنون بكنعان هاجوا معًا وإجتمعوا لمحاربه يشوع وإسرائيل بصوت واحد، وكان هذا الهياج يزداد كلما دخل يشوع والشعب فى نصرة جديدة. هكذا أيها الحبيب دخولنا المعمودية إنما هو تمتع بامكانيات الله التى صارت لنا لا لنفخر بها ونتباحث فيها وإنما لنستخدمها فى جهادنا الروحى، ومع كل نصرة روحيه نتوقع حربًا أشد وضيقات أكثر. حينما وجد يسوع رب المجد ليملك خلال أعضاء جسده يهيج عدو الخير وكل ملائكته الأشرار!
لقد سمع الملوك بعبورهم الأردن وإستيلائهم على أريحا وعاى فاجتمع الكل معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل... أى يسوع ومملكته. وقد حدد الوحى مواضع الملوك أنهم فى الجبل وفى السهل وفى كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان. هذه كلها تكشف عن مقدار هياج الشياطين كملوك وقوات ظلمة ضد رب المجد يسوع ومؤمنيه، بعضها يقطن فى الجبال العاليه والمتشامخة حيث تبث روح العظمه الباطلة والكبرياء الفارغ فى الانسان، والأخرى تقطن فى السهول حيث النفوس التى إنحلت باليأس وتحطمت بصغر النفس، وجماعه ثالثه تقطن عند ساحل البحر الكبير حيث تدفع النفوس إلى بحر هذا العالم لكى تربكه بأمواجه وقلاقله، أما القلطنه فى لبنان فتُشير إلى روح الترف والتدليل حيث تفقد النفس جديتها فى الخلاص. على أى الأحوال تجتمع هذه جميعها معًا ضد النفس المجاهدة، لكى تتقدم بالحرب حسب ظروف كل إنسان وإمكانياته، فقد تبدأ الحرب بالكبرياء إن كان الإنسان متدينًا وله تاريخ طويل فى عبادته أو خدمته، وقد تبدأ باليأس إن رأته فى رعب من الخطية إلخ... الكل ليحارب يشوعنا الداخلى ويحطم كل مواهبنا وقدراتنا بالفساد.
لكن ما يجب علينا ملاحظته في سفر يشوع هو أنه ليس فقط تشتد الهجمات بعد عبور المعمودية ونوال نصرات متوالية، إنما كان يشوع ورجاله هم المتحفزين ضد الشر والمقاومين له. فالمسيحي إذ يدرك أن قلبه أرض الموعد الذي يجب أن يملك يشوع الحقيقي عليه لذا لا يكف عن مقاومة كل شر حتى لا يكون له موضع فيه. في هذا يقول الأسقف قيصريوس: [قبل أن يخطئ أدم كان جسدنا ونفسنا كلاهما أرض الموعد، لكن بعد الخطية صارت أرض الكنعانيين. ما كان مسكنًا للفضائل صار مغارة للصوص فإذ طُردت الفضائل إلى الخارج ملكت الرذائل فينا. على أي الأحوال، بمجيء ربنا يسوع المسيح يلزمنا أن نسرع ونستعين به لطرد الأمم المقاومة. فإن لم ينزع الغضب لا نعطي مكانًا للصبر، وبالمثل ما لم نستبعد الكبرياء والطمع والحسد والخلاعة عنا، أي عن أرض الموعد، لا نقدر أن نعد مكانًا فينا للفضائل المقدسة.
أن لم تنزع بمعونة الله الرذائل من داخلك، أى من أرضك التى تقدست بنعمة المعمودية لا يمكنك قبول كمال الميراث الموعود به. حقًا توجد فى داخلنا عروش الرذائل تهاجم النفس على الدوام بلا توقف، الكنعانيون الروحيون فى داخلنا يشنون حربًا يومية ضدنا. وإذ يعرف الرسول هذا يقول: "الجسد يشتهى ضد الروح، والروح ضد الجسد" (غلا 5: 17). لهذا يلزمنا أيها الأحباء أن نتأمل كيف نعمل ونسهر ونثابر فى الأعمال الصالحة حتى نقتلع كل الأمم الرذ يلة عنا، من ارضنا، فنتحرر من الحرب[151]].
2. حيلة بني جبعون...
شعر بنو جبعون بالخطر يحدق بهم فقد اقترب يشوع وشعب الله إليهم، وسمعوا بكل ما فعله الله معهم لذلك دبروا حيلة إذ "عملوا بغدر ومضوا وداروا وأخذوا جوالق بالية لحميرهم وزقاق خمر بالية مشققة ومربوطة ونعالاً بالية ومرقعة في أرجلهم وثيابًا رثة عليهم وكل خبز زادهم يابس قد صار فتاتًا، وساروا إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال وقالوا له ولرجال إسرائيل: من أرض بعيدة جئنا، والآن اقطعوا لنا عهدًا... هوذا خبزنا سخنًا تزودناه من بيوتنا يوم خروجنا لكي نسير إليكم وها هو الآن يابس قد صار فتاتًا، وهذه زقاق الخمر التي ملأناها جديدة هوذا قد تشققت، وهذه ثيابنا ونعالنا قد بليت من طول الطريق جدًا" [4-13].
لقد أدركوا بنو جبعون ما أدركته راحاب الزانية، وأراد الكل الخلاص إذ رأوا يدّ الله القوية تعمل لحساب شعبه، أما بنو جبعون لم يبلغوا لما بلغته راحاب، وإن كانوا قد إرتفعوا عن بقية الأمم المحيطة بهم. لقد إستطاعت راحاب بالإيمان ليس فقط أن تخلص هي وأهل بيتها من الموت وإنما أن تدخل إلى العضوية الكنسية، لتمثل كنيسة العهد الجديد القادمة من الأمم كعروس مقدسة وبتول للرب. لقد صار لها الشرف العظيم أن يُسجل إسمها في سلسلة نسب السيد الأمر الذي لم ينعم به كثير من المؤمنات العظيمات، وحسبها الرسول بين رجال ونساء الإيمان (عب 11: 31). أما بنو جبعون فبالخوف مع المكر خلصوا من الموت، لكنهم دخلوا وسط الشعب كعبيد يحتطبون حطبًا ويسقون ماءً لكل الجماعة ولبيت الله (يش 9: 21، 23). حقًا إنهم لم يبادوا كبقية الأمم لكنهم لم يقدروا أن يرتفعوا إلى مجد راحاب. هم سلكوا بروح الخوف والمكر، أما هي فبروح الإيمان والحب. هم التصقوا بكل ما هو قديم وبالٍ من خبز يابس ونقاق خمر بالية مشققة ومربوطة ونعال بالية ومرقعة وثياب رثة، أما هي فالتصقت بالجاسوسين وإرتفع قلبها معهما إلى فوق السطح بين عيدان الكتان (النقاوة) وأوصتهما أن يسيرا على الجبال وليس في الوديان المنحطة. وكأن بني جبعون حتى في التصاقهم بشعب الله كانوا مرتبطين بأمور العالم البالية، أما راحاب فارتفع قلبها إلى السماويات إلى الحياة العلوية النقية. بمعنى آخر صار بنو جبعون مثالاً للإنسان الذي يعبد الله خوفًا لئلا يفقد البركات الزمنية ويعيش في ضياع أما راحاب فتمثل الإنسان الذي يلقي شهوات جسده القديمة تحت قدميه، خالعًا إنسانه القديم بكل أعماله طلبًا للمجد الأبدي، وإشتياقًا للتشبه بالله نفسه، لقد استخدم بنو جبعون المكر على أولاد الله لينعموا بالحياة الزمنية الأمر الذي افقدهم الكثير من البركات، أما راحاب فإنها وإن كانت قد سلكت بالكذب مع رسل ملك أريحا وبمكر. الأمر الغير مستحب لكنها كانت صريحة وواضحة في تعاملها مع أولاد الله.
يرى العلامة أوريجانوس أن بني جبعون يمثلون أدنى درجات الإيمان وأقل المتمتعين بالمجد، إذ يعلق على هذا الأصحاح هكذا: ["في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). ففي قيامة الأموات تكون الأجساد الممجدة مختلفة فيما بينها، فإنه "ليس كل جسد جسدًا واحدًا، بل للناس جسد واحد، وللبهائم جسد آخر، وللسمك آخر، وللطير آخر وأجسام سموية وأجسام أرضية، لكن مجد السمويات شيء ومجد الأرضيات آخر. مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر" (1 كو 15: 39-41). كم من تشبيهات أخرى مختلفة قدمت لأظهار وجود إختلاف فيما بين الذين يحصلون على الخلاص! ففي اعتقادي أن هؤلاء الجبعونيين يمثلون الذين ينالون القليل من مجد الخلاص، الأمر الذي لا ينزع اللوم والمذمة عنهم. أنظر كيف حُكم عليهم أن يصيروا محتطبي حطبًا ومستقي ماء للجماعة ولبيت الرب، لأنهم صنعوا خدعة، جاءوا بنعال بالية ومرقعة في أرجلهم وثياب رثة وكان خبز زادهم يابسًا قد صار فتاتًا، جاءوا ليروا يشوع... ولم يطلبوا منهم سوى الخلاص الجسدي[152]]. ويكمل العلامة أوريجانوس تعليقه موضحًا أن بني جبعون يشيرون إلى المؤمنين بالله وأعماله الخلاصية لكنهم لا يترجمون هذا الإيمان إلى حياة عملية يعيشونها إذ يقول: [يوجد في الكنيسة مسيحيون مؤمنون حقيقيون، يؤمنون بالله ولا يناقشون وصاياه ويتممون واجباتهم الدينية ويشتهون الخدمة، لكنهم في سلوكهم وحياتهم الخاصة ليسوا أنقياء بل دنسين؛ لم يخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله (كو 3: 9). إنهم كالجبعونيين الذي يرتدون ثيابهم القديمة ونعالهم البالية. إنهم يؤمنون بالله ويظهرون احترامًا نحو خدام الرب والكنيسة، لكنه لا توجد فيهم أي علامة للإصلاح أو التجديد الداخلي في سلوكهم. هؤلاء يريدون من الرب يسوع أن يهبهم الخلاص، لكن هذ الخلاص لا يجنبهم علامات العار الذي يقع عليهم. في الكتاب المسمى بالراعي[153] نجد صورة مشابهة لهذه الفئة من الشعب، فهو يتحدث عن الشجرة التي لا تنتج ثمارًا لكنها تحمل الكرمة التي تأتي بعنب كثير. فالشجرة مجدية، لكن يبدوا أن دورها هام ونافع إذ تخدم الكرمة! هكذا في قصة الجبعونيين، نجدهم لا يخلعون الإنسان العتيق بكل أعماله ومع هذا فهم يقومون بخدمة القديسين (احتطاب الحطب واستقائهم ماءً)، مما يجعل لهم أهمية. بهذا يتقبلون الخلاص من يشوع حسب العهد الذي قطعه معهم. أما نحن فلا نريد أن نتقبل الخلاص هكذا على مثال الحبعونيين. ولا نريد أن نكون من محتطبي الحطب أو مستقي الماء، بل نكون إسرائليين بحق. ننعم بالميراث، ويكون لنا نصيبًا في أرض الموعد[154]].
3. انخداع رجال يشوع...
"فأخذ الرجال من زادهم، ومن فم الرب لم يسألوا. فعمل يشوع لهم صُلحًا، وقطع لهم عهدًا لإستحيائهم، وحلف لهم رؤساء الجماعة. وفي نهاية ثلاثة أيام... سمعوا أنهم قريبون إليهم وأنهم ساكنون في وسطهم" [14-16].
للمرة الثانية يسقط يشوع ورجاله في ذات الخطأ وهو التصرف دون طلب مشورة الله. حقًا لقد شك الإسرائيليون في أمر بني جبعون، وكان يمكنهم أن يستشيروا الله، لكنهم اكتفوا باستخدام الحكمة البشرية، إذ دخلوا معهم في حوار، قائلين لهم: لعلك ساكن في وسطي وكيف أقطع لك عهدًا؟!" [7]... وجاءتهم الإجابة من أفواه البشر، لكنهم "من فم الرب لم يسألوا" [14]. اعتمدوا على الفكر البشري دون الالتجاء الله فانخدعوا!
في الموقعة الأولى، إذ دخلوا في لقاء مع أريحا إِستطاعوا بالإيمان والطاعة لله أن يحطموا حصونها الضخمة، وفي الموقعة الثانية إذ إِلتقوا بعاي أستهانوا بها كقرية صغيرة غير محصنة وقليلة العدد، وباتكالهم على ذراعهم البشري سقطوا وإِنهاروا حتى تقدسوا وأطاعوا الله فغلبوها. أما هنا ففي "موقعة الخداع" حيث يتظاهر العدو كصديق يطلب الدخول في عهد، أمام هذه الحيلة سقط الجبابرة غالبوا أريحا وعاي. لهذا يقول الرسول بولس: "ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3). ويقول القديس يوحنا: "لا تصدقوا كل روح، بل إِمتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرون قد خرحوا إلى هذا العالم" (1 يو 4: 1).
كثيرًا ما تحدث آباء الكنيسة عن خداعات العدو ومكره حتى نحذره؛ تارة يظهر عنيفًا وقويًا وصاحب سلطان ومحاط بأسوار ضخمة كأريحا حتى يرهبنا فنيأس، وتارة يتصاغر جدًا في أعيننا لكي نستهين به كعاي ولا نستعد روحيًا لملاقاته، وثالثة يبدو كصديق أو حتى كملاك نور لكي يخدعنا وندخل معه في عهود كما فعل بني جبعون. يقول القديس أُغسطينوس: [لا تظن الشطان قد فقد شراسته، ولهذا فحين يُمالقك يجب أن تزيد خشيتك منه[155]]. كما يقول: [هوذا المجرب يأتيني في شكل ملاك نور، لكنه باطلاً يحاول أن يخدعني لأنك أنت توبخه، إذ تهبني قدرة على ادراك ضياء نور إلهي[156]]. وأيضًا يقول: [أنه عدو ماكر ومخادع، بدون نورك لا يمكننا ادراك طرقه الملتوية، ولا معرفة أشكال وجهه المتعدده، تارة نراه هنا وتارة هناك تارة يظهر كحمل وأخرى كذئب، تارة يظهر كنور وأخرى كظلام، يعرف كيف يتغير ويغير خططه مع تغير ظروف الإنسان وأوقاته وأماكنه. فلكي يخدع المتعبين يحزن معهم، ولكي يجتذب القلوب يلوث أجواء فرحهم، ولكي يقتل الحارين في الروح يظهر لهم في شكل حمل، ولكي يفترس ذوي الحياء يتحول إلى ذئب... من يقدر أن يميز طرق مكره المختلفة؟! من يقدر أن يكتشف دائمًا ذاك المتنكر خفية؟! من ذا الذي أحصى عدد أنيابه المرعبة؟! سهامه يخفيها في جبعته، وحيله يخبئها إلى اللحظة المناسبة للسقوط. إلهي، يا من أنت هو رجائي، بدون نورك الذي نعاين به كل شيء علينا اكتشاف مناورات الشيطان وحيله! [157]].
لقد أخطأ يشوع أذ صدقهم وحلف لهم، لهذا يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم من إستخدام القسم، قائلاً: [حقًا كان هذا القسم فخًا من الشيطان!... ليتنا نفلت من كل شرك ومن كل فخ شيطاني[158]].
ومع أن القديس أمبروسيوس انتقد يشوع لتصديقه الرجال بسرعة دون استشارة الله، لكنه رأى في تصرفه علامة طيبة قلبه، إذ حكم عليه حسب قلبه البسيط. إنه يقول: [من يقدر أن يجد خطأ في القديسين في هذا الأمر؟ إنهم يظنون أن الآخرين يحملون ذات المشاعر التي لهم، ويفترضون أن ليس فيهم من يكذب، ذلك لأن الصديق هو في صحبتهم على الدوام. لا يعرفون ما هو الخداع، وبفرح يصدقون الغير، لأنهم هم أنفسهم صادقون. لا يتسرب الشك إليهم في الآخرين فيما هم ليسوا عليه... ليتنا لا نلوم فيه سرعة تصديقه بل بالحري نمدح صلاحه[159]].
إِكتشف يشوع ورجاله حيلة بني جبعون بعد ثلاثة أيام، وأدركوا أنهم قريبون منم جدًا وأنه ساكنون في وسطهم. نعود إلى سرّ الأيام الثلاثة التي كثيرًا ما تحدثنا عنه في هذا السفر كما في الأسفار السابقة، فخلال إيماننا بالثالوث القدوس تنفضح حيل إبليس وخداعاته. عندما نقبل الله كأب لنا ندخل إلى أحضانه الأبوية بثبوتنا في إبنه الوحيد كأعضاء جسده المقدس، خلال عمل روحه القدوس فينا بالمعمودية كما في التوبة إلخ... لا يقدر العدو أن يخدعنا ولا أن يحسب قلبنا من أبينا السماوي. إيماننا العملي الحّي، وتمتعنا بسرّ الثالوث لا كفكر فلسفي أو عقيدة ذهنية وإنما كسرّ شركتنا معه يحمينا من كل هجمات شيطانية. والأيام الثلاثة أيضًا تُشير إلى سرّ قيامتنا مع المسيح حيث نُدفن معه أيضًا ثلاثة أيام لنقوم معه. فالإنسان الذي له الحياة المقامة في الرب وينعم ببهجتها يحيا دومًا فوق كل حيل العدو وخداعاته!
إذن لنهرب من خداعات بني جبعون بقبولنا الثالوث القدوس كسرّ حياة لنا، وتمتعنا بالحياة المقامة في المسيح يسوع ربنا القائم من الأموات.
4. إذلال بني جبعون...
إذ قطع إسرائيل عهدًا مع بني جبعون، قال الرؤساء لكل الجماعة: "إننا قد حلفنا لهم بالرب إله إسرائيل، والآن لن نتمكن من مسهم...، يحيون ويكونون محتطبي حطبًا ومستقي ماء لكل الجماعة" لقد استدعى يشوع رجال بني جبعون، وقال: "لماذا خدعتمونا...؟! فالآن ملعونون أنتم، فلا ينقطع منكم العبيد ومحتطبوا الحطب ومستقوا الماء لبيت إلهي" [19-23].
لقد اضطر يشوع أن يستحييهم كما سبق فإستحيا راحاب وأهل بيتها، لكن كلّ أخذ قدر إيمانه، هؤلاء بقوا كعبيد: "ملعونو أنتم فلا ينقطع منكم العبيد" لأنهم جاءوا إليهم عن خوف، أما هي فبقت كعضوة من إسرائيل الجديد إذ قبلت رسالته بالحب، حقًا لقد صار من جبعون من يستقون الماء لبيت الله، فنالوا كرامة عوض الموت، وإنطبق عليهم القول: "عوضًا من الشوك ينبت سروٌ، عوضًا عن القريِس يطلع آسُ، ويكون للرب إسمًا علامة أبدية لا تنقطع" (إش 55: 13).
أخيرًا يحذرنا العلامة أوريجانوس من الدخول إلى الإيمان على مستوى بني جبعون فنحيا كعبيد نحتطب حطبًا ونستقي الماء عوض أن نكون على مستوى الأبناء لله، العاملين إرادته، والسالكين بروحه متشبهين به. يقول: [لو كان إيمان واحد من الشعب محدودًا بحضوره الكنيسة والإنحناء أمام الكاهن وتكريم خدّام الرب والاشتراك في تجميل الهيكل والكنيسة دون أن يصنع شيئًا لاصلاح سلوكه، وتصحيح عاداته، فيدفن الشر، ويمارس الحياة الطاهرة، ويضبط غضبه وطمعه واشتهاء ما لغيره ويبتعد عن النميمة والسب والإدانة الهدامة، فإن مثل هذا ينسبه الرب إلى بني جبعون... إنني أتوسل إليكم كسفراء عن المسيح (2 كو 5: 20) أنه مادام يوجد وقت وإمكانية للتصحيح فلتجاهدوا ولتسرعوا بإلقاء الثياب البالية والنجاسات التي لا تليق بحرية الإسرائيليين (الجدد). أتريد أن تعرف عظمة هذه الحرية؟ حسب الشريعة لا يمكن لخادم عبراني أصبح عبدًا أن يبقى هكذا في العبودية أكثر من ست سنوات، ففي السنة السابعة تأمر الشريعة برده إلى الحرية (خر 21: 2)، إذ تهتم الشريعة بالحرية. فلو أخذنا هذا النص بمعناه الروحي نجد أن الخادم العبراني إنما هو أنت، إذ سقطت في العبودية التي قال عنها الكتاب: "من يفعل الخطية فهو عبد للخطية" (يو 8: 34) هذه العبودية لا تسقط تحتها النفس العذراء الكاملة، إنما يسقط فيها النفس المتراخية الطفلة، فإن كنت أنت هو الخادم العبراني الذي نلت المعمودية في الكنيسة ثم عدت فسقطت كعبد للخطية فإن رقم 7 يشير إلى الوصايا (الإنجيلية)، فيليق بك أن تسترد الحرية سريعًا في سبع سنوات، أي خلال الوصايا، ولا تكن بعد عبدًا. إن كان رقم 7 يشير إلى الوصايا فإن رقم 6 يشير إلى تكوين العالم (تك 1: 31)، فمادمت تشتهي ما على الأرض (كو 3: 2)، وتهتم بما للجسد "العالم" (رو 8: 5)، فإنك حتمًا تعيش عبدًا للخطية. أما إذ بلغت رقم 7، فإنك تطلب حريتك وترجع إلى شرف أبيك... إني أسألك: إن كنت ابنًا لعائلة من طبقة عالية فهل تريد أن تكون عبدًا لهذا العالم؟ بلا شك تقول: لا... فإن كان لا يوجد في هذه الحياة من يريد أن يبقى عبدًا بل الكل يشتهي الحرية والغنى والشرف، ليس فقط لنفسه بل للآخرين... لذلك يجب علينا كما قال القديس يوحنا أن نعمل أعمال أبينا الذي أرسلنا مادام نهار (يو 9: 4)، حتى نكون أهلاً لروح التبني (رو 8: 15)، ويكون لنا موضعًا مع أولاد الله، لكي يتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد آمين (1 بط 4: 11)[160]].
الأصحاح العاشر
ضرب الخمس مُلوك
إذ سمع أدوني صادق ملك أورشليم أن يشوع قد إستولى على أريحا وعاي، وعقد بنو جبعون أصحاب المدينة العظمة صلحًا معه أرسل إلى الملوك المحيطين به وأتفق الخمس ملوك الأموريين الذي في أورشليم وجبرون ويرموت ولخيش وعجلون على ضرب جبعون، فاستغاث أهل جبعون بيشوع الذي خلصهم من هؤلاء الملوك واستولى على مدنهم وكل منطقة الجنوب.
1. جبعون والملوك الخمس [1-6].
2. الاستغاثة بيشوع [7-10].
3. سقوط حجارة برد [11].
4. إطالة النهار [12-14].
5. الملوك في مغارة [15-23].
6. الفتك بالملوك [24-27].
7. الإستيلاء على مدن الجنوب [28-43].
1. جبعون والملوك الخمس...
إن كان بنو جبعون يمثلون صغار النفوس من المؤمنين، الذين يشتركون في العبادة المسيحية لكنهم لم يخلعوا بعد أعمال الإنسان العتيق، فأن هؤلاء يتعرضون لنوع معين من الحرب الروحية ألا وهي حرب الحواس الخمسة وهياجها ضدهم. وكأن الملوك الخمسة الذين ثاروا ضد جبعون يشيرون إلى هذه الحرب التي يتعرض لها الضعفاء، هؤلاء الذين كانوا أصدقاء لجبعون وصاروا أعداء لها مجرد عقد معاهدة صلح مع يشوع. يقول العلامة أوريجانوس: [عندما تدخل نفس بشرية في عهد مع كلمة الله (يشوع) يجب ألا تشك في قيام أعداء ضدها للحال، بل وينقلب أصداقاء الماضي إلى أعداء لها. لا تتوقع هذا من ناحية الناس فحسب بل وبكل تأكيد يحدث من جهة قوى الشر والأرواح الشريرة التي تنزل إليها لمحاربتها. هكذا عندما يبحث الإنسان عن الصداقة مع يسوع، فليعلم أنه يجب أن يحتمل جفاء الكثيرين, يؤيد الرسول بولس ذلك بقوله: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون" (2 تي 3: 13). وأيضًا يقول الحكيم: "يا بُني إن تقدمت لخدمة الرب فأعدد نفسك للتجربة" (إبن سيراخ 2: 1). إذًا لا يزال سكان جبعون محاصرين حتى اليوم بسبب دخولهم في علاقة عهد مع يشوع، مهما كان ضعفهم حتى وإن كانوا محتطبي حطبًا ومسقي ماء. هذا يعني أن أي إنسان في الكنيسة حتى وإن كان الأخير فإنه بتعرض لعدوان الملوك الخمسة مادام في علاقة مع يسوع. ومع أن سكان جبعون هكذا ضعفاء (وعبيد) لكنهم ليسوا مُهملين ولا مُحتقرين من قبل يشوع أو الرؤساء... الذين يسندون ضعفهم. أليس الأمر لا يزال هكذا عندنا، إذ يوصي الرسول قائلاً: "شجعوا صغار النفوس، إسندوا الضعفاء، تأنوا على الجميع" (1 تس 5: 14). هذه هي طريقة يشوع مع رؤساء جنوده، إذ يسندون من تحاربهم قوى الشر لأجل إسمه. لا بقوة في النضال فحسب، وإنما يُطيل نهارهم ويضيف من مدة النور مؤخرًا دخول الظلمة [12-14][161]].
بعد أن تحدث العلامة أوريجانوس عن هياج الملوك الخمسة على النفوس التي دخلت مع يشوع الحقيقي في مصالحة، مؤكدًا مساندة يشوع ورجاله لها حتى إن التزم الأمر أن يطول النهار ويتأخر الليل، تحدث عن المعنى الرمزي لهؤلاء الملوك، قائلاً: [لنرى ما هو معنى الملوك الخمسة؟... قلنا مرارًا أن للمسيح نوعين من النضال: نضال خاص بالقديسين مثل بولس وأهل أفسس إذ يقول بنفسه: "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12)؛ أما بالنسبة للذين هم أقل قوة والذين مازالت لهم أخطائهم فهؤلاء يكون نضالهم ضد اللحم والدم، إذ لا يزالون محاصرين بالرزائل وسقطات الجسد. أظن أن هذا هو المقصود في هذا النص. فقد قلنا أن الخمسة ملوك قد أعلنوا الحرب على سكان جبعون، الذين حسب اعتقادنا يرموزون إلى المسيحيين غير الكاملين. هؤلاء محاصرون بخمس ملوك، الذين يرمزون إلى الحواس الخمس لجسد الإنسان: النظر والسمع والمذاق واللمس والشم. فالإنسان لا يسقط في الخطية إلاََّ خلال هذه الحواس. هكذا تُقارن الحواس الخمس بالملوك الخمسة الذين يحاصرون سكان جبعون، أي الذين يعبدون الجسد[162]].
2. الاستغاثة بيشوع...
"فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال، يقولون: لا ترخ يديك عن عبيدك. أصعد إلينا عاجلاً وخلصنا وأعنا، لأنه قد إِجتمع علينا جميع ملوك الأمورييين والساكنين في الجبل. فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع رجال الحرب معه وكل جبابرة البأس" [6-7].
يتحدث القديس أغسطينوس عن إمكانية الإنسان، أنه قادر أن يروض الوحوش المفترسة لتخضع له وتطيعه فيستأنس بها، لكنه عاجز تمامًا عن أن يروض نفسه خاصة لسانه[163]. فإن كان الملوك الخمسة يشيرون إلى الحواس الثائرة في الإنسان الداخلي، فليس من يقدر أن يروض هذه الوحوش المفترسة إلاَّ يشوع الحقيقي، خالق الحواس ومقدسها! ليس هناك طريق للخلاص إلاَّ أن يستغيث بنو جبعون بيشوع الذي في الجلجال ليدحرج[164] عنهم عارهم وينزع عنهم كل ضعف.
ليست نفوسنا إذن تئن من نيران حرب شهوات الجسد، إن كان بالنظر أو خلال اللمس أو بأي حاسة تلجأ إلى يشوعنا الحقيقي، تصرخ إليه لكي يصعد إلينا عاجلاً ويخلصنا ويعيننا. هو الذي خلق حواسنا، قادر وحده أن يقدسها، ويردها عن إنحرافها عن هدفها، ويطفئ لهيب الشهوات عنها. لهذا يقدم لنا القديس جيروم الصلاة كعلاج ضد هذه الشهوات: [الصلاة تطفئ نار النفس وهكذا أيضًا الثقة بالرب[165]]. ويؤكد القديس يوحنا الدرجي: [عندما نكون غير قادرين على الصلاة ضد الخليقة الشريرة (الشياطين) فإنها تثير هجومًا ضدنا[166]].
ينصحنا القديس يوحنا الدرجي أن نلجأ إلى ربنا يسوع المسيح عندما نشعر بثقل الحرب، خاصة حرب الزنا، دون الإلتجاء إلى المباحثات والمجادلات مع العدو. [لا تظن أنك تقدر أن تغلب شيطان الزنا بالمباحثات والمجادلات، فمن يُصمم على مقاومة (شهوات) جسده والتغلب عليها، هكذا إنما يحارب باطلاً، فإنه إن لم يدمر الله بيت (شهوات) الجسد ويقيم بيت النفس يكون سهر الإنسان وصومه باطلين... قدم للرب ضعف طبيعتك، مدركًا تمامًا عجزك وعدم قدرتك، فتقبل منه عطية العفة غير المدركة[167]]...
3. سقوط حجارة برد...
صعد يشوع للحرب ضد هؤلاء الملوك وكان الرب نفسه يشدده، قائلاً له: "لا تخفهم، لأنيّ قد أسلمتهم. لا يقف رجل منهم بوجهك" [8].
صعد إليهم بغتة طول الليل، والرب نفسه أزعج العدو وضربه ضرية عظيمة في جبعون وطرده في طريق عقبه بيت حورون، وضربه إلى عزيقة وإلى مقيدة... وبينما كان العدو هاربًا من أمام إسرائيل وهو منحدر بيت حورون رماه الرب بحجارة برد عظيمة من السماء فكان القتلى بالحجارة أكثر من القتلى بالسيف. كأن الغلبة على هؤلاء الملوك تحققت بأمرين السيف وبحجارة البرد النازلة من السماء. فإن كان هؤلاء الملوك يشيرون إلى الحواس الخمس التي تدنست وصارت في حالة حرب ضد الإنسان الداخلي، فلكي نغلب يلزمنا أن نبتر بسيف الروح كل شر فلا يكون له بعد وجود في حواسنا، كما نحتاج إلى حجارة البرد السماوية التي ينزل بها الروح على الحواس فيطفئ لهيب الشر فيها، واهبًا إياها برودة فيما هو أرضي لتلتهب من جديد نحو ما هو سماوي. إن حجارة البرد قاتلة لمحبة الأرضيات، لكنها نازلة من السماء لكي ترتفع بالحواس إلى ما هو سماوي.
4. إطالة النهار...
إذ غلب يشوع الأموريين طلب من الله أن يؤجل حلول الليل حتى تكمل النصرة، قائلاً: "يا شمس دومي على جبعون، وعلى قمر وادي أيلون" فدامت الشمس ووقف القمر حتى إِنتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبًا في سفر ياشر: "فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل، ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب صوت إنسان، لأن الرب حارب عن إسرائيل" [12- 14].
اعتقد بعض المفسرين أن المعركة كانت حامية الوطيس لدرجة أنه خيل لبني إسرائيل أن النهار كان أطول من المعتاد[168]. لكن واضح من كلمات الوحي أن الشمس قد تأخر غروبها مستشهدًا بذلك من سفر ياشر، وواضح أن هذا السفر أو الكتاب ليس سفرًا من أسفار الكتاب المقدس، لكنه سفر غالبًا سجله رجل علماني أحب الشعر والأدب، فيه سجل بعض الأحداث الهامة الدينية والزمنية، وإذ شاهد تأخر غروب الشمس أو سمع عنها سجل ذلك في قصيده ضمنها كتابه. وكأن كاتب سفر يشوع يستشهد بهذا الحدث العجيب بكتابات رجل علماني. ومما يجدر ملاحظته أن التاريخ أيضًا يشهد بحوادث مماثلة. يقول هيرودت أن كهنة المصريين أطلعوه على وثائق تتحدث عن يوم أطول من المعتاد. وتفيد الكتابات الصينية أنه كان هناك يوم مماثل لهذا في عهد إمبراطورهم يو، وهو معاصر ليشوع، وفي المكسيك وثائق تثيت أن يومًا طويلاً حدث في إِحد السنين، وهي نفس السنة التي كانت يواليّ فيها يشوع حروبه[169].
يرى العلامة أوريجانوس في هذا الحدث صورة رمزية لعمل يشوع الحقيقي في حياتنا حيث يطيل نهارنا للعمل من أجل خلاصنا ويؤجل ليل الظلمة حتى لا يفتك بنا العدو. يقول: [نوّد إن أمكن إظهار كيف نشر الرب يسوع النور وأطال النهار خلاص النفوس وإبادة قوى الشر. منذ جاء المخلص كانت نهاية العالم قد حانت، إذ كان يقول بنفسه: "توبوا لأنه قد إقترب السموات" (مت 4: 17). لكنه أجلّ يوم النهاية ومنع ظهوره. لأنه إذ رأى الله الآب أن خلاص الأمم لا يتحقق إلاَّ بيشوع قال: "إسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وسلطانك إلى أقصي الأرض" (مز 2). فإلى أن يتحقق وعد الآب هذا وتنموا الكنائس يضم الأمم وجميع الصالحين إليها، وحتى يخلص كل إسرائيل يطول النهار وتتأخر نهايته. فالشمس لا تغيب قط بل تشرق على الدوام، أي شمس البر الذي يبعث نور الحق في قلوب المؤمنين. ولكن عندما يكمل عدد المؤمنين يأتي الوقت الشرير، الجيل الأخير الذي فيه تفتر محبة الكثيرين بسبب تصاعد الأنانية وانعدام البر، عندئذ لا يتبقى إلاَّ مؤمنون قليلون عندئذ تقصر الأيام (مت 24: 22). نعم الله نفسه يعرف إطالة الأيام في زمن الخلاص وتقصير الزمن في وقت الشدائد والضياع وأما بالنسبة لنا فليتنا نسير بأمانة في وضوح النهار ونعمل أعمال النور مادمنا نحظى بالنهار ويطول بنا وقت النور[170]].
مرة أخرى يقول العلامة أوريجانوس: [بينما نحن نحارب ضد أعدائنا "ضد الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12). لا يكف شمس البرّ عن مصاحبتنا، إذ لا يتركنا قط. إنه لا يتعجل الغروب، إذ يقول بنفسه: "ها أنا معكم كل الأيام" (مت 28: 20)، ليس معنا لفترة يوم مضاعف فحسب وإنما كل الأيام إلى إنقضاء الدهر حتى ننتصر على أعدائنا (الشياطين)[171]].
على أي الأحوال فإن ما حدث يعلن عمل الله العجيب خلال خدامه، وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [إن كانت الشمس قد توقفت في جبعون، والقمر في وادي إيلون إلاَّ أن هذا العمل ليس عمل إبن نون، بل عمل الرب الذي سمع الصلاة، هذا الذي إنتهر البحر، وعلى الصليب جعل الشمس تظلم (مت 27: 45)[172]].
5. الملوك في مغارة...
"فهرب أولئك الخمسة ملوك واختبأوا في مغارة مقيدة... فقال يشوع: دحرجوا حجارة عظيمة على فم المغارة وأقيموا عليها رجالاً لأجل حفظهم. وأما أنتم فلا تقفوا بل إسعوا وراء أعدائكم وأضربوا مؤخرهم. لا تدعوهم يدخلون مدنهم، لأن الرب إلهكم قد أسلمهم بيدكم" [16-19].
لماذا اختبأوا في مغارة في مقيدة؟ إن كان هؤلاء الملوك الخمسة يشيرون إلى تدنيس الحواس أو هجوم حرب الحواس ضد المؤمنين، فإن هذه الحرب غايتها أن تدخل بالإنسان إلى المغارة، أي تنزل به إلى أعماق الأرضيات لتحبسه فيها، فلا يقدر أن ينطلق إلى السماويات. وفي هذا يقول العلامة أوريجانوس: [المغارة هي مكان منحوت في عمق الأرض، فإن كنا نتكلم على حواس الإنسان المنشغلة بالأرضيات ولا تهتم إلاَّ بما يشتهيه الجسد دون خدمة الله يمكننا أن نقول بأن حواسه مختبئة في عمق الأرض[173]]. لهذا يليق بنا أن نتحرر من سلطان هؤلاء الملوك ليحتل يسوع المسيح مكانهم، فلا ندخل إلى المغارة بل نرتفع إلى الحياة السماوية.
حرب هؤلاء الملوك قديمة قدم الإنسان، فقد جاءت الحية تتسلل زاحفة على الأرض لكي تسحب قلب حواء إلى المغارة عوض أن يرتفع نحو الأبديات... ولم يكن ممكنًا للشيطان أن يأسر قلبي آدم وحواء لو لم ينزلا إلى الرضيات ويشتهيا الزمنيات. يقول القديس أمبرسيوس: [الحية تمثل الشهوات الجسدية التي تجعل البشر يزحفون على الأرض، هؤلاء الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم (في 3: 19)، يأكلون ما هو ترابي[174]]. ويقول الأسقف أغناطيوس بريانشانينوف: [أنظروا أيها الإخوة ماذا يفعل الشيطان؟ ماذا سيفعل؟ إنه يقود ذهن الإنسان من السماء الروحية إلى الأمور المادية، يربط قلبه بالأرض والاهتمامات الأرضية. تأمل وأحذر[175]]. لهذا يقول القديس برصنوفيوس: [إن أردت أن تخلص إِلتزم بالموت عن كل ما هو أرضي. إِحسب نفسك كلا شيء وجاهد من أجل ما هو أمامك لئلا تحت مظهر العمل الصالح يشغلك الشيطان بقلاقل في غير آوانها]. ويؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم: إلتزامنا أن نرتفع إلى السماء ونحن على الأرض، فلا ننخدع بحيل إبليس بل نرتبط بملكنا السماوي، قائلاً: [لا تظن أن لك شيئًا يربطك بالأرض، فإن جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء لكن رأسك يقطن فوق! نعم لقد جاء الرب أولاً إلى هنا، وإذ أحضر ملائكته إنما بقصد أن يأخذك معه ويرحل بك إلى هناك، حتى تدرك أنه يمكنك حتى قبل ذهابك إلى هذا الموضع أن تقطن على الأرض كما لو كانت سماء[176]].
إن كان دنس الحواس يود أن يحبسنا في الأرضيات ويخنق نفوسنا كما في مغارة فإنه يليق بنا تحت قيادة يشوع أن نحبس الدنس في مغارة وندحرج عليه حجارة كبيرة ونقيم عليه رجالاً كحراس، ونتفرغ لبقية الحروب حتى يملك يشوع لنعود فنقتل الدنس تمامًا. ماذا يعني هذا إلاَّ عدم إعطاء فرصة للدنس أن يدخل معنا في مباحثات، إنما نغلق عليه بحجارة عظيمة ونقيم حراسة روحية على حواسنا ونعمل عمل الرب الإيجابي فلا يكون للشر بعد قوة على مقاومتنا. يليق بالمسيحي أن يهتم بالجانب الإيجابي أكثر من السلبي، فعندما نهتم أن يملك يشوع على العين مثلاً فتقدس بالروح القدس لنتطلع دائمًا إلى السماويات لا تعود بعد حرب "النظر الدنس" تُمثل عبئًا على النفس! لنهتم بالأكثر أن يملك يشوع فينا ولا نُكتل كل القوة على محاربة السلبيات في حياتنا. يقول العلامة أوريجانوس: [يجب أن نعلم أن الممالك التي هزم يشوع ملوكها وجعلهم يلجأون إلى المغارة، هذه الممالك بعينها تدخل فيما بعد في ميراث القديسين، وتحسب "نصيبُا للرب"، مثل أورشليم ولخيش وحيرون. في رأيي هذا يعني أن الحواس الخمس الجسدية بعد أن يهزمها يسوع ويجردها من خيانتها للإيمان، بعد موت الخطية فيها، إذ تكف عن عبوديتها للخطية، هذه الحواس الخمس تصبح في خدمة الروح لعمل البرّ. هكذا أورشليم التي كان يحكملها ملك غير شريف ولا نبيل صار يحكمها فيما بعد داود القوي وسليمان الحكيم[177]].
إن رب المجد يسوع يطلب أن يُرفع ليقيم الميت لعازر من القبر، مشتاقًا أن يحلّ رباطات كل إنسان ويطلقه من قبر الاهتمامات الزمنية والشهوات الجسدية، نراه هنا خلال الرمز يأمر بدحرجة حجارة عظيمة على المغارة وإقامة الحراس ليستلم هو المملكة. إنه يُريد أن يحررنا ويطلقنا لكنه يكتم أنفاس الشر ويشدد الحراسة ضده دون تفاهم معهم أو جدال، كما سبق فقلت. وكما يقول القديس يوحنا كليماكوس: [لا تظن أن تبطل شيطان الفجور بالجدال معه[178]]. كما يقول [إِغلق باب القلاية بالنسبة لجسدك، وباب لسانك بالنسبة للكلام، والبوابة الداخلية بالنسبة للأرواح الشريرة[179]].
6. الفتك بالملوك...
طلب يشوع من القادة أن يضعوا أرجلهم على أعناق هؤلاء الملوك، ثم يقتلوهم ويعلقونهم على خشب حتى المساء. وعند غروب الشمس أمر بإنزالهم وطرح جثثهم في المغارة التي اختباؤا فيها، ووضع حجارة كبيرة على فم المغارة.
أولاً: طلب يشوع من القادة أن يضعوا أرجلهم على أعناق هؤلاء الملوك، قائلاً لهم: "لا تخافوا ولا ترتعبوا، تشددوا وتشجعوا، لأنه هكذا يفعل الرب بجميع أعدائكم الذين تحاربوهم" [25]. وكأنه بيسوع المسيح ربنا الذي أعطانا أن ندوس على الحيات والعقار وكل قوة العدو (لو 10: 19)، مقدمًا لنا إمكانية الغلبة والنصرة على سلاطين الشر، فنحارب روحيًا ضد الخطية بغير خوف، متشددين ومتشجعين بيسوعنا الغالب . إن كان الأعداء قد ملكوا في قلوبنا لكننا بيشوع نطأهم تحت أقدامنا لكي يملك هو فينا. يقول العلامة أوريجانوس: [لنصلّ إذًا لكي تكون أقدامنا قوية وصالحة، تقدر أن تدوس عنق أعدائنا وتسحق راس الحية تمامًا فلا تقدر أن تلدغ عقبنا[180]]. كما يقول: [ليت الرب يسوع، ابن الله، يمنّ عليَّ بنعمة سحق روح الشر والميل إلى الغضب والعنف وشيطان البخل والكبرياء[181]].
ثانيًا: تعليقهم على خشب، إنما يذكرنا بصلب ملك عاي، فقد رأينا في ذلك رمزًا لصلب الشيطان بطريقة غير منظورة وتجريده من كل سلطان (كو 2: 14) بصلب ربنا يسوع المسيح[182]. صلب هؤلاء الملوك إنما يُشير إلى صلب أهواء الجسد ودنس حواسه لكي يموت الشر فتقوم الحواس مقدسة في الرب. وكما يقول الرسول: "كذلك أنتم أيضًا احبسوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا" (رو 6: 11).
ثالثًا: أنزلوا الجثث إلى المغارة التي اختبأوا فيها... لقد نزلوا إلى عمق الأرض بإرادتهم، وها هم يسقطون كجثث إلى نفس الموضع بغير إرادتهم هذا ما يؤكده كثير من آباء الكنيسة أن الخطية تحمل ثمرتها فيها، فمن اختار المغارة الأرضية ينزل إلى الأعماق بغير إرادته، وكأن هلاكه الأبدي إنما يكون إمتدادًا طبيعيًا لما مارسه على الأرض. الذي يحيا في الباطل وهو بعد في العالم، يصير باطلاً في العالم الآخر، أما من يحب السماويات ويرتفع قلبه فوق المغارة، غالقًا بابها بحجارة كبيرة، فلا تقدر مغارة الجحيم أن تبتلعه ولا يمكن لأبواب الأرضيات أن تنتظره، إنما يعطيه الله شهوة قلبه وهو الإرتفاع ما فوق الأرضيات!
رابعًا: الفتك بالملوك الخمس إنما يُشير إلى غلبتنا بربنا يسوع على شهواتنا، يقول القديس أمبرسيوس: [كان يشوع بن نون الذي أذل الملوك الخمس وأخضع الجبعونيين مثالاً لذاك الذي له ذات الإسم، القادم إلينا، فبسلطانه تنهزم كل الشهوات الجسدية ويهتدي الأمم، فيتبعون إيمان يسوع المسيح عوض شهواتهم ومطالبهم القديمة[183]].
7. الاستيلاء على مدن الجنوب...
لم يقف الأمر عند قتل الملوك الخمس، وإنما شنَّ يشوع برجاله حربًا ضد ملوك الجنوب واستولى على المدن والسهول إلخ...
يتحدث العلامة أوريجانوس: في شيء من الإطلالة على هذه الحروب وما تحمله من رموز للحرب الروحية والتمتع بالميراث الأبدي، إذ يقول: [إن كانت الرموز القديمة من خيمة الاجتماع والمقدسات وجملة العبادات تسمى بدء السماويات إنما هي بدء السماويات وظلها، هكذا يجب القول بأن الحروب التي قادها يشوع حيث قتل الملوك والأعداء إنما هي بدء السموات وظلها أيضًا، أي ظل للحروب التي يشنها يسوع إلهنا على ضد الشيطان وملائكته. إنه يقودها بجيشه وجنوده، أي بجماعة المؤمنين الذين تحت قيادته. وبالفعل حارب يسوع الذي لبولس ولأهل أفسس ضد السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، ضد أجناد الشر الروحية في السماويات (أف 6: 12). أترى كيف تتفق الأشياء الجديدة مع القديمة؟ فقد تلقي الأولون وعدًا بمملكة على الأرض المقدسة حيث الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، هذه التي يسكنها خطاة وملوك مبغضين، فيصل يسوع إلى هذه الأرض مع جيش الرب ورؤساء إسرائيل، ويحاربهم جميعًا، ويقتلهم وينتصر ويتسلم مملكة الذين غلبهم كثمن للنصرة. أما أنت فالإنجيل لا يعدك بمملكة على الأرض بل ممكلة في السماء. هذه المملكة ليست شاغرة ولا بدون سكان... اسمع ما قيل "مع أجناد الشر الروحية في السماويات" [12]. هل تفهم من هؤلاء السكان الذين يلزمك طردهم من السماويات بالحرب والعنف (الروحي) حتى يتسنى لك ميراث هذه المواضع في الملكوت السماوي؟ أليس واضحًا أن هذا هو معنى كلمات الرب في الإنجيل: "من أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السماء يُغصب والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12)... إن كنا مستحقين يفتح لنا الرب يسوع قصر حكمته ويدخل بنا إلى كنوز علمه... عندئذ ترى أي عدو يرمز إليه ملك مقيدة وملك لخيش وملك لبنة، وتدرك أي رذيلة داخلية أو أي ضلال للروح يمثله هؤلاء الذين قتلهم شعب الله بقيادة يشوع[184]]. كما يقول: [اليهودي الذي يقرأ هذه الأحداث، وأنا أتحدث هنا عن اليهودي حسب الظاهر الذي خُتن في جسده والذي يجهل اليهودي الحقيقي الذي خُتن بالقلب ، فإنه لا يجد هنا سوى وصفًا لحروب وقتلاً للأعداء وإِنتصارًا للإسرائيليين الذين نهبوا ممتلكات الغرباء والوثنيين تحت قيادة يشوع؛ أما اليهودي بالقلب أي المسيحي التابع ليسوع ابن الله وليس ليشوع بن نون، فإنه يفهم هذه الأحداث بكونها تمثل أسرار ملكوت السموات. إنه يقول: "اليوم أيضًا يحارب سيدي يسوع المسيح قوى الشر ويطردها من المدن التي كانت تحتلها، أي يطردها من أرواحنا. إنه يقتل الملوك الذين كانوا يحكمونها، فلا تعود تملك الخطية فينا؛ حتى بعدما تتحرر أرواحنا من حكمه تصبح هيكلاً للرب ولملكوت الله، فنسمع الكلمات: "ملكوت الله داخلكم"... إذن، لنفهم جيدًا أنه إن كان يشوع قد قتل ملك أريحا وملك عاي وملك لبنة وملك لخيش وملك حبرون، فإن هذا كله إنما كي تعيش هذه المدن خاضعة الرب بعد أن كانت تمارس ناموس الخطية، خاضعة لملوك أشرار[185]].
أما المدن التي إستولى عليها يشوع، فتحمل كل منها معنى روحيًا مزدوجًا، يناسب ملكها الشرير الذي كان يسيطر عليها كما يليق بمفهوم جديد يليق بها بعد أن يملك يشوع عليها هذه المدن في الواقع هي حياتنا يملك عليها يشوعنا، إذ نقول له: "ها أنا اقدم لك روحي وقلبي وجسدي بكمالهم بلا تحفظ، فكل ما يحيا فيَّ إنما يحيا لك يا واهب الحياة! لتستلم كل قدراتي، لتمتلكها بكمالها[186]]. أما أهم المدن فهي:
أ. مقيدة: إِسم كنعاني يعني (موضع الرعاة)، ربما كانت خربة الخيشم التي تقع شمال شرقي تل زكريا. إنها المدينة التي اختبأ فيها الملوك الخمسة المهاجمون ليشوع في إحدى مغاراتها [16]، فكانت موضعًا لمثل هؤلاء الرعاة الأشرار المفسدين للحواس، لكن يشوع قد صلب هؤلاء الملوك ودفنهم في نفس المغارة ليجعل منها موضعًا مقدسًا له، لا يملك عليها أحد غيره ولا يقطنها غير مؤمنيه، إذ "حرم ملكها هو وكل نفس بها، لم يبق شاردًا" [28]. لقد صارت بحق موضع الرعاة، لكن ليس الرعاة الأشرار بل الرعاة الذين يتبعون يشوع ويعملون لحساب ملكوته الروحي. متى ملك إبليس على القلب قدم المسخرين القساة رعاة فيه، أما متى ملك ربنا يسوع فيرسل رعاة حسب قلبه يعملون بإسمه وبإمكانياته الإلهية.
ب. لبنة: إِسم سامي معناه بياض، تقع في الساحل ما بين مقيدة ولخيش ويرجح أنها المكان المسمى تل بورناط على مسافة ميلين شمال غربي بيت جبرين، ويرى البعض أنها تل الصافي أو الصافية. يعلق العلامة أوريجانوس على اسم المدينة قائلاً: [لبنة تعني بياض، والبياض يمكن أن يُفهم بطريقتين: فهناط بياض البرص، وأيضًا بياض النور، إذ يمكن أن يكون للكلمة معنيين متناقضين. فتحت قيادة الملوك الأشرار لبنة تعني بياض البرص، ولكن بعد هدمها وتحويلها إلى قيادة الإسرائليين صار إسمها يعني بياض النور، لأنه في الكتاب البياض أيضًا يكون للمدح وأحيانًا يعبر عن اللوم[187]]. إذًا لبنة تمثل مدينة داخلية قائمة في حياة كل إنسان؛ إن كان غير مؤمن تكون لبناه هي بياض برص الخطية الذي ينجس النفس ويفسد حياتها، ويعزلها عن كل المقدسات. وكما تقول الشريعة: "إنه نجس، فيحكم الكاهن بنجاسته... تكون ثيابه مشقوقة ورأسه مكشوفًا ويغطى شاربيه ويُنادى نجس نجس... يقيم وحده، خارج المحلة يكون مقامه" (لا 13: 44- 46). أما إن كان الإنسان مؤمنًا يسلك في المسيح يسوع بالروح والحق فتكون لبناه هي بياض النور الذي يشع فيه خلال شمس البر الساكن داخله. يكون كثوب المسيح في تجليه أبيضًا كالنور (مت 17: 2).
ج. لخيش: وهي مدينة حصينة، كانت تعرف قبل الحصى التي تبعد مسافة 16 ميلاً شمال شرقي غزة، و11 ميلاً جنوب غربي مدينة جبرين. ويرى العلامة أوريجانوس أن كلمة لخيش تعني (طريق). ويعلق على ذلك بقوله: [في الكتاب يكون الطريق موضع مديح أو ذم. هذا ما يمكن إثباته بسهولة بالمزمور القائل: "أما طريق الأشرار فتهلك" (مز 1: 6) وبمعني عكسي يقول: "وهداهم طريقًا مستقيمًا" (مز 107: 7). يمكننا أن نفهم لخيش أنها كانت قبلاً طريق الأشرار، أما بعد أن ضُربت وسُلبت وأُقيمت من جديد كطريق مستقيم تحت سيطرة إسرائيل[188]].
د. حيرون: دعيت أصلاً قرية أربع (تيترابوليس)، بنيت سبع سنين قبل صوعن، وقد وجدت في أيام إبراهيم (تك 13: 18؛ 35: 27)، وتغرب إسحق ويعقوب فيها مدة من الزمن (تك 35: 27؛ 37: 14). زارها الجواسيس ووجدوا فيها بني عناق (عد 13: 22)... طالب كالب بن يفنة بالمقاطعة التي بها حبرون، أما حبرون فصارت إحدى مدن الملجأ.
كلمة "حبرون" كما يرى العلامة أوريجانوس تعني (زواج)، [فالروح قد اقترنت أولاً بالشيطان كزوج شرير غير صالح. بعد موت هذا الزوج الظالم وتحرير الروح من حكم الزوج الأول تقترن برجل البر، الزوج الشرعي الذي يتكلم عنه بولس الرسول: "لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2).
يلاحظ أن في عمل يشوع مع هذه المدن أنه يمثل عمل ربنا يسوع ألا وهو الهدم والبناء، هدم الإنسان القديم وإقامة الإنسان الجديد فينا؛ هدم الشر حتى أساساته ليقيم أساسًا جديدًا للبناء الجديد. يقول العلامة أوريجانوس: [أول عمل لكلمة الرب هو اقتلاع الشر القائم، أي شوك الرذائل وحسكها، لأنه مادامت الأرض في قبضة جذور الشر لا يمكن إلقاء بذور الخير المقدسة فيها. فأول عملية للرب لا غنى عنها هي اقتلاع جذور الخطية وانتزاع كل ما لم يزرعه الآب السماوي وإهلاكه في النار. أما العملية الثانية فهي القيام بالغرس. ماذا يغرس الآب؟ يقول موسى إن الله غرس الجنة (تك 2: 8)، لكنه لا يزال يغرس كل يوم في نفوس المؤمنين. إنه ينتزع الغضب ويزرع الهدوء؛ يقتلع الكبرياء ويغرس الإتضاع، يُزيل جذور النجاسة ويزرع الطهارة، يقتلع الجهل ويضع المعرفة... هكذا أول أعمال كلمة الله هو هدم ما قد أقامه الشيطان في النفس البشرية، إذ شيد في كل واحد منا مرتفعات الكبرياء وأسوار التعالي. لكن كلمة الله تهدم هذه المباني وتجعلها تنهار حتى يتسنى لنا أن نصير كقول الرسول: "كرم الله وهيكله" (1 كو 6: 19)، مُؤسيسين على الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية هذا الذي يرتفع عليه المبنى الشاهق المنظم ليصبح بالروح هيكلاً للرب (أف 2: 21)[189]].
الأصحاح الحادي عشر
المؤامرة الكبرى
إذ إِحتل يشوع المنطقتين الوسطى والجنوبية أرسل يابين ملك حاصور إلى الملوك المحيطين به، خاصة ملوك المنطقتين الشمالية والشرقية، ليخرج الكل معًا دفعة واحدة لمحاربة يشوع، فدفعهم الرب في يده وأعطاه كل أرضهم ميراثًا له.
1. يابين والمؤامرة الكبرى [1].
2. حلفاء يابين [1-4].
3. موقعة مياه ميروم [5-8].
4. عرقبة خيلهم [9].
5. الإبادة التامة للشر [10-22].
6. استراحت الأرض [22].
1. يابين والمؤامرة الكبرى...
إذ سمع يابين ملك حاصور بانتصارات يشوع أرسل إلى الملوك المحيطين به في الشمال والشرق، فاجتمعت الجيوش معًا شعبًا غفيرًا كالرمل على شاطئ البحر وبخيل ومركبات كثيرة جدًا لمحاربة يشوع ورجاله.
كلمة "يابين" في رأي البعض هي لقب خاص بكل ملوك كنعان، مثل "فرعون" بالنسبة لملوك مصر، وأبيمالك في فلسطين، وحارث لملوك شمال بلاد العرب. أما معنى الكلمة بالكنعانية فتعني "الله يراقب"، وإن كان العلامة أوريجانوس يرى أنها تعني "أفكارًا" أو "مهارة". وبلدة "حاصور" تعني بالعبرية "حظيرة" وفي رأي العلامة أوريجانوس تعني "قصر". ويعتقد البعض أن هذه المدينة كانت تقع على مياه ميروم، ولعلها هي تل القدح على بعد أربعة أميال غرب جسر بنات يعقوب، وقد اكتشفت بقايا المدينة من عصور الكنعانيين والعبرانيين.
يرى العلامة أوريجانوس أن ما فعله يابين ملك حاصور إنما يرمز لما يفعله الشيطان أو الأفكار الشيطانية من إثارة للحروب الروحية في العالم كأنه قصره أو حظيرته، معطيًا مثلاً بهذه الأفكار التي ألقاها في قلب ملك بابل حين سقط في الكبرياء مصممًا أن يهدم حصون الشعوب وينهب كنوزهم، كما رأى في يابين رمزًا للحية أمكر حيوانات الأرض التي استطاعت أن تفسد حياة البشرية وتهدم سلامها وتفقدها الفردوس! إذًا فيابين بكونها تعني أفكارًا أو مهارة إنما تُشير إلى أفكار الشيطان المتعجرفة أو حيله ومهارته في خداع البشرية، أما "حاصور" أي "حظيرة أو "قصر"، فكما يقول العلامة: [الأرض كلها هي قصر هذا الملك الذي نال السلطان على الأرض كلها وكأنها قصره، إنه الشيطان!... مكتوب في الأناجيل أن القوي ينام في قصره في أمان حتى يأتي من هو أقوى منه فيكبله بالأغلال وينزع ممتلكاته. إذًا ملك القصر هو رئيس هذا العالم[190]].
2. حلفاء يابين...
حرض يابين بقية الملوك على القتال وكأن الأفكار الشيطانية المتعجرفة والمملوءة خداعًا تثير كل طاقات الإنسان والظروف المحيطة به للعمل لحساب مملكته عوض العمل لحساب مملكة يشوع الحقيقي، من بين هؤلاء الملوك:
أولاً: يوباب ملك مادون: "يوباب" بالعبرية تعني (صراخ)، أما "مادون" فبالكنعانية تعني (خصومة)، ويرجح أنها ضربة مادين بالقرب من حطين في الجليل. ويرى العلامة أوريجانوس أن "يوباب" يعني (عداوة)، و"مادون" يعني (مرارة). لذلك يقول: [يرسل الشيطان (يابين) إلى قوة أخرى معادية منتسبة بالطبع إلى الملائكة المتمردين، أي إلى ملك المرارة. فمن هذا الملك وأعماله تحلّ المرارة والصعوبات ببني البشر المساكين الزائلين. حقًا إن كل أنواع الخطايا مُرّة، فإنه ليس شيء أمر منها حتى وإن حملت في البداية شيئًا من الحلاوة وذلك كما كتب سليمان... وعلى النقيض فإن البر يبدو في البداية مرًا، لكن نهايته أحلى من العسل، وذلك عندما يقدم ثمار الفضيلة[191]]. هكذا إذ يحمل إبليس طبيعة البغضة والكراهية خاصة ضد الإنسان الإناء الضعيف موضوع حب الله الذي يحتل مركز إبليس وجنوده قبل سقوطهم، لا يكف عن إثارة كل ما هو مرّ ضدهم حتى يفقدهم فرحهم في الرب ولذتهم الروحية وسلامهم الداخلي.
ثانيًا: ملك شمورن: أما الملك الثاني فهو ملك "شمورن" وفي رأي العلامة أوريجانوس أن كلمة "شمورن" تعني (إستماع)، مقارنًا بين شمورن وصموئيل، فإن الأخير ثمرة إِستماع الله لصوت الإنسان وصلواته (1 صم 1: 20)، أما الأول "شمرون" فيمثل" الاستماع لصوت إبليس ووصاياه". هكذا يسعى إبليس بكل طاقته أن يقيم له مملكة بين البشر، يخضعون لشريعته التي جوهرها الظلم والدنس!
ثالثًا: ملك أكشاف: هذا هو الملك الثالث الذي يستدعيه يابين ملك حاصور. أما "أكشاف" ففي رأي العلامة أوريجانوس فتعني (ما أسرع زوال هذا!) كأن مملكة إبليس في الواقع تقوم على ما هو سريع الزوال، لكنه سيتخدم كل خداعاته ليجتذب البشرية إلى مملكته ليعطيهم ما هو زائل وسريع الفناء! إن كان شمرون يجتذب الإنسان ليسمع صوت إبليس، فإن ملك أكشاف يقدم من عندياته ما هو في الحقيقية لا شيء! يقول العلامة أوريجانوس: [هذا هو نص كلمات إبليس: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت ليّ" (مت 4: 10). فإن كنت تخدم يسوع تجاوبه هكذا: (إني أعبد سيدي وإلهي وليس آخر غيره). أما أعوان إبليس فيسمعون له كما فعل ملك شمرون الذي إِستمع ليابين وذهب لمحارية يشوع[192]]. لكن ماذا نال شمورن من سماعه لصوت يابين وإغراءاته سوى الهلاك والموت؟! ونحن أيضًا إذ ننصت لصوت العدو طالبين الملذات الأرضية، مقاومين عمل يسوعنا الحق، فماذا ننال؟! يقول العلامة أوريجانوس: [ما أسرع زوال الملذات، وما أقرب فنائها، هذه التي يظنها الخطاة دائمة!![193]].
رابعًا: الملوك الذين في الجبل شمالاً: كما تُشير إلى الجبال المقدسة إلى مملكة الله تقوم عليها مدينة الله التي لا يمكن إخفاؤها، وعليه يتجلى الرب أمام أنبياءه وتلاميذه، رجال العهدين القديم والجديد، والراقدين والأحياء، فقد عرفت الشياطين لها جبالاً تملك عليها، هي أفكار الكبرياء المتشامخة، حيث تنطلق بالنفوس إليها لكي تنحدر منها إلى الهاوية.
خامسًا: ملك العربة جنوب كنروت: يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "عربة" تعني (خيانة)، وكلمة "كنروت" تعني (كالمصابيح)، وكأن إبليس يستخدم كل نوع من الالتواء لكي يخدعنا فيظهر مصباح منير أو ملاك نوراني مع أنه في حقيقته هو ظلمة! يقول العلامة: [إنه يدعو قوى الخيانة لا لتهاجم أرواح البشر صراحة إنما تفاجئها بطرق ملتوية... فإن كنا كبولس نقول: إننا لا نجهل حيله[194]].
سادسًا: ملك دور غربًا، سواء في السهل أو في المرتفعات. ويرى العلامة أوريجانوس أن "دور" تعني "هداية" لكنها ليست هداية من الشر إلى الخير، إنما هداية يثيرها يابين لينحرف بالمؤمنين عن الحق تحت ستار الإنجيل كما حدث في غلاطية. يقول الرسول: "إن أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعًا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح، لكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 6- 8). هذا هو عمل سكان دور أن يحاربوا المؤمنين خفية خلال الإنجيل، بتقديم مفاهيم خاطئة منحرفة بعيدة عن روح الحق.
سابعًا: الكنعانيون: يرسل يابين ملك حاصور إلى ملوك الكنعانيين لمهاجمة رجال يشوع. "الكنعانيون" تعني (الهياج) أي الذين يختلقون جوًا من الشغب والهياج في كل ظرف حتى يفقد المؤمنون سلامهم الداخلي، ويعيشون كمن في وسط الأمواج[195].
ثامنًا: الأموريون: "الأموريون" تعني (يصبح مرًا)؛ عمل عدو الخير هو أن يمرر نفوس المؤمنين لكي يفقدهم كل عذوبة روحية في داخلهم، فيحطمهم باليأس والضجر.
إذن بدعوة من يابين ملك حاصور إِجتمع بهؤلاء الملوك بجوشهم: "شعبًا غفيرًا كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة ومركبات كثيرة جدًا" [4].
فالحروب الروحية شديدة وعنيفة ومُرّة، لأن الأعداء كثيرون جدًا وعنفاء لهم خيولهم ومركباتهم المتنوعة، منهم من يتقدم في خصومة وعداوة ليمرر حياتنا كيوباب ملك مادون، ومنهم من يستخدم كل وسيلة لكي نستمع لصوت العدو كملك شمورن، ومنهم من يحرضنا بالأمور الزائلة كملك أكشاف، ومنهم من ينفخنا بأفكار المجد الباطل والكبرياء كالملوك الذين في الجبل، ومنهم من يخدعنا كسرج منيرة كملك عربة جنوت كنروت، ومنهم من يثير القلائل حولنا كالكنعانيين أو يمرر الظروف المحيطة بنا كالأموريين... ما أكثر حيل إبليس عدونا فإنه يستخدم كل وسيلة لتحطيمنا. لهذا يقول الرسول بطرس: "إصحوا وإِسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9).
3. موقعة مياه ميروم...
"فاجتمع جميع هؤلاء الملوك بميعاد، وجاءوا ونزلوا معًا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل. فقال الرب ليشوع: لا تخفهم، لأنيّ غدًا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعًا قتلى أمام إسرائيل، فتعرقب خيلهم وتحرق مركباتهم بالنار" [5-6].
إن كان مع كل نصرة تهيج قوات الظلمة، فمع كل هياج لقوات الظلمة يؤكد الرب من جديد أنه يهب نصرة جديدة على مستوى أعظم... في الواقع أن سفر يشوع هو سلسلة من الحروب المتوالية، أو بمعنى أدق سلسلة من النصرات المتوالية، خلالها ينطلق المؤمن من مجد إلى مجد حتى يبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح (أف 4: 13)، وتتجمل الكنيسة كلها وتتهيأ بالمجد للعرس الأبدي.
يؤكد الرب ليشوع: "لا تخفهم"؛ فإن الله يريدنا في حربنا الروحية أن نكون مملؤين ثقة فيه أنه الغالب، وبه نغلب. يُريد أن يعمل بمؤمنيه وليس بعديمي الإيمان، يسند النفوس المتكئة عليه لا المرتبعة.
لماذا يقول الرب: "لأنيّ غدًا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعًا قتلى..." [6]، لأنه غدًا تُشير إلى ما بعد هذا الدهر، فإننا وإن كنا ننال نصرات متوالية، وننعم بسلطان روحي على الظلمة يتزايد مه نمونا الروحي، لكننا نبقى في حرب لا تنتهي حتى يأتي الغد الذي فيه يُلقى إبليس في البحيرة المتقدة نارًا. يقول العلامة أوريجانوس: [إنه الموعد الذي فيه تهلك كل القوة المعادية، حيث تُهزم تمامًا. وذلك عندما ترى الذي عن اليسار يُقال لهم: "اذهبوا عني إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). إنه ذات الوقت الذي فيه نحن أيضًا إن كنا منتصرين، أي استطعنا نوال النصرة في تبعيتنا ليسوع رئيسنا، يكون لنا الملكوت الذي أعده لقديسيه الذين نفذوا تعاليم الرب وصنعوا البر، ننعم به من أيدي سيدنا يسوع المسيح له المجد والقوة إلى دهر الدهور، آمين[196]].
"فجاء يشوع وجميع رجال الحرب معه عليهم عند مياه ميروم بغتة وسقطوا عليهم، فدفعهم الرب بيد إسرائيل فضربوهم وطردوهم إلى صيدون العظيمة وإلى مسرفوت مايم وإلى بقعة مصفاة شرقًا، فضربوهم حتى لم يبق لهم شارد" [7-8].
لقد تحققت الغلبة ليشوع ورجاله بضرب يابين وكل تابعيه حتى لم يبق لهم شارد، ويلاحظ في هذه المعركة الآتي:
أولاً: كما اجتمع الملوك المعادين تحت قيادة يابين الملك حاصور، هكذا إِجتمع رجال الحرب مع يشوع تحت قيادته، فإن حربنا الروحية هي لحساب قائدنا الحقيقي، يسوع المسيح ربنا، إن نزلنا المعركة تحت قيادته نغلب وننتصر، لكننا إن اتكلنا على ذواتنا ومهارتنا وقدرتنا وأسلحتنا نسقط وننهزم. لنصرخ على الدوام إلى يشوعنا فهو وحده العارف حيل إبليس بكل تفاصيلها وله السلطان أن يهدمها تمامًا.
ثانيًا: إن كانت هذه الحرب تُشير إلى الحرب الروحية القائمة في القلب، لكنها مع هذا فهي ليست حربًا فردية ضد كل واحد منا، إنما هي حرب مملكة إبليس ضد الكنيسة كلها بكونها مملكة الله. لهذا كما إجتمع جميع رجال الحرب مع يشوع، هكذا يليق بنا في جهادنا الروحي أن نحمل الروح الجماعية، ففي جهادي أطلب صلوات إخوتي المجاهدين مع آبائي وإخوتي الذين غلبوا وانطلقوا! إن كل نصرة تتحقق في أعماق نفسي إنما هي نصرة الكنيسة كلها خلالها يتحقق دخولها إلى كمال أعظم وجمال أروع، وعلى العكس كل ضعف أسقط فيه إنما هو على حساب الجماعة! ليتنا نجاهد بروح الجماعة، روح الوحدة والحب في المسيح يسوع ربنا.
ثالثًا: قام يشوع ورجاله بحرب هجومية ضد يابين ورجاله فجاءوا عليهم بغتة وسقطوا عليهم، وكأن السيد المسيح يُريد منا لا أن نقف لننتظر الخطية، وعند هجومها علينا ندافع عن أنفسنا إنما يليق بنا أن نبدأ بكل طاقتنا بالهجوم أولاً على كل خطية قبل أن يكون لها موضع فينا، وتحمل سلطانًا علينا. فلا نقف موقف الخوف والضعيف أمام الخطية إنما موقف التشدد والقوة لنغلب وننتصر ونطردها إلى صيدون العظيمة، أي إلى موضع الصيد. نصطادها نحن قبل أن تصطادنا، ولا نترك فيها شارد يهرب إلى حواسنا أو قلبنا الداخلي بل نحطمها تمامًا.
رابعًا: يقول الكتاب "طردوهم إلى صيدون العظيمة"، كلمة "صيدون" تعني (صيد)، لهذا فإن منطقة صيدون تُشير إلى الموقع الذي فيه يصطاد العدو نفوس المؤمنين، كقول المرتل: "هيأوا شبكة لخطواتي" (مز 57: 6). ولهذا سمح الله أن يتحقق طرد إبليس (يابين) وأتباعه إلى صيدون العظيمة، وكأنه يسقط في الفخاخ العظيمة التي نصبها المؤمنين. هو يقيم الفخ لنا، وهو الذي يسقط فيه. بالضربات التي يصوبها العدو ضدنا لإهلاكنا ننال كمؤمنين الغلبة والنصرة ونستحق الإكليل، أما هو فيمتلئ كأس شره ويسقط تحت الهلاك.
4. عرقبة خيلهم...
"ففعل يشوع بهم كما قال له الرب، عرقب خيلهم واحرق مركباتهم بالنار" [9]. يتسائل العلامة أوريجانوس عن سبب الأمر الإلهي بعرقبة خيلهم، أي ضرب خيلهم عند العرقوب دون أن يأمر باغتنام الخيل، في حين أنه في أيام موسى حين غلبوا مديان، "نهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم" (عد 31: 9)، وأحصيت الغنيمة فكان من بيتنها 61 ألفًا من الحمير (عد 31: 32-34) سمح لهم بسلبها لإستخدامهم الشخصي أما الخيل فقتلوها، لماذا؟
يرى القديس أمبروسيوس أن الإنسان بسقوطه تحت ثقل الخطايا صار كالأتن، إذ يقول: [الحيوان حيوان كسول وغبي يمكن بسهول إفتراسه... أي درس يفيدنا هذا الحيوان؟ إنه يليق بنا أن نكون أكثر حذرًا، ولا نعيش في غباء، في خمول الجسد والعقل! أليس بالحري يليق بنا أن نلجأ إلى الإيمان الذي يُخفف عنا أحمالنا الثقيلة؟![197]]. وفي نفس الوقت يُحذرنا ذات القديس من الإمتثال بالخيل قائلاً: [لماذا تحرم نفسك من العقل الذي وهبك إياه الله؟!... هذه هي إرادة الله ألا نكون هكذا، إذ يقول: "لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم" (مز 32: 9)[198]].
يرى العلامة أوريجانوس أن الأتن يستخدمها الإنسان في حمل الأثقال والسفر لخدمته وتعزيته، أما الخيل فيستخدمها في الحرب لهلاكه، لهذا صارت الأتن تُشير إلى جنس البشر بينما الخيل إلى إبليس المتعجرف المهلك. ولهذا اهتم الناموس بالحمير دون الخيل: "إذ صادفت ثور عدوك أو حمار شاردًا ترده إليه، إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حّله فلابد أن تحل معه" (خر23: 4-5). وفي سفر زكريا بينما يعلن عن دخول السيد المسيح ممتطيًا الأتان وجحش إبن أتان يؤكد ابادته المركبات الحربية والخيل علامة حلول السلام: "ابتهجي جدًا يا إبنة صهيون، اهتفي يا بنت أوشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هوعادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش إبن أتان، وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم وتُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 9-10). يقول العلامة: [أنظر فإنه حسب قول النبي أنه الذي يركب على الجحش قطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، لهذا أعتقد أن الأتان والجحش هنا يُشيران إلى المؤمنين الذي يجلس فيهم المسيح، وأن الخيل والفرس على العكس تمثل صورة للذين كانوا في السماء ونزلوا بسبب كبريائهم وتشامخهم... هؤلاء الذين تبعوا القائل: أصعد فوق مرتفعات الرب (السحاب)، أصير مثل العلي" (إش 14: 14). لهذا السبب على ما أظن يقول النبي: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدة قوته لا ينجى" (مز 33: 17). هكذا أيضًا قيل عن الذين يثقون في الشيطان: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 8). المقارنة هنا في الحقيقة ليست بين المركبات (الخيل) وبين الرب كأمرين نتضرع إليهما، إنما هنا يوضح أننا نطلب من الله الحقيقي أما هم فيتضرعون إلى المركبات والخيل أي الشيطان[199]]. إذن فالخيل التي يلتزم يشوع برجاله أن يعرقبها والمركبات التي يحرقها بالنار إنما تُشير إلى تحطيم قوى إبليس أي الخطية، خاصة شهوات الجسد المفسدة للروح.
إننا ملتزمون أن نستل سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 17) من غمده لنضرب به الشهوات الجسدية الشريرة كمن يعرقب الخيل. إن كان يابين، أي إبليس، يسعى وراءنا بخيله أي "الاهتمام بالجسد" الذي فيه عداوة لله (أف 8: 7)، مقدمًا لنا أفكاره المتعجرفة التي هي من قبيل الذهن الجسدي (كو 2: 8) فلنلجأ إلى يشوعنا الذي يقبلنا كجنود روحيين يحملون أسلحته التي تعرقب الخيول وتحرق المركبات الشريرة.
في دراستنا للمركبة الشاروبيمية الحاملة للعرش الإلهي رأيناها تمثل "الحياة البشرية" المقدسة، التي صارت بالروح القدس الناري عرشًا لله وهيكلاُ مقدسًا له[200]، كل ما ورد في المركبة من تفاصيل تطابق حياتنا التي تقدست في الرب، فإنه من الجانب الآخر فإن مركبات الشيطان هي القلوب الدنسة المصرة على شرها، والتي صارت عرشًا له، تحمل فكره وخداعاته وتعمل لحسابه... هذه التي تحترق معه بالنار المعدة لإبليس وجنوده!
مادمنا في العالم يستطيع الله أن يحوّل قلوب الأشرار إلى هيكل مقدس له بروحه القدوس إن قبلت عمله الناري فيه قبل أن تطرد إلى نار أخرى لا تليق بالمؤمنين، ولم تُعد للبشر بل لإبليس وملائكته!
5. الإبادة التامة للشر...
"ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور، وضرب ملكها بالسيف، لأن حاصور كانت قبلاً رأس جميع تلك الممالك. وضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرموهم، ولم يبق نسمة، وأحرق حاصو بالنار" [10-11].
لا يقف الأمر عند عرقبة خيل يابين وحرق مركباته بالنار، وإنما في جسارة وبقوة يرجع يشوع برجاله ليأخذ حاصور: يضرب ملكها بالسيف ويقتل كل نسمة بها، ويحرقها بالنار.
إن كانت حاصور التي تعني (القصر) مركز مملكة يابين، فيلزمنا بعد أن نغلب شهوات الجسد الشريرة بيشوعنا الحقيقي ونحرق كل أثر لها، فإننا نعود بيسوعنا إلى حاصور، إلى حيث كان إبليس يملك ويسيطر... إلى حياتنا التي إستخدمها العدو كقصر لمملكته، لكي نضرب إبليس بيسوع المسيح ربنا الغالب وحده. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لقد كنا تحت "ملك الخطية" (رو 6: 12)، تحت ملك الشهوات الردية، بمعنى أن الخطية بوجه عام تملك علينا، كقول الرسول: "إذًا الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3: 23). ففي كل واحد منا يوجد ملك خاص يسود علينا، ويسكن فينا، ففي إنسان يسكن البخل يشغل المملكة، آخر الغرور، وآخر الكذب، وآخر الشهوات الجسدية، وآخر الغضب، فيقول الرسول بولس: "إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته" (رو 6: 12). قبل أن يكون لنا الإيمان كان في كل منا مملكة للخطية، لكن بمجئ يسوع قُتل جميع الملوك الذين يسيطرون علينا... معلمًا إيانا كيف نقتلهم جميعًا ولا نترك أحدًا منهم يهرب. فإنه إن تركنا واحدًا يحيا لا يمكن أن نُحسب تابعين سيف يشوع. إن ملكت فيك خطية البخل أو الغرور أو الشهوات الجسدية فلا تكن من جنود إسرائيل ولا تكون قد إِتبعت الأمر الذي أعطاه الرب ليشوع[201]].
لقد كان الأمر الإلهي هو إبادة الشر تمامًا، فلا يُترك له أثر حتى لا يعود فيملك على القلب ثاينة، ها هو الأمر الذي أطاعه يشوع، إذ قيل "لأنه كان من قبل الرب أن يشدد قلوبهم (الملوك) حتى يلاقوا إسرائيل للمحاربة، فُيحرموا، فلا تكون عليهم رأفة بل يُبادون كما أمر الرب موسى" [20]. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يقل أن يشوع قد أمسك بواحد أثناء الحرب وترك الآخر، لكنه أمسك بالكل، أي أخذهم وقتلهم جميعًا، لأن الرب يسوع طهرنا من كل أنواع الخطايا وهدم جميعها. لقد كنا قبلاً في الحقيقية جميعنا "أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا" (تي 3: 3)، أي كانت فينا كل أنواع الخطايا التي توجد في الإنسان قبل الإيمان، لكن يشوع قتل كل الذين خرجوا للرب، فلا توجد خطية مهما كانت كبيرة لا يقدر الله أن يغفرها. إنه الكلمة وحكمة الله (1 كو 1: 24) الذي يغلب كل شيء. ألا تعتقد معي أنه قد رُفعت عنا الخطية بكل أنواعها في مياه المعمودية؟! هذا ما أراد الرسول بولس أن يقوله، إذ بعدما عدد كل أنواع الخطايا، أضاف: "وهكذا كان أُناس منكم، لكن إِغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11) [202]].
مرة أخرى يقول العلامة أوريجانوس: [كيف يتحقق فينا كلام الكتاب إنه لم تبق نسمة (يش 11: 11)؟... لنفرض أن إحساسًا بالغضب يرتفع في قلبي، يمكن لهذا الإحساس ألا يبلغ إلى العمل خشية العقاب العتيد، لكن هذا لا يكفي إنما حسب قول الكتب يجب أن أتصرف بحيث لا يبقى فيَّ أي حركة للغضب. فإن اضطربت النفس، حتى وإن لم يصل الفكر إلى حد العمل فإن هذا الاضطراب نفسه لا يليق بجندي المسيح. فجنود يشوع يجب عليهم أن يتصرفوا بحيث لا يتركوا شيئًا يتنغص في قلبهم. إن تُرك شيء ما سواء كان عادة أو مجرد فكرة خاطئة يمكن أن تنمو مع الزمن وتزداد وتتقوى وأخيرًا تقودنا إلى العودة للقيئ (أم 26: 11)، فتصير الأواخر أشر من الأوائل (لو 11: 26). هذا ما يقصده المزمور النبوى: "طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة" (مز 137: 9). فإنه يقصد بأطفال بابل هنا الأفكار الشريرة... هذه التي إن شعرنا أنها صغيرة وفي البداية يجب أن نمسكها ونقطعها ونضرب بها الصخرة، التي هي المسيح (1 كو 10: 4). يجب أن نقتلها حسب أمر الرب ولا نترك منها نسمة نتنسمها داخلنا. إذن طوبى لمن يمسك أطفال بابل الصغار ويضرب بهم الصخرة ويقتلها وهي بعد أفكار بدائية[203]].
يقول الكتاب عن يشوع ورجاله أهم "ضربوا كل نفس بها بحد السيف؛ حرموهم، ولم يبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار" [11]. لا يقف الأمر عند إبادة كل نسمة للشر حتى لا يتنسم داخلنا قط، وإنما أيضًا أحرق حاصور- قصر الملك يابين - بالنار. ما هذه النا التي يلقى بها يشوع على القصر إلاََّ نار الروح القدس الذي يحرق فينا كل الأشواك الخانقة للنفس، فلا تعود بعد حاصورنا قصرًا ليابين بل ليشوع، عوض مملكة إبليس تقوم مملكة يسوع ربنا بروحه الناري الذي يقدس أعماقنا الداخلية.
أخيرًا فإنه من قبل الرب تشدد الملوك الأشرار لمحاربة شعب الله، بهذا يمتلئ كأس شر إبليس وجنوده فيتأهلوا للإبادة والسحق بجدارة، وفي نفس الوقت تتشدد قلوب أولاد الله للحرب الروحية فيتذكرون في عيني الله ويستحقون أكاليل النصرة هذا وإن تشديد قلب الملوك لا يعني أن الله يلقي فيها القسوة، إنما يرفع يده عنهم لتظهر قسوتهم التي كان الله يحجزها إلى حين لحماية شعبها، لكن في الوقت المناسب يتركهم يعملون سؤل قلبهم فيسقطون في ثمر عملهم.
6. إِستراحت الأرض...
يقول العلامة أوريجانوس: [في أيام موسى لم يُقل ما قيل في أيام يشوع: "إِستراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23). فبالتأكيد هذه الأرض المملؤة صراعًا وحروبًا لن يمكن أن تستريح من الحرب إلاَّ بعطية الرب يسوع... ففينا يوجد مقر لكل قوم الرذائل العاملين في أرواحنا دون أن يتركوا لنا أي راحة. نعم ففي داخلنا الكنعانيون الفرزيون واليبوسيون الذين نطردهم بجهاد وسهر وصبر طويل، وفي النهاية تستريح أرضنا من الحرب[204]].
وفي موضع آخر يقول العلامة أوريجانوس: [كيف يؤكد لإبن نون أن الأرض استراحت من الحرب مع أن الحرب لم تتوقف في عهده؟ لقد كمل هذا في الرب يسوع... فإن كنت تجد فيك "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد" (غلا 5: 17) فإنك إذ تأتي ليسوع وتنال نعمة المعمودية لغفران الخطايا تستريح الأرض التي هي أنت من الحرب، بشرط أن تحمل في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا (2 كو 4: 10). بهذا تنتهي الحرب فيك، وتصير صانع سلام وتدعى إبن الله (مت 5: 9). نعم، يكون لك هذا عندما تنتهي الحرب وتنتصر على أعدائك، فتكون لك راحة في "كرمتك" التي هي يسوع المسيح وتحت التينة (ميخا 4: 4) التي هي الروح القدس، وعندئذ تشكر الله ضابط الكل في المسيح يسوع الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد (1 بط 4: 11)[205]].
الأصحاح الثاني عشر
حدود أرض الميراث
بعد أن سجل لنا الكتاب المقدس الأرض التي استولى عليها الشعب تحت قيادة موسى قبل عبور الأردن، وأرض كنعان التي استولى عليها الشعب تحت قيادة يشوع بعد العبور، ختم هذا بتسجيل حدود الأرض غرب وشرق الأردن.
1. تحديد الأراضي شرق الأردن [1-6].
2. تحديد الأراضي غرب الأردن [7-24].
1. تحديد الأراضي شرق الأردن...
في دراستنا لسفر العدد (ص 32)، رأينا أن طلب السبطين والنصف من موسى النبي الإستيلاء على أرض جلعاد شرقي الأردن لم يكن جذافًا، لكنه كشف عن نصيب كنيسة العهد القديم التي لم تتمتع بأردن المسيح، لكنها خلال الرموز والنبوات نالت نصيبًا مع كنيسة العهد الجديد (غرب الأردن) في الميراث الأبدي[206]. إن نهر الأردن هو الفاصل الذي يميز بين الإثنين، أو بمعنى أصح بين النوعين من الأعضاء المنتمين لكنيسة واحدة تمتذ منذ آدم إلى آخر الدهور.
لقد أراد الوحي الإلهي أن يضم الحديث عن الميراث شرقي وغربي الأردن معًا ليعلن وحدة الكنيسة؛ وإن كان أعضاؤها الأولون قد تمتعوا بالميراث خلال موسى (الناموس) الذي قادهم إلى الرجاء في مجيء يشوع الحقيقي، والأعضاء الآخرون تمتعوا بالميراث خلال يشوع نفسه.
2. تحديد الأراضي غرب الأردن...
ذكر الكتاب المقدس المنطقة التي استولى عليها السبعة أسباط ونصف غرب الأردن وقد ذُكرت أسماء المدن وملوكها القدامى الذين غلبهم يشوع بن نون ليُسلمها للأسباط وكأن الوحي يؤكد أنه عند الآب منازل كثيرة لكي يكون لكل منا منزله المقدس أو موضع راحة وميراث خاص به في المسيح يسوع. لقد طرد الملوك الأشرار (الشياطين) لكي نرث إلى الأبد! كل مدينة لها معناها الرمزي الذي يُشير إلى ميرثنا الأبدي، وكل ملك باسمه له أيضًا معناه الرمزي الذي يُشير إلى خطية معينة أو شيطان معين يلزمنا أن نسحقه حتى لا يرث شيئًا فينا بل نسترد الميراث الذي لنا في المسيح يسوع ربنا.
الفصل الثاني
تقـسـيم الأرض
الأصحاح الثالث عشر
التقسيم شرق الأردن
ختم الوحي الإلهي الفصل السابق بتحديد الأراضي التي استولى عليها الشعب سواء تحت قيادة موسى أو يشوع، مظهرًا الملوك الذين طُردوا أو قتلوا لكي يحتل يشوع مواقعهم إشارة إلى تحول مملكة إبليس التي إِغتصبها في قلوبنا إلى مملكة يشوع الحقيقي، والآن إذ شاخ يشوع بدأ يُقسم الأراضي على الأسباط، مبتدئًا بتقسيم شرق الأردن بين السبطين ونصف:
1. شيخوخة يشوع [1].
2. الأرض الباقية للإمتلاك [1-6].
3. التقسيم بالقرعة [6-7].
4. نصيب السبطين ونصف [8-33].
1. شيخوخة يشوع...
"وشاخ يشوع، تقدم في الأيام، فقال له الرب: أنت قد شخت. تقدمت في الأيام" [1].
إن كان يشوع رمزًا ليسوع المسيح، فلماذا قيل عن يشوع أنه قد شاخ وتقدم في الأيام، مع أن رب المجد يسوع لم يشخ قط؟ يمكننا أن نفهم الشيخوخة من جانبين:
أولاً: الشيخوخة بمعنى تقدم الأيام، ودخول الإنسان في حالة من القدم والضعف والعجز تنتهي بموته، هذه هي شيخوخة العجز التي لم تصب رب المجد يسوع، فإنه صعد وهو بعد رجل ناضج من جهة الجسد، حتى إِذ تتحد به كنيسته وتحمل سماته لا تحمل في داخلها شيخوخة روحية أو ضعفًا روحيًا. إنها كعريسها تحمل نضوجًا لا يشيخ، يُجدد مثل النسر شبابها. بمعنى آخر المسيحي الحق، وإن شاخ في الجسد وضعف لكنه يبقى في روحه وقلبه شابًا حيًا بلا ضعف في المسيح يسوع الذي لا يشيخ.
ثانيًا: الشيخوخة بمعنى الحكمة... "حكمة الشيوخ"، وهي لا ترتبط بالسن وإنما بنضوج الفكر والروح. لقد عاش آدم سنين طويلة على الأرض، لكنه بسبب إنحداره إلى إنحداره إلى الخطية لم ينل لقب "شيخ" ولا قيل عنه أنه "متقدم في الأيام"، لأنه لم يستفد من أيامه وإنما خسرها. أول من تمتع بهذا اللقب هما إبراهيم وسارة زوجته، إذ قيل "وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام" (تك 18: 11) وذلك عندما استضافا كلمة الله والملاكين في خيمتهما، فصارت حياتهما سماء يقطن فيها الله وملائكته، تأهلا لينال الوعد بإسحق رمز المسيح يسوع. وكأن الإنسان يصير بحق شيخًا ومتقدمًا في الأيام حينما يحمل في داخله الطبيعة السماوية، يستضيف الله ليملك فيه وينفتح على السمائيين كأحباء له! هنا أيضًا إذ يبدأ أيضًا يشوع في تقسم أرض الميراث، وكأنه خلال الرمز يقدم الميراث السماوي للمؤمنين، عندئذٍ يُقال عنه أنه شيخ ومتقدم في الأيام. في هذا يرمز يشوع ليسوع المسيح، ليس كشيخ في عجز، إنما كحكمة الله الذي يهبنا فيه الميراث الأبدي.
وللعلامة أوريجانوس تعليق جميل على عبارة "شاخ... وتقدم في الأيام"، إذ يقول: [هنا نجد الروح القدس هو الذي يعلن أن يشوع شيخ ومتقدم في الأيام... عبارة لا يمكن تطبيقها على خاطئ، لأن الخاطئ غير متقدم في الأيام، إذ لا يفعل هذا: ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13)، وإنما على الدوام ينظر إلى الوراء (لو 9: 62)، لهذا فهو لا يصلح لملكوت الله (لو 9: 62). على العكس إذ نمتد إلى قدام ساعين نحو الكمال نكون متقدمين في الأيام[207]].
إن هذا اللقب الذي أُعطي ليشوع بن نون من الرب نفسه إنما هو بمثابة شهادة تكريم له، علامة إمتداده إلى قدام لا لينعم بالميراث فحسب وإنما ليقدم الميراث للآخرين. إنه ليس فقط يحمل الطبيعة السماوية إنما يقدمها لإخوته وأولاده.
هذا ومن جانب آخر فإن يشوع صار متقدمًا في الأيام، لأنه كرمز ليسوع شمس البر، كان في كل تصرف تشرق الشمس عليه فتعطيه يومًا جديدًا مقدسًا مليئًا بالأعمال المجيدة، وكأنه يقتني هذه الأيام الروحية العاملة بالرب لتصير لحسابه، فيدعى بالمتقدم في الأيام.
2. الأرض الباقية للإمتلاك...
يقول الرب ليشوع: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك" [1].
كيف يقول الكتاب: "استراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23)، ليعود فيقول: "بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك"؟ الأرض التي وطأها يشوع بقدميه ملك عليها طاردًا المقاومين لتستريح من الحرب. إنها جماعة المؤمنين التي قبلت دخول السيد المسيح إلى حياتهم الروحية والجسدية، فغفر كل خطاياها، وأعطاها سلامًا مع الآب، بل وسلامًا مع بعضهم البعض، وسلامًا داخل الإنسان نفسه بين الروح والجسد بتقديس الكل! هذه هي الراحة الحقيقية التي صارت لكل مؤمن حقيقي في علاقته بالله أبيه وإِخوته البشريين بل وفي علاقته حتى بجسده ومشاعره وأحاسيسه الداخلية... إنه ينعم براحة فائقة في المسيح يسوع. أما الإعلان عن وجود أرض كثيرة جدًا للإمتلاك، فهذا أمر طبيعي لأن أرض كثيرة لم يكن بعد قد دخلها يشوع... لا يزال حتى الآن يوجد ملحدون كثيرون لم ينعمون بدخول الرب إلى حياتهم ليملك فيهم. يؤكد المرتل أنه يجب أن يملك السيد المسيح، قائلاً: "كل الأمم تتعبد له" (مز 72: 11)، وأيضًا: "ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية" (مز 72: 8-9).
يمكننا أيضًا أن نقول أن السيد المسيح - يشوع الحقيقي- إذ إِرتفع على الصليب دخل الجحيم ليملك على الذين ماتوا على الرجاء منطلقًا بهم إلى فردوسه، بهذا نفهم العبارة: "استراحت الأرض من الحرب". لقد غلب المسيح الرأس نيابة عن البشرية كلها بصليبه. لكن هذه الغلبة إنما هي الإمكانية التي قُدمت للكنيسة عبر الأجيال لكي بغلبته تغلب، وبنصرته تحطم الجحيم وتنطلق بكل نفس إلى الفردوس... بهذا نفهم العبارة الثانية: "قد بقيت أرض كثيرة جدًا للإمتلاك". لقد ملك الرب حين كان بالجسد على الأرض، ولا يزال يملك وهو قائم وسط كنيسته عبر الأجيال مقدمًا النصرة للمؤمنين، فاتحًا باب الخلاص لكل الأجيال.
3. التقسيم بالقرعة...
"إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكًا كما أمرتك" [6].
أُستخدمت القرعة في الكتاب المقدس في العهدين القديم والجديد، ولم تكن تُمارس كحظ يُصيب الإنسان كيفما كان، وإنما تُمارس بعد صلوات مرفوعة لله، لكي تتوقف الإرادة البشرية وتنتظر الإرادة الإلهية. وينتقد العلامة أوريجانوس[208]. رجال عهده، أي رجال القرن الثاني الميلادي، لأنهم لا يستخدمونها في سيامات الأساقفة والكهنة والشمامسة، مقدمًا من العهدين دلائل على إستخدامها.
أولاً: في العهد القديم: جاء في سفر اللاويين "ويلقي هرون على التيسين قرعتين، قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرب هرون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطية، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل فيوقف حيًا أمام الرب ليكفر عنه ليرسله إلى عزازيل إلى البرية" (لا 16: 8-10). واستخدامها يشوع عند تقسم الأرض الذي أعطاها الرب لشعبه. وفي سفر يونان إذ شعر الملاحون بالعجز التام عن التصرف صرخوا إلى آلهتهم وأخيرًا ألقوا قرعة، فعرفوا أنه بسبب يونان كانت هذه البلبلة (يونان 1: 7). وجاء في سفر الأمثال: "القرعة تبطل الخصومات وتفضل بين الأقوياء" (أم 18: 18)، وكأن إلقاء القرعة بين الأقوياء روحيًا يكشف عن الحق وينزع من بينهم كل خصومة أو إختلاف في الرأي.
ثانيًا: في العهد الجديد: إذ كان يجب إقامة واحد عوض يهوذا كرسول للرب، "أقام (الرجال) إثنين يوسف الذي يدعى بارسابا الملقب يوستس ومتياس، وصلوا قائلين: "أيها الرب العارف قلوب الجميع عيّن أنت من هذه الإثنين أيا اخترته ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة الذي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه، ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس فحُسب مع الأحد عشر رسولاً" (أع 1: 23-26). ويعلق العلامة أوريجانوس على ذلك بقوله: [إستخدام الرسل لها يبين أنه إذا استخدمناها بإيمان مطلق مع الرجوع إلى الصلاة، فإنها تكشف للناس عن إرادة الله الخفية بوضوح[209]]. لكن البعض يفترض بأن ذلك إنما تم قبل حلول الروح القدس الذي يُعطي الكنيسة روح التمييز وإدراك إرادة الله بالصلاة مع الحياة المقدسة دون الحاجة إلى قرعة، كما حدث في إِختيار الشمامسة (أع 9: 2-3) [210]].
لعل الله سمح باستخدام القرعة في تقسم الأرض حتى لا تتدخل العوامل الشخصية في التوزيع، لكي لا يشعر أحد الأسباط أن ما ناله هو بفضل إنسان، إنما هو هبة من الله نفسه، عطية الله المجانية، فلا يمكن لعظيم أو صغير أن يذل سبطًا بأنه قد وهبه شيئًا من عندياته.
4. نصيب السبطين والنصف...
لم يكن ممكنًا للسبطين والنصف - الذين يمثلون رجال العهد القديم - أن يرثوا
قبلنا، وإنما يستلمون الميرث من يد يشوع نفسه، كما يقول الرسول بولس: "فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم، بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا" (عب 11: 39-40).
لقد تحدد ميراثهم في أيام موسى، لكنهم عبروا يحاربون مع بقية الأسباط حتى يملك الكل معًا في الوقت المحدد، حين يشيخ يشوع وتستريح الأرض من الحرب. في هذا - كما يقول العلامة أوريجانوس- [إشارة إلى جهاد أحبائنا الراقدين معنا خلال الصلاة عنا حتى نرث جميعًا [211]].
الأصحاح الرابع عشر
نصيب كالب
إذ قُسمت الأراضي الواقعة شرق الأردن على السبطين ونصف، طالب كالب بن يفنة بالجبل الذي وعده به موسى بسبب أمانته وإيمانه عندما جاء للتجسس منذ حوالي 45 عامًا. لقد طالب بالجبل قبل أن يقوم يشوع بتوزيع الأراضي الواقعة غرب الأردن.
1. مقدمة عن كيفية التقسيم [1-5].
2. كالب يطلب نصيبه [6-9].
3. كالب فوق الزمان [10-11].
4. كالب المجاهد [11].
5. كالب والجبل المقدس [12].
6. تمتعه بحبرون [13-15].
1. مقدمة عن كيفية التقسيم...
يرى العلامة أوريجانوس أنه يستحيل أن يهتم الكتاب الإلهي بعرض أبعاد الأرض ميراث كل سبط بدقة وبشيء من التفصيل لمجرد التعرف على واقع كل سبط في الأرض الجديدة، وإنما كما جاءت الطقوس اليهودية شبهًا للسماويات وظلاً لها (عب 8: 5)، فإن تقسيم الأرض وأسماء المناطق ومدن الملجأ ومدن اللاويين وإقامة الهيكل فيما بعد في أورشليم إلخ... هذه الأمور في تفاصيلها الدقيقة تحمل أسرارًا سماوية يكشفها الروح لنا. يقول العلامة: [عندما تأتي أيها اليهودي إلى أورشليم وتجدها مدمرة، وقد تحولت إلى تراب ورماد، لا تبكي كطفل (1 كو 4: 20). لا تحزن إنما اطلب مدينة في السماء عوض التي تبحث عنها على الأرض! أرفع نظرك إلى فوق فستجد "أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا" التي هي حرة (1 كو 14: 20). لا تكتئب لأن الهيكل متروك، ولا تيأس إذ لا تجد كاهنًا، ففي السماء مذبح ويوجد كهنة للخيرات العتيدة يجتازون أمام الرب على رتبة ملكي صادق (عب 5: 10). إنها محبة الله ومراحمه أنه رفع عنكم الميراث الأرضي لتطلبوا السماوي[212]].
وإنني لا أُريد الدخول في تفاصيل كثيرة وإنما أكتفي بعرض بعض المفاهيم الروحية للتقسيم تاركًا روح الرب يسندك ويرشدك، محولاً حتى ما يبدو خاصًا بالأرض القديمة إلى ما يخص خلاصهم وأبديتهم.
في هذا الأصحاح يميز الوحي الإلهي بين ثلاث فئات عند التقسيم [1-3]:
أ. الفئة الأولى: وهي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام موسى، أي خلال الناموس، وتضم سبطي رأويين وجاد ونصف سبط منسي، لكن هذه الفئة لن تتسلم الميراث إلاَّ على يدي يشوع. إنها تمثل فئة رجال العهد القديم الذين عاشوا أيضًا خلال يشوع الجديد. وفي شيء من التجاوز نستطيع أن نقول بأن هذه الفئة أيضًا تضم الذين هم في عهد النعمة لكنهم للاسف يسلكون كمن هم تحت الناموس، حرفين في فهمهم للكلمة, وناموسيون في تصرفاتهم، وضيقون في فكرهم. مساكين هؤلاء الذين عبروا مع يشوع نهر الأردن لكن بحياتهم وفكرهم ارتدوا إلى ما هو وراء الأردن ليعيشوا كأطفال روحيين عوض النضوج الروحي. إنهم يمثلون الشاب المريض الذي يحّن إلى تصرفت الطفولة، يلهو باللبن واللعب عوض التمتع بالطعام القوي والجدية في التصرف.
ب. الفئة الثانية: هي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام يشوع، أي في عهد النعمة، تضم تسعة أسباط ونصف، وهي تمثل الإنسان الذي ارتفع من تحت الناموس لينطلق من الحرف إلى الروح. هؤلاء لا يرثون مع السبطين والنصف أرض جلعاد الخاصة برعاية الغنم، بل يرثون الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، فينطلق المؤمن من رعاية الغنم حيث الفكر الحيواني الجسداني إلى الميراث الأبدي حيث الطعام الجديد.
ج. أما الفئة الثالثة: فهي جماعة اللاويين الذين لا ينالون نصيبًا في وسطهم، ولا يكون لهم نصيب في الأرض. لأن الرب نفسه نصيبهم (13: 14). هذه إن صح لنا التعبير أن نقول "فئة الكاملين" الذين يعيشون مع يشوع ليس طمعًا في أرض أو بركات حتى السماوية، وإنما يطلبون الرب نفسه نصيبهم. فإن كانت الفئة الأولى تمثل العابدين من أجل البركات الزمنية (الذين تحت الناموس)، والثانية تمثل العابدين من أجل البركات الروحية، فإن الثالثة لا تطلب شيئًا غير الله وحده الذي هو كل حياتهم وفرحهم وإكليلهم. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يحصل اللاويين على الميراث من موسى ولا من يشوع لأن الرب إله إسرائيل هو نصيبه... فإن عددًا كبيرًا من شعب الله لديهم الإيمان البسيط في خوف الله، يرضون الله بأعمالهم الطيبة وعاداتهم الأمينة، لكن قليلون ونادرون من تُوهب لهم الحكمة والعلم ويحفظون قلبهم نقيًا ويزرعون في نفوسهم أجمل الفضائل، ويكون لعلمهم الإمكانية لإنارة الطريق للآخرين... هؤلاء بلا شك يُقال عنهم أنهم لاويون وكهنة، نصيبهم هو الرب، الذي هو الحكمة التي اختاروها فوق كل شيء[213]].
ليتنا نصير كاللاويون والكهنة لا يكون لنا نصيب في أرض الميراث، إنما يكون هو نصيبنا، نقبله فينا بكونه حكمة الله (1 كو 1: 30)؛ فهو برّنا (أر 33: 6، 1 كو 1: 30) وسلامنا (أف 2: 14) وفداؤنا (1 كو 1: 30).
2. كالب يطلب نصيبه...
"فتقدموا بنوا يهوذا إلى يشوع في الجلجال، وقال له كالب بن يفنة القنزي: أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك في قادش برنيع كنت ابن أربعين سنة حين أرسلني موسى عبد الرب من قادش برنيع لأتجسس الأرض..." [6-7].
قبل أن يبدأ يشوع في القرعة لتوزيع الأرض بين الأسباط التسعة والنصف، تقدم كالب بن يفنة القنزي ليشوع ليذكره بالوعد الذي ناله منذ خمسة وأربعين عامًا حين عاد معه إلى موسى بعد التجسس يتحدثان بأمانة وإيمان عن أرض الموعد على خلاف بقية الجواسيس الأخرى الذين أذابوا قلب الشعب من الخوف. لم يدخل كالب في القرعة مع بقية الشعب إنما طالب بامتياز خاص به ناله من الرب شخصيًا على فم موسى النبي، أما سرّ هذا الامتياز فهو:
أولاً: في دراستنا لسفر العدد رأينا أن كلمة "كالب" إنما تعني (قلب)، وأن التحام يشوع بكالب إنما يعني التحام الإيمان بيسوع المخلص بنقاوة القلب العملية للتمتع بالميراث الأبدي[214]]. ويرى العلامة أوريجانوس أن "يفنة" تعني (تحوّل) وأن "قنزي" تعني (المحتقر)[215]. يمكننا إذن أن نقول أن امتياز كالب إنما لأنه يمثل القلب المتولد عن التحول عن الاحتقار. بهذا سبق الكثيرين في نوال الميراث، ليس لأنه أفضل منهم، وإنما لأنه وهو المحتقر قد تحول عن هذه الحياة ليعيش قلبًا نقيًا في الرب. كلنا أبناء القنزي أي ابناء المحتقر، إذ "بإنسان واحد (بأبينا آدم) دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). لكن كالب يعرف أن يستبدل هذا الإنسان الواحد الذي جلب إليه الاحتقار والموت بإنسان آخر هو ربنا يسوع فصار له عطية البرّ وتمتع بحق الامتلاك، وكما يقول الرسول عن هذا التحول: "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح" (رو 5: 17). وكأن الرسول يقول في هذا الأصحاح (رو 5) بعد أن كنا بسبب أبينا آدم مملوكين للموت، صرنا بيسوع المسيح ربنا نملك الحياة فيه! بعد أن كنا موضوع ميراث للخطية صرنا نحن وارثين الملكوت الأبدي.
حقًا لقد نُسبنا جميعًا للقنزي أي المحتقر، لكن إن صار لنا في نسبنا يفنة أي (التحول)، فإننا بهذا ننتقل من أبوة آدم الجسدية إلى الأبوة الروحية التي لله في ابنه يسوع المسيح فننعم بالميراث الأول.
ثانيًا: ارتباط كالب بيشوع، وقد سبق لنا الحديث عن ارتباط القلب بالإيمان، فلا نقاوة للقلب خارج الإيمان بيسوع، ولا غلبة له بدونه. حين نرتبط نحن كقلوب بيشوعنا الحق، إنما ننفتح له فيملك في إنساننا الداخلي ويتربع على القلب كعرش له، وكما يملك فينا نحن نملك به في ميراثه الأبدي. لنرتبط بيشوعنا، ولنسلم له حياتنا فيملك فينا ونحن نملك فيه. وكما يُناجي القديس أغسطينوس ربه قائلاً: [لتستلم كل قدراتي لكي تمتلكها بكمالها... لتُعيد إليَّ سيادتي بكاملها[216]].
ثالثًا: كان لقاء كالب بيشوع في قادش برنيع، و"قادش" إنما تعني (قداسة)، فإن لقاءنا مع ربنا يسوع لا يكون بحق إلاَّ خلال الحياة المقدسة كثيرون يظنون أنهم يعرفون السيد ويلتقون به ربما خلال الكرازة به وربما خلال صنع المعجزات باسمه، لكنهم إن لم يلتقوا به في الحياة المقدسة يقول لهم: "ابعدوا عنيّ يا ملاعين لأنيّ لا أعرفكم"...
رابعًا: إن كان كالب قد نال الوعد من الله خلال موسى ممثل الناموس، لكن تحقيق الوعد لن يتم إلاَّ بيشوع الذي وحده يقدر أن يهب المكافأة. يقول العلامة أوريجانوس: [لقد تعلم كالب أولاً من موسى وبعد ذلك من يشوع الذي عاونه. إنه يقول ليشوع: "أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله" [6]. أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب، فإنه ليس من يقدر أن يدرك الكلمة التي نطق بها الرب لموسى إلاَّ يشوع وحده ليس من له إدراك للناموس مثل يسوع في تعليمه، إذ هو الذي علمنا وكشف لنا كل شيء، وهو الذي أوحى لبولس أن "الناموس روحي" (رو 7: 14)[217]]. فيشوعنا هو الذي يعرف الوصية التي خلالها ننال المكافأة ليست كاستحقاق ذاتي لنا وإنما خلال يسوع ربنا، الذي يُقدم لنا الوصية والذي يسندنا في تنفيذها والذي يهبنا المكافأة عنها.
خامسًا: أدرك كالب أن ميراثه إنما هو شركة ميراث مع يشوع، إذ يقول له: "أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك". إن امتيازنا الحق في التمتع بالميراث هو أننا "وارثون مع المسيح" (رو 8: 17)، ما نناله إنما هو ميراث المسيح نفسه، وأمجاده التي ننعم بها فيه، أي خلال عضويتنا في جسده. ليس لنا في أنفسنا استحقاق الميراث، لكن ثوبتنا في المسيح وهبنا هذا الاستحقاق. يقول الرسول بولس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح" (أف 1: 3)، مؤكدًا أن مجد نعمته التي أنعم بها علينا إنما هي في المحبوب (أف 1: 6)، فإن كان المسيح هو محبوب الآب الذي له المجد، فإننا إذ صرنا فيه صارت لنا نعمة هذا المجد الذي له! وبأكثر إيضاح يُكمل الرسول: "الذي في نلنا نصيبنا" (أف 1: 11).
سادسًا: إن كان ميراث كالب هو ثمرة اتحاده مع يشوع لينعم به وفيه بالمجد، فإن هذا لا يعني سلبية كالب أو تراخيه في تكميل الوصية، إذ يقول: "وأما أنا فاتبعت تمامًا الرب إلهي" [5]. وكأنه يقول: من جانبي قبلت وصية الرب إلهي الذي التقي معه على مستوى شخصي فصار منسوبًا ليّ "إلهي" وتممت وصيته تمامًا. إن كانت نعمة الله غنية جدًا في العطاء، لكنها لا توهب للمتراخين في تنفيذ الوصية الإلهية.
أخيرًا نقول أن كالب يدعو الله "إلهي"، فمن يقبل الله إلهه شخصيًا، منسوبًا إليه، إنما أيضًا يقبل أمجاد الله أمجاده، وسمات الله سماته، ونوالنا الميراث إنما هو ثمرة ملكيتنا لله وملكية الله لنا: "أنا لحبيبي وحبيبي ليّ" (نش 6: 3).
3. كالب فوق الزمان...
"والآن فها قد استحيانيّ الرب كما تكلم هذه الخمس والأربعين سنة من حين كلم الرب موسى بهذا الكلام حين سار إسرائيل في القفر. والآن فها أنا اليوم ابن خمسو وثمانين سنة، فلم أزل متشددًا كما في يوم أرسلني موسى" [10-11].
إن كان الميراث الذي ينعم به المؤمن هو الحياة الأبدية التي تعلو فوق الزمن، وهذا الميراث إنما هو امتداد لحياة يعيشها الإنسان هنا، لهذا يليق بنا لكي ننعم بالميراث أن ندخل الآن في دائرة الأبدية فلا نلتصق بدائرة الزمن التي بدورانها ترفعنا وتهبط من وقت إلى آخر. نعيش ونحن بعد على الأرض بفكر سماوي لا يقدر الزمن أن يفسده أو يضعفه. لقد نال كالب الوعد وهو في سن الأربعين وكان متشددًا في عمل الرب، والآن يتقدم ليشوع وهو في الخامسة والثمانين ولا يزال متشددًا كما كان منذ خمس وأربعين سنة. وكما سبق فتحدثنا في الأصحاح السابق أن المؤمن لا يعرف الشيخوخة العاجزة قط، فإنه وإن كان إنسانه الخارجي يفنى فالداخل يتجدد من يوم إلى يوم (2 كو 4: 16).
يعلق العلامة أوريجانوس على كلمات كالب بن يفنة: "كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن" [11]، قائلاً: [القديس في الحقيقة يحمل ذات القوة في الحاضر كما في الماضي، في الأمور الجديدة كما في العتيقة، في الأناجيل كما في الناموس. كأنه يقول أنه يحمل ذات القوة في أيام يشوع كما كانت له في أيام موسى، فإن القلب اليقظ يدرك أسرار العهدين بذات الفوة[218]].
4. كالب المجاهد...
"كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول" [11]. إن كان كالب قد نال الوعد في زمان موسى فإنه تمتع بذلك لأنه في قوته الروحية بالرب يقول: "تبعت تمامًا الرب إلهي" [8]، فكان متشددًا في تنفيذ وصية الرب؛ نواله الوعد لم يزده إلاَّ قوة روحية فلم يقدر الزمن أن يثبط من همته أو يرخي ذراعيه ، بل يقول: "هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول" [11]. كأنه يقول: لست أطلب الميراث وأنا مسترخِ لكنني تدربت بالروح كيف أجاهد روحيًا، محاربًا قوات الظلمة، كيف أخرج من البرية وأدخل أرض الموعد. لقد نجحت حين أخرجني موسى للتجسس، والآن ليّ ثقة في الرب أنني أنجح في الدخول إلى الموضع الذي أرثه... هذه الثقة، وهذه القوة، ليست من ذاته، إذ يقول: "لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة، لعل الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب" [12].
إن قوة كالب دائمًا متشددة للحرب وللخروج وللدخول، أي للحرب الروحية خلالها يخرج من عار العبودية ليدخل في مجد الحرية. إن حياته خروج ودخول كعملية واحدة متكاملة وبغير توقف. خروج مستمر عن أعمال الإنسان العتيق أي صلبه، ودخول إلى أعمال الإنسان الجديد أي التمتع بقيامته. خروج عن الأنا بصلبها ودخول في المسيح يسوع واهب القيامة. خروج عن محبة الأمور الزمنية ودخول في الحياة السماوية.
5. كالب والجبل المقدس...
"فالآن اعطني هذا الجبل الذي تكلم عنه الرب في ذلك اليوم" [12]. يقول العلامة أوريجانوس: [القديس لا يطلب شيئًا منخفضًا أو دنيئًا، ولا يسأل أمرًا في قاع الأدوية، إنما يطلب جبلاً مرتفعًا، جبلاً على قمته مدن عظيمة محصنة. يقول الكتاب بالحق: "إن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة" [12]. إذن هذا هو موضوع طلبه، إذ كان يعرف فن الحرب، كما هو مكتوب: "الحكيم يتسور مدينة الجبابرة ويُسقط قوة معتمدها" (أم 21: 22). هل تظن أن سليمان بقوله هذا أراد منا أن نتعلم بأن الحكيم يستولى على مدن ويهدم أسوار مبنية بالحجارة؟! إنه قد عنى بالمدينة والأسوار أي العقائد والبراهين التي بها يبني الملحدون الفلاسفة كل الأراء الدنسة المضادة للناموس الإلهي والتي يستخدمها الوثنيون والبرابرة... ما هي المدن التي يهدمها الحكماء عند إعلاء كلمة الحق؟ إنها مدن الكذب التي يجب بالحق هدمها، كقول الرسول: "هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2 كو 10: 5). اليوم يقف كالب الحكيم جدًا أمام يشوع ويعده أنه سيكون قويًا في الحرب مستعدًا للصراع، طالبًا منه الإذن بالجدال، لكي يهاجم حكماء الدهر الذين يؤكدون الكذب عوض الحق، ولكي ينقضهم ويقهرهم ويقلب كل أبنية مغالطاتهم، لهذا إذ نظر يشوع نشاطه "باركه" [13]؛ بلا شك باركه بإرادة وجرأة! وأنت أيضًا إن كرست حياتك للدراسة والتأمل في ناموس الله بروح الحكمة تصير قلبًا (كالب) يلهج في ناموس الله، قادرًا على هدم المدن العظيمة المحصنة، أي هدم أقوال مخترعي الكذب، بهذا تستحق بركة يشوع وتتسلم فيه حبرون[219]].
هذا الجبل الذي اقتناه كالب إنما هو الجبل المقدس الذي يُعلن في آخر الأيام، فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (إش 2: 2-4، مز 24: 63). أي السيد المسيح نفسه! هذا هو ميراثنا الحقيقي الذي نشتهي التمتع به!
6. تمتعه بحبرون...
"فباركه يشوع وأعطى حبرون لكالب بن يفنة ملكًا... لأنه اتبع الرب إله إسرائيل" [13-14]. أثناء حديثنا في الأصحاح العاشر عن المدن التي استولى عليها يشوع، رأيناه يغتصب حبرون من ملكها (10: 37)، وقلنا أن "حبرون" تعني (قران) أو (زواج)، فبعد أن كانت النفس مرتبطة بالشيطان كعريس لها تحمل سماته الشريرة وتشترك معه في أفكاره الخبيثة وأعماله المهلكة، صارت تحت ناموس يشوع، عروسًا له تتحد به لتحمل فكره وسماته! هذه المكافأة التي ينالها كالب الأمين في تبعيته للرب، يدخل في حالة زواج روحي مع ربنا يسوع المسيح!
وللعلامة أوريجانوس تعليق آخر إذ يقول: [حبرون معناها اتحاد أو زواج، ولعل هذا هو معنى هذه المقاطعة. فالمغارة المزدوجة التي أعدها الأب إبرآم موجودة في هذه المدينة حيث يرقد فيها باقي الآباء مع زوجاتهم؛ فيرقد فيها إبراهيم مع سارة (تك 23: 19)، واسحق مع رفقة، ويعقوب مع ليئة، إذًا استحق كالب أن ينال ميراثًا هو رفات هؤلاء الآباء, فبالحكمة التي اتسم بها كالب كانت قوته في أيام يشوع كما في أيام موسى، ففهم ماذا تعني هذه الوحدة بين الآباء وزوجاتهم. أدرك لماذا استراحت هنا سارة وحدها مع إبراهيم بينما حُرمت هاجر وقطورة من هذا الشرف، ولماذا رقدت ليئة وحدها بجوار يعقوب...[220]]. لعل العلامة أوريجانوس يرى أن كالب قد أدرك بحكمته بنواله حبرون أن ينال الميراث الأبدي مع المسيح يسوع على مستوى الوحدة بين الآباء وزوجاتهم، ولكن بمفهوم روحي أعمق وأعظم.
الأصحاح الخامس عشر
نصيب يهوذا
إن كان غرب الأردن يمثل كنيسة العهد الجديد، فإن يهوذا يحتل مركز الصدارة، بكونه السبط الذي منه جاء ابن الله متجسدًا، فجاءت القرعة أولاً له. وكان لكالب بن يفنة قسمًا في وسط بني يهوذا...
1. نصيب يهوذا [1-12].
2. كالب وقرية أربع [13-14].
3. كالب وقرية دبير [15-19].
4. أسماء المدن [20-62].
5. بقاء اليبوسيين في وسطهم [63].
1. نصيب يهوذا...
في تقسيم أرض جلعاد شرق الأردن التي تملكوها خلال الناموس (أي في عهد موسى) بدأت القرعة بروأيين، لأنه البكر جسديًا. أما هنا فإذ يُشير التوزيع إلى ميراث العهد الجديد فلا إلتزام ببكورية الجسد بل بباكورة الروح، لهذا وقعت القرعة أولاً على السبط الملوكي "سبط يهوذا" الذي منه خرج ربنا يسوع المسيح حسب الجسد، "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5). كان لابد أن تختفي باكورية الجسد لتظهر باكورية الروح، وذلك إعلانًا عن احتلال ربنا يسوع مركز الصدارة كبكر البشرية عوض آدم الأول الجسداني، الأمر الذي هيأ له الكتاب المقدس برموز كثيرة كاحتلال يعقوب الباكورية عوض عيسو البكر جسديًا، وإسحق ابن الموعد عوض إسماعيل البكر حسب الجسد إلخ... الآن إذ عبرنا الأردن وصارت لنا الأرض الجديدة ميراثًا يتقدم بكرنا الروحي كقائد الكنيسة كلها وواهبًا سمته إذ هي أيضًا به قد صارت "كنيسة الأبكار". باكورة الروح في العهد الجديد لا تفقد الآخرين نعمة الباكورة، كما في الجسد حيث يحتلها المولود أولاً وحده!
ليتنا لا نطلب أن يكون موضعنا وسط سبط رأويين هذا الذي مزق ثيابه (تك 37: 29) ففقد باكوريته، إنما في سبط يهوذا الروحي بثبوتنا في الأسد الخارج منه، لنتأهل لنوال النصيب الأول من ميراث العهد الجديد. لنتقدم مع يهوذا إلى يشوع لننال نصيبنا فيه، ونأخذ قرعتنا بعد أن توقفت الحرب وتمتعنا بالسلام، وقيل عن جسدنا: "استراحت أرض من الحرب"!
لقد أوضح الوحي الإلهي حدود نصيب يهوذا من كل اتجاه، الأمر الذي يحمل مفاهيم روحية عميقة. هنا نردد ما يقوله العلامة أوريجانوس: [بالرغم عن عجزنا فهم كل سرّ وشرحه، لكننا نحاول ذلك بالقدر الذي تهبنا إياه نعمة الله[221]].
من جهة فإن حدود نصيب يهوذا هي "تخم أدوم برية صين من جهة الجنوب" [1]. في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن أدوم مأخوذة عن آدم الذي يعني (ترابي)، (دموي) وأن آدم إنما يُقصد به عيسو أو سعير[222]]، وهو يُشير إلى عدو الخير الذي ينزل بقلبنا إلى التراب لنحيا بفكر أرضي، وبطبعه الدموي المحب لمقاتلتنا. يقول القديس أغسطينوس: [لا تنتظر أمانًا فالعدو يلاحقك باستمرار. إن لم يكن غضبه علنيًا فهو يسعى بمكر، ولذلك فقد سُمي الأسد والتنين، سموه أسدًا لما يبديه من غضب، وسموه تنينًا لما يخفي من مكره[223]], فإن كنا في المسيح ننعم بالميراث لكن العدو يقف عند الحدود كأدوم عل حدود يهوذا، يقف كَمن عند الأبواب مشتاقًا أن يسلبنا طبيعنا السماوية، منحدرًا بنا إلى محبة الأرضيات، إنه يقف كمقاوم يطلب هلاكنا ولا يستريح إلاَّ بسفك دمنا روحيًا.
يبدأ حدود نصيب يهوذا بالكشف عن وجود تخم أدوم وبرية صين، والأخيرة تُشير إلى التجربة[224]. فلا يمكن العبور إلى أرض يهوذا والتمتع بميراثه ما لم يجتاز أولاً برية التجارب، فالطريق كرب وضيق تحوط به التجارب بغير توقف، لكن هذا كله يزيد جهادنا قوة، حيث نترنم وسط الدموع، قائلين: "عند كثرة هموميّ في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي". وسط الضيق يعلن السيد عن ذاته كسرّ راحتنا الحقيقية الأبدية. لهذا يقول القديس أغسطينوس: [التجارب والضيقات، وإن كثرت، سبيل لك إلى الكمال، وليست سبيلاً للهلاك]، كما يقول: [العنقود مدّلى في الكرمة وحبة الزيتون على أمها، وطالما هما على أمهما يتمتعان بالهواء الطلق. فلا العنقود يصير خمرًا ولا حبة الزيتون تصير زيتًا ما لم يمر فوقها حجارة المعصرة. تلك هي حالة البشر الذين دعاهم الله قبل الأجيال ليجعلهم شبيهين بابنه الذي ظهر، بنوع خاص، في آلامه، وكأنه كرمة ثمينة[225]].
يكمل الكتاب حديثه عن حدود يهوذا، هكذا: "وكان تخمهم الجنوبي أقصى بحر الملح من اللسان المتوجه نحو الجنوب، وخرج إلى الجنوب عقبة عقربيم وعبر إلى صين وصعد من جنوب قادش برنيع وعبر إلى حصرون، وصعد إلى أدار إلى القرقع" [2-3]. وكأنه يقول إن من يُريد التمتع بالسبط الملوكي يجتاز أولاً هذه الأماكن المُرّة حتى يعبر إلى الميراث في آمان. ليعبر أدوم وأيضًا صين، وليجتز البحر المالح وعقبة عقربيم! ماذا يعني "البحر المالح" إلاَّ التغلب على قلاقل الحياة ودوراناتها؟! ففي مياه البحر المالح يكمن التنين البحري (مز 104: 26) الذي حطمه السيد المسيح بدخوله إلى المياه ليصلبه في عقر داره! إذن لنحطم التنين خلال صلبنا مع ربنا يسوع المسيح فنعبر أرض ميراثنا بسلام. أما "عقبة عقربيم" فتُشير أيضًا إلى محاربات العدو ضدنا لأن "عقربيم" تعني في العبرية (عقارب)، وقد وهبنا الله سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوت العدو ولا يضرنا شيء (لو 10: 16). يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنا نرغب في الدخول إلى ميراث سبط يهوذا، يلزمنا أن نمارس هذا النوع من الصعود, فنطأ العقارب ونسحقها، هذه هي التي تقطع الطريق وتهرب. إنه بلا شك الطريق الذي سلكه حزقيال، إذ يقول له الرب" "أنت ساكن بين عقارب" (حز 2: 6)[226]].
هذه هي المناطق المحيطة بميراث يهوذا، إنها تجارب (صين) مستمرة وقلاقل (البحر المالح) وحروب من الشيطان كالعقارب (عقبة عقربيم) وشراسة منه (أدوم)، أما الداخل فمفرح للغاية ومبهج، حيث نلتقي بمياه عين (ينبوع) شمس [10]، وأورشليم مدينة الملك العظيم ورمز الحياة السماوية.
يقول العلامة أوريجانوس: [ماذا تعني هذه الشمس؟ إنها تلك التي كُتب عنها: "ولكم أيها المتقون إسمي تشرق شمس البر" (ملا 4: 2)؟ فإن بدأت تتجاوز البحر المالح تجد نفسك في أرض يهوذا حيث ينبوع الشمس. ما هو هذا الينبوع؟ بالتأكيد ذاك الذي قال عنه يسوع: "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14). وإذ نلتقي بنبع الشمس الذي تكلمنا عنه نجد المدينة، كما هو مكتوب أنه يوجد "بيت شمس" [10]. هذا ويقال أن بمصر أيضًا "بيت شمس"، لكن مدينة مصر أخذت اسم "الشمس" عن تلك التي يشرق بها الآب السماوي على الأبرار والأشرار (مت 5: 45) أما مدينة يهوذا فتخص القديسين وحدهم، لأنها مدينة الله، التي بها الينبوع إذ "نهر سواقية تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز 46: 4)[227]]. يمكننا أيضًا أن نميز بين بيت شمس التي لمصر وتلك التي في تخوم يهوذا، الأولى تقوم داخل النفس المتعبدة لتمثال الشمس الحجري، التي لها صورة الشمس دون نورها أو بهائها. أما بيت شمس التي ليهوذا فتمثل النفس التي صارت بيتًا لشمس البر، أي هيكلاً للرب الذي يُنير حياتنا، هذا الذي يفيض ينبوع مياه الروح القدس فيه، إذ يقول حزقيال: "ثم أرجعني إلى مدخل البيت وإنما بمياه تخرج من عتبة البيت نحو المشرق، لأنه وجه البيت نحو الشرق، والمياه نازلة من تحت جانب البيت الأيمن عن جنوب المذبح" (حز 47: 1). هذا ما دعاه سفر يشوع "مياه عين شمس"، أي المياه التي تنبع خلال بيت المسيح، شمس البر!
إن كانت أورشليم قد صارت في ميراث سبط بنيامين (18: 27) لكنها على حدود السبطين خاصة أنهما كونا مملكة مستقلة فيما بعد (مملكة يهوذا)، وقد تمتع يهوذا بالسكنى في أورشليم [63]، هذه التي يقول عنها القديس أغسطينوس: [أورشليم الأرضية هذه إنما هي ظل أورشليم السماوية[228]]. فقد اختار الله أورشليم بكونها الموضع الذي يسكن فيه اسمه (1 مل 11: 13، 2 مل 21، 4)، المدينة المقدسة التي يقطن فيها عرش الله (إر 3: 16 إلخ)، وعلامة لحلوله وسط شعبه، لذلك حينما يؤدب شعبه يهدد بتدميرها وخرابها (إر 9: 11، 13: 9، 27؛ خر 4، 5، ميخا 3: 12). تحدث عنها الأنبياء كمركز للعمل المسياني، إليها يعود كل الأمم (إش 2: 2 إلخ، 60: 1 إلخ، 66: 18- 20، ميخا 4: 1-3، حج 2: 7 إلخ). وفي العهد الجديد أعلن السيد المسيح اشتياقه لخلاص المدينة، وقد صارت في الكنيسة الأولى بعد حلول الروح القدس مركزًا للمسيحية فيها يلتقي الرسل والتلاميذ... لكن أنظار المؤمنين كانت بالأكثر تلتقي نحو أورشليم العليا (غلا 4: 26، عب 12: 22، رؤ 14: 1، رؤ 21) كغاية عبادتهم[229]].
والعجيب أن الكتاب يضف ميراث يهوذا هكذا: "هذا تخم بني يهوذا مستديرًا حسب عشائرهم" [12]. لم ينعم يهوذا فقط بالبكورية الروحية وبمياه عين شمس وإنما أيضًا بأن يكون نجمه "مستديرًا". نحن نعلم أن الدائرة تُشير إلى الأبدية حيث ليس لنا نقطة بداية ولا نهاية... فما ورثه يهوذا إنما هو الحياة الأبدية، أي التمتع بالسمة السماوية التي فوق كل حدود العالم وكأن من يدخل في هذا السبط روحيًا باتحاده مع الأسد الخارج منه، إنما ينطلق إلى ما هو فوق الميراث الزمني، ويرتفع فوق كل الأرضيات، ليصير قلبه وكل تخمه مستديرًا!
حقًا لقد كان سبط يهوذا كسبط ملوكي يحمل القوة في داخله بحمله الطبيعة السماوية، حتى وإن أحاط به الأعداء من كل جانب: موآب من الشرق، وأدوم من الجنوب، وعماليق من الجنوب الغربي وإن كان من بعيد، والفلسطينيون من الغرب!
2. كالب وقرية أربع...
في الأصحاح السابق طالب كالب بن يفنة القنزي حقه الذي وعده به الرب على لسان موسى، وهو امتلاك الجبل حيث المدن الحصينة وحبرون التي تعني (قران) أو (زواج). والآن إذ تسلم كالب "حبرون" والتي تدعى أيضًا "قرية أربع"، "طرد من هناك بني عناق الثلاثة: شيشاي وأخيمان وتلماي أولاد عناق" [14].
إن كان كالب بن يفنة القنزي الذي يُشير- كما قلنا- إلى القلب الذي تحوّل عن الاحتقار ودخل إلى المجد، قد نال حبرون مكافأة له، فدخل في زواج أو قران مقدس وروحي، فيه تتحد النفس مع عريسها إلى الأبد، فإن حبرون من جانب آخر تدعى قرية أربع. رقم 4 يُشير إلى العالم باتجاهاته الأربعة: الشرق والغرب والشمال والجنوب، فإنه أيضًا يُشير إلى الجسد المأخوذ من هذه الأرض أو هذا العالم. فصاحب القلب المقدس، الذي تحول إلى عريسه الأبدي يملك على جسده طاردًا منه بني عناق الثلاثة ليملك الرب أيضًا فيه. لا يكفي أن تكون قلوبنا أو حياتنا الداخلية مقدسة، وإنما يلزم أن نتطلع إلى أجسادنا بنظرة مقدسة، فكما نقدم للعريس قلوبنا الداخلية هكذا نقدم له أجسادنا، فيعمل الإنسان في كليته بنغم متوافق. يُشبه القديس غريغوريوس النيصي الإنسان في كليته بالقيثارة التي تحمل أوتارًا مختلفة لكنها تفدم بالروح القدس قطعة موسيقية متناسقة تُفرح قلب الله.
يرى العلامة أوريجانوس أن "عناق" تعني متعجرف أو غير متضع، و"شيشاي" تعني خارج عن، أي خارج عن القديسين وخارج عن الله الحق ذاته، "أخيمان" تعني أخي بعيد عن الحكمة، و"تلماي" يعني معلق هاوية[230]. خلال هذه المعاني يمكننا أن نقول أن حبروننا أي جسدنا الترابي متى سيطر عليه عناق أي روح الكبرياء وعدم الاتضاع إنما يسيطر عليه ثلاثة من مواليده يعملون معًا كملوك عليه ألا وهم: الخروج عن الله الحق وبالتالي البعد عن الحكمة مما يدفع الإنسان إلى أن يكون معلقًا في الهاوية أو منحدرًا إليها. ليتنا نكون ككالب، نطرد عنه الكبرياء أصل الداء، فلا نعود بعد نكون خارج الله سرّ حياتنا، ولا نحرم من الحكمة الإلهية وبالتالي لا ننحدر إلى الهاوية، بل على العكس نعود إلى الله فننعم بحكمته ونرتفع به من الهاوية إلى الحياة الأبدية.
3. كالب وقرية دبير...
"صعد من هناك (حبرون) إلى سكان دبير، وكان اسم دبير قبلاً قرية سفر. وقال كالب: من يضرب قرية سفر ويأخذها أعطيه عكسة ابنتي امرأة. فأخذها عثنئيل بن قناز أخو كالب، فأعطاه عكسة ابنته امرأة وكان عند دخولها أنها غرته بطلب حقل من أبيها، فنزلت عن الحمار، فقال لها كالب: مالك. فقالت: اعطني بركة، لأنك أعطيتني أرض الجنوب فاعطني ينابيع ماء، فإعطاها الينابيع العليا والينابيع السفلى" [15-19].
لقد سأل كالب كممثل للقلب المقدس إن كان أحد يضرب قرية سفر "الكتاب" ويأخذها، فإنه يقدم له ابنته عكسة امرأة، وقد قام أخوه عثنئيل بن قناز بذلك، فأخذ قرية سفر التي صارت دبير أي (نطق) أو (تدبير)، فتزوج بعكسة. إن عثنئيل تعني (استجابة الرب)، فإنه لا يستطيع أحد أن يتقدم إلى قرية الكتاب المقدس ولا أن يفهم أسرارها العميقة ما لم يستجب الرب له، ففهمنا للكتاب هو عطية الله ونعمته التي يهبها لسائليه وإذ نال عثنئيل الكتاب أي قرية سفر، صارت بالنسبة له دبير، أي تحولت من كتاب حرفي إلى نطق وفهم داخلي وتدبير حيّ فيه... أي تحول من حرفية الناموس القاتلة إلى الروح واهب الحياة. أما زواجه بعكسة ابنة كالب، إنما تعني التصاقه بابنة الحياة المقدسة، التي تسأل البشرية أن يدخلوا إلى قرية الكتاب ليكشف الله لهم أسرارها. وعكسة نفسها كابنة الحياة المقدسة في الرب إنما تُشير أيضًا إلى معرفة الأسرار الروحية، وكأن عثنئيل التصق بأسرار الكتاب ليس كقرية يعيش فيها فحسب وإنما كزوجة شريكة حياته!
ماذا فعلت عكسة أو أسرار الكلمة الإلهية بزوجها عثنئيل الذي استجاب له الرب طلبته؟ لقد أخذت من أبيها حقلاً كبركة تقدمها لزوجها، ثم عادت فنزلت عن الحمار لتطلب ينابيع ماء لرجلها فأعطاها أبوها الينابيع العليا والينابيع السفلى. يا لها من صورة رائعة للنفس التي تلتصق بالمعرفة الروحية التي هي ابنة الحياة المقدسة، فإنه خلال هذه الابنة تنعم النفس بالحقل أي الدخول إلى الكتاب المقدس بكونه الحقل الذي تعمل فيه لحساب الله وتفرح بثمر الروح، كما ترى المعرفة الداخلية قد نزلت عن الحمار، أي نزلت عن الاهتمام بالجسد، لتطلب ينابيع ماء أي ثمار الروح، فيوهب لها ثمارًا على مستوى سماوي علوي، كما تنعم بالثمر الذي تعيش به هنا على الأرض، يرافقها زمان غربتها أي (الينابيع السفلى).
4. أسماء المدن...
حصر الكتاب المقدس أسماء المدن التي في تخم يهوذا، وكأن الوحي الإلهي يُريد أن يؤكد أن الميراث متسع لمن يريد، وأن عند الآب منازل كثيرة... ليتنا نؤمن ونجاهد برجاء شديد أننا نجد لنا في إحدى هذه المدن – السماوية - موضعًا لنا.
5. بقاء اليبوسيين في وسطهم...
"وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم" [63].
"إلى هذا اليوم" في الكتاب المقدس تعني (إلى إنقضاء يوم هذا العالم)، فهل يسكن اليبوسيون في أورشليم مع بني يهوذا إلى إنقضاء العالم؟ إن فسرنا ذلك روحيًا، فإن هذه الحقيقة مُرّة لكنها واقعية أن الزوان (اليبوسيين) يبقى مع الحنطة (بني يهوذا) في الكنيسة، أي أورشليم، إلى نهاية العالم، حيث يأتي وقت الحصاد ويفرز الزوان عن الحنطة. لقد نصحنا السيد المسيح: "دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه" (مت 13: 29). يقول العلامة أوريجانوس: [إذ نسمع في الإنجيل بأن الحنطة تنمو مع الزوان، فإنه بنفس الطريقة يوجد في أوشليم أي الكنيسة اليبوسيون الذين يسلكون بحياة رديئة، هؤلاء الفاسدون في إيمانهم كما في أعمالهم وكل طريقة حياتهم. من المستحيل تتنقى الكنيسة بالكلية طالما هي على الأرض. يستحيل تتنقى فلا يكون ولا خاطئ واحد أو غير مؤمن، بل يكون الكل فيها قديسين، ليس فيهم أدنى خطية، هذا يمكن تطبيقه بخصوص من كانت خطاياهم مختفية، أو نتشكك في أمرهم، لكننا لا نقول أننا لا نطرد من الكنيسة الأشرار الظاهرين[231]].
إن كانت كلمة "يبوسي" تعني "يدوس بالأرجل"[232]. فليحذر كل واحد منا لئلا يوجد في قلبه شيء يدوس علينا بالأقدام، أي خطية معينة تذل القلب وتدنس مقدسه الخفي. ليته لا يكون في داخلنا يبوسيون، هؤلاء الذين يسلكون في القلب كالخنازير التي تدوس دررنا بارجلها وتلتفت لتمزقنا، كقول رب المجد (مت 7: 6)!
الأصحاح السادس عشر
نصيب أفرايم
بعد يهوذا جاءت القرعة على أفرايم:
1. نصيب أفرايم بعشائره [1-9].
2. بقاء الكنعانيين في وسطهم [10].
1. نصيب أفرايم بعشائره...
كلمة "أفرايم" تعني (الثمر المتكاثر)، كأن هذا السبط إنما يضم جماعة المؤمنين الذين قبلوا عطية المسيح لهم، روحه القدوس ساكنًا فيهم يهبهم ثمره المتزايد. هؤلاء بحق يستحقون الالتصاق بإخوتهم بني يهوذا، لأنه إن كان يهوذا يُشير إلى التمتع بالاتحاد مع السيد المسيح الخارج من هذا السبط، والانتساب له، فإن بني أفرايم يمثلون أصحاب الثمار المتكاثرة في المسيح يسوع بواسطة روحه القدوس، الذي يأخذ مما له ويخبرنا (يو 16: 15). إنه يهبنا سمات السيد المسيح نفسه، فيعطينا محبة المسيح وفرحه وسلامه وصلاحه وطول أناته إلخ... (غلا 5: 22) وذلك خلال دخوله بنا إلى الثبوت في المسيح، أو إتحادنا معه وفيه. إذن فثمر الروح لا ينفصل عن الوحدة مع الآب في المسيح يسوع، وكأن أفرايم إنما يجب أن يلتصق بيهوذا ويصحبه! بمعنى آخر، ليت كل مؤمن من انتسب لأفرايم، وصار له ثمر الروح القدس ينطلق خلال هذا الثمر إلى إتحاد أعمق مع السيد المسيح.
يشجعنا القديس جيروم أن نلتصق بهذا السبط إذ لنا معه نصيب في الميراث الإلهي أو الإكليل، قائلاً: [كن أفرايم أيضًا، كن مثمرًا، لتنتج الأعمال الصالحة، وعندئذ يكون لك إكليل الرب[233]].
ويلاحظ في تقسيم أرض الموعد أن أفرايم ونصف منسي أخذا منتصف كنعان (السامرية)، لأن شكيم كان قد عينها يعقوب ليوسف (تك 48: 21-22، يش 42: 32)، فيها دُفنت عظام يوسف، وقد صارت من نصيب منسي، بينما صارت شيلوه من نصيب أفرايم ولكلا البلدين ذكريات روحية خاصة لدى الشعب القديم، نكتفي هنا بالحديث عن شيلوه بكونها نصيب أفرايم. فإن "شيلوه" غالبًا ما تعني (موضع الراحة)، تبعد حوالي 9 أميال شمال شرق بيت إيل وحوالي 17 ميلاً شمال أورشليم، ربما تكون سيلون الحالية.
تمتع أفرايم بشيلوه بكونها المدينة التي تمثل الحضرة الإلهية وسط شعبه، فقد اختارها يشوع مقرًا للتابوت والخدمة، وفيها قسم يشوع الأرض ووزعها على الأسباط (18: 1، 8-10)، وقد بقيت الخيمة حوالي 300 عامًا في شيلوه. وفي عهد القضاة كان الشعب يجتمع معًا سنويًا في شيلوه للتعييد وربما لتقديم الذبيحة كعلامة فرح بالله الساكن في وسطهم، وكانت بنات شيلوه يرقصن ابتهاجًا بالعيد. وفي إحدى تلك الأعياد، خطف البنياميون 200 منهن وتزوجوا بهن (قض 21: 19-23؛ 1 صم 1-3). وكانت شيلوه مسكن عالي الكاهن وصموئيل. لكن الله رفض شيلوه فصارت عبرة أمام كل الشعب، إن الله إن كان قد أحب شيلوه هذه القرون لكنها إذ اصرت على الشر هجرها وسمح بخرابها، لهذا كان يُهدد الله أورشليم فيما بعد أن تصير كأختها شيلوه! إنها مثل الإنسان الذي ينعم بفيض حب الله وعطاياه المجانية فتكون دينونته أشد إن أصر على العصيان والحياة الدنسة. لقد رفض الله مسكن شيلوه ولم يعد التابوت هناك، بل أصعده داود إلى أورشليم (2 صم 6)، ونقلت الخيمة إلى نوب في الجنوب (1 صم 21: 1-9)، ومن هناك إلى جبعون ثم أورشليم (2 أي 1: 3-4). هناك سكن أخيا النبي (1 مل 14: 1-16). ويظهر أن شيلوه كانت خربة في أيام إرميا النبي (إر 7: 12، 14؛ 26: 6، 9) وفي أيام القديس جيروم. وقد أظهرت الحفريات الدنمركية (1930-1932) أن شيلوه قد خربت حوالي عام 1050 ق.م، وبقيت هكذا لعدة قرون، لهذا فغالبًا ما يكون قد تم على يدّي الفلسطينيين بعد غلبتهم على أفيق[234].
إن كان لنا ثمر روح الله وحسبنا أعضاء في سبط أفرايم الروحي، إنما تقوم شيلوه في داخلنا، التي ينبغي أن نحذر لئلا تخرب وتنهدم بسبب تراخينا وفساد حياتنا، فينزع الرب بركته ويبحث عن أورشليم عوضًا عنها! لنخف عن موضع استقرار الرب فينا فلا نحرم من حضرته الدائمة فينا إلى الأبد في داخلنا!
2. بقاء الكنعانيين في وسطهم...
كما ترك يهوذا اليبوسيين في وسطهم، هكذا ترك أفرايم الكنعانيين يسكنون في
وسطهم في جازر، إذ يقول الكتاب: "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيدًا تحت الجزية" [10].
يحذرنا العلامة أوريجانوس من هؤلاء الكنعانيون الساكنين مع أفرايم، قائلاً: [إن كنت تحمل بالحق ثمار الرب (كأفرايم) وترى إنسانًا يعيش في إهمال وعدم نظام فاعلم أنه من الكنعانيين. فإن لم تستطيع أن تطرده من الكنيسة، كما لم يطرد بنو أفرايم الكنعانيين، فاتبع مبدأ الرسول: "ثم نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب" (2 تس 3: 6)[235]].
ويرى العلامة أوريجانوس أن جازر تعني (اتحاد ضيق)، وأن الكنعانيين يمثلون الجسد، وأفرايم يمثل الروح، فإنه متى تركت النفس للجسد أن يطلق شهواته الشريرة تكون قد اتحدت في جازر، أي خلال (اتحاد ضيق) يجعلنا كعبيد تحت الجزية. لهذا ليت نفوسنا في اتحادنا بالجسد لا تدخل معه في جازر، أي في اتحاد ضيق، إنما تقبله مقدسًا في الرب، ليعيش الإنسان بكليته حرًا جسديًا وروحيًا، لا يتمرر من الشهوات الجسدية ولا أخطاء الروح.
على أي الأحوال، إن كان نصيب أفرايم يعتبر أغنى المناطق خصوبة وأروعها جمالاً لكنها كانت تحمل خطرًا إذ وُجد فيها الكنعانيون، وهكذا مع غنى العطية توجد مقاومة!
الأصحاح السابع عشر
نصيب منسي
وقعت القرعة بعد أفرايم على منسي، وقد طالبت بنات صلفحاد بنصيبهن كما أمر الرب موسى النبي (سفر العدد 27)، وقد إمتاز بنو يوسف بحبهم للكفاح وغيرتهم لنوال نصيب أعظم خلال الجهاد.
1. نصيب منسي بكر يوسف [1-12].
2. نصيب بنات صلفحاد [3-4].
3. بقاء الكنعانيين بين سبط منسي [13].
4. غيرة بني يوسف [14-18].
1. نصيب منسي بكر يوسف...
في الميراث الروحي لا يوجد التزام ببكورية الجسد بل الروح، فاحتل يهوذا مركز الصدارة مع أنه ليس بكرًا حسب الجسد، والآن نجد منسي يأتي بعد أفرايم الأصغر منه حسب الجسد، لقد نُزعت بكورية منسي ليسبقه أفرايم في التمتع بالميراث، لأن أفرايم يعني ثمر الروح المتكاثر، أما منسي فيعني نسيان العالم. يمكننا القول بأن ابني يوسف أفرايم ومنسي يمثلان عملاً واحدًا متكاملاً، أفرايم يُقدم الجانب الإيجابي وهو الشبع بثمر الروح والدخول إلى الحياة السماوية، أما منسي فيُمثل الجانب السلبي، وهو نسيان هموم العالم وملذاته. حقًا لا شبع بالسماويات دون التخلي عن محبة الزمنيات، ولا نسيان دون التمتع بالسماويات، ولكن الجانب الإيجابي يُعطى له الأولوية.
في أكثر من موضع يرتبط السبطان معًا أفرايم ومنسي فيقول المرتل: "قدام أفرايم وبنيامين ومنسي أيقظ جبروتك وهلم لخلاصنا" (مز 80: 2) ويقول القديس أُغسطينوس: [يظهر الله أمام أفرايم ومنسي... إنك تظهر أمام من هو مثمر، كما تظهر أمام من ينسى حتى لا يعود بعد بل تكون له الذاكرة التي تنقذه[236]].
ويعلق القديس جيروم على كلمة "منسي"، قائلاً: [تعني (نسيان)... فإن الابن الذي أخذ ميراثه وبدده، نسى ما يخصني، وها هو الآن يتذكرني. إني أدعوه منسي، من "النسيان"، لأنه لم ينسى بل رجع إلى أبيه[237]]. وكأن سبط منسي إنما يُشير إلى الإنسان الراجع إلى حضن ابيه بعد أن نسيه زمانًا، لكنه عاد فتذكره ولا يعود ينساه.
يتمتع الابن الراجع إلى أبيه بنصيب منسي الذي يضم في تخمه مدينة شكيم، التي أُعطيت للاويين وقد اختيرت كإحدى مدن الملجأ (يش 20: 7). لشكيم ذكريات مقدسة في ذهن الشعب القديم فبالقرب منها خيم إبراهيم (تك 12: 6)، وهناك ابتاع يعقوب حقلاً نصب فيه خيمته (أع 7: 16)، وبالقرب منها رعى إخوة يوسف أغنامهم (تك 37: 12-13)، وفيها قرأ يشوع سفر الشريعة (يش 8: 30)، وقدم للشعب خطابه الوداعي (يش 24: 1)... وكما أبغض الله شيلوه لانحرافها هكذًا أيضًا بالنسبة لشكيم التي أقيم فيها مذبح للبعل (قض 8: 33، 9: 4)، وهناك ثار عشرة أسباط بني إسرائيل وأقاموا يربعام بن نباط ملكًا عليهم (1 مل 12: 1-9)، فصارت عاصمة إسرائيل في عهده (1 مل 12: 25) ومركزًا للسامريين... قد صارت رمزًا لانقسام الشعب وانتزاع روح الحب والوحدة.
"شكيم" في العبرية تعني (كتف - الجبل)، ربما لأنها عند سفح جبل جرزيم (قض 9: 7) في الوادي بين هذا الجبل وجبل عيبال. مع بداية القرن العشرين لا يُشكْ في أنها كانت في موقع "تل البلاطة" التي تبعد ميلاً ونصف شرق نابلس، والتي يرى البعض أنها أيضًا شكيم القديمة. والأخيرة "نابلس" تبعد حوالي 41 ميلاً شمال أورشليم، خمسة أميال ونصف جنوب شرق السامرة. يوجد في هذه المنطقة قليل من السامريين ولهم معبد خاص بهم، فيه يمارسون عبادتهم أيام السبوت، ولهم مدرسة لتعليم اللغة السامرية [238]].
2. نصيب بنات صلفحاد...
في دراستنا لسفر العدد[239]. رأينا كيف إستطاعت بنات صلفحاد أن يتمتعن بميراث أبيهن، وبسببهن تغيرت شريعة الميراث عند بني إسرائيل. وقد حملت قصتهن رموزًا روحية سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل.
3. بقاء الكنعانيين بين سبط منسي...
إن كان سبط أفرايم لم يقدر أن يطرد الكنعانيين فسكن الكنعانيون في جازار وسـط السبط، فإن إخوتهم بني منسي أيضًا امتثلوا بهم وتركـوهم، حيثما تشـددوا لـم
يطردوهم بل جعلوهم تحت الجزية [12-13].
4. غيرة بني يوسف...
إلتقى السبطان معًا بكونهما بني يوسف وتكلما مع يشوع، قائلين: "لماذا أعطيتني قرعة واحدة وحصة واحدة نصيبًا، وأنا شعب عظيم لأنه إلى الآن قد باركني الرب" [14]. التقاء السبطين معًا وإدراكهما أنهما من أب واحد هو يوسف، وحديثهما بروح الوحدة "أنا شعب عظيم" أعطاهما نعمة في عيني يشوع، فإنه ليس شيء يجعل صلواتنا مقدسة في عيني الله وطلباتنا مقبولة لديه مثل التقائنا معًا بروح واحد في الرب، وحديثنا مع الله بقلب واحد، كأعضاء متحدة بالرأس الواحد! بهذا تغتصب مراحمه لننعم بنصيب أعظم! هذا ما يؤكده السيد نفسه بقوله: "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم".
امتاز بنو يوسف بالغيرة المقدسة في الرب، فإذ اتحد أفرايم مع منسي، التقى الثمر الروحي المتكاثر مع نسيان محبة العالم وهمومه، اتقد القلب نارًا مشتاقًا إلى نصيب أعظم في السماويات. خلال هذه الغيرة يُغتصب ملكوت السموات، والغاصبون يختطفونه (مت 11: 12). ملكوت السموات لا يوهب للمتراخين والفاترين بل للقلوب المؤمنة بحقها في الرب، المجاهدة بلا انقطاع لتنعم بالنصيب السماوي الأعظم.
سر نجاح بني يوسف ليس فقط وحدتهم في الرب وجهادهم المملوء غيرة مقدسة، وإنما أيضًا إدراكهم مركزهم الجديد في الرب ومعرفتهم لحقهم فيه، إذ يقولون: "أنا شعب عظيم، لأنه إلى الآن قد باركني الرب". حقًا ما أعظم أن يدرك المؤمن أنه وإن كان بذاته لا شيء، لكنه في المسيح يسوع شعب عظيم قد باركه الرب. يحمل في قلبه وجسده شعبًا عظيمًا هو المشاعر المقدسة والأحاسيس المقدسة والإرادة المقدسة في الرب والمواهب المقدسة إلخ... فيه طاقات جبارة هي عطية الله له الذي يباركه. خلال هذا الفهم يطلب المؤمن كابن لله له حق التمتع بما هو أكثر، لأن "الذي له يُعطي فيزداد، والذي ليس له فالذي عنده يؤخذ منه".
"قال لهم يشوع: إن كنت شعبًا عظيمًا فإصعد إلى الوعر واقطع لنفسك هناك في أرض الفرزيين والرفائيين إذ ضاق عليك جبل أفرايم" [15].
يقول العلامة أوريجانوس إن الفرزيين تعني (تُعطي ثمرًا)، والرفائيين تعني (أمهات مُرتخيات). فإن كان بنو يوسف قد طالبوا يشوع بنصيب أكبر، فقد فتح لهم الوعر ليصعدوا فيقطعوا الأشجار التي بلا ثمر "أو ذات الثمار غير الصالحة ويغرسوا الأشجار الصالحة المثمرة. فالميراث لا يتحقق إلاَّ بجانبين: سحق الشر وممارسة الصلاح في الرب، رفض أعمال الإنسان العتيق والتمتع بأعمال الإنسان الجديد! لنطرد الفرزيين الذين "يعطون ثمارًا" لكنها أثمار الشر المُهلكة ليقوم عوضه "أفرايم" الذي به الروح المتكاثر. ولنطرد الرفائيين أي الوالدات المتراخيات اللواتي ينجبن محبة العالم وملذاته وليقم عوضًا عنهم بنو منسي الذين ينسون كل محبة زمنية!
إن كان قلبنا لازال وعرًا فلأنه تحت حكم الفرزيين أصحاب الثمر الشرير والرفائيين والدو الأفكار الضعيفة المتراخية في الجهاد الروحي... لكننا بيسوع عوض الوعر يُقام فردوس الله الذي ليس فيه ثمر شرير ولا موضع للتراخي، بل فيه بنو أفرايم وبنو منسي، الثمر الصالح والزهد في الزمنيات!
يعلق العلامة أوريجانوس على كلمات يشوع هذه، قائلاً: [لنحييّ الجبل فينا، فنقتلع الأشجار التي بلا قيمة وبلا ثمر لكي نزرع حقلاً جديدًا، يتجدد باستمرار، فنحصد الثمار: "بعضًا مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين" (مت 13: 8-23). هذا التعليم نجده في الكتاب المقدس إذ يقول: "والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10). هذا ما علّم به يشوع بن نون أجدادنا بخصوص الأشجار العقيمة التي يجب اقتلاعها، وهذا ما يأمرنا به السيد الرب في إنجيله[240]].
الأصحاح الثامن عشر
نصيب بنيامين
للأسف بقدر ما كانت الأسباط الثلاثة "يهوذا وأفرايم ومنسي" تتسابق على التمتع بالميراث ونوال أكبر نصيب ممكن، إذا ببقية الأسباط متراخية.
1. تراخي الأسباط السبعة [1-10].
2. نصب بنيامين [11-28].
1. تراخي الأسباط السبعة...
"واجتمع كل جماعة بني إسرائيل في شيلوه ونصبوا هناك خيمة الاجتماع، وأخضعت الأرض قدامهم، وبقى من بني إسرائيل ممن لم يقسموا نصيبهم سبعة أسباط، فقال يشوع لبني إسرائيل: حتى متى أنتم متراخون عن الدخول لامتلاك الأرض التي أعطاكم إياها الرب إله آبائكم...؟!" [1-3].
إذ صارت شيلوه تمثل الحضرة الإلهية وسط الشعب، فيها أُقيمت خيمة الاجتماع، وهناك تُقدم ذبائح الرب وتقدماتهم، لذا اجتمع الكل مع يشوع في حضرة الله ليروا أن الأرض قد أخضعت قدامهم والميرث قد أعد. إنها صورة حية لالتقائنا جميعًا ككنيسة الله وشعبه، نجتمع مع الرأس يشوع الحقيقي وفيه كأعضاء جسده (أف 5: 3) لندرك إمكانياتنا الجديدة، إن الأرض قد أخضعت، فصار جسدنا مقدسًا لله، وصارت حياتنا بكليتها له، يرثها كملك له، ونرث نحن أمجاده. في شيلوه الحقيقية - كنيسة العهد الجديد- لا تنصب خيمة اجتماع إنما يحل روح الله القدوس فينا، ويجعلنا هيكله المقدس، فلا نرث أرضًا نُزعت من ملوك بشريين وإنما يصير كل شيء خاضعًا لنا، نرث السماويات وننعم بالملكوت الأبدي.
كم كان قاسيًا على قلب يشوع بن نون أن يرى بعضًا من شعبه قد عبر الأردن، وانهارت حصون أريحا أمامهم، وانهزمت عاي بملكها ورجالها، وانهارت المدن المقاومة... كل شيء قد أعد ولم يبق شيء سوى أن يتسلم الأسباط الميراث! ألم يعد الرب الوليمة، وأرسل إلي المدعوين، ولم يُكلفهم الأمر بعد إلاّ الحضور للتمتع بها، لكنهم في استخفاف اعتذروا (مت 22: 3). هكذا يحزن قلب عريسنا يشوع الحقيقي، الذي أعد كل شيء لنا، ولم يتركنا في عوز إلى شيء...، حارب عنا وغلب، ومات وقام ليقيمنا معه، وأفتتح أبواب الفردوس للطبيعة البشرية التي تغربت عن السماء زمانًا (2 كو 5: 2، عب 11: 16)، وقدم لنا روحه القدوس سندًا ومعينًا، ولم يعد بعد لنا عذر... صار الملكوت قريبًا إلينا لكننا مع هذا كله فنحن متراخون عن الدخول إلى ميراثه الذي وهبنا إياه.
لقد طلب يشوع أن ينتدب عن كل سبط ثلاثة رجال يمثلون السبط يقومون ويسيرون في الأرض ويكتبونها بحسب أنصبتهم ثم يأتون إليهم [4]. لقد حدد يشوع عملهم "يقومون، يسيرون في الأرض، يكتبونها، يأتون إليَّ يقسموها". من هم هؤلاء الرجال؟ وما هي هذه الأعمال؟ بلا شك هؤلاء الرجال المنتدبون عن الأسباط أنما يمثلون في حياة الإنسان ثلاثة أمور: الفكر والقول والعمل، هكذا تقف الكنيسة كلها - وكأنها بالسبعة أسباط - ويقدم كل عضو فيها فكره وكلماته وتصرفاته بين يدي يسوعنا الحيّ القادر أن يُقدسنا، فيصير هؤلاء الرجال الثلاثة علامة تقديسنا في المسيح يسوع بروحه القدوس. إن كنا نُحاسب عن كل فكر خفي وشهوة خفية أو نظرة مستترة (مت 5: 28) وعن كل كلمة بطالة (مت 12: 36) وكل تصرف شرير، فتكون هذه سرّ حرمان الإنسان ميراثه الأبدي، فإنه على العكس إذ تتقدس هذه الطاقات تصير أداة مقدسة خلالها نُكلل ونرث إلى الأبد!
أما أعمالها فهي أولاً "يقوموا"... فإننا إذ نتقدم إلى يشوعنا بفكرنا الداخلي ولساننا وبقية أعضاء جسدنا، يقيمها فيه أدوات مقدسة تمارس حياته المقامة كحياة لها. لنبعث كل ما لنا لدى يشوع الحق القادر أن يهبنا القيامة كعمل يومي مستمر، فنحيا بحياته، ونحمل سماته فينا، ويحق لنا شركة أمجاده! وكما سبق فكررت أكثر من مرة أن سفر يشوع كسفر الميراث هو سفر القيامة، فلا ميراث بدون الحياة الداخلية المقامة فيه وبه!
أما بعد القيامة فيقول "يسيرون في الأرض"، أي ينطلقوا إلى أرض الميراث، فنحن مدعوون بعد أن تمتعنا في المعمودية بسرّ الدفن والقيامة، ونتمتع بالقيامة مع كل يوم جديد خلال التجديد اليومي المستمر، أن نسير في الأرض المقدسة أي نتذوق عربون السموات ونحن بعد على الأرض. عندئذ "يكتبوها"، أي يدركون أبعادها قدر استطاعتهم ويتعرفون على أسرارها غير المدركة. وأخيرًا يعودون إلى يشوع... ففي كل مرة نكتشف أسرار الحياة الأبدية إنما نرجع بالأكثر إلى يسوعنا، ندخل أعماقه ونعيش فيه على أعماق جديدة حتى نلتقي به أخيرًا وجهًا لوجه. ولعله قصد بالعودة إلى يشوع لتقسيم الأرض الرجوع إليه في اليوم العظيم لنلتقي به كواهب الميراث، وينعم كل منا بنصيبه الأبدي!
2. نصيب بنيامين...
يُحسب سبط بنيامين أصغر الأسباط وأقلها عددًا، لكن آخرين يصيرون أولون، فقد جاءت قرعته بين السبعة أسباط: الأول. وقد جاءت "قرعتهم بين يهوذا وبني يوسف" [11], كان لبنيامين أصغر أولاد يعقوب معزة خاصة لدى أخيه يوسف، الذي أعطاه نصيبًا مضاعفًا عندما جاء مع إخوته إلى مصر في قصر فرعون، والذي لم يحتمل أن يراه فتوارى ليبكي بمرارة! إنه الأخ الوحيد له من أبيه وأمه، يحمل له مشاعر حب خاصة، وقد انتقلت هذه المشاعر بين أبنائهم أيضًا. لكن فيما بعد التحم سبط بنيامين بالأكثر مع سبط يهوذا ليكونا معًا مملكة يهوذا، عاصمتها أورشليم التي كانت من نصيب بنيامين. التحام بنيامين بيهوذا ليس أمرًا غريبًا، فإن بنيامين يعني (ابن اليمين) فيُشير إلى السيد المسيح الجالس عن يمين أبيه، والخارج من سبط يهوذا.
الأصحاح التاسع عشر
أنصبة بقية الأسباط
بعد أن نال بنيامين نصيبه بالقرعة، جاءت القرعة تحدد دور بقية الأسباط، وأخيرًا نال يشوع بن نون نصيبه وسط إسرائيل.
1. أنصبة بقية الأسباط [1-48].
2. نصيب يشوع بن نون [49-51].
1. أنصبة بقية الأسباط...
قلنا أن العلامة أوريجانوس يرى في كل ما حدث في أرض الموعد يحمل رمزًا خاصًا بالحياة السماوية حتى وإن لم ندركه الآن. على أي الأحوال قسمت بقية الأرض على بقية الأسباط الستة بالترتيب: سبط شمعون، سبط زبولون، سبط يساكر، سبط أشير، سبط نفتالي وأخيرًا سبط دان.
إن لم تجد لك موضعًا في الأسباط السابقة فاطلب أن تكون منتميًا إلى أحد هذه الأسباط فإن "شمعون" الذي يعني (مستمع) إنما يضم جماعة المستمعين للوصية والطائعين لله. وسبط "زبولون" الذي يعني (مسكن) إنما يضم من تنفتح قلوبهم لله مسكنًا له. وسبط "يساكر" أي (الجزاء) يُشير إلى طالبي المكافأة السماوية، وسبط "أشير" أي (سعيد) يحوي المغبوطين بالرب المملوئين من فرح الروح القدس، وأخيرًا "دان" أي (يدين) يضم الذين يدينون أنفسهم لا الآخرين[241].
2. نصيب يشوع بن نون...
"ولما انتهوا من قسمة الأرض حسب تخومها أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون نصيبًا في وسطههم" [49]. ليس عجيبًا أن ينتظر يشوع لينال نصيبه في وسط شعب الله بعد أن يتمتعوا هم بالأنصبة، ليس تهاونًا منه بالميراث، لكنه يُحسب أن ما يناله كل واحد منهم إنما قد ناله هو، وينتظر ليحتل نصيبه في وسطهم ليكون الشعب نفسه هو نصيبه. هذه صورة حية لفكر المسيح نفسه الذي يُحسب كل ما نملكه إنما يملكه هو بكونه رأسنا الذي يتمجد في جسده المُكرم... إنه يبقى كمن هو آخر الكل حتى يفرح بكل مختاريه شركائه في الميراث الأبدي.
في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [أي جمال وأي اتضاع تظهره هذه العبارة بخصوص يشوع، فقد كان بحق جديرًا أن يحمل اسم يشوع ربنا ومخلصنا. يقول الكتاب: "أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون نصيبًا في وسطهم، حسب قول الرب: أُعطوه المدينة التي طلب تمنة سارح في جبل أفرايم، فبنى المدينة وسكن بها" [49-50]. إنه هو الذي أعطى الميراث لكل بني يهوذا، ولأفرايم ولنصف سبط منسي، وهو الذي أعطى الميراث للشريف كالب بن يفنة، وهو الذي بعث ثلاثة رجال من كل سبط ليطوفوا في كل البلاد ويصنعوا الخطة ويعرضونها عليه بعد عودتهم. هو الذي حدد مصير الكل، وترك نفسه للموضع الأخير! لماذا أراد أن يكون آخر الكل؟ ليؤكد أنه هو الذي يصبح أول الكل (مت 19: 30). لم يأخذ نصيبه من الميراث من نفسه، إنما استلمه من الشعب، إذ يقول الكتاب: "أعطى بنو إسرائيل يشوع بن نون في وسطهم" [49]، لكن "هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً" (1 كو 10: 11). لقد عُرضت علينا كصورة لكي نلاحظ بدورنا المبادئ التي تممها يشوع في هذه الأعمال، ويقول: "إزداد تواضعًا تزداد عظمة وتنال خطوة لدى الرب" (سيراخ 3: 7)، وأيضًا: "إذا اختاروك رئيسًا فلا تتكبر ولكن كن بينهم كواحد منهم" (سيراخ 32: 10). أنظر بأي وسيلة كان رئيسًا للشعب؟! هو الذي أدخلهم الأرض المقدسة، أرض الموعد، وكان خليفة موسى ومع ذلك لم يسمح لنفسه أن يأخذ نصيبه من الأرض وإنما انتظر أن يتسلم من الشعب قطعة أرضه. أنه رئيس الشعب، ومع ذلك فإنه إذ استلمها يشوع الجدير بهذا الاسم بنى الأرض التي أُعطيت له، وأقام فيها الأبنية حتى تكون جديرة بهبة الله والميراث الروحي[242]].
إن كان يشوع يرمز للسيد المسيح فليتنا نصنع ما فعله بنو إسرائيل، نقدم ليشوعنا أرضًا أو نصيبًا في وسطنا، نقدم له قلبنا مركز حياتنا كنصيب الرب، يتسلمه أرضًا فيُقيم فيها مدينته المقدسة ويسكن فيها [50]. إن كنا لا نقدر أن نبني له مدينة فينا، فإن العلي لا يسكن في مبانٍ من صنع الأيدي، فإنه بروحه القدوس يُقيم مدينته الروحية الحصينة ليسكن فيها، محولاً قلبنا إلى سمائه المقدسة. هذا ما أكده السيد نفسه بقوله: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي عنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23).
الفصل الثالث
مدن الملجأ ومدن اللاويين
الأصحاح العشرون
مدن الملجأ
سبق أن تحدثنا عن مدن الملجأ والشريعة الخاصة بها أثناء دراستنا لسفر العدد (أصحاح 35).
الأصحاح الحادي والعشرون
مدن اللاويين
حُرم اللاويون من النصيب الأرضي ليكون الرب نفسه هو نصيبهم وميراثهم الوحيد، وكما قلنا (ص 14) إنهم يقتنون الله حكمتهم وبرّهم وفداءهم إلخ... والعجيب أنهم إذ يحرمون من الأرض يقدم لهم الله 48 مدينة بين جميع الأسباط ليعيشوا وسط الكل يشهدون له بناموس الرب، أو كأنهم بالسرج التي استنارت بالنور الإلهي فتضيء على كل الأسباط لتكون الجماعة كلها مستنيرة بالرب الساكن فيهم.
1. اللاويون يطلبون المدن مع مسارحها [1-3].
2. توزيع الكهنة اللاويين [4-24].
3. إتمام تحقيق وعود الله [43-45].
1. اللاويون يطلبون المدن مع مسارحها...
"ثم تقدم رؤساء آباء اللاويين إلى ألعازر الكاهن وإلى يشوع بن نون وإلى رؤساء آباء أسباط بني إسرائيل، وكلموهم في شيلوه في أرض كنعان قائلين: قد أمر الرب على يد موسى أن نُعطى مدنًا للسكن مع مسارحها لبهائمنا، فأعطى بنو إسرائيل اللاويين من نصيبهم حسب قول الرب هذه المدن مع مسارحها" [1-3].
تقدم الكهنة واللاويون في أشخاص رؤساء آبائهم ليطالبوا بحقهم في السكن وسط الشعب كله. من جهة من حق الكاهن ألاَّ يعيش منعزلاً عن الشعب بل في وسطهم، بكونه عضوًا حيًا في الجماعة، وخادمًا لهم يعمل لحسابهم في الرب. حينما يعزل الكاهن نفسه عن شعب الله في برج عاجي، مقيمًا حاجزًا أدبيًا بينه وبينهم، يفقد الكاهن حيويته وتتوقف رسالته ويتعثر شعب الله فيه. إن كان هو كاهن الله، إنما كاهن عن شعب الله في الرب رئيس الكهنة الأعظم. وكما وصلّ رئيس الكهنة الأعظم بيننا كواحد منا حتى يحتضنا مرتفعًا بنا إلى سمواته، هكذا يليق بكل كاهن في الرب أن يعيش في غير معزل عن الجماعة المقدسة حتى ينعم الكل معًا بالميراث الأبدي. هذا ومن جانب آخر، إذ يسكن في وسطهم يلزمه ألا يحمل معهم نصيبًا في الأرض حتى لا تربكه عن رسالته الروحية. يقول العلامة أوريجانوس: [إذ لا يحصل الكهنة واللاويون على أرض، يسكنون مع بني إسرائيل الذين لهم أرض. لكي يحصلوا منهم على الأشياء الأرضية التي ليست لهم، وبدورهم يحصل الإسرائيليون منهم على الأمور السماوية التي ليست لهم... بهذا يكون هدف الكهنة واللاويون الوحيد في نشاطهم وابتعادهم من كل الارتباطات الخارجية حتى يتفرغوا لكلام الله. ولكي يتكرسوا يلزمهم أن يقبلوا خدمة الشعب، فإن لم يقدم الشعب للكهنة واللاويين ما يحتاجون إليه - أقصد الأمور المادية - فقد يعوقهم هذا عن تكريس حياتهم بالكامل لناموس الرب. وإن لم يكرسوا حياتهم بالكامل لناموس الرب تصير أنت نفسك في خطر. فقد يظلم نور العالم فيهم كمن يضع زيتًا في السراج، وعندئذ يتم قول الرب: "أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" (مت 5: 14)، وأيضًا: "إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!" (مت 6: 23)[243].
2. توزيع الكهنة واللاويين...
كما وزعت الأرض على الأسباط بالقرعة فكشفت عن مفاهيم روحية معينة، وظلالاً للحياة السماوية، حتى أن العلامة أوريجانوس اعتقد أن ما تم في أرض الموعد من تقسيم الأراضي والمدن على أسباط معينة إنما يحمل ظلالاً صادقة لمواقع روحية وأمجاد فائقة ينالها المؤمنون في الأبدية، أمور لا يسوغ لإنسان أن ينطق بها، هكذا أيضًا إذ وزعت مدن اللاويين على الأسباط بالقرعة لم يتحقق التوزيع جزافًا ولا بغير معنى، إنما نلاحظ الآتي:
أولاً: أن الكهنة واللاويين بعشائرهم: الكهنة، بقية بني قهات، بني جرشون، بني مراري، جاء ترتيبهم في التوزيع حسب درجة سموهم متناسقًا مع سمو الأسباط. فإن كل الكهنة يحتلون المركز السامي روحيًا، فإن مدنهم قد جاءت في نصيب يهوذا وزملائه، السبط الذي يمثل القيادة الروحية الجديدة بتجسد الكلمة منه، والذي كان مركزه الشرق دائمًا في المحلة[244]. وأما بنو قهات الذين منهم خرج الكهنة فتمتعوا بمدنهم وسط نصيب أفرايم وزملائه، حيث يمثل إفرايم الثمر الروحي المتكاثر. أما بنو مراري الذي يمثلون جانب المرّ في الصليب[245]، فجاءت مدنهم وسط سبط رأوبين وزملائه حيث فقد رأوبين بكوريته واغتصبها منه سبط يهوذا إلخ...
الأصحاح الثاني والعشرون
مذبح بلا ذبيحة
دعا يشوع بن نون رجال سبطي رأويين وجاد ونصف سبط منسي الذين يمثلون كنيسة العهد القديم التي جاهدت في عصر موسى تحت الناموس، وبالمحبة اشتركت مع كنيسة العهد الجديد في جهادها. لقد دعاهم يشوع ليهبهم ميراثهم بعد أن نالت بقية الأعضاء ميراثها، هذا ولم يردهم يشوع فارغين، بل قال لهم: "بمال كثير ارجعوا إلى خيامكم وبمواش كثيرة جدًا بفضة وذهب ونحاس وملابس كثيرة جدًا. اقسموا غنيمة أعدائهم مع إخوتكم" [8]. إن رجال العهد القديم يشاركوننا الميراث وينعمون معنا بالعطايا الإلهية وشركة أمجاده.
ويرى البعض في هذا التصرف نبوة عن عودة اليهود إلى الإيمان المسيحي في الأيام الأخيرة بعد ملء كنيسة الأمم، كقول الرسول بولس: "فإنيّ لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السرّ لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم وهكذا سيخلُص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26).
أما إقامة المذبح العظيم المنظر على الجانب الآخر من الأردن حيث لا تقام فيه محرقة ولا مذبح يُشير إلى هيكل اليهود العظيم الذي بذبيحة العهد الجديد حمل المنظر دون الجوهر فصار منظرًا بلا محرقة ولا ذبيحة. لقد اعترفت الأسباط الممثلة للعهد القديم أن المذبح الحقيقي هو المقام حيث يوجد يشوع، أما هذا المذبح فهو مجرد (شاهد) بين رجال العهدين، علامة الوحدة بينهما... لكنه بالحق لا يوجد سوى مذبح حقيقي واحد، راعٍ واحد، ورعية واحدة حيث يقيم يشوع الحق بينهم.
الفصل الرابع
وصَـايـا ختـاميَّـة
الأصحاح الثالث والعشرون
تسليم الوديعة
عمل الراعي الناجح يتمركز في تسليم وديعة الإيمان حية وعملية خلال خدمته، فتتسلم الأجيال منه روح الإيمان المستقيم مترجمًا في عبادة حية ملتهبة وسلوك عملي في الرب... وها هو يشوع في نهاية حياته يدعو جميع إسرائيل وشيوخه ورؤساءه وقضاته وعرفاءه ليسلمهم وصايا وداعية جاءت مطابقة لإيمانه وعبادته وسلوكه العملي، لذا كان لهذه الوصايا فاعليتها... حقًا إن رسالة الكنيسة هي الحفاظ على وديعة الإيمان لتسلمه عبر الأجيال فكرًا حيًا وعبادة روحية وسلوكًا في الرب.
1. تذكيرهم بأعمال الرب [1-5].
2. تذكيرهم بوصايا الرب [6-8].
3. بعث روح الرجاء [9-11].
4. تحذيرهم من النكسة الروحية [12-16].
1. تذكيرهم بأعمال الرب...
"وأنتم قد رأيتم ما عمل الرب إلهكم بجميع أولئك الشعوب من أجلكم، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم، أنظروا قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين مُلكًا حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التي قرضتها والبحر العظيم حتى غروب الشمس..." [3-4].
ما أجمل أن ينسى الراعي نفسه حتى في اللحظات الأخيرة من عمره، فإن يشوع لم يذكرهم بأمانته في رعايته ولا احتماله أتعابهم ولا سهره عليهم، لكنه يركز أنظارهم في الله الصانع معهم العجائب، المحارب عنهم، والمهتم بتقديم الميراث لهم.
حين يلتهب قلب الراعي بخلاص إخوته، مشتاقًا أن يراهم في المجد الأبدي أعظم منه، لا يتحدث عن نفسه بل عن عمل الله الخلاصي ليلهب كل قلب بمحبة الله، وينطلق بكل نفس نحو السماويات تشتاق أن تنال نصيبها في الميراث الأبدي.
2. تذكيرهم بوصايا الرب...
كانت كلمات الرب ليشوع عند إسلامه القيادة الروحية: "تشدد وتشجع... إنما
كن متشددًا وتشجع جدًا... أما أمرتك: تشدد وتشجع" (1: 6، 7، 9). وبقيت هذه الكلمات الإلهية تدوي في أذنيّ يشوع وتعمل في قلبه، يرددها على لسانه ويحفظها في فكره ويحتضنها في قلبه بكونه الكنز الإلهي الذي يحرص عليه، وها هو في لحظات خروجه من العالم لا يجد أثمن من تقديم الوديعة التي تسلمها كما هي، يقدمها بلسانه كما قدمها لهم خلال حياته، إذ يقول: "فتشددوا جدًا لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى حتى لا تحيدوا عنها يمينًا أو شمالاً" [6].
إن جوهر التقليد أو التسليم المقدس أن نقدم للجيل القادم كلمة الله بلا انحراف، كما تسلمناها وعشناها، كما تسلمتها الأجيال وعاشتها بطريقة حية. ها هو يشوع يُقدم ما تسلمه من موسى، سفر الشريعة، لتبعث فيهم روح الرجاء والقوة: "تشددوا جدًا".
هنا نود أن نؤكد أن التقليد الذي نتسلمه ونسلمه ليس شيئًا جديدًا بجانب الإنجيل، إنما في جوهره هو الإنجيل المقدس معلنًا في الكتاب الذي تسلمناه في الحياة التعبدية التي نمارسها وفي السلوك العملي ومعاملاتنا مع الآخرين.
3. بعث روح الرجاء...
لا يقف عمل التقليد الكنسي أو التسليم المقدس عند تسليم الكتاب المقدس منعزلاً عن الحياة الكنسية التي تشهد للإنجيل، وإنما يليق تقديمه ككتاب موحي به من الروح، حيّ وفعّال، معلنًا في حياة الكنيسة، خاصة في روحها المملوء رجاء. هذا ما نلمسه من كلمات يشوع بن نون الوداعية، إذ يبعث في سامعيه هذا الروح الذي اختبره وعاشه، قائلا: "قد طرد الر من أمامكم شعوبًا عظيمة وقوية. أما أنتم فلا يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم. رجل واحد منكم يطرد ألفًا، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم كما كلمتكم، فاحتفظوا جدًا لأنفسكم أن تحبوا الرب إلهكم" [9-11].
يبعث فيهمروح الرجاء خلال الخبرة التي عاشوها أن الله قد طرد من أمامهم شعوبًا عظيمة وقوية... حسن للإنسان أن أن يذكر ضعفاته التي لا تنقطع ليسلك بروح الاتضاع، لكنه في نفس الوقت لا يكن جاحدًا لأعمال الله معه، إذ طرد من أمامه خطايا عظيمة وقوية قد سيطرت عليه زمانًا! لنشكره من أجل احساناته علينا، حتى يكمله معنا. في هذا يقول الآب مار إسحق السرياني: [ليست عطية بلا زيادة إلاَّ التي بلا شكر]. لهذا يخطئ الكثيرون حينما يعترفون بخطاياهم وضعفاتهم دون أن يعترفوا بعمل الله معهم أيضًا! في هذا يؤكد القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نعترف من زاويتين: نشكر الله على احساناته ونشكو أنفسنا، على ضعفاتنا. إنه يقول: [إننا نعترف في تسبيحنا له أو في إستذنابنا لأنفسنا، وكلاهما اعترف حسن، سواء في لومنا أنفسنا نحن الذين لسنا بلا خطية أو تسبيحنا لله الذي بلا خطية(250)]. يقول القديس أمبروسيوس: [احذروا لئلا تقاوموا وصاياه، فتسقطوا فيما سقط فيه اليهود العصاه. الذين قال لهم: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا](لو 7: 32)(251). إذن لنسمع مزمار الرب المفرح فنرقص روحيًا مسبحين إياه على كثرة إحساناته، هذا الذي طرد شعوبًا من قلوبنا الداخلية، ولنسمع نحيبه على خطايانا فنبكي لكي يتحنن علينا فيطرد كل بقية شاردة في داخل نفوسنا!
إذ قدم لنا يشوع صورة واقعية لعمل الله معنا ليعبث فينا الرجاء، عاد يؤكد: "وأما أنتم فلا يقف أحد قدامكم إلى هذا اليوم" [9]. وكأنه يردد وعد الله له في بدايةعمله القيادي: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك" (1: 5). كان هذا الوعد الإلهي ليشوع لكنه في الحقيقة هو وعد لكل الشعب عبر كل الأجيال... وعد إلهي يجدد رجاءنا في الرب، الذي يدافع عنا ولا يترك لأحد سلطانًا أن يقف في وجوهنا ما لم يأخذ من فوق، كقول السيد المسيح لبيلاطس: "لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11).
ماذا يعني: "رجل واحد يطرد ألفًا، لأن الرب إلهكم هو المحارب عنكم كما كلمتكم"؟ إن كان رقم 1000 كما سبق فقلنا يشير إلى السماويات أو الروحيات، فهو هنا يشير إلى ما عبر عنه بولس الرسول: "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12)، فإن كنا بسبب ضعفنا إن قورنا مع إمكانيات إبليس نُحسب كواحد أمام ألف، لكن بالرب لا تقدر الألف أن تقف أمامنا بل نطردها بالرب المدافع عنا. هذ هو إيمان اليشع النبي الذذ قال لتلميذه جيحزي حينما ارسل ملك الذين معنا أكثر من الذن معهم" (2 مل 6: 16)، وصلة اليشع وقال: "يا رب افتح عينيه فيبصر. ففتح الرب عيني الغلام فابصر وإذا الجبل مملوء خبلاً ومركبات نار حول اليشع" (2 مل 6: 17). ليتنا لا نخاف إبليس وكل جنوده لأن الرب إلهنا يحارب عنا حتى يدخل بنا إلى كمال مجده الأبدي. حقًا إن إبليس مرهب بعنف حيله وثقل خطاياه التي تضغط على الإنسان، لكنه بلا سلطان علينا إن كنا نسلك في الرب، ونحمل في داخلنا روح الله الناري، فنحمل السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو. يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن إمكانيات المؤمن في مواجهة إبليس وإغراءاتهوعنفه، قائلاً: [إن رآك الشيطان مرتبطًا بالسماء، ساهرًا، فأنه لن يجرؤ قط أن يحدق فيك(253)، [السيرة الطاهرة تسد فم الشيطان نفسه وتبكمه(254)].
أما سر رجائنا فهو الرب إلهنا الذي لزمنا أن نرد له حب بالحب: "فاحتفظوا جدًا لأنفسكم أن تحبوا الرب إلهكم" [11].
4. تحذيرهم من النكسة الروحية...
بعد أن تحدث عن الجوانب الإيجابية من كشفه عن محبة الله لهم المعلنة خلال أعماله معهم بغير انقطاع، ووصاياه الإلهية كسند لهم وسر رجائهم، صار يحدثهم من الجانب السلبي عن التزامهم بالحذر من النكسة الروحية، فتتحول نصرتهم الروحية في الرب إلى هزيمة شعة بسبب ارتباطهم بالخطايا والرجاسات عوض التصاقهم بالرب سرّ الغلبة. إنه يقول "ولكن إن رجعتم والتصقتم ببقية هؤلاء الشعوب أولئك الباقين معكم وصاهرتموهم، ودخلتم إليهم وهم إليكم، فاعلموا يقينًا أن الرب إلهكم لا يطرد أولئك الشعوب من أمامكم، فيكونون لكم فخًا وشركًا وسوطًا على جوانبهم وشوكًا في أعينكم حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم إياها الرب إلهكم" [12-13].
حين كانت هذه الشعوب برجاساتها العنيفة في كمال قوتها كان الشعب شعر بحاجته إلى رعاية الله وكان الرب محاربًا عنهم، إذ بقية الشعوب كعبيد ضعفاء في وسط يدفعون الجزية صار الخطأ محدقًا، حيث يدخلون معهم في علاقات زوجية فينحرف المؤمنون عن عبادة الله إلى الوثنية رجاساتها. على هذا النحو نقول حين تهاجم الخطية إنسانًا بكل عنفها يلجأ الإنسان إلى الله فيحمل سلطانًا عليها، لكنها حيت تتسلل إليه متذللة تدخل خلال الضعف إلى قلبه كأمور بسيطة بلا سلطان، غالبًا ما ينخدع الإنسان ويفقد إمكانيات الله الغالبة! لنخف من الخطايا التي نُخالها بسيطة وهينة فإنها أكثر قدرة على أسر النفس مما نظنها كبيرة وحسيمة! ليتنا إذ نطرد بالرب الرجاسات لا نترك لها بقيو في القلب تخاتلنا وتخدعنا، فتحسب قلبنا عن الله، وتفقدنا سر حياتنا!
إذ نقبل الخطية وندخل معها في علاقات أشبه لالعلاقات الزوجية، يسلمنا الله نفسه لها لإذلالنا فتكون شهوة قلوبنا هي بعينها سرّ تحطيمنا. تكون لنا فخًا وشركًا نسقط فيه، ففيما نظن أننا ننال شيئا إذا بنا تحت الأسر، داخل الفخاخ لا قوة. وفيما نظن أنها تقدم لنا لذة وفرحًا إذ بها كالسياط تنزل على جوانبنا فلا نعرف الراحة على جنبنا اليمين أو اليسار، أخيرًا فإنها كالشوك في الأعين تفقد الإنسان بصيرته الروحية، وتنزع عنه معاينة النور الإلهي الداخلي... إنها لا تتركنا حتى نبيد عن الأرض الصالحة التي وهبنا لله إياها، أي نفقد كل صلاح في الجسد، ونخسر كل طاقاته وأحاسيسه!
ولكي يشجعهم الرسول على الجهاد ليثبتوا فيما نالوه من أرض صالحة وتحطيم كل بقية باقية من الرجاسات، يقول لهم: "ها أنا اليوم ذاهب في طريق الأرض كلها" [14]. وكأنه يقول لهم إن الأيام المقصرة، ونحن جميعًا سنعبر من هذا العالم... هذا هو طريق الأرض كلها. الشعور بالغربة يسند النفس في جهادها، إذ ندرك زوال كل شهوة ونهاية كل أمر زمني، فلا تعمل لحساب حياتنا الزمنية بقدر ما تعتم بخلاص نفسها والتمتع الباقية إلى الأبد. لهذا يقول القديس يوحنا الدرجي: [يقول أحدهم أنه لا يمكن أن نصرف يومًا واحدًا في عبادة صادقة ما لم نعتبرة نهاية حياتنا كلها(255)].
الأصحاح الرابع والعشرون
حجر الشهادة
بعد أن سلم القائد الروحي يشوع الوديعة خلال جهاده وفي لحظات انطلاقه من هذا العالم تقبل أيضًا الريالة الإلهية الوداعية ليسلها لشعب الله ويقيم حجر شهادة عند مقدس الرب الذي يذكرهم بأعمال ااه معهم قبل أن يرحل عنهم بالجسد.
1. معاملات الله معهم [1-13].
2. تقديس الإرادة البشرية [14-26].
3. إقامة حجر شهادة [27-28].
4. موت يشوع [29-33].
1. معاملات الله معهم...
بعد أن تحدث يشوع مع رجاله بكل صراحة، مقدمًا لهم كل ما في جعبته قبل الرحيل، عاد أيضًا ليدعو شيوخ إسرائيل ورؤساءهم وقضاتهم وعرفائهم ليمتثلوا أمام الرب، وينطق يشوع لجميع الشعب بالكلمات الإلهية قبل رحيله مباشرة، فيها يؤكد الله أمانته في تحقيق مواعيده. لقد سبق فوعد إبراهيم أب الآباء حين دعاه وصار به في كل أرض كنعان كغريب ونزيه مؤكدًا له أنه يهبه إياه في شخص نسله، وها هو اليوم يتحقق وعده. لقد أخرجهم من أرض فرعون وعبر بهم بحر سوف الذي فيه غرق فرعون وجنوده وأنقذهم من أيدي الأموريين والفرزيين والكنعانيين والحثيين والجاجاشيين والحويين واليبوسيين إلخ...
لقد أبرز يشوع بن نون أن إبراهيم نال المواعيد مع أن أباه كان يعبد آلهة أخرى، وكأنه يريد أن يؤكد لهم أن انتسابهم لآباء القديسين أو أشرار لن يفيدهم أو يضرهم، إنما ما يفيدهم طاعتهم للرب ويضرهم عصيانهم عليه. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه النصيحة أقدمها لكم... ليتنا لا نجعل من شر آبائنا حجة نتذرع بها، فإننا متى كنا حريصين لا يعوقنا شيء من هذا، فإنه حتى إبراهيم كان أبوه غير مؤمن لكنه لم يرث شره بل صار عزيزًا لدى الله!(256)].
يقو لهم الرب: "وأرسلت قدامكم الزنابير، وطردتهم من أمامكم أي ملكي الأموريين لا بسيفك ولا بقوسك. وأعطيتكم أرضًا لم تتعبوا عليها، ومدن لم تبنوها، وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها تأكلون" [12-13].
ماذا يقصد بالزنابير التي أرسلها قدامكم؟ لعله قصد المصريين الذين هاجموا هذه المتطقة قبل العبرانيين إليهم بفترة حطمت قوى الملوك وهيأت لهم الطريق، إن التاريخ كله، بل والأحداث كلها إنما تسير بخطة إلهية غير منظورة تعمل لخلاصنا. رعاية الله فائقة وفوق كل إدراك! لقد سمح الله بهجوم فرعون، ولم يكن يعلم المؤمنون أن هذا لأجلهم، حتى يتمتعوا بالميراث بلا تعب!
2. تقديس الإرادة البشرية...
إن كان سفر يشوع إنما يضم معاملات الله الفائقة مع شعبه لكي يرثوا ويملكوا، إنما لأنه يقدم الحب الإلهي حتى يقبلوه بالحب من جانبهم. إنه لا يطلب عبادتهم كفريضة إلزامية قسرية لكن طلب الحب الخارج خلال كمال حرية الإنسان، فإن الله يقدس الحرية الإنسانية بكونها صورة حية لله، وإعلانًا عن بر الله وحبه العملي... فو يطلب الإنسان ليس كعبد بل كابن حرّ يلتصق بأبيه بفرح وسرور. لهذا يؤكد يشوع بن نون لهم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون..." [15]. وإذ قدم يشوع نفسه مثلاً، قائلاً: "أما أنا وبيتي فنعبد الرب"، أجابوا هم وقالوا: "حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى" [16].
مرة أخرى اراد يشوع أن تنبع العبادة لله عن حرية كاملة، إذ يقول للشعب: "لا تقدرون ن تعبدوا الرلأنه إله قدوس وإله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم" [19]، مؤكدًا لهم إن عبدوه لكن في غير حياة مقدسة إنما يجلبون التأديب عليهم، وإن اختاروا الآلهة الغريبة نصيبهم... وقد أكد الشعب مرة أخرى: "لا، بل الرب نعبد" [21].
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم من حرية الإرادة، قائلاً: [لا يغصبنا الله ولا تلزم نعمة الروح إراداتنا، لكن الله ينادينا، وينتظرأن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه(257)]، [الله لا يلزم الذين لا يريدونه، يهبنا معونته على الدوام وهو يدرك ما هو خفي في أعماق القلب. إنه يرجونا وينصحنا وينهانا ويحذرنا من التصرفات الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا قسرًا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركًا الأمركله لقرار المريض نفسه(259)].
3. إقامة حجر شهادة...
إذ قطع يشوع عهدًا للشعب في ذلك اليوم، يؤكدون التزامهم بعبادة الرب وحده بكامل حريتهم واختيارهم: "أخذ حجرًا كبيرًا ونصبه هناك تحت البلوطة التي عند مقدس الرب" [26].
يقول القديس باسيليوس: [أقام يشوع بن نون حجرًا كشاهد على أقواله، وقد سبق يعقوب فأشهد كوم حجارة على كلامه (تك 31: 47)... ولربما كان يظن أن الحجارة ذاتها تنطق بقوة الله لخزي العصاه، أو على الأقل ليخز ضمير كل فرد بقوة التحذير(260)].
يرى القديس كيريانوس أن حجر الشهادة هنا إنما تشير إلى السيد المسيح نفسه(261). لقد حدثنا الكتاب المقدس كثيرًا عن السيد المسيح بكزنه الحجر الحيّ التي تقوم عليه كنيسته(261)، هذا الذي رفضه البناؤون وقد صار حجر الزاوية... رآه دانيالالنبي وقد صار جبلاً (دا 2: 31-35)، هذا الذي يقول عنه أشعياء النبي أن يعلن في آخر الأيام فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (أش 2: 2-4).
4. موت يشوع...
أُفتتح هذا السفر بموت موسى حيث بدون موته لم يكن ممكنًا العبور والتمتع بالميراث، ويُختتم هذا السفر بموت يشوع إذ بدون موته وقيامته لن يتحقق الخلاص.
لقد أعلن السفر موت يشوع ودفن عظام يوسف وموت ألعازر رئيس الكهنة، إن كان يشوع يشير إلى يسوع المخلص فبموته استراحت عظام يوسف التي طال انظارها لذلك اليوم، إذ قال يوسف لإخوته: "أن أموت، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم ولإسحق ويعقوب"، واستحلف يوسف بني إسرائيل قائلاً: "الله سيفتقدكم، فتصعدون عظامي إلى أرض الميراث. وكأنه يمث الكنيسة المتغربة هنا التي لن تستريح تمامًا إلا حين تصعد أجسادنا في اليوم العظيم لتقيم حيث يشوع الجديد قائم. لكن في طبيعة جديدة تليق بالأبدية. أما موت ألعازر، الذي يعني "إلهي يعين" وهو رئيس كهنة، إنما يشير إلى أنه بموت السيد المسيح انطلق كرئيس كهنة، إلهنا الذي يعيننا بدمه، يشفع فينا لدى أبيه، مقدمًا إيانا أعضاء جسده المقدس.
[1] راجع أوريجانوس: عظات على يشوع عظة 1: 1 ترجمة أمال إبراهيم.
[2] للمؤلف: سفر الخروج 1980، أصحاح 17.
[3] Lactantius: Divine Inst. 4: 17.
[4] In Jos. Hom. 1: 1.
[5] للمؤلف: سفر العدد 1981.
[6] المرجع السابق، ص 77-84.
[7] In Jos. Hom. 1: 2.
[8] Ibid 2:2.
[9] الحب الإلهي، ص 269، 270.
[10] In Jos. Hom. 1: 3.
[11] Ibid 2:1.
[12] Divine Inst. 4: 17.
[13] Duties of Clergy 2: 20.
[14] Peak's Comm. On the Bible, 1920, p.
[15] Ladder, step 7: 39.
[16] J. M. Gray: Comm. On the Whole Bible, 1971, P 166.
[17] Ibid.
[18]C. M. Laymann: Interpreter's one-volume Comm-on the Bible, P 123.
[19] Peak's Comm., p. 3.
[20] New Westminister Dict. Of Bible, P 41.
[21] John L. Mckenzie: Duct. Of Bible, 1972, P 730.
[22] Ibid..
[23] في اللغة الـ ugaritic.
[24] New Westminister Dic. Of Bible, P 798. Josuiph. Antiq. 7: 4: 1; 2 Sam. 23: 13-14.
[25] Jos. Antiq. 15: 18; 18; 16.
[26] Strong: Dict of the Hebrrew Bible, P. 4.
[27] New Westminster Dict. Of Bible, word Amorites.
[28] Mckenzie, P 26.
[29] Ibid, P 307.
[30] Ibid.
[31] New Westminster Dict., P 400.
[32] Ibid, P 398-400.
[33] Mckenzie, P 363/4.
[34] J. M. Gray, P 180.
[35] الأحجار تتكلم للدكتور جون إلدر، تعريب د. عزت زكي، قصل 7.
[36] Sermon 116: 1.
[37] Fragm. 19.
[38] In Jos. Hom 1: 6.
[39] Ibid.
[40] Ibid 2: 3.
[41] الحب الإلهي: ص 732.
[42] In Jos. Hom. 2: 3.
[43] Ladder, step.
[44] In Matt. Hom. 1: 1.
[45] In Col. Hom. g.
[46] Sermon 115: 1.
[47] Ibid 115: 2.
[48] In Jos. Hom. 1: 4.
[49] سفر الخروج 1981، ص 36-38.
[50] سفر العدد 1981، ص 210-216.
[51] On Ps. Hom 18.
[52] Sermon 115: 2.
[53] Conc. Virgins 2: 4.
[54] In Rom. Hom 2.
[55] On ps. Hom 18.
[56] Ep. Of Clem Rom. 12.
[57] Sermon 116: 3.
[58] Ibid.
[59] On Ps. Hom.
[60] In Joan. Hom. 46.
[61] On Christian Faith 5: 10.
[62] Unity of the Church, 8; Epistle 75:4.
[63] Epistle 40 to Cornelius.
[64] Epistle 43 to Antonius.
[65] Epistle 42 to Cornelius.
[66] Unity of the Church, 6.
[67] In Jos. ho, 1:5.
[68] In Jos. Hom 5: 1.
[69]De Sacr. 51:1.
[70] راجع تفسير يش 1: 11.
[71] On Ps. 42.
[72] De Sacr. 51:1.
[73] On Ps. 99.
[74] راجع: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر 1918، ص 139-151.
[75] De Baptismo 20.
[76] Protech. 6:16.
[77] In Jos 4:3.
[78]In Baptis. Chrisyu PG 46:293D
[79]De Bap. PG 46:420 D- 421 A.
[80] راجع كتابنا عن الروح القدس.
[81] In Jos. Hom 4:2.
[82] On myst. S.
[83] In Jos. 4:1.
[84] راجع كتابنا عن الروح القدس (جحد الشيطان).
[85] In Jos. Hom. 4:1.
[86] مناجاة 19، 20.
[87] In Jos. Hom. 1:4.
[88]Ibid 4:1.
[89] Ibid 1:4.
[90] On Ps. 87.
[91] Adv. Haer. 1:18.
[92] Sermon 115:3, 4.
[93] In Jos Hom 5:1.
[94] Ladder, step 1:11.
[95] Jos. Hom. 5:2.
[96] Ibid 5:4.
[97] Mckenzie. P. 311.
[98] New Westminister Dict. Of Bible, p 332.
[99] مناجاة 16.
[100] In Jos. Hom. 5:5.
[101] Divine Inst. 4:17.
[102] Treat. 12 to Quirinius 1:8.
[103] In Jos. Hom. 5:5.
[104] Ibid.
[105] Ibid.
[106] Ibid 6 C 1.
[107] راجع تفسير سفر الخروج، أصحاح 3.
St. Cyprian: Treat 12:2:16.
[108] In Jos hom. III.
[109] Vita Antonii 43.
[110] In Jos. Hom 6:4.
[111] Ibid 5:2.
[112] In Matt. Hom 39.
[113] Sermon 38 P1 270:1242.
[114] Lib. Of th Frs. Of the Church, vol 43.
[115] P1 39: 2058.
[116] Adv. Celsus 8:21.
[117] سفر العدد 1981: ص 54، 55.
[118] On Belief in Resur. 2:111.
[119] In Jos. Hom. 7:1.
[120] Sermon 115:5.
[121] Ibid.
[122] Ibid 115:6.
[123] The Arena, P 208.
[124] In matt. Hom. 86.
[125] In Acts hom. 42.
[126] In Jos. Hom. 7:2.
[127] In Jos. Hom 7:4.
[128] On Ps. 55.
[129] الفيلوكاليا (ترجمة المؤلف): 1966، ص 126.
[130] In Jos. Hom. 7:6.
[131] On Ps. 86.
[132] To the Bishops of Egypt, 10.
[133] In Jos. Hom. 7:7.
[134] In Jos. Hom. 8:2.
[135] Ibid. hom. 8: 7, 8.
[136] Ibid 8:3.
[137] On Ps. Hom 21.
[138] The Westminstrer Dict. Of Bible, P 236.
[139] In Jos. Hom. 9:1.
[140] Ibid.
[141] Ibid 9:2.
[142] راجع كتابنا: المسيح في سرّ الأفخارستيا.
[143] Antiq. 11:8,2,7.
[144] 0new Westmineter Dic., P 325.
[145] In Jos. Hom. 9:3.
[146] Ibid.
[147] Ibid 9:7.
[148] Ibid 9:8.
[149] Ibid 9:9.
[150] Ibid.
[151] Sermon 116 A:1.
[152] In Jos. Hom 1:10.
[153] للأب هرماس (من رجال القرن الثاني).
[154] In Jos. Hom 10:1.
[155] خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، ص 234.
[156] مناجاة 16.
[157] مناجاة 17.
[158] In Acts hom. 13.
[159] Duties of Clergy 3:10.
[160] In Jos. Hom. 10: 3.
[161] In Jos. Hom 11:2.
[162] Ibid 11:4.
[163] Sermons on N.T Lessons.
[164] لأن جلجال تعني دحرجة.
[165] On Ps. Hom 33.
[166] Ladder 15: 80.
[167] Ibid 15: 24-26.
[168] قاموس الكتاب المقدس، ص 1069.
[169] المرجع السابق، ص 1069.
[170] In Jos. Hom 10:3.
[171] Ibid 1:5.
[172] Paschal Ep. 29.
[173] In Jos. Hom 11:2.
[174] Paradise 15 (74).
[175] The Arena, P 194.
[176] In Matt. Hom 12.
[177] In Jos. Hom 11:5.
[178] Ladder 15:24.
[179] Ibid 27:18.
[180] In Jos. Hom 12:2.
[181] In Jos. Hom. 12:3
[182] تفسير (يش 8: 29).
[183] On Christian Faith 5, prol.
[184] In Jos hom. 12:1,2.
[185] Ibid 13:1.
[186] مناجاة 18.
[187] In Jos. 13:2.
[188] Ibid.
[189] Ibid 13:3,4.
[190] In Jos. Hom. 14:2.
[191] Ibid.
[192] Ibid 14:3.
[193] Ibid.
[194] Ibid.
[195] Ibid.
[196] Ibid.
[197] Hexameron 6:3.
[198] Ibid.
[199] In Jos. Hom 15:3.
[200] للمؤلف: حزقيال 1981، ص 21-38.
[201] In Jos. Hom 15:4.
[202] Ibid 12:5.
[203] Ibid 15:3.
[204] Ibid 1:6.
[205] Ibid 15:7.
[206] للمؤلف: سفر العدد 1981، أصحاح 32.
[207] In Jos hom. 16:1.
[208] Ibid 23:2.
[209] Ibid.
[210] الحب الرعوي: ص 233، 234.
[211] In Jos. Hom. 16: 5.
[212] In Jos. Hom. 17:1.
[213] Ibid 17:2.
[214] للمؤلف: سفر العدد.
[215] In Jos. Hom. 18:2, 20:6.
[216] مناجاة 18.
[217] In Jos. Hom. 18:2.
[218] Ibid.
[219] Ibid 18:3.
[220] Ibid.
[221] In Jos. 19:1.
(St. Jerome: on Ps. hom 34).
[222] للمؤلف: حزقيال.
[223] خواطر فيلسوف ص 234.
[224] سفر العدد 1981.
[225] خواطر فيلسوف: ص 238، 239.
[226] In Jos. Hom 19:3.
[227] Ibid 19:4.
[228] On Ps. 122.
[229] Mckenzie: Dict. Of Bible, P. 431.
[230] In Jos. Hom 15:20.
[231] Ibid 21:1.
[232] Ibid.
[233] On Ps. Hom 34.
[234] Mckenzie, P 807.
[235] In Jos. Hom 21:2.
[236] On Ps. 80.
[237] On Ps. Hom. 34.
[238] Mckenzie, P 797; New Westminster Dict. of Bible. 861.
[239] سفر العدد 1981 أصحاح 27.
[240] In Jos. Hom. 22:5.
[241] سفر العدد 1981 ص 15.
[242] In Jos. Hom. 24:2.
[243] In Jos. Hom. 24:2.
[244] سفر العدد: ص 23.
[245] المرجع السابق: ص 30.