يوئيل

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

 

دعوة للتجديد

هذا السفر كبقية أسفار الكتاب المقدس، هو سفر خاص بك، لتقرأه وتأكله وتجتره وتعيشه بفرح ولذة.

إنه سفر التوبة الواهبة التجديد الروحي المستمر.

يدخل بنا هذا السفر إلى عرش نعمة الله، لنختبر خطة الله في تأديبنا، ونتمتع بعطية الروح القدس الساكن فينا، والعامل في حياتنا.

عاصر يوئيل النبي غارات الجراد، ليراها قد حوّلت السماء إلى غمام قاتم، لكنه ببصيرته الداخلية، أدرك أن الشمس خلف الغيمة، وأن الله يرق نحو شعبه جدًا حتى في أمرّ لحظات التأديب.

تنبأ غالبية الأنبياء عن شخص السيد المسيح وسماته وخدمته... أما يوئيل فركز على عطية الروح القدس، الذي أرسله السيد المسيح في يوم البنطقستي (يوئيل 2: 29؛ أع 2: 16). إنه يحول برية قلوبنا المحطمة إلى فردوس الله المثمر.


 

-

يوئيل

اَلأصحاح الأَوَّلُ (غارات الجراد)

اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي (غارات الأعداء)

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ (يوم الرب)


 

يوئيل

مقدمة:

* كلمة "يوئيل" في العبرية تعني "يهوه هو الله"، وهو اسم شائع في الكتاب المقدس (1 صم 8: 2؛ 1 أي 4: 35-43؛ 5: 4، 12؛ 6: 36؛ 7: 3؛ 11: 38؛  15: 7؛ 27: 20؛ 2 أي 29: 12؛ عز 10: 43؛ نح 11: 9)...

* لا نعرف شيئًا عن هذا النبي سوى ما ورد عنه في هذا السفر. قدمه لنا المدعو أبيفانيوس Pseudo-Epiphanius في كتابه "حياة الأنبياء" على أنه من سبط رأويين. ُولد في بيت هورن أو "بيت أور". التي تبعد حوالي عشر أميال شمال غربي أورشليم، وفيها قد دفن[1]. لكن غالبية الدارسين يرون أن يوئيل من سكان أورشليم، غالبًا من سبط يهوذا، لذا جاء حديثه منصبًا على أورشليم وسماع صوت أبواق الكهنة، واجتماع الكهنة مع الشعب للعبادة في بيت الرب الخ... الأمر الذي يمثل خطًا واضحًا في السفر كله.

تاريخ السفر:

رأى الدارسون اليهود الأوائل أن يوئيل من أنبياء ما قبل السبي. وإن كان الدارسون المتأخرون من اليهود يجدون صعوبة في تحديد تاريخ النبي وبالتالي السفر نفسه[2].

يرى الأب ثيؤدورت والقديس جيروم أن يوئيل كان معاصرًا لهوشع النبي في أيامه المبكرة، أي قبل السبي. أما الدارسون المحدثون فقد اختلفوا فيما بينهم اختلافًا كبيرًا. فالبعض نسبه إلى فترة ما قبل السبي، والبعض إلى ما بعده.

يرى البعض أن يوئيل من الأنبياء المبكرين جدًا الذي كتبوا لنا. ربما عرف إيليا النبي واليشع في صباه[3].

جمع Knabenbauer أراء القائلين بأنه من أنبياء ما بعد السبي، والتي يمكن تلخيصها في الآتي[4].

1. يتحدث النبي عن الكهنة والشيوخ كأصحاب القيادة (1: 2؛ 13، 14؛ 2: 17) دون الإشارة إلى الملك كقائد أو حتى كمشترك مع الجماعة بكل فئاتها في التوبة، مما يدل على أن الحديث بعد السبي حيث عاد إسرائيل ويهوذا بلا ملك.

2. يوجه النبي حديثه إلى يهوذا وأورشليم دون أي تلميح لوجود مملكة إسرائيل...

3. لم يذكر النبي شيئًا عن وجود مذبح خارج أورشليم في السامرة عاصمة إسرائيل. كما لم يشر إلى العبادة الوثنية وطقوس البعل التي انتشرت في إسرائيل ويهوذا قبل السبي وفي أثنائه.

4. دعوة الكهنة "خدام يهوه"، اسم عرف متأخرًا بعد السبي.

يؤكد فريق من الدارسين أن يوئيل كتب حوالي عام 400 ق.م بعد سقوط بابل (539 ق.م) إذ لم يذكر اسمها، وقبل قيام اسكندر الأكبر إذ لا يقدم اليونانيين كدولة قوية مقاومة وإنما مجرد تاجرة للعبيد (3: 3)، وقبل خراب صيدون (3: 4)، وبعد بناء نحميا للسور عام 445ق.م (2: 9).

أما القائلون بأن يوئيل قد ظهر قبل السبي فيرون في الدلائل السابقة وغيرها أنها واهية، بل ولديهم دلائل متناقضة لها[5]، فمن آرائهم:

1. لم يشر النبي إلى الملك ولا دعاه للتوبة مع الكهنة والشيوخ، إما لأن الملك كان قاصرًا (ملك يهواش ابن سبع سنين 2 مل 11: 21)، أو لأن الملك لا يتدخل في الشئون الزراعية، حيث انصب غالبية السفر على حملات الجراد التي حولت البلاد إلى قفر وجفاف، أو لأن الدعوة إلى التوبة هي دعوة قلبية داخلية، فيريد النبي أن يربطهم بالعمل الروحي الطقسي دون الانشغال بالسياسة...

2. عدم ذكر العبادة الوثنية وخاصة البعل لا يعني أن النبي كتب بعد السبي، فإنه وإن كانت الطقوس الخاصة بالبعل قد نُزعت عنهم بواسطة المصلحين، لكنه وجد أيضًا بعد السبي انحراف آخر خلال المستعمر الجديد. لذا فتجاهل النبي هذا الانحراف إنما لأنه يكتب في اختصار وبتركيز مهتمًا بالجانب الإيجابي وهو عبادة الله الحيّ بفكر روحي وطقس سليم.

3. يؤكد كثير من الدارسين أن بعض الأنبياء مثل إشعياء وحزقيال وإرميا، خاصة عاموس، قد اقتبسوا بعض العبارات عن يوئيل وليس العكس.

4. لو كان يوئيل قد جاء بعد السبي فلماذا لم يشر إليه خاصة وأنه يتحدث عن قضاء الله على الأمم وتأديبه لشعبه؟! وقد أشار إلى رد السبي ومحاكمة الأمم التي أذلته كأمر نبوي مستقبلي قادم (3: 2-3).

5. أشار النبي إلى مصر كأمة معادية ومقاومة ليهوذا (3: 19)، الأمر الذي لا ينطبق على ما بعد السبي بل قبله، ومن الجانب الآخر لم يذكر في محاكمة الأمم المقاومة السامريين وبني عمون وغيرهم ممن قاوموا بعد السبي بل ذكر الفينيقيين وفلسطين وأدوم. وهم أمم مقاومة قبل السبي...

6. عدم إشارته إلى وجود مملكة شمالية إنما يتحدث عن إسرائيل كشعب واحد (2: 27، 3: 2، 16) أولاً لأن خدمة يوئيل كانت منصبة على مملكة يهوذا فلا مجال للحديث عن مملكة الشمال، ومن ناحية أخرى فإنه بروح النبوة يتطلع إلى إسرائيل كاسم أصيل ليس فقط للشعب كله (المملكتان) وإنما لكنيسة العهد الجديد كلها...

هذا ويوجد فريق ثالث مثل Kirkpatrick, Orelli, Konig, Cameron. يقسمون السفر إلى قسمين:

الأول: يضم الأصحاحين 1، 2 حسب التقسيم العبري (1، 2: 1-27) مدعين أنه كتب قبل السبي.

والثاني: يضم الأصحاحين 3، 4 (2: 28- ص 3) ُكتب بعد السبي.

لكن غالبية الدارسين يجدون في السفر وحدة واحدة في الفكر والأسلوب. وأنه لم يُكتب في عصرين مختلفين ولا وضعه الروح بشخصين...

سماته:

1. رأى يوئيل النبي الشاعر الرقيق، المرهف الحس، والمتقد بالغيرة، والنافذ البصيرة منظر غارات الجراد وقد حطمت يهوذا تمامًا، صوتها مرعب، ومنظرها قاتم، ملأت الجو، فاظلمت السماء، واختفت الشمس، وصار كل شيء كئيبًا، تحولت الحقول إلى برية ليس فيها ورقة خضراء. وتسلل الجراد من الكوى إلى كل حجرة... وليس من منقذٍ ولا مخلصٍ من هذا الجيش الخطير!!

رأى النبي يد الله الخفية وقد حركت هذه الجيوش لتحتل كل جرادة مكانًا محددًا لأجل التأديب وإدانة الشر. خلال هذه المشاعر كشف الله لنبيه منظر أمرَّ وأقسى، وهى غزوات الجيوش الغريبة التي يسمح لها الله بالهجوم على شعبه للتأديب. فإذا لم يسمعوا بلغة الجراد والقحط يحدثهم بلغة الجيوش والقتل والسبي... هذا اليوم هو يوم الرب القادم سريعًا لإدانة الشر، يوم قتام وظلام للأشرار.

لكن الله لا يترك شعبه بلا معين، فيعلن بالنبي سكب روحه القدوس على كل بشر، ليهييء البشرية ليوم الرب الأخير... يكون معينًا لهم حتى يكون يوم الرب يوم ظلام للأشرار ويوم نور للأبرار!!

يكشف هذا السفر خطة الله نحو البشرية... يتحدث بكل لغة، ولا يبخل عليهم بشيء، بل يهبهم حتى روحه ليهيئهم ليوم لقائهم معه للسكنى معه والتمتع بأمجاده.

2. هذا السفر - كما يراه بعض الدارسين - هو سفر انسكاب الروح القدس على البشر... فإن كان هذا السفر هو سفر "يوم الرب" الذي فيه يدين الخطية والشر، فهو يقدم الروح القدس الناري الذي "يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة" (يو 16: 8)... لقد دان السيد الخطية في الجسد، فحمل عنا لعنتها ليهبنا حياته المجيدة فينا، لذا أرسل لنا روحه القدوس بعد أن دفع الرب عنا أجرة الخطية، فنحيا بلا دين، واهبًا إيانا برّ المسيح يسوع ربنا...

3. إذ رأى النبي منظر الجراد المرعب كنار أحرقت كل ثمر الحقل، تطلع إلى الخطية، وقد أفسدت كرم الرب وتينته، فصار شعب الله في حالة جفاف شديد بلا ثمر، في فراغ، وأيضًا في حالة كآبة بلا بهجة (1: 12)... لذا صارت الحاجة ملحة إلى عمل الروح القدس الناري الذي يحل على البشرية، فيردهم إلى حالة الشبع بالله والبهجة به... إن كانت نار الخطية قد أكلت الحقل (1: 20)، فإن نار الروح القدس ترد القفر إلى فردوس إلهي - مثمر ومبهج!!

4. انفرد يوئيل عن بقية الأنبياء بعدم تحديد تاريخ زمني لنبوته، فلم يذكر أسماء ملوك يهوذا أو إسرائيل المعاصرين له، لأن نبوته تركزت على "يوم الرب" القادم سريعًا. وكأن الوحي قد أراد أن يعلن أن هذه هي نبوة كل الأجيال، لتترقب كل نسمة يوم الرب بكونه قريبًا للغاية... ولتتأهل له بالروح القدس الساكن فيها، فتدين نفسها فلا تُدان. لتقبل تبكيت الروح هنا فتنعم بالمجد في ذلك اليوم...

5. إن كان الأنبياء في جملتهم قد تحدثوا عن تأديبات الله لشعبه حتى يرجع الشعب إليه فيجد ذراعي الرب مفتوحتين له ولملكوته، مقدمًا عمل المسيا الخلاصي، وظهور ابن داود الملك الروحي الذي يضم كل الأمم إلى حضن أبيه. فقد عالج كل نبي موضوع التوبة والرجوع إلى الله من جانب معين. فإشعياء وعاموس وميخا تحدثوا عن التوبة خلال ترك الظلم والجور. وعزرا ونحميا خلال العمل المستمر في بناء هيكل الرب وأسوار أورشليم، وإرميا وحزقيال خلال إصلاح القلب الداخلي لا التوقف عند الإصلاح الظاهري الشكلي. أما يوئيل فهو نبي الطقس الكنسي الحيّ غير المنفصل عن البنيان الروحي الداخلي. وكأنه فيما هو يتطلع إلى أورشليم والهيكل والكهنة كان ينظر إلى أورشليم الداخلية والهيكل الخفي والصرخات القلبية... الطقس في عينيه ليس فروضًا محددة تلتزم بها الجماعة وإنما هو جزء لا يتجزأ من حياة الجماعة الروحية وبنيانها في الرب.

6. اتسم هذا السفر كالسفر السابق (هوشع) بالاهتمام بالتوبة بفكر جماعي، لكن دون تجاهل العلاقة الشخصية التي تربط المؤمن بعريسه السماوي، الأمر الذي تحدثت عنه بشيء من التفصيل في مقدمة سفر هوشع[6]. يظهر هذا الاتجاه هنا، فإن الرب يُغار على ميراثه ويرق لشعبه (2: 18، 27)، فيراني عضوًا في كنيسته ليس منفردًا ولا معتزلاً بذاتي...

كما اشترك الشعب في الشر معًا، يلتزم بالشركة في التوبة أيضًا (2: 15-17)، كل يسند أخاه بكونه عضوًا معه في الجسد الواحد...

7. إن كان النبي قد اتسم بقومية صارخة بسبب الظروف المحيطة له. فيصور لنا المجتمع اليهودي كممثل لملكوت الله، لكنه إذ يتحدث عن عطية الروح القدس لا يقدر أن يقصرها على أمة معينة أو شعب خاص، فهو عطية الله لكل بشر (2: 28)... إنه يفتح أبواب الرجاء لكل من يدعو اسم الرب فيخلص (2: 32).

8. من جهة الأسلوب، فان لغته العبرية فصيحة وبليغة. امتاز بسهولة الأسلوب وسلاسته مع وضوح المعنى ودقته. كتب أغلبه بأسلوب شعري رقيق، زينه بأنواع المجاز الدقيق ولغة تصويرية قوية النبرات...

9. يدعى يوئيل: "نبي أسفار موسى الخمسة"، إذا اقتبس من هذه الأسفار حوالي 25 مرة[7].

10. يُدعى أيضًا: "نبي العنصرة"، حيث يُقدم لنا الوعد بعطية الروح القدس. فإن كان هذا السفر هو "سفر يوم الرب"، فإننا بروح الرب نرى ذلك اليوم يوم عرس مفرح، يوم قيامة أبدية وغلبة على الموت. أما بالنسبة للأشرار فيكون يوم قتام ودينونة أبدية.

أقسام السفر:

1. غارات الجراد "تمهيد ليوم الرب"            [1].

2. غارات الأعداء "تمهيد آخر له"              [2: 1-27].

3. حلول الروح القدس "تهيئة ليوم الرب"       [2: 28-32].

4. يوم الرب العظيم                            [3].

<<

 


 

اَلأصحاح الأَوَّلُ

غارات الجراد

يصف النبي غارات الجراد الأربع التي حدثت في أيامه لا ككوارث طبيعية فحسب، وإنما كجزء من خطة الله لخلاصنا. إذ يسمح لنا بالتأديب لأجل رجوعنا إليه بالتوبة.

1. غارات الجراد            [1-4].

2. آثار الغارات             [5-12].

3. دعوة إلى توبة [13-14].

4. الحاجة إلى شفيع        [15-20].

1. غارات الجراد:

افتتح النبي السفر بقوله: "قول الرب الذي صار إلى يوئيل بن فثوئيل" [1]. فإن كانت كلمة "فثوئيل" في العبرية تعنى "فتح الله"، فانه قد أنجب "يوئيل" الذي يعنى: "يهوه هو الله". وكأنه إذ يفتح الله بصيرتنا الداخلية يعلن ذاته لنا. إنه يهوه! إى "هو الكائن"! الله هو الكائن الذي بجواره يصير الكل كأنهم غير كائنين. ففي أول لقاء لله مع أول قائد للشعب، قال له: "هكذا تقول لبنى إسرائيل: يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلنى إليكم. هذا اسمى إلى الأبد. وهذا ذكرى إلى دور فدور" (خر 3: 15).

وكما يقول فيلون اليهودى الاسكندرى معلقًا على قول الله لموسى: [أخبرهم أولاً أنيّ أنا هو الكائن حتى تعرفوا الفارق بين من هو كائن وما هو ليس بموجود[8]].

ليكن في داخلنا فثوئيل، أى ليفتح الله بصيرتنا فندرك أسراره. فنتجه إليه ونوجد معه بكونه الكائن السرمدى. ولا نعطيه القفا لئلا نعود إلى العدم، إذ يقول القديس أغسطينوس: [من يأخذ الاتجاه المضاد لله إنما يسير إلى العدم[9]].

بعد هذه المقدمة المختصرة للغاية حدثهم عن غارات الجراد، قائلاً:

اسمعوا هذا أيها الشيوخ.

واصغوا يا جميع سكان الأرض.

هل حدث هذا في أيامكم، أو في أيام آبائكم؟!

اخبروا بنيكم عنه، وبنوكم بنيهم. وبنوهم دورًا (جيلاً) آخر.

فضلة القمص أكلها الزحاف.

وفضلة الزحاف أكلها الغوغاء.

وفضلة الغوغاء أكلها الطيار. [2-4]

إن كان النبي يطلب من الشيوخ أن يسمعوا لقول الرب، فإنه يسأل جميع سكان الأرض أن يصغوا، فإن الله يود أن يتحدث مع كل البشر بلا محاباة!! إن كان الله يتحدث بلغة أو أخرى فإنه يطلب أن يلتقى مع كل إنسان ليعلن عن معاملات حبه له.

هذا ويطلب النبي منهم أن يخبروا بنيهم بالأمر، أى بصوت الرب ومعاملاته. لكى يقدموا خبرة حياة للجيل القادم، وهكذا كل جيل يسلم غيره ما قد تسلمه. هذا هو "التسليم" أو "التقليد" الذي هو في جوهره "معاملات الله مع بنى البشر". لهذا يقول الرسول بولس: "ما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا" (في 4: 9). ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يكفينا للبرهنة على عبادتنا ذلك التقليد (التسليم) المنحدر إلينا من الآباء بكونه الميراث الذي تناقلناه بالتتابع منذ الرسل خلال القديسين الذين تبعوهم[10]]... فكل جيل ملتزم بتسليم الجيل الجديد إنجيل الرب كسرّ حياة عملية خلال العقيدة السليمة والعبادة الحيّة والسلوك الروحي.

أما بخصوص غارات الجراد المذكورة هنا فقد رأى غالبية الدارسين أنها حملات حقيقية شاهدها النبي بينما ظن البعض أنها مجرد تعبير رؤيوى يكشف عما يتحقق فيما بعد، خاصة في الأزمنة الأخيرة...

القمص هو الجراد عندما يخرج من بيضه عاجزًا عن الحركة.

والزحاف هو الجراد عندما يبدأ في الحركة فيزحف أو يمشى.

والغوغاء عندما ينبت له جناحان صغيران.

والطيار ينطلق ليطير في الجو.

يرى كثير من علماء اليهود حتى أيام القديس جيروم أن هذه الغارات الأربع تُشير إلى أربع حملات قام بها سنحاريب ملك أشور ضد يهوذا (إش 1 ذ: 36)، أو إلى أربع ممالك سادت إسرائيل ويهوذا وهي: أشور وبابل؛ مادى وفارس؛ والمقدونيون؛ الرومان؛ أو: مصر وأشور وبابل واليونان... على أى الأحوال قبلت الكنيسة الأولى الفكر الرمزى لهذه الحملات دون إنكار حدوثها.

ويلاحظ في هذه الحملات الأربع (القمص. الزحاف. الغوغاء. الطيار) الآتى:

أولاً: نحن نعلم أن رقم 4 يُشير إلى العالم بجهاته الأربع: الشرق والغرب والشمال والجنوب. وإلى الجسد المأخوذ من الأرض أى من العالم. وكأن هذه الغارات تمثل حرب محبة العالم ضد المؤمن، وهجوم شهوات الجسد ضد الروح. فإذ يسقط الإنسان تحت الخطية، يسمح الله له بالتأديب خلال خطيته، إذ تحمل الخطية في ذاتها فسادها ومرارتها. فالمؤمن الذي ينحرف نحو محبة العالم وشهوات الجسد، يسمح الله أن يتركه إلى حين لهجمات محبة العالم وشهوات الجسد، ليدرك المؤمن أن الخطية تحمل في داخلها فسادها، فيتأدب بذات الخطأ الذي ارتكبه. هذا ما يؤكده لنا الله باستمرار: أن ما يحل بنا من تأديب هو ثمرة طبيعية لعمل ارتكبناه، فيقول: "أما صنعتِ هذا بنفسك؟!" (إر 2: 17). "طريقكِ وأعمالكِ صنعت هذه لكِ، هذا شركِ فإنه مرّ، فإنه قد بلغ قلبك" (إر 4: 18). فإذ يترك الإنسان الله الحق ويرتبط بمحبة العالم الباطل وشهوات الجسد الوقتية لا يتوقع إلاَّ أن يصير هو نفسه باطلاً، يفقد كل ما هو حق.

لقد أحب يهوذا العالم لا الله، شهوات الجسد لا الروح، لهذا صار أرضًا لا سماءً، وجسدًا بلا روح.

من محبة الله لنا إذ نقبل بإرادتنا أن نصير أرضًا لا سماءً، يسمح بكوارث زمنية أرضية عنيفة من براكين وزلازل وفيضانات وسيول وعواصف وأوبئة وقحط غارات الجراد والخسائر المادية تهز أرضنا، فنتركها هاربين إلى الله الذي وحده يجدد أرضنا ويجعلها سماءً له!!

إن كانت أرضنا، أى جسدنا، قد أثمر من ذاته  شهوات جسدية، يسمح الله فيرسل غارات الجراد كثمر طبيعي لخطايانا يحطم ما ظنناه ثمرًا مفرحًا. فنهرب إلى الله الذي وحده يقدر أن يقدسنا. يجردنا من أعمالنا الذاتية الشريرة، لا ليحطمنا، وإنما ليحطم ما قد سكن فينا من شر واحتل مركز قلبنا. يطرد الشر ليملك هو فينا، واهبًا إيانا بروحه القدوس ثمرًا جديدًا يليق بالإنسان الجديد. لهذا، فلا عجب إن بدأ السفر بغزوات الجراد ليعلن غزو الروح القدس لقلوبنا (2: 28-32)، إذ نفقد ثمر الإنسان القديم وأعماله الميتة وننعم بثمر الإنسان الجديد على مستوى إلهي فائق!!

لتسمح يارب بتأديباتك ليّ مهما كانت مرارتها، فإننى إذ أتلمس خلالها مرارة خطاياي، تتعلق نفسي بعمل روحك القدوس واهب الحياة الساكن فيّ!!

لقد أوضح الله لسليمان الحكيم غاية التأديب بغارات الجراد، قائلاً: "إن أمرت الجراد أن يأكل الأرض، وإن أرسلت وبأ على شعبي، فإذا تواضع شعبي الذي دُعىِ اسمي عليهم وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية، فإنني أسمع من السماء، وأغفر خطيتهم، وأبرىء أرضهم" (2 أى 7: 13-14). إنه يسمح بالجراد لا لهدمنا، بل لهدم شرنا، لطلب وجهه والتجاوب مع روحه القدوس الساكن فينا، فننال غفران الخطايا. لكن للأسف كثيرًا ما يعاند الإنسان نفسه كما فعل بنو إسرائيل إذ يوبخهم، قائلاً: "كثيرًا ما أكل القمص جناتكم وكرومكم وتينكم وزيتونكم فلم ترجعوا" (عا 4: 9).

ثانيًا: يبدأ الله في تأديبه للإنسان بالسماح لغارة القمص الصغير أن تهاجمنا. فإن لم نرجع إليه يسمح بالزحاف، وإن لم نتب فالغوغاء ثم الطيار، وإذ لا نقبل تأديباته هذه كلها يسمح بغزو الأعداء. وأخيرًا يأتى يوم الرب ظلامًا قاتمًا لمن لم يقبل كل أنواع التأديبات. إنه يتدرج معنا في تأديباته حتى متى خضعنا له يترفق بنا.

ثالثًا: لعل هذه المرحلة من الجراد: القمص والزحاف والغوغاء والطيار، تُشير إلى حرب الخطيئة ضدنا وغزوها للقلب. تبدأ بالقمص الصغير جدًا، الذي يتسلل إلى القلب أو الفكر أو الحواس خفية كالثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش 2: 15)، هذه التي يُستهين بها الإنسان فتملك على القلب وتفسده. وإذ يقوم القمص بدوره الخفي ينفتح الباب للزحاف حيث تزحف إلينا خطايا أخرى، فتسلمنا خطية إلى خطية، ونصبح ألعوبة في أيديهم. وإذ يسحبنا الزحاف إلى خطايا جديدة لم نكن نظن أننا نسقط فيها يتجرأ العدو علينا فتتسرب خطايا أبشع وأمر تمثل الخطايا في أبشع صورها أى الطيار، هذه التي تنطلق بنا إلى أعماق الهاوية، هذه التي وصفها سفر الرؤيا (9: 1-12) أنها خارجة من بئر أعماق الهاوية، مفسدة لنور الشمس تلدغ كالعقرب وصوت كصوت مركبات خيل كثيرة تجري إلى قتال. بمعنى آخر كل تهاون يسحبنا إلى مرحلة أخطر حتى يستسلم الإنسان لجراد الهاوية المهلك. يقول القديس مرقس الناسك: [يقدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو كأنها تافهة في أعيننا، لأنه بغير هذا لا يقدر أن يقودنا إلى الخطايا العظيمة[11]].

2. آثار الغارات:

اصحوا أيها السكارى،

وابكوا وولولوا يا جميع شاربى الخمر،

على العصير، لأنه انقطع عن أفواهكم. [5]

في البداية سألهم أن يسمعوا ويصغوا. أما وقد حدثت غارات الجراد سألهم أن يصحوا ويتيقظوا عن سكرهم إذ شربوا خمر العالم الذي أفسد عقلهم وحطم حكمتهم الحقة. يليق بهم أن يفيقوا من السكر ليبكوا ويولولوا على ما وصلوا إليه من حرمان!!

[يوجد سكر للنفس يصعب تجنبه إذ تصطادنا اهتمامات هذا العالم حتى إن كنا نعيش في حياة الوحدة. عن مثل هذا يقول النبي: "اصحوا أيها السكارى (لكن ليس بالخمر)". ويقول آخر: "قد سكروا وليس من الخمر، ترنحوا وليس من المسكر" (إش 29: 9). في هذا السُكر يستخدمون خمرًا يسميه النبي: "سُم الافعوان"...

أتريد أن تعرف شيئًا عن ثمرة الكروم وثمر ذلك الغصن؟

إنه يقول: "عنبهم عنب سم ولهم عناقيد مرارة". لأنه ما لم نتطهر من كل الأخطاء، ونزهد تخمة كل الشهوات، نثقل قلوبنا بمسكر وخمر أشد خطرًا. دون أن تسكر بخمر أو تتخم بولائم[12]].

لقد سكروا بخمر محبة العالم، فحرموا أنفسهم من الخمر الجديد الذي هو "الروح القدس"، الذي به تترنح النفس في محبة الله.

يدعوهم سكارى، وفي نفس الوقت يطالبهم بالبكاء والولولة على العصير لأنه انقطع من أفواههم. إذ حرموا أنفسهم مما تمتع به التلاميذ في يوم الخمسين (خمر الروح القدس) حيث وقف الرسول بطرس وقال: "لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون، لأنها الساعة الثالثة من النهار بل هذا ما قيل بيوئيل النبي: "يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة أنيّ أسكب من روحي على كل بشرٍ..." (أع 2: 15-17).

ليبكِ إسرائيل القديم وليولول لأنه قد انقطع عن فمه عصير الخمر السماوي الجديد برفضهم سكنى الروح فيهم، وليفرح إسرائيل الجديد - رجال العهد الجديد - ويتهللوا إذ رفضوا خمر العالم، أي أعمال الإنسان القديم لينعموا بخمر الروح المحييّ!

إذ يطلب من السكرى بخمر العالم أن يصحوا ويتعقلوا لأن غارات الجراد قد حلت بهم يكشف لهم عن فاعلية هذه الغارات من جوانب كثيرة، بكونها فاضحة لعمل الخطية فينا.

يقول "إذ قد صعدت على أرضي أمة قوية بلا عدد، أسنانها أسنان الأسد ولها أضراس اللبوة" [6]. إن كانت الجرادة في أي مرحلة من مراحل نموها لا تزيد عن كونها حشرة صغيرة يستطيع الإنسان أن يستحقها بقدمه أو حتى بأصبعه، لكن الجراد يتجمَّع معا كحملات قوية وخطيرة لا يمكن مقاومتها.

في عتاب يقول، "صعدت على أرضه"، فإن ما يحل بنا بسبب خطايانا وإن كان بسماح إلهي لتأديبنا، ولكنه يعتبر كل ما يمسنا يمس أرضه هو، إذ نحن أرض الله التي أقامها ليسكن فيها البرّ (2 بط 3: 13). فما نرتكبه من خطايا يُسيء إلى الله في أرضه!

أما سرّ قوة هذه الأمة التي بلا عدد فيكمن في فمها، إذ يقول: "اسنانها أسنان أسد ولها أضراس اللبوة". فتحت الحية الغريبة فمها لتتحدث مع حواء، وإذ تراخت الأخيرة هلكت هي ورجلها ونسلها أيضًا. لنحذر إذن من كلمات إبليس المخادع، لنهرب منها كما من أسنان الأسد وأضراس اللبوة، إذ يقول الحكيم عن حكمة الله: "ليحفظك من المرأة الأجنبية من الغريبة الملقة بكلامها" (أم 7: 5).

يليق بنا ألاَّ نُخدع بكلامات إبليس المعسولة لئلا تمزقنا، كما يليق بنا أن نحرس لئلا يستخدمنا عدو الخير فنصير نحن أنفسنا أسنانه التي كأسنان الأسد؛ يستخدمنا في تمزيق حياة الآخرين وإيمانهم. فإن كان عدو الخير إبليس يجول كأسدٍ زائرٍ ملتمسًا من يبتلعه (1 بط 5: 8) فلا نكون نحن أداته في تمزيق اخوتنا.

من يسلم فمه لإبليس يكون اشبه بالأسنان في فم الأسد المهلك، كما يقول القديس يوحنا الدرجى: [فاه بطرس بكلمة فبكى بكاءً مرًا، ذلك لأنه لم يذكر القول القائل:" سأستيقط في طريقى لئلا أخطىء بلساني" (مز 38: 1)، ولا القول الآخر: "الزلة من السطح ولا الزلة من اللسان" ابن سيراخ (20: 20)[13]].

ومن يسلم فمه للرب يصير اشبه بالأسنان في فم الأسد الخارج من سبط يهوذا، يحمل روح الغلبة والنصرة والحياة خلال الشهادة له، لا يمزق حياة اخوته بل يمزق عمل إبليس المضاد للحق.

إذن كلنا أسنان إما في فم الأسد المقاوم للحق أو في فم الأسد الحق، وكما يقول الحكيم: " من ثمر فم الإنسان يشبع بطنه، ومن غَلَّة شفتيه يشبع، والموت والحياة في يد اللسان" (أم 18: 20-21).

ثانيًا: "جعلت كرمتي خربةً وتينتي متهشمة" [7].

إن كان تهاوننا مع الخطيئة قد أفسد حياتنا - أرض الرب - فصارت ميدانًا لغزو عدو الخير، الأمة التي بلا عدد، المفترسة كما بأسنان الأسد وأضراس اللبوة، فإن هذا قد حطم كرمة الرب وتينته.

يدعو الرب شعبه كرمته وتينته، فالكرم يقدم العنب الذي يجتاز مع الرب المعصرة ليحمل سمة آلامه ويدخل معه إلى قوة قيامته، والتينة بغلافها الحلو الذي يضم كميات كبيرة من البذور الرفيعة إشارة إلى عمل الحب والوحدة الذي للروح القدس العذب الذي يضم الأعضاء معًا بلا انعزالية ولا فردية[14]...

فالخطيئة تفقد الكرمة والتينة سمتهما، أي تحطم عمل المسيح المصلوب والروح القدس فينا. الخطيئة تحطم كرم الرب وتهشم تينته، فلا يقبل المؤمنون المعصرة بفرح لتقديم خمر جديد في ملكوت الآب، ولا السلوك بروح الحب والوحدة الذي هو عمل الروح القدس.

الله يفرح بشعبه، كالكرمة وسط البرية، أو كتينة بكر تشبع قلبه (هو 9: 10)، لكن الخطيئة تفسد هذه الكرمة وتهشم هذه التينة، وكما جاء في سفر حبقوق: "لا يزهر التين ولا يكون حَمْلُ في الكروم" (حب 3: 17).

ثالثًا: "قد قشرتها وطرحتها فأبيضت قضبانها" [7].

امتد عمل الجراد إلى قشرة الساق والفروع. ففقدت قشرتها وصارت قضبانها بيضاء. يا للعجب فإن البياض وهو يُشير إلى النقاوة والطهارة، ففي التجلي ظهر السيد المسيح بثيابه البيضاء كالنور (مت 17: 2)، إذ حملت في داخلها شمس البرّ الذي يشع ببهائه فيها. وعند القبر المقدس رأت القديسة مريم المجدلية "ملاكين بثياب بيض" (يو 20: 12). فإن العدو وهو يحاول الخداع يستخدم اللون الأبيض في حالة البرص علامة النجاسة (لا 13: 12-13).

فمادام لنا المسيح شمس البر ملجأ لنا فيه نختفي وهو يسكن فينا نحمل بياضه كالنور، ولكن إن نُزعنا عنه برفضنا إياه نصير قضبانًا بلا قشرة تحميه... لها بياض البرص النجس. بياض المسيح يرفعنا إلى السماء حيث السماوي سرّ بياضنا قائم، أما بياض البرص فيدفع صاحبه إلى خارج المحلة ليعيش منعزلاً، يشق ثيابه ويكون رأسه مكشوفًا ويغطى شاربيه وينادى: نجس! نجس! (لا 13: 36، 45).

رابعًا: الدخول إلى حالة ترمل مبكر، إذ يقول: "نوحي يا أرضي كعروس مؤتزرة بمسح من أجل بعل صباها" [8].

إن الإنسان عند ارتكابه للخطيئة يظن أنه يشبع نفسه المحرومة ويروي جسده بالملذات، فإذا به في الحقيقة  يدخل بها إلى حالة ترمل، فتأتزر بالمسوح بغير إرادتها، لأنها فقدت عريسها الأول "الله" الذي ارتبطت به منذ صباها، وعوض ثوب العرس المفرح لها وللسمائيين، صار لها مسوح الترمل المحزنة.

على أي الأحوال يبقى عريسها الأول، عريس صباها، يتملقها ويذهب بها إلى البرية ويلاطفها (هو 2: 14)، لينزع عنها ثوب ترملها القاتم، قائلاً لها: "وأخطبك لنفسي إلى الأبد" (هو 2: 19). لكنه لا يخطبها وهي في حضن الرجل الآخر، إنما يؤكد لها: "أخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم، أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (هو 2: 19-20).

خامسًا: انقطاع التقدمة والسكيب، إذ يقول: "انقطعت التقدمة والسكيب عن بيت الرب، ناحت الكهنة خدام الرب" [9].

تكشف غارات التأديب الإلهي ما وصلت إليه النفس بسبب الخطية، فإنها إذ صارت مترملة، فقدت اتحادها بالعريس السماوي، ولم يعد يقدر الكهنة أن يقدموا تقدمة أو يسكبوا سكيبًا للرب، إذ لا يقبل تقدمة الأشرار ولا سكيب من أعطوه القفا لا الوجه.

قبول التقدمة والسكيب في بيت الرب علامة الاتحاد بين الله وشعبه المقدس ورضى الله عنه، أما وقد سقط الشعب في الرجاسات فلا قبول لتقدماته بدون التوبة والرجوع إليه. يقول المرتل: "لأنك لا تسر بذبيحة وإلاَّ فكنت أقدمها، بمحرقة لا ترضى، ذبائح الله هي روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 16-17).

في دراستنا لرسالة معلمنا بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس رأينا أن السكيب يُشير إلى حياة الفرح المستمر الذي يسكبه الروح القدس بغنى وسط الآم الكنيسة بكونها ذبيحة الله المتحدة مع المسيح الذبيح[15]. وكأن انقطاع السكيب هو انتزاع للفرح الروحي الدائم عن الشعب لتحل الكآبة عوضًا عنه... هذا هو ثمر الخطيئة الطبيعي.

نحن في حاجة أن يتقبل الله التقدمة والسكيب... فنحمل سمة المسيح المصلوب: التقدمة وسمة الفرح الروحي (السكيب)، إن رجعنا بالتوبة إليه.

سادسًا: تلف الثمار: "تلف الحقل، ناحت الأرض، لأنه قد تلف القمح، جف المسطار، ذبل الزيت. خجل الفلاحون، ولول الكرامون على الحنطة وعلى الشعير، لأنه قد تلف حصيد الحقل، الجفنة يبست، والتينة ذبلت، الرمانة والنخلة والتفاحة كل أشجار الحقل يبست، إنه يبست البهجة من بنى البشر" [10ـ12].

إن كانت قد أفسدت الخطية كرم الرب وهشمت تينته، فإنها تفقد كل ثمر روحي في حياة المؤمن الذي هو حقل الرب.

أ. يتلف الحقل ويجف المسطار (الخبز الجديد) ويذبل الزيت: إن كان القمح يُشير إلى الخبز اليومي الضروري، فالمسطار يُشير إلى الشراب الروحي المفرح بينما يُشير الزيت إلى الدواء. هكذا جراد الخطية يفقد الإنسان طعامه الروحي وشرابه ودواءه، ليعيش في حالة جوع وعطش ومرض، ليس من يشبعه ولا من يرويه أو يضمد جراحاته.

لا يبخل الله على الإنسان بشيء، لكن الإنسان في جهله يستخدم ما لله لحساب عدوه. إذ يعاتب الله عروسه، قائلاً لها: "وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت وكثرت لها فضًة وذهبًا جعلوه لبعل" (هو 2: 8). "وخبزي الذي أعطيتك السميذ والزيت والعسل الذي أطعمتك وضعتها أمامها (أمام صور ذكور تزنى معها) رائحة سرور" (حز 17: 19).

ليتنا خلال تأديبات الله ندرك ما بلغ إليه حالنا الداخلي فنجوع ونعطش إلى البرّ (مت 5: 6). فنجد السيد المسيح خبزًا سمائيًا لنا (يو 6: 15)، ومشربًا روحيًا، وطيبًا لنفوسنا.

ب. يخجل الفلاحون ويولول الكرامون إذ يأتي رب الحصاد فيجد حقله بلا حنطة ولا شعير. يجد رعاته وكهنته لا يقدمون طعام الأغنياء (الحنطة) أو حتى طعام الفقراء (الشعير).

إن كانت الحنطة تُستخدم كطعام للإنسان والشعير كطعام للحيوان، فإن الخطية تفسد كل شيء، فلا يشبع الإنسان (النفس الإنسانية) ولا حتى الحيوان (الجسد)؛ فيعيش الإنسان في حالة فراغ وجوع روحي ونفسأني وجسدي أيضًا.

ج. لا يوجد في النفس - الحقل الإلهي - ثمرًا سواء كان رمانًا أو نخلاً أو تفاحًا.

يُشير الرمان إلى وداعة المسيح التي تنعكس على وجه الكنيسة عروسه فيناجيها الرب: "خدك كفلقة رمانة تحت نقابك" (نش 4: 3)، إذ يكون لوجهها وداعته الحقة.

تُشير النخلة إلى حياة الاستقامة التي بلا انحراف، كقول العريس لعروسه الحاملة لطبيعة عريسها المستقيمة: "قامتك هذه شبيهة بالنخلة" (نش 7: 7).

ويُشير التفاح إلى التجسد الحامل للثمر المفرح لدى الآب والناس، حيث تقول العروس لعريسها المتأنس: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبى بين البنين، تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي" (نش 2: 3). هكذا بالروح القدس إذ نتحد بشجرة التفاح الفريدة بين أشجار الوعر غير المثمر نصير نحن أنفسنا تفاحًا يُفَّرح قلب الله والناس، لنا رائحة مسيحنا... "رائحة أنفك كالتفاح" (نش 7: 8).

بمعنى آخر انعدام الرمان والنخيل والتفاح إنما يعني انتزاع سمة المسيح واستقامته ورائحته عن النفس البشرية!

د. إن كانت الخطية تفقد الإنسان طعامه الروحي (الحنطة) وشرابه (المسطار) ودواءه (الزيت)، تجعله بلا ثمر للنفس والجسد (حنطة أو شعير)، تحرمه من ملامح السيد واستقامته ورائحته الذكية... فإن هذا كله يحرم الإنسان بهجته الروحية وفرحه الداخلي، إذ يقول: "إنه قد يبست البهجة من بني البشر" [12].

كثيرون يظنون في الحياة المدللة فرحًا وبهجة، وفي الحياة مع الله حزنًا وكآبة... لكن الحقيقة غير هذه فان الحياة المدللة تحمل مرارة داخلية وكآبة وسط ترفها وضحكها، أما الحياة مع الله فتقدم فرحًا روحيًا عميقًا وسط الآلام والضيقات. الخطية تفقد الإنسان فرحه الروحي، والتوبة تهب فرحًا وسط الدموع، وسلامًا داخليًا رغم الطريق الكرب والباب الضيق. لهذا كتب القديس يوحنا الدرجى مقالاً كاملاً عن "النوح الحامل الفرح"[16]، جاء فيه: [تمسك كل التمسك بالتوجع المفرح الملازم لنخس القلب، ولا تكف عنه، حتى يرفعك عن الأرضيات، ويقدمك نقيًا إلى المسيح]، [من تسربل بالنوح المغبوط المنعم به عليه كحلة عرس، عرف ضحك النفس الروحأني]، [الدموع الناتجة عن ذكر الموت تولد الخوف، إذا ولد الخوف الاطمئنان أشرق الفرح، وإذا هدأ الفرح واستمر ثابتًا أينعت زهرة الحب المقدس[17]].

3. دعوة إلى التوبة:

كشف الله من خلال تأديباته عن ثمر الخطية المر في حياة شعبه:

* هاجمت أرضه أمة قوية بلا عدد، أسنانها كأسنان الأسد [6].

* صارت كرمته خربة، وتينته مُتهشمة [7].

* فقدت الساق والأغصان قشرتها وصارت بلا حمية [7].

* دخلت عروسه إلى حالة ترمل مبكر [8].

* انقطعت التقدمة والسكيب الذي هو علامة رضى الله وفرحه ببيته [9].

* فقدت الطعام والشراب والدواء [10].

* فقدت سمات الرب واستقامته ورائحته الذكية [12].

* خسرت البهجة الروحية [12].

والآن يسرع الرب إلى تحويل الدموع والحزن إلى التوبة، هذه التي يلزم أن يمارسها الكهنة مع الشعب، إذ يقول: "تنطقوا ونوحوا أيها الكهنة. ولولوا يا خدام المذبح. ادخلوا بيتوا بالمسوح يا خدام إلهي. لأنه امتنع عن بيت إلهكم التقدمة والسكيب..." [13]. يوجه حديثه إلى الكهنة خدام المذبح ليقوموا بدورهم القيادي، لا بالنصح والإرشاد، وإنما أولاً بممارسة التوبة العملية، ليكونوا مع الشعب غير منعزلين عنهم. وقد أبرز علامات التوبة وملامحها في النقاط التالية:

أولاً: التنطق [13] أو لبس المسوح. إنه ليس وقت للبس الملابس الكهنوتية الثمينة والبهية، إنما هو وقت للتمنطق بالمسوح حتى يرق الله لشعبه ويتراءف على أولاده الساقطين. لبس المسوح يلازمه التذلل الداخلي والانسحاق بالروح أمام الله. يقول القديس يوحنا الدرجى: [ليكن لك ثوبك على الأقل داعيًا إلى النوح لأن جميع الذين يندبون موتاهم يرتدون السواد[18]].

ثانيًا: النوح والولولة [13]. فيليق بالكاهن ألاَّ يطلب دموع اخوته وأولاده الروحيين وهو جاف في مشاعره، إنما يمارس ما يطلبه منهم، قائلاً مع النبي: "من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة... ياليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً قتلي بنت شعبي" (إر 8: 21، 9: 1).

يحدثنا القديس يوحنا الدرجى عن فاعلية النوح والدموع، قائلاً: [كما تبيد النار القصب تبيد الدمعة الطاهرة كل دنس جسدي وروحي]، [لا يحتاج الله يا أحبائي إلى إنسان يبكي ويتوجع، ولا يُريد ذلك، بل بالحرى يشاء أن يبتهج بحبه ويتهلل. أزل يا هذا الخطيئة، فتصير الدمعة الموجعة في الأعين الحسية فضلة زائدة، لأنه لا حاجة إلى تنظيف حيث لا يوجد جرح. لم يكن لآدم دموع قبل المعصية، ولن تكون دموع بعد القيامة، حيث تكون الخطيئة قد أبيدت وزال معها الوجع والغم والتنهد[19]].

ثالثا: تقديس صوم لهذا الغرض، فالتوبة تمس كل حياة الإنسان، خاصة الكاهن؛ تنهدات قلبه وصراخ فمه وملابسه وأيضًا بطنه. وكأن الإنسان يتحدث مع الله معلنًا توبته بكل وسيلة، فتتساند تصرفاته معًا للإعلان عن شوقه إلى الرجوع إلى الله.

الصوم هو لغة الأحشاء متفاعلة مع الروح والفكر والأحاسيس لتعلن الرغبة في اللقاء مع الله خلال الحياة المقدسة فيه.

يقول القديس يوحنا الدرجى: [ان عقل الصوَّام يصلي بأفكار طاهرة، أما عقل الشره فيمتلىء صورًا نجسة]، [إن إتخام المعدة يجفف ينابيع الدموع، أما إذا جفت المعدة بالإمساك فتنبع تلك المياه]، [إذا ضيَّقنا على معدتنا تذلل قلبنا، وإذا لذذناها تعجرف فكرنا[20]].

ويقول الأب مار اسحق السريأني: [قال أحد القديسين: إذ يضعف الجسد بالصوم والإماتة تتقوى النفس روحيًا بالصلاة[21]].

رابعًا: المناداة باعتكاف. إذ يقول للكهنة "نادوا باعتكاف. اجمعوا الشيوخ جميع سكان الأرض إلى بيت الرب إلهكم واصرخوا إلى الرب" [14]. هكذا يعلن النبي الالتزام بالمناداة باعتكاف، أى بالاحتفال الجماعي للتوبة، فكما اشتركت الجماعة معًا في الشر، هكذا تشترك في التوبة. وقد تحدثنا في مقدمة سفر هوشع عن التوبة الجماعية التي تتضافر مع الحياة الروحية الشخصية والعلاقة الخفية بين النفس والله بكون النفس عضوًا في الجماعة المقدسة.

إن كان الكاهن يمثل العمل القيادي في الإنسان فإنه يليق بهذه القيادة أن تنادي بالاعتكاف وتجميع شيوخ جميع سكان الأرض؛ أي يجمع الإنسان كل أحاسيسة وطاقاته وقدراته وكأنها شيوخ الأرض أى العاملون في الجسد، لكي يقدم الإنسان توبةً نابعة عن كل تصرفاته وإمكانياته الروحية والنفسية والجسدية. ليجتمع الكهنة مع سكان الأرض في بيت الرب، أى لتعمل الروح بطاقاتها مع الجسد بطاقاته تحت قيادة الرب، ويصرخ الإنسان بكليته إلى إلهه.

ليتم الاعتكاف في بيت الرب إلهنا، فنهرب من غضب الله باللجوء إليه، والاحتماء في محبته الحانية وطول أناته. وكما جاء في سفر إشعياء: "يتمسك بحصني فيصنع صلحًا معي، صلحًا يصنع معي" (إش 27: 5).

4. الحاجة إلى شفيع:

إذ يجتمع الكهنة مع الشيوخ في بيت الرب ينوح الكل مولولين لإدراكهم ما قد فعلته الخطية فيهم، مترقبين ذاك الذي وحده يقدر أن يشفع فيهم بدمه الكفاري، فينقذهم من الغضب الإلهي في ذلك اليوم الرهيب. لقد أبرز النبي هذين الأمرين المتكاملين: إدراك ما وصلنا إليه من مرارة ورعب قبالة يوم الرب، والحاجة إلى شفيع قادر على مصالحتنا مع الله.

فمن جهة إدراك ما وصلنا إليه يقول: "آه على اليوم لأن يوم الرب قريب، يأتي كخراب من القادر على كل شيء. أما انقطع الطعام تجاه عيوننا؟! الفرح والابتهاج عن بيت إلهنا! عفنت الحبوب تحت مدرها، خلت الأهراء، انهدمت المخازن لأنه قد يبس القمح، كم تئن البهائم؟! هامت البقر لأن ليس لها مرعى حتى قطعان الغنم تفنى" [15-18].

في اختصار صرنا في حالة جوع، إذ انقطع الطعام تجاه عيوننا، فانه لن تشبع بآخر غير الله نفسه الذي خُلقت على صورته ومثاله. لعله لهذا السبب وُلد السيد المسيح، كلمة الله المتجسد، في مزود حتى إذ صار الإنسان كحيوان جائع يميل إلى المزود، فيقتني طعامًا جديدًا قادرًا أن يشبعه أبديًا. يسمعه يقول: "أنا هو خبز الحياة... أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم... الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم" (يو 6: 48-53).

انقطع الطعام وزال الفرح والابتهاج فصارت النفس في حالة كآبة، بل صارت في موت لا تستطيع القول: "أنيّ ابتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" (حب 3: 18)... لأنها عزلت نفسها بنفسها عن الله مصدر بهجتها.

صارت النفس في حالة خراب بلا ثمر روحي، فعفنت الحبوب تحت مدرها، وانهدمت المخازن، وصارت بلا رجاء... حتى البهائم (الجسد) تئن، قطعان الغنم تفنى. بالخطيئة يفقد الإنسان حتى الأمور الجسدية التي من أجلها ارتكبها!

بمعنى آخر نقول إنه بالخطيئة حلت اللعنة على كل شيء حتى على الأرض، كقول الرب لآدم: "ملعونة الأرض بسببك" (تك 3: 17)... فلم يعد للبركة موضع.

الآن بعد إدراك ما وصلنا إليه من لعنة حلت بنا وبالأرض ونباتاتها وحيواناتها تدخل يوئيل كشفيع، أو بمعنى أدق كرمز للشفيع الحقيقى يسوع المسيح، الذي وحده يصرخ إلى أبيه فيستجيب له. يقول "إليك يا رب أصرخ ". إنه لا يصرخ عن نفسه وإنما عن الشعب، عن المراعى التي أحرقتها النار، وعن جداول المياه التي جفت [19-20].

هذا هو الشفيع الذي يسكن القلب "أورشليم الداخلية" فيصنع صلحًا للنفس والجسد بكل طاقاتهما مع الآب. هذا الذي يفرح به الآب ويطلبه قائلاً: "طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا، أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها" (إر 5: 1). إنه ربنا يسوع المسيح المختبىء في أورشليمنا الداخلية الذي به ننال الصفح عن خطايانا‍!

 


 

من وحي يوئيل 1

عوض غارات الجراد هب ليّ روحك الناري!

v   احسبني يا رب كيوئيل ابنًا لفثوئيل (فتح الله)!

افتح يا رب قلبي، فأبصرك داخلي؟، أتعرف عليك، وأدرك حكمتك!

v   خطايا يهوذا جلبت على أرضهم غارات الجراد الأربع:

غارات القمص والزحاف والغوغاء ثم الطيار.

خطاياي جلبت علىّ تأديباتك، تقسو بالتدريج لعلي أرجع فأتوب!

خطاياي حوّلت قلبي إلى أرض قحط.

عوض غارات الجراد ليهب روحك القدوس على أرض قلبي،

يحول بريتي إلى فردوس مثمر.

يحول أرضى إلى سماء لا تقترب إليها جرادة واحدة!

v   لتؤدب يا رب... ولتشد يدك!

لكن لا تسمح بهلاكي، بل بهلاك الفساد الذي دبَّ فيّ!

أنت تسمح ليّ بالمرارة، لكنك تطلب بهجة خلاصي وفرحي الأبدي!

v   سببت ليَّ الخطية قحطًا وجوعًا!

أفسدت سلامي ونزعت عني فرحي الداخلي!

حولت عرسي إلى مأتم!

نزعت رائحتك الزكية من أعماقي!

حرمتني من التقدمة وسكيب الفرح!

نزعت عني البركة وحلت بيّ لعنتها!

من يخلصني منها غيرك يا مخلص العالم، يا شفيعي السماوي!

أنت شبعي، وسلامي، وفرحي، ومصدر كل بركة!

<<

 

 


 

اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي

غارات الأعداء

إذ لم يستجب يهوذا للإنذار الإلهي خلال غارات الجراد حدثه بصوت أكثر مرارة ألاَّ وهو غارات الأعداء، ولكن فيما هو يجرح يقدم له روحه القدوس ليهبه إمكانية التضميد بالتبكيت على خطاياه والعودة إليه.

1. الخراب المدمر                             [1-11].

2. دعوة إلى التوبة                            [12-17].

3. الله يرق لشعبه                             [18-27].

4. الإصلاح الجذرى بالروح القدس             [28-32].

1. الخراب المدمر:

لم يستفد الشعب من غارات الجراد، إذ قيل بعاموس النبي: "ضربتكم باللفح واليرقان، كثيرًا ما أكل القمص جناتكم وكرومكم وتينكم فلم ترجعوا إليّ يقول الرب" (عا  4: 9)، لذا بدأ يحدثهم عن تأديب آخر هو غارات الأعداء المدمرة، إذ يقول:

اضربوا بالبوق في صهيون،

صوّتوا في جبل قدسي،

ليرتعد جميع سكان الأرض،

لأن يوم الرب قادم لأنه قريب. [1].

أولاً: ضرب البوق في صهيون: كان الضرب بالأبواق من صميم عمل الكهنة، تُضرب عندما يتحرك الموكب "في البرية"، وعند الإعلان عن حرب، وفي مسح الملك، وعند الاحتفال بالأعياد الخ... وكان البوق فضيًا (لا 10) يُشير إلى الوصية الإلهية أو الكلمة الإلهية، التي تعمل في النفس أثناء جهادها وحربها ضد الخطية وتملأها فرحًا وبهجة مع كل عمل إلهي داخلي.

يأمر الله بضرب البوق في صهيون ليس لأن أمة معينة تهاجم صهيون، وإنما لأن يوم الرب قادم فترتعد جميع سكان الأرض... إنه يوم قريب!!

لعله أراد بضرب الأبواق في صهيون في الجبل المقدس أن يعلن أن الله هو الذي يسمح بهياج الأعداء على شعبه لتأديبهم. فإذا لم يسمعوا لصوته خلال الوصية يقدم إليهم بالرعب خلال أعدائهم، مستخدمًا إياهم لتحقيق خلاصهم من الشر؛ لم يسمعوا بوداعته فلينتظروا حزمه!

لنسمع صوت البوق، إنذارات الله، من فم الكهنة، ولنقبل الوصية الإلهية وإن كانت مرة بالنسبة للأشرار لأنها تحطم الشر الذي يحبونه، إذ "يرتعد جميع سكان الأرض" كل ما هو أرضي يهتز في قلب الشرير أمام الوصية الإلهية، وتتزلزل كل معصية وتعدي في داخله أمامها. وكما قيل: "هل يضرب بالبوق في مدينة والشعب لا يرتعد؟!" (عا 3: 6).

إن كان ضرب البوق يُشير إلى قدوم الكلمة الإلهي إلى النفس، فإن هذا يتبعه حتمًا تحطيم كل وثن داخلي احتل القلب زمانًا وكما يقول إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة خفيفة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها" (إش 19: 1).

ثانيًا: "يوم ظلام وقتام، يوم غيم وضباب، مثل الفجر ممتدًا على الجبال" [2].

إن كان يوم الرب بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين هو يوم عرس مبهج ومنير حيث يتقدم العريس - شمس البر - ليلتقي بعروسه التي تضيء كالقمر بنوره، فإنه بالنسبة للأشرار يوم ظلام وقتام، يوم غيم وضباب، إذ لا يقدرون على معاينة الرب في مجده وبهائه ولا التمتع بأسراره.

يتطلع يوئيل النبي إلى فترات غزو الجراد ليرى الجو قد تحول إلى ظلامٍ دامسٍ، لا لعدم وجود الشمس، وإنما من أجل الجراد الذي غطي الجو كله، فأفقد الإنسان بصيرته للنور، فيتحول النهار في عينيه إلى ليل. هذا المنظر وصفه سفر الخروج عند حدوث ضربة الجراد على أرض مصر: "فصعد الجراد على كل أرض مصر... وغطى وجه كل الأرض حتى اظلمت الأرض" (خر 10: 14، 15).

خلال هذا المنظر رأى يوئيل النبي ما سيحدث في يهوذا بواسطة جيوش الأعداء. فبسبب كثرة الجيش المقاتل والمركبات تتحول أرض يهوذا إلى عاصف تراب يسبب قتامًا وظلامًا. وبنفس الصورة يتحقق الأمر بالنسبة للأشرار في يوم الرب العظيم حيث يأتى ليدين المسكونة، فيكون لهم قتامًا وظلامًا بسبب ما حملوه في داخلهم من قتام الخطية وظلمتها فتحجب عنهم معاينة بهائه.

ولعل الظلام والقتام يشيران إلى ما حل بالنفس من مرارة وضيق أثناء التأديب، فتسود عيني الإنسان ونظرته إلى الحياة!

أما قوله: "مثل الفجر ممتدًا على الجبال" فيعني تأكيد حدوثه. فهو آتٍ لا محالة بالنسبة لجميع البشر: الجبال المقدسة والجبال النجسة. تفرح به جبال صهيون المقدسة، وترتعب أمامه الجبال الحاملة لمذابح البعل!

ثالثًا: يقدم لنا صورة مرة وقاسية للجيش المقاوم من جهة عدد المحاربين وقوتهم وفاعليتهم، إذ يصفه هكذا:

1. "شعب كثير وقوى لم يكن نظيره منذ الأزل ولا يكون أيضًا بعده إلى سنى دور فدور" [2].

2. الله في طول أناته ينتظر ويتأنى... لكنه يضطر من أجل محبته أن يؤدب. وإذ لا نستجيب يبدو الله قاسيًا في تأديباته حتى إذ نسقط تحت التأديب نشعر أنه فريد في آلامه ومرارته! إنها الأبوة الحانية لأجل خلاص النفس العاصية المستميتة في خطاياها!

ب. لا يقف الأمر عند كثرة العدد إنما "كمنظر الخيل منظره ومثل الأفراس يركضون، كصريف المركبات على رؤوس الجبال يثبون" [4-5]. يُرعب عيوننا بمنظره، آذاننا بصوته، العيون التي استطابت الخطية مسترخية في جهادها الروحي يرعبها التأديب الإلهي فتراه كخيل عنيف، ليس من يقدر أن يقاومه وكفرسان يركضون فليس وقت للرخاوة أو التباطؤ. صوته مرهب وعنيف للغاية، كأصوات المركبات التي تبلغ إلى رؤوس الجبال، ليس من يفلت منها!

ج. من جهة عمل التأديب فهو يفضح عمل الخطية فينا. إذ تحول جنتنا الداخلية إلى قفر: "قدامه نار تأكل، وخلفه لهيب يحرق، الأرض قدامه كجنة عدن وخلفه قفر خرب ولا تكون منه نجاة" [3]. هذا الغزو الناري وإن كان في أعماقه تأديبًا إلهيًا لكنه هو ثمر طبيعي لعمل الخطية، النار المهلكة، من يمارسها يحتضن نارًا تهلكه. هذه النار لا يمكن أن يقوى عليها إلاَّ نار الروح القدس، الذي يحول القفر الخرب إلى فردوس مبهج. فبنار الروح القدس تُباد نار الخطية، وبثمر الروح يرد للقلب حاله الأول ليصير جنة الله المبهجة، فيناجي المؤمن مخلصه قائلاً: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمرة النفيس" (نش 4: 6).

إن كان هذا السفر هو سفر يوم الرب الرهيب للخطاة الذين تحوّل فردوسهم إلى قفر، فهو في نفس الوقت سفر انسكاب الروح على بني البشر الذي يرد إلينا طبيعتنا، فيجعلنا فردوسًا لله عوض القفر الذي صرنا إليه. لهذا يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص للموعوظين قبيل عمادهم: [إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظين. إنكم تشاركون آدم أباكم الأول في نفيه، والآن يفتح الباب وتعودون من حيث خرجتم[22]].

إن كان النبي يرى في الخطية نارًا تلتهم القش[5]. فالروح الناري يحول هذا الرماد إلى هيكل مقدس للرب. يقول القديس كيرلس الكبير: [ينال المعمد الروح القدس فيه ويحمل فعلاً لقب هيكل الله[23]].

د. من جهة الخطة فهي محكمة للغاية: "يصعدون السور كرجال الحرب، ويمشون كل واحد في طريقه ولا يغيرون سبلهم، ولا يزاحم بعضهم بعضًا، يمشون كل واحدٍ في سبيله وبين الأسلحة يقعون ولا ينكسرون" [7-8]. فقد شاهد النبي غارات الجراد وقد غطت الجو تمامًا. انطلقت إلى الحقول فأكلت كل ما هو أخضر فيها، وتسربت إلى البيوت خلال الكوى. ليس من يقدر أن يقاوم! ومع هذا كله أدرك كأن لكل جرادة عملها الذي أُرسلت من أجله. فلا تزاحم جرادة أختها، ولا تتحرك إلاَّ بالقدر الذي سمح لها به الله للتأديب. ما حدث لم يكن مجرد كارثة طبيعية بلا هدف إنما حملت هدفًا دقيقًا في جملتها كما في تفاصيلها. والأمر بعينه، يتكرر مع غزو الأعداء ضد يهوذا، فما يحدث من تخريب لا يكون بلا هدف إنما كل شيء محدد بدقة فائقة!

الله الذي سمح للعدو أن يهاجم شعبه لا يقف أمامه السور حائلاً، فإن الخطة تتم ويدخل كل إلى موقعه، وإن سقط بين الأسلحة فلا ينكسر حتى يحقق الهدف.

هـ. لا يفلت أحد من هذا التأديب، ما دام الكل قد أخطأ، فإن كان يهاجم الحقول المكشوفة في القرى ليحولها إلى قفر، فإنه يتسلل كلصوص من الكوى إلى البيوت في المدن. يتخطى السور ولا يقف أمامه حائط... ليس من يقدر أن يهرب، فإن ثمر الخطية يتبعه إينما وُجد ولو كان في داخل مخدعه محاطًا بالأسوار المنيعة!

و. يحمل مرارة المرّ، ليس من يقدر أن يطيقه: "قدامه ترتعد الأرض وترتجف السماء، الشمس والقمر يظلمان، والنجوم تحجز لمعانها. والرب يعطى صوته أمام جيشه. إن عسكره كثير جدًا. فإن صانع قوله قوى، لأن يوم الرب عظيم ومخوف جدًا. فمن يطيقه؟! [10-11].

هذه هي ذات العلامات التي قدمها السيد المسيح نفسه عن مجيئه الأخير، هي علامات مرعبة للخطاة الأشرار... يسمح الله للطبيعة أن تهتز أمامهم وترتجف ليدركوا ماذا تفعل الخطية بالطبيعة فيستعد الخطاة بالتوبة لملاقاة الرب.

والعجيب أن الله يعتبر الجيش المقاوم لشعبه "جيشه"، لأنه هو الذي سمح له أن يقوم بالتأديب، فصار عصاه للتأديب ولكن إلى حين.

وللآباء مفاهيم روحية رمزية لارتعاد الأرض وارتجاف السماء وظلمة الشمس والقمر وتساقط النجوم... الأمر الذي نعود إليه بأكثر توسع في دراستنا لانجيل متى (ص 24) إن شاء الرب وعشنا مكتفيًا هنا ببعض المقتطفات:

v   الآن نهاية كل الحياة الزائلة. وكما يقول الرسول تزول هيئة هذا العالم الخارجي ليتبعه عالم جديد، وعوض الكواكب المنظورة يضيء المسيح نفسه بكونه شمس الخليقة الجديدة وملكها. عظيمة هي قوة هذه الشمس الجديدة. وعظيم هو بهاؤه وذلك كالشمس التي تضيء الآن حيث يظلم القمر والكواكب الأخرى أمام هذا النور العظيم[24].

يوسابيوس القيصري

v   كما أن القمر والنجوم تتضاءل بسرعة أمام الشمس المشرقة هكذا أمام ظهور المسيح تظلم الشمس، ولا يعطى القمر ضوءه، وتتساقط النجوم من السماء، فيُنزع عنها بهاؤها السابق لكي تلبس ثوب النور العظيم[25].

القديس يوحنا الذهبي الفم

الأرض المرتعدة هي الجسد الذي يضعف ويهزل أمام الرجاسات التي يرتكبها الإنسان لبهجة جسده وراحته، ففيما يظن أنه يقدم الراحة لجسده إذا به يرعده دون أن يدري. أما السماء فتُشير إلى النفس التي كان يجب أن تكون مركزًا لملكوت الله وموضعًا لسكناه... تفقد النفس أمانها وسلامها خلال الخطية فترتجف. وتبطل الأنوار السماوية علامة فقدان البصيرة الروحية والدخول إلى حالة تخبط روحي، هكذا يعلن التأديب الإلهي ثمرة خطايانا؛ يفضحها فينا فلا نطيق يومه الرهيب. لقد سبق فقال أهل بيتشمس الذين سرقوا تابوت العهد: "من يقدر أن يقف أمام الرب الإله القدوس هذا؟! وإلى من يصعد عنا؟!"(1 صم 6: 20). كما يقول المرتل: "أنت مهوب أنت، فمن يقف قدامك حال غضبك؟! من السماء أسمعت حكمًا! الأرض فزعت وسكتت عند قيام الله للقضاء لتخليص كل ودعاء الأرض" (مز 76: 7-9).

2. الدعوة إلى التوبة:

إذ كشف الله بتأديباته عن فاعلية الخطية في النفس والجسد، فتح الله أبواب الرجاء لشعبه على مصراعيه حتى لا يسقط أحد في اليأس. إذ ينادى قائلاً: "ارجعوا إليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر، لعله يرجع ويندم فيبقى وراءه بركة تقدمة وسكبيًا للرب إلهكم" [12-14].

في هذه الدعوة يعلن الآتى:

أ. التوبة في جوهرها هي "رجوع إلى الله"... ليس مجرد ندامة على الخطية أو توقف عن الإثم، إنما في إيجابيتها رجوع إلى الأحضان الإلهية، فنعطى لله الوجه لا القفا... لهذا يؤكد الله سماته الخاصة بعلاقته بنا أنه رؤوف رحوم بطيء الغضب وكثير الرحمة.

وكما يقول القديس كبريانوس: [يستطيع أن يصفح، مترفقًا بالخاطىء الذي يعمل سائلاً الرحمة[26]]. لقد استخدم الله كل وسيلة ممكنة للتعبير عن محبته للإنسان وترفقه به لكي يعود إليه فيجد فيه الأحضان الأبوية التي لا تغلق قط أمام الراجعين! يقول القديس أمبروسيوس: [ليته لا يخف أحد من الهلاك، مهما كانت حالته، ومهما كان سقوطه، فسيمر عليه السامري الصالح الذي للإنجيل، ويجده نازلاً من أورشليم إلى أريحا، أي هاربًا من آلام الاستشهاد إلى التمتع بملذات العالم مجروحًا بواسطة اللصوص... مطروحًا بين حيّ وميت، هذا السامري الصالح الذي هو رمز للسيد المسيح، الذي هو حارس للأرواح، لن يتركك إنما يتحنن عليك  ويشفيك[27]].

إن كان الله هو الذي يسمح بالتأديب - الذي نراه شرًا - فإننا إذ نرجع إليه "يندم على الشر". وكما يقول الأب ثيودور: [اعتاد الكتاب أن يستخدم بعض التعبيرات في غير معناها الأصلي، فيستخدم كلمة "الشرور" عن "الأحزان والضيقات" ليس لأنها شر أو طبيعتها شريرة، بل لأن من تحل بهم هذه الأمور لأجل صالحهم يعتبرونها شرًا. فحينما يتحدث الحكم الإلهي مع البشر يتكلم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشرية[28]].

ب. الرجوع بكل القلب: كثيرون يرجعون إلى الله وقت الضيق لكن ليس بكل القلب، فاذا ما رُفع الضيق عادوا فورًا إلى شرهم الأول، وربما إلى حال أشر، كما كان فرعون الذي دعا موسى وهرون وسألهما أن يصليا عنه وعن شعبه، فيطلق الشعب ليذبح للرب (خر 8: 8) لكن "لما رأى فرعون أنه قد حصل الفرج أغلظ قلبه ولم يسمح لهما كما تكلم الرب" (خر 8: 15)...

ليكن رجوعنا إلى الله بكل القلب، يسندنا في ذلك الصوم والبكاء والنوح... وكأن الجسد يشترك مع النفس في الرجوع إلى الله، معلنًا ذلك بالصلاة والصوم والدموع.

في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [ليت هؤلاء الذين يتوبون يعرفون كيف يقدمون التوبة، بأية غيرة، وبأى مشاعر، وكيف تبتلع كل تفكيره، وتهز أحشاءه الداخلية، وتخترق أعماق قلبه، إذ يقول إرميا النبي: "أنظر يا رب فإني في ضيق، أحشائي غلت، ارتد قلبي في باطني" (مرا 1: 2)].

ويقول: [شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين، ويرفعون التراب على رؤوسهم، يتمنطقون بالمسوح. تحني عذارى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض، كلت من الدموع عيناي، غلت أحشائي، انسكب على الأرض كبدي" (مرا 2: 10-11). هكذا أيضًا أهل نينوى حزنوا فهربوا من هلاك مدينتهم (يونان 3: 5) يا لقوة مفعول هذا الدواء الذي للتوبة، حتى ليبدو كأنه يغير نيِّة الله!].

[اظهر جراحاتك للطبيب فيشفيك... أزل آثار جروحك بالدموع! فإن هذا هو ما صنعته المرأة المذكورة في الإنجيل، فأزالت بذلك نتانة خطاياها. لقد غسلت خطاياها بغسلها قدمىْ المخلص بدموعها[29]].

لا تقف التوبة عند المظهر الخارجي، إنما يلزم أن تمس القلب الداخلي، القلب كله... "مزقوا قلوبكم لا ثيابكم". وكما يقول القديس كبريانوس: [أسالكم أيها الإخوة الأعزاء أن يعترف كل واحد بخطاياه التي ارتكبها في هذا العالم... لنرجع إلى الرب بكل القلب، ونعبر عن توبتنا عن خطايانا بالحزن الحقيقي، متوسلين إلى رحمة الله، لتنحنِ نفوسنا قدامه، ليشفع حزننا أمامه، ليكن كل رجائنا فيه، فقد أخبرنا كيف نسأله... لنرجع إلى الرب بكل قلبنا، ونطفيء غضبه وسخطه بالصوم والبكاء والحزن كما نصحنا هو بنفسه[30]].

ج. في قوله: "لعله يرجع ويندم" لا يعني عدم اليقين، وإنما علامة الوقوف أمام الله بتذلل وانسحاق، مترجين رحمته، فالله يطلب في توبتنا الاتضاع، إذ "ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17).

إنه يندم لا بمعنى تغيير فكر الله، وإنما بمعنى الحب، كالأب الذي يؤدب ابنه بحزم متظاهرًا بالقسوة لعل ابنه يعود إليه، فيعود إلى ابنه. إنه حتى في لحظات حزمه لا يحتمل دموع الابن. وعلامة ندمه أنه يترك وراء التأديب بركة لا غضبًا، فيقبل من ابنه التقدمة والسكيب علامة رضاه عنه وقبوله: "فيبقى وراءه بركة تقدمة وسكيبًا للرب إلهكم" [14].

د. التوبة تمارسها الجماعة كلها، الشيوخ والأطفال والرضع والمتزوجون حديثًا والكهنة وخدام الرب. إن كانت الخطية قد امتدت إلى الجميع لذا يليق أن يشترك الكل معًا، ويسند البنيان بعضه البعض في حياة التوبة.

يتحدث إرميا النبي عما فعلته الخطية بالرضع: "لصق لسان الراضع بحنكه من العطش، الأطفال يسألون خبزًا وليس من يكسره لهم" (مرا 4: 4)... وفي رحمة الله بنينوى كان للأطفال اعتبارهم الخاص لديه، إذ يقول: "أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من أثنتى عشر ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟!" (يو 4: 11).

هـ. يشترك الكهنة مع الشعب في التوبة بكونهم خدام الرب بين الرواق والمذبح، عملهم الرئيسي خدمة الرب خلال المذبح، أي في المسيح الذبيح. إنهم يخدمون خلال الصلاة الدائمة والشفاعة عن الشعب، قائلين: "اشفق يا رب على شعبك ولا تسلم ميراثك للعار حتى تجعلهم الأمم مثلاً، لماذا يقولون بين الشعوب أين إلههم؟!" [17].

3. الله يرق لشعبه:

"يغار الرب لأرضه ويرق لشعبه" [18]... ما سمح الله به لشعبه من آلام إنما لأجل غيرته على أرضه المقدسة، ورقته نحو شعبهم المحبوب لديه جدًا، إذ فيما هو يؤدب يطلب من أولاده أن يتطلعوا إليه لا كديان منتقم بل كأب محب يشتاق أن يفرح بهم ويُسر بحبهم له. أما علامات محبته الأبوية فهي:

أ. إن كانت النفس تدخل إلى حالة جوع وعطش ومرض بسبب الخطية، فإن الله في محبته يقدم نفسه طعامًا وشرابًا ودواءًا روحيًا لها، قائلاً: "هأنذا مرسل لكم قمحًا ومسطارًا وزيتًا لتشبعوا منها، ولا أجعلكم عارًا بين الأمم" [19]... لا تعود تسأل الأمم - أى العالم - ليشبع عاطفتها أو يروى أحاسيسها أو يطيب جراحاتها بل تجد في عريسها كل الشبع.

يُناجي القديس يوحنا سابا الله مصدر الشبع الحقيقى، قائلاً:

[طوبى للذي نسى حديث العالم بحديثه معك، لأن منك تكتمل كل حاجاته!

أنت هو أكله وشربه!

أنت هو بيته ومسكن راحته، إليك يدخل في كل وقت ليستتر!

أنت هو شمسه ونهاره، بنورك يرى الخفيات!

أنت هو الآب والده!

أنت أعطيت روح ابنك فيه، والروح أعطاه دالة أن يطلب منك كل مالك، مثلما يطلب الابن من أبيه! معك حديثه في كل حين، لأنه لا يعرف له أبًا غيرك![31]].

ب. إذ يحقق الله الهدف بالتأديب حيث يرجع الشعب إليه، يدين الشعب المقاوم، الجيش الذي استخدمه كأداة تأديب... لماذا؟ لأنه سقط في الكبرياء، كقول النبي: "فيكون متى أكمل السيد كل عمل بجبل صهيون وبأورشليم انى أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه" (إش 10: 12). فقد تصلف العدو وظن في نفسه أنه قدير ولم يدرك أن الله كان يستخدمه لتأديب شعبه. لهذا يذله الرب على تصلفه: "والشمالي أبعده عنكم، وأطرده إلى أرض ناشفة ومقفرة مقدَّمته إلى البحر الشرقي (البحر الميت شرقي اليهودية) وساقته (مؤخرته) إلى البحر الغربى، فيصعد نتنه وتطلع زُهمته (رائحتة الكريهة) لأنه قد تصلف في عمله" [20]...

هكذا إذ يسقط في العجرفة يشقه الرب ليحطم مقدمته في مياه البحر الميت ومؤخرته إلى أقصى البحر الغربي لكي لا يجتمع معًا مرة أخرى، تفوح رائحة نتنه في كل موضع. هذا كله بسبب التصلف، كقول إشعياء النبي: "لأنه قال: بقدرة يدي صنعت وبحكمتي، لأنى فهيم، ونقلت تخوم شعوبٍ ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل.. لذلك يرسل السيد سيد الجنود على سمانه هُزالاً، ويوقد تحت مجده وقيدًا كوقيد النار، ويصير نور إسرائيل نارًا وقدوسه لهيبًا فيحرق ويأكل حسكه وشوكه في يومٍ واحدٍ، ويفني مجد وعره وبستانه (النفس والجسد معًا)" (إش 10: 13-18).

ج. يغسل الرب جراحاتهم السابقة فيرد الغم الذي سيطر عليهم بسبب الخطية إلى بهجة وفرح [21].

د. تقديس كل الطاقات والمواهب بالروح القدس، إذ يقول: "لا تخافي يا بهائم الصحراء، فإن مراعي البرية تنبت، لأن الأشجار تحمل ثمرها، التينة والكرمة تعطيان قوتهما. ويا بني صهيون ابتهجوا وافرحوا بالرب إلهكم لأنه يعطي المطر المبكر على حقه وينزل عليكم مطرًا مبكرًا ومتاخرًا في أول الوقت" [22-23].

ارتبط العصر المسيانى في ذهن الأنبياء بالمياه المقدسة (حز 36: 26؛ إش 30: 23؛ إر 31: 9؛ زك 13: 1-2؛ مز 46: 4 الخ...) التي تحول القفر أرضًا خصبة، تروى المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتقدم حياة وتقديسا[32]...

ما هو المطر المبكر والمتأخر إلاَّ الروح القدس الذي يروى النفس الظمآنة، فتنبت البرية، وتحمل الأشجار ثمارها، وتعطى التينة والكرمة قوتهما؟! انه الروح القدس الذي عمل في القديم كمطر مبكر، لكنه بالأكثر استقر فينا بعد صعود الرب ليحول بريتنا الداخلية إلى فردوس مفرح!

يقول النبي: "لا تخافي يا بهائم الحقل، فإن مراعي البرية تنبت"، فإن كان الجسد قد صار بسبب الخطية كبهائم الحقل بلا مرعى، فإن الروح القدس يقدس الجسد ويشبع كل طاقاته وأحاسيسه بما هو للبنيان، إنه لا يحطم بهائم الحقل، ولا يحقر من شأنها، بل يقدسها ويشبعها بما هو للرب! ولهذا يسأل بني صهيون أن تبتهج وتفرح من أجل هذا المطر السماوي. وكأن النبي يعلن خلال الظل ما قاله السيد لتلاميذه: "لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى" (يو 16: 7).

هذا هو المطر الذي وعد السيد المسيح تلاميذه أن يرسله لهم من عند الآب علامة حبه لهم واهتمامه بهم، وكما جاء في الأمثال: "في نور وجه الملك حياة، ورضاه كسحاب المطر المتأخر" (أم 16: 15). ويقول هوشع النبي: "خروجه يقين الفجر، يأتى إلينا كالمطر، كمطر متأخر يسقي الأرض" (هو 6: 3). ويسألنا زكريا النبي أن نطلب هذا المطر المتأخر ليعمل في حياتنا: "اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا، ويعطيهم مطر الوبل، لكل إنسان عشبًا في الحقل" (زك 10: 1). هذا هو عطية الله العظمى: "لنخف الرب إلهنا الذي يُعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة" (إر 5: 24).

قدم لنا السيد المسيح هذا المطر المتأخر في حينه لكي تشبع نفوسنا بالرب فتسبحه، وتدرك حلوله في وسطها، أى يهبها الشبع الروحي وحياة التسبيح والشعور بالحضرة الإلهية، إذ يقول "وتأكلون أكلاً وتشبعون، وتسبحون اسم الرب إلهكم الذي صنع معكم عجبًا ولا يخزى شعبي إلى الأبد، وتعلمون إنى أنا في وسط إسرائيل وأنيّ أنا الرب إلهكم وليس غيري ولا يخزى شعبي إلى الأبد" [26-27].

إن كان الإنسان قد خرج من الفروس جائعًا، لا يستطيع العالم كله أن يشبع قلبه أو أحاسيسه أو فكره... فإنه يبقى هكذا هائمًا على وجه الأرض في جوع شديد حتى يملأه الله بروحه القدوس المشبع!

هذا الشبع يولد تسبيحًا، فيصير الإنسان كالرضيع الذي يفرح بأمه فتهتز كل مشاعره وتتجاوب كل أعضاء جسده مع فرحه ليخرج تسبحة حب حقيقي يعجز اللسان عن التعبير عنها، فالتسبيح ليس مجرد كلمات ننشدها أو نغمات نتعلمها لكنه في أعماقه هو حالة فرح حقيقي تهز كيان المؤمن كله: جسديًا وروحيًا، فينطلق اللسان بالتسبيح، ويرقص القلب طربًا بالرب، وتهتز النفس كلها بنغمات سمائية ملائكية.

هذا التسبيح يرتبط بإدراك المؤمن لسكنى الرب فيه. فهو يسبح ويتهلل لا من أجل العطايا حتى وإن كانت روحية، إنما من أجل المُعطي نفسه، واهب العطايا!

هذه هي علامات محبة الله الأبوية لشعبه. إنه يشبع النفس ويرويها ويضمد جراحاتها، ويرد لها مجدها فيه، وينزع عنها عار الخطية والإثم، مقدسًا كل طاقاتها ومواهبها لحسابه، معلنًا سكناه فيها كسرّ شبعها وتسبيحها الروحي!

يمكن تلخيص بركات حبه لشعبه في الآتي:

أ. يرق لهم، أي يترفق ويحنو عليهم [18].

ب. يجيبهم ويسمع لهم [19].

ج. يُشبع احتياجاتهم ويهبهم شبعًا روحيًا [ 19].

د. ينزع عنهم العار [19]، واهبًا إياهم مجدًا.

هـ. يطرد أعداءهم ويحطم كبرياءهم [20].

و. ينزع عنهم الخوف والقلق [21].

ز. يهبهم البهجة والفرح [21].

ح. يهتم حتى ببهائمهم [22].

ط. يبارك ثمار أرضهم [22].

ى. يهبهم المطر المبكر والمتأخر [23] (عطية الروح القدس).

ك. يعوضهم عن السنوات التي أكلها الجراد [24].

ل. يعطيهم روح التسبيح والعبادة الروحية الحية [26].

م. يعلن عجائبه في حياتهم، فيصيرون عجبًا [26].

ن. يعلن سكناه في وسطهم [27].

س. يهبهم روحه القدوس [28].

4. الإصلاح الجذري بالروح القدس:

إذ يرق الله لشعبه ويغير على ميراثه لا يبخل عليهم بشيء، وإنما يهبهم نفسه. إنه يعطيهم روحه القدوس فيهم بكونه سرّ تغييرهم الداخلي الجذري، إذ يقول: "ويكون (أي في آخر الأزمنة) أنيّ أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلامًا، ويرى شبابكم رؤى، وعلى العبيد أيضًا وعلى الإماء اسكب روحي في تلك الأيام" [29].

 إنه العطية العظمى التي قدمها الله للبشرية بعد أن هيأ لها بتقديم ذبيحة الفداء على الصليب. هذه العطية التي تمتعت بها الكنيسة في يوم الخمسين كما أعلن الرسول بطرس (أع 2: 14-21)، والتي قُدمت لكل بشر يتقدم إلى الله، هو عطية الله للبنين والبنات، أي بلا تمييز في الجنس من جانب. ومن جانب آخر انها تُعطي حتى لقليلي الخبرة، فهو الهبة المجانية من قبل الله لكل من يقبل!

وهو عطية الله للشيوخ الذين ترهلت حياتهم وأحسوا بالضياع، فيحول شيخوختهم الروحية إلى شباب متجدد في الرب مملوء رجاءً وفرحًا.

هو عطية الله للعبيد والإماء، تُعطي للذين يدركون أنهم عبيد فيحررهم واهبًا إياهم روح البنوة.

إنه عطية الله لبنى البشر... أي لجميع من يقبل!

أما عن عمل الروح القدس فينا فيكفي أن نذكر كلمات القديس باسيليوس الكبير: [بالروح القدس استعادة سكنانا في الفردوس.

صعودنا إلى ملكوت السموات.

عودتنا إلى البنوة الإلهية.

دالتنا لتسمية الله "أبانا".

اشتراكنا في نعمة المسيح.

تسميتنا أبناء النور.

وبكلمة واحدة نوالنا ملء البركة في هذا الدهر وفي الدهر الآتي[33]].

يعلق القديس امبروسيوس على العبارة "أسكب روحي"، قائلاً: [انه لم يقل "أسكب الروح" بل "روحي Of  My Spirit" إذ لا نستطيع أن نتقبل كمال الروح القدس بل نتقبل قدرما يقسم سيدنا من عنده حسب إرادته (في 2: 6)[34]]، ولكن هذا لا يعني عدم سكنى الروح فينا، ولا أن ننال جزءًا منه إذ يحذرنا القديس اكليمندس الاسكندرى[35] من تجزئة الروح، إنما هو سرّ سكنى الروح القدس عاملاً فينا حسبما يريد الله لبنياننا، بطريقة إلهية فائقة.

تصاحب هذه العطية: "عجائب في السماء والأرض دمًا ونارًا وأعمدة دخان، تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجىء يوم الرب العظيم" [30]... وكأن غاية هذه العطية العظمى هو الانطلاق بالكنيسة إلى يوم الرب العظيم لترى السماء والأرض تزولان، نور العالم ينطفيء ليبقى ما هو إلهي! بهذا يلتهب قلبها نحو الاتحاد بالله وحده الأبدي!

أخيرًا يختم نبوته عن الروح القدس بإعلان قبوله جميع القادمين إليه من كل الأمم، إذ يقول: "ويكون أن كل من يدعو باسم الرب ينجو" [32]. يفتح الله ذراعيه لكل من يدعوه سواء كان يهوديًا أو أمميًا، وكما يقول الرسول بولس: "لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى، لأنه لا فرق بين اليهودى واليوناني، لأن ربًا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به، لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص" (رو 10: 11-13). وكما يقول بطرس: "لأن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين على بعد كل من يدعوه الرب إلهنا" (أع 2: 39).

يقول القديس أغسطينوس: [كان اسم صانع السماء والأرض يُدعى قبلاً بين الإسرائليين وحدهم، أما بقية الأمم فكانوا يدعون الأوثان الخرس الصم التي لا تسمع، أو يدعون الشياطين التي تسمع ما هو لأذيتهم[36]]. أما الأن فقد صار الأمم يدعون اسم الله الحيّ بالروح القدس.


 

من وحيّ يوئيل 2

فى وسط تأديباتك أشعر برقة حنانك!

v   سمحت بغارات الجراد الأربع لتأديب شعبك،

وإذ لم ينتفعوا بعثت إليهم غارة البابليين...

وفى هذا كله عجيب أنت فى حبك!

أنك ترق لشعبك!

فى وسط تأديباتك أشعر برقة حنانك!

v   فى وسط تأديباتك اشعر كان يومك يوم قتام

لكنك أنت خلف الغيمة!

سرعان ما تنقشع الغيمة وتشرق فىّ ببهائك!

اسمح ليّ أن أرى نورك وسط آلامي!

v   علمني كم أنت رقيق فى حبك وحنانك،

فأرجع إليك لا بتمزيق ثيابي بل بانسحاق قلبي!

لك وحدك أخطأت،

لك أكشف جراحات نفسي، أيها الطبيب السماوي!

اشفني فأشفى!

املأ كل فراغ قلبي بحبك!

ارسل روحك القدوس عاملاً في أعماقي!

يحول قفري الداخلي إلى فردوس سماوي!

كم أنت رقيق في حبك حتى في لحظات تأديبك ليّ!

<<

 

 

 


 

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ

يوم الرب

ينطلق بنا النبي من الحديث عن التأديبات الإلهية إلى يوم الرب العظيم الذي فيه يتمجد الله بكسر كبرياء الأمم وتكريم أولاده الذين تجاوبوا مع التأديبات الأبوي مقدمًا لهم هبات أبدية.

1. محاكمة الأشرار فى وادي يهوشافاط       [1-8].

2. الرب ملجأ لشعبه                          [9-17].

3. عطايا الله الأبدية                           [18-21].

1. محاكمة الأشرار في وادي يهوشافاط:

لكي تكون التوبة فعالة في حياة الكنيسة، وفي حياة كل عضو فيها، يلزمنا التطلع إلى يوم الرب أنه قريب، فيه نرى التأديبات الحاضرة، وإن كانت مُرّة ومحزنة لكنها نافعة للبنيان، نرى ظهور الرب لخلاصنا الأبدي ومعاقبة الأشرار، يرى الساقطون تحت التأديب أن مجدهم قادم سريعًا وخزى إبليس يتحقق فعلاً، يقول النبي: "لأنه هوذا في تلك الأيام وفي ذلك الوقت عندما أرد سبي يهوذا وأورشليم أجمع كل الأمم وأنزلهم إلى وادي يهوشافاط وأحاكمهم هناك على شعبي وميراثي إسرائيل الذين بددوهم بين الأمم وقسموا أرضي والقوا قرعة على شعبي وأعطوا الصبي بزانية وباعوا البنت بخمر ليشربوا" [1-3].

تتم المحاكمة في وادي يهوشافاط الذي يعني في العبرية "وادي يهوه يقضي أو يُدين"، أي "وادي الدينونة"... هذا الوادي غير معروف تمامًا، غير أن رجال القرن الرابع رأوا أنه وادي قدرون شرقي أورشليم مقابل جبل الزيتون غربًا، ويرى البعض أنه وداي الجوز شمالي أورشليم أو وادي الربابة جنوبي المدينة.

لماذا اختار وادي يهوشافاط للدينونة؟

أولاً: اُختير من أجل المعنى الرمزي فأن يهوه نفسه هو الذي يقضي، الله هو الديان، لأنه فاحص القلوب والكلى.

ثانيًا: إنه وادي بجوار أورشليم يجتمع فيه الكل ليدين الله الأشرار حسب فعلهم، ويدخل بأولاده إلى أورشليم العليا التي يُحرم من رؤية مجدها الأشرار، لا تكون الدينونة في أورشليم إذ لا يدخلها شيء دنس أو رجس، بل هي مسكن الله مع الناس (القديسين) (رؤ 21: 3).

ثالثًا: يذكرنا وادي يهوشافاط بما حدث مع جيوش الأمم المهاجمة ليهوذا (2 أي 20)، فقد حطمهم الرب في نفس الموضع الذي اجتمعوا فيه لمحاربة أولاده، وكأنه تتم محاكمة المجرم في موضع جريمته. كان وعد الرب للملك يهوشفاط وشعبه الصارخ بتذلل وصوم: "لا تخافوا ولا ترتاعوا بسبب هذا الجمهور الكثير، لأن الحرب ليست لكم بل لله... قفوا اثبتوا، وأنظروا خلاص الرب معكم. ولما جاء يهوذا إلى المرقب في البرية تطلعوا إلى الجمهور، وإذا هم جثث ساقطة على الأرض ولم ينفلت أحد" (2 أي 20: 24). حقًا إن المقاومين لنا جمهور عظيم، وكما يقول الرسول بولس: "فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السموات" (أف 6: 12)، لكننا ننعم بقوة ضد إبليس وجنوده، هي قوة الصليب المحطمة شرهم، "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15)، هذا هو وادي يهوشافاط، حيث كان السيد المسيح خارج المحلة، خارج أوشليم يهلك العدو الشرير بصليبه ليردنا إلى ملكوته الأبدي! إنها محاكمة قد تحققت بالصليب، وتبقى فاعليتها في حياة كل من اتحد بالمصلوب حتى يلتقي بالرب وجهًا لوجه في يومه العظيم، لهذا يحثنا الرسول بولس: "فلنخرج إذًا إليه خارج المحلة حاملين عاره، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 14). إنها دعوة للخروج إلى وادي يهوشافاط، خارج أورشليم، حاملين صليب الرب لنرى بأعيننا هزيمة إبليس وأعماله تتحقق كل يوم في حياتنا، منطلقين نحو مدينتنا الباقية.

لننطلق إلى وادي يهوشافاط لنرى الرب يقضي لنا ضد إبليس وإغراءاته وتهديداته، فلنلمس ما سبق فأعلنه النبي: "لأن للرب يوم انتقام، سنة جزاء، من أجل دعوى صهيون" (إش 4: 8). "لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديّيَّ قد أتت" (إش 63: 4). فيوم النقمة قد تحقق وأتى فعلاً بارتفاع الرب على الصليب مجتذبًا إليه صهيون من وسط الجحيم ومحطمًا قوى الشر تحت قدميه، ويبقى هذا اليوم ممتدًا في حياتنا، مادامت ذبيحة الصليب لم تفسد ولا غلبها الجحيم، وإذ تكمل خطة الله نحو جميع المختارين يترآى لنا الرب وجهًا لوجه ويظهر إبليس مقيدًا في الهاوية.

في هذا الأصحاح أبرز الله يومه العظيم في جوانبه الثلاثة:

أولاً: تمجيد اسم الله الذي أهانه الأمم بمهاجمتهم أولاده، إذ يقول: "فتعرفون أنيّ أنا الرب إلهكم ساكنًا في صهيون جبل قدسي" [17]. وفي يوم الدينونة يتمجد الله الذي خلص أولاده من أسر إبليس معلنًا سكناه الأبدي في وسطهم، إذ يقول القديس يوحنا: "سمعت صوتًا عظيمًا من السماء، هوذا مسكن الله مع الناس، وهو يسكن معهم وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ 21: 3).

ثانيًا: إخضاع كبرياء الأمم وكما يقول إشعياء النبي: "هل تفتخر الفأس على القاطع بها؟! أو يتكبر المنشار على مردده؟! كأن القضيب يحرك رافعه، كأن العصا ترفع من ليس عودًا" (إش 10: 15)، هكذا ظن الأمم الذين استعدمهم الله لتأديب شعبه أنهم أعظم من الذي سمح لهم بذك، فافتخروا على الله الحق وتشامخوا عليه. لهذا بعدما يتحقق الهدف منهم يعود فيرد إليهم أعمالهم: "فإنه قريب يوم الرب على كل الأمم؛ كما فعلت يُفعل بك، عملك يرتد على رأسك (عو 15). لهذا دعى يوم الرب يوم خراب. "ولولوا لأن يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء" (إش 13: 6). ودعى يوم انتقام: "فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للإنتقام من بغضيه فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم" (إر 46: 10). "لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين" (إش 16: 2)، "لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديّيَّ قد أتت" (إش 63: 4)، كما دعى يوم سخط: "قبل أن يأتي عليكم حمو غضب الرب، قبل أن يأتي عليكم يوم سخط الرب" (صف 2: 2).

ثالثًا: كمال تحرير شعب الله الذي سقط في العبودية زمانًا وصاروا تحت سخرية الأمم، لهذا يقول: "عندما أردُّ سبي يهوذا وأورشليم" [1]. فهو الذي يسمح لنا بالتأديب حتى بالعبودية إذ قبلناها بإرادتنا يرسل لنا عونًا ليحررنا كما أرسل موسى لفرعون، قائلاً: "قلت لك أطلق ابني ليعبدني" (خر 4: 23).

تطلع الله فوجد أولاده وبناته يُباعون بالزنا والسكر، فيبيعون الصبي بزانية، والبنت بكأس خمر للشرب! باعوهم للياوانيين (اليونانيين) [6] تجار النفوس (خر 27: 13). حقًا ما أصعب على قلب الله أن يرى ميراثه وخاصته ونصيبه وكنزه يبدده العدو المستبد بأرخص الأثمان! إنه يغار على نفوس أولاده وبناته، الذين هم كنزه: ذهبه وفضته ونفائسه الجيدة. لذا يقوم ليحررهم قائلاً للعدو: "أرد عملكم لأنكم أخذتم فضتي وذهبي وأدخلتم نفائسي الجيدة إلى هياكلكم وبعتم بني يهوذا وبني أورشليم لبني ألياوانيين لكي تبعدوهم عن تخومهم... أبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا ليبيعوهم للسبائيين لأمه بعيدة لأن الرب قد تكلم" [4-8].

ما هي القضة أو الذهب أو النفائس الجيدة التي يدخلها العدو إلى هياكله، إلاَّ نفوس أولاد الله الثمينة التي يحسبها في عينيه كنزه الثمين، فقد اقتنصها العدو للعمل لحساب هيكل غريب معادٍ لله، هو هيكل محبة العالم والتمتع بملذات الجسد الدنسة؟! لقد بيع أولاد الله للغرباء، فصاروا عبيدًا لخطايا كثيرة كمن هم تحت سطوة فرعون ورجاله. لكن الرب في كل وقت يؤكد عمله الخلاصي بالصليب من أجل نفوس عبيده، قائلاً: "أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين، وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليِّ، فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون ليّ خاصة من بين جميع الشعوب، فإن ليّ كل الأرض، وأنت تكونون ليّ مملكة كهنوتًا وأمة مقدسة" (خر 19: 4-6). كما قيل: "إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب جبل نصيبه" (تث 32: 9). يعمل لحساب شعبه، نصيبه، ليحرره تمامًا فيجعل منه سماء جديدة وأرضًا جديدة يسكنها البرّ (2 بط 3: 10-13). لا يقدر أن يسطو عليها العدو بعد.

تسلمنا من الله فضته التي هي كلمته... الحية المصفَّاه سبع مرات (مز 12: 6)، وذهبه، أي السمة السماوية، ووهبنا ثمار الروح التي هي النفائس الجيدة، فلا ندخل بهذه إلى غير هيكل الرب، بل نسلك بأمانة فيما قد وهبنا، لكي ننعم بالكثير بعدما تمتعنا بالتوبة لقد حملوا نفائس الرب الجيدة إلى هياكلهم الشريرة، ذلك كمن يستخدم سمات الحب التي وهبه الله إياها في شهوات الجسد، أو كمن يستغل محبة الآخرين له بسبب تدينه أو معرفته الروحية في غير طريق الرب!

أخيرًا، ماذا يعني الرب بقوله: "أبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا ليبعوهم للسبائيين؟" [8]. ربما قصد بذلك ما حدث أيام المكابيين الذين غلبوا أعداءهم، أو يقصد إدانة القديسيين للعالم كقول الرسول: "ألستم تعلمون أن القديسيين سيدينون العالم؟!" (1 كو 6: 2)، فحين يُحرم الأشرار من المجد يُدانون من خلال القديسيين الذين كسبوا الحرية الأبدية خلال التوبة الصادقة في الرب. 

2. الرب ملجأ لشعبه:

بعد أن أعلن عن يوم الرب العظيم الذي فيه يتمجد الله بتحرير أولاده من سطوة الشر أعلن أن سرّ الغلبة لا في الإنسان ذاته وإنما في الله ملجأه.

يبدأ أولاً بالسخرية بالأمم التي اتكلت على ذاتها وإمكانياتها ليعلن ضعفها أمام الله الذي يسند أولاده واهبًا إياهم الغلبة. ففي تهكم يقول: "نادوا بهذا بين الأمم، قدسوا حربًا، انهضوا الأبطال، ليتقدم ويصعد كل رجال الحرب. اطلبوا سكاتكم سيوفًا ومناجلكم رماحًا؛ ليقل الضعيف بطل أنا" [9-10].

إنهم يحاربون بكل طاقاتهم، وإذا بهم يحطمون أنفسهم، وكما قيل: "هيجوا أيها الشعوب وانكسروا... تشاوروا مشورة فتبطل، تكلموا كلمة فلا تقوم، لأن الله معنا" (إش 8: 9، 10). هنا أيضًا يسألهم إن أرادوا فليقدسوا حربًا، أي يكرسوا كل طاقاتهم وإمكانياتهم للحرب، وليأتوا بجميع أبطالهم دفعة واحدة، ليحولوا سكاتهم (أسنان المحراث) إلى سيوف، ومناجلهم إلى رماح، أي ليكرسوا كل إمكانياتهم فإنهم هالكون لا محالة!

في تهكم يقول لهم: "ليقل الضعيف بطل أنا" [10]، فقد ظن الشيطان في نفسه بطلاً زمانًا هذا مقداره، ولم يدرك أنه ضعيف للغاية عند دخوله المعركة مع الرب نفسه على الصليب.

ويرى كثير من الأباء في قول الرب: "ليقل الضعيف بطل أنا" أنها كلمات موجهة لكل مؤمن يدرك أنه ضعيف بذاته، يتشدد بالرب ملجأه قائلاً "بطل أنا" وكما يقول الأب سيرينوس: [اسمع ما يقوله الملك (الله) نفسه مستصوبًا الرجال الشجعان مستدعيًا إياهم للحرب الروحية ضد الخطية، قائلاً: "ليقل الضعيف بطل أنا والمتألم مصارع أنا". فلا يحارب في المعركة الربانية إلاَّ الضعفاء... لأنه "حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 9). وأيضًا: "لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 9)[37]].

إن كنا أمام الشيطان ضعفاء لكننا بالرب أقوياء وأبطال، وكما كتب القديس يوحنا ذهبي الفم لصديقه الراهب الساقط: [إن كان الشيطان لديه هذه القدرة أن يطرحك أرضًا من العلو الشامخ والفضيلة السامية إلى أقصى حدود الشر، فكم بالأكثر جدًا يكون قادرًا أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد من ذي قبل]. [اسقطنا الشيطان وطرحنا، أما نحن فعلينا أن نقوم ولا نسقط مرة أخرى، حتى لا نطرح أنفسنا لتضيف إلى ضرباته لنا ضربات أخرى[38]].

إذن ليتنا لا نرتعب من إبليس حتى وإن ظهر كجماهير كثيرة وقوية، إذ هو ضعيف للغاية أمام الله الساكن فينا. يقول النبي "جماهير جماهير في وادي القضاء، لأن يوم الرب قريب في وادي القضاء، الشمس والقمر يظلمان والنجوم تحتجز لمعانها. والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته فترتجف السماء والأرض. ولكن الرب ملجأ لشعبه وحصن لبني إسرائيل" [14-16].

ان كانت الأمم قد صارت كالشمس في العالم أو القمر أو حتى النجوم، فإنها أمام الله – شمس البر – تظلم ويختفي لمعانها الزائف.

يقوم الرب نفسه كأسد خارج من سبط يهوذا يحمي أولاده ويحصنهم فيه، صوته يرعد الخطية، فترتجف أمامه ولا تقطن في نفسك (السماء) ولا في جسدك (الأرض).

يحدثنا القديس مارافرام السرياني عن الله كملجأ لنا، قائلاً: [ليكن الله هو ملجأ لك... إن كانت عنايته لا تتخلى عنك فلا يستطيع شيء أن يؤذيك. لا تخف من الأعداء الذين يهجمون عليك بعنف، فإن الله يحفظ نفسك ويحول الأمور الضارة إلى أمور نافعة[39]].

أما علامة النصرة بالرب فهي أنه بينما نحن نلتجىء إليه كحصن لنفوسنا، إذا به يعلن ذاته فينا ولا يسمح لغريب أن يملك في أورشليم مقدسه، ولا يجتاز فيها الأعاجم في ما بعد [17].

3. عطايا الله الأبدية:

تُعلن غلبتنا بالرب بسكناه وحده فينا، يملك على القلب ولا يسمح لأعجمي أن يجتاز في مملكته... تصير الأرض وملؤها للرب ولمسيحه. هذه الحضرة الإلهية تعلن عن ذاتها خلال فيض الثمر الذي يظهر فينا، وينابيع الروح التي تتفجر في داخلنا:

"ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرًا (خمرًا جديدًا)،

والتلال تفيض لبنًا،

وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماء،

ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط (شطيم)" [18].

ما هذه الجبال والتلال والينابيع وبيت الرب إلاَّ جوانب للكنيسة المنتصرة التي يسكنها الرب واهب الغلبة فيجعل من أولادها جبالاً مقدسة له، تفيض عصيرًا يروي البالغين، وتلالاً حية تفيض لبنًا للأطفال، وينابيع لا تنضب يلجأ إليها الكل، وبيت للرب يفرح السمائيين؟!

لعله يُشير أيضًا إلى العصير (الخمر الجديد) بكونه الروح القدس الذي يسكر النفس بحب الله ويملأها فرحًا أبديًا. فالجبال تُشير إلى العاملين في كرم الرب هذا الروح الإلهي يتمتع به البالغون كخمر روحي مفرح، ويقتات به الأطفال كلبن يسندهم، وكمياه حية تروي كل نسمة تعطش إليه. يقول السيد المسيح نفسه: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37، 38).

حديثه عن الينبوع الذي يخرج من بيت الرب ليسقي وادي السنط أو وادي شطيم إنما ينبوع المعمودية الذي رأه حزقيال النبي خارجًا من تحت عتبة بيت الرب نحو المشرق، والمياه نازلة من تحت جانب البيت الأيمن عن جنوب المذبح، هذا الذي يروي أشجارًا كثيرة جدًا من هنا ومن هناك، مياهه شافية تضم سمكًا كثيرًا جدًا (حز 47). إنه ينبوع المعمودية الذي يفيض على وادي السنط الجاف وغير المثمر، الذي لم يكن ينمو فيه سوى شجر السنط... تحوله المعمودية إلى وادٍ مخصب، به كل أنواع الشجر المثمر! هذا هو النهر الذي فاض بفروعه الأربعة على الأمم في كل جهات المسكونة ليقيم الله فردوسه الحيّ عوض وادي السنط (شطيم) القفز. يبدأ هذا الوداي شمال غربي أورشليم وينحدر إلى شرق المدينة، فاصلاً إياها عن جبل الزيتون، ثم يسير إلى الجنوب الشرقي نحو البحر الميت، ربما هو وادي النار حاليًا.

على أي الأحوال يختم يوئيل نبوته بإعلانٍ فيض عمل الله في كنيسته ليس فقط من الجانب الإيجابي حيث تفيض عصيرًا ولبنًا ومياهًا حية، وإنما من الجانب السلبي يُحطم فيها أعمال الإنسان القديم الذي رُمز إليه هنا بمصر (محبة العالم) التي تأسر الإنسان كما استبعد فرعون شعب الله وأدوم (حب سفك الدم والظلم)... إنه يهيئها لذلك اليوم العظيم لتنضم معه في مجده الأبدي.

يقدم لنا يوئيل النبي في هذا الأصحاح البركات الإلهية التالية:

أ. الأعداء يُطردون ويُلقون هالكين [1-15].

ب. أورشليم، تخلص [16، 17].

ج. الأرض، تتبارك [18].

د. يهوذا يتجدد [19-21].

هذا هو عمل الله فينا، إذ يُحطم العدو الشرير تحت أقدامنا، ويخلص أورشليمنا الداخلية، هيكله المقدس، ويقدس أرضنا، أي جسدنا، ويعلن مملكة الخارج من سبط يهوذا في أعماقنا.

 

 

 


 

من وحي يوئيل 3

يومك... يوم الحرية!

v   سمحت لشعبك بالتأديب،

بسبيهم في بابل،

لكنك سرعان ما أدبت بابل العنيفة القاسية.

جعلت يومك يوم الحرية والفرح!

v   دِنْ يارب خطيتي التي أسرتني في مذلة،

أما نفسي المحبوبة لديك فحررها بيمينك!

v   أعترف لك انني أفسدت عطاياك ليّ،

حولت طاقاتي وعواطفي وكل إمكانياتي للشر.

قدس حياتي،

جدد أعماقي،

رُدْ كل طاقاتي إلى ملكوتك!

v   اعترف لك إنني أسير الخطية...

ضعيف أنا، ومرذول!

لكن بك أصير قويًا!

بصليبك أحطم قيود العدو وتتحرر نفسي.

يوم صلبك هو  يوم إعلان حريتي!

<<


 

[1] The pulpit Commentary, Joel, 1962, P.VI.

[2] International Critical Comm., Joel, 1974.,

[3] Henrietta C. mears: What the Bible is all about, 1987, P.248.

[4] اكتفيت بأهم العناصر كما أضفت إليها أراء الدارسين الآخرين.

[5] The Pulpit Comm., P IX, X.

J.H. Raver: O.T. Introduction, P213:214.

[6] راجع مقدمة سفر هوشع.

[7] Boyd's Bible Handbook, 1983, P320.

[8] Phila: Vita mos. 1:14:75.

[9] On Ps. 39.

[10]Contra Eunom. 4. PG. 45:953.

[11] مقالاتان عن الناموس الروحى 94.

[12] Cassian: Conf. 9:6.

[13] Ladder 11:7.

[14] St. Chrysostom: Op. Imperfectum hom 16.

[15] راجع.

[16] Step 7.

[17] Step 7:9, 40, 56.

[18] Ibid 7:22

[19] Ibid 7:31, 45.

[20] Ibid 14:19, 20, 22.

[21] Mystical Treatises, St. Isaac the Syrian, vol 1, P 179.

[22]  PG 46:416C .

[23] In Joan S. 2.

[24] Caetena of Creek Frs. (Luke 21).

[25] Excerpta in Secund Adv.

[26] Treat. 3:36.

[27] ترفقوا بالخطاة: القديس أمبروسيوس 1968، ص 32.

[28] Cassian: Conf. 6:6.

[29] ترفقوا بالخطاة: ص 50، 51، 56.

[30] للمؤلف: الحب الإلهي، ص 51.

[31] Treat. 3:29.

[32] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد.. ص 49.

[33]De spir. Sanc. 15:35.

[34] Of  The Holy Spirit 8:92.

[35]Strom. 5:13.

[36] Ser. On N. T. 6:1.

[37]  37. Cassian: Conf. 7: 5.

[38] رسالة إلى ساقط يائس، 1964، ص 7، 38

[39] ارشادات ونصائح للقديس مار افرام السرياني، 19.

 

الصفحة الرئيسية