يونان
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
يوناننا الجديد
كثيرون يتطلعون إلى يونان مجرد نبي هارب من وجه الرب، الأمر الذي لا يستطيع أحد أن يتجاهله، لكنهم يتجاهلون موقفه بكونه النبي الوحيد الذي أرسله الرب قديمًا للكرازة في بلد أممي، نينوى عاصمة أشور. وإذ أدرك بروح النبوة أن خلاص الأمم يتحقق خلال رفض إسرائيل للإيمان لم يحتمل يونان هذه الإرسالية، هاربًا من الخدمة، ليس كراهية في الأمم وإنما خوفًا من خاصته. لعله أدرك خلال ظلال النبوة ما أعلنه الرسول بولس عن إسرائيل: "بزلتهم صار الخلاص للأمم... كانت زلتهم غنى للعالم" (رو ١١: ١١، ١٢).
شاهد يونان إسرائيل كيقطينة ظللته إلى حين بالشريعة والنبوات، لكنها يبست بدودة الجحود وعدم الإيمان والخيانة للمسيا المخلص، لذا إغتم غمًا شيددً واغتاظ (٤: ١). هكذا كان حبه لإسرائيل الذي استظل به هو علة هروبه من خدمة الأمم وسرّ غمه الشديد. والعجيب أن الله فاحص القلوب حوَّل هذا الهروب بالرغم مما فيه من عصيان للأمر الإلهي إلى كرازة وخلاص لفئة جديدة من الأمم هم البحارة ورئيس النوتية الذين خافوا الرب خوفًا عظيمًا وذبحو ذبيحة للرب ونذروا نذورًا (١: ١٦) بعد إلقاء يونان في المياه ودخوله جوف الحوت، فصار عملاً رمزيًا لخلاص الأمم بعد أن أُلقى السيد المسيح "يوناننا الجديد" في القبر.
ليحملنا روح الله القدوس إلى يوناننا الحق فنراه من أجلنا يسلم نفسه ليُلقى في بحر حياتنا الثائرة، نازعًا عنها إضطراباتها، حاملاً إيانا معه لا في جوف الحوت وإنما في قبره المقدس لنُدفن معه كل يوم ونقوم أيضًا حاملين شركة أمجاده الإلهية.
-
الأصحاح الأول (يونان في البحر الثائر)
الأصحاح الثاني (يونان في جوف الحوت)
الأصحاح الثالث (يونان في نينوى)
الأصحاح الرابع (يونان شرقي المدينة)
1. كلمة "يونان" أو "يونا" في العبرية تعني حمامة، وفي رأي القديس چيروم تعني أيضًا "متألم". لهذا يرى أن هذا السفر هو سفر حلول الروح القدس الذي يظهر على شكل حمامة كما في عماد السيد المسيح، خلال المسّيا المتألم، الذي دخل إلى القبر كما إلى جوف الحوت وقام ليقيمنا معه، واهبًا إيانا روحه القدوس عاملاً فينا. وكما يقول القديس چيروم: [صوّر يونان قيامة ربنا بعبوره في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالِ ليهبنا الغيرة الأولى لنوال حلول الروح فينا].
2. تنبأ يونان بن أمتاي في أيام يربعام الثاني ملك السامرة (٢ مل ١٤: ٢٥)؛ عاش في جت حافر التي من الناصرة. وقد تنبأ أن الله يرد حدود السامرة إلى مدخل حماة شمالاً وإلى بحر العربة وخليج العقبة جنوبًا، أما موضوع نبوته لإسرائيل فهو إنقاذه من ظلم آرام (سوريا).
3. كان نبيًا لإسرائيل "مملكة الشمال" حوالي عام ٨٢٥ – ٧٨٤ ق.م، معاصرًا عاموس النبي، وقد سجل نبوته غالبًا بعد عودته من نينوى.
4. جاء في التقليد اليهودي أن يونان هو ابن الأرملة التي أقامه إيليا النبي في صرفة صيدا (١ مل ١٨: ١٠ – ٢٤)، ويرى البعض أنه تقليد له اعتباره، إذ يليق إرسال هذا النبي المحب لإسرائيل إلى نينوى الأممية يكرز لها بالتوبة بكونه أممي من جهة والدته[1].
عاصمة الإمبراطورية الأشورية، جددها الملك سنحاريب كعاصمة له ( ٢ مل ١٩: ٣٦).
يرى البعض أن مدينة الموصل الحالية تقوم على نصف مساحة نينوى القديمة[2]، ويرى غالبية الدارسين أن نينوى قد شُيدت على الضفة الشرقية من نهر دجلة، على فم رافد "الخسر"، على بعد ٢٧ ميلاً من إلتقاء دجلة مع الزاب[3]. وكان العبرانيون يعممون إسم نينوى ليشمل كل المنطقة حول إلتقاء الزاب بدجلة (تك ١٠: ١١، ١٢؛ يون ١: ٢؛ ٣: ٣).
كان أهل نينوى، وهم بابليون الأصل (تك ١٠: ١١) يعبدون الآلهة عشتاروت، عُرفت المدينة بغناها وعظمتها وجمالها فكان ملوك الأشوريين يجلبون إليها الغنائم ويحسبون العالم القديم كله عبدًا لها.
سمى ناحوم النبي نينوى "مدينة الدمار" ملآنة كذبًا وخطفًا، كما تنبأ صفنيا النبي بخرابها، عُرف ملوكها بالعنف الشديد يتسلون على جذع أنوف الأسرى وسحل عيونهم وقطع أيديهم وآذانهم، وعرضهم أمام الشعب للسخرية.
في أواسط القرن السابع ق.م. أخذت إمبراطورية أشور تتقهقر وتنحل، وفي عام ٦2٥ ق.م. أعلن نابوبلاسر البابلي إستقلاله عن نينوى، وفي عام ٦١٢ ق.م. تحالف مع جيرانه أهل مادي وهاجم نينوى نفسها ودمرها، ساعده على ذلك فيضان دجلة وطغيان مياهه على الشوارع والساحات، وقد تحولت المدينة إلى أسطورة.
سفران في العهد القديم موجهان إلى الأمم، سفر عوبديا يخص بني آدوم حيث يعلن رمزيًا هلاك الإنسان العتيق الدموي (بني آدوم) وإقامة الإنسان الجديد الروحي (صهيون)، وسفر يونان يخص أهل نينوى الذي يعلن رمزيًا عن قبول الأمم للكرازة وإعلان توبتهم ورجوعهم إلى الله.
بينما كان اليهود يقاومون الأنبياء ويضطهدونهم إذا بأهل نينوى يقبلون كرازة يونان ويعلنون صدق توبتهم. بهذا يرى القديس چيروم صورة رمزية لرفض اليهود للسيد المسيح الذي تنبأ عنه أنبياؤهم بينما قبلت الأمم الغريبة الإيمان به خلال سماعها عنه. وكما قال السيد المسيح نفسه: "رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان ههنا" (مت ١٢: ٤١). يقول القديس چيروم: [صار اليهود تحت الحكم بينما قبل العالم الإيمان. تمارس نينوى التوبة بينما يهلك إسرائيل في جحوده ويجف. هم عندهم الكتب أما نحن فلنا رب الكتب؛ هم لهم الأنبياء أما نحن فلنا فكر الأنبياء. هم يقتلهم الحرف أما نحن فيحينا الروح. لديهم باراباس مقيدًا، أما نحن فلنا المسيح ابن الله حرًا].
هذا الفكر لم يظهر في توبة نينوى فحسب وإنما في خشوع رئيس النوتية والبحارة وخوفهم الرب وتقديمهم ذبائح له ونذرهم نذرًا... أي قبول الأمم الرب وتقديمهم العبادة الخاشعة له.
كشف هذا السفر عن محبة الله للبشرية من جوانب متعددة، فأعلن أنه إله الجميع، يهتم باليهود كما بالأمم، يوّد خلاص كل نفس. في محبته يعلن ضعفات نبيه لا للتشهير بها وإنما ليهب رجاءً لكل نفس ضعيفة، وفي محبته يبرز الجوانب الطيبة حتى في الأُمميين فيعطي ضوءًا على تصرفات رئيس النوتية ورجاله المملوءة حكمة ولطفًا فاستحقوا أن ينعموا بالإيمان. وفي محبته يستخدم الله كل شيء حتى الخليقة الجامدة لتحقيق غايته نحو الإنسان فهو الذي أرسل النوء العظيم، وأعد حوتًا ليبتلع يونان، ودودة تأكل اليقطينة وتتلفها، وريحًا شرقية حارة فتضرب الشمس رأس يونان... كلها إرساليات تبدو عنيفة وشديدة لكنها تُحقق مصالحة الله مع الإنسان وتعلن عن محبته له.
قدم لنا Raven في كتابه "مقدمات العهد القديم" ملخصًا لأهم الإعتراضات على أن يونان هو كاتب السفر، وهي[4]:
أولاً: أن السفر لم يشر إلى أن يونان هو كاتبه. ويُرد على ذلك أن المقدمة جاءت بنفس طابع مقدمات كثير من أسفار الأنبياء مثل هوشع ويوئيل وميخا وصفنيا وحجي وزكريا.
ثانيًا: قيل أن السفر يحوي كلمات آرامية وتعبيرات استخدمت في عصر متأخر بعد زمن يونان، مثل تعبير "إله السماء" (١: ٩) الذي استخدمه عزرا ونحميا ودانيال لم يستخدمه رجال ما قبل السبي. ويُرد على ذلك أن وجود تعبيرات مستخدمة بعد السبي لم تظهر في أسفار ما قبل السبي لا يعني أن التعبير كان غير معروف قبل السبي. أما تعبير "إله السماء" على وجه الخصوص فلم يظهر في أسفار ما قبل السبي إلاَّ في يونان، لأن الحديث موجه إلى رجال أُمميين كالبحارة وملك نينوى (٣: ٧)، وهو تعبير مناسب لهم. وجود كلمات آرامية استخدمت مؤخرًا لا تعني عدم معرفتها قبلاً، إنما يُحتمل أن تكون منقولة عن العبرية القديمة ولو كانت لم تستخدم في الكتب المقدسة قبل السبي.
ثالثًا: يرى البعض أن الكاتب في عصر متأخر مُدللين على ذلك عدم معرفته لإسم ملك نينوى إذ لم يذكره بالاسم. يُرد على ذلك أن النبوة وإن كانت تمس حياة أهل نينوى لكنها موجهة لإسرائيل للكشف عن محبة الله للأمم وشوقه إلى توبتهم وخلاصهم، فلا حاجة لذكر إسم الملك.
رابعًا: ما ورد في صلاة يونان الشعرية (الأصحاح الثاني) مقتبسًا من المزامير، وكأنها كتبت في عصر متأخر:
[ع ٣] من مزمور ٤٢: ٧؛
[ع ٥] من مزمور ٦٩: ١٠؛
[ع ٩] من مزمور ٥٠: ١٤.
ويرد Raven بالقول أنه ليس في هذا دليل أن السفر كُتب متأخرًا، فكما يمكن القول بأن يونان اقتبس من المزامير يجوز لنا القول بأن المزامير أقتبست هذه العبارات عن سفر يونان.
إدعى بعض النقاد أن هذا السفر يقدم صورة رمزية مجردة وليس حقيقة واقعة، فيونان في رأيهم يمثل إسرائيل العاصي، والحوت الذي ابتلعه هو بابل الذي سبى إسرائيل، وجوف الحوت هو السبي، وما تلى ذلك من خلاص إنما يُشير إلى عمل الله الخلاصي ورد الشعب من السبي، أما حُججهم في ذلك فهي:
أ. لم يرد السفر بين الأسفار التاريخية بل النبوية.
ب. جاءت توبة أهل نينوى سريعة ومفاجئة وبشكل جماعي، وجاء قرار ملك نينوى بطريقة غير متوقعة، الأمر الذي لا يحدث واقعيًا.
ج. لا يُعقل أن إنسانًا يُحفظ في جوف الحوت لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال ويخرج حيًا، ويُقدم صلاة شكر داخل الجوف.
د. ما ورد في هذا السفر قدم فكرًا رمزيًا أُعلن في أسفار أخرى، فقد رُمز لنبوخذنصر بتنين يبتلع إسرائيل: "أكلني أفناني نبوخذنصر ملك بابل، جعلني إناءً فارغًا، ابتلعني كتنين وملأ جوفه من نعمي، طوّحني... وأعاقب بيل في بابل وأخرج من فمه ما ابتلعه فلا تجرعه إليه الشعوب بعد ويسقط سور بابل أيضًا، أخرجوا من وسطها يا شعبي ولينج كل واحد نفسه من حمو غضب الرب" (إر ٥١: ٣٤، ٤٤، ٤٥). ورُمز لمدة السبي بثلاثة أيام: "يُحينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه" (هو ٦: ٢).
ويرد بعض الدارسين على الإعتراضات السابقة مؤكدين أن هذا السفر مع ما حمله من معانٍ رمزية كثيرة يروي قصة واقعية حقيقية، ودلائلهم على ذلك الآتي:
أ. وضع السفر بين كتب الأنبياء لا بين الأسفار التاريخية لا ينفي ما قدمه السفر من واقع تاريخي، فقد وُضعَ هكذا لأن الكاتب نبي، ولأن الواقعة تحمل أيضًا جانبًا نبويًا، كما جاءت تسبحة يونان قطعة نبوية رائعة تعلن عن عمل السيد المسيح الخلاصي.
ب. الإعتراض بأن توبة ملك نينوى وشعبه جاءت سريعة بطريقة غير متوقعة لا يمكن قبولها، إعتراض ضعيف، فظهور نبي غريب الجنس قذفه الحوت بعد ثلاثة أيام من جوفه قد أثار البلد كلها، وكان موضوع رعب الجميع. وقد تحدث السيد المسيح عن أهل نينوى في توبتهم بكونهم يدينون إسرائيل، كما أعلن أن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء الملكوت.
ج. ما ورد في سفري إرميا وهوشع من رموز مشابهة لقصة يونان كتشبيه ملك بابل بالتنين ومدة السبي بثلاثة أيام لا يعني أن سفر يونان سفرًا رمزيًا مجردًا، بل بالحري إستقى البنيان الرمز منه.
د. أما من جهة إماكنية بقاء إنسان حيّ لمدة ثلاثة أيام في جوف حوت وتقديمه تسبحة شكر لله هناك، فقد إعترض البعض على ذلك حتى في عصر القديس چيروم إذ يرد عليهم بقوله: [هل هؤلاء القوم مؤمنون أم غير مؤمنين؟! فإن كان لهم الإيمان فليُصدقوا ما قيل، كيف يمكن لثلاثة فتية يُلقون في أتون نار ملتهب ولا تمس النار ثيابهم ولاّ حلت بها رائحة النار (إر ٣: ٢٩)؟! كيف يتراجع البحر كيابسة ويصير كسورين للشعب حتى يعبر (خر ١٤: ٢٢ – ٢٩)؟! كيف يمكن لأسد جائع يرى ضحيته (دانيال) في الجب ولا يريد أن يمسها؟!].
هذا من الجانب الإيماني، أما من الجانب العلمي فقد أفرد الدكتور يوسف رياض الأستاذ بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية بحثًا شيقًا يوضح فيه من الجانب العلمي إمكانية حدوث هذا[5]. قال إن الكلمة العبرية "دوج" التي ترجمة "حوت" وردت في العهد القديم 19 مرة وترجمة في كل مرة "سمكة"، وأن الكلمة اليونانية في العهد الجديد "كيتوس" ترجمتها "وحش من الأعماق"، وكأن العهدين إتفقا أنها سمكة ضخمة أو وحش بحري. وقد أورد أمثلة من الواقع العملي لأُناس وحيوانات ابتلعها أنواع من الأسماك الخاصة الـ Rhinodon Typicus دون أن يتحطم هيكلهم العظمي أو يصابوا بأذى. من بين هذه الأمثلة سقط أحد البحارة من الأسطول الإنجليزي يقوم بالصيد في القتال الإنجليزي فابتلعته سمكة من هذا النوع وهربت. وإذ قامت السفن القريبة بالبحث عنها وجدتها بعد ٤٨ ساعة فاصطادتها بمدفع، وسحبت السمكة لإخراج هيكل الجندي ودفنه، وكم كانت دهشتهم بالغة حين رأوا زميلهم مُغمى عليه فأنقذوه ودُعي "يونان القرن العشرين".
هـ. لم يقف الدارسون عند حدّ الرد على المعترضين على واقعية قصة يونان، وإنما قدموا دلائلهم على ذلك منها:
أولاً: أشار ربنا يسوع المسيح إلى قصة يونان كحقيقة واقعة، وأيضًا إلى توبة أهل نينوى (مت ١٢: ٣٩ – ٤٠؛ لو ١١: ٢٩ – ٣٠)، ولم يعترض أحد من اليهود أنها قصة رمزية.
ثانيًا: طابع السفر تاريخي بسيط وليس بالسفر الشعري الرمزي، إذ يضم أصحاحًا واحدًا شعريًا هو صلاة يونان في جوف الحوت. هذا ويذكر السفر إسم النبي واسم والده بكونهما شخصين معروف مكان نشأتهما (٢ مل ١٤: ٢٥)، كما يذكر أسماء مواضع معروفة مثل يافا وترشيش ونينوى، فالأسماء ليست رمزية.
ثالثًا: لو أن السفر قصة رمزية غير واقعية كتبها آخر غير يونان نفسه لما كشف بقوة عن خطأ فكر النبي فقد جاء السفر يكشف عن الكاتب كنبي تائب يُسجل بقلمه وبوحي إلهي أعترافاته، فاضحًا أعماق قلبه، وكأنه مع معلمنا بطرس الرسول يقدم دموع توبته، ومع القديس مرقس الإنجيلي يُسجل خطأه أكثر مما سجله بقية الإنجيليين. وفي نفس الوقت يبرز جوانب طيبة في النوتية الأُمميين وإستعدادًا فائقًا للملك الوثني وكل شعبه لقبول محبة الله الفائقة لكل البشرية. فبينما يظهر النوتية الأمميون كرجال صلاة (١: ٥) يصرخون إلى آلهتهم قبل أن يمارسوا خبرتهم البحرية كإلقاء الأمتعة من السفينة إذا به يتحدث عن نفسه الإنسان الوحيد في المركب يغط في نوم عميق، فييقظه الله بكلمات الأمميين.
هذا الفكر الإنجيلي المتسع الذي يفتح أبواب الرجاء أمام الأمم ويعالج الأمور بغير تحيز لم يكن ممكنًا لكاتب يهودي أن يتقبله أو يسجله هكذا بوضوح وصراحة إلاَّ من كان كيونان دخل إلى الموت في جوف الحوت وتلامس مع الله الذي يُقيم الأموات أيًا كانت جنسية هؤلاء الموتى!
رابعًا: من الجانب التاريخي قارن Winckler الإصلاحات الدينية للملك أدادنيراري الثالث Adadnirari III (٨١٢ – ٧٨٣ ق. م) بإصلاحات الملك أمنوفيس الرابع في مصر وقرر أن الأول "هو الملك الذي وجده يونان في نينوى عندما ذهب إلى هناك ووجد تجاوبًا ملكيًا مع تعليمه"[6].
1. يونان في البحر الثائر [ص ١].
2. يونان في جوف الحوت [ص ٢].
3. يونان في نينوى [ص ٣].
4. يونان في شرقي المدينة [ص ٤].
يونان في البحر الثائر
إن كان يونان قد هرب من الخدمة إلى يافا ليبحر إلى ترشيش في عصيان الله، الأمر الذي أثار البحر بنوء عظيم حتى لم يهدأ إلاَّ بإلقائه فيه، فمن جانب آخر فإن يونان يُمثل السيد المسيح حامل خطايانا الذي ألقى بنفسه في بحر حياتنا المضطرب ليهبنا سلامًا فائقًا خلال ذبيحة المصالحة.
1. دعوة يونان [١-٢].
2. هروبه إلى ترشيش [٣].
3. يونان والنوء العظيم [٤-٧].
4. يونان والنوتية [٨-١٢].
5. يونان في جوف الحوت [٣-١٧].
"صار قول الرب إلى يونان بن أمتاي، قائلاً: قم أذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي" [١-٢]. وفي الترجمة السبعينية: "صعد صراخ شرهم أمامي".
كانت الدعوة الفريدة في نوعها، فهو النبي الوحيد الذي دُعي لخدمة مدينة أممية لا ليتنبأ عنها بالدمار وإنما ليدعوها للتوبة حتى لا يحل عليها الغضب الإلهي. ولم يكن ممكنًا لهذا النبي أو غيره أن يتقبل مثل هذه الدعوة ليس لكراهية نحو الأمم وإنما لحبه لشعبه، كما سبق فقلنا أن خلاص الأمم إنما يتحقق مع زلة إسرائيل، وإيمان العالم خلال جحود الشعب القديم (رو ١١: ١١). على أي الأحوال، إذ كان يونان غير قادر بفكره البشري أن يتقبل الدعوة فهرب، لكن الله الذي يرى نقاوة قلبه إستخدم حتى هروبه لتحقيق مقاصده الإلهية نحو الأمم.
جاء في الترجمة السبعينية: "لأنه قد صعد صراخ شرهم أمامي"، فإن كانت الحياة المقدسة تتجلى في أكمل صورها في السيد المسيح الذي لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته (مت ١٢: ١٩). فإن الحياة الشريرة تحمل في أُذني الله صراخًا أو ضجيجًا لا تقبله السماء ولا يستريح له خالقها، يكشف عن فقدان السلام الداخلي. لقد قتل قايين الشرير أخاه هابيل وصمت بفمه عن الحديث في هذا الأمر لكن بصمات شره كانت تصرخ منطلقة خلال دم إخيه المسفوك، إذ يقول الرب: "صوت دم أخيك صارخ إليَّّ من الأرض" (تك ٤: ١٠)، كما قيل في شر سدوم وعمورة: "صراخ سدوم وعمورة قد كثر" (تك ١٨: ٢٠).
لقد دُعي يونان، الذي يعني إسمه "حمامة" للكرازة في نينوى المدينة العظيمة التي إرتفع صراخ شرها حتى السماء، وكأن الله أراد أن يحطم صرخات الشر بوداعة الحمامة، ويعالج الجراحات الملتهبة بالزيت اللين، ويطفيء النار بالماء!
إن كان العالم قد تحول إلى ضجيج لا ينقطع وصرخات ظلم مرّة فهو في حاجة إلى الكنيسة أو المؤمن الحقيقي الذي له العينان الحمامتان (نش ١: ١٥؛ ٤: ١). عينا السيد المسيح القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)، عينا الروح القدس الحمامة الحقيقية، لكي بالوداعة نرث الأرض (مت ٥: ٥) لحساب السيد المسيح فتصير ملكوته المملوء فرحًا وسلامًا.
إن كان الأشرار أرضًا لا سماءً بسبب محبتهم للأرضيات وتعلقهم بالزمنيات، فإذ نحمل فينا يونان الحقيقي، نكسبهم بوداعة روحه القدوس فلا يصيروا بعد أرضًا بل سماءً. وكما يقول القديس يوحنا كليماكوس: [يجد الرب راحة في القلوب الوديعة، أما الروح المضطربة فهي كرسي الشيطان. الودعاء يرثون الأرض أو بالحري يسيطرون عليها، أما ذو الخلق الشرير فيطردون من أرضهم[7]].
إن كانت نينوى المدينة العظيمة تمثل الجسد الذي ترتفع صرخات شهواته الشريرية أمام الرب فليس من يقدر أن يرفع عنه هذه الصرخات إلاَّ يوناننا الحقيقي الذي يملأ النفس ويقدس الجسد أيضًا.
"فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب" [٣].
لماذا أراد يونان الهروب إلى ترشيش من وجه الرب عوض الذهاب إلى نينوى؟
أولاً: يرى القديس چيروم أن يونان لم يحتمل الذهاب إلى نينوى فتخلص على حساب شعبه إسرائيل، فعصى الرب لا عن كراهية في القلب وإنما عن غيرة من جهة شعبه، وكأنه يمتثل بموسى النبي الغيور في قوله: "إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر ٣٢: ٣١، ٣٢). فقد ظهر موسى كمن يقاوم الرب لكنه إقتنى مراحم الله لشعبه ولم يمح الله إسمه من كتابه. بنفس الروح يقول الرسول بولس: "أود لو كنت أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد الذين هم إسرائيليون" (رو ٩: ٣). لقد اشتهى لو حُرم هو نفسه لكي يحيا إخوته بالمسيح، حاسبًا موته ربحًا، بهذا الحب لم يمت بل استحق الحياة التي إشتهاها لهم. هكذا خشي يونان من كرازته للأشوريين أعداء إسرائيل هلاك إسرائيل نفسه، فهرب إلى ترشيش، أي الإتجاه المضاد. يرى البعض أنها ترتيسوس الواقعة في جنوب أسبانيا قرب جبل طارق[8]، أو قرطاجنة في شمال أفريقيا.
ثانيًا: كلمة "ترشيش" كما يرى القديس چيروم تعني "بحر" أو "تأمل في الفرح"، فإن كانت كلمة "يافا"[9] بالكنعانية تعني "جمال"، فإن يونان عوض أن ينطلق خلال وصية الله إلى الكرازة لنينوى بالخلاص إستحسن النزول إلى جمال فكره البشرية وحكمته الإنسانية أي إلى يافا ليلقي بنفسه في ترشيش أي في بحر هذا العالم أو في التأملات المفرحة دون الجهاد الحق وحمل الصليب عمليًا. هذا التصرف يمثل تصرفات الإنسان السالك حسب هواه لا حسب وصية الرب الصعبة.
ثالثًا: يونان النبي وهو يعرف أن الله "إله السماء الذي صنع البحر والبر" (١: ٩)، وقد يشهد بذلك، إذ يتكيء على فكره البشري خارج الإيمان يندفع نحو الهروب من الله. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا لقد هرب من البر لكنه لم يهرب من غضب الله! هرب من الأرض لكنه جلب على نفسه العواصف في البحر[10]]. كان يليق به بالحري لا أن يهرب من الله بل إلى الله، ففيه وحده يجد المؤمن سلامه وأمانه!
إن كان يونان قد هرب إلى البحر من صانع البحر نفسه لهذا استدعاه الرب بلغة جديدة تليق به كهارب هي لغة الضيقات المتوالية، إذ "أرسل الرب ريحًا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر" [٤]. صار الرب يحدثه بلغة الريح الشديدة والنوء العظيم والسفينة الفاقدة لاتزانها، الأمور التي تُناسب يونان وتكشف عما في داخله من ريح عصيان عنيف، ونوء اضطراب داخلي عظيم، وسفينة قلبه غير المتزنة.
يقول القديس چيروم: [يُشير هروب يونان إلى حال الإنسان بوجه عام فباحتقاره وصايا الرب هرب من وجهه وسلم نفسه للعالم فاشتد به نوء العالم ليغرق، عندئذ إلتزم بالتأمل في الله والرجوع إلى من هرب منه... كانت السفينة في خطر... والأمواج هائجة بواسطة الرياح... فإنه متى كان الرب غير راضٍ لا يكون شيء في أمان].
سمع الغرباء صوت الله بالرغم من عدم معرفتهم له، بينما تثقلت أُذني يونان عن السماع، إذ قيل "فخاف الملاحون وصرخوا كل واحدٍ إلى إلهه، وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليُخففوا عنهم، وأما يونان فكان قد نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نومًا ثقيلاً" [٤-٥]. كان الملاحون وثنيين، ومعرفتهم عن الله يشوبها الكثير، ومع ذلك إذ تحدث الله بلغة الشدة والضيق إمتلأوا خوفًا ولم يتصرفوا إلاَّ بعد أن صرخ كل واحدٍ منهم إلى إلهه، فكان الله بالنسبة لهم أولاً وقبل كل شيء بالرغم من عدم معرفتهم له.
يقول القديس چيروم: [لقد ظنوا أن السفينة بأمتعتها الطبيعية ثقيلة جدًا ولم يدركوا أن الثقل قائم بسبب النبي الهارب. لقد خاف الملاحون فصرخ كل واحد إلى إلهه، إذ كانوا يجهلون الحق لكنهم لم يجهلوا العناية الإلهية. خلال تدينهم الخاطيء عرفوا شيئًا وأدركوا بعض العمق الروحي... أما إسرائيل فلم يستطع الوسع ولا الألم أن يقوداه إلى معرفة الله. لذلك بكى يشوع على الشعب كثيرًا أما عيون الشعب فكانت جافة].
كان الوثنيون يصرخون إلى آلهتهم ويلقون بأمتعتهم في البحر، كل واحد يصلي ويعمل قدر إستطاعته، أما يونان وهو يدرك أنه سبب البلية فنزل إلى جوف السفينة لينام نومًا ثقيلاً، وكأنه أراد ألاَّ يرى أمواج غضب الله عليه، أو كمن تناول مخدرًا ليهرب من واقعه المؤلم.
إن كان نوم يونان يمثل نوعًا من الرخاوة، لكنه في نفس الوقت قدم لنا جانبًا نبويًا طيبًا، فمن جهة كان يمثل البشرية المُستريحة في الرب وسط أمواج هذا العالم المضطرب. فعندما كان هيرودس مزمعًا أن يقدم الرسول بطرس ليقتله (أع ١٢: ٦)، كان بطرس يغط في نومٍ عميق وهو مربوط بسلسلتين بين عسكريين في السجن وتحت حراسة مشددة. ومن جانب آخر كان يونان يمثل السيد المسيح الذي نام على الصليب كما في السفينة ليُقيم حواء الجديدة من جنبه المطعون تنعم بالراحة الحقيقية فيّه، لقد نام أيضًا على الصليب لكي يُدفن في بطن الحوت ليقوم واهبًا إيّانا قوة القيامة. وكما يقول القديس چيروم: [بينما كان الآخرون في خطر إذا به في أمان ينام ويقوم. وبناء على طلبه وبسرّ آلامه خلّص الذين أيقظوه[11]].
نعود إلى الملاحين ورئيسهم لنجدهم يتصرفون بحكمة فائقة مع لطف ووداعة، إذ قيل: "فجاء إليه رئيس النوتية وقال له: مالك نائمًا، قم أصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك. وقال بعضهم لبعض: هلم نلقي قرعًا لنعرف بسبب من هذه البلية، فألقوا القرعة فوقعت القرعة على يونان" [٦-٧].
اتسم رئيس النوتية بوداعة فائقة في حديثه مع النبي الذي يغط نومًا في وقت كان الكل فيه يصرخ ويصلي ويلقي بالأمتعة في البحر... لقد تحدث برقة زائدة لم يجرح فيها مشاعره، حثه على الصلاة بلطف، الأمر الذي لا نجده أحيانًا في المؤمنين بل وفي الرعاة أنفسهم، إذ يفقدون سلامهم عند التوبيخ ويخسرون هدوءهم ليصلحوا من شأن الآخرين.
نقول أن الله الذي سبق فتحدث مع النبي ربما خلال رؤيا أو إعلان للعمل في نينوى، عاد ليحدثه خلال الطبيعة الثائرة، وإذ سد أُذنيه حدثه خلال الوثنيين، قائلاً له: "مالك نائمًا، قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك". وكأنه يقول: "مالك نائمًا في داخل قلبك، فإن إلهك الذي تهرب منه يقدر أن يخلصنا نحن الأمم من الهلاك، إن كنت تحب شعبك وأمتك فانصت إلى توسلاتنا وتطلع إلى إشتياقنا ولا تستهن بإيماننا، فإن كنا لم نعرف بعد الإله الذي تعبده، لكننا بالإيمان نقبله فلا نهلك!".
والعجيب أن البحارة ألقوا قرعة فكشف الله عن الحقيقة وأدركوا أن يونان علة غضب الله... وكما يقول القديس چيروم: [إن كان الله أرشدهم خلال القرعة إنما يحدثهم خلال فكرهم، فلا يبرر هذا إستخدامنا للقرعة. لقد أرشد الله بلعام خلال أتانه (عد ٢٢: ٢٨)، ليعلن له أن الحيوان الأعجم أدرك ما لم يدركه الإنسان في شره، وكما تحدث الله مع المجوس خلال النجم، وكما سمح لقيافا أن يتنبأ وهو لا يعرف حين قال أنه ينبغي أن يموت واحد عن الشعب كله. على أي الأحوال إن كان يونان في حبه لشعبه إستهان بخلاص الأمم فخلال القرعة كشف له الله أنه لا يحتقر أمميًا، إنما يحدثهم بلغتهم ويكشف لهم عن الحقيقة حتى خلال ممارستهم فما قدمته القرعة حمل توبيخًا إلهيًا خفيًا ليونان المُستهين بخلاص الأمم!].
"فقالوا له: أخبرنا بسبب من هذه المُصيبة علينا؟ ما هو عملك؟ ومن أين أتيت؟ وما هي أرضك؟ ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبراني وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر" [٨-٩].
وفي وسط التيارات العنيفة والنوء الشديد والخطر المحدق كنا نتوقع في النوتية أن يفقدوا سلامهم وهدوءهم، لكنهم أثبتوا أنهم حكماء، فإذ رأوا في يونان سرًا صاروا يسألونه عن كل حياته بالتفصيل... طالبين المعرفة الحقة. فكانت أسئلتهم توبيخًا لطيفًا إستخدمه الله لإصلاح يونان نفسه، ففيما هم يسألون كان يليق بيونان أن يُراجع نفسه في تصرفاته. وكما قال القديس چيروم: [كان هدف القرعة أن يضغط النوتية عليه ليعترف بلسانه عن سبب هذا النوء وعلة غضب الله]. أي ليعترف بعصيانه للرب وهروبه من ذاك الذي خلق البحر والبر.
وقد جاءت الأسئلة بالنتيجة المرجوة إذ إعترف قائلاً: "أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر". وكما يقول القديس چيروم: [إنه لم يقل "أنا عبراني" قاصدًا اللقب الخاص بشعبه الذي ينتمي إلى أحد أسباطه، إنما قصد أنه عابر كإبراهيم، وكأنه يقول: أنا ضعيف وراحل كسائر آبائي، وكما جاء في المزمور: "عبروا من مدينة إلى أخرى ومن مملكة إلى شعب آخر... إنني خائف من الرب إله السماء وليس من الآلهة التي تضرعون إليها العاجزة عن الخلاص. إنني أتضرع إلى إله السماء الذي صنع البحر والبر، البحر الذي أهرب إليه، والبر الذي أهرب منه!].
اعترف يونان بخطئه فتعرف البحارة على الله المخوف بحق، إذ قيل: "فخاف الرجال خوفًا عظيمًا، وقالو له: لماذا فعلت هذا؟! فإن الرجال عرفوا أنه هارب من وجه الرب لأنه أخبرهم" [١٠]. أدركوا أنه إنسان مقدس هارب من الله القدوس لذا سألوه لا توبيخًا له وإنما كما يقول القديس چيروم: [استفسارًا عن سرّ تصرفه].
بعد تمتعهم بمعرفة الله سألوا يونان: "ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟ لأن البحر كان يزداد اضطرابًا" [١١].
يقول القديس چيروم: [كأنهم يقولون: إنك تقول بأنه بسببك صار الريح والأمواج والبحر في هياج. لقد كشفت لنا عن سبب المرض فافصح عن الدواء. هوذا البحر يرتفع ضدنا، وعرفنا أننا صرنا موضع غضب لأننا أخذناك. أخطأنا إذ إستضفناك، فماذا نفعل حتى يسكن غضب الله علينا؟ ماذا نفعل بك؟ هل نقتلك؟ لكنك من مؤمني الرب! هل نحتفظ بك؟ إنك هارب من الله! الآن ليس لنا إلاَّ أن نُنفذ أمرك، فلتأمر حتى يهدأ البحر، فإن إضطرابه يشهد عن غضب الخالق... لا يمكن التأجيل بعد، أمام إنتقام الخالق؟].
"فقال لهم: خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم، لأنني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم" [١٢].
قدم يونان العلاج وهو طرحه في البحر الهائج فيسكن النوء العظيم، فقد كان هذا النوء بسبب عصيانه للرب فلا يهدأ إلاَّ بإلقائه في المياه لتوبته، ومن ناحية أخرى فإن يونان كممثل للسيد المسيح حامل خطايا العالم كان لابد أن يُلقى به على الصليب ويُسلم للقبر لينعم المؤمنون به بالمصالحة مع الآب ويدخلون إلى سلامه الأبدي.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [توقع يونان أن يهرب بواسطة السفينة، فإذا بالسفينة تكون له قيودًا[12]]. ظن أنه قادر على الهرب من إله البحر خلال سفينة فأمسك به وسط المياه الثائرة داخل السفينة ليحصره وسط الضيق ويدخل به إلى التوبة. إستخدم الله ذات الوسيلة التي ظنها يونان لهربه من يد الله لكي يمسك به ويرده إليه. ما أجمل العبارة التي قالها القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم تكن هناك حاجة إلى أيام كثيرة ولا إلى نصائح مستمرة لكن في بساطة نقول كانت الحاجة أن يقوده كل شيء إلى التوبة (أي يستخدم الله كل الظروف لخلاصه). فالله لم يقده من السفينة إلى المدينة مباشرة، وإنما سلمه البحارة للبحر، والبحر للحوت، والحوت لله، والله لأهل نينوى، وخلال هذه الدائرة الطويلة ردّ الشارد حتى يعرف الكل أنه لن يمكن الهروب من يد الله[13]].
يُعلق القديس چيروم على الكلمات التي نطق بها يونان مع البحارة، قائلاً: [إن هذا النوء يبحث عني، يُهددكم بالغرق لكي تمسكوا بيّ وبموتي تحيون! إنني أعرف بالحقيقة أن هذا النوء العظيم هو بسبي... هوذا الأمواج تأمركم أن تلقونيّ في البحر فتجدون هدوءًا... لنلاحظ هنا عظمة الهارب فإنه لا يراوغ ولا يكتم الأمر ولا ينكر بعدما اعترف بهروبه من الله، وإنما يتقبل العقاب بقلب متسع. يُريد أن يموت ولا يتحطم الآخرون بسببه].
وللقديس چيروم أيضًا تعليق جميل على كلمات يونان هذه بكونها نبوة عن عمل السيد المسيح – يوناننا الحقيقي – الذي قَبِلَ أن يموت ليفدي الشعب كله، إذ يقول: [يوناننا يقول: إنني بالحقيقة أعرف أن هذا النوء العظيم عليكم هو بسببي، فإذ تراني الرياح مبحرًا معكم إلى ترشيش أي إلى "التأمل المفرح"، أقودكم إلى المجد، حتى حيث أوجد أنا هناك تكونون أنتم أيضًا عند الآب، لهذا يحدث غضب. العالم يبكي والطبيعة تضطرب! الموت يُريد أن يبتلعني لكي يقتلكم في نفس الوقت وهو لا يدرك أنه يأخذني كطعم، فبموتي يموت هو! خذوني إذن واطرحوني في البحر!].
"لكن الرجال جذفوا ليرجعوا السفينة إلى البرّ فلم يستطيعوا، لأن البحر كان يزداد اضطرابًا عليهم. فصرخوا إلى الرب وقالوا: آه يا رب، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل، ولا تجعل علينا دمًا بريئًا لأنك يا رب فعلت كما أمرت" [١٣-١٤].
أبرز هذا السفر في بساطة الجوانب الطيبة لهؤلاء الأمميين، ففي البداية لم يلقوا بأمتعتهم ولا تصرفوا بحسب خبرتهم كبحارة إلاَّ بعد أن صرخ كل واحد إلى إلهه، فوضعوا آلهتهم أولاً قبل خبرتهم الأمر الذي يتجاهله كثير من المؤمنين. مرة أخرى حين ألقوا القرعة ووقعت على يونان لم يجرحوا مشاعره بكلمة ولا أهانوه بالرغم من الخسائر الكثيرة التي لحقت بهم بسببه، وحتى عندما إعترف بخطئه وأشار إليهم بطرحه في البحر حاولوا إنقاذه بكل وسيلة، وإذ فشلوا تمامًا وأدركوا أنها مشيئة الله أن يطرحوه في البحر كانوا في رعدة يخشون غضب الله، ويسألونه ألاَّ يسمح بهلاكهم من أجل نفس هذا الرجل! ألم تكن هذه التصرفات المملوءة حبًا ورقة وحكمة كافية لتوبيخ يونان الذي دعاه الرب لخلاص الأمم في نينوى فهرب! لقد قدم له عينة من الأمميين يفوقون المؤمنين أنفسهم. لو قورنوا باليهود الذين لهم الشريعة ومعهم النبوات ورأوا أعمال المسيح العجيبة وشهادة السماء والأرض والبحر وكل خليقة له، حتى بيلاطس الأممي غسل يديه أمامهم ومع ذلك صرخوا "دمه علينا وعلى أولادنا"، ألا يُحسبون أفضل منهم؟!
يعلق القديس چيروم على تصرفات الملاحين، قائلاً:
[كانوا يريدون أن يسحبوا المجداف ويهزموا الطبيعة حتى لا يفضحوا نبي الرب... ظنوا أنهم قادرون أن يخلصوا السفينة من الخطر ولم يضعوا في إعتبارهم الدور الذي يقوم به يونان أنه يجب أن يتألم].
[عظيم هو إيمان الملاحين، فقد كانوا في خطر ومع هذا كانوا يصلون من أجل حياة الغير. عرفوا جيدًا أن الموت الروحي أبشع من الموت الطبيعي، إذ قالوا: "لا تجعل علينا دمًا بريئًا". يجعلون الله نفسه شاهدًا حتى لا يتهمهم فيما لا يستطيعون عليه، وكأنهم يقولون له: لا نُريد أن نقتل نبيك إنما هو أعلن عن غضبك عليه، والنوء أكدّ إرادتك يا رب، هذه التي نحن نتممها بأيدينا].
[بينما لا يود الأمم موت المسيح مؤكدين أنه دم بريء (مت ٢٧: ٢٥)، إذا باليهود يقولون: "دمه علينا وعلى أولادنا"، لهذا متى رفعوا أيديهم نحو السماء لا يُستجاب لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا].
"ثم أخذوا يونان وطرحوه في البحر فوقف البحر عن هيجانه" [١٥].
يقول القديس چيروم: [لم يقل "أمسكوه" أو "انقضوا عليه" بل "أخذوه" كمن حملوه باحترام وإكرام، وطرحوه في البحر مسلمًا نفسه بين أيديهم بلا مقاومة، عندئذ وقف البحر عن هيجانه، إذ وجد من كان يبحث عنه. عندما نقتفي أثر شارد نجري وراءه بكل قدرات أرجلنا، وإذ نمسك به نتوقف بالغنيمة. هكذا كان البحر هائجًا بدون يونان، وإذ أُخذ في أعماقه من كان يشتهيه إبتهج بأخذه إياه وعيَّد له وهدأ فرحًا].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في إلقاء يونان العاصي في البحر إشارة إلى طرد الخطية من سفينة حياتنا ليعود إلينا سلامنا الحق الذي نزعته آثامنا، إذ يقول: [إضطربت المدينة بسبب خطايا أهل نينوى، وإضطربت السفينة بسبب عصيان النبي. لذلك ألقى البحارة يونان في العمق فحُفظت السفينة. لنلق نحن أيضًا خطايانا فتبقى مدينتنا في أمان أكيد![14]].
ويرى القديس چيروم في إلقاء يونان في البحر إشارة إلى آلام السيد المسيح، التي نزعت عن بحرنا هياجه، وخلصت السفينة ومن بها من الخطر. خلال آلام السيد المسيح إمتلأ العالم سلامًا داخليًا فائقًا!
"فخاف الرجال من الرب خوفًا عظيمًا وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورًا" [١٦].
إذ أُلقى يونان في البحر إي احتمل السيد المسيح الآلام حتى الموت خلصنا من العبادات الوثنية القديمة، واهبًا إيانا مخافته العظيمة وتقديم ذبيحته الكفارية الفريدة وإيفاء نذورنا للرب أي تكريس حياتنا له تمامًا.
يقول القديس چيروم: [عندما مات يونان الهارب في البحر خلصت السفينة التي هزتها الرياح وخلص عابدوا الأوثان]. كما يقول: [قبل آلام الرب تضرعوا إلى آلهتهم تحت تأثير الخوف (1: ١٠)، أما بعد الآلام فخافوه بمعنى عبدوه ومجدوه... لقد خافوه خوفًا عظيمًا إي من كل النفس ومن كل القلب ومن كل الفكر (تث ٦: ٥؛ مت ٢٢: ٣٧). وذبحوا ذبيحة؛ بالتأكيد لا تعني المعنى الحرفي، إذ لا توجد ذبائح في البحر، لكن ذبيحة الرب إنما هي الروح الأصيل، وكما قيل: "قدموا للرب ذبيحة الحمد، أوف للعلي نذورك" (مز ٤٩: ١٤)] ...
إذن بطرح يونان في البحر أو دخول السيد المسيح إلى آلامه حلّ علينا روح المخافة الإلهية، وصار لنا حق تقديم ذبيحته المقدسة، وإيفاء نذورنا له!
"وأما الرب فأعد حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالِ" [٧].
لم تسر الأمور بلا تدبير أو تخطيط إلهي، لكن الله الذي أرسل الريح الشديدة فحدث نوء عظيم يعلن غضب الله على العصيان هو الذي أرسل سمكة ضخمة بجوار السفينة تبتلع يونان لتهبه مبيتًا آمنًا لا موتًا، تكشف له عن رعاية الله به، يقول القديس چيروم: [أظهر الرب غضبه حين كان يونان في السفينة، وأظهر فرحه حين دخل إلى الموت]، معللاً ذلك بأنه يمثل السيد المسيح الذي أمات الموت بموته. حقًا لقد ظهر يونان كضحية للموت يبتلعه الجحيم، لكن لم يستطيع أن يحتمله في داخله أكثر من ثلاثة أيام وثلاث ليالِ بل قذفه من جوفه، ليقول النبي: "أين أوباؤك يا موت؟! أي شوكتك يا هاوية؟!" (هو ١٣: ١٤).
لقد أكد السيد المسيح ما حدث ليونان في جوف الحوت كرمز لما حدث مع السيد نفسه، بقوله: "لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام أيام وثلاث ليالِ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالِ" (مت ١٢: ٤٠).
كيف بقى السيد المسيح في الأرض هذه المدة؟
أولاً: يرى القديس چيروم أن اليهود يحسبون الجزء من اليوم كيومٍ كامل، فتُحسب مدة الموت للسيد المسيح من الجمعة حتى الأحد، وإن كان قد مات في نهاية الجمعة وقام في فجر الأحد. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لو بقى السيد حتى نهاية يوم الأحد لكان الجند قد تركوا القبر وصدق اليهود أن خبر القيامة من صنع التلاميذ. إفتعلوه بعد ترك الجند للموقع، لذا قام والجند يحرسون القبر.
ثانيًا: يُقدم القديس چيروم رأيًا كان له من ينادي به هو إعتبار ساعات الظلمة على الصليب ليلاً جديدًا فريدًا من نوعه.
ثالثًا: يُحسب البعض مدة الدفن منذ اللحظة التي سلم فيها السيد جسده المبذول في أحشاء تلاميذه في العشاء الأخير، كمن هو مدفون في الأرض البشرية ليقيمها معه سماءً له بقيامته في فجر الأحد.
على أي الأحوال لقد دفن السيد ثلاثة أيام وقام، هذه هي الحقيقة التي شهدها التلاميذ وأكدها الرب ببراهين كثيرة لنعيشها كسرّ قيامتنا اليومية وغلبتنا على الموت والجحيم.
هذا وقد استخدم يونان بدخوله إلى الموت وخروجه كدليل حيّ على قيامة الجسد في اليوم الأخير[15].
يونان في جوف الحوت
في جوف الحوت يدخل يونان إلى الموت ليكتشف سرّ قيامة السيد المسيح الغالبة للموت، فيُقدم لنا أروع تسبحة حمد تُعبر عن عمل السيد المسيح الخلاصي في لحظات موته على الصليب ودفنه في القبر. لذا تتغنى بها الكنيسة في بدء الساعة الثانية عشر من الجمعة العظيمة بعد أن تنشد بلحن الحزن مراثي إرميا... فإن كانت المراثي تعلن عن مرارة ما فعلته خطايانا بالسيد، فتسبحة يونان ترفع الحجاب لتكشف عن نصرة الرب على الجحيم وعمله الكفاري الذي يرفع المؤمنين إلى المقدسات السماوية بفرح مجيد لا يُنطق به.
1. صلاته في الجوف [١].
2. بين الجحيم والسموات [٢-٧].
3. يونان المُسبّح [٨-٩].
4. يونان الحيّ [١٠].
من منا يستطيع أن يعبِّر عن الضيق الذي دخل إليه يونان؟! في جوف الحوت إنحضر يونان في الضيق كما في قبر، ماتت فيه أفكاره الذاتية وقدراته وإمكانياته، لا يعرف ماذا يفعل، ولا يقدر أن يتوقع ماذا يحل به. يطفو الحوت على المياه فيتنسم يونان هواء ويرى بصيصًا من النور، ينزل به وسط المياه فيجد نفسه في ظلام دامس. يفتح الحوت فمه فيغرق يونان في مياه مالحة، يُخرج الحوت الماء ليسترد يونان أنفاسه. هكذا عاش يونان أيامًا قليلة، لولا رعاية الله له وإنعاماته عليه لصارت كل ثانية منها تمثل جبلاً ثقيلاً يحطم نفسه، وصار الموت بالنسبة له شهوة.
على أي الأحوال في الضيق إلتحم يونان بالسيد المدفون في القبر خلال الرمز والظل، فانطلق بقلبه وفكره لا إلى خارج الحوت إنما إلى ما فوق المكان، أرتفع إلى الله يُصلي كمن هو في مقدس سماوي، إذ قيل: "فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت" [١].
قبلاً كان يُسمي الرب "إله السماء" (١: ٩)، أما في الضيق فيقال "الرب إلهه"... فيُنسب الرب ليونان بكونه إلهه. هو إله المتضايقين والمتألمين، كأنما يترك سمواته وينزل إلى يونان يسنده في ضيقته، أو بمعنى آخر يحول حياته إلى سماء يسكنها الرب إلهه فيدعى إلهه أي إله السموات التي يسكنها. إلهنا إله يونان المتألم حامل الصليب، إله كل إنسان مرّ النفس، يدخل إليه ليقال عنه "إله السماء"... إذ يجعل من حاملي الصليب سموات مقدسة.
قدم لنا يونان صلاته الرائعة، بل تسبحته النبوية الفريدة لا في لحظات الوسع، لا في داخل مبنى الهيكل كمعلم، إنما وسط الآلام كمن هو في قبر السيد المسيح المصلوب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا لا نهتم بالمكان وإنما برب المكان، فقد كان يونان في جوف الحوت واستمع الرب لصلاته. وأنت إن كنت حتى في الحمامات فصلِ. أينما وُجدت صلِ؛ لا تطلب المكان لتُصلي فيه، فإن نفسك هي هيكل[16]].
إن كانت الكنيسة تهتم حتى بالمبنى ليكون أيقونة للسماء إنما لكي نحمل سمات السماء فينا، فنتطلع إلى المبنى الروحي الداخلي، وترتفع أنظارنا إلى المقدسات التي يقيمها الروح القدس فينا خاصة في لحظات الضيق والألم!
الضيق هو الجلجثة التي فيها ننعم بالصلب مع ربنا يسوع، لننطلق به إلى أمجاده ونوجد معه وفيه في أحضان الآب السماوي بروحه القدوس.
"دعوت من ضيق الرب فاستجابني، صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي" [٢].
إذ طُرح يونان في المياه المالحة دخل إلى جوف الحوت لا ليرى الموت بعينيه وإنما ليشاهد خلال الظل السيد المسيح نفسه وقد انطرح إلى الضيق معنا وعنا، حتى إذ يصرخ بحياته التي بلا عيب يستجيب له الآب فيرفعنا معه فوق الضيق. نزل إلى إنحطاطنا ذاك الذي بلا عيب لكي نصير فيه موضع سرور الآب، يسمع لنا في ضيقتنا ويرفعنا إليه. وكما يقول القديس چيروم: [لقد نزل الرب، من أجلنا أتضع، لكي نصعد نحن في أمان وثقة[17]].
لقد دعى يونان الرب في ضيقته وتمتع بالاستجابة فورًا إذ رأى نفسه صاعدًا لا من جوف الحوت بل من جوف الجحيم في المسيح يسوع المصلوب! هنا يتحدث بصيغة الماضي لا المستقبل "إستجابني، سمعت صوتي"، صيغة التمتع الحقيقي خلال الرمز وصيغة اليقين الذي لا يحمل شكًا.
حمل إرميا النبي ذات المشاعر وأدرك ذات المفاهيم عندما أُلقي في الجب، إذ قال: "دعوت إسمك يا رب من الجب الأسفل، لصوتي سمعت لا تستر أُذنك عن زفرتي عن صياحي" (مرا ٣: ٥٥، ٥٦).
"لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر" [٣].
أدرك يونان أن الله هو الذي طرحه في العمق في قلب البحار وليس الملاحون، ولكن العجب أنه إذ نزل حتى الأعماق لم يجد نفسه تحت ثقل ضغط مياه البحار ومخاطرها إنما وجد نفسه وقد أحاط به نهر مقدس يرويها ويبهجها بالثمر الروحي المتكاثر، هذا الذي قيل عنه في المزمور: "نهر سواقيه تفرح مدينة الله" (مز ٤٦: ٤). في وسط الضيقة المرّة "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي"، عوض المياه المرّة المالحة يصير لي مياه النهر الحلوة، وعوض ثقل المياه عليَّ تصير المياه محيطة بيّ للبهجة والفرح.
ما هو قلب البحار الذي إنطرح فيه يونان إلى أعماق الصليب المرّ الذي دخل إليه السيد المسيح كذبيحة كفارية عن العالم كله، خلالها فجَّر مياه المعمودية العذبة واهبة الحياة فأحاط به – أي بكنيسته التي هي جسده – نهر، هو نهر المعمودية أي مياه الأردن. سحب هذا المنظر قلوب الأنبياء، فيقول حزقيال النبي عن كنيسة العهد الجديد أو الهيكل الجديد: "ثم أرجعني إلى مدخل البيت وإذا بمياه تخرج من تحت عتبة البيت نحو المشرق... والمياه نازلة من تحت جانب البيت الأيمن عن جنوب المذبح... وإذا بنهر لم أستطع عبوره لأن المياه طمت، مياه سباحة، نهر لا يُعبر... هذه المياه تأتي إلى هناك فتشفي، ويحيا كل ما يأتي النهر إليه... وعلى النهر ينبت على شاطئه من هنا ومن هناك كل شجر للأكل لا يذبل ورقه ولا ينقطع ثمره، كل شهر يبكر لأن مياهه خارجة من المقدس ويكون ثمره للأكل وورقه للدواء" (حز ٤٧)[18].
لقد طرحت خطايانا السيد المسيح في محبته لنا إلى قلب البحار ليحمل عنا الغضب الإلهي خلال الصليب، محولاً ملوحة البحار إلى عذوبة الأنهار، فيهبنا فيه خلال الصليب ذاته نهر روحه القدوس الذي يروي نفوسنا ويهبها ثمارًا ويمنحها شفاءً! هكذا حمل الصليب صورتين متكاملتين: صورة غضب الله عن الخطية التي كلفت السيد حياته، وصورة حب الله الفائق التي فجرت ينابيع نعمه الفائقة.
يقول القديس چيروم: [بالنسبة للمخلص الرب جاءت الصورة في المزمور: "غرقت في حمأة عميقة وليس مفر، دخلت إلى أعماق المياه والسيل غمرني" (مز ٦٩: ٣)، كما قيل عنه في مزمور آخر: "لكنك رفضت ورذلت، غضبت على مسيحك، نقضت عهد عبدك، نجست تاجه في التراب، هدمت كل جدرانه" (مز ٨٩: ٣٩)... ومع أنه صار في مياه مالحة إذ جُرب في كل شيء لكنها ليست مالحة (مرّة) بالنسبة له فقد أحاط به نهر كما قيل في موضع آخر: "نهر سواقيه تفرح مدينة الله" (مز ٤٦: ٤)].
يُحدثنا القديس أمبروسيوس عن هذا النهر الذي يحيط بنا بكونه الروح القدس الذي يروي أورشليم السماوية الذي أفاض على الكنيسة بالمسيح يسوع المصلوب. [الروح القدس هو النهر، النهر الوفير، النهر العظيم الذي يفيض دومًا بلا انقطاع... فإن أورشليم السماوية لا ترتوي بنهر أرضي بل بالروح القدس[19]].
خلال الصليب تمتعنا بنهر العهد الجديد عوض بئر العهد القديم. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [العهد القديم بئر عميق تُسحب منه المياه بالجهد، لم تكن مملوءة بالكامل، إنما جاء بعد ذلك القائل: "ما جئت لأنقض (الناموس) بل لأكمل" (مت ٥: ١٧)... أما العهد الجديد فليس بنهر فحسب وإنما "تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو ٧: ٣٨)، أنهار فهم، أنهار تأمل، أنهار روحية[20]]. هكذا إذ يجلس الرب معنا عند البئر كما مع السامرية في وقت الظهيرة أي في لحظات الصليب يُفجر فينا ينابيع مياهه كأنهار حية مفرحة.
يكمل النبي تسبحته على لسان السيد المسيح قائلاً: "جازت من فوق جميع تياراتك ولججك" [٣]. ويعلق القديس چيروم على هذه العبارة، قائلاً: [لنبحث كيف جازت التيارات واللجج فوق المخلص... إذ لا يوجد من يقدر أن يحتمل كل التجارب إلاَّ ذاك الذي جُرب في كل شيء... كل الضيقات والأتعاب التي جعلت الجنس البشري يضطرب والتي تكسر كل السفن، جازت على رأسه... لقد أحتمل العاصفة وكل اضطراب حتى يصير الآخرون في هدوء!].
إن كانت اللجج تُشير إلى أحكام الله كما يقول القديس كيرلس الكبير: [فقد حمل السيد كل أحكام الله ضدنا عليه. انهارت كل الأحكام عليه لتُوفى في جسده، وكما يقول المرتل: "غمر يُنادي غمرًا عند صوت مَيَازِيبِكَ، كل تياراتك ولججك طمّت عليَّ" (مز ٤٢: ٧). بهذا ظهر السيد المسيح موفي الدين كمن هو مطرود من عينيّ الآب مع أنه الشفيع الذي يحمل شعبه إلى المقدسات السماوية. لذلك يكمل النبي حديثه: "فقلت قد طردت من عينيك، لكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك" [٤].
إنها صورة واقعية للصليب؛ من جانب ظهر المخلص كمطرود، يصرخ قائلاً: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (مت ٢٧: ٤٦). ومن جانب آخر يحمل البشرية في جسده لكي تتمجد معه. وكما يقول القديس چيروم: [صار الرب كمن هو في موقفك (مطرودًا)... حتى يرفع البشرية لتكون معه حيث يكون هو (يو ١٧: ٢)]. إنه يمارس عمله كرئيس للكهنة الأعظم يدخل إلى هيكل قدسه السماوي حاملاً كنيسته إلى السماويات عينها، كقول الرسول: "لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا" (عب ٩: ٢٤). ففيما هو مطرود من أجلنا يحملنا فيه لنكون موضع رضى الآب وسروره.
لم يكن يونان بالكاهن ليدخل القدس ولا رئيس الكهنة لينعم برؤية قدس الأقداس مرة واحدة كل سنة، لكنه في أعماق البحر إذ صار كمطرود حُسب رمزًا للسيد المسيح المطرود والداخل إلى مقدساته السماوية، وكما يقول القديس چيروم: [في أعماق البحر يرى هيكل الرب، وبروح النبوة وجد نفسه هناك يتأمل شيئًا آخر].
"لقد اكتنفني مياه إلى النفس، أحاط بي غمر، ثم أصعدت من الوحدة حياتي أيها الرب إلهي" [٥-٦].
لقد نزل السيد المسيح إلى الجحيم فصار كمن إكتنفته المياه إلى النفس، لكن لم تستطع المياه أن تبتلعه بل يحرر الذين أسرتهم المياه وأغرقتهم. نزل إلى أعماق المياه ليصعد معه الغارقين فيها، كما يقول الرسول: "أما أنه صعد فما هو إلاَّ أنه نزل أيضًا أولاً إلى أقسام الأرض السفلي، الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل" (أف ٤: ٩-١٠).
يرى القديس أغسطينوس[21] في المياه التي إكتنفت السيد المسيح إلى النفس تعبيرًا عما حدث عند الصليب، فقد هاج الكل عليه كأمواج البحر وفي إتضاعه خضع بإرادته لأجلنا، قائلاً: "دخلت إلى أعماق المياه والسيل غمرني" (مز ٦٩: ٢). لم يقاوم الكلمات العنيفة ولا التصرفات القاسية بل في صبر أحتملها، "وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في ٢: ٨).
المخلص الذي سار على المياه (مت ١٤: ٢٦)، إنحنى بنفسه إلى المياه حتى تكتنفه إلى حين وتحيط به، فيحمل مؤمنيه على المياه خلال سفينة صليبه وينطلق بهم إلى ميناء أورشليم السماوية بأمان.
مرة أخرى يقول: حين أعيت فيَّ نفسي ذكرت الرب، فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك" [٧]. فقد يونان كل رجاء في ذراع بشري للخلاص إذ صار كمن قبض عليه في جوف الحوت، ليس من يخلصه سوى الرب، لذلك يقول: "ذكرت الرب" . وكأنه بالمرتل القائل: "أبي وأمي قد تركاني والرب ضمني". وكما يقول القديس چيروم: [وجدت نفسي قد أُغلق عليها في أحشاء الحوت فصار رجائي كله في الرب].
هذه العبارة أيضًا تنطبق على يوناننا المتألم الذي صرخ بالجسد: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت ٢٦: ٣٨)، "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت ٢٦: ٣٩). هذا الثقل الذي إحتمله السيد لأجلنا إنما لكي يمارس عمله الكهنوتي خلال ذبيحته الكفارية فيطلب من الآب عنا: "جاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك"، وكما يقول القديس چيروم: [إنه ككاهن يترجى تحرير الشعب في جسده].
"الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم، أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك وأوفي بما نذرته، الرب للخلاص" [٨-٩].
عند الصليب ظهر الذين يراعون أباطيل كاذبة، هؤلاء الذين ساروا وراء أباطيل الفريسيين فصاوروا محرومين من الرب نفسه "نعمتهم". حرموا من المسيح مخلصهم فصاروا أشبه بتسبحة شيطانية لا تعلن إلاَّ كلمات الكذب والتجديف. أما السيد المسيح المفترى عليه فقدم نفسه تسبحة حمد للآب، وذبيحة شكر له.
إن كان يونان قد قدم ذبيحة حمد لله في جوف الحوت إنما كرمز للسيد المسيح الذي رأى الكل قد تكاتف ضده، وفي محبة أوفى نذره للآب بتقديم حياته فدية عن كثيرين، حتى عن مضايقيه أنفسهم!
بالمسيح يسوع الذبيح تتحول حياتنا كلها إلى قيثارة في يد الروح القدس تنشد سيمفونية حمد وشكر للآب، ليس بأفواهنا فحسب وإنما خلال كل تصرفاتنا! إن كان يونان قد صار مرنمًا في جوف الحوت إنما ليعلن ما يعمله السيد المسيح فينا خلال آلامه، إذ يخلق فينا طبيعة الشكر التي تمس كل يكاننا عوض الجحود الذي أفسد حياتنا.
"وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر" [١٠].
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله قدم ليونان دروسًا متوالية في الترفق بالآخرين، فإن كان الحوت قد ابتلعه ثم قذفه دون أن يؤذيه إلاَّ يليق به أن يترفق هو بإخوته في البشرية وإن كانوا أمميين؟! "لقد استقبلته الأمواج ولم تخنقه، وتلَقَفه الحوت دون أن يهلكه... بهذا كان يليق بالنبي أن يكون رقيقًا ورحيمًا، لا أن يكون أقسى من الحيوان المفترس أو البحارة الجهلاء أو الأمواج العنيفة[22].
ويرى القديس چيروم أن تعبير "قذف" يُشير إلى الحياة المنتصرة الخارجة من حيث يوجد الموت، فلم يكن ممكنًا لجوف الجحيم أن يمسك بيوناننا ولا بالفساد أن يلحق به. وكما يقول المرتل: "لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا" (مز ١٦: ١٠).
لقد قام من بين الراقدين كباكورة لنا، يُقيمنا معه، وكما يقول القديس چيروم: [الذي مات لكي يُحرر المسبيين من رباطات الموت يقدر أن يقود الكثيرين نحو الحياة].
يونان في نينوى
إذ قام يونان كما من القبر انطلق إلى أهل نينوى الأمميين لينعموا بعمل الله.
1. دعوة يونان للعمل [١-٤].
2. إيمان نينوى وتوبتها [٥-٩].
3. تمتُع نينوى بالرحمة [١٠].
إذ تمتع يونان بالحياة بعد الموت دعاه الرب ثانية للخدمة لينعموا هم أيضًا بالحياة، والعجيب أن الله لم يعاتب يونان بكلمة ولا جرح مشاعره بسبب هروبه في الإرسالية الأولى، إذ يقول الكتاب:
"ثم صار قول الرب إلى يونان، قائلاً: قم إذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها المناداة التي أنا مكلمك بها، فقام يونان وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب. أما نينوى فكانت مدينة عظيمة لله مسيرة ثلاثة أيام، فابتدأ يونان يدخل المدينة مسيرة يوم واحد ونادى. وقال: بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى" [١–٤].
يصف نينوى هكذا: "مدينة عظيمة لله مسيرة ثلاثة أيام"؛ بالمعنى الحرفي تعني أنها مدينة ضخمة يقطعها الإنسان في ثلاثة أيام، أو يبقى يجول في شوارعها ثلاثة أيام، أما بالمفهوم الروحي فإن نينوى كعاصمة لأشور قد سلمت نفسها للشيطان تتعبد للأصنام، لكن الله يتطلع إليها، أنها مدينته العظيمة التي اغتصبها العدو بتسليم نفسها له. الله لا يحتقر خليقته خاصة الإنسان، حتى إن انحرف عنه فهو ينتظر خلاصه ورجوعه إليه كمدينة عظيمة له يسكنها الثالوث القدوس.
في دراستنا لسفر يشوع رأينا رقم ٣ يُشير للإيمان بالثالوث القدوس كما يُشير للقيامة في اليوم الثالث[23]. هذا هو سرّ عظمة الإنسان أن يصير مدينة الله أو كما يسميها الكتاب "مدينة الحق" (زك ٨: ٣)، مملكة الثالوث القدوس، الشاهدة لقيامة الرب بحياتها المقامة فيه.
استجاب يونان للدعوة ودخل المدينة مسيرة يوم واحد لينادي بالتوبة ما هو هذا الدخول إلاَّ إشارة إلى ظهور أحد الثالوث القدوس، الله الكلمة الذي تجسد وتألم، فصار كمن في مدينتنا. حلّ في وسطنا كواحد منا، خلاله تقبلنا عمل الثالوث القدوس، ونلنا الخلاص!
نادى يونان أنه بعد أربعين يومًا تنقلب مدينة نينوى، وفي الترجمة السبعينية بعد ثلاثة أيام تنقلب مدينة نينوى، إن كان رقم ٤٠ يُشير إلى حياتنا الزمنية، لذلك صام السيد المسيح أربعين يومًا لكي نصوم كل أيام حياتنا، فإن نينوى تنقلب بعد أربعين يومًا إذ تزول السماء والأرض حتى تنعم بالسماء الجديدة والأرض الجديدة. وإن كان رقم ٣ يُشير إلى القيامة مع السيد المسيح، فلابد لنينوى القديمة أن تُهدم لتقوم الجديدة فيه.
"فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم" [٥].
يقول القديس چيروم: [آمنت نينوى، أما إسرائيل فقاوم غير مصدق. آمن أهل الغرلة، أما أهل الختان فاستمروا في عدم إيمانهم].
ارتبط إيمان أهل نينوى بالعمل فقدموا توبة عملية أسلحتها الصوم والمسوح وكما يقول القديس چيروم: [الصوم والمسوح هما أسلحة التوبة، معين للخطاة. الصوم أولاً ثم المسوح، الأول يُشير إلى ما هو غير منظور ويليه ما هو منظور. واحد قائم أمام الرب على الدوام والآخر يقوم إلى حين أمام الناس]. وكأنه يليق بتوبتنا أن نبدأ بالصوم الخفي والحياة العملية السرية وعندئذ ننطلق إلى الأعمال الظاهرة.
يقول القديس چيروم: [بالتوبة ترتبط المسوح بالصوم، حتى أن البطن الفارغة وملابس الحزن تترجى الرب بقدر كبير في الصلاة].
قدم الكل التوبة العملية لله، فلبس المسوح كبيرهم كما صغيرهم، تقدم الملك والعظماء موكب التوبة، واشترك فيه كل الشعب وأيضًا البهائم... مع أن يونان لم يعط كلمة رجاء واحدة، ولاَّ حدثهم عن محبة الله وترفقه، ولا علمهم شيئًا عن التوبة... فصارت نينوى مثلاً رائعًا وحيًا عن التوبة الصادقة.
من هو الملك الذي لبس المسوح إلاَّ الإرادة الإنسانية التي تنحني أمام الله لتلعن خضوعها له وقبولها أن تفتقر من أجل ذاك الغني الذي إفتقر ليغنيها. تبدأ التوبة بتغيير داخلي في إرادة الإنسان أي ملكنا الداخلي. لقد خلع الملك رداءه الملكي ولبس المسوح وجلس على الرماد، لكي تخلع إرادتنا البشرية الثياب التي من عمل يديها وتعترف بعُريها وفقرها الذاتي، فيُلبسها الرب إرادته السماوية الملوكية ويهبها الإنسان الجديد الذي على صورته، ويُقيمها من المزبلة لتجلس مع السمائيين، ويكون للنفس موضعًا في حضن الآب. أما العظماء ففي توبتهم يشيرون إلى تقديس المواهب والقدرات التي لنا، لتعمل لحساب مملكة الله. وأما البهائم فتُشير إلى الجسد بطاقاته التي سلك قبلاً في الظلمة بطريقة حيوانية. بمعنى آخر التوبة تمس الإنسان بكليته: نفسه وجسده، إرادته وقدراته، أحاسيسه وتصرفاته!
هنا يليق بنا أن ندرك أن ما جذب قلب الله إليهم ليس صومهم في ذاته ولا المسوح في ذاتها وإنما القلب التائب الذي يسنده الصوم وتعينه المسوح. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [صام أهل نينوى واقتنوا محبة الله، أما اليهود فصاموا ولم ينتفعوا شيئًا بل بالحري نالوا لومًا (إش ٥٨: ٣، ٧؛ 1 كو ٩: ٢٦). إذن فالخطر في الصوم عظيم بالنسبة للذين لا يعرفون كيف ينبغي عليهم أن يصوموا. لنتعلم قوانين هذا التدريب حتى لا نركض باطلاً أو نصارع الهواء، أو نكون في حزننا نصارع ظلالاً. الصوم دواء، لكنه ليس نافعًا على الدوام إن استخدمه بطريقة غير سليمة بسبب عدم خبرة مُستخدميه[24]].
ما يجذب أنظارنا في توبة أهل نينوى الرجاء المفرح، فقد كانت كلمات يونان قليلة وعنيفة لكن أهل نينوى لم يفقدوا رجاءهم في الرب الرحيم، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كانت رسالة الله على فم يونان واضحة، لم يذكر فيها شيئًا عن قبولهم إن رجعوا، لكنهم أعلنوا توبتهم، قائلين: "لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك" [٩]. فإن كان الأمميون غير الفاهمين استطاعوا إدراك هذا، كم بالحري يليق بنا نحن الذين تدربنا على التعاليم الإلهية وشاهدنا أمثلة كثيرة من هذا النوع عبر التاريخ وفي اختباراتنا الحالية أن ندرك؟![25]].
"فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه لهم فلم يصنعه" [١٠].
ملاحظة في هذا النص:
أولاً: التوبة لا تحتاج إلى زمان طويل بل إلى تغيير القلب، فقد استطاع أهل نينوى اغتصاب مراحم الله ليس خلال طول الزمان وإنما خلال صدق العودة إلى الله. إن كان يليق بنا أن نقضي كل حياتنا في توبة مستمرة بلا انقطاع مشتهين البلوغ إلى قياس ملء قامة المسيح، لكن هذه النظرة لا تنزع عنا إدراكنا مراحم الله المترقبة رجوع كل إنسان لتحتضنه في الحال. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حيث توجد مخافة الله فلا حاجة إلى (كثرة) الأيام ولا إلى تدخل الزمن، وعلى العكس إن لم توجد مخافة الله فلا نفع للأيام... إن ألقينا إناءً به صدأ في أتون مخافة الله، يتنقى في وقت قصير[26]].
ثانيًا: كلمة "الشر" تعني هنا الضيقات أو التأديبات التي يسمح الله بها للإنسان لتأديبه أو ليكون مثلاً للآخرين، فهي في عيني الإنسان شرًا، لكنها ليست كذلك في طبيعتها. وكما يقول العلامة ترتليان: [يستخدم اليونان أيضًا كلمة "الشرور" أحيانًا عن "الضيقات وما يحل من أضرار"[27]]، هذا أيضًا ما أكده الأب ثيؤدور[28].
ثالثًا: قديمًا تعثر البعض من تعبير الكتاب "ندم الرب" فهل يُغير الله رأيه؟ يستخدم الله التعبير البشري لتقريب المعنى إلينا، فالله لا يندم بمعنى تغيير رأيه، إنما الإنسان هو الذي يُغير وضعه بالنسبة لله فيصير الحكم بالنسبة له مختلفًا. فعندما يُعاند الإنسان يسقط تحت التأديب، وإذ يرتد عن شره ويرجع إلى الله يجده فاتحًا أحضانه له. هذا ما ندعوه ندمًا! الله حينما يصدر حكمه بالتأديب لا يصر على التنفيذ إنما يصدر الحكم لكي يرجع الإنسان عن شره فيعفى عنه.
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [في أيام يونان لو لم يهدد الله بالدمار لم نزُع عنهم الدمار... لو لم يهددنا بجهنم لسقطنا جميعًا فيها[29]]. كما يقول: [التهديد بالخطر يُسبب خلاصًا منه... التهديد بالموت يجلب حياة. أُبطل الحكم بعد أن أُعلن وذلك على عكس ما يحدث بين القضاة الزمنيين، فإنهم إذ يصدرون حكمًا يصير نافذ المفعول... أما بالنسبة لله فبالعكس يُعلن الحكم لكي يبطله[30]].
يونان شرقي المدينة
إن كان الله قد أشرق على نينوى بمراحمه فإنه لا يترك يونان في ضيقة نفسه، بل يدخل معه في حوار شرقي المدينة حتى تستريح نفسه فيه.
1. يونان في غمه [١-٤].
2. يونان شرقي المدينة [٥].
3. يونان تحت اليقطينة [٦-٨].
4. حديث الله الختامي [٩ – ١١].
"فغم ذلك يونان غمًا شديدًا فاغتاظ، وصلى إلى الرب وقال: آه يا رب أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي، لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر، فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي. فقال الرب: هل اغتظت بالصواب؟!" [١–٤].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا لقد خجل النبي إذ رأى أن ما تنبأ به لم يتحقق... أما الله فلا يخجل أن يطلب أمرًا واحدًا هو خلاص البشر وصلاح خادمه[31]].
ويرى القديس چيروم أن غم يونان وشكواه يقومان على إدراكه مراحم الله ورأفاته إذ لم يكن ممكنًا أن يقدمه لأهل نينوى كإله قاسٍ، لذا اشتهى الموت ولا يرى مراحم الله تدرك الأمم بينما إسرائيل يهلك، فيقول على لسان النبي: [إنني الوحيد بين كثرة الأنبياء أعلن لشعبي عن دماره خلال خلاص الآخرين]. خلال هذه المشاعر المملوءة حبًا نحو شعبه – وإن بدت تحمل قسوة نحو الأمم – جعلته يطلب من الله أن يأخذ نفسه فإن موته خير من حياته... مرة أخرى يُكرر يونان ذات الطلب بعد أن جفت اليقطينة أي إسرائيل! على أي الأحوال هذه الطلبة أو الشهوة حملت جانبًا نبويًا، فكممثل للسيد المسيح أو كرمز له يطلب الموت عن شعبه متطلعًا أن خلاص البشرية يتحقق بموت الصليب لا بالنزول عنه أو الخلاص منه. فلا عجب إن قال السيد المسيح نفسه لتلاميذه: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم" (لو ٢٢: ١٥). إن كان هو حمل الفصح الذبيح فإنه يشتهي أن يقدم حياته بيديه ليهب مؤمنيه جسده ودمه المبذولين عن خلاص العالم!
اشتهى يونان أن يموت لكن في مرارة من أجل هلاك شعبه المعلن خلال خلاص الأمم، أما يوناننا فجاء لأجل هذه الساعة، متقدمًا للآلام بسرور مستهينًا بالخزي (عب ١٢: ٢) ليفدي البشرية كلها.
"وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها حتى يرى ماذا يحدث في المدينة" [٥].
خرج يونان من المدينة مغمومًا ومملوء غيظًا وجلس شرقي المدينة يترقب ماذا يفعل الرب بالمدينة. لعل يونان نفسه كان يمثل الفكر اليهودي أو الابن الأكبر الذي وقف خارج البيت متألمًا لأن أخاه الأصغر عاد إلى بيت أبيه (لو ١٥: ٢٥–٣١). بينما كان البيت مملوء فرحًا وبهجة بعودة الضال إذا بالأكبر في بره الذاتي يبقى خارج البيت يلوم أباه بكلمات قاسية.
المدينة العاصية نينوى اغتصبت بالإيمان العامل بالمحبة مراحم الله، يونان النبي انطلق خارجها يقيم مظلة هي من صنع يديه، أي بره الذاتي، حاسبًا نفسه أفضل من الغير، مترقبًا غضب الله عليه.
"فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلصه من غمه، ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحًا عظيمًا. ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست، وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحًا شديدة فضربت الشمس على رأس يونان فذبل وطلب لنفسه الموت، وقال: موتيّ خير من حياتي" [٥– ٨].
ماذا أراد الله بهذه اليقطينة التي أعدها الرب الإله ثم أعد لها الدودة لتضربها؟
أولاً: بلا شك اليقطينة هي الشعب اليهودي الذي قال عنه الرب: "أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت" [١٠].
إن كان يونان قد فرح باليقطينة فرحًا عظيمًا [٦]، إذ كان محبًا لشعبه بشده، لكن ليس له فضل في هذه اليقطينة... لم يزرعها ولا تعهدها ولا سهر عليها، أما الله فهو الذي أقام إسرائيل وتعهده، أخرجه من عبودية فرعون، وقدم له الشريعة، دخل به إلى أرض الموعد وأعطاه النبوات ولم يتركه معتازًا شيئًا. وكما عاتبه الرب قائلاً: "والآن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا أحكموا بينيّ وبين كرمي، ماذا يُصنع أيضًا لكرمي وأنا لم أصنعه له؟!" (إش ٥: ٣-٤).
كان يليق بيونان الذي يمثل جزءًا صغيرًا من أحد فروع هذه اليقطينة ألاَّ يغتم ويغتاظ فإن الذي أقام اليقطينة واختارها وتعهدها هو الله نفسه الذي أرسله إلى نينوى ليرعاها أيضًا خلاله!
لقد دعاها "بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت" [١٠]، لم تكن "بنت نهار" أو "بنت نور"، بل "بنت ليلة" لأنها رفضت مخلصها شمس البرّ، وأحبت الظلمة أكثر من النور. وكما يقول القديس يوحنا الإنجيلي: "كان النور الحقيقي الذي يُنير لكل إنسان آتيًا إلى العالم... إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه" (يو ١: ٩–١٢).
ثانيًا: أقام الله ليونان يقطينة ليسحبه من مظلته التي هي من صنع يديه، وكأنه يسحب الإنسان من بره الذاتي لكي ينعم بظلال هي من يد الله خالقه وراعيه. لكن كان لزامًا لليقطينة أن تجف ليقيم عوض هذه الشجيرة الضعيفة خشبة الصليب التي تستظل تحتها الكنيسة لتنعم بفرح الإنجيل، قائلة: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي" (نش ٢: ٣).
إن كان يونان قد خرج إلى شرق المدينة ينتظر بروح النبوة إشراق شمس البرّ (ملا ٤: ٢) الذي يُضيء لا على إسرائيل وحده بل وعلى كل الأمم، فقد فرح جدًا باليقطينة إذ تمتع إسرائيل بالشريعة والنبوات لتقوده إلى مخلصه، لكنه لم يكن قادرًا أن يقبل زلة إسرائيل كطريق لانطلاق الإيمان إلى الأمم لذا أغتم على اليقطينة اليابسة، فقد أراد أن يعيش تحت الرموز وبين ظلال النبوات كملجأ له ولم يدرك أنها طريق ينطلق به إلى مشتهى الأمم.
إن كان الناموس هو قائدنا للمسيح كقول الرسول بولس، لكن إسرائيل تمسك بحرفية الناموس وشكليات العبادة رافضًا خشبة الصليب المحيي.
أقول، لتخرج نفوسنا إلى المشارق لتنعم باشراقات الرب عليها، لتجف يقطينة الحرف القاتل لتنعم بالروح المحيي، ونتقبل في داخلنا مشتهى الأمم كسرّ استنارتنا وبهجتنا وشعبنا!
ثالثًا: إذ سبق الله فتحدث مع يونان خلال النوء العاصف والسفينة التي تتخبط والبحارة الأمميين والقرعة والحوت يحدثه الآن خلال اليقطينة الضعيفة والريح الشرقية والدودة المحطمة لليقطينة. الله يتحدث في كل مرحلة باللغة التي يتجاوب معها الإنسان ويتفهمها، فيحن كان يونان ثائرًا في قلبه على قرار الله نحو نينوى متخذًا قرارًا بالهروب حدثه الله بلغة العنف اللائق بالقلب العنيف. حدثه بلغة النوء ليدرك ثورته الداخلية، ولغة البحارة الأمميين ليدرك أنه عرج عن روح الإيمان، وحدثه بالسفينة التي تتقاذفها الرياح ليكتشف قلبه الذي كاد يجنح وسط بحر هذا العالم، وتكلم معه خلال الحوت ليدرك الهوة التي أنجرف إليها والأعماق التي ابتلعته والسجن الذي أقام فيه نفسه... والآن إذ خرج يونان هزيلاً ليس فيه قدرة على المقاومة حدثه باليقطينة الشجيرة الضعيفة والدودة المفسدة ليدرك أنه ليس إلاَّ شجيرة ضعيفة تحطمها دودة الجحود وعدم التسليم.
في اختصار نقول أنه باللغة التي يحدثنا بها الرب نكتشف أعماقنا الخفية.
رابعًا: يرى القديس هيبوليتس الروماني أن الرياح الشرقية الحارة التي أعدها الله تُشير إلى ضد المسيح الذي يخرج من الشرق بسماح إلهي مقاومًا الكنيسة قبيل مجيء الرب الأخير.
ختم الله حواره مع يونان بهذه العبارة الجميلة: "أنت تشفق على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولاَّ ربيتها التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت، أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة" [١٠-١١].
هكذا يكشف الله عن محبته للبشرية التي هي عمل يديه.
نينوى كما يقول القديس چيروم: [المدينة العظيمة التي هي الكنيسة الحاوية الإثنى عشر سبطًا الروحيين الذين يعودون إلى الطفولة في براءتها وبساطتها].
[1] Biblical Illustrator: The Minor prophets, V.I. Jonhah IV.
[2] J. Mckenzie Dict. of the Bible, p 618.
[3] The New Westminster Dicti. Of Bible, p 669
[4] Raven: O.T. Introduction, p 224, 225.
[5] كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج: يونان النبي والحوت (الكتاب المقدس والعلم الحديث ٣).
[6] Winckler: History of Babylonia and Assyria, p 232.
[7] Step 24: 7, 8
[8] Herod. 4: 152.
[9] يافا: مدينة على شاطيء البحر المتوسط، تبعد حوالي ٣٥ ميلاً شمال غربي أورشليم.
[10] Conc. Stat. 5: 18.
[11] PL. 26: 25 In Matt 1.
[12] Conc. Stat. 6: 14.
[13] Ibid 5: 19.
[14] Ibid 5: 18.
[15] Tert. On Resur. of The Flesh 58.
[16] PG 63, Eclogue on Prayer.
[17] On Ps. Hom 41.
[18] راجع للؤلف: حزقيال، ١٩٨١ تفسير الأصحاح ٤٧.
[19] On the Holy Spirit 1: 16.
[20] Ep. 113: 77.
[21] Ser. On N. T. 35: 7.
[22] Conc. Stat. 5: 18.
[23] للمؤلف: يشوع، ١٩٨٣، ص ٤٦، ٤٧.
[24] Conc. Stat. 3: 8.
[25] Letter to Theodore.
[26] Conc. Stat. 20: 21.
[27] Adv. Marc. 2: 24.
[28] Cassian Conf. 6: 6.
[29] In 1Tim. Hom 15; Conc. Stat. 5: 16.
[30] Conc. Stat. 5: 16.
[31] Conc. Stat. 5: 16.