زكريا
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
سفر زكريا بما حواه من رؤى مبهجة للنفس تبعث على الرجاء وتشدد الأيدي للعمل الروحي، وما تضمنه من نبوات دقيقة عن شخص ربنا يسوع المسيح، سحب قلوب الكثير من آباء الكنيسة الأولى لتفسيره والتأمل فيه. وقد حاولت تقديمه مختصرًا ما استطعت حاذفًا أقوال الآباء المتشابهة حتى يسهل على القارئ إستيعابه.
وقد قام المباركان الأستاذ مليكه يوسف والمرحوم الشماس يوسف حبيب بترجمة نص القديس ديديموس الضرير للخمسة أصحاحات الأولى ونشرها كنصٍ آبائيٍ ومصدر كنسي له تقديره الكبير[1].
وفى نفس الوقت قامت الأخت المباركة عايدة حنا بسطا بترجمة ذات النص دون نشره، وقامت الأخوات المباركات تريز سعد والدكتورة تغريد راغب والدكتورة منى أبوسيف حلمي ومارسيل عزمى والأخ المبارك الدكتور إلهامي إبراهيم بترجمة بقية النص (الأصحاحات التسعة الأخيرة). الرب يبارك كل عمل ويهب استنارة لكل نفس للتمتع بكلمة الله الحيّ.
-
|
- الباب الثالث الأصحاحات [9 -14] |
|
- الباب الأول الأصحاحات [1- 6] |
|
الأصحاح التاسع (الحكم المقدوني) |
الأصحاح الأول (رؤيتا الخيل والقرون الأربعة) |
|
الأصحاح العاشر (إنتظار الملكوت المسياني) |
الأصحاح الثاني (قياس أورشليم الجديدة) |
|
الأصحاح الحادي عشر (رفضهم الراعي الصالح) |
الأصحاح الثالث (يهوشع الكاهن العظيم) |
|
|
الأصحاح الرابع (المنارة الذهبية) |
|
الأصحاح الثاني عشر (أورشليم الجديدة والشر) |
الأصحاح الخامس (الدرج الطائر) |
|
الأصحاح الثالث عشر (جراحات الراعي) |
الأصحاح السادس (المركبات وتتويج يهوشع) |
|
الأصحاح الرابع عشر (الصليب والمعمودية) |
- الباب الثاني الأصحاحان [7-8] |
|
|
الأصحاح السابع (درس حول الصوم) |
|
|
الأصحاح الثامن (الأصوام تتحول إلى أعياد) |
|
|
1. كلمة "زكريا" في العبرية تعنى "يهوه يذكر"[2]. كان هذا الاسم شائعًا عند اليهود، إذ ورد فى الكتاب المقدس حواليّ ثلاثين شخصًا يحملون هذا الاسم. وقد جاء هذا الاسم يُناسب السفر وظروفه، إذ يهدف إلى تشجيع النفس على الجهاد الروحي لبناء هيكل الله فيها، فالله نفسه يذكرها دومًا ليقيم بنفسه الهيكل ويقدسه. وكما يقول المرتل: "أما أنا فمسكين وبائس، الرب يهتم بيّ، عوني ومنقذي أنت، يا إلهي لا تبطئ" (مز 40: 17). إنه يهتم بنا ليقيم مملكته فينا، لا بالكلام بل بالعمل، بنزول الابن الوحيد على الصليب وإرسال الروح القدس فينا في استحقاقات الدم الكريم.
2. يبدو أن زكريا ولد في أرض السبي البابلي، وجاء وهو طفل مع جده "عدو" في أول دفعة من الراجعين مع زربابل من السبي (نح 12: 1، 4، 7)، وكان جده رأسًا لعائلة كهنوتية معروفًا وسط الشعب. أما الأب فيبدو أنه مات شابًا ربما قبل العودة من السبي.
3. بدأ زكريا نبوته في السنة الثانية لداريوس هيستاسيس عام 520 ق.م، أما آخر تاريخ يشار إليه في السفر فهو السنة الرابعة للملك داريوس (زك 7: 1) عام 518 ق.م. وإن كان كثير من الدارسين يروا أن الجزء الأخير من السفر (ص 9-14) كتب في شيخوخته بعد 30 أو 40 عامًا من كتابة الجزء الأول منه (ص 1-8). على أي الأحوال عاصر زكريا زربابل الوالي ويهوشع الكاهن العظيم وحجي النبي (زك 3: 1؛ 4: 6؛ 6: 11؛ عز 5: 1-2). وكان رفيقًا للأخير في الكفاح، يحمل ذات الرسالة، تربط بينهما علاقة وثيقة ومحبة عميقة، حتى جاء في التقليد اليهودي أن زكريا دُفن بجوار حجي الذي كان زميلاً ومحبًا له.
الظروف التاريخية:
أصدر كورش ملك فارس منشورًا عام 538 ق.م فيه سُمح للراغبين من اليهود أن يعودوا إلى مواطنهم لإعادة بناء الهيكل (2 أى 36: 22، 23؛ عز 1: 1-4). وإذ كانت الظروف المالية لغالبية اليهود المسببين حسنة استصعبوا العودة ليبدأوا حياتهم من جديد في بلدهم التي نهبها الأمم بالرغم من شعورهم بالمذلة كمسبيين وحرمانهم من هيكلهم وعبادتهم. وهكذا لم يرجع سوى خمسين ألفًا يُعتبرون النخبة الممتازة منهم نسبيًا، الذين إلتهبت حياتهم غيرة على إعادة بناء بيت الرب.
وفى الشهر الثاني من عام 536 ق.م وضعوا الأساسات (عز 3: 11-13) لكن السامريين قاوموا العمل (عز 4: 5) فتوقف حوالي 15 عامًا. وإذ إحتل داريوس المُلك عام 521 تشجع النبيان حجي وزكريا على حث الناس للبدء من جديد تحت قيادة زربابل الوالي ويهوشع الكاهن. حاول تتناى الحاكم الفارسي لغرب الفرات إعاقة العمل بإرسال استفسار للملك يحمل في طياته إيقاف العمل، لكن الملك أكد قيام المنشور السابق، إذ كان يعطف على قضية اليهود، لإعتقاده بعبادة الإله الواحد وغيرته على تقديم روائح سرور لله والصلاة من أجله هو وبنيه (عز 6: 6-12).
انتهت المقاومة الخارجية لتظهر مقاومة أمر وأقسى هي وجود اتجاه مضاد لدى الشعب وفتور شديد في العمل، إذ حسبوا توقف العمل هذه السنوات علامة عدم رضى الله عليه، وقد انهمك كل واحدٍ فى العمل لحساب مصلحته الخاصة، الأمر الذي وبخهم الله عليه في حجي: "هذا الشعب قال أن الوقت لم يبلغ، وقت بناء بيت الرب... هل الوقت لكم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!" (حجي 1: 4).
وحدة السفر:
بالنسبة للأصحاحات الثمانية الأولى يوجد اتفاق عام بين الباحثين أن الكاتب هو زكريا النبي[3]. أما بقية السفر (ص 9-14) فجاءت آراء الناقدين متفاوتة للغاية. فمن مدعي أنها كٌتبت على فترات متقطعة بعضها قبل سبي إسرائيل وأخرى ما بين سبى إسرائيل وسبى يهوذا، وفريق آخر ادعى أنها كتبت في فترات متأخرة بعد العودة من السبي، ولكن لا ندخل في مناقشات جدلية نلخص الآراء في الآتي:
أولاً: اعتمد بعض النقاد على وجود اختلاف واضح في طابع الكتابة بين الجزء الأول من السفر (ص 1-8) والجزء الثاني منه (ص 9-14)، أهمه[4]:
1. يحمل الجزء الأول تلميحات تاريخية واضحة، أما الجزء الثاني فتلميحاته التاريخية إن وجدت فغامضة.
2. يركز الجزء الأول حديثه على إعادة بناء الهيكل تحت قيادة زربابل ويهوشع، بينما لا يحمل الجزء الثاني إشارة لهذا العمل.
3. استخدام النثر بطريقة مطولة في الجزء الأول ويظهر تأثره بحزقيال النبي في أسلوبه، أما في الثاني فيستخدم الشعر بطريقة مبسطة متأثرا بهوشع وإشعياء وتثنية وإرميا وحزقيال وأيوب الخ...
4. يُركز العصر المسيانى في الجزء الأول على أورشليم كمركز له وإحياء بيت داود، أما في الجزء الثاني فيهتم بيهوذا كمركز له وإن ذكر أورشليم وبيت داود فبطريقة عارضة.
ويُرد على أصحاب هذا الفكر بأن الاختلاف في الطابع لا يعنى اختلاف الكاتب، وإنما علته اختلاف هدف القسمين، الأول غايته تشجيع الشعب على بناء الهيكل، وأما الثاني فغايته تأكيد بركة الرب لهم خاصة في العصر الميسانى، مع التنبؤ عن عمل الله معهم عبر العصور بعد إعادة بناء الهيكل. هذا ويرجع اختلاف الأسلوب في نظر البعض إلى عامل أخر، فإن كاتب الجزء الأول هو زكريا الشاب، أما الجزء الثاني فكاتبه زكريا الشيخ.
ثانيًا: لخص Raven في كتابه "مقدمات العهد القديم" أراء النقاد الذين اعتمدوا على دلائل داخلية للسفر لتأكيد أن كاتب الجزء الأخير ليس بزكريا:
الرأي الأول: يرى بعض النقاد مثل Strack Bandissin, أن الأصحاحات (9-11) سابقة لسبي إسرائيل (ويُحتمل أيضًا 13: 7-9)، وأن الأصحاحات (12-14؛ عدا 13: 7-9) كُتبت في أيام يهوياقيم ويهوياكين وصدقيا أي قبل سبي يهوذا، وسنذكر مبرراتهم والرد عليها في صلب التفسير.
الرأي الثاني: يرى فريق من النقاد من بينهم Nowack Driver, أن هذا الجزء بكليته (9-14) كُتب بعد العودة من السبي، وأنه يُسجل لنا أحداث متأخرة بعد العودة، وجاءت براهينهم ردًا على أصحاب الرأي الأول بصورة قوية لا نود الدخول في تفاصيلها. أما كون هذه الأحداث التي سجلها السفر تصف عصور ما بعد زكريا فلا ينفي أن الكاتب هو زكريا إذ يكتب بروح النبوة عن المستقبل، وليس كمؤرخ لأحداث معاصرة. هذا ما يجعل الكثيرين يؤكدون وحدة السفر وقبول التقليد اليهودي والكنسي بأن السفر كاتبه زكريا وحده.
سماته:
1. يُعتبر هذا السفر سندًا قويًا للنفس الخائرة، فجاء يحمل لغة الرجاء لشعبٍ عاش تحت نير السبي سبعين عامًا محرومًا من الهيكل والتقدمات وعند عودته لبناء الهيكل بقي حوالي 15 عامًا عاجزًا عن العمل. فجاء السفر ييقظ الهمم الخائرة الواهنة فلا نجد فيه نغمة الانتهار العنيف أو التهديد.
2. قدم لنا في الأصحاحات الستة الأولى تسع رؤى، كما استخدم الرمزية في بعض أجزائه.
3. ركز على العصر المسيانى، ففيما هو يسندهم على إعادة بناء الهيكل يكشف لهم عن هيكل المسيا المخلص في كنيسة العهد الجديد، مقدمًا نبوات واضحة عن شخص السيد المسيح مثل دخوله الملوكي إلى أورشليم (9: 9)، وتسليمه بثلاثين من الفضة (11-2)، وجراحاته (13: 6)، وطعنه (12: 10)، وكونه الراعي المتألم (13: 7)، وفتح ملكوته للجميع (9: 10). هذا بجانب ارتباط بعض الأفكار والعبارات التي للسفر بالعهد الجديد مثل الفرسان الأربعة (1: 7 الخ، رؤ 6: 1–8)، وقياس المدينة المقدسة (1: 16، رؤ 11: 1-2)، المنارة والزيتونتان (4: 1-3 ،11-14؛ رؤ 11: 4-10) وتشتيت الخراف (13: 7، مت 26: 31) الخ...
يتحدث ماكنزي Mckenzie عن العنصر المسياني كما جاء في سفر زكريا، قائلاً: [المسيانية هي النغمة السائدة في زكريا (ص 1-8)، إذ يعرض لنا كشفًا عن جماعة دينية قومية مسيانية جديدة تقوم في فلسطين ومركزها أورشليم. يرى النبي أن الوقت قد قرب لتحقيق الخلاص الذي يقدمه المسيا، وأن إعادة بناء الهيكل هو علامة بداية لمجيئه. في العصر الميسانى ينهزم الأمم (2: 1-4، 10: 13)، ويُعاد بناء الهيكل (1: 16)، وأورشليم (8: 3)، ويأتي يهوه ويسكن مع شعبه (2: 14، 8: 3)، ويجتمع المسبيون معًا، ويتعبد الأمم ليهوه (2: 15؛ 8: 20-23)، ويحل السلام والفرح (3: 10، 8: 12)، وتنتزع الخطية (3: 9، 5: 1، 11)... فالمسيانية حسب زكريا ليست مجرد قومية لكنها تضم تطهيرًا للجماعة المعينة باتحادها بيهوه[5]]. كما يقول: [والمسيانية أيضًا هي النغمة السائدة في زكريا (ص 9-14)، لكنها هنا تظهر رؤية بصورة أقوى، وأن الخلاص يتحقق مع نهاية الزمن... وأن أهم ملامح المسيانية هنا هو ظهور مسيا الفقراء (9: 9)[6]].
4. إذ كان زكريا النبي كاهنًا كان قلبه ملتهبًا نحو الخدمة الكهنوتية التي حُرم منها هو وآباؤه زمانًا طويلاً، فجاءت نبوته مثالاً للنبي الطقسى، تعلن عن الله العامل في الطقس الروحي، مقدمًا لنا السيد المسيح ككاهن ينزع عنا ثوبنا القذر، ويهبنا الثوب المزخرف والعمامة الطاهرة (ص 3)، ويعطينا خلال عمله الكهنوتي شركة إكليله السماوي المجيد (ص6).
أقسامه:
أولاً: الرؤى التسع [1-6].
ثانيًا: تساؤل حول الصوم [7-8].
ثالثًا: إسرائيل والعصر المسيانى [9-14].
الباب الأول
الرؤى التسع
ص1- ص 6
v دعـوة للتوبة [ص 1]
رؤيا 1: راكب الفرس الأحمر [ص 1]
رؤيا 2: الأربعة قرون [ص 1]
رؤيا 3: قياس المدينة المقدسة [ص 2]
رؤيا 4: يهوشع الكاهن العظيم [ص 3]
رؤيا 5: المنارة الذهبية [ص 4]
رؤيا 6: الدرج (المنجل) الطائر [ص 5]
رؤيا 7: المرأة وسط الإيفة [ص 5]
رؤيا 8: المركبات [ص 6]
رؤيا 9: تتويج يهوشع [ص 6]
الرؤى التسع
بعد افتتاحه السفر بالدعوة للتوبة قدم لنا زكريا النبي الرؤى التسع التي شاهدها. فى مجملها رؤى إنجيلية مبهجة تسند الشعب في عصره على إعادة بناء الهيكل تحت قيادة زربابل الوالي ويهوشع الكاهن، وتسند كل نفس في كل عصر على التمتع ببناء الهيكل الداخلي كمركز للمسيح الملك والكاهن الأعظم. وقد جاءت الرؤى متسلسلة ومترابطة تبدأ بالإعداد لمجيء المسيا بأنيّ البيت الداخلي، وإعلان إنجيله الذي يُحطم كل مقاومة روحية للبناء المقدس، والكشف عن المبنى ذاته فينا (أورشليمنا الداخلية) واستلامه العمل ككاهن أعظم، وإرسال روحه القدس ينير مقدسة فينا. بعد هذه الجوانب الطبية يحذرنا من الخطية مرة ومرتين وأخيرًا يعلن مجيء الرب الأخير ليدين الشر ويكلل السالكين ببره.
رؤيا 1: راكب الفرس الأحمر : التهيئة لمجيء المسيا.
رؤيا 2: الأربعة قرون : الأناجيل الأربعة تحطم شر العالم.
رؤيا 3: قياس المدينة المقدسة : الرب يقيم مقدسة داخلنا.
رؤيا 4: يهوشع الكاهن العظيم : الرب كاهننا الأعظم.
رؤيا 5: المنارة الذهبية : الروح القدس واهب الاستنارة.
رؤيا 6: الدرج (المنجل) الطائر : تحذير من التهاون.
رؤيا 7: المرأة وسط الإيفة : إعادة التحذير.
رؤيا 8: المركبات : إدانة الشر أبديًا.
رؤيا 9: تتويج يهوشع : تكليلنا الأبدي فيه.
الأصحاح الأول
رؤيتا الخيل والقرون الأربعة
بعد أن افتتح السفر بدعوة للتوبة بكلمات مملؤة رقة تتناسب مع شعب انسحق بالذل في السبي قدم لنا في هذا الأصحاح رؤيتين مبهجتين تخصان إقامة هيكل الرب فينا.
1. دعوة للتوبة [1-6].
2. رؤيا الخيل [7-11].
3. غيرة الرب على بيته [12-17].
4. رؤيا الأربعة قرون [18-21].
1. دعوة للتوبة:
حدد النبي تاريخ نبوته بالشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس (520 ق.م)، قائلاً: "في الشهر الثامن في السنة الثانية لداريوس كانت كلمة الرب إلى زكريا بن برخيا بن عدّو النبي، قائلاً" [1]. هنا يذكر النبي اسمه واسمي والده وجده، ولعل ذكر اسم جده لأنه هو الذي قام بتربيته بعد وفاة والده، ولأنه كان مشهورًا وسط العائدين من السبي (نج 12: 1، 4، 7).
كانت دعوة الرب إليهم هي: "قد غضب الرب على آبائكم... هكذا قال رب الجنود ارجعوا إليَّ يقول رب الجنود فأرجع إليكم يقول رب الجنود" [2-3]. ويلاحظ هنا:
أولاً: في هذه الدعوة لم يذكر تفاصيل خطايا آبائهم الماضية، إذ لم يرد أن يجرح مشاعرهم بعد دخولهم فى ذل السبي... وإنما أراد حتى في حثهم على التوبة أن يسندهم ويشجعهم ويرفع من روحهم المعنوية.
ثانيًا: لعله قصد هنا بآبائهم الأجيال السابقة للسبى التي لم تسمح للأنبياء الحقيقيين بل سارت وراء الأنبياء الكذابة فانتهى الأمر بسبي إسرائيل ثم يهوذا. وربما قصد بهم الذين رجعوا من السبي منذ حوالي 15 عامًا، الذين أهملوا في بناء الهيكل وانهمكوا في ملذاتهم الأرضية (حجى 1)، هؤلاء الذين فى غيرتهم رجعوا من السبي إلى أورشليم مع زربابل، لكنهم إذ لم يرجعوا بقلوبهم للرب توقف العمل وخسروا حياتهم الروحية. لذلك يؤكد الرب: "ارجعوا إليَّ... فأرجع إليكم". إنه قبل الرجوع إلى المكان يطلب رجوع القلب إليه، أما من جهته فهو مستعد بل ومشتاق أن يرجع إلينا ويبني هيكله الروحي فينا. هذا هو نداء الله المستمر لنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله في طول أناته ينتظر الخاطئ، قائلاً: "ارجعوا إلى فأرجع إليكم"[7]]. كما يقول: [برجوعنا الكامل إلى الله نجده مستعدًا كقول النبي: "نجده مستعدًا كالفجر" (هو 6: 3 الترجمة السبعينية). الله ليس بغائب بل هو حاضر في كل موضع ونحن بانحرافنا نفقده، إذ قيل: "في العالم كان والعالم به كُونَ والعالم لم يعرفه" (يو 1: 10) لقد كان في العالم والعالم لم يعرفه لأنه عدم نقاوة أعيننا تجعلنا لا نراه[8]]. كما يقول: [لقد تركك الله بكونك أنت هو التارك. أنت الذي سقطت عنه أما هو فلا يسقط عنك[9]...].
إذن الرجوع إلى الله ليس مجرد تغيير المكان، أي ترك بابل والذهاب إلى أورشليم، بل هو تغيير مركز النفس بالنسبة لله، فعوض أن تعطيه القفا بأعمالها الشريرة تعطيه الوجه مقتربه إليه روحيًا. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [يجب ألاَّ يُفهم هذا الافتراق وهذا الاقتراب انه يتحقق في مكان معين، إنما خلال موقف الروح واستعدادها[10]].
ثالثًا: يسألهم الاتعاظ بما حدث مع آبائهم: "آباؤكم أين هم؟! والأنبياء هل أبدًا يحيون؟!" [5]. ربما قصد أنه سبق فأنذر آباءهم بالأنبياء لكن إلى حين، فإذ رفضوا الإنذار هلكوا وخسروا الأنبياء. ويرى القديس ديديموس الضرير أنه يقصد بالأنبياء هنا الأنبياء الكذبة الذين خدعوا آباءهم بقولهم لهم: "سلام سلام ولا سلام" (أر 11: 8). هلكوا مع الأنبياء الكذبة الذين خدعوهم، فاختفى المضلون والذين تركوا أنفسهم ينخدعون بأكاذيبهم.
رابعًا: في دعوته بالرجوع دعي الله "رب الجنود"، مكررًا اسمه ثلاث مرات في عبارة واحدة [3]. فمن ناحية يتقدم الرب إليهم كرب الجنود، ليعلن مسئوليته عن العمل فلا يخافون من المقاومين، إذ هو قادر أن يتمم العمل بهم إن خضعوا له كجنود روحيين لقائدهم. أما تعبير "رب الجنود" ثلاث مرات عند عودته للتوبة إنما هو تأكيد لعمل الثالوث القدوس في حياتهم، فلا يقدر الإنسان أن يرجع إلى الله ما لم يختبر محبة الآب الباذلة، ونعمة الابن خلال الصليب، وشركة الروح القدس واهب المغفرة.
خامسًا: يؤكد هذا السفر المبدأ الهام الذي سبق فأعلنه الله في كتب الأنبياء قبل السبي أن ما يحل بهم هو تأديب من قبل الرب، ولكنه في نفس الوقت ليس إلاَّ ثمرة طبيعية للخطية... "كطرقنا وأعمالنا كذلك فعل بنا" [6]. فالإنسان هو الذي يلقى بنفسه تحت التأديب كثمرة أفعاله.
سادسًا: إن كان آباؤهم قد هلكوا بسبب التصاقهم بالشر، فإن من يلتصق بالباطل يصير باطلاً؛ فالعلاج هو الالتصاق بالحق ليحيا أبديًا. هكذا يُقدم الله كلمته، أي الحق، لنلتصق به فلا نموت... "ولكن كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء أفلم تدرك آباءكم؟!" [6]. وكما يقول أشعياء: "يبس العشب، ذبل الزهر، أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (أش 40: 8).
2. رؤيا الخيل:
بعد بدء نبوته بثلاثة شهور حلّ شهر شباط الذي فيه تفرخ الأشجار وتفوح رائحة شجر الآس الطيبة. ولعل النبي كان يقضى اليوم كله في واد قريب منه، يسقط راكعًا تحت ظلال شجر الآس، ودموعه لا تجف، صارخًا: "يارب إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟!" [12]. كان وسط نحيبه يتجه بقلبه نحو الهيكل الذي صار خرابًا وإلى الشعب الذي جاء منذ حوالي 15 عامًا لبناء الهيكل لكن كل واحد انهمك في أعماله الخاصة ومصالحه الشخصية. كان النبي ككاهن يئن مشتاقًا إلى عودة الهيكل بطقوسه الروحية التي لم يمارسها منذ ولادته حتى تلك اللحظات. لذلك في الليل وهبه الله هذه الرؤيا: "رأيت في الليل وإذا برجل راكب على فرس أحمر وهو واقف بين الآس الذي في الظل، وخلفه خيل حمر وشقر وشهب. فقلت: يا سيدي: ما هؤلاء؟ فقال ليَّ الملاك الذي كلمني أنا أريك ما هؤلاء. فأجاب الرجل الواقف بين الآس وقال: هؤلاء هم الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض. فأجابوا ملاك الرب الواقف بين الآس وقالوا: قد جُلنا فى الأرض وإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة" [8-11].
بهذه الرؤيا يعلن الله عن تدبيراته الخلاصية واهتمامه ببيته الروحي هذا وقد أعطاه الله ملاكًا يكلمه، هذا الذي رافقه في كل الرؤى، يدخل معه في الحوار ويفسر له ما غمض عليه. كأن الرب أراد أن يؤكد مساندة السماء له وخدمة الملائكة للبشر (عب 1: 14).
الآن، من هو هذا الرجل الراكب على فرس أحمر، الواقف بين الآس، الذي في الظل ويدعى: "ملاك الرب".
تعبير "ملاك الرب" غالبًا ما يشير إلى الله نفسه[11] إذ يظهر كملاك أو مُرسل لأجل الإنسان، إذ كلمة "ملاك" تعنى "رسول"، وقد جاء في التلمود البابلي: "هذا الرجل ليس إلاَّ القدوس المبارك، إذ قيل: "الرب رجل حرب". ويقول القديس ديديموس الضرير: [الراكب على فرس أحمر هو الرب المخلص المتجسد، والفرس الأحمر هو الجسد الذي لبسه. لقد رآه النبي "وهو واقف بين الآس الذي في الظل" أي بين الجبال المظللة. الجبال هي العهدان. معي جبال خصبة ومظللة بسبب غنى الأفكار وكثرة نصوص الكتاب عن المتجسد].
يمكننا القول بأن النبي نظر هذه الرؤيا "في الليل" [8]، أي خلال العهد القديم حيث لم يكن بعد قد ظهر السيد المسيح شمس البر الذي حوّل ليل العالم إلى نهار. رآه خلال النبوات، لذا رآه في الظل، لم يتحقق مجيئه بعد. رآه رجلاً راكبًا على فرس أحمر إذ تجسد فصار إنسانًا، يتقدم إلينا بعمله الإلهي خلال الصليب حيث الدم المبذول، وكما قال أشعياء: "من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر... ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة؟! قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 1-3).
رأى النبي خلف السيد المسيح خيل حمر وشقر وشهب، قال عنهم السيد "هؤلاء هم الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض" [10]. بمجيء السيد المسيح إلينا للخلاص انفتحت السماء وتحول السمائيون إلى خدمة الإنسان لحساب العريس السماوي، وصاروا كمن يجولون فى الأرض لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14).
ولعل هؤلاء الذين أرسلهم الرب للجولان في الأرض هم الرجال العهد القديم الذين هيأوا الأرض لاستقبال الكلمة المتجسدة خلال تعاليمهم ونبواتهم، هؤلاء الذين سبقوه في الطريق لكنهم يبقون خلفه بكونه ربهم ومخلصهم أما إجابتهم: "قد جُلنا في الأرض وإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة" [11]. فتُشير إلى تهيئة الأرض لاستقبال المسيا المخلص، إذ صار الطريق مُعدًا والزمن مناسبًا لنزوله.
إن كان الراكب على الفرس الأحمر يرمز لكلمة الله المتجسد، فهذه الخيل المختلفة الألوان ربما تعنى الأعمال الإلهية، وكأن النبي يعلن للشعب اليهودي في ذلك الحين أن الله قدم أعمالاً متنوعة وهيأ لهم بكل وسيلة جوًا من الهدوء، فالأرض كلها ساكنة ومستريحة ليس من يقاوم ولا من يدير مكائد ضدهم فعليهم أن يسرعوا في بناء بيت الرب. وبنفس المعنى نقول أن النبي يعلن بأن السيد المسيح قد أرسل لنا خيله الحمر والشقر والشهب، مقدمًا لنا كل موهبة سماوية وعطية إلهية لكي يجعل أرضنا أي جسدنا ساكنًا وهادئًا لا يقاوم الروح بل يعمل معها لحساب مجد الله. إنه وقت للعمل، فيه يليق بنا تكريس كل طاقتنا الروحية كما الجسدية للبناء الروحي أورشليمنا السماوية.
هذه هي الرؤيا الأولى التي رفعت زكريا من دموعه اليومية في وادي الآس تحت الظلال لتدخل به إلى وادي عمل الله المُعلن خلال التجسد والصلب! بهذا نُزع زكريا من ضيقة نفسه إلى السلام الحقيقي والراحة، لذا قال: "الأرض كلها مستريحة وساكنة".
ليتنا لا نفهم الأرض مستريحة وساكنة بمعنى الخمول والتراخي وإنما بمعنى التمتع بسلام الله الفائق، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [الروح العاقلة تحمل طاقة تحركها في نشاط مستمر، لكنها إذ تعمل من أجل الخير تظل هادئة ومستريحة بلا اضطراب وتمتع بالسلام الداخلي الذي تبعثه مخافة الله... وكما هو مكتوب: "وأما المستمع ليّ فيسكن آمنًا ويستريح من خوف الشر" (أم 1: 33)].
في المسيح يسوع ربنا تصير نفوسنا وأيضًا أجسادنا، أي سمواتنا الداخلية وأرضنا مستريحة، إذ تتقدس به وتفرح بالرغم من حملها صليبه والدخول معه قبره.
3. غيرة الرب على بيته:
إن كان زكريا النبي قد قضى سنوات يتأمل خراب الهيكل بدموع لا تجف، يسأل الله من أجل إعادة بناء الهيكل، فإن ربنا يسوع المسيح هو الشفيع الكفاري وحده الذي يصرخ بدمه الكريم من أجل قيام مقدساته في البشرية، إذ قيل "فأجاب ملاك الرب وقال: يارب الجنود إلى متى لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟!". لقد سقطت البشرية تحت سبى عدو الخير سنينًا هذه مقدارها ولم يكن يستطع أحد أن يشفع فيها إلاَّ ذاك الذي قدم دمه كفارة عن خطايانا، جالبًا الرحمة الإلهية بإيفائه دين العدل الإلهي بالصليب. ولم تكن شفاعته كلامًا مجرد بل عملاً مملوء حبًا وفعّالاً، أمكنه به أن ينزع عن المؤمنين به الغضب الإلهي ويدخل بهم إلى مراحم الله ليُقام فيهم هيكله المقدس السماوي. هذا هو الكلام الطيب وكلام التعزية الذي أعلنه الملاك المرافق له [13].
بالصليب يقول الرب: "غرت على أورشليم وعلى صهيون غيرة عظيمة، وأنا مغضب بغضب عظيم على الأمم المطمئنين، لأنى غضبت قليلاً وهم أعانوا الشر. لذلك هكذا قال الرب: قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم فبيتي يُبنى فيها يقول رب الجنود ويُمد المطمار على أورشليم. نادِ أيضًا وقل: هكذا قال رب الجنود: إن مُدني تفيض بعد خيرًا والرب يعزى صهيون بعد ويختار بعد أورشليم" [14-17]. فمن الجانب التاريخي تحقق ذلك حرفيًا، فبعد سبى يهوذا سبعين عامًا أعلن الله غيرته على مدينته وشعبه، وإذ كانت الأمم مطمئنة أنها أذلت شعب الله تمامًا وخربت أرض الموعد وحطمت الهيكل المقدس؛ بعضها قام بالدور الرئيسي كالبابليين والآخر شارك بالعمل كالأدوميين أو بالشامتة... لكن فيما هم مطمئنون رجع الرب إلى أورشليم ليقيم بيته من جديد ويسمح بمدّ المطمار (آله قياس الحائط) لا للهدم كما كان عند السبي بسبب انحراف الحوائط وإنما لإقامة المباني والتعمير، وهكذا يفيض على شعبه بالخير ويعلن محبته ورعايته له.
تحقق هذا حرفيًا في القرن السادس ق.م، لكنه تحقق بصورة أكمل وبفكر أعمق في العصر المسيانى، حيث صعد الرب على صليبه يبسط يديه بالبركة للبشرية محطمًا سبى إبليس واهبًا الخير الحق للمؤمنين به، وكما يقول القديس بولس: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء!؟" (رو 8: 32). رجع إلينا بمراحمه ليقيم هيكله فينا، قائلاً: "ملكوت الله في داخلكم". مدّ يده بالمطمار ليبنى وينمى حياتنا الداخلية، فتفيض من ثمر روحه القدوس بركات و تعزيات (يو 15: 26) تكشف عن اختياره لأورشليمنا الداخلية عروسًا له.
ما هو هذا البيت الذي يشغل قلب الله؟
أولاً: الكنيسة التي يقيمها الرب عروسًا له، هذه التي أشار إليها الرسول بقوله: "ولكن إن كنت أبطئ فلكي تعلم كيف يجب أن تتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحيّ عمود الحق وقاعدته" (1 تى 3: 14).
ثانيًا: يقول القديس ديديموس: [إن هذا البيت هو الجسد ربنا يسوع المسيح الذي قلبه مسكنًا له واحدًا مع اللاهوت بلا اختلاط ولا انفصال، هذا الذي قال عنه "انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه... كان يقول عن هيكل جسده" (يو 2: 19، 21). هذا البيت الذي أعلن عنه سفر الأمثال: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1)].
ثالثًا: يختم القديس ديديموس حديثه عن هذا البيت بقوله: [كما يجب أن نضيف أن كل مؤمن هو أيضًا بيت مبني ليكون هيكلاً لله. يقول الكتاب: "أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1 كو 3: 16). يقول المخلص نفسه بوضوح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23)].
4. رؤيا الأربعة قرون:
حسب القانون العبري يبدأ الأصحاح الثاني من هذا السفر بهذه الرؤيا الثانية الخاصة بظهور الأربعة قرون التي بددت يهوذا وإسرائيل وأورشليم حتى لم يرفع إنسان رأسه [21]، ثم ظهور أربعة صناع قاموا لبث الرعب وطرد هذه القرون التي للأمم.
ربما كان زكريا النبي في خلوته يتطلع إلى كل اتجاه من اتجاهات المسكونة ليرى الأمم وكأنهم يضربون أورشليم بقرنهم بلا توقف ولا رحمة. لقد ألف اليهود رعاية الغنم وأدركوا ضربات القرون للوحوش القرنية كيف تقتل الغنم وتبدده، لهذا يقول المرتل: "خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب ليّ" (مز 22: 21). ويتحدث دانيال النبي عن القرن الذي حارب القديسين فغلبهم حتى جاء القديم الأيام (دا 7: 21-22). هكذا صارت القرون إشارة إلى القوة والسلطان، إذ يقول الرب في ميخا: "قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديدًا، أظافرك أجعلها نحاسًا فتسحقين شعوبًا كثيرين وأحرم غنيمتهم للرب وثروتهم لسيد كل الأرض" (مي 4: 13).
ويلاحظ في هذه الرؤيا الخاصة بهذه القرون الأربعة الآتي:
أولاً: يرى البعض في هذه القرن الأربعة إشارة إلى الممالك التي أذلت الشعب وهى مملكة أشور وبابل، مملكة مادي وفارس، مملكة الكلدانيين، مملكة الرومان. وقد أرسل الله لكل مملكة صانع يبددها ويذلها، وها هي الممالك الأربع قد اندثرت تمامًا، إذ تحطمت قرونها وبقى عمل الله ناجحًا، وكما يقول المرتل: "لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل، قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا، على الرب وعلى مسيحه... الساكن في السماوات يضحك بهم والرب يستهزئ بهم" (مز 2). هذه المماليك أُشير إليها بالمعادن الأربعة والحيوانات الكبيرة الأربعة التي برزت من البحر الواحد تلو الآخر في رؤيا دانيال النبي.
ثانيًا: يرى العلامة أوريجانوس والقديس أغسطينوس وكثير من آباء الكنيسة أن رقم 4 يشير إلى جهات المسكونة الأربع أي إلى محبة العالم كما يشير إلى الجسد بكونه من تراب هذا العالم. وكأن هذه القرون التي تبدد "يهوذا وإسرائيل وأورشليم" [19]، "حتى لا يرفع إنسان رأسه" [21]، تعنى أن محبة العالم وشهوات الجسد تحطم يهوذا، أي اتحادنا بالسيد المسيح الخارج من سبط يهوذا، كما تحطم إسرائيل الجديد أى عضوتنا الداخلية ونقاوة قلبنا التي بها نعاين الله. بها لا يرفع الإنسان رأسه، بل ينحني بنفسه لتدفن فى التراب كما حدث مع صاحب الوزنة الواحدة (مت 25: 18)، عوض أن يرتفع بجسده إلى السماء تنحني نفسه مع شهوات جسده إلى الأرض.
ثالثًا: كما أثار الشيطان أربعة قرون ضد أورشليم أرسل الله أربعة صناع، وكأن الله يسند أولاده قدر ما يدخلون في تجارب أو ضيقات، كلما اشتدت حرب الشيطان أرسل بالأكثر عونًا. هذا هو عمل الله عبر العصور، فإذ كان فرعون عنيفًا أرسل الله موسى، وإذ كان آخاب شريرًا أرسل الله إيليا، وعندما ثار أريوس ضد الكنيسة أعدّ الله أثناسيوس الرسولى وهكذا. وما يدور على مستوى كنيسة العهد القديم أو العهد الجديد يتحقق كل يوم في حياة كل واحد منا.
رابعًا: يرى بعض الآباء أن القرون الأربعة هي حرب إبليس من كل جانب، هذه التي تقول عنها الرسول بولس: "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولادة العال على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية فى السماويات" (أف 6: 12)، وقد احتاجت الكنيسة إلى الأناجيل الأربعة بكونها الصناع الذين يفسدون عمل إبليس بقرونه الأربعة. حقًا لقد استخدم الشيطان حربًا عنيفة بقرونه الأربعة لكن الأناجيل قدمت لنا صناعة جديدة للغلبة على الشيطان هو طريق الحب والوداعة، فنار إبليس التي يلهب بها قلوب الناس ضد المؤمن إنما يغلبها الحب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تُطفأ بالنار بل بالماء، هكذا لا يُقاوم الشر بالشر بل بالخير.
والعجيب أنه بالرغم مما أتسم به الصناع الأربعة من وداعة ارتعبت القرون قدامهم، كما ارتعب هيرودس صاحب السلطان أمام القديس يوحنا المعمدان الأعزل (مر 6: 20)، وكما ارتعبت فيلكس الوالي أمام القديس بولس الأسير الواقف للمحاكمة أمامه (أع 24: 25)!.
الأصحاح الثاني
قياس أورشليم الجديدة
إن كان في الرؤيا الأولى قد ظهر المخلص في الظل يعد طريق الخلاص للمؤمنين، وفى الرؤيا الثانية ظهر إنجيل المسيح كصناع أربعة لتحطيم قوات الشر الروحية، ففي الرؤيا الثالثة يكشف لنا عن خطته للخلاص من السبي الحقيقي بإقامة أورشليم الجديدة الحرة بمقاييس روحية تحمل سمات الساكن فيها "الإله المتجسد".
1. قياس أورشليم ومجدها [1-5].
2. هروبها من بابل [6-9].
3. أورشليم والتجسد [10-13].
1. قياس أورشليم ومجدها:
يتقدم السيد المسيح نفسه كرجل بيده حبل قياس ليبنى بيته فينا بروحه القدوس حتى يكون مطابقًا لبيته السماوي الذي رآه القديس يوحنا المعمدان، أورشليم السماوية (رؤ 11: 1، 2؛ 15: 21 الخ).
يقول النبي "رفعت عيني ونظرت" مكررًا هذه العبارة في أكثر من موضع (1: 18 ؛ 2: 1 ؛ 5: 1 ؛ 6: 1). فإذ يعلن هذا السفر الفكر الإنجيلي الخاص بخلاص العالم لم يكن ممكنًا لزكريا النبي أن يدركه ما لم يرفع الله عينيه الداخلتين بروح النبوة ليرى ويدرك فكر الله من نحو الإنسان. أقول إنها دعوة موجهة إلينا جميعًا أن نرفع أعيننا بالروح القدس حتى لا تقف مداركنا عند حدود الحرف إنما ندخل إلى أسرار الله المخفية ونتطلع إلى أعماله الخلاصية، الأمور التي لا يمكن اختبارها بعينين منطمستين في تراب هذا العالم.
رأى "وإذا برجل بيده حبل قياس" [1]. لعل هذا الرجل هو كلمة الله الذي من أجلنا قد صار إنسانًا. إنه ذاك الذي سبق فرآه راكبًا على فرس أحمر واقفًا بين الآس الذي في ظل (1: 8)، قد جاء ليخطط مباني كنيسته المقدسة. يقول القديس ديديموس الضرير: [هو الرب المخلص الذي يشير إليه زكريا النبي بقوله: "هوذا الرجل الغصن الشرق إسمه، ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب" (6: 12 الترجمة السبعينية). إنه النور الحقيقي الذي يتحدث عنه يوحنا المعمدان: "هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتى بعدي صار قدامي لأنه كان قدامي" (يو 1: 15). هو باني أورشليم، قد رسم الأساس ووضعه كمهندس معماري. إذ تهدمت أورشليم بواسطة الأعداء الذين حاصروها يقيس طولها وعرضها لكي يضع الأساسات التي تُقام عليها الأسوار في المواضع المناسبة بترتيب وتنسيق. ويكتب القديس بولس الرسول عن هذه المدينة التي كان ينتظرها كل الذين أرضوا الرب بإيمانهم "التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله " (عب 10: 11). كما يقول حزقيال النبي أيضًا: "وإذا برجل منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب" (حز 40: 3)].
في سفر الرؤيا نرى الهيكل المقدس والذبح يُقاسان شبه عصا، أما الدار الخارجية فتطرح خارجًا ولا تقاس (رؤ 11: 1، 2)، وكأن ربنا يسوع يود أن يطمئنا أن أولاد الله الحقيقيين الذين تقدسوا له محفوظون ومعروفون لديه أما الذين هم خارج الإيمان فهم خارج القياس لا يستحقون أن يكونوا موضوع معرفته... لهذا يوبخهم قائلاً: "لا أعرفكم من أين أنتم" (لو 13: 27).
أما قصبة القياس فذهبية (رؤ 21: 15) أي سماوية، لأن الأمور الروحية والسماوية لا تقاس إلاَّ بما هو روحي[12].
ما هو حبل القياس أو قصبة القياس الروحية التي يمسك بها مهندسنا المعماري لإقامة أورشليم المقدسة إلاَّ الصليب المقدس الذي يتكون من عارضتين: طولية وعرضية؟! بهذا الصليب يحدد أبعاد مدينته المقدسة فينا، قائلاً: "لأقيس أورشليم لأرى كم عرضها وكم طولها" [2]. على عارضة خشبه الصليب العرضية بسط السيد المسيح يديه ليضم بالواحدة اليهود وبالأخرى الأمم ليكون الكل معًا واحد فيه. وكما يقول القديس إيريناؤس: [علق على الشجرة ذاك الذي يجمع الكل فيه[13]]. والبابا أثناسيوس: [كان لائقًا بالرب أن يبسط يديه... حتى يضم بالواحدة الشعب القديم وبالأخرى الأمم ويوحدهما معًا فيه[14]]. هذا هو عرض أورشليم الجديدة، إذ يليق بالمؤمن أن يحمل سمة مخلصه المصلوب فيبسط بالحب يديه ليضم في قلبه كل البشرية إخوة له. أما بالنسبة للخشبة الطولية فسمر عليها جسد الرب المرتفع فوق الأرض، محققًا وعده "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع" (يو 12: 32)، عاملاً المصالحة بين الآب والإنسان فى جسده المصلوب. وكما يقول القديس هيبوليتس: [الصليب هو سلم يعقوب ؛ هذه الشجرة ذات الأربعاء السماوية ارتفعت من الأرض حتى السماء، أقامت ذاتها غرسًا أبديًا بين السماء والأرض، لكي ترفع المسكونة]. هذا هو طول أورشليم الجديدة حيث يليق بنا أن نُسمر معه على الخشبه لنقبل انفتاح السماء على الأرض وارتفاع الأرض إلى السماء. وكأن أبعاد أورشليمنا الجديدة هي فى عارضها اتساع قلبنا لكل إنسان، وطولها هو انفتاحه على السماء، بمعنى آخر هو ممارسة وصية الحب في المسيح يسوع ربنا، حب للبشرية كلها في الله السماوي.
يكمل زكريا النبي حديثه بالقول: "وإذا بالملاك الذي كلمني قد خرج، وخرج ملاك آخر للقائه. فقال له: إجرِ وكلم هذا الغلام قائلاً كالأعراء تسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها. وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجدًا في وسطها" [4-5].
يالها من رؤيا تبهج القلب إذ تكشف عن عمل الله معنا!
أولاً: إرساله الملائكة، فيخرج ملاك ووراءه ملاك، أما موضوع حديثهما فهو أورشليمنا، مسكن الله مع الناس. وفى سفر الرؤيا نرى الملائكة في تحرك مستمر معلنين شوقهم لليوم الأخير أو الحصاد (رؤ 14: 15-20)، مشتاقين أن يروا العروس وقد تكللت بالمجد مع عريسها.
لعل الملاك الأول يشير إلى السمائيين وقد انتظروا تحقيق النبوات ليفرحوا بخلاص الإنسان ورجوعه إلى شركته معهم فى ليتورجياتهم وتسابيحهم الله، أما الملاك الثاني فيُشير إليهم وقد خرجوا فى العهد الجديد يفرحون بتحقيق ما سبق لهم انتظاره.
ثانيًا: غالبًا ما يقصد بالغلام هنا [4] زكريا النبي أو المؤمن بصفة عامة. فإن كان السيد المسيح قد شارك البشرية فصار جنينًا فطفلاً وصبيًا وشابًا ورجلاً لكنه لم يصر شيخًا حسب الجسد حتى تبقى عروسه دومًا في شباب متجدد روحيًا بلا شيخوخة العجز والضعف، فيترنم كل عضو فيها قائلاً: "وإن كان إنساننا الخارجي يفنى فالدخل يتجدد يومًا فيومًا" (2 كو 4: 16)، "وأما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتبعون، يمشون ولا يعيون" (إش 40: 31)، "يتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5).
يقول القديس ديديموس الضرير: [الإنسان القديس في نظر ملائكة الله شاب، خاصة عندما يلبس الإنسان الجديد، فيمكن أن ينطبق عليه القول: "الولد أيضًا يعرف بأفعاله، هل عمله نقى ومستقيم؟!" (أم 20: 11)... ويقول يوحنا الرسول فر رسالته عن الذين يسهمون في الفضيلة: "كتبت إليكم أيهما الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشر" (1 يو 2: 14). فمن كان شابًا في الروح يتلق تعاليم الملاك الذي يخرج ليكشف له الإعلانات التي نراها في بقية النبوة".
ثالثًا: يكشف لنا عن أبعاد الكنيسة الجديدة، قائلاً: "كالأعراء تُسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها". إنها تصير كالأعراء التي لا يحدها سور مادي بسبب إكتظاظها بالناس والبهائم، إذ هي مدينة الحب الذي بلا حدود. تحمل النفس في داخلها ملكوت الله المتسع بالحب للجميع بفرح داخلي مجيد. أما اكتظاظها بالناس والبهائم فتشير إلى تقديس النفس بطاقات غير محدودة وتقديس الجسد الذي كان حيوانيًا بإمكانيات جديدة بغير حدود. وكأن أورشليمنا الداخلية تتسع لكل إنسان، خلال تقديس النفس والجسد معًا بكل إمكانياتهما ومواهبهما.
رابعًا: إن كانت أورشليمنا الداخلية كالأعراء لا تحدها أسوار مادية، لكن لها سور فريد. "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها" [5]. هذا هو السور الناري أرسله لنا الابن الوحيد الجنس من عند الآب بعد صعوده، فحلّ على التلاميذ على شكل ألسنة نارية في يوم العنصرة ليحوط الكنيسة من كل جانب يحفظها من كل سهم شرير ويلهبها بحرارة الروح المستمر. لهذا يسبح المؤمن قائلاً: "بإلهي تسوّرت أسوارًا" (مز 18: 29)، "الرب حصن حياتي" (مز 27: 1) وكما يقول القديس جيروم: [لقد حاصرني الأعداء فأنت إذن حصني[15].] لقد صوب الأعداء سهامهم النارية نحو قلبي، لكن النار الإلهية تحوط بيَّ كسور لتلتهم نار الشر وتبيدها كما التهمت عصا موسى التي صارت حية حيات السحرة! هكذا عوض نار الشر القاتلة يلتهب بالنار الإلهية المقدسة.
الله سور نار حولنا يلهب قلبنا بنار الحب فلا نصير كمن قيل عنهم "تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12).
إذن بهذا السور الإلهي لا يطمع العدو فينا قائلاً: "إني أصعد على أرض أعراء، آتي الهادئين الساكنين فى أمن، كلهم ساكنون بغير سور وليس لهم عارضة ولا مصاريع، لسلب السلب ولغنم الغنيمة..." (حز 38: 11-12).
خامسًا: يقول الرب "وأكون مجدًا في وسطها" [5]. إن كان السيد المسيح هو اللؤلؤة الكثيرة الثمن التى نقتنيها فينا، فبنيرانه الإلهية المحيطة بنا لا يقدر أحد أن يتفرس في هذه اللؤلؤة المتلألئة داخلنا من أجل جمالها الفائق وإشعاعاتها التى لا يمكن التطلع إليها. يصير بهاؤه بهاءنا، ومجده لحسابنا، قائلاً لنا كما لعروسه: "وجملت جدًا جدًا فصلحت لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب" (حز 16: 13-14).
2. هروبها من بابل:
إن كان الله قد قام بنفسه بقياس المدينة وأحاطها بروحه القدوس سور نار وتجلى في داخلها بمجده، هذا كله يدفعها بالأكثر إلى الجهاد هاربة من كل عثرة حتى لا تفقد عمل الله فيها. لهذا يناديها "يا يا إهربوا من أرض الشمال" [6].
من الجانب التاريخي الحرفي، هي دعوة إلهية للذين تمسكوا بأرض السبي بسبب مصالحهم الخاصة، لذا يدعوهم بالهروب من بابل "أرض الشمال" إلى أرض الموعد؛ وهنا لا يذكر اسمًا أو لقبًا لهم، لأنهم بسبب تمسكهم بالحياة الذليلة صاروا غير مستحقين لمعرفة الله بل يُدعون "يا يا" كمن هم مجهولين! ولكن من الجانب الروحي فالدعوة قائمة ومستمرة عبر العصور لكل إنسان. أما تكراره حرف النداء "يا" فلأن الدعوة موجهه إلى اليهود كما إلى الأمم أن يتركوا أرض السبي الشيطاني حيث تهب ريح الشمال الباردة (حكمة يشوع 43: 20) تطفئ لهيب الحب في القلب، ويذهبوا لا إلى أرض أخرى بل إلى السماء الروح خلال نيران الروح القدس الذي يرفعها عن أرض الشمال وينطلق بها من مجد إلى مجد ليدخل بها إلى حضن الآب في المسيح يسوع ربنا! إنها دعوة مكررة تضم الغني كما الفقير، الرجل كما المرأة ليتركوا أرض الشر وترابه ووحله ويعودوا بالروح القدس إلى المقدسات الإلهية. هذه الدعوة كما يقول القديس ديديموس الضرير معناها: ["اهربوا من الشر"، "حد عن الشر واصنع الخير" (مز 34: 14) ، وأيضًا: "اغتسلوا تنقلوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر" (إش 1: 16)]. الأمر الذي يتحقق بامتناعنا عن كل أنواع الشر والتمسك بما هو ممدوح كوصية الرسول بولس:" امتحنوا كل شيء وتمسكوا بالحسن، امتنعوا عن كل شبه شر" (1 تس 5: 21- 22). فإن من يتطلع إلى الخير راغبًا فيه ومكملاً إياه يهرب من الشر".
إن كان الله قد سمح بتفريقهم كرياح السماء الأربع بسبب شرهم، فإنه يدعوهم بترك مواضعهم والانطلاق إلى صهيون لتمتع بالنجاه (الخلاص)، قائلاً: "فإني قد فرقتكم كرياح السماء الأربع يقول الرب، تنجى يا صهيون الساكنة في بنت بابل" [6-7]. ويلاحظ في حديثه هنا الآتي:
أولاً: الله يُريدنا أن ننطلق من بابل التي تعني البلبلة والاضطراب لندخل صهيون حيث السلام الداخلي وحياة الفرح والتسبيح. ويقول القديس ديديموس: [مكان الخلاص، هو صهيون المقدسة فيها يمكن أن يخلص من كانوا يسكنوا فى بنت بابل سابقًا... وكما أن أسم "بابل" يعنى (بلبلة) فكل روحه مضطربة فهو بابلي، لذا يلزمنا أن نتخلص من هذا الحال إن كنا نرغب في الرجوع إلى صهيون، عندئذ ننشد التسابيح ونضرب على القيثارات تكريمًا لله، فهناك يليق بنا أن نرتل الله ونعزف له، كما هو مكتوب:" لك ينبغ التسبيح يا الله في صهيون، ولك يوفي النذر" (مز 65: 1)، وأيضًا: "رنموا للرب الساكن في صهيون، اخبروا بين الشعوب بأفعاله" (مز 9: 11). يستحيل علينا أن نسبح الله ونعزف له ونحن قاطنون في بنت بابل في الشمال، لهذا يصرخ الروح القدس بملء الصوت: يايا اهربوا من أرض الشمال يقول الرب، لتحتموا في صهيون يا سكان بنت بابل فإني أجمعكم من الأربع رياح، أي من أقاصي الأرض كلها].
إذن لنهرب من بلبلة الخطية ونلجأ إلى سلام صهيون حيث الحصن الإلهي فترتفع[16] النفس لتوجد في بر الله تنعم بسلام الحق. وكما يقول القديس جيروم: [مادمنا في حالة النعمة تكون نفسنا في سلام، لكن إذ نبدأ باللعب مع الخطية تصير نفسنا في اضطراب كقارب تلطمه الأمواج[17]].
ثانيًا: ما هي الرياح الأربع التي سمح الله بها لتفريقهم عن أورشليم إلاَّ الأرواح الشريرة التي يسمح الله أن يتركها لتأديب من يسلم نفسه بنفسه لها. لا نعجب من هذا فقد حكم الرسول بولس على الشاب الذي أخطأ مع امرأة أبيه "أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 5). فإن كانت محبة الله تحمينا من سلطان الشرير، لكن عنايته أحيانًا تسمح بتسليمنا لمرارة هذا العدو الذي سلمنا أنفسنا بأنفسنا له وقبلناه أبًا لنا عوض الله أبينا (يو 8: 44)، عندئذ ندرك في مرارة حاجتنا إلى أبوة الله الحقة.
وربما يقصد بالرياح هنا التعاليم الغريبة التي تهز النفس لتقصفها، هذه التي لم تستطع أن تؤثر على القديس يوحنا المعمدان، إذ يقول عنه السيد المسيح: "ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا، أقصبة تحركها الريح" (مت 11: 7). وكما يعلق القديس هيلارى أسقف بواتيية: [هل ذهبتم لتنظروا إنسانًا فارغًا من معرفة الله، يستجيب لنسمات كل روح دنس؟[18]]. وكما يعلق القديس أغسطينوس: [بالتأكيد لم يكن يوحنا قصبة تحركها الريح، لأنه لم يكن محمولاً بكل ريح تعليم[19]]. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [(الرياح الأربعة) يمكن أن تكون التيارات المختلفة للتعاليم، هذه التي تجعل السالكين بغير لياقة في الفكر، فتكون لهم أفكار شريرة وأعمال باطلة، يتأرجحون هنا وهناك. يقول الرسول بولس: "كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال" (أف 4: 14)].
وربما يقصد بالرياح الأربعة التجارب والضيقات التي تجرف النفوس المبينة على الرمل لا الصخر وتحطمها.
ولعل الرياح الأربعة أيضًا تشير إلى محبة العالم وشهوات الجسد التي تهتز النفس، إذ رأينا أن رقم (4) يشير إلى هذه الأمور في تفسيرنا للقرون الأربعة[20].
ثالثًا: لا يكفى الهروب من بابل بل يلزمنا الهروب إلى صهيون، بمعنى أنه لا يكفى الهروب من بلبلة الشر بل يليق بنا التحصن (صهيون) فى بر المسيح ربنا. ففي إيجابية العمل يقول القديس بولس: "بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مكملين وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل" (عب 12: 22-24). هكذا ينطلق بنا ربنا يسوع بدمه من الشر ليدخل بنا إلى صهيون فنحيا على مستوى سماوي.
أخيرًا، إذ يردنا الرب من سبينا الشيطاني ويدخل بنا إلى ملكوته الإلهي يعود فيعاقب إبليس الذي أذلنا، إذ يقول: "بعد المجد أرسلني إلى الأمم الذين سلبوكم، لأنه من يمسكم يمس حدقة عينه. لأني هأنذا أحرك يدي عليهم فيكونون سلبًا لعبيدهم، فتعلمون أن رب الجنود قد أرسلني" [8-9].
في دراستنا لبعض كتب الأنبياء لاحظنا أن الله الذي يستخدم الأمم للتأديب إذ تنتفخ الأمم على شعبه يعود فيعاقب هذه الأمم[21].
هنا يقول "بعد المجد"، ربما قصد بعد الصليب حيث رد الإنسان عن السبي فتمجد الله فيه، وفى نفس الوقت ردّ لإبليس شره بتحطيم سلطانه. العدو الذي أذل أولاد الله وسلبهم صار بالمسيح يسوع تحت المذلة بلا سلطان عليهم (كو 2: 14- 15).
ماذا تعنى "يمس حدقة عينه" إبليس الذي مدّ يده ألينا وأفقدنا بصيرتنا الروحية يرتد عمله عليه فيزداد عماه يومًا فيوم، وكأنه بشره المتزايد يمس حدقة عينه حتى يمتلئ كأس عماه! وما نقول عن إبليس نقوله عن الإنسان، فبصنعه الشر لأخيه إنما يمس حدقة عيني نفسه فيفقد البصيرة الروحية، وكأنه فيما هو يؤذى جسد أخيه أو ممتلكاته أو سمعته إذا به يصوب ضرباته على عيني نفسه الداخليتين.
لا يرتد الشر عن فقدان البصيرة الداخلية فحسب وإنما أيضًا يمس كل كيانه بقول الرب: "يكونون سلبًا لعبيدهم" ففيما يظن أنه يحطم أخواته إذا بعبيده يسلبونه هو. من هم هؤلاء العبيد إلاَّ أحاسيس الجسد وعواطفه التي تصير بلا ضابط بسبب شره فتفقده كل بركة فيه. هذا ما نلاحظه عمليًا حينما نثور على إخوتنا تثور فينا شهوات الجسد داخلنا ونفقد كل عفة وانضباط، لأنه بثورتنا على إخوتنا نفقد سيطرتنا على أعماقنا وتتخلى نعمة الله الواهبة العفة والطهارة!
3. أورشليم والتجسد:
إن كانت هذه الرؤيا تملأ النفس بهجة حيث يظهر السيد المسيح كرجل بيده حبل قياس ليقيس فينا أورشليمه السماوية الجديدة فإن سر الفرح الحقيقي سكناه فيها، إذ يقول: "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا آتي وأسكن فى وسطكِ يقول الرب" [10]. يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [إن سمة الخطية الاضطراب والغم أما سمة بر المسيح فهي السلام الداخلي والفرح. هكذا علق اليهود قيثارتهم على الصفصاف في أرض السبي إذ ملأ الغم حياتهم قائلين: "كيف نسبح تسبحة الرب في أرض غريبة؟!" (مز 136). وبعودتهم إلى صهيون عاد إليهم الفرح وتحولت حياتهم إلى تسبيح. يقول القديس ديديموس الضرير: [كما أنه في زمن السبي كان النحيب والأنين عند العبرانيين لأن الرب قد ابتعد عن المسببين هكذا عند عودتهم إلى الأم الروحية المدعوة صهيون يهبهم أمرًا بالترنم والفرح (ترنمي وأفرحي)، لأن الرب أتى وسكن في وسطها، فقد أقيم الهيكل فعلاً وجعل الله مسكنه فيه... يتمتع المسبيون المخلصون بهذا الأمان، فيقولون: "عندما ردّ الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين، حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا ترنمًا" (مز 126: 1-2)... كانوا يئنون عندما تفرقوا عن وطنهم في قيود السبي فمن الطبيعي يتهللون ويفرحون عندما يرجعون لأن الرب ينبوع الفرح والتهليل قد سكن في وسطهم]. ويرى القديس أغسطينوس أن التسبيح هنا لا يكون باللسان فقط وإنما بحياة الإنسان كلها[22].
ولا يقف الفرح عند الإنسان الراجع من السبي، وإنما يمتد إلى إخوته الذين يجتذبهم معه إلى ملكوت الفرح، إذ يقول النبي: "فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون ليّ شعبًا فأسكن في وسطك" [11]. هنا يتحدث عن رجوع الأمم إلى الإيمان وتمتعهم مع إخوتهم المؤمنين من اليهود بسكنى الله في وسطها. ولئلا يظن اليهود أنه بهذا أغلق باب الإيمان في وجههم أكدّ لهم: "والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد". فإن صاروا يهوذا الجديد بإنتسابهم للخارج من سبط يهوذا وإن صاروا أورشليم الجديدة يصيرون ميراث الرب وموضع اختياره الإلهي.
هذا العمل يبدو مستحيلاً في أعين الكل، كيف ينفتح الباب لكل الأمم وينعمون بسكنى الرب فى وسطهم، لهذا يقول: "اسكنوا يا كل البشر قدام الرب، لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه" [14]. ليصمت كل لسان بشري بخوف ورعدة، فإن الله الذي أعلن رعايته للبشرية كلها عبر الأجيال يصنع عجبًا بفتح باب الإيمان للأمم حتى يبدو كمن استيقظ ليقيم البشرية من نومها!
الأصحاح الثالث
يهوشع الكاهن العظيم
لكي يتحقق فرح بنت صهيون ظهر ربنا يسوع نفسه (يهوشع) رئيس كهنة في هيكله يحمل عنا ثيابنا القذرة، ثياب السبي، ليهبنا نفسه لباس البر وعمامة (تاجًا) طاهرة.
1. يهوشع والشيطان [1-2].
2. يهوشع والعمامة الطاهرة [3-5].
3. يهوشع العامل في بيت الرب [6-10].
1. يهوشع والشيطان:
"وأراني يهوشع الكاهن العظيم قدام ملاك الرب والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم، أفليس هذا شعلة منتشلة من النار؟!" [1-2].
ماذا تعنى هذه الرؤيا؟ كان رئيس الكهنة رمزًا لخدمة الهيكل، وبسبيه إلى بابل ظهر تحطيم كل خدمة الهيكل. لكن وراء هذا تكمن عداوة خفية ليست بين بابل ورئيس الكهنة، وإنما بين إبليس والله. لقد وقف الشيطان عن يمين يهوشع ليقاومه ولكن يهوشع يدرك أن الحرب إنما هي ضد الله نفسه، لذا قال: "لينتهرك الرب".
"لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم"، ليس عن فضل من جانبها أو برّ فيها من ذاتها، ولا لأنها لاقت مرارة السبي وإنما لأن الله في محبته اختارها. وكما أكد السيد المسيح لتلاميذه: "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم" (يو 15: 16). إنه يغير علينا من أجل محبته لنا، خاصة وهو يرى الشيطان "شعلة منتشلة من النار"، عمله أن يلقي بذاته فينا ليجعل منا أتون لا ينطفئ.
من هو يهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم؟ يرى الآباء[23] في يهوشع رمزًا ليسوع المسيح الكاهن الأعظم وأسقف نفوسنا. فإن كلمة "يسوع" مختصرة عن يهوشع أي "يهو خلاص"، أما "يهو صادق" فتعني "الله بر". فقد جاءنا ربنا يسوع بكونه الله مخلصنا وبرنا، جاء يحمل طبيعتنا فلم يدرك الشيطان حقيقته بل تشكك في أمره خاصة أنه جاع وعطش وتألم... فوقف عن يمينه ليقاومه، فغلبه الرب وانتصر عليه لحسابنا.
لقد حارب السيد المسيح الشيطان الذي هو "شعلة منتشلة من النار"، الشعلة المهلكة التي اختارها البشر لأنفسهم فألهبتهم بنار الشهوات المميتة. وكما يقول القديس أكليمندس السكندري: [ لماذا يهرب الناس إلى هذه الشعلة المميتة فيموتون بها بينما في إمكانهم أن يعيشوا مكرمين في الله؟![24]]. ويرى القديس ديديموس الضرير أن الشيطان شعلة منتشلة من النار، كان يمكن لله أن يتركها تحترق دون أن ينتشلها، لكنه لم يسمح بعقابه كل العقاب حاليًا إنما انتشله ليستخدمه في أغراضه الإلهية دون أن يثمر الشيطان كالغصن الذي أصابته النار فلا تعود إليه الحياة. يستخدمه الرب أداة ليتمجد فيه بنصرة أولاده عليه.
2. يهوشع والعمامة الطاهرة:
لا نعجب إن كان يهوشع قد ظهر لابسًا ثيابًا قذرة وظهر واقفًا قدام الملاك ليسمع الأمر الصادر: انزعوا عنه الثياب القذرة، فإن يهوشع يرمز ليسوع المسيح، كلمة الله المتجسد الذي حمل ثيابنا القذرة[25] لكي بصليبه تُنزع عنا خطايانا لنحمل بره ونكلل.
يقول القديس جيروم: [إن السيد حمل هذه الثياب فأعطى الفرصة للعدو أن يقف أمامه ليقاومه؛ إذ لبس خطايانا ففي ذلك يكون مقاومًا له[26]].
يقول القديس ديديموس الضرير: [بعد أن نزعوا عنه الثياب القذرة وضعوا على رأسه العمامة الطاهرة وألبسوه ثيابًا. فمن أجل إعادة تأسيس المدينة والهيكل وبنائهما يرتدي رئيس المأسورين الذي أُعتقوا ثياب الخلاص ورداء البر، فيقول: "تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، وكساني رداء البر" (إش 61: 10). تُلقى عنه الثياب القذرة إذ يجب ألاَّ يحزن بعد بل يفرح ويتهلل بخلاص الذين تحملوا الأسر ولكن من هم الذين صدر إليهم الأمر بنزع ثياب الحزن عنه والتي وُصفت أنها قذرة؟... يمكن القول أنهم الملائكة اللذين يحيطون بخائفى الله يحموهم ويمنعوهم من الشعور بالهم والحزن اللذين تقدمهما تجارب الحياة].
قيل ليهوشع: "قد أذهبت عنك إثمك وألبسك ثيابًا مزخرفة" [3-4].
كيف يقال له: "قد أذهبت عنك إثمك؟" يقول معلمنا بولس الرسول: "جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21)، "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون كل من عُلق على خشبه، لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع لننال بالإيمان موعد الروح" (غل 3: 13-14). كأنه حمل مالنا من خطايا لكي بالصليب ينزعها فنحمل بره.
أما الثوب المزخرفة الذي لبسه السيد عوض الثياب القذرة إنما يُشير إلى كنيسته المزخرفة بمواهب متعددة، وكأنها القميص الملون الذي أهداه يعقوب لابنه يوسف. كل واحد منا يمثل خيطًا في هذا الثوب، لو أُنتزع يفقد الثوب جماله ومتانته. هذا هو الثوب الذي يتجلى فيه السيد فيصير ناصعًا كالنور (مت 17: 2). وكما يقول القديس أغسطينوس: [ثيابه هي الكنيسة، لأنه إن لم يمسكها من يرتديها تسقط، في هذا الثوب كان بولس كما لو كان هدبًا، إذ قال عنه نفسه: "لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 9)... لذلك فإن المرأة التي كانت تعاني من نزف الدم إذ لمست هدب ثوب السيد المسيح برئت. هكذا الكنيسة التي جاءت من الأمم صارت صحيحة خلال تعاليم بولس الرسول[27]].
ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن خلع الثياب القذرة وارتداء الثوب المزخرف يُشير إلى خلع إنساننا القديم وتمتعنا بالإنسان الجديد خلال مياه المعمودية، إذ يقول: [بهذا نتعلم بطريقة رمزية أنه في عماد السيد المسيح إذ نخلع خطايانا كثوب فقير وقذر ونلبس ثوب التجديد المقدس اللائق جدًا[28]].
أما العمامة الطاهرة فهي التاج الذي نكلل به في الرب القدوس.
3. يهوشع العامل في بيت الرب:
صارت الوصية المقدمة إلينا موجهة إلى رأسنا وكاهننا الأعظم يسوع المسيح: "هكذا قال رب الجنود إن سلكت في طرقي وإن حفظت شعائري فأنت أيضًا تدين بيتي وتحافظ أيضًا على دياري وأعطيك مسالك بين هؤلاء الواقفين" [7]. أما سر تقديم الوصية إليه فهو أننا لن نستطيع تنفيذها إلاَّ من خلاله ولا يمكننا تحقيق شعائر الله بدون عمله فينا.
إن كانت الكنيسة هي بيت الله فربنا يسوع هو الذي يدين الكنيسة، يسند القائمين ويقيم الساقطين، بهذا يكون أولاده واقفين أي قائمين فيه، ويجد هو لنفسه مسلكًا بينهم.
أخيرًا يختم هذه الرؤيا بالكشف عن شخص هذا الكاهن العظيم: "لأني هأنذا آتي بعبدي الغصن، الشرق اسمه، فهوذا الحجر الذي وضعته قدام يهوشع على حجر واحد سبع أعين، هأنذا ناقش نقشه يقول رب الجنود يُنادي كل إنسان قريبه تحت الكرمة وتحت التينة" [8-15].
يمكننا أن نلخص حديثه هنا عن شخص ربنا يسوع المسيح بالآتي:
أولاً: يدعوه: عبدي، الغصن، الشرق، الحجر، كل لقب يكمل بقية الألقاب. فخلال التجسد صار عبدًا إذ "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس" (فى 2: 6-7). وبانتسابه لداود الملك خرج كغصن وهو خالق الكرمة (أش 11: 1-2)، أما دعوته بالشرق فبكونه شمس البرّ الذي يضيء على الجالسين فى الظلمة. وأخيرًا دُعي بالحجر إذ رفضه البناءون فصار حجر الزاوية يضم اليهود والأمم معًا فى المبنى الروحي السماوي الذي قال عنه الرسول: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف 2: 20).
ثانيًا: يقول: "أزيل إثم تلك الأرض فى يوم واحد" الذي هو ظهور ربنا يسوع المسيح بكونه الشمس التي أشرقت علينا بلا غروب، فحولت ليلنا إلى نهارًا بلا ليل، فيه نزعت آثامنا بالصليب.
ثالثًا: فى ذلك اليوم، يوم الصليب، ارتبطنا معًا "فيُنادى كل إنسان قريبه تحت التينة" أي ارتباطنا فيه بالحب خلال كنيسته الكرمة المقدسة والتينة المثمرة. فى دراستنا لسفر هوشع رأينا كيف تُشير الكرمة إلى الكنيسة المتألمة التي تجتاز المعصرة مع عريسها، والتينة إلى وحدة الروح القدس الذي يُشار إليه بغلاف التين الذي يضم فى داخله بذار كثيرة لا قيمة لها إلاَّ من خلال وحدة الروح[29].
الأصحاح الرابع
بعد أن كشف عن دور السيد المسيح الكهنوتي وعمله الخلاصي يبرز دور روحه القدوس في استنارة كنيسته. في الأصحاح السابق كان يشجع يهوشع الكاهن العظيم للعمل أما هنا فيسند زربابل الحاكم للعمل بروح الله وليس بذراع بشري.
1. إيقاظ النبي [1].
2. المنارة الذهبية [2-7].
3. إتمام العمل [8-14].
1. إيقاظ النبي:
"فرجع الملاك الذي كلمني وأيقظني كرجل أوقظ من نومه" [1].
لعل نوم زكريا النبي يكشف عن ضيقة نفس زربابل الذي وجد مقاومة من الخارج والداخل وإذ لم يستطع زكريا النبي على مساندته نام. لعله بهذا قام بنفس الدور الذي قام به التلاميذ في البستان إذ لم يحتملوا الأحداث من مجرد السماع عنها فناموا وجاءهم السيد يعاتبهم مخاطبًا بطرس الرسول: "أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟! اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة" (مر 14: 37-38).
2. المنارة الذهبية:
إذ كان البيت يُعاد بناءه على يديّ زربابل كان فكر النبي وجميع الأمناء في خدمة الرب قد حلّق سابحًا فى مجد هذا البيت وما يحويه من أثاثات خاصة الذهبية التي أمر الرب موسى أن يعدها من بينها المنارة الذهبية ذات السرج السبع. وفى هذه الرؤيا سحب الله قلب النبي ليرى عودة المنارة الذهبية التي تمثل استنارة الهيكل بزيت النعمة الإلهية وعمل الروح القدس. لكن هذه المنارة اختلفت في بعض تفاصيلها عن المنارة التقليدية (خر 37: 17-24)، وقد أحاط بها هنا زيتونتان، أحداهما عن يمين كوز المنارة والأخرى عن يسارها.
ويلاحظ في هذه المنارة الآتي:
أولاً: المنارة ذهبية، أي سماوية روحية، ترمز للكنيسة (رؤ 1: 20) وقد حملت السمة السماوية، فتحتاج إلى عريسها السماوي نفسه معينًا لها ومحافظًا عليها. وكما يقول القديس ديديموس الضرير:[عندما يقول أن المنارة كلها ذهب [2] يظهر لنا أن المنارة المشتملة بالنور بكليتها هي منارة روحية لا مادية. هذه المنارة الذهبية تمثل مسكن الله وهيكله كما هو مكتوب فى سفر الرؤيا: "سر السبعة الكواكب التي رأيت على يميني والسبع المناير الذهبية، السبعة الكواكب هي ملائكة السبع كنائس والمناير السبع التي رأيتها هي السبع الكنائس" (رؤ 1: 20)].
ثانيًا: يقول: "كوزها على رأسها". كأن هذه المنارة تمثل الكنيسة المستنيرة بالروح القدس والتي يشبهها السيد المسيح بخمس عذارى حكيمات حملن زيتًا فى آنيتهن، خرجن لاستقبال العريس (مت 25). يرى القديس أغسطينوس في هذا الزيت المحبة لله والقريب، التي يسكبها الروح القدس بفيض فينا. فمن كان فيه محبة الله حمل النور الإلهي وتمتع بالملكوت، أما من فقد المحبة فيصير في الظلمة ولا يقدر على معاينة الله.
ثالثًا: "وسبعة سرج عليها وسبع أنابيب للسرج التي على رأسها" [2].
يقول القديس ديديموس الضرير: [كما أن الكوز فوق المنارة كذلك تظهر السبعة سرج فوقه، فيكون النور مضاعفًا سبع مرات، لأنه كما أن المعرفة الكاملة النورانية قد شُبهت بسبعة أعين [9]، وكما تحمل السبعة أعمدة مسكن الحكمة: "الحكمة بنت بيتها نحتت أعمدتها السبعة" (أم 9: 1) هكذا تحمل المنارة سبعة سرج. والمنارة تمثل الرب المخلص إذ كلها ذهب، لأن الرب "لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر" (1 بط 2: 22)، ويستقر عليه مثل سبعة سرج: روح الحكمة والفهم، روح المشورة الإلهية والقوة والمعرفة والتقوى ومخافة الرب (أش 11: 2)].
والكنيسة أيضًا إذ تحمل سمات عريسها وتتمتع ببره تصير منارة ذهبية لا دنس فيها ولا غضن (أف 5: 27)، نورها ليس من عندياتها إنما هو نور عريسها "شمس البر" الذي يشرق بلا غروب، هذا الذي أرسل إليها روحه القدوس ينيرها وسط العالم. أما الأنابيب السبع فهي وسائط الخلاص التي يعمل خلالها الروح القدس في الكنيسة خاصة الأسرار السبعة. هذا هو جوهر الرؤيا: تأكيد عمل الروح القدس في الكنيسة، إذ يقول: "لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود. من أنت أيها الجبل العظيم؟! أمام زربابل تصير سهلاً" [6-7].
من الجانب التاريخي كانت المقاومة ضد زربابل تمثل جبلاً عظيمًا لا يمكن لذراع بشرى أن يحركه حتى تشكك زربابل في إتمام العمل لكن الرب أكد له أنه سيتمم العمل بنفسه [8]. لقد حوّل الله هذا الجبل العظيم أمامه إلى سهل. أما من الجانب الروحي فكان التلاميذ أيضًا في حاجة إلى الروح القدس ليتحول جبل الكرازة العظيم إلى سهل، إذ قال لهم الرب: "لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون ليّ شهودًا في أورشليم وفى كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 4-8).
إن جاز لنا القول بأن الكرازة بالمصلوب بين اليهود كانت عثرة وجهالة (1 كو 1: 23)، وكأنه جبل عظيم فبالروح القدس صار هذا الجبل سهلاً أمام الرسل والتلاميذ. لذلك يكمل الرب حديثه: "فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين كرامة كرامة له" [7]. كأن عمل الروح القدس فيهم هو الشهادة للسيد المسيح حجر الزاوية الذي ربط اليهود والأمم معًا فيه وصار الكل يهتف "كرامة كرامة له". أما تكرار كلمة "كرامة" فتُشير إلى الشعب الذي من أصلين يهودي وأممي، كما تُشير إلى طبيعة الحب التي للشعب الجديد، إذ يرى القديس أغسطينوس أن رقم 2 يشير للحب[30]، فلا يقدر أحد أن يشهد للمصلوب ويمجده إن لم يحمل فيه هذه الطبيعة المُحبة.
يقول القديس ديديموس الضرير: [بخلاف التفسير الذي عرضناه هناك وجهة نظر أخرى تقول أن الجبل يرمز إلى العذراء مريم، والحجر الخارج منه يرمز إلى المسيح الذي ولدته بلا زواج، ويعلمنا دانيال النبي هذه الأسرار، إذ يقول: "كنت تنظر إلى أن قُطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقها" (دا 2: 34). يقول أن الحجر الذي يضرب الممالك المختلفة والتمثال الذي كوّنته قد قُطع من الجبل دون معونة الأيدي، يُعمل بدون عمل الوالدين... والمسيح وحده هو الذي وُلد من عذراء. أمام زربابل قطع الحجر من الجبل بدون معونة الأيدي].
إن كان هذا الجبل العظيم هو السيدة العذراء التي حملت السيد المسيح بدون زرع بشر، الأمر الذي كان يبدو مستحيلاً فتحقق ؛ فإنه يُشير أيضًا إلى النفس التي تحمل في داخلها السيد المسيح روحيًا، وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [خلال الروح يتشكل المسيح فينا ويطبع سماته علينا، وهكذا يصير جمال لاهوته حيًا في طبيعة الإنسان من جديد[31]].
رابعًا: "وعندها زيتونتان إحداهما عن يمين الكوز والآخر عن يساره" [3]. لعل هاتين الزيتونتين تشيران إلى زربابل ويهوشع الممسوحين لإعادة بناء الهيكل، إذ هما "ابنا الزيت" [14]. إحداهما يقوم بالدور المادي والآخر بالعمل الروحي دون ثنائية، وإنما كل يكمل الآخر ويسنده.
إن كان الزيت يُشير إلى عمل الروح القدس الذي يُنير النفس بالمعرفة الحقة فإن الزيتونة التي على اليمين في رأى القديس ديديموس تُشير إلى المعرفة بالإلهيات، أما الثانية فتُشير إلى دراسة العالم ونظامه وتدبير العناية الإلهية له.
ويرى القديس ديديموس أيضًا أن الزيتونتين تُشيران إلى موسى وإيليا اللذين ظهرا عن يمين الرب ويساره في لحظات التجلي (لو 9: 30) بكونه الناموس روحي ابن المسحة وكلمة النبوة روحية أيضًا؛ والاثنان يشهدان لمجد السيد ولاهوته[32].
ولعل الزيتونتين تشيران إلى الكتاب المقدس بعهديه، فالروح القدس يستخدمه في إنارة قلبنا بنور المعرفة وتجلي الرب في داخلنا.
3. إتمام العمل:
لقد جاءت هذه الرؤيا تعطى لزربابل طمأنينة من جهة الآتي:
أولاً: إن العمل لا يتم بذراع بشري بل بروح الله [6-7].
ثانيًا: إن الله يؤكد إتمام العمل على يد زربابل حتى وإن بقى سنوات مُعطلاً بسبب المقاومة [9].
ثالثًا: الله يفرح بالعمل الذي استخف به كثيرون عندما قارنوه بالهيكل الأول، حاسبين ذلك "أمورًا صغيرة" [10]... إنها في أعينهم عملاً صغيرًا بل وكلا شيء (حج 2: 3)، لكن الله يفرح به إذ تتطلع إليه أعينه السبعة الجائلة في الأرض كلها لا لتنتقد وتدين وإنما لتفرح بعمل أولاد الله وتشدد أيديهم (2 أى 16: 9). ترى أعين الرب الزيج بيد زربابل [10]، أي تراه ممسكًا ميزان قياس استقامة البناء (كان عادة من الرصاص على شكل ثقل مربوط بخيط).
الأصحاح الخامس
في الرؤى الخمس السابقة أعلن الله عمله المفرح لخلاص الإنسان بإقامة هيكله فيه مقدمًا له كل إمكانيات فائقة سماوية... والآن يعود فيحذر من التهاون مع الخطية أو مهادنتها خلال الرؤيتين التاليتين:
1. الدرج الطائر [1-4].
2. الإيفة الخارجة [5-11].
1. الدرج الطائر:
رفع النبي عينيه فنظر درجًا (قرطاسًا) طائرًا، وكما جاء في الترجمة السبعينية "منجلاً طائرًا".
الدرج غالبًا ما يُشير إلى إعلان القضاء (حز 2: 9-10؛ رؤ 5: 1؛ 10: 2). إن كان شعب الله قد ظهر في الرؤيا سابقًا كمنارة كلها ذهب، تحمل نور المسيح بزيت الروح القدس، لكن فرحها بهذا العمل الإلهي يرافقه الحذر من كل خطية أو استهتار. أما كونه طائر فلأن الشر الذي نرتكبه هنا يصعد أمام الله رائحة فاسدة، فيسكب لعنة "على كل وجه الأرض" [3]. هنا يعلن الله مسئولية المؤمن كعضو في الجماعة الإنسانية كلها، يتفاعل إما للبركة أو للعنة. ما يفعله له أثر في حياة الكل، فبسبب يوسف تبارك بيت فوطيفار وتباركت مخازن مصر، وبسبب هروب يونان هاج البحر وخسر الكثيرون مالهم.
والعجيب أن النبي يرى الشر كقرطاس يطير مفتوحًا، طوله عشرون ذراعًا وعرضه عشر أذرع. على الأرض كان مطوّيًا لا يعرف أحد خفاياه لكنه لن يبقى هكذا بل ينفضح، ويستطيع الكل أن يقرأه. أما أبعاده فمتناسبة مع أبعاد المسكن أو القدس، وكأن ما يرتكبه الإنسان إنما يفسد مقدسات الله فيه.
أما في الترجمة السبعينية فيرى النبي منجلاً طائرًا، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [إذ يفصل الديان الصديق عن الشرير ويجازي كل واحد حسب أعماله لذلك يسمى الكتاب المقدس الجزاءات التي يسقط تحتها الظالمون والأشرار تارة سيفًا وسهمًا (تث 32: 42؛ 22: 23؛ أش 34: 5؛ عا 9: 10؛ مز 7: 12-13 ؛ أر 47: 5-6) وتارة فأسًا ومنجلاً... فالأشجار التي لا تعطى ثمرًا جيدًا تكون موضع غضب وقصاص (تُضرب بالفأس والمنجل)... فيُقال: "والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10). هكذا تحل اللعنة على النباتات التي من هذا النوع. وهكذا يُستخدم المنجل أيضًا في قطع من يثمرون ثمارًا فاسدة، الذين قيل عنهم: "لأنه ليس كصخرنا صخرهم ولو كان أعداؤنا القضاة، لأن من جفنة سدوم وعمورة جفنتهم ومن كروم عمورة عنبهم عنب سم ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حُمة الثعابين وسم الأصلال القاتل" (تث 32: 31–33). هكذا تشبه الإرادة الشريرة بالكرمة الفاسدة التي تُعطي ثمارًا رديئة ويلزم قطعها بمنجل حاد وانتزاع عنبها وعناقيدها... يراه النبي منجلاً طائرًا وليس منجلاً عاديًا بل روحيًا دون شك... يقطع "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي" (مت 15: 13)، أي "يقطع كل ما هو نجس".
ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على هذا المنجل الحاد بقوله: [ربما يمكن للإنسان أن يهرب من سيف طائر، أما من منجل ينزل على رقبته ويلتف حولها كحبل يربطها فلا يستطيع الهروب. وإن أضيف للمنجل أجنحة فأي رجاء في الإنقاذ يمكن أن يوجد؟![33]]. كما يقول: [إنه طائر، إشارة إلى سرعة مجيء الانتقام... أما كونه طوله وعرضه أذرع كثيرة فيعني شدة الويلات وضخامتها. إنه طائر من السماء بمعنى قدوم الانتقام من كرسي الدينونة من الأعالي، وفى شكل منجل لحتمية القضاء. فكما أن المنجل الذي يحل بالرقبة ويمسك بها لا يرجع فارغًا بل يقطع الرأس هكذا يكون الانتقام قاسيًا وأكيدًا[34]].
يُكمل النبي حديثه: "فقال ليّ: هذه هي اللعنة الخارجة على وجه كل الأرض، لأن كل سارق يُباد هنا بحسبها، وكل حالف يُباد من هناك بحسبها. إنيّ أخرجها يقول رب الجنود فتدخل بيت السارق وبيت الحالف بأسمى زورًا وتبيت في وسط بيته وتفنيه مع خشبه وحجارته" [3-4].
حمل العهد الموسوي معه لعنة تحل بالعصاة (تث 27: 15-26؛ 28: 15-68)، هذه اللعنة تحلق في الهواء وتهدد سكان الأرض الذين أخذوا العهد ولم يحفظوه بل خانوه. وقد ركز هنا على خطيتين: السرقة والقسم الباطل. بالأولى يسلب الإنسان أخاه وبالثانية يستهين بالله وكأن الخطيتين تضمان كسرًا للناموس كله: انتهاك حق الأخوة والله. ولعل الوصية الخاصة بعدم السرقة كانت في منتصف اللوح الثاني، والخاصة بعدم القسم باطلاً في منتصف اللوح الأول، بمعنى أن الإنسان يكسر اللوحين في أعماقهما.
إن كانت اللعنة تمس كل وجه الأرض لكنها وهى طائرة تصيب سهمها على بيت المخطئ نفسه لتبيت هناك وتحطمه هو وخشبه وحجارته إنه ينال الثمر الطبيعي لعمله. يقول القديس ديديموس الضرير: [يطير هذا المنجل ويجوب كل الأرض بسرعة فيصيب ليس فقط الخطاة الذين على الأرض وإنما الذين في الهواء (الشياطين) والأشرار أينما وجدوا. إنه يهدم ما في وسط البيت أي القلب والعقل، ويحطم ما بداخل الإنسان كالسيف الذي شق قاضي إسرائيل المحترق بشهوة الزنا بسوسنة من الوسط: "فها هوذا ملاك الله قد أخذ القضاء من الله ويشقك نصفين" (تتمة دانيال 55)، فشق الزاني من الوسط يعنى انقسام عقله. ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على تحطيم بيت الشرير قائلاً: [يصير بيته كومة حتى أن كل من يعبر به ويتطلع إليه ويعرف السبب يتجنب الامتثال به[35]].
2. الإيفة الخارجة:
مرة أخرى يُحذرنا الله من الخطية إذ رأى النبي إيفة خارجة [6]. الإيفة هي أكبر وحدة قياس (للكيل) عند اليهود، أما كونها خارجة فيعني أن المعايير أو المقاييس غير مضبوطة، أو ما نسميه "عدم التمييز".
رأى النبي: "وإذا بوزنة رصاص رُفعت وكانت امرأة جالسة في وسط الإيفة فقال هذه هي الشر، فطرحها وطرح ثقل الرصاص على فمها" [7-8].
تشبه الخطية بالرصاص الذي يثقل النفس لينزل بها إلى أعماق الهاوية، وكما جاء في تسبحة موسى النبي: "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" (خر 15: 10). يقول العلامة أوريجانوس: [قيل عن الأشرار أنهم غاصوا في مياه غامرة... أما القديسون فلا يغوصون بل يمشون على المياه... إذ ليس فيهم ثقل خطية ليغوصوا[36]]. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يرحل كل واحد حسب وضعه، فيسير الواحد خفيفًا والآخر يغطس في المياه. فالفضيلة شيء خفيف يطفو والذين يعيشونها يطيرون كالسحاب والحمام كقول أشعياء (9: 8)... أما الخطية فثقيلة تجلس على الإنسان كالرصاص[37]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء يهبها أجنحة ويرفعها مثل التمتع بالبر والفضيلة[38]].
رأى النبي الوزنة الرصاصية قد رُفعت، أي فُضحت الخطية أمام الجميع، فظهر الشر كامرأة جالسة وسط الإيفة الخارجة.
يُعلق القديس ديديموس الضرير على تشبيه الشر كما الفضيلة بامرأة، قائلاً: [ليس غريبًا أن يدعو الكتاب المقدس السلوك الشرير والفكر الفساد والقوة الغاشمة التي تولدها اسم "امرأة" كما يدعو الشر هنا امرأة كذلك في سفر الأمثال يسمي الجنون امرأة. هذا هو النص، فالحكيم يُعلم تلميذه، قائلاً: "يا ابني أصغ إلى حكمتي، أمل أُذنك إلى فهمي، لحفظ التدابير ولتحفظ شفتاك معرفة، لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً وحنكها أنعم من الزيت لكن عاقبتها مرة كالأفسنيتن حادة كسيف ذي حدين، قدماها تنحدران إلى الموت، خطواتها تتمسك بالهاوية" (أم 5: 1-5). وفى نفس سفر الأمثال تشبه النجاسة بامرأة (7: 7-27)... وكما تشبه الرذائل بامرأة هكذا أيضًا الفضائل، فيقول الحكيم عن الحكمة: "أحببت جمالها وأخذتها لتعيش معي" (حك 8: 2)[39]].
نعود إلى الرؤيا لنجد ثقل الرصاص قد طُرح في فم المرأة، وكأن الخطية غالبًا ما تتركز في الفم، فيحمل الإنسان لسانًا ثقيلاً على النفس، يُحطم به نفسه ويهين الآخرين، على خلاف الصديق الذي قيل عنه: "لسان الصديق فضة مختارة" (أم 10: 2). كأن الشرير يحمل في فمه لسانًا من رصاص يُخرج الشرور، أما الصديق فيحمل لسانًا من فضة نقية ينطق بكلمة الله المصفاة كالفضة سبع مرات (مز 12: 6).
يكمل النبي حديثه: "وإذ بامرأتين خرجتا والريح في أجنحتهما ولهما أجنحة اللقلق فرفعتا الإيفة بين الأرض والسماء" [9].
يكنى بالمرأتين عن رذيلتين ربما السرقة والقسم باطلاً كما في الرؤيا السابقة أي سلب حق الأخوة وحق الله. أما قوله: "الريح في أجنحتهما" أي أن أجنحتهما مملوءة ريحًا أو روحًا كذلك الروح الذي تحدث عنه الرسول: "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2)، الروح الرديء الذي قال عنه السيد المسيح متى طُرد من إنسان يعود فإذ يجد الموضع الذي طرد منه فارغًا من كل صلاح ومكنوسًا من كل ما هو جميل يأتى ومعه سبعة أرواح أشر منه ليسكن فيه، فتصير أواخر هذا الإنسان أشر من أوائله (مت 12: 35 ؛ لو 11: 26).
ولئلا يظن بالأجنحة انطلاق المرأتين نحو السماء أكد أن أجنحتهما كأجنحة اللقلق وليس كأجنحة الحمام كما يقول القديس ديديموس الضرير: [فاللقلق حسب الشريعة طائر نجس (لا 11: 19؛ تث 14: 18) يسكن السرو (مز 104: 17). من الطيور المهاجرة (أر 8: 7). اللقلق نوعان الأبيض Ciconia alba تقضى الشتاء في وسط أفريقيا وجنوبها ويهاجر في الربيع في أعداد ضخمة إلى أوروبا وفلسطين وشمال سوريا. والأسود Ciconia higra يوجد في فلسطين وشائع في وادي البحر الميت. يقتات اللقلق على الضفادع والزحافات الصغيرة، وإن لم يجد فيبحث عن الجيف والأوساخ[40]. ويعلق القديس ديديموس الضرير على ذلك بقوله أن المرأتين وهما تمثلان الشر وترمزان للشيطان أو المسيح الدجال وكلام الهراطقة تعيشان بجوار القبور لتقتاتان على الجيف، فتكونا كالقبور المبيضة من الخارج وفى الداخل مملوءة عظام أموات كل نجاسة (مت 23: 27). وكما أن اللقلق يقيم عشه بالأوساخ فتخرج صغاره وسط الروائح الدنسة القذرة هكذا من يسلك في الشر يعيش في اهتمامات الجسد الفارغة. من له أجنحة اللقلق ينجذب إلى القبور والأوساخ أما من له أجنحة الحمام، أي عمل الروح القدس الذي ظهر في شكل حمامة عند عماد السيد، فيرتفع إلى السماويات وكما يقول القديس ديديموس الضرير:[من هذا المطوّب الذي يحمل جناحي حمامة ترفعه إلى السماء فوق هذا العالم[41]].
أما ذهاب المرأتين إلى شنعار (المرتبطة ببابل تك 10: 10) لبناء بيت لهما فيُشير إلى رغبتهما في الاستقرار في الموضع الذي فيه اتفق البشر قديمًا على الثورة ضد الله نفسه فتبلبلت ألسنتهم ودخلوا في اضطراب داخلي.
ليتنا نحمل جناحي حمامة لا جناحي اللقلق فنهرب من بابل (أش 48: 20) حيث الشر لنجد راحتنا في الرب نفسه، نسكن في أحضانه الأبدية!
الأصحاح السادس
المركبات وتتويج يهوشع
ختم زكريا النبي القسم الخاص بالرؤى بهاتين الرؤيتين الثامنة والتاسعة، واحدة خاصة بالمركبات الأربع تكشف عن دينونة الشر، والأخرى خاصة بتتويج يهوشع أي تكليل البر في المسيح يسوع.
1. رؤيا المركبات الأربع [1-8].
2. رؤيا تتويج يهوشع [9-15].
1. رؤيا المركبات الأربع:
يبدو أن هذه الرؤيا هي امتداد للرؤيا الأولى الواردة في الأصحاح الأول، حيث رأى الراكب على فرس أحمر بين شجر الآس في الظل وخلفه خيل حمر وشقر وشهب، أما هنا فرأى "أربع مركبات خارجة من بين جبلين والجبلان جبلا نحاس، في المركبة الأولى خيل حمر، وفى المركبة الثانية خيل دهم (سوداء) وفى المركبة الثالثة خيل شهب (بيضاء)، وفى المركبة الرابعة منمرة شقر" [1-3].
لكن الرؤيا الأولى تُشير إلى خطة الله الخلاصية بتجسد الكلمة القادم على فرس أحمر بعد أن أعدت له بقية الخيل الطريق، أما هنا فتُشير الرؤيا إلى خطة الله التأديبية للشر خارج أورشليم ومساندة الله للمؤمنين ضد إبليس وحروبه.
لقد رأى أربع مركبات خارجة من بين جبلين، غالبًا ما يقصد بهما جبل المريا وجبل الزيتون، وكأن المركبات قد خرجت إلى وادي يهوشفاط، الذي يعني: "وادي يهوه يقضى. أو يدين" وهو الوادي الذي يجمع فيه الرب كل الأمم ليحاكمهم هناك بسبب إذلالهم لشعبه (يوئيل 2: 3)[42]. لقد تهيأت المركبات الأربع الإلهية هذه التي هي: "أرواح السماء الأربع خارجة من الوقوف لدى سيد الأرض كلها" [15]. لتحقيق خطة الله التأديبية خارج أورشليم حتى لا يُعاين الأشرار مجد أورشليم ولا يدخلوا إليها بل يؤدبون خارجًا – في هذا العالم – أو يحرمون أبديًا من أورشليم بينما ينعم أولاد الله بالمجد الأبدي الداخلي. ولعله لنفس السبب يأتينا رب المجد في اليوم الأخير على السحاب فلا يلتقي معه الأشرار في مجده إنما يرونه مرهبًا ومخيفًا، أما الأبرار فيدخلون معه إلى العرس الأبدي.
الجبلان المحيطان بالوادي هما: "جبلا نحاس" [1]، لا يقدر أحد أن يفلت منهما. وقد قيل عن السيد المسيح "رجلاه شبه نحاس النقي كأنهما محميتان في أتون" (رؤ 1: 15)، من يختفي فيه ويتحد معه يدك الأرض تحت قدميه ولا تقدر أشواكها وحسكها أن تمسه (تك 3: 18) محطمًا اللعنة تحته بالمسيح يسوع ربنا. هكذا يكون رجال العهد القديم والجديد كجبلين من نحاس يدكون الشر في وادي يهوشفاط ويدينونه بالرب.
ويرى القديس ديديموس الضرير أن النحاس يُشير إلى تعاليم السوفسطائيين والهراطقة التي ليست إلاَّ نحاسًا يطن أو صنجًا يرن (1 كو 13: 1)، ليس لهم المحبة الإلهية فينطبق عليهم قول الرسول: "إن كنت أتكلم بلسان الناس والملائكة ولكن ليس ليّ محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن". وكما أن الحديد يُشير إلى التمرد والجمود فإن النحاس يُشير إلى إخفاء الخطأ وراء المظهر كجبلين من نحاس- وكأنه يليق بنا أن نهرب من هذا الوادي، وادي الهراطقة المخادعين بكلماتهم الفاقدة للحب الحقيقي لئلا ندخل تحت دينونة الله الرهيبة.
أما ألوان المركبات الإلهية فتُشير إلى تأديبات الله ضد الشر ومعاونته لشعبه ضد إبليس وأعماله الشريرة:
أولاً: المركبة الأولى بخيلها الحمر تمثل الحروب الروحية التي فيها يُجاهد المؤمن ضد الشر حتى الدم (12: 4)، فيهلك الشر لحساب بنيان الملكوت الداخلي.
ثانيًا: المركبة الثانية بخيلها الدهم (السوداء)، علامة ما تسببه الحرب من موت لإبليس وهلاك لأعماله الشريرة.
ثالثًا: المركبة الثالثة بخيلها الشهب (البيضاء) وهى تتبع المركبة السابقة فموت الشر هو حياة للفضيلة الطاهرة. أو كما يرى القديس ديديموس الضرير أن الخيل السوداء تُشير إلى آلات غضب الله "حيث ينفتح الشر على كل سكان الأرض" (أر 1: 14) لتليها الخيل البيضاء علامة الفرح بعد التجربة، فيقول المؤمن: "لا تشمتي بيّ يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور ليّ، أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه حتى يقيم دعواي ويجرى حقي، سيخرجني إلى النور وسأنظر بره" (مى 7: 8-9). هكذا إذ ينتفع بتأديبات الرب يسبح قائلاً: "أباركك يارب لأنك مارست غضبك عليَّ لخلاصي، أرددت وجهك ورحمتني" (إش 12: 1).
رابعًا: الخيل المنمرة الشقر القادمة من الجنوب تُشير إلى الثمر المتنوع الذي تفيض به النفس في داخلها بممارستها التوبة بعد التأديب، إذ تقول العروس: "تعالي يا ريح الجنوب هبي على جنتي فتقطر أطيابها" (نش 4: 16).
هذه هي المركبات الأربع بخيلها التي صدر إليها الأمر الإلهي: "اذهبي وتمشي في الأرض، فتمشت في الأرض، فصرخ عليَّ وكلمني قائلاً: هوذا الخارجون إلى أرض الشمال قد سكنوا روحيّ في أرض الشمال" [7-8]. الله في محبته يطلق مركباته للعمل في الأرض خطته الإلهية، وإذ تسقط أرض الشمال (بابل) رمز إبليس تحت العقوبة تسكن روح الله من جهة أولاده. يا للعجب سمح لأرض الشمال أن تكون أداة تأديب قاسية لهم لا تسكن روحه ويستريح قلبه حتى يرى شعبه قد رجع إلى الراحة في أورشليم الجديدة تحمل ثمارًا متنوعة وفيض خيرات بلا كيل. وكأن الله الذي يؤدب يسمع أنيننا وكأنه يئن مع أنيننا، ولا يستريح حتى نستريح نحن فيه. وقد لاحظنا في دراستنا لسفر هوشع كلمات الرب نفسه الذي يسمح بالضيق، قائلاً: "قد انقلب عليَّ قلبي، قد اضطرمت مراحمي جميعًا لا أجرِ حمو غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9).
2. رؤيا تتويج يهوشع:
في الأصحاح الثالث صدر الأمر بخلع الثياب القذرة ليلبس يهوشع ثوبًا مزخرفًا وعمامة طاهرة (3: 4-5) وكان في ذلك إعلان لتتويجنا فيه، بالصليب مزق خطايانا مقدمًا لنا ذاته سرّ البر والغلبة، أما هنا فيتوج يهوشع بإكليل من فضة وذهب ويتوج معه القادمون من السبي، وكأن غاية هذه الرؤيا إبراز تتويج الكنيسة التي كان أعضائها قبلاً تحت السبي فصاروا في أورشليم الجديدة. يمكننا القول أن الرؤيا الأولى تُشير إلى السيد المسيح قبل صعوده فقد كلل على الصليب وتكللت الكنيسة فيه، والرؤيا الثانية بعد الصعود فقد صار للكنيسة أن تتكلل به ويتكلل المسيح فيها داخليًا. وكما قال القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان يعمل قبل الصعود باسم الكنيسة المختفية فيه ولحسابها، أما بعد الصعود فاختفى هو فيها لتعمل لحسابه وباسمه.
ويلاحظ في هذه الرؤيا الآتي:
أولاً: لم يُذكر اسم يهوشع بين أسماء القادمين من السبي، قد توج هو أولاً بمفرده، بكونه رمزًا لربنا يسوع الذي حلّ بيننا على أرضنا دون أن يسقط تحت سبي الخطية، ولا أن يجد إبليس موضعًا له فيه. لقد غلب أولاً وكلل كبكر الراقدين وارتفع إلى بيته السماوي لكي به وفيه ننعم نحن بالإكليل.
ثانيًا: طلب الرب من زكريا النبي أن يأخذ فضة وذهبًا من حلداى وطوبيا ويدعيا أهل السبي ويعمل تيجانًا ويضعها على رأس يهوشع الكاهن العظيم، هذه الفضة والذهب سبق فاستولى عليها العدو من أورشليم وبيت الرب وحُملت إلى السبي مع المسبيين لتستخدم لحساب مملكة بابل، والآن مع عودة المسبيين تُرد الفضة والذهب لاستخدامها في بيت الرب لمجد الله. وكأن الإنسان إذ تسبيه الخطية تتحول طاقاته الجسدية والنفسية والمادية لحساب الشر، وبعودته إلى حضن الله يتقدم بكل هذه الأمور لتكون آلات برّ لمجد الله.
ثالثا: أسماء الرجال الذين يقومون بجمع الفضة والذهب من المسبيين هي:
أ. حلداى أو خلداى وتعني "خالد"، ويدعى أيضًا "حالم" [14]، وتعنى "صحة أو قوة".
ب. "طوبيا" وتعني "الله طيب".
ج. "يدعيا" وتعنى "يهوه يعرف"، وهو زعيم الكهنة الراجعين من السبي (نح 12: 6).
هكذا عمل الثلاثة معًا ليرد للرب الفضة والذهب لتكون تيجان مجد للكنيسة في عريسها الواحد يهوشع. بمعنى آخر إن كانت فضتنا وذهبنا غير مقدسين فلنتطلع إلى "الخلود" أو الحياة الباقية لتهبنا صحة النفس وقوة الروح فننطلق بكل طاقتنا لتقديمها قربانًا للرب. أما سر تقديس هذه الطاقات والمواهب والإمكانيات فهي طيبة الرب وحنانه الذي يترفق بنا ويقبل عطايانا، إنه يعرفنا كأولاد له ويقبلنا إليه فنتعرف نحن عليه ونقبله فينا. في اختصار نحن في حاجة إلى إدراك الخلود والأبدية وقبول حنان الله ومعرفته!
رابعًا: جاءوا بالفضة والذهب إلى بيت يوشيا بن صفنيا [10] قبل تحويلها إلى تيجان. ولما كانت كلمة "يوشيا" تعني "الذي يخلص" وكلمة "صفنيا" تعني "يهوه يخفى أو يكنز[43]"؛ وكأن تقديس طاقتنا يلزم أن يتحقق في بيت " لذي يخلص" أي الكنيسة هيكل الرب مخلصنا، هذا الذي يعمل فينا سريًا في داخل القلب، فيكنزنا كجواهر ثمينة معدة للحياة الأبدية. الله لا يريد لنا المظاهر الخارجية التي تفقدنا بهاءه فينا، إنما يُريد لنا الحياة الخفية المجيدة فنحسب كنوزًا ثمينة في عينيه!
خامسًا: إذ جُمعت الفضة والذهب صارت تيجانًا وليست تاجًا واحدًا، وضعت جميعها على رأس يهوشع... وكأن كل تاج ينعم به مؤمن يلبسه العريس نفسه. يقول العلامة أوريجانوس عن الشهداء أن يسوع المسيح هو الذي يدعوهم للإكليل وهو الذي يحارب معهم، وهو الذي يتسلمه فيهم. هكذا يتجلى السيد فى كنيسته فيحسب كل إكليل لنا إكليلاً له. ويقول القديس ديديموس الضرير: [أنظر كيف يمكن للسيد المسيح الكاهن العظيم أن يأخذ على رأسه تيجان الكل، فإن المؤمنين جميعهم يمثلون جسد السيد المسيح وأعضاؤه، فقد قيل بالحق، للذين يكونون جماعة الكنيسة: "أما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1 كو 12: 27)، بين هذه الأعضاء البعض هم أياد نشيطة ؛ وآخرون "غير متكاسلين في الاجتهاد" (رو 12: 11) وهم الأرجل؛ وآخرون لهم عقل زكى هم الأعين، ومنهم من يدبر حسنًا ويتممون مسؤليتهم كما يجب فيمثلون الرأس رمزيًا... إذن من المعقول أن رأس الكاهن العظيم تأخذ كل التيجان].
وللقديس ديديموس الضرير تفسير آخر لهذه التيجان الكثيرة التي توضع على رأس السيد المسيح، إذ يقول: [تأمل كيف يأخذ يسوع وحده تيجان كثيرة، إذ حارب كل الحروب حتى النهاية "مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية" (عب 4: 15)].
سادسًا: هذه التيجان التي وضعت على رأس عريسنا وحده يقدمها لنا، فيهب لكل واحد أكاليل فضائل كثيرة، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ليس عجيبًا أن توضع تيجان كثيرة على رأس واحد، فلكل فضيلة تاجها، أو بالأحرى كل فضيلة هي في ذاتها تاج، فالإنسان الكامل يملك تيجان كثيرة... طالما الفضائل مترابطة معًا فإن من يمتلكها يتزين بتيجان كثيرة].
سابعًا: مادة التيجان هي الفضة والذهب، أما الفضة فتُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6) والذهب إلى الروح أو الحياة السماوية، وكأنه يليق بنا أن نتهيأ لهذه الأكاليل خلال كلمة الله العاملة فينا والفكر الروحي السماوي.
ثامنًا: ما هو التاج الذي نلبسه في جوهره إلاَّ التقاء بالرب نفسه، وكما قيل بإشعياء النبي: "في ذلك اليوم يكون رب الجنود إكليل جمال وتاج بهاء" (إش 28: 5)، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [الرب هو نفسه مكافأة المجد، يوهب للذين مجدوا الله في أجسادهم (1 كو 6: 20)، الذين لهم روح الخضوع للآراء المحفوظة (كنسيًا) والتقاليد التقوية].
تاسعًا: يدعى السيد المسيح في هذه الرؤيا بالرجل والغصن الشرق في نفس الوقت، ففي الترجمة السبعينية قيل: "هوذا الرجل الغصن الشرق اسمه". وقد سبق لنا الحديث عن هذه الألقاب في الأصحاح الثالث. وفيما يلي تعليق القديس ديديموس الضرير على هذه العبارة: [هكذا قال رب الجنود: هوذا الرجل الغصن الشرق اسمه، يخص مخلصنا الآتي إلى هذا العالم، فهو الرجل بكونه ابن مريم... لكنه النور الحقيقي وشمس البر (الشرق). في اتفاق مع هذا النص يقول أرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا وهذا هو اسمه الذي يدعوه به: "الرب برنا" (أر 23: 5-6). بالحق هو غصن البرّ الذي ينبت من داود... هذا الغصن هو شمس البر وقد ارتفع من داود، هذا الذي وُلد من أرض داود حسب الجسد (رو 1: 3)، كما قيل بإشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" (إش 10: 11)... "هوذا الرجل...".
هنا يعلن عن العريس الذي له العروس، فيدعوه "الرجل". هذا ما يظهره الرسول عندما يكتب إلى أهل كورونثوس: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)... عن هذا الرجل يشهد يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء (مت 11: 11) قائلاً: "يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي" (يو 1: 30) وقد أعلن هذا الرجل بقوله: "من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح من أجل صوت العريس" (يو 3: 29). هذا الذي يظهره النبي أنه "الغصن"... إنه الغصن من الأعالي، غصن من النور الحقيقي، شمس البر (ملا 3: 20) أشرق للذين كانوا في الظلمة وظلال الموت (لو 1: 78) لكي يبدد الظلمة وينزع الموت فنعبر إلى الحياة (يو 5: 24). إذ نصير نورًا في الرب، وكما هو مكتوب "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور للرب" (أف 5: 8).
ويعلق العلامة أوريجانوس على تسميته "الشرق" بقوله أن الشرق نوعان: شرق حق يضئ لنا، هذا الذي يقول: "أنا نور العالم"، وشرق مضلل مثل نور الأشرار الذي ينطفئ (أى 18: 5). وكنور الشيطان المخادع الذي يظهر في شبه ملاك نور (2 كو 11: 4).
عاشرًا: قيل عن السيد المسيح "ومن مكانه ينبت" [12]، فإن كان من أجلنا صار الغصن، فإنه ينبت واهبًا إيانا حياة حقيقية. وكما يقول المرتل: "الحق من الأرض ينبت" (مز 85: 11). جاء إلى أرضنا وهو الحق القادر أن يحملنا فيه فيرفعنا عن الأرض ويقيم فينا بيته السماوي، لذا يكمل القول: "ويبني هيكل الرب" مكررًا هذه العبارة مرتين، من ناحية لأن رقم 2 كما سبق فقلنا يُشير إلى "الحب"[44]، فبالحب يرفعنا عن الأرض ويقيمنا بيتًا سماويًا وهيكلاً حيًا له، ومن ناحية أخرى يعلن عمله مع اليهود كما مع الأمم فيقيم الكل معًا.
حادي عشر: الهيكل الذي يبنيه هنا من المؤمنين سواء من أصل يهودي أو أممي يجلس فيه كملك وكاهن في نفس الوقت، الأمر الذي لم يكن ممكنًا في هيكل سليمان ولا في الهيكل الذي أقامه زربابل إذ كان الملوك من سبط يهوذا والكهنة من سبط لاوى، أما الهيكل الجديد فحلّ فيه الرب ليملك علينا ويكهن لحسابنا. "وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه ويكون كاهنًا على كرسيه وتكون مشورة السلامة بينهما كليهما" [13]. بملكوته وكهنوته يحطم إبليس ويهب السلام لشعبه. يقول القديس ديديموس الضرير: [إنه كرسى مضاعف: كرسى المملكة وكرسى الكهنوت أيضًا... كرسى كلي القدرة كما جاء في الأمثال: "الملك الجالس على كرسى القضاء يذرى بعينيه كل شر" (أم 20: 8)، وأيضًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب الاستقامة قضيب ملكك" (مز 44: 7؛ عب 1: 8)، "يجلس الرب ملكًا" (مز 29: 10). أما من جهة الكرسي الكهنوتي فجاء في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر" (عب 7: 26) وأيضًا: "لنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه" (عب 4: 16). ما يسميه "عرش النعمة" هو عرش الكاهن القدوس البار بلا دنس. إذن يقصد أنه أخذ عرش داود أبيه لكي يملك كل الدهور ولا يكون لملكه نهاية (لو 1: 33) وفى نفس الوقت كهنوته لا يزول (عب 7: 24)... فيحكم على الكرسي المضاعف؛ إنه الوحيد الذي له كرسي الملك والكهنوت معًا].
ثاني عشر: يتحدث عن التيجان التي يتمتع بها هؤلاء الرؤساء أنها تكون "تذكارًا في هيكل الرب" [14]، وفى الترجمة السبعينية يقول: "يقتنون تسبحة في هيكل الرب". فالنصرة بربنا يسوع المسيح تولد فينا طبيعة التسبيح الداخلي وفرح الروح، فتتحول حياتنا كلها إلى تسبحة. يقول القديس ديديموس الضرير: [نقدم تعاليم الأعمال الصالحة تسبحة ننشدها، وتنبعث فينا الأفكار اللذيذة كمن يضرب على العود وبالدف. نلعب على العود باستلامنا تعاليم الزهد: "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية" (كو 3: 5)، "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 4: 10)، خلالها يصير الإنسان مرفوضًا وعبدًا فيكون كالدف المصنوع من جلد الحيوانات الميتة. بهذا الدف يضرب العذارى الخمس الحكيمات الحاملات سرجًا مضيئة كقول المزمور: "من قدام المغنون، ومن وراء ضاربو الأوتار، في الوسط فتيات ضاربات الدفوف" (مز 68: 25). هذه الدفوف التي استخدمتها العبرانيات بعد الخروج من مصر وعبور بحر سوف وعلى رأسهن مريم (النبية) أخت موسى وهرون... لم يكن ممكنًا في مكان صحراوي كهذا أن تجد العبرانيات عددًا من الدفوف يكفى لآلاف الفتيات لكن المؤكد والحق أنهن وجدن دفوفًا رمزية هذه التي نتحدث عنها، وهى ممارسة التقوى لسنين طويلة].
ثالث عشر: إذ يبني الرب هيكله الجديد يفتح أبواب العمل للجميع، إذ يقول: "والبعيدون يأتون ويبنون هيكل الرب" [15]، مشيرًا إلى الأمم الذين كانوا بعيدين وغرباء، قد صاروا بحياتهم الجدية في الرب بناءً روحيًا في الهيكل الجديد.
وكما جاء في إشعياء: "وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك... وتنفتح أبوابك دائمًا، نهارًا وليلاً لا تغلق، ليؤتى إليَّ بغنى الأمم وتُقاد ملوكهم" (إش 60: 10-11).
الباب الثاني
تساؤل حول الصوم
ص7 - ص8
1. درس حول الصوم [ص 7].
2. أصوام تتحول إلى أعياد [ص 8].
الأصحاح السابع
درس حول الصوم
كان العمل في إعادة بناء الهيكل يسير بقوة فأرسل أهل بيت إيل يسألون الكهنة إن كانوا يمارسون الأصوام التي سبق لهم أن فرضوها على أنفسهم بسبب السبي.
1. سؤال أهل بيت إيل [1–3].
2. صوم بلا روح [4–7].
3. الصوم العامل بالتوبة [8–14].
1. سؤال أهل بيت إيل:
في السنة الرابعة لداريوس الملك، أي عام 518 ق.م، كان الشعب يعمل بهمة عظيمة في إعادة بناء الهيكل وقد ظهر ثمر هذا العمل واضحًا كما بدأت علامات الخراب تختفي من أورشليم، فأرسل أهل بيت إيل مندوبين هما شراصر ورجم ملك ورجالهم يستشيرون الكهنة الذين في بيت الرب والأنبياء إن كانوا بعد ظهور هذه الحياة الجديدة توجد حاجة لممارسة الصوم والبكاء في الشهر الخامس (اليوم العاشر) تذكارًا لحرق بيت الرب (أر 52: 12-13؛ 2 مل 25: 8–10) أم يتوقفون عنه؟ وكان هذا السؤال يحمل صورتين مؤلمتين هما: أن الصوم يمثل ثقًلا في حياتهم يودون الخلاص منه، وأنه كان غاية في ذاته فلم يكن يمارس بروح التوبة الداخلية والتغيير الحقيقي. لهذا جاءت الإجابة تحمل توبيخًا من ناحية وكشفًا عن مفهوم الصوم الروحي الحق.
2. صوم بلا روح:
إذ حمل السؤال علامة ضيق وتبرم من جهتهم بسبب الصوم كما حمل نوع من الرياء لهذا أجابهم الرب أنه ليس في حاجة إلى أصوامهم، هم حددوا هذا الصوم باختيارهم ومن حقهم التوقف عنه دون سؤال، إنما كان يليق بهم في صومهم أن يمارسوه بروح صادق وإن توقفوا عنه أن يفرحوا بعمل الله معهم... بمعني آخر إن صاموا أو أكلوا لم يقدموا تقدمات حب لله بل مجرد ممارسات خارجية. هذا ما عناه بتوبيخه لهم: "لما صمتم ونحتم في الشهر الخامس والشهر السابع وذلك هذه السبعين سنة فهل صومًا ليّ أنا؟ ولما أكلتم ولما شربتم أفما كنتم الآكلين وأنتم الشاربين؟" [5-6].
هم سألوا عن صوم الشهر الخامس فأجابهم أيضًا عن صوم الشهر السابع الذي أقاموه تذكارًا لقتل جدليا والي اليهودية الأمر الذي أدى إلى تشتيت البقية الباقية من اليهود بعد السبي (أر 41: 1-3) وأكد أنهم صاموا هذين الصومين وغيرهما مثل صوم الشهر العاشر تذكار أول حصار لأورشليم بالمجانق وصوم الشهر الرابع تذكار الاستيلاء على المدينة في عهد صدقيا (أر 39: 2؛ 52: 6-7)، وكأنه يقول لهم أنا عارف أصوامكم طوال هذه المدة لكنني لا أطلب كثرة الأصوام بل نوعيتها. أنتم مارستوها دون الرجوع إلى الرب ولا في طاعة للوصايا إنما لمجرد تهدئة ضمائرهم.
كان الصوم في ذهنهم مجرد امتناع عن الطعام وليس عن الشر، وتمتع بالبر، لذا يقول القديس ديديموس الضرير: [يلزمنا أن نضبط البطن برباطات المطانيات مع الدموع! لكن كم هو مدمر للإنسان أن يكون صومه كالرافضين التمتع بخبز الحياة (يو 6: 35)، أي التمتع بجسد يسوع الخبز الحقيقي النازل من السماء؟!]. يعود القديس ديديموس فيميز بين نوعين من الصوم مقدمًا شهادة الكتاب المقدس، قائلاً: [فيما يخص الصوم الجيد جاء في يوئيل: "قدسوا صومًا نادوا باعتكاف" (يؤ 1: 14؛ 2: 15). وفي موضع آخر يعلن: "صالحة هي الصلاة مع الصوم والصدقة فإنها تنجي من الموت" (طوبيت 12: 8-9). أما عن الصوم الرديء، فنجد الأشرار والكافرين يتهمون الرب قائلين: "لماذا صمنا ولم تنظر؟! ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟!" (إش 58: 3)؛ ويجيبهم الرب بقوله: "أمثل هذا يكون صوم أختاره؟" (إش 58: 5). فمن يتفادي الطعام الرديء يلزمه مضاعفة الأعمال الصالحة. بالحق يقول الكتاب: "إن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عريانًا أن تكسوه وأن لا تتغاضي عن لحمك، حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك سريعًا" (إش 58: 7-8)].
3. الصوم العامل بالتوبة:
يؤكد لهم الرب أن حديثه عن الصوم بعد فترة السبعين عامًا من الذل هو بعينه حديثه لهم على يد الأنبياء قبل السبي، لا يطلب الأصوام أو الأكل والشرب (الأعياد) كهدف في ذاتها... "أليس هذا هو الكلام الذي نادي به الرب عن يد الأنبياء الأولين حين كانت أورشليم مغمورة ومستريحة ومدنها حولها والجنوب والسهل معمورين؟!" [7]. كلمة الرب لا تتغير في وقت الضيق أو وقت الرخاء، إذ هو يطلب الحياة المقدسة عندئذ يقبل أصوامهم كما أعيادهم ويشتم عبادتهم رائحة سرور. هكذا لا يفصل الله بين السلوك الروحي والعبادة الروحية لذا يطالبهم بالآتي:
أولاً: "إقضوا قضاء الحق" [9]. إن كنا نقدم الصوم لكي ننعم بمراحم الله، فلا يليق بنا أن نحكم بالظلم على إخواتنا، لئلا نسمع كلمات الرب: "حتى متي تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار؟! إقضوا للذليل واليتيم، انصفوا المسكين والبائس" (مز 82: 2-3). لقد صرخ حبقوق إلى الرب، قائلاً: "قدامي إغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها، لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم البتة، لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجًا" (حب 1: 3-4).
بدأ بالقضاء بالحق، أي وجه الحديث إلى الرؤساء الروحيين، إذ يليق بهم قبل أن يقرروا الصوم أو يتوقفوا عنه الاحتفال بالعيد المفرح يلزمهم مراجعة حساباتهم في حياتهم العلمية هل يمارسون العدل فيسمع الله لهم ويقبل مشورتهم أم يمارسون الظلم فلا ينتفعون بالصوم ولا بالأعياد! ليتهم يتمسكون بالعدل والحق منصتين لكلمات القديس جيروم على لسان الرب: [أعطيتكم سلطانًا على قطيعي وعلى شعب الله، فكونوا قضاة لا ذئاب[45]].
ثانيًا: "إعملوا إحسانًا ورحمة كل إنسان مع أخيه، ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير" [9-10]. مع الالتزام بالعدل والحق يلتزم أيضًا بالإحسان والرحمة كل إنسان مع أخيه. يليق بنا أن نحمل روح ربنا يسوع المصلوب حيث أعلن على الصليب تعانق العدل والرحمة معًا. لقد وفى الدين الإلهي عنا معلنًا عدله ورحمته بلا تعارض. فلكي يشتم الله عبادتنا بما فيها من أصوام وأعياد يليق بنا أن نسلك بروح الحق بلا إستهتار، وبروح الحب والرحمة بلا قساوة أو تجبّر.
يقدم لنا القديس جيروم مثالاً للتصرف الحسن قائلاً: [بإن الشرير يقوم بأدوار كثيرة كمن يمثل على مسرح عندما يكون جائعًا يلبس قناع أسد ليفترس، وعندما يغتصب ممتلكات الآخرين يلبس قناع ذئب وعندما يقتل يلبس قناع قاتل إلخ... هكذا مع الفارق يليق بالقديسين أن تكون لهم أقنعة مختلفة لكنها صالحة. عندما أُعطى صدقة أكون كمن يلبس قناع الإنسان الحنون، وعندما أحكم بالحق ألبس قناع القاضي الصالح، وعندما أحتمل الضرر باتضاع أحمل قناع المتضعين... مسكين هو الإنسان الذي له أقنعة الشر، وسعيد هو الذي له الصلاح المتنوعة[46]. وبنفس الفكر أقول إننا في الحياة نعيش كمن يقوم بأدوار متعددة وقصيرة، ألبس ربنا يسوع المسيح فيداخلي فيكون هو قناع الحق عندما أقضي، وقناع الأبوة الصادقة عندما ألتقي بالأيتام وقناع الحب المترفق عندما أتعامل مع الفقير إلخ ...
إن أردنا ممارسة صوم مقبول لدي الله أو الاحتفال بعيد مفرح له، لنهتم بكل إخوتنا خاصة الأرملة واليتيم والغريب والفقير، نحمل حبًا بلا بغضة في القلب حتي نحو إخوتنا المضايقين لنا.
يقدم لنا القديس ديديموس الضرير مفاهيم روحية للأرملة واليتيم والغريب والفقير، فالأرملة الممتدحة هي التي فقدت رجلها الشرير الذي هو الشيطان، لتطلب عريسها الحق ربنا يسوع، واليتيم الصالح هو الذي فقد أباه الذي أنجبه في الخطية إذ يسمع الصوت "إنسيّ شعبك وبيت أبيكِ" (مز 45: 10)، ليكون له الرب نفسه أبًا يقوده إلى الأعالي. فقد قيل عن الله: "يعضد اليتيم والأرملة" (مز 146: 9)، "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 68: 5). إنه يهتم أيضًا بالغريب الذي ترك "عبادة الأصنام" موطنه القديم لينطلق نحو أورشليم العليا، كما يهتم بالفقير الذي ترك كل شيء وحسبه نفاية ليربح المسيح.
هكذا ليتنا ننطلق مع هذه الجماعة المقدسة، النفوس التي ترملت لتربح العريس السماوي، وتيتمت لتقبل الله أبًا لها، وتغربت لتنطلق إلى السماويات، وإفتقرت لتقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن!
ثالثًا: "ولا يفكر أحد منكم شرًا على أخيه في قلبكم" [10]. يقول القديس ديديموس الضرير: [بعد هذا التعليم الخاص بعدم ظلم المحرومين من العناية والحماية يؤكد الكتاب بشدة أنه يليق بنا أننسي الإهانات لا بالكلام فقط وإنما من عمق القلب... بنفس المعنى نذكر قول المخلص في الإنجيل: "فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي" (مت 6: 14)].
لقد قدم لنا السيد المسيح مثل الخادم المدين بعشرة آلاف وزنة (مت 18: 23-35)، فإذ سامحه سيده على دينه كان يليق به أن يعفو عن أخيه، لكنه إذ لم يعفو عنه فقد نعمة سيده. قد علق السيد على المثل بقوله: "هكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته" (مت 18: 35).
رابعًا: الطاعة للوصية وسماع صوت الرب، إذ يقول: "فأبوا أن يصغوا وأعطوا كتفًا معاندة وثقلوا آذانهم عن السمع، بل جعلوا قلبهم ماسًا لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله رب الجنود بروحه عن يد الأنبياء الأولين، فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود" [11-12]. هذا هو ملخص شرهم كله "عناد القلب الداخلي"، الذي يغلق باب مراحم الله في وجههم ليسقطوا تحت غضبه.
من جهة السماع للشريعة أو الوصية يقول القديس ديديموس الضرير: [أوصى الرب الذي أعطاهم الناموس بهذه العبادة: "اصغ يا شعبي إلى شريعتي" (مز 77: 1)، وان يتبع هذه الدعوة: "يلهج في ناموس الرب نهارًا وليلاً " (مز 1: 2)... لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك وأكتبها على قوائم أبواب بيتك وأبوابك" (تث 6: 6-8). بطاعتنا للوصايا المعطاة لنا نحسب أوفياء وسامعين للناموس. كيف لا يكون بالحق وافيًا وسامعًا مادام يحفظ الكلام المقدس في نفسه وقلبه فيتكلم بها في بيته كما في الطريق، في نومه كما في يقظته؟! ففي نومه يقول للعالم بكل شيء، "إذا ذكرتك على فراشي في السهد ألهج بك" (مز 63: 6). وفي يقظنه ينطق ذات الشيء، إذ يذكر في فكره كلام ربنا قائلاً بجسارة: "يا الله، إلهي أنت، إليك أبكر" (مز 63: 1). وبنفس الإشتياق يقول مع النبي إشعياء: "بنفسي إشتهيتك في الليل" (إش 26: 9)].
من لا يسمع للشريعة تكون له "كتفًا معاندة"، أي يعطي ظهره للشريعة في عناد، وكما يقول القديس ديديموس: [يحدث هذا عندما نكون مغروسين في الشر فنستحق توبيخات المزمور 49: "للشرير قال الله: مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك وأنت قد أبغضت التأديب وألقيت كلامي خلفك؟!" (مز 49: 16-17)... من يعطي ظهره لكلام الرب يتجاهله بدون إحساس حتى أنه يدير ظهره لواهب هذا الكلام. إنهم مجانين ومملوئيين حماقة إذ يشتمون الرب واضع الشريعة بمخالفتهم لناموسه، وكما يقول الرسول: "الذي تفتخر بالناموس أبتعدى الناموس تهين الله؟!" (رو 2: 23)... إنهم يعطون ظهرهم للذي يكلمهم "حولوا نحوي القفا لا الوجه" (أر 2: 27)، مع أنه كان يجب على العكس أن يقدموا الوجه لخالق كل شيء... "إليك رفعت عيني يا ساكنًا في السموات" (مز 123: 21)، وأيضًا: "عيناي دائمًا إلى الرب لأنه هو يخرج رجلي من الشبكة" (مز 25: 15)].
من لا يسمع للشريعة تكون له أيضًا آذان ثقيلة عن السمع، وكما يقول القديس ديديموس: [إن الكتف المعاندة هي ثمرة الأذن الثقيلة عن السمع، وليس أُذن الجسد بل أُذن النفس. لقد قيل: "زاغ الأشرار من الرحم، ضلوا من البطن متكلمين كذبًا، لهم حمة مثل حمة الحية، مثل الصل الأصم يسد أُذنه الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رقي الحكيم" (مز 58: 4-6). "كيف لا يكون عنيدًا وأصم من يثقل أذنه ويسدها، الذي من ولادته هو غريب عن الرب متكلمًا بالكذب وهو في البطن؟! يمكن أن ينطبق هذا أيضًا بطريقة رمزية على الذين صاروا غرباء منذ ولادتهم عن الكنيسة أمهم، إبتعدوا عنها مفضلين الأكاذيب منذ خروجهم من البطن، سدوا آذانهم مثل الحية فصارت طاقتهم في عمل الشر وبث السم].
يرى أيضًا القديس ديديموس أن إشعياء النبي يشهد عن هذه الآذان الثقيلة عن السمع الخاصة بالنفس، فيقول: "غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه وأطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأُذنيه ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفى" (إش 6: 10). "فإنهم إذ يتلذذون بدوامة الشر والكفر التي إختاروها لأنفسهم فتثقلت آذانهم وإنطمست أعينهم وغلظ قلبهم فلا يسمعون الحديث عن الفضيلة ومعرفة الحق القادرة أن تجعلهم فضلاء وتردهم إلى ذاك الذي إبتعدوا عنه، هذا الذي يستطيع أن يشفيهم من العمي وعدم السمع ..."].
ويلاحظ في الحديث الذي بين أيدينا تأكيد الحرية الإنسانية، فبكامل إرادته أبوا أن يسمعوا، وثقلوا آذانهم إلخ... الأمر الذي يؤكده الكتاب المقدس بعهديه.
خامسًا: يرد الله عدم سماعهم له بعدم سماعه لهم، إذ يقول: "فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود، فكما كان ينادي هو فلم يسمعوا كذلك ينادون هم فلا أسمع قال رب الجنود وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم فخربت الأرض وراءهم لا ذاهب ولا آئب فجعلوا الأرض البهجة خرابًا" [12-14].
الله في محبته يهدد بالغضب حتي إذ نصرخ إليه: "لا تسخط كل السخط يا رب" (إش 64: 8)، "هل إلى الدهر تسخط علينا؟! هل تطيل غضبك إلى دور فدور؟! (مز 85: 6)، نجد نعمة في عينيه. فالرب في غضبه كما يقول: القديس ديديموس الضرير لا ينتقم لنفسه وإنما يعاقب لكي يجعلنا فضلاء، واضعًا نهاية للخطية كمرض أصابنا أو جراحات فينا، فإنه "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (2 تي 2: 4). فبغضه يكشف عن اهتمامه بخلاصنا، لذا قيل: "عندما يأتي غضبي أشفيه من جديد" (إش 7: 4)، كما يقول من شُفى من جراحاته: "أحمدك يا رب لأنه إذ غضبت عليَّ إرتد غضبك فتعزيني" (إش 12: 1). يقول القديس ديديموس الضرير: [إن غضب ربنا إذ يأتي معه حصاد الخير ليس بشر بل هو لازم. إنه عمل طبيب الأرواح الذي "يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" (مت 4: 23)... كطبيب فهيم صانع الخيرات يستخدم علاجًا مؤلمًا وبغيضًا، كما يشهد النبي... "هو أيضًا حكيم ويأتي بالشر ولا يرجع بكلامه" (إش 31: 2)].
إنه يؤدبهم معلنًا "وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم" [14]، مع أنه لم يُشتتهم في ذلك الحين في كل العالم وإنما سمح بأسرهم بواسطة أشور وبابل وهما أمتان معروفتان لهم في ذلك حين، مما يدل على أن التهديد قد حمل نبوة واضحة لما يحدث لهم برفضه السيد المسيح وعصيانهم له فيتشتتوا في العالم كله، بين أمم لم يكونوا بعد قد عرفوها.
ما هذه الأمم التي يسقط تحت أسرها الإنسان برفضه الإيمان بالله إلاَّ الشرور المتنوعة كقول الكتاب: "أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلبهم النجاسة" (رو 1: 24)، "أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض لأنهم لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم" (رو 1: 28). فبرفض البشر معرفة الله تتخلى عنهم نعمة الله فيسقطون تحت أسر الخطايا ويقال عنهم: "مملوئين من كل إثم" (رو 1: 29)، هذه هي الأمم الغريبة عن طبيعة الإنسان التي خلقها الله على مثاله!
بسبب العناد تُخرب الأرض وتتحول بهجتها إلى خراب، ولا يكون بها ذاهب ولا آئب، هكذا بالخطية يفسد الجسد (الأرض) وتتحول حياة الإنسان إلى حياة غمّ وعقم، فاقدًا السلام الداخلي والبهجة القلبية والثمر الروحي.
الأصحاح الثامن
الأصوام تتحول إلى أعياد
بعد أن قدم لهم درسًا مرًا من واقع تاريخهم يكشف عن قساوة قلب آبائهم، عاد ليؤكد لهم غيرته المتقدة نحو أورشليم عروسه. إن كان قد سمح لها بالتأديب القاسي فعاشت في مرارة لكنه يوّد أنه يحول حزنها إلى فرح وأصوامها إلى أعياد، يباركها ويقيمها بركة للأمم. هكذا حوّل السؤال الذي وجهه أهل بيت إيل بخصوص الصوم إلى الجانب الإيجابي: الكشف عن محبة الله لهم وتحقيق رسالته فيهم بحلوله في وسطهم كسرّ فرحهم الداخلي.
1. غيرة الله على صهيون [1-3].
2. حلول البركة والسلام [4-15].
3. تذكيرهم بالوصية [16-17].
4. الأصوام تتحول إلى أعياد [18-19].
5. إقامتهم بركة للأمم [20-23].
1. غيرة الله على صهيون:
بينما هم يتساءلون عن الصوم الذي فرضوه على أنفسهم بسبب السبي إذا به يدخل بهم إلى أعماقه ليكتشفوا لهيب محبته المتقدة من نحوهم. وكأنه يجيب على سؤالهم بالقول: إني إله غيور محب لكم، تلامسوا مع محبتي النارية لتصيروا أنتم أيضًا نارًا ملتهبة لا تقدر الأحداث أن تطفئها.
يعلن العريس السماوي غيرته على شعبه الراجع من السبي الساقط تحت التأديب بسبب زناه الروحي وإنحرافه: "غرت على صهيون غيرة عظيمة وبسخط عظيم غرت عليها... قد رجعت إلى صهيون وأسكن في وسط أورشليم، فتُدعي أورشليم مدينة الحق وجبل رب الجنود الجبل المقدس" [3].
أولاً: يؤكد الله غيرته عليها حتى وإن أدبها إلى حين، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [هذا ما يقوله ربنا ضابط الكل: "أحببت أورشليم أو صهيون، فإني أذكرها بعدما رفضتها وطردتها فصارت محتقرة من الغرباء؛ إني أحبها ليس أي حب كان وإنما أحبها بشدة عظيمة".
إنه العريس الغيور الذي يشتاق إلى عودة عروسه في بيت الزوجية. حقًا لقد إحتقرته عروسه وزنت وراءه وخانته (أر 3: 2)، ولكنها إذ دخلت تحت الضيق أدركت خطأها فقالت: "أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذ كان خير ليّ من الآن" (هو 2: 7)، والعجيب أن رجلها الأول لا يرفضها بل يعاتبها في الماضي وإنما في حبه يتضع، قائلاً: "قد رجعت إليَّ صهيون وأسكن في وسط أورشليم"... معلنًا إشتياقه إلى حلوله فيها. عوض الخراب الذي حلّ بها يجعلها مدينة الحق وعوض الإنحدار الذي هبطت إليه يجعلها جبله المقدس].
يقول القديس ديديموس الضرير: [تسمى من جديد مدينة الحق. فالحق لا تكون بعد برية (خربة) وإنما مدينة مكتظة بالسكان وبها مبانٍ كثيرة: الهيكل والمنازل المرتفعة، وتقام بها شوارع وطرق... ومن الجانب الروحي فإن أورشليم تمثل النفس التي تتأمل الأمور غير المنظورة والأبدية (لأن أورشليم تعني رؤية السلام)، فتري النفس السلام خلال الإتفاق المتبادل بين الحياة الفاضلة والحب الإلهي؛ فمن جانبها تلتهب بشعلة الحب فترجع إليه، ومن جانبه يرجع إليها يسمع توسلاتها ويعطيها سؤالها، فلا تكف عن الصلاة إليه... وتدعى "مدينة الحق" لأنها تسلك حسب الحق الذي تكتشفه تحت ظل الناموس، ولأنها "تفتش الكتب الإلهية" (يو 5: 39، 2 تي 3: 16) فتنعم بالحق].
هذا هو عمل العريس الغيور، يدخل إلى قلبنا فيجعله مدينة أورشليم، مدينة الحق، فننعم برؤية السلام بين نفوسنا والله، وندخل إلى أعماق الحق الإنجيلي ولا نقف عند الظلال والرموز التي للناموس.
إنه يقيمنا أيضًا "جبله المقدس"، وكما يقول المزمور: "الذين يثقون في الرب يكونون كجبل صهيون" (مز 124: 1)، يرفعنا بعد الإنحدار الذي أصابنا لكي نبلغ بروحه القدوسه إلى الأعالي ثابتين فيه كالجبل لا تقدر عواصف العالم وخداعات إبليس أن تزعزعنا.
2. حلول البركة والسلام:
كأن الله يقول لشعبه: الآن يوجد ما هو أهم من التساؤل إن كنتم تصومون أم تتوقفون عن الصوم الخاص بالسبي ألاَّ وهو إدراك مركزكم الجديد بعد أن أقمتكم كأورشليم الجديدة، مدينة الحق، وجبل صهيون الجديد، جبلي المقدس... تأملوا عطاياي ونعمي وتمسكوا بها. إن صمتم نائحين أو عيدتم فرحين فليكن فيكم هذا الهدف أن أسكن فيكم فتحل بركتي عليكم وتنعمون بسلامي الفائق.
هكذا يكشف الله عن بركات سكناه فينا بقوله:
أولاً: "سيجلس بعد الشيوخ والشيخات في أسواق أورشليم، كل إنسان منهم عصاه بيده من كثرة الأيام" [4]. من الجانب الحرفي، إذ يحل الله في وسطهم يمتلئون أيامًا صالحة ويحل السلام فيهم يفاجئهم الموت في شبابهم بل يعيشون حتى الشيخوخة، مملوئين صحة إذ ينزلون إلى أسواق المدينة يشترون إحتياجاتهم ممسكين كل واحد عصاه بيده. أما من الجانب الرمزي فأسواق أورشليم التي يجلس فيها الشيوخ والشيخات هي فيض الحكمة الذي يناسب كنهر يفرح مدينة الله (مز 46: 4)، يستطيع الكل أن ينزل إليه ليرتوي منه، أو يدخل الأسواق ليقتنيه. وكما يقول الحكيم: "الحكمة تُنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها" (أم 1: 20). هذه الحكمة إنما هي: "شخص السيد المسيح"، الذي نزل من السماء وتقدم إلينا كعبد، يمكن للجميع أن يقتنيه في داخله وينعم به؛ هذا الذي تقول عنه العروس: "في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته؛ إني أقوم وأطوف في المدينة في الأسواق وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي" (نش 3: 1-2). فإذ يلتهب قلبها شوقًا إلى عريسها، "الحكمة عينها" تطلبه فلا تجده بجوارها، فتقوم بالتوبة من سريرها وتدخل إلى الكنيسة "المدينة المقدسة"، وتطوف في أسواقها وشوارعها، فتجده متجليًا في داخلها، يقدم ذاته لمن يطلبه.
ثانيًا: "وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها" [5]. وجود الصبيان والبنات أيضًا في الأسواق يلعبون إنما يُشير إلى الطمانينة التي سادت على الجميع وعدم وجود حرب تنزع الفرح عن الكبار والصغار. وكما وصف إشعياء النبي العصر المسياني: "فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي ولا يُسمع بعد فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ، ولا يكون بعد هناك طفل أيام ولا شيخ لم يكمل أيامه، لأن الصبي يموت ابن مئة سنة" (إش 65: 19-20).
مع الشيوخ يوجد في السواق أيضًا أولاد يلعبون، هؤلاء هم جماعة البسطاء الذين بلغوا إلى "الطفولة" ليعيشوا في الرب بلا هّم، وكأن أسواق الكنيسة تضم حكمة الشيوخ مع بساطة الأطفال، كقول الرب لتلاميذه: "كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام" (مت 10: 16). وكما يقول القديس جيروم: [كن بسيطًا كحمامة فلا تلقي فخًا لأحد، وكن حكيمًا (بارعًا) كحية لا تسمح لأحد أن ينصب أمامك فخًا[47]].
ويقدم لنا القديس ديديموس الضرير تفسيرًا رائعًا لهؤلاء الأطفال البسطاء الذين يلعبون في أسواق الكنيسة أي المدينة المقدسة: [يوجد أيضًا بنات صغار وصبيان ابتدأوا يلعبون لعبة تستحق المديح، لعبها داود الرجل الذي قلبه حسب الرب (أع 13: 22؛ 1 صم 13: 14). محققًا إرادة من إختاره، معلنًا بثقة أكيدة: "لعبت أمام الرب" (2 صم 6: 21). يمكننا أن نقول أن الأطفال الذين يلعبون في الأماكن الشعبية (الأسواق) التي بمدينة الرب المجيدة هم أُناس تكرسوا للرب منذ طفولتهم، فبنقاوة مع كرامة عميقة ارتبطوا بكلام مقدسة غير ملوم (تي 2: 7-8)].
في تفسيرنا في سفر الخروج[48] رأينا أن الأولاد يشيرون إلى النفس والبنات إلى الجسد، فمتي تقدس الإنسان بكليته يأتي بثمار للنفس والجسد معًا. فلا يوجد بعد صراع بينهما بل يعملا معًا بالروح القدس، وتأتي الثمار كصبيان وبنات يلعبون معًا في أسواق المدينة المقدسة بفرح مجيد لا يُنطق به.
أخيرًا فقد ضمت أسواق المدينة الشيوخ مع الشيخات والصبيان مع الفتيات، أي الرجال مع النساء، والكبار مع الصغار... وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [فقد صار الكل خورسًا واحدًا ينشدون تسبحة واحدة بقلب واحد، وكما جاء في المزمور "الأحداث والعذاري أيضًا الشيوخ مع الفتيان ليسبحوا إسم الرب" (مز 148: 12-13). كما تهتم بالشيوخ الحكماء لا تتجاهل الشيخات الحكيمات اللواتي يقمن بدورهن في الكنيسة. وكما تفرح الكنيسة بحكمة الكبار تبتهج أيضًا بنصرة الأحداث، إذ يقول الرسول: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير" (1 يو 2: 12-14)].
هذا العمل الإلهي في حياة جميع أعضاء الكنيسة يبدو مستحيلاً، إذ يقول النبي: "هكذا قال رب الجنود: إن يكن ذلك عجيبًا في أعين بقية هذا الشعب في هذه الأيام أفيكون أيضًا عجيبًا في عيني يقول رب الجنود؟!" ]6]. إن كان العدو قد حطم أورشليم تمامًا فصار في أعين الكل إستحالة عودة الفرح إليها، لكن ليس في عيني الله، إذ "كل شيء ممكن لدي الله" (مت 19: 26)... إنه يرد لها مجدها وفرحها بسكناه فيها!
ثالثًا: "هأنذا أخلص شعبي من أرض المشرق ومن أرض مغرب الشمس، وآتي بهم فيسكنون في وسط أورشليم ويكونون ليّ شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا بالحق والبرّ" [7-8].
لا تضم أورشليم الجديدة خورسًا واحدًا من الشيوخ والشيخات والصبيان والفتيات وإنما يضم شعبًا واحدًا للرب من مشارق الشمس ومغاربها، إذ ينفتح باب الخلاص لجميع الأمم ويصير الكل واحدًا في الرب. هذه هي البركة العظمي لسكن الله وسط البشر وحلوله بيننا. يقول القديس ديديموس الضرير: [هكذا قال رب الجنود: هأنذا أخلص شعبي من أرض المشرق ومن أرض مغرب الشمس، ليس فقط شعب الختان وإنما الشعب الذي من كل الأمم الذين يؤمنون بالرب المعلن في الأنجيل. قديمًا كان الشعب بالحق من أمة واحدة، من العبرانيين... حسب شهادة موسى: "حين قسم العلي للأمم، حين فرّق بني آدم، نصب تخومًا لشعوب حسب عدد بني إسرائيل، إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب جبل نصيبه" (تث 32: 8-9)... كما قيل: "ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" (إش 11: 10؛ رو 15: 12)... "تهللوا أيها الأمم شعبه" (تث 32: 43). فلم يعد هذا الشعب هو شعب العبرانيين وحدهم وإنما معهم من يعبدون الرب ويخدمونه كما تنبأ المزمور: "كل الأمم تتعبد له" (مز 72: 11)، وفي نص آخر: "كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويمجدون إسمك" (مز 86: 9)، وأيضًا: "تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض وتسجد قدامك كل قبائل الأمم، لأن للرب المُلك وهو المتسلط على كل الأمم" (مز 22: 27-28)... ويعلن الإنجيل عن إتحاد البشر من كل بلد بذكره كلمات المخلص: "كثيرون سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب" (مت 8: 11). هذه الدعوة موجهة إلى كل جهات العالم. يضاف إلى هذا ما قيل: "إله الآلهة الرب تكلم ودعا الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها" (مز 50: 1)... متي تكلم إله الآلهة ودعا الأرض من المشارق إلى المغارب؟ عندما ترك شعب الختان لأنهم جحدوا المخلص ملك الملوك بقولهم: "ليس لنا ملك إلاَّ قيصر" (يو 19: 15)، "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25). فبصلبهم للسيد المسيح سقطوا وإنتهت عبادة الحرف، واستطاع الرب أن يقول لهم: "ليس ليّ مسرة بكم قال رب الجنود ولا أقبل تقدمة من يدكم لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها إسمي عظيم بين الأمم وفي كل مكان يقرب لإسمي بخور وتقدمة طاهرة لأن إسمي عظيم بين الأمم" (ملا 1: 10-11)... ].
هكذا يرد الله البشرية من المشارق والمغارب لتكون شعبًا له بالحق والبر. وما نقوله عن البشرية نقوله عن الإنسان، فإن الله يرده عن كل ضربة يمينية (من المشارق) وكل ضربة شمالية أو يسارية (من المغارب)، أي من السقوط تحت الخطايا الظاهرة ومن البر الذاتي ليكون بكامله لله متمتعًا بالحق والبر في المسيح يسوع.
رابعًا: إذ يجتمع شعب الله من كل الأمم بقلب واحد تكون له الأيدي المتشددة القوية القادرة بالرب على بناء الهيكل: "لتتشدد أيديكم أيها السامعون في هذه الأيام هذا الكلام من أفواه الأنبياء الذي كان يوم أسس بيت رب الجنود لبناء الهيكل" [9]. يقول القديس ديديموس الضرير: [يوصي الرب ضابط الكل أن تكون الأيدي المكرسة له قوية... وذلك بترجمة التعاليم الروحية إلى عمل حقيقي، فيرتبط العمل بالكلام؛ فلا يكون السامعون للناموس مجرد سامعين وإنما يحولون السماع إلى ثمر في أعمالهم].
إن كنا قد سمعنا من أفواه الأنبياء عن تأسيس بيت رب الجنود أي عن التجسد الإلهي، إذ يدعو الرب نفسه جسده هيكلاً، فإن هذا التجسد يهب قوة لأيدينا للعمل به، فتتحول الوصية الإلهية في حياتنا إلى حياة عملية مُعاشة. لفد أقام الله هذا الجسد، إذ قيل: "الحكمة بنت بيتها" (أم 9: 1)، فصار الله حالاً في وسطنا ويهبنا إمكانياته السماوية للعمل لحساب ملكوته. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [كيف لا تكون أيادي السامعين لكلمات الأنبياء قوية وقد وُلد من العذراء ذاك الذي يليق أن يُدعي "الله معنا" (إش 7: 14)؟! بالحقيقة إذ يكون الله معنا تكون أيادينا قوية ويمكننا التسبيح بصوت مفرح: "رب القوات هو معنا، إله يعقوب هو حامينا" (مز 45: 11-12)... إنه يهبنا قوة فائقة للطبيعة!].
إذن لتتشدد أيدينا للعمل ولتتحول كلمات الله فينا إلى حياة إذ أقام الكلمة لنفسه بيتًا بتجسده، واهبًا إيانا قوة العمل. هذا وقد جعل منا حجارة مقدسة حية لإقامة هيكله المقدس إذ يقول: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي (أنا وأبي) وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). يجعلنا نحن أنفسنا مسكنًا له أو هيكلاً مقدسًا يقوم عليه حجر الزاوية كقول الرسول: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية..." (أف 2: 20) ].
خامسًا: إلتقاؤنا مع الإله المتجسد، وسكناه في وسطنا لم يشدد الأيدي بإمكانياته الإلهية العاملة فينا فحسب، وإنما قطع روح اليأس الذي فينا وألهب أعماقنا بالرجاء. فالعمل لا يحتاج فقط إلى الأيدي القوية والجهاد والمثابرة وإنما أيضًا إلى الروح المملوء رجاءً في الرب، لهذا يقول: "قبل هذه الأيام لم تكن للإنسان أجرة ولا للبهيمة أجرة ولا سلام لمن خرج أو دخل من قبل الضيق وأطلقت كل إنسان الرجل على قريبه" [10]. لقد أحاط الضيق بهم (حج 1: 6؛ 9: 11؛ 2: 16-19) مما جعل الإنسان كما الحيوان بلا قيمة حتى إن عملا شيئًا فبلا نفع ولا يستحقان أجرة! لقد كانت أورشليم خربة كالبرية، ويحكمها الغرباء، فكل مجهود يقوم به الإنسان لا يجدي شيئًا. صار تعب الإنسان كما الحيوان في دخوله أو خروجه بلا نفع، الأمر الذي حول حياتهم إلى جحيم فانطلق كل واحد يقاوم أخاه بلا سبب، بمعني آخر عوض أن يعمل كل واحد مع أخيه لبنيان بيت الله شعر كل واحد بالمذلة والفقدان التام والفراغ الداخلي فتحول إلى مقاومة أخوته ومضايقتهم.
أما من الجانب الروحي فلإنسان بدون التقائه بمخلصه الذي أقام هيكله المقدس يكون كالحيوان، يعمل بلا فهم ولا حكمة، فلا يستحق أجرة. يقول القديس ديديموس الضرير: [يوبخ الكتاب من هم بلا عقل الذين في حماقة، فيقول: "لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم" (مز 83: 9). حقًا كيف يمكن أن توجد أجرة لأُناس يعملون كل شيء بلا فهم ولا تعقل؟!].
هذه صورة مُرّة للبشرية خارج عمل الله، إنها تخرج للعمل وتدخل حسابًا فتجد نفسها في فراغ وبلا ثمر ولا تستحق المكافأة إذ إنشغل كل واحد بمقاومة أخيه، وكما يقول المزمور: "يتكملون بالكذب كل واحد مع صاحبه بشفاة ملقة" (مز 12: 3)، وكما قيل بأرميا النبي: "كل أخ يعقب عقبًا وكل صاحب يسعى إلى الوشاية، ويختل الإنسان صاحبه ولا يتكلمون بالحق، علموا السنتهم التكلم بالكذب وتعبوا في الافتراء" (أر 9: 4-5). أما خلال العهد الجديد فتقوم أورشليم على السلام الحقيقي وتأتي بثمار متزايد، فلا يكون تعب الإنسان والحيوان بلا أجرة كما كان سابقًا. يقول: "أما الآن فلا أكون أنا لبقية هذا الشعب كما في الأيام الأولي يقول رب الجنود، بل زرع السلام، الكرم يعطي ثمره والأرض تعطي غلتها والسموات تعطي نداها وأُملك بقية هذا الشعب هذه كلها: [11-12]. يا لها صورة مبهجة بعد أن كان الإنسان يعمل بلا تعقل كالحيوان فلا يكون له أجرة، إذ تفقد النفس (الإنسان) ثمرتها كما يفقد الجسد (الحيوان) قدسيته، ويقاوم أحدهما الآخر، الآن إذ يسكن الرب فيه، ليس فقط تنعم نفسه بالأجرة وإنما جسده أيضًا ويكون بينهما وفاق روحي ويصير له ثمر روحي فائق، تعمل الأرض كما السماء لحسابه في الرب. إذ يرجع الرب إليه ويسكن في داخله ويقيم مملكته في قلبه، يظهر زرع السلام الذي يغرسه الآب نفسه بروحه القدوس، وتظهر ثمار الروح القدس بكونها ثمار الكرمة الحقيقية، وتعطي الأرض (الجسد) غلتها إذ يحمل الجسد قدسية خاصة ويصير آلات بر لحساب الله، وتهب السماء (النفس) نداها، إذ تكون لها نعمة الروح القدس تملأها... هذه كلها يهبها الله للنفس التي تقبله فيها.
يقول القديس ديديموس الضرير: [تحقق هذا الإصلاح البهي بالمعني الروحي عندما جاء ذاك الذي قال: "روح الله عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية" (لو 4: 18)... مكتوب "يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام، سلامه سوف لا يعرف حواجز، سوف لا يكون لأمة واحدة بل لجماعة الأمم". الأرض كلها التي تخضع لذاك القائل لتلاميذه وللذين يرغبون في خدمته: "أعطيكم سلامي" (يو 14: 27)، تتمتع بهدوء عظيم يستتب فيها، والكرمة تعطي ثمرها والأرض غلتها والسماء نداها. أما الكرمة التي تعطي ثمرها فهي التأملات الروحية في الحق... والأرض تعطي غلتها، إذ تثمر البذرة التي ألقاها يسوع فيها ثلاثين وستين ومائة (مت 13: 8، 23)... تقدم الأرض غلتها لمن يزرعها بالدموع وبالعرق والحزن، فيحصدها بالفرح (مز 125: 5)... "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالإبتهاج، الذاهب ذهابًا بالبكاء حاملاً مبذر الزرع مجيئًا يجيء بالترنم حاملاً حزمه" (مز 126: 5). هذا الحصاد الكثير روحي يخص الكلام الإلهي، وكما أوصي هوشع النبي: "إزرعوا لأنفسكم بالبر. أحصدوا بحسب الصلاح، أحرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلمكم البر" (هو 10: 12)... أما السماء تعطي نداها، فإننا سنفهم الندى عندما نعرف السماء التي تعطيه. السماء بلا شك ليست إلاَّ ذاك الذي يحمل صورة الإنسان السماوي (1 كو 15: 49)، حيث يكون وطنه في السماء (في 3: 20). فقد قيل عن الذين يظهرون صورة المخلص السماوي: "السموات تشهد بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 18: 1)، وجاء عنهم فى النشيد الكبير الوارد في سفر التثنية: "أيتها السموات افرحي معه" (تث 32: 43)، أي افرحي مع المخلص. كيف لا يفرحون ويتهللون معه وقد تشكلوا على صورته كقول الرسول: "ليكونوا مشابهين صورة ابنه" (رو 8: 29)، وأيضًا "سنلبس صورة السماوي" (1 كو 15: 49)؟! يليق بنا أن نقول أنهم باتحادهم في سماء واحدة يعطون ندى سماوي، لكن كل واحد يُعطي نداه الخاص، متشبهًا بموسى القائل: "يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندي كلامي" (تث 32: 2)].
سادسًا: إذ يصير للمؤمن بسكنى الله في قلبه هذه البركات الإلهية، يصير سماءً تعطي نداها، فإنه لا يعود بعد يكون لعنة لغيره ولا لنفسه، وإنما يكون بركة... الأمر الذي نتحدث عنه في تفسير نهاية هذا الأصحاح [20-23].
3. تذكيرهم بالوصية:
وسط هذه البركات التي تحلّ في حياتهم بسكنى الرب فيهم التي تبدو كأنها مستحيلة [9]. يُناشدهم بالتمسك بالوصية الإلهية حتى لا يسقطوا تحت غضبه كآبائهم. "هذه هي الأمور التي تفعلونها: ليكلم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق وقضاء السلام في أبوابكم، لا يفكرن أحد في السوء علي قريبه في قلوبكم ولا تحبوا يمين الزور، لأن هذه جميعها أكرهها يقول الرب" [16-17].
الآن إذ يعيد بناء الهيكل وتجديد أورشليم مدينته المقدسة اراد أن يتأسس هذا العمل علي الحق الملتحم بالبرّ، أو بمعني آخر يقوم على الحق العملي في حياة أولاده. وهنا نلاحظ في وصاياه هذه الآتي:
أولاً: يبدأ بعلاقتنا مع إخوتنا في الرب كالحديث مع إخواتنا بالحق، والقضاء بالعدل والسلام إلخ... ويختم بوصية خاصة بعلاقتنا به "يمين الزور"، وكأن الله يريد أورشليمنا الداخلي أن تقوم على الحب العملي الحقيقي مع إخوتنا وإنما في الرب.
ثانيًا: يبدأ بالحديث عن "الحق"، هذا هو أساس البنيان الحقيقي. ما هو هذا الحق الذي نتكلم به مع أقربائنا ونقضي به إلاَّ تجلي "السيد المسيح" نفسه في حديثنا كما في تصرفاتنا، فقد أعلن عن نفسه أنه "الحق". هذا الحق لا يكرز به بالكلام فحسب وإنما يعلن بقوة خلال التصرفات العملية في حياة الرعاة كما الرعية.
يري القديس ديديموس الضرير أن الرب يبدأ حديثه بخصوص القادة الروحيين الذين يجب أن يعلنوا "الحق" لا بالمعرفة النظرية العقلية وحدها وإنما خلال الحياة الفاضلة والتصرفات العملية، فمن كلماته التي علق بها على هذه العبارة الإلهية: [يليق بنا أن نسمع كلام يسوع ونمارسه كما صرح هو بنفسه: "كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجل عاقل" (مت 7: 24)].
[لتعلن اعمالنا التعاليم الروحية التي نقدمها، بهذا يكون الإنسان "عاملاً لا يخزي" (2 تي 2: 15). بهذا الفكر يكتب الرسول لتلميذه أن يحفظ النقاوة والوقار والإخلاص وكلامًا صحيحًا غير ملوم (تي 2: 7-8). ما هو الكلام الصحيح غير الملوم إلاَّ ممارسة ما نوصي به الغير، وأمانتنا الخالصة بما نعده للآخرين بالنسبة للإيمان؟!].
هكذا أكد الآباء الكنسيون ضرورة إعلان الحق بالحياة العملية وتجليه في السلوك اليومي، فمن كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يدبر الآخرين يلزمه أن يكون أكثر بهاءً من أي كوكب منير، تكون حياته بلا عيب، يتطلع الكل إليه فيرونه في حياته نموذجًا لهم[49]].
ثالثًا: يكمل حديثه بالقول: "اقضوا بالحق وقضاء السلام في أبوابكم"... إن كان "الحق" هو الأساس الذي تُبنى عليه المدينة الجديدة، فيليق أن يمتزج الحق بالسلام. الحق السماوي يفتح القلب بالحب ليتسع لاحتمال الآخرين مسالمًا إن أمكن جميع الناس.
يعلق القديس ديديموس الضرير على قوله "في أبوابكم"، بقوله إن مجالس القضاء القائمة على الحق الممتزج بالسلام تكون عند الأبواب لتفرز الداخلين إلى المدينة من الذين يحرمون منها. وكأن السلام لا يعني المجاملة على حساب الحق أو التهاون مع الشر، وإنما فيما يتسع القلب بالحب يلزم ألاَّ يدخل المدينة المقدسة شيء دنس أو رجس!
لنحب الجميع ونفتح قلوبنا للسلام مع الكل، لكن لا نفتح أبوابنا الداخلية للشر والخطية مجاملة للآخرين!
رابعًا: لا يفكرن أحد في السوء على قريبه في قلوبكم، بمعني النسيان الداخلي لكل إساءة صنعها قريب معنا أو عدم إساءة الظن في تصرفاته. يقدم لنا يوسف الصديق مثلاً حيًا لهذه الفضيلة ففي اتزانه يدرك ما فعله به إخوته لكن قلبه يرى ما وراء تصرفات إخوته: يد الله العاملة لخلاصه وخلاصهم، لهذا باتساع قلب قال لهم: "لإستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم" (تك 45: 5) "أنتم قصدتم ليّ شرًا، أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعبًا كثيرًا" (تك 50: 20).
إذ يدرك الإنسان المقاصد الإلهية تستريح نفسه جدًا في كل شيء، ويتسع قلبه بالسلام لكل أحد حتى لمقاوميه، فلا يقاوم الشر بالشر بل بالخير والحب.
خامسًا: أخيرًا يسألهم ألاَّ يحبوا يمين الزور الذي يكرهه الرب، إذا أوصانا: "لا تنطق بإسم الرب إلهك باطلاً" (خر 20: 7).
4. الأصوام تتحول إلى أعياد:
"إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا إبتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة، فأحبوا الحق والسلام" [18-19].
كانت حياتهم الماضية قد إتسمت بالصوم مع النوح بسبب ما حلّ بهم من تأديبات بسبب خطاياهم، والآن إذ يحل الرب في وسطهم ويعلن سكناه فيهم يحولّ قلوبهم إلى الفرح وحياتهم إلى عيد لا ينقطع هكذا المسيحي الحقيقي وسط أصوامه وآلامه إذ يدرك حلولّ الله فيه لا ينقطع عنه الفرح الداخلي ولا يتوقف العيد عن حياته.
في الأصحاح السابق تحدثنا عن الصوم بكون ليس مجرد إمتناع عن الطعام بل توقف عن الشر مع التمتع بالسيد المسيح خبز الحياة. هذا عن الصوم الروحي أما بالنسبة للعيد فيقول القديس أثناسيوس الرسولي[50]: [إن يسوع المسيح الذي هو الطريق والباب وكل شيء بالنسبة لنا فهو أيضًا "عيدنا" كقول الطوباوي بولس: "لأن فصحنا المسيح قد ذُبح" (1 كو 5: 7)]. وكما أن الصوم ليس مجرد إمتناع عن الأطعمة هكذا العيد ليس أكلاً وشربًا بل حياة مفرحة في الرب. يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [ليتنا لا نعيد العيد بطريقة أرضية بل كمن يحفظ عيدًا في السماء مع الملائكة... لنفرح لا في أنفسنا بل في الرب، فنكون مع القديسين[51]]. [ليتنا لا نقف عند مجرد تنفيذ الطقوس الخاصة بالعيد بل نستعد للإقتراب للحمل الإلهي ونلمس الطعام السماوي[52]].
5. إقامتهم بركة للأمم:
الله لا يقبل أنصاف الحلول، إما أن يكون لعنة لنفسه كما لغيره أو بركة لنفسه كما لإخوته، إذ يقول: "ويكون كما أنكم كنتم لعنة بين الأمم يا بيت يهوذا ويا بيت إسرائيل كذلك اخلصكم فتكونون بركة" [13]. وها هو يفسر لهم كيف يكونون بركة، إذ يقول: "فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم وليترضوا وجه الرب... في تلك الأيام يُمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم يتمسكون بذيل رجل يهودي، قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم" [22-23].
أولاً: إذ حلّ غضب الله بهم وتم السبي صاروا لعنة بين الأمم، أما علامة هذه اللعنة فهي خراب أورشليم حتى في أيام العيد، وكما يقول أرميا راثيًا صهيون: "طرق صهيون نائحة لعدم الآتين إلى العيد، كل أبوابها خربة، كهنتها يتنهدون" (مرا 1: 4). وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [كيف لا تكون طرق صهيون نائحة إذ لا يأتيها أحد ولا يوجد من يسرع في الصعود إلى أورشليم للاحتفال بالعيد والاجتماع هناك...؟!]. أما وقد تحولت من اللعنة إلى البركة فقد إجتذبت شعوب كثيرة إليها لكي تتمتع بالعيد وتفرح بالرب. يقول زكريا النبي: "فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم". ولما كانت أورشليم تعني "رؤية السلام" فإن علامة البركة هي إجتذاب الكثيرين للتمتع بهذه الرؤيا الروحية للمصالحة على الصليب ونوال السلام مع الله.
ثانيًا: يعلق القديس ديديموس الضرير على القول: "أنا أيضًا أذهب". بأن النبي وهو يري جموع الشعوب والأمم قادمة من أورشليم إلتهب قلبه شوقًا، واشتهي أن يكون بين هؤلاء القادمين، معلنًا ذلك بقوله: "أنا أيضًا أذهب". كما يرى أن المتحدث هنا هو المخلص، الذي يعلن دخوله أورشليم متقدمًا هذه الشعوب بروح النصرة، قائلاً: "أنا قد أنهضته بالنصر وكل طرقه أُسهل، هو يبني مدينتي، ويطلق سبيي لا بثمن ولا بهدية قال رب الجنود" (إش 45: 13). إذ يفتح الباب، باب النصرة والغلبة، ويبني المدينة المقدسة الداخلية، ويحرر النفس من سبيها لا بثمن مادي ولا بهدية أرضية بل بدمه الثمين تطلب الشعوب والأمم الرب وتدخل أورشليم الجديدة لتسترضي الرب، هؤلاء الذين قال عنهم الرسول: "قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ، أورشليم السماوية، وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات" (عب 12: 22-23).
ثالثًا: لا يقل الرب أنه يباركهم وإنما ما هو أعظم: "تكونون بركة" بهم تتبارك الأمم، وفي صفنيا يقول أنهم يصيرون "تسبحة في شعوب الأرض كلها" (صف 3: 20)، وفي ميخا يصيرون "كالندى من عند الرب" (مي 5: 7). فمن يحمل الرب في قلبه يحمل بركة للآخرين، ويكون تسبحة فرح تبتهج قلوبهم في الرب، يصيرون كالندى السماوي تطفئ لهيب نار العالم المهلك!
رابعًا: يختم حديثه عن البركة أن يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم بذيل رجل يهودي قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم. هذه صورة العروس القائلة في النشيد: "اجذبني وراءك فنجري"، فإذ تنطلق نحو عريسها تحمل معها عشرة أشخاص تقتنيهم للرب بحياتها المقدسة وشهادتها للرب. هذا من جانب ومن جانب آخر فإننا نحن الذين كنا قبلاً من الأمم لا ننكر أننا قد إستلمنا منهم العهد القديم بما حواه من الشريعة والنبوات كطريق لمعرفة الخلاص في المسيح يسوع. نحن مدينون لهم بقبول الإيمان بالمسيا المخلص.
يري القديس ديديموس الضرير أن هذا اليهودي الذي يمسك بذيله عشرة رجال من كل الأمم إنما هو السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا (عب 7: 14)، وكما قيل بإشعياء النبي: "ويكون في ذلك اليوم إن أصل يسي القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا" (إش 11: 10). إنه موضوع إنتظار لا لأمة واحدة بل لكل الأمم.
أما عدد عشر فيُشير في رأي القديس ديديموس الضرير إلى المؤمنين الذين صاروا عشر عذارى (مت 25: 1)، لهم خمس حواس للجسد مقدسة وخمسة حواس داخلية مقدسة. هذه كما أن المؤمنين يحملون إسم "يسوع المسيح"، بداية إسمه حرف "يوتا" وهو يعادل رقم 10 في اللغة اليونانية.
الباب الثالث
إسرائيل والعصر المسياني
1. إسكندر الأكبر والمكابيون [ص 9]
2. إنتظار الملكوت المسياني [ص 10]
3. رفض الراعي الصالح [ص 11]
4. أورشليم الجديدة والعصر المسياني [ص 12-14]
الأصحاحات الثمانية الأولي تمثل وحدة واحدة غايتها تشجيع الشعب على إعادة بناء الهيكل، أما الأصحاحات الستة الأخيرة فتعالج نبوات تمس إسرائيل والأمم منذ كانت إسرائيل تخضع لحكم مادي وفارس (أثناء حياة زكريا النبي) إلى ظهور العصر المسياني. وقد سبق لنا في المقدمة عرض موجز لآراء بعض النقاد الذين حاولوا تمزيق وحدة السفر بنسب الأصحاحات الستة الأخيرة لغير زكريا النبي سواء قبله أو بعده، وقد جاء التقليد اليهودي كما المسيحي يعلنان وحدة السفر ونسبة لزكريا النبي.
الأصحاح التاسع
الحكم المقدوني
(إسكندر الأكبر والمكابيون)
عندما كتب النبي هذا السفر كانت المتاعب الأولي التي واجهت القادمين من السبي فعادة بناء بيت الرب كادت أن تنتهي، لكنهم كانوا يشعرون أنهم في خطر بسبب المدن القوية المحيطة بهم من الشمال كصور ومن الجنوب كأشقلون وغزة وعقرون هذه التي تمثل ضغطًا عنيفًا عليهم، لهذا شجعهم النبي بالحديث عن غزو قادم يكتسح هذه المدن القوية مع ترفق بأورشليم وكل اليهودية، وكان في ذلك يتنبأ عن فتوحات الإسكندر الأكبر.
1. انتصارات إسكندر الأكبر [1-8].
2. المسيا الملك الروحي [9-12].
3. انتصارات المكابيين [13-17].
مقدمة:
إذ يرى كثير من النقاد أن ما ورد بهذا الأصحاح يمثل صورة حية لفتوحات إسكندر الأكبر وموقفه من اليهود وما تبع ذلك من انتصارات للمكابيين الأمر الذي جعلهم يرفضون الرأي القائل بأن هذا الجزء سُجل قبل زكريا النبي، لكنهم ظنوا أنه كُتب كسجل تاريخي بعد الأحداث أي بعد عصر زكريا النبي. هذا الرأي وإن كان يرد على أصحاب الرأي القائل بأن سُجل قبل زكريا لكنه لا يعني أنه كُتب قبل عصر زكريا، لأن الكاتب لا يسجل تاريخًا حدث في الماضي وإنما نبوة تحققت بعد كتابته.
1. انتصارات إسكندر الأكبر:
يقدم وحيًا هو نبوة تحمل تهديدًا ضد الأمم المقاومة وطمأنينة للمتكلين على الله.
أولاً: موقف الإسكندر الأكبر من مدن سوريا وفينقية: "وحي كلمة الرب في أرض حدراخ ودمشق محله، لأن للرب عين الإنسان وكل أسباط إسرائيل، وحماة أيضًا تتاخمها وصور وصيدون وإن تكن حكيمة جدًا، وقد بنت صور حصنًا لنفسها وكوّمت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق، هوذا السيد يمتلكها ويضرب في البحر قوتها وهي تؤكل بالنار" [1-4].
لقد هزم إسكندر الأكبر عددًا من مدن سوريا منها حدراخ التي على نهر الأورونت ليست ببعيدة عن حماة، لكنه عينيه كانتا على دمشق العاصمة. وقد كان الرعب والدهشة بسبب انتصاراته قد سحبت أعين بني إسرائيل إلى الله تطلب منه العون الإلهي. أما بالنسبة لحماة وهي بجوار دمشق فقد سقطت أمامه.
بعد سوريا دخل إسكندر فينيقية فأخضع صور الغنية جدًا بتجارتها حتى كانت الفضة بالنسبة لها كالتراب والذهب كالطين بلا ثمن، فقد إضطر سكانها أن يتحصنوا في جزيرة مقابل صور لكن الإسكندر أحرق المدينة القديمة بالنار وألقي بحجارتها في البحر لإنشاء رصيف عبر به إلى الجزيرة يحاصر حصونها فانهارت أمامه.
ويرى القديس ديديموس الضرير في دمشق وغيرها من بلاد سوريا صورة رمزية للأمم المقاومة للحق التي عادت فقبلته، إذ قيل هنا "هوذا السيد يمتلكها"... إنه يردها من وحشيتها الأولى إلى وداعته. أما صور فبسورها الضخم الذي تحصنت فيه تُشير إلى الهراطقة الذين يتحصنون بمناقشات سوفسطائية كحصون لهم، لكن الله يعمل أيضًا لإخضاعهم للإيمان الحق.
صور في الحقيقة تمثل الإنسان الذي إستغني (رؤ 3: 17) فظن أنه قادر بذاته أن يتحصن وبماله أن يشبع؛ لكنه وهو يجمع الفضة تصير بالنسبة له ترابًا، وفيما هو يخزن الذهب يصير بالنسبة له طينًا. تتحول كلمة الله بالنسبة له وهي فضة في ذاتها إلى تراب بسبب فكره الأرضي، وتتحول الحياة الروحية وهي سماء في ذاتها إلى طين بسبب إنحداره إلى الماديات. إنه يسقط في البحر الذي يرمز إلى دوامات العالم وعواصف القلق والغم، ويؤكل بالنار المهلكة، إذ تحطمه الخطية وتبدد حياته وممتلكاته! مسكين هو هذا الإنسان الذي يظن في نفسه أن حكيم جدًا كما ظنت صور، فأفسدت فضتها وذهبها وألقت بنفسها في بحر محبة العالم وأتون الخطية المهلك!
ثانيًا: موقف الإسكندر من مدن فلسطين: "وترى أشقلون فتخاف وغزة فتتوجع جدًا وعقرون لانه يخزيها انتظارها..." [5]. يذكر في هذه العبارة وما تلاها أربع مدن فلسطينية (أشقلون، غزة، عقرون، أشدود) ولم يذكر المدينة الخامسة من المدن الرئيسية "جت" ربما لأنها لم تقم بعد أن سقطت على يد عزيا (2 أي 26: 6). لقد خافت أشقلون وتوجعت غزة جدًا وأيضًا عقرون إذ رأوا ما حل بصور المدينة العظيمة المحصنة فأدراكوا الخطر الذي يحل بهم.
هذه المدن الأربع "أشقلون، غزة، عقرون، أشدود" إنما تُشير إلى العالم بجهاته الأربع وقد إمتلأ بالعالم الوثني متشامخًا، لكنه يعود ويرجع إلى الرب المخلص وينعم بالخلاص. كما تُشير هذه المدن إلى الإنسان الترابي المرتبط بالأرض (جهات المسكونة الأربع) وقد عاد إلى مخلصه يحمل السمة الروحية.
"أشقلون" كلمة عبرية مشتقة من "شاقل" أي وزن[53]، و "غزة" تعني "عزة" أو "قوة"، و "عقرون" تعني "عقر"، "أشدود" تعني "متشدد أو مخرب"[54].
فأشقلون تُشير إلى النفس المعتدة بوزنها وقياسها، إذ تحلّ بها مخافة الرب تدرك ذاتها وترجع إلى الرب ليكون هو كل شيء بالنسبة لها، وكما يقول المرتل أن خائفي الرب "لا يعوزهم شيء من الخير" (مز 34: 10).
وغزة تتوجع جدًا [5] فما كانت تحسبه عزة وقوة تراه كلا شيء، فتقبل الرب نفسه عزتها وقوتها ومجدها الداخلي.
وعقرون إذ تدرك عقرها ترجع في إنسحاق إلى الرب مخلصها فيهبها أولادًا (ثمارًا روحية) مباركين، وكما يقول المرتل: "المسكن العاقر في بيت أم أولاد فرحة" (مز 113: 9)، وكما قيل: "العاقر ولدت سبعة وكثيرة البنين ذبلت" (1 صم 2: 5). هذه هي كنيسة الأمم التي كانت عاقرًا فولدت الكثير بينما جماعة اليهود أصحاب المواعيد والعهود ومنهم الآباء والأنبياء ذبلت بسبب رفضها للمخلص. يقول إشعياء النبي: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من ذات البعل" (إش 54: 1). وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [إن "البعل" هنا هو الناموس، فالأمم الذين كانوا بلا ناموس موسى إمتلأت فرحًا بالخلاص، واليهود الذين كان لهم الناموس سقطوا في العمق الروحي.
أما "أشدود" فإذ تدرك تشددها المفسد وعمله المخرب ترجع إلى الرب وتصير خاضعة له. يسقط إلهها داجون أمام تابوت العهد (1 صم 5) وتنتهي مقاومتها لإعادة بناء أسوار أورشليم (نح 4: 7) لتتقبل كرازة الإنجيل بواسطة فيلبس (أع 8: 40) وتصير أسقفية تقوم بالكرازة بالخلاص.
يتحدث النبي عما يحدث في أشدود، قائلاً: "ويسكن في أشدود زنيم (أبناء غير شرعيين) وأقطع كبرياء الفلسطينين، وأنزع دماءه من فمه، ورجسه من بين أسنانه، فيبقي هو أيضًا لإلهنا ويكون كأمير في يهوذا وعقرون كيبوسي" [6-7]. وقد تحقق ذلك حرفيًا إذ كادت أشدود أن تفقد سكانها الوطنيين فقد كانت سياسة إسكندر الأكبر أن يمزج الشعوب المغلوبة معًا ليفقدها وطنيتها. أما نزع الدماء من الفم فيُشير إلى تركهم الوثنية حيث كانوا يأكلون الذبائح بدمها (حز 33: 25). وقد منعت الشريعة ذلك (لا 17: 10-11؛ أع 9: 4). لقد رجعت أشدود إلى الرب بقبولها الإيمان المسيحي وإرتدت لها كرامتها الأصلية فصارت كأمير في يهوذا، كما صارت عقرون أي العاقر كيبوسي أن تدوس محبة العالم تحت أقدامها.
ثالثًا: موقف الإسكندر من اليهود: "وأحل حول بيتي بسبب الجيش الذاهب والآئب فلا يعبر عليهم بعد جابي الجزبة. فإني الآن رأيت بعيني" [8]. لقد حلّ الرب حول بيته لكي لا يمسه جيش الإسكندر الأكبر في عبوره المتكرر بأورشليم، إذ لم يضر اليهود مع إنه أذل السامريين، يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن يادو رئيس الكهنة لاقي الإسكندر ومعه جميع الكهنة لابسين الثياب المقدسة وقد إرتدى رئيس الكهنة العمامة على رأسه والصفيحة الذهبية المكتوب عليها "قدس للرب"، فلما رآه الإسكندر سجد له وقال له أنه رأي حلم الإله الذي كان إسمه كان مكتوبًا على الصفيحة، ثم دخل أورشليم وقدم ذبائح وأعطى اليهود امتيازات خاصة.
يختم الرب حديثه هنا بقوله: "فإني الآن رأيت بعيني". وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [هذه الرؤية الواضحة هي قوة البصيرة التي يكتبها عنها الرسول: "كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا" (عب 4: 13)]... وكأن ما يعلنه الرب بالنبي مكشوف للرب مدبر خلاصنا!
2. المسيا الملك الروحي:
لئلا يظن البعض أن زكريا يهدف إلى الخلاص في العصر المقدوني، وأعطاء الرب نعمة لليهود في عيني الإسكندر إنتقل إلى الخلاص الحقيقي خلال الملك الوديع المخلص واهب السلام للعالم. إن عيني الله المفتوحتين تنظران عمله الخلاصي كعمل حاضر به تخلص البشرية، لذا يقول: "إبتهجي جدًا يا إبنة صهيون، إهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان، وأقطع المركبة من أفريم والفرس من أورشليم وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" [9-10].
لقد حرم شعب من أرضه زمانًا طويلاً وخضع تحت ملوك غرباء في السبي هوذا يأتيه ملكه الذي يبهج ابنة صهيون جدًا ويفرح قلب بنت أورشليم، هو ملك عجيب، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يقود مركبات كبقية الملوك، ولا يطلب جزية، ولا يطرد اناسًا، ولا يطلب حراسًا، إنما يسلك بوداعته العظيمة[55]].
سبق لنا في تفسير الإنجيل بحسب متي تقديم فكر آباء الكنيسة في تفسير هذا النص وما حمله الجحش والآتان من رموز حين ركبهما السيد عند دخوله أورشليم، وما حملته أورشليم من رموز إستقبالها للسيد بإبتهاج[56]. وهنا نلاحظ:
أولاً: يرى القديس ديديموس الضرير أن كلمة "صهيون" تعني "ملاحظ الوصايا أو منفذها"، أما أورشليم فتعني "رؤية السلام"، وكأن الذين ينعمون بالبهجة والتهليل بدخول السيد في حياتهم إنما هم منفذو الوصايا والمتمتعون برؤية السلام (خلال الصليب). يقول المرتل: "وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب، أمر الرب طاهر ينير العينين" (مز 119: 8). "بالأولى (تنفيذ الوصية) تبتهج النفس جدًا لمجيء الملك الحقيقي، وبالثانية (رؤية السلام) تهتف لأنها في موقف مرتفع جدًا تعلن عن مجيء ملك الملوك... الأولي أخذت أمرًا أن تبتهج والثانية أخذت أمرًا أن تعلن عنه!.
ليتنا نكون بحق بنت صهيون فنبتهج جدًا خلال ملاحظتنا للوصية الإلهية، ولنكن بنت أورشليم فنهتف معلنين الشهادة له خلال رؤيتنا للسلام الحقيقي الفائق في الرب المصلوب!
ثانيًا: إذ يدخل الرب المخلص الوديع إلى القلب يقطع المركبة الحربية من أفرايم والفرس من أورشليم وينزع قوس الحرب، فيحل السلام في داخله ويصير أفريم مثمرًا وأورشليم متمتعة بالسلام الحقيقي، مترنمًا: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فإسم الرب إلهنا نذكر؛ هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وإنتصبنا" (20: 7-8).
ثالثًا: يمتد سلطان الرب الملك على الأمم، من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض. لعله يقصد بالبحار الذين كانوا يشربون المياه المالحة خلال التعاليم الوثنية، أما النهر فيقصد به الشريعة المقدسة الموسوية، فيضم الأمم مع اليهود تحت سلطانه.
رابعًا: يقول: "وأنت أيضًا فإني بدم عهدك قد أطلقت أسراك من الجب الذي ليس فيه ماء، إرجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء، اليوم أيضًا أصرخ أني أرد عليك ضعفين" [11-12]. يبدو أن إسرائيل كجماعة من الفلاحين قد نقر كل جماعة منهم جبًا لأنفسهم وسط الصخور حتى متي وقت المطر يمتليء ماءً، فإذ جاء وقت السبي ودخلوا في حالة رعب هربوا من الأعداء إلى الجب الذي ليس فيه ماء فصاروا أسرى هناك. ولعل هذا الجب يشير إلى الذات البشرية التي يقيمها الإنسان بنفسه ليحبس نفسه بنفسه فيها، لكن الله يطلقه بعهد الدم المقدس، يطلقه من أنانيته وذاته ليحيا في كمال حرية الصليب. ويري القديس ديديموس الضرير في هذا الجب الذي بلا ماء الذي أُلقي فيه يوسف وأرميا ودانيال إلخ... إنما يُشير إلى الجحيم الذي بلا ماء الحياة الأبدية، فقد أطلقنا منه الرب لا خلال دم ثيران وتيوس وإنما من خلال دم العهد الجديد. إنه يدعونا للخروج من الجب للإنطلاق إلى الحصن الذي هو الكنيسة المجيدة التي بلا عيب ولا دنس (أف 5: 27). "هناك يجد المأسورين المسحوبين من الجب الذي بلا ماء راحة". ففي الكنيسة يجد أسري الرب "حصن للإستقامة طريق الرب" (أم 10: 29)، ويكون الرب نفسه حصنًا: "كن ليّ صخرة ملجأ أدخله دائمًا" (مز 71: 3)، "كن ليّ صخرة حصن بيت ملجأ لتخليصي، لأن صخرتي ومعقلي آنت، من أجل إسمك تهديني وتقودني" (مز 31: 2-3).
سادسًا: يرد الله للنفس مكافأة مضاعفة عوض أيام تعبها، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [من هو أسير للمسيح يستوطن في هذه المدينة ويجلس في الحصون المجيدة التي بها، ويحيا بلا خوف إذ ينتظر تعزيات مضاعفة وتشجيعًا عوض الحزن... ستكون المكافأة مضاعفة عن الضيقات السابقة، والمثل الواضح لذلك قصة أيوب الذي كانت له نفس قوية فنال مكافأة مضاعفة (أي 42: 11)]. إنه ينال مكافأة مضاعفة، إذ يتمتع بمئة ضعف في هذا العالم والحياة الأبدية في العالم الآخر؛ كما هي مضاعفة إذ ينال خلاص النفس مع الجسد أيضًا. وسر مضاعفتها كما يقول القديس ديديموس الضرير: [إن الذي في السبي إذ يرجع من سبيه لا يخلص فحسب وإنما يصير معلمًا لظالميه فيضاعف مجده مجدًا!].
3. إنتصارات المكابيين:
بعد أن تحدث عن إنتصارات إسكندر الأكبر وكيف أعطي الله نعمة لليهود في عينيه، ثم عاد فحدثنا عن الملك المسيا، يتحدث هنا عن "ياوان" أي اليونانيين، إذ غلبهم المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد (دا 11: 32؛ 8: 9-14)، وجاءت النبوة تؤكد أمرًا واحدًا أن الله هو سر نصرتهم.
يقول "أوترت لنفسي يهوذا" [13]؛ ما هو هذا السهم الخارج من يهوذا لينهض أبناء صهيون على بني ياوان إلاَّ السيد المسيح نفسه السهم الإلهي الخارج من سبط يهوذا لحساب أبناء الإيمان ضد إبليس وأعماله الشريرة؟! إنه كلمة الله الحيّ الفعّال الأمضى من كل سيف ذي حدين (عب 4: 12)، القائل: "جعل فمي كسيف حاد" (إش 49: 2).
إذ انطلق السهم لحساب خلاص البشرية ضد إبليس تجلي الرب في مملكته، وكما يقول النبي: "ويُرى الرب فوقهم وسهمه يخرج كالبرق والسيد الرب ينفخ في البوق ويسير في وزابع الجنوب، رب الجنود يحامي عنهم" [14-15]. لقد خرج السيد المسيح السهم الحقيقي كالبرق، يدخل إلى القلب فيجرحه بجراحات الحب، لتقول النفس: "إني مريضة حبًا" (نش 5: 8)، يحطم فيها أعمال إبليس ويبرق فيها ببهاء مجده. وكما جاء في حبقوق: "لنور سهامك الطائرة للمعان برق مجدك" (حب 3: 11). وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [القدس هو يهوذا... إذ يخرج منه السهم الإلهي كالبرق يستنير الإنسان الداخلي وتستنير عيون القلب]. وكما بالبرق يهب الرب إستنارة لعيني النفس، فنفخ البوق يهب أذنًا داخلية لسماع صوته الذي يدوي ليحذرنا من العدو إبليس ولكي يضمنا إلى الإحتفال بمجيئه المفرح، إذ كانت الأبواق تضرب عند الحرب كما في الأعياد.
هكذا هو يتنبأ عن النصرة على اليونانيين بواسطة المكابيين، يعلن نصرتنا الأبدية على إبليس بالمسيح يسوع السهم الإلهي الحق. وقد صوّر لنا هذه النصرة بقوله: "رب الجنود يُحامي عنهم، فيأكلون ويدوسون حجارة المقلاع ويشربون ويضجون كما من الخمر ويمتلئون كالمنضح وكزوايا المذبح، ويخلصهم الرب إلههم في ذلك اليوم كقطيع شعبه بل كحجارة التاج مرفوعة على أرضه. ما أجوده وما أجمله، الحنطة تنمي الفتيان والمسطار العذارى" [15-16].
إن كان الله قد إستخدم الوثنيين كحجارة مقلاع يصوبها الله نحو شعبه لتأديبهم فإنه إذ يرجع إليهم برحمته يجعل هذه الحجارة تحتهم يدوسونها بأقدامهم، هكذا بنفس الفكر إن كان الله يسمح لنا بتجارب أو ضيقات متنوعة إنما يستخدمها لنا لتأديبنا أو تزكيتنا، وفي محبته لا يجعلنا تحت التجربة ساقطين، إنما تسقط التجربة تحتنا ولا يكون لها سلطان علينا تفقدنا سلامنا الداخلي وفرحنا في الرب.
وكما أنه عند السبي شرب الشعب كأس غضب الله بالحزن والوجع، فإذ يترفق الله بهم يشربون كأس الفرح والبهجة!
أنه يهب النصرة لشعبه بكونه قطيعه الناطق، ويقيمهم كحجارة التاج مرفوعة على أرضه، ويحسب الترجمة السبعينية يقيمهم كحجارة مقدسة تتدحرج على الأرض. يعلق القديس جيروم على ذلك بقوله: [لاحظ قوله: "الحجارة المقدسة تتدحرج على الأرض"، فإنها عجلات تجري على الأرض مسرعة نحو الأماكن المرتفعة[57]]. كما يقول: ["لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت" (جا 3: 5). الآن أقام الله من حجارة الأمم الصلدة أولادًا لإبراهيم (مت 3: 9)، فصاروا حجارة مقدسة تتدحرج على الأرض (زك 9: 16)، عبرت خلال مروحة الهواء التي للعالم وتدحرجت في مركبة الله على عجلات سريعة[58]]. وعندما تحدث عن باولا Paula التي تنفق أموالها لا على مبانٍ حجرية بل على الفقراء قال: [أرادت أن تنفق أموالها لا على الحجارة التي تزول مع زوال العالم بل على الحجارة الحية التي تتدحرج على الأرض، والتي بها تبنى مدينة الملك العظيم كما جاء في سفر الرؤيا (21: 14)[59]].
خلال هذه النصرة الفائقة التي ترفع النفس إلى السماء كحجارة حية تتدحرج مرتفعة إلى أورشليم العليا، تشعر النفس بشبع روحي، إذ قيل "الحنطة تُنمي الفتيان والمسطار العذارى"... يقدم الله نفسه حنطة ومسطارًا ليشبع فتياننا وفتياتنا أي ليُنمي ثمار الروح فينا خلال تقديس النفس بكل طاقاتها (الفتيان) والجسد بكل أحاسيسه وعواطفه (العذارى).
الأصحاح العاشر
إنتظار الملكوت المسياني
إن كان الله قد وهبهم نعمة في عيني الإسكندر الأكبر، وأعطاهم نصرات متتالية في عصر المكابيين، لكن الحاجة إلى الدخول في الملكوت المسياني، حيث يأتي الملك الوديع واهب الخلاص ومانح السلام الداخلي للأمم، ففي هذا الملكوت ننعم بالآتي:
1. التمتع بالمطر المتأخر [1].
2. التمتع برعاية الله الشخصية [2-3].
3. التمتع بالنصرة وردّ الملك [4-12]
1. التمتع بالمطر المتأخر:
"اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر فيصنع الرب بروقًا ويعطيهم مطر الوبل، لكل إنسان عُشباً في الحقل" [1].
قديمًا بسبب الشر أوقف إيليا المطر ثلاث سنين وستة أشهر حتى يتأدب الكل وينزل المطر، وهكذا تحجب خطايانا فيض نعم الله الغزيرة علينا وتحرمنا من مطره الذي يحول البرية القاحلة إلى جنة تُفرح قلبه (نش 5: 1).
في دراستنا لسفر هوشع (6: 3) لاحظنا أنه في فلسطين يسقط مطر مبكر حيث تلقي البذار، ومطر متأخر به يتم نضج المحصول، المطر الأول يشير إلى عمل الروح القدس خلال الناموس والنبوات إلخ... قبل مجيء السيد، أما المتأخر فيشير إلى فيض حلول الروح القدس على كنيسة العهد الجديد، الذي أعلن عنه يوئيل النبي: "أسكب روحي على كل البشر" (يؤ 2: 28).
يمكننا القول أن المطر المبكر هو الناموس والنبوات التي منحها الرب لرجال العهد القديم، وأما المطر المتأخر فهو الكرازة بالإنجيل الذي يكشف أسرار الله ويهبنا معرفة عميقة ورؤيا للحياة الإلهية.
يرى القديس ديديموس الضرير أن المطر المبكر أيضًا يعني التعاليم الخاصة بتجسد المخلص أما المطر المتأخر فهو التمتع بأسرار لاهوته.
على أي الأحوال ليتنا لا نكف عن أن نطلب من الله بغير إنقطاع لكي يبرق في قلوبنا ببهاء مجده واهبًا إيانا مطره المتأخر ليسقي أرضنا بحبه الإلهي ويهبها ثمرًا متكاثرًا.
2. التمتع برعاية الله الشخصية:
إن كان الله يمطر على الصالحين والأشرار، لكنه لا يهب المطر الروحي إلاَّ لطالبيه، والآن لكي يتعهد قطيعه روحيًا يلزم لهذا القطيع أن يترك خداعات العرافة والسحر والأحلام التي للأنبياء الكذبة فيرعى هو شعبه.
"لأن الترافيم قد تكلموا بالباطل والعرافون رأوا الكذب وأخبروا بأحلام كذب، يغرون بالباطل، لذلك رحلوا كغنم. ذلوا إذ ليس راعٍ، على الرعاة إشتعل غضبي فعاقبت الأعتدة، لأن رب الجنود تعهد قطيعه بيت يهوذا وجعلهم كفرس جلاله في القتال" [2-4].
الترافيم عبارة عن تماثيل لآلهة يقيمونها داخل البيوت كحارسة لهم ولكي يستشيروها قبل كل تصرف. فإن الله لا يمكن أن يتسلم رعاية شعبه ماداموا يتكلون على الترافيم ويسألون العرافة ويلجأون إلى أحلام الأنبياء الكذبة، فإن هذه جميعها قد تهادن الإنسان وتخدعه بكلمات لطيفة مخادعة، لكن المتكلين عليها لا يسقطون في المذلة إذ هم بلا رعاية. والآن إذ يترك الشعب هذه الخداعات الباطلة يقوم الرب بعملين: يعلن غضبه على الرعاة الفاسدين ويتسلم هو الرعاية بنفسه، كما أكد في سفر حزقيال: "هأنذا أسأل غنمي وأفتقدها... أنا أرعى غنمي وأربضها يقول السيد الرب" (حز 234: 11، 15). إنه يُعاقب الأعتدة (الكباش) الشريرة ويتعهد قطيعه مقدمًا حياته فدية عنها (يو 10: 11). يهبهم حياته القادرة أن تقيمهم كفرس في موكب الخلاص، قادرون على القتال ضد إبليس وأعماله. وكما قيل: "هل على الأنهار حمي يارب، هل على الأنهار غضبك، أو على البحر سخطك حتى أنك ركبت خيلك مركباتك مركبات الخلاص؟!" (حب 3: 8).
3. التمتع بالنصرة وردّ المُلك:
ثمر رعاية الله الشخصية هو تمتعهم بالنصرة والأمان والفرح وردّ مُلك الله فيهم.
أولاً: "منه الزاوية، منه الوتد، منه قوس القتال، منه يخرج كل ظالم سريعًا" [4]. تظهر الرعاية الإلهية الحقة بتجلي السيد المسيح وسط شعبه كحجر زاوية يربط الكل معًا فيه، ويسند الجميع بروح واحد. يظهر فيهم أيضًا كوتد يسند خيمتهم الزمنية أي حياتهم المؤقتة فلا تحركها رياح التعاليم الغربية ولا عواصف محبة العالم وشهوات الجسد. هذا هو الوتد الإلهي الذي يسند الجسد (الخيمة) بتقديسه لحساب ملكوت الله. ويكون الرب أيضًا فيهم قوس قتال يصوبه المؤمن محاربًا الشر والخطية، فيُقال عنهم: "واحد منكم يطرد الفًا ويهزم إثنان ربوة" (تث 32: 30)، أما هم فكجنود للرب حاملين السيد المسيح سهمهم الحقيقي فيقولون: "أن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولات هذا العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 13).
أما قوله: "منه يخرج كل ظالم سريعًا" فيشير إلى عمله في كنيسته التي تقبله حجر الزاوية والوتد والقوس الروحي، إذ ينزع عنها الظالم والمفسد ليكون الكل فيها مقدسين به.
ثانيًا: "ويكونون كالجبابرة الدائسين طين الأسواق في القتال ويحاربون لأن الرب معهم والراكبون الخيل يخزون" [5]. هذا هو جبروتهم وهذه هي غلبتهم أنهم يدوسون طين الأسواق فلا يكون كصاحب الوزنة الذي دفنها في التراب (مت 25: 18)، إنما بالرب السماوي يرتفعون فوق كل فكر مادي محلقين في السماويات، مهما بدا هذا الفكر عنيفًا كراكبي الخيل.
يميز القديس ديديموس الضرير بين راكبي الخيل والفرسان؛ فراكبو الخيل هم الذين يمتطونها دون ضبطها بلجام، فإن كانت الخيل تُشير إلى الجسد فإن النفس تمتطي الجسد وتتركه في جموحه وعناده، لذا تخزى هذه النفس بسبب شهوات الجسد. كما تُشير الخيل إلى الأفكار السوفسطائية المتعجرفة تمتطيها النفس فتسقط في الكبرياء وتُحرم من الخلاص. عن راكبي الخيل قيل: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15: 1)، "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل أما نحن فإسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 7)، "باطل هو الفرس لأجل الخلاص" (مز 33: 7). هذا بالنسبة لراكبي الخيل أما الفرسان فيشيرون إلى من يمتطي الفرس أو الخيل ضابطًا إياه بلجام، فقد قيل لإيليا النبي: "يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها" (2 مل 2: 12).
ثالثًا: يعوضهم عن السنين التي أكلها الجراد، فعوض الخسائر التي لحقت بهم يوم رفضهم الرب ينالون بركات عظمى تغطي الخسائر السابقة، إذ يقول: "وأقوي بيت يهوذا وأخلص بيت يوسف وأرجعهم، لأني قد رحمتهم ويكونون كأني لم أرفضهم لأني أنا الرب إلههم فأجيبهم" [6]. لماذا يتحدث عن بيت يهوذا وبيت يوسف؟ لأنه من البيت الأول خرج يسوع واهب الخلاص، ومن البيت الثاني ظهر يوسف رمز المسيح الذي قدم القمح بعد أن سحقهم الجوع والقحط (تك 41: 56). فإن كان إسرائيل قد مرت به سنوات قحط فيوسف الحقيقي يشبعهم كقول القديسة مريم: "أشبع الجياع خيرات" (لو 1: 53). إنه الرب إلههم الذي يجيب سؤالهم ويشبع إحتياجاتهم، فلا يعودون يذكرون الماضي بمجاعته الروحية القاسية لأن أفراح الحاضر تغطي على كل أحزان الماضي. لذا يقول: "ويكون أفرايم كجبار ويفرح قلبهم كأنه خمر" [7]. هذه هي سمة العصر المسياني: فرح الروح القدس الذي لا يستطيع العالم أن ينزعه من القلب!
هنا يذكر أفرايم كجبار مملوء فرحًا، ربما إشارة إلى مملكة الشمال التي عاشت في السبي مدة أطول من يهوذا لذا أكدّ مساندته لها. وربما قصد سبط أفرايم بالذات لأنه العنيف الذي كان المحرض الأول لفساد مملكة الشمال، خاصة وأن يربعام الذي حرض الأسباط العشرة على الثورة ضد يهوذا كان أفرايمي (1 مل 11: 26؛ 12: 2)، وهو الذي أقام العبادة الوثنية في إسرائيل (1 مل 12: 25-33). الآن يؤكد الرب لافرايم أنه يصير كجبار روحيًا ويمتلئ قلبه فرحًا.
رابعًا: يجمع شتاتهم وينميهم في حضنه: "أُصفر لهم وأجمعهم لأني قد فديتهم ويكثرون كما كثروا "[8]. إنه كالنحّال الذي يُصفر لنحله المشتت لجمع العسل من المروج والبساتين. إنه يضمهم إليه ويهبهم بالبركة أن ينموا ويكثروا كما سبقوا فأكثروا، بمعنى أنه إن كان قد إهتم بهم وهم تحت التأديب، تحت عبودية فرعون فكانوا ينمون بقدر ما أذلوهم (خر 1: 7) أفليس بالأولى يُنميهم ويكثرهم حين يفديهم من العبودية؟!
إنه يُحقق فيهم وعده لإبراهيم أب الآباء: "لأني أجعلك أبًا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرًا جدًا وأجعلك أممًا" (تك 17: 5-6)، وكما قيل في إشعياء: "الصغير يصير ألفًا والحقير أمة قوية" (إش 60: 22). وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لو أخذت هذه الكلمات بطريقة حرفية لظهرت صعبة فإن كثير من القديسين لم يكن لهم أولاد قط مثل إيليا وأليشع ويوحنا المعمدان الذي لم يبلغ إليه أحد في الفضيلة ومعرفة الأسرار المقدسة (مت 11: 11) ومع ذلك لم يكن له أولاد لذا يجب أن نفهم ذلك روحيًا]. فمن جهة أخرى يكون لهم أولاد في الروح كالذين ولدهم بولس في الإنجيل (1 كو 4: 15)، الذين تمخض بهم حتى يتصور المسيح فيهم (غلا 4: 19)، أو الذين يدعوهم بطرس الرسول: "أولاد الطاعة" (1 بط 1: 14)، ومن جهة أخرى يكون لهم أولاد في القلب أي ثمار الروح القدس المعلنة فينا كأولاد يفرحون قلب الله!
خامسًا: إذ يرجعهم إليه لينموا ويثمروا بالروح القدس يعود فيزرعهم بين الشعوب كبذار حية تدفن في الأرض لتأتي بثمر كثير، إذ يقول: "وأزرعهم بين الشعوب فيذكرونني في الأراضي البعيدة ويحيون مع بنيهم ويرجعون، وأرجعهم من أرض مصر وأجمعهم من أرض أشور وآتي بهم إلى أرض جلعاد ولبنان ولا يوجد لهم مكان، ويعبر في بحر الضيق ويضرب اللجج في البحر وتجف كل أعماق النهر وتخفض كبرياء أشور ويزول قضيب مصر، وأقويهم بالرب فيسلكون بإسمه يقول الرب" [9-12].
يا لها من صورة حية ومفرحة لعمل الله فيهم، فبعد أن يجمعهم من سبي الخطية ويردهم إليه، يلقيهم كبذار حية وسط الشعوب ليشهدوا للخلاص في الأراضي البعيدة ويكون لهم أبناء روحيون في الرب. لكنهم لا يسلكون بروح العالم إنما ترجع قلوبهم عن أرض مصر الرمزية أي محبة العالم، ويجمعهم الرب من أشور أي من روح الكبرياء وينطلق بهم إلى أرض جلعاد ولبنان، ولئلا يُفهم ذلك ماديًا قال: "ولا يوجد لهم مكان"، إذ هم في حالة هجرة مستمرة وإنطلاقة دائمة من قوة إلى قوة ومن مجد إلى مجد، مرتفعة قلوبهم في السمويات، وليس لها مكان في الأرض!
يعلق القديس ديديموس الضرير على هذه العبارة بكونها إعلانًا عن الهجرة الروحية للإنسان المؤمن: [الذي يعبر من الرذيلة إلى الفضيلة. هذا هو بالحق تغيير البلد، تغيير من الخطية إلى البرّ، ومن الشر إلى التقوى... ويسير من فضيلة إلى فضيلة (مز 83: 8)، ويعبر من ظل الناموس حيث الحرف الذي يقتل ليبلغ الروح الذي يُحيي (2 كو 3: 6)]... ويري القديس ديديموس أن الهجرة إلى لبنان الروحية إنما هي هجرة إلى حالة التأله بمعنى التمتع بسمات الرب يسوع، حيث تدخل النفس إلى الكنيسة المجيدة المقدسة التي "لا دنس فيها و لا غضن أو شيء من مثل ذلك" (أف 5: 27)، فيُقال عنها: "رائحة ثيابكِ كرائحة لبنان" (نش 4: 11).
إذ يدخل بهم إلى لبنان الجديد أي الحياة الكنسية المقدسة، يعبر بهم في بحر الضيق، كالسمك الحيّ الذي يختفي في المياه مع كل إضطراباتها والبحر بكل أمواجه دون أن تفقده حياته... إنهم يدخلون إلى الضيق في هذا العالم لكن لا يستطيع لجج العالم أن تبتلعهم ولا أعماق النهر أن تسحبهم! إنما يخرجون من كل ضيقة أكثر قوة معلنين ملكوت الله في داخلهم، لذا يختم حديثه عن بركات هذا العصر بقوله: "وأقويهم بالرب فيسلكون بإسمه يقول الرب" [12].
الأصحاح الحادي عشر
رفضهم الراعي الصالح
"أثناء الحكم الروماني"
ينتقل النبي من عصر المكابيين حيث الإنتصارات بذراع إلهي إلى العصر الروماني حيث يظهر المسيا واهب النصرة، لكن اليهود يرفضونه ويتهمونه كخائن وطني ضد قيصر، مصرين أنه ليس لهم ملك إلاََّ قيصر. وتظهر بشاعة الخيانة مجسمة في تصرفات يهوذا الذي أسلم سيده بثلاثين من الفضة. هذه صورة مُرّة لرفضهم الراعي الصالح وقبولهم "ضد المسيح" راعيًا لهم.
1. مرثاة على الرافضين [1-3].
2. تدميرهم لأنفسهم [4-6].
3. حرمانهم من النعمة [7-11].
4. خيانتهم للمسيا [12-14].
5. قبولهم ضد المسيح [15-17].
1. مرثاة على الرافضين:
رفض إسرائيل للسيد المسيح حوّلها إلى خراب شامل، لذا يُرثيها النبي، قائلاً: "إفتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك، ولول ياسرو لأن الأرز سقط، لأن الأعزاء قد ضربوا، ولول يا بلوط باشان لأن الوعر المنيع قد هبط، صوت ولولة الرعاة لأن فخرهم خرب، صوت زمجرة الأشبال لأن كبرياء الأردن خربت" [1-3].
ويلاحظ في هذه المرثاة:
أولاً: أن الخراب يحمل أبعادًا ممتدة وشاملة فيصيب لبنان وباشان والأردن، وكأن رفض اليهود للسيد المسيح أسقطهم تحت ضربة ممتدة شبه جماعية، إذ صرخوا "دمه علينا وعلى أولادنا". ولا يقف الشمول من جهة المواقع وإنما شمل أنواع الشجر من أزر يحرق بالنار وسرو يولول وأيضًا البلوط، كما يسقط شجر الوعر إلخ...
ثانيًا: يدعو الطبيعة للحزن على الإنسان الذي جحد خالقه ورفض عمله الخلاصي بل وخانه من أجل ثلاثين من الفضة.
ثالثًا: ما يذكره هنا تحقق حرفيًا إذ كان من عادة الأعداء عند إستيلائهم على أرض خصبة كأرض الموعد يقطعون أشجارها للإنتفاع بخشبها أو يحرقونها بالنار بقصد التدمير والتخريب.
رابعًا: من الجانب الرمزي إلى ماذا تُشير لبنان في قوله: "افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك؟" لقد دخل الأعداء إلى لبنان من أبوابها أي خلال مداخل الجبال التي تؤدي إلى المدينة، لكي يحطموا أرزها الذي تعتز به. وقد رأينا لبنان روحيًا في الأصحاح السابق تُشير إلى الهجرة إلى الكنيسة المقدسة لتحمل فينا رائحة المسيح الذكية، فيقال: "رائحة ثيابك كرائحة لبنان" (نش 4: 11). وكما تُشير لبنان إلى الكنيسة المخصبة الحاملة لسمات السيد ورائحته وثمر روحه القدوس، فإنها من جانب آخر كما يقول القديس ديديموس الضرير تُشير إلى الوثنية (الإرتداد عن الإيمان) والتشامخ، إذ يقول: [بالفعل عندما يدعو العريس في نشيد الأناشيد كنيسة المنتصرين يقول لها: هلمي معي من لبنان يا عروس (نش 4: 8)... تاتي إلى ذاك الذي يدعوها من الجهالة وعدم الإيمان إلى المعرفة المقدسة والإيمان الكامل[60]].
خامسًا: ما يحل بالأرز والسرو والبلوط والوعر إنما يُشير إلى الجماعات اليهودية الرافضة للمسيا المخلص، كما تُشير إلى الخطايا التي تكمن في النفس تدفع الإنسان إلى الحرمان من التمتع بالخلاص. فيري القديس ديديموس الضرير في الأرز المتشامخ إشارة إلى جماعة المتكبرين أو إلى شيطان الكبرياء، إذ يقول: [جاء في إشعياء ضد هذه الأشجار العقيمة غير المثمرة: "فإن لرب الجنود يومًا على كل متعظم وعالٍ وعلى كل مرتفع فيوضع" (إش 2: 12)، وبعد قليل يقول: "وعلى كل أرز لبنان العالي المرتفع وعلى كل بلوط باشان" (2: 13). هذه الأشجار البرية تنبت على الكبرياء... ستؤكل بالنار الفاسدين الحريصين كقول إشعياء نفسه: "ويسقط لبنان بقدير" (10: 34)]. ويري القديس ديديموس أيضًا أنه إن كان الأرز يُشير إلى كبرياء العظماء، فإن السرو وهو شجر صغير الحجم يُشير إلى الخاضعين لهم؛ إن كان الأرز يُشير إلى الحكماء والفهماء في أعين أنفسهم فالسرو يُشير إلى الذين يسلكون فى تيارهم. لهذا عندما تأكل النار الأرز ينوح السرو لسقوط الجبابرة الذين هم سادتهم أمام أعينهم.
أما بالنسبة لبلوط باشان فيُشير إلى الغابات الكثيفة المملوءة اشجارًا مورقة لكنها بلا ثمر، فهي تمثل المرائين الذين لهم مظهر التدين وينكرون قوته. أما الوعر فهو الشجر الذي يوجد في البراري وبلا ثمر أيضًا!
سادسًا: تحول النبي في حديثه إلى الرعاة الذين تركوا عملهم الرعوي وصاروا يولولون لأن الأشبال تزمجر لتفترس وليس من ينقذ، والأن الأردن بكبريائه بسبب الغابات الكثيفة والأشجار التي تختفي فيها الوحوش قد خرب.
هذه هي الخطوط العريضة للمرثاة التي وضعها النبي على كل نفس ترفض عمل الخلاص فيها، تنفتح أبوابها أمام العدو لتفقد كل أشجارها، تحزن الطبيعة عليها ويحلّ بها الدمار الروحي الأبدي.
2. تدميرهم لأنفسهم:
"هكذا قال الرب إلهي: إرع غنم الذبح، الذين يذبحهم مالكوهم ولا يأثمون وبائعوهم يقولون مبارك الرب قد إستغنيت، ورعاتهم لا يشفقون عليهم" [4-5].
إذ رفضوا المسّيا الحمل الذبيح من أجل بأنفسهم للهلاك والتدمير. صاروا برفضهم للخلاص بلا ثمن يذبحهم مالكوهم ولا يُحسب عليهم ذلك إثمًا إذ هم مستحقون الذبح؛ وإذا ما باعهم مالكهم إستراح منهم إذ كانوا يمثلون ثقلاً عليه، فعند البيع يقول: مبارك الرب قد إستغنيت. لعله بهذا يصوّر لنا حال اليهود بعدما رفضوا المخلص إذ تشتتتوا في بلاد كثيرة وتعرضوا لإضطهادات مُرّة، كل أمة تود الخلاص منهم كثقل عليهم.
العجيب أن الله يسمح للأشرار برعاة قساة لأجل تأديبهم إذ يقول: "رعاتهم لا يشفقون عليهم". فالرعاة هم من عند الله، إذ يرضى على شعبه يقول: "أعطيكم رعاة حسب قلبي فيرعونكم بالمعرفة والفهم" (أر 3: 15)، أي يقدمون لهم مراعى المعرفة والفهم أو مراعى الحكمة الإلهية التي من قبل الله (أف 4: 11، 1 كو 12: 28)؛ لكنه متي سخط على شعبه يتركهم لذواتهم فيرعون في مراعى "حكمة هذا الدهر" (1 كو 2: 6)، ويسلمهم لمرعى "الذهن المرفوض" (رو 1: 28)، ومرعى "أهواء الهوان" (رو 1: 26).
الرعاة الصالحون ينطلقون بالرعية إلى حضن الله فينعمون بالأمان، أما الأشرار فيدفعوهم إلى خارج الله فيهلكون، لذا يقول المرتل: "هوذا البعداء عنك يبيدون، تهلك كل من يزني عنك، أما أنا فالإقتراب إلى الله حسن ليّ، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك" (مز 73: 27).
لقد رفضوا الراعي الصالح المسّيا المخلص فحُرموا حتى من الرعاة الصالحين وأسلمهم الرب لرعاة لا تشفق على الرعية... إذ لم يعد يشفق هو نفسه عليهم، إذ يقول: "لأني لا أشفق بعد على سكان الأرض يقول الرب، بل هأنذا مسلم الإنسان كل رجل ليد قريبه وليد ملكه فيضربون الأرض ولا أنقذ من يدهم" [6]. لقد دعاهم "سكان الأرض"، فإنهم رفضوا المسُيا السماوي الذي جاء ليصعدهم من الأرض إلى السماء، فبقوا بقلوبهم في الأرض وحُسبوا "سكان الأرض" بل وحملوا فيهم طبيعة الأرض. هذه الطبيعة الترابية لا تحمل حبًا سماويًا ولا إتساع قلب بل كل رجل يسلم أخاه للضيق والظلم لهلاكه.
3. حرمانهم من النعمة الإلهية:
كانت العادة قديمًا أن يمسك الراعي عصوين، بالواحدة يضرب أي حيوان مفترس يهاجم القطيع وبالأخري يقود القطيع حتى لا ينحرف عن الطريق، لكن الرب يظهر هنا ممسكًا عصوين هما: نعمة أو جمال، وحبال أو إتحاد، فيقودنا بنعمته في مراعيه السماوية الخضراء كي لا يعوزنا شيء، ويقودنا بالإتحاد كي يربطنا جميعًا معًا فيه بروح الحب الإلهي.
ويري القديس ديديموس الضرير أن الله بهذين العصوين يقود اليهود كما الأمم كغنمة الناطق، كما تُشير العصوين إلى عمله كمخلص وكملك.
على أي الأحوال، برفض اليهود للملك المسيا قصف الرب عصا النعمة فحرموا من العون الإلهي وخسروا بركاته لأنهم نقضوا عهده. بهذا فقدوا رعايته المترفقة: "فقلت لا أرعاكم، من يمت فليمت، ومن يبد فليبد، والبقية فليأكل بعضها لحم بعض" [9]، ليس عن إستخفاف بالغنم وإنما من أجل تقديسه للحرية الإنسانية، فتركهم لأنفسهم بأنفسهم من نعمته.
يقول: "وأبدت الرعاة الثلاثة في شهر واحد وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضًا نفسهم" [8]. من هم هؤلاء الرعاة الثلاثة الذين أبادهم الرب وخسرهم اليهود؟ يرى القديس جيروم أن هؤلاء الثلاثة هم موسى وهارون ومريم الذين ماتوا قبيل دخول الشعب أرض الموعد[61]. ولعله يقصد برفضهم السيد المسيح خسروا رعايته الثلاثية ككاهن وملك وواهب النبوة، فحرموا من شفاعته الكفارية (كهنوته) وملوكيته كقائد غلب يدخل بهم إلى النصرة، وواهب النبوة يكشف لهم أسرار الحياة العتيدة. في القديم كان الملك غير الكاهن غير الرائي أو النبي، أما في المسيح فتجمعت هذه الثلاثة على مستوي فائق وفريد.
4. خيانتهم للمسيا:
لم يرد الله أن يقدم هذه الصورة القاتمة عما يصل إليه أهل الختان بسبب رفضهم للمسيا دون الكشف عن صورة هذا الرفض في عملية الخيانة التي يقوم بها يهوذا ضد سيده مقابل ثلاثين من الفضة، تمثل خيانة الشعب كله، إذ قيموه بثمن عبد يستحق الموت.
"فقلت لهم إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلاَّ فامتنعوا، فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة، فقال ليّ الرب: القها إلى الفخاري في بيت الرب" [12-13].
أولاً: ما هي الفضة التي قُدمت كثمن لخيانة الرب؟ يقول القديس ديديموس الضرير: [لنتناول الأجرة والفضة من الناحية الروحية. غالبًا ما تُشير الفضة إلى العلم الإلهي والكلمة الإلهية، كالقول: "كلام الرب كلام نقي فضة مصفاة في بوطة في الأرض ممحوصة سبع مرات" (مز 12: 6)، وجاء فى الأمثال: "لسان الصديق فضة مختارة" (أم 10: 2). هنا كلمة "لسان" تعني "كلام". لكن ليس كل كلمة "فضة" تؤخذ بمعني صالح، إذ يقول الرب عن كهنة اليهود الضالين: "صارت فضتك زغلاً" (إش 1: 22). هنا لا يتهم الفضة في ذاتها وإنما كلامهم المخادع، فيقول الرب عن الناطقين بهذا الكلام: "فضة مرفوضة يدعون، لأن الرب رفضهم" (أر 6: 3)، إذ رفض المخادعين للغيرة وكاسري الوصايا. بنفس الطريقة نفهم ما قيل في الأمثال إن الفضة المعطاة للخداع يجب أن تؤخذ على أنها قطعة من الفخار (أم 26: 23)، هذا هو كلام الذين لا يهتمون إلاَّ بالأرضيات (الفخار الترابي) الذين قيل عنهم بإشعياء: "صوتهم يأتي من الأرض" (إش 8: 19). إذن توجد أنواع من الفضة، فإذ قرر أهل الختان اجرة عن من تألم من أجلهم ثلاثين من الفضة (مت 20: 28؛ مر 10: 5؛ يو 10: 15)... دفعوا فضة مغشوشة... مقدمين كلام غش. وفي المسيحية أيضًا يوجد أُناس معتقداتهم خاطئة "السالكون في مكر والغاشون كلمة الله" (2 كو 4: 2)، يفهمون كلمة الله حسب أهوائهم. هؤلاء يجب أن نحذر منهم ونحسب أحاديثهم فضة مغشوشة[62]].
كأن اليهود وأصحاب البدع إذ يقدمون كلمات غاشة ومخادعة يبيعون السيد بفضة غاشة!
ثانيًا: حسبوه عبدًا فدفعوا الثمن ثلاثين من الفضة ثمن العبد (خر 21: 32). ولعل رقم 30 يرمز إلى تدنيس الحواس الخمسة، فإن كان رقم 6 يُشير إلى النقص[63] فإن رقم 5 (الحواس) مضروبًا في 6 ينتج 30. وكأن خيانة السيد المسيح ثمنها هو تدنيس حواسنا لحساب عدوه إبليس عوض تقديسها له.
ثالثًا: ماذا يعني بالفخاري الذي ألقيت فيه الفضة في بيت الرب؟ يرى القديس ديديموس الضرير إن الفضة الغاشة التي دفعت ثمنًا للسيد المسيح لخيانته تلتقى في بيت الكتاب المقدس الذي هو بيت الفخاري حيث النار الفاحصة فيفضح خداعاتهم ويكشف تعارضهم مع النبوات الخاص بالسيد.
رابعًا: إذ يتعامل الفخاري مع التراب والطين مع النار فإن إلقاء الفضة في بيت الفخاري يعلن عن طبيعة قلبهم الترابي الأرضي، لا يليق به أن يوضع في القصور أو الخزائن وإنما في التراب.
خامسًا: بهذا الثمن أُشتري حقل دعي "حقل الدم" أُستخدم لدفن الغرباء (مت 27: 7) إشارة إلى قبول الأمم حيث ندفن مع المسيح بثمن دمه لنقوم معه. يقول القديس جيروم: [ثمن المسيح هو موضع دفننا وقد دُعى الحقل "حقل دم"، إنه حقل دم اليهود لكنه موضع دفننا، لأننا نحن غرباء وأجنبيون وليس لنا موضع راحة. لقد صلب ومات ونحن دفنا معه[64]].
سادسًا: يختم حديثه عن رفض المسيا وخيانتهم له بالقول: "ثم قصفت عصاي الأخرى حبالاً (الوحدة) لأنقض الاخاء بين يهوذا وإسرائيل" [14]. ويري القديس ديديموس الضرير أن العصوين يجتمعًا معًا ويتحدا كعصاة واحدة كما جاء في (حز 37) عندما يرجع اليهود في آخر الدهور ويقبلوا السيد المسيح فيصيروا مع يهوذا (كنيسة العهد الجديد) واحدًا بدخولهم الإيمان.
5. قبولهم ضد المسيح:
إذ رفضوا السيد المسيح الراعي الصالح حُرموا من النعمة الإلهية والوحدة معًا في الرب بقصف العصوين وقبلوا الرعاية الزائفة التي لضد المسيح، إذ يقول: "خذ لنفسك بعد أدوات راع أحمق، لأني هأنذا مقيم راعيًا في الأرض لا يفتقد المنقطعين ولا يطلب المنُساق ولا يجبر المنكسر ولا يربي القائم، ولكن لا يأكل السمان وينزع أظلافها" [16].
يعلق القديس ديديموس الضرير على هذه العبارة، قائلاً: [الله الذي يتركهم في خزيهم أقام لهم راعٍ أحمق بلا خبرة في الرعاية، يهلك الذين إختاروه لهم راعيًا. لا يهتم بالضال الذي صار وحده بعيدًا عن القطيع ليرده، الذي إنفصل بضلاله. إنه لا يحافظ على شيء، ولا يبحث عن الذين تشتتوا، ولا يعتني بالمجروحين ولا يقود الأصحاء. غايته شريرة وليست للخير، يجري وراء منفعته الخاصة وطمعه فيلتهم اللحم وينزع أظلاف الذين تحت رعايته. إنه ليس كالرعاة الذين يهبهم الله، قائلاً: "وأعطيكم رعاة حسب قلبي يرعونكم بالمعرفة والفهم" (أر 3: 15). فإنه هل يمكن أن يكونوا إلاََّ رعاة صالحين من كأن رأسهم ذاك الذي يُعطي حياته للخراف بكونه الراعي الصالح (يو 10: 15)؟... فقد قيل "متى أُظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يُبلى" (1 بط 5: 4). الذين يرعون الخراف هكذا لا يتسلطون على من هم من نصيبهم (1 بط 5: 3)، أما الذين يأكلون لحم الخراف فيطلبون لذتهم الخاصة ظانين أنهم يجدون المجد في خزي اعمالهم. يأكلون بلا تمييز فتكون آلهتهم بطونهم (في 3: 19) ويكونوا عبيدًا لها لا عبيد للمسيح يسوع. عن هؤلاء يكتب الرسول: "لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم" (رو 16: 18)].
ماذا يعني بنزع الأظافر؟ الرعاة الصالحون يحفظون "وحدانية الروح برباط السلام" (أف 4: 3)، أما الأشرار فينزعون عن الرعية أظافرها كما تنزع عن الأصابع، أي يفقدونها وحدتها.
هذا هو ثمر شر الشعب، يتركه الرب لراع أحمق يبدده كما يبدد نفسه، إذ يقول "ويل للراعي الباطل التارك الغنم، السيف على ذراعه وعلى عينه اليمني، ذراعه تيبس يبسًا وعينه اليمني تكل كلولاً" [17]. وكما يقول القديس ديديموس الضرير عن هذا السيف الذي يحطم ذراع الراعي الأحمق وعينه اليمني: [كلمة الله تهدد خاصة الرعاة غير الصالحين... فيقول الرب في إشعياء "إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف" (1: 19-20)، كما يتحدث في أرميا عن السيف المنتقم: "إن يديّ على سكن الأرض" (أر 6: 12) كي يهلكوا... السيف المنتقم على ذراع (الراعي الأحمق) وعينه، أي يمس حاستي العمل والتأمل، فتيبس ذراعه إذ يصير عضوًا ميتًا، كما تُصاب عينه اليمني بالعمي...].
يرى القديس ديديموس في هذه النبوة عن ضد المسيح الذي له ذراع قوي خلال الآيات التي يصنعها (2 تس 2: 9)، وأما عينه اليمني فتُشير إلى خداعاته الفكرية إذ يدعي المعرفة الكاملة مع أنه كاذب (1 تي 6: 20) وقد حمل عليم الساحر رمزًا له، فكان يخدع بأعماله السحرية وأكاذبيه، فأبطلت أعماله وأصيب بالعمي فلا يبصر الشمس (أع 13: 10).
الأصحاحات 12-14
أورشليم الجديدة والعصر المسياني
بعد أن تحدث عن رفض اليهود للمسيا الملك والراعي الصالح، فصاروا بجحدهم له مرفوضين عاد ليتحدث عن يهوذا الجديد، أي الكنيسة التي ارتبطت بالخارج من سبط يهوذا، وقد حملت المسيا في داخلها كسرّ نصرتها على إبليس وأعماله الشريرة (رمز إليه بالأمم). ففي هذه الأصحاحات نجد حديثًا رمزيًا عن الحرب الروحية داخل النفس ليست ضد لحم ودم بل ضد إبليس نفسه، كما حوت نبوات خاصة بالسيد المسيح وعمله الخلاصي – خاصة الصليب والمعمودية – في حياة أورشليم الجديدة.
الأصحاح الثاني عشر: أورشليم الجديدة والشر.
الأصحاح الثالث عشر: جراحات الراعي.
الأصحاح الرابع عشر: الصليب والمعمودية في أورشليم الجديدة.
الأصحاح الثاني عشر
أورشليم الجديدة والشر
يركز نبوته على أورشليم الجديدة وبيت يهوذا، إذ صارت النفس بالمسيا المخلص مدينته أورشليم الروحية، واتحدت به فصارت منسوبة إليه كبيت يهوذا. خلال هذا المركز الجديد هاج الشر عليها ممثلاً في شخص الأمم الثائرة على أورشليم.
1. ثورة الأمم على أورشليم [1-3].
2. خلاص بيت يهوذا [4-9].
3. روح النعمة والتضرعات [10-14].
1. ثورة الأمم على أورشليم:
إذ تتقبل النفس مسيحها في داخلها تصير أورشليم الجديدة عضوًا في بيت يهوذا، وبقدر ما تنال من نعم تجد مقاومة من العدو (الأمم) وبسماح من الله لكي يكمل كأس شر الشرير ويتجلي الرب واهب النصرة في أولاده. خلال مضايقة العدو لأولاد الله، يصير الآخرون كأس ترنح للأول وحجرًا مشوالاً له ونارًا تحرقه، إذ يقول النبي: "يقول الرب باسط السموات ومؤسس الأرض وجابل روح الإنسان في داخله، هأنذا أجعل أورشليم كأس ترنح لجميع الشعوب حولها وأيضًا على يهوذا تكون في حصار أورشليم. ويكون في ذلك اليوم إني أجعل أورشليم حجرًا مشوالاً لجميع الشعوب وكل الذين يشيلونه ينشقون شقًا، ويجتمع عليها كل أمم الأرض" [1-3].
غالبًا ما يشير كأس الترنح إلى غضب الله حينما يشربه الإنسان فيفقد وعيه ويصير كمن هو في حالة ترنح بلا إتزان، لا يقدر أحد حتى من بنيه أو بناته أن يقوده أو يمسك بيده، وذلك كما جاء في إشعياء: "انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربت من يد الله الرب كأس غضبه ثقل كأس الترنح شربتِ مصصت، ليس لها من يقودها من جميع البنين الذين ولدتهم وليس من يمسك بيدها من جميع البنين الذين ربتهم" (إش 51: 17-18). وكما قيل بأرميا: "خذ كأس خمر هذا السخط من يدي واسق جميع الشعوب الذين أرسلك أنا اليهم إياها، فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا من أجل السيف الذي أرسله أنا بينهم" (أر 25: 15).
هكذا عندما يُريد الله أن يسقي هذه الشعوب (كرمز إبليس) كأس غضبه لكي يترنحوا يتركهم يمدون أيديهم على يهوذا فيسقطون تحت غضب الله مكيال كأسهم.
مرة أخرى يُشبه الله أولاده بالحجر المُشال، يحمله الأشرار لكي يلقون به إلى أسفل ويحطمونه، فإذا بهم ينشقون أو ينسحقون تحته.
2. خلاص بيت يهوذا:
"في ذلك اليوم يقول الرب أضرب كل فرس بالحيرة وراكبه بالجنون وافتح عيني على بيت يهوذا وأضرب كل خيل الشعوب بالعمي" [4].
يضرب الفرس وراكبه المقاوم لعمل الله في أولاده، أما الضربة فهي الحيرة والجنون والعمى، أي يفقد العدو سلامه واتزانه وبصيرته، بينما يفتح الرب عينيه على بيت يهوذا – كنيسته- فيكون لها قائدًا ومعينًا، به يصيب العدو بالعمى فيرتبك في حربه ويخسر المعركة.
يري القديس ديديموس الضرير أن الفرس هنا هي شيطان الخطأ والكذب والمكر، وراكبيها هم المروجون لهذه التعاليم الخاطئة المملؤة خداعًا. وأن ما يصيبها من عمي إنما هو حرمانها من شمس البر الذي يهب النور. كما يعلق على تفتح الله عينيه على بيت يهوذا، قائلاً: [بعد ذلك يفتح الله عينيه على بيت يهوذا الذي هو كنيسة الله الحيّ (1 تي 3: 15) حيث يملك المخلص الآتي من سبط يهوذا على الذين تلقوا من الله الحكمة، القائلين: "يهوذا إياك يحمد اخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك" (تك 49: 8)... على بيت يهوذا يفتح الله الساهر عينيه، أي قواته المنيرة الساهرة، فيتمتعون بالإستنارة والنعمة، ويصلي كل واحد قائلاً: "أنظر إليَّ و إرحمني" (مز 85: 16). هذه العطية يتمتع بها الصديقون جميعًا إذ "عينا الرب نحو الصديقين وآذانه إلى صراخهم" (مز 34: 15)].
ليس فقط يكون الله سرّ إستنارة لبيت يهوذا بينما يصيب العدو بالعمي، و إنما يكون أيضًا سرّ قوة لشعبه وتحطيمًا لإبليس عدوه، إذ "يقول أمراء يهوذا في قلبهم أن سكان أورشليم قوة ليّ برب الجنود إلههم" [5].
يري القديس ديديموس الضرير، أنه إن كان المسيا هو الملك الروحي لكنيسته فإن التلاميذ هم أمراء يهوذا الذين يتقبلون الله إلههم قوة لهم في عملهم الكرازي. إنه يهبهم قوة إلهية نارية تحرق حزم القش، إذ يقول: "في ذلك اليوم أجعل أمراء يهوذا كمصباح نار بين الحطب و كمشعل نار بين الحزم فيأكلون كل الشعوب حولهم عن اليمين وعن اليسار فتثبت أورشليم أيضًا في مكانها بأورشليم، ويخلص الرب خيام يهوذا أولاً لكيلا يتعاظم إفتخار بيت داود وإفتخار سكان أورشليم على يهوذا" [6-7].
إن كان يهوذا الجديد قد دُعي بالقطيع الصغير، لكنه يحمل نار الروح القدس التي تهلك الضربات الشيطانية اليمينية (البر الذاتي) واليسارية (النجسات والشهوات) ويبقي المؤمن ثابت كأورشليم، قادرًا على معاينة السلام. يقول القديس ديديموس الضرير: [بكونهم أمراء يهوذا روحيًا يليق بهم أن يحطموا بكلامهم المنير الملتهب الإدارة العميقة الجسدانية... لقد قيل بإشعياء: "ويصير نور إسرائيل نارًا وقدوسه لهيبًا فيحرق ويأكل حسكه وشوكه في يوم واحد، ويفنى مجد وعره وبستانه النفس والجسد جميعًا" (إش 10: 17-18)، بمعني أنه يفني النية الفاسدة كما الأعمال الفاسدة]. وكأن نار الروح القدس الذي يعمل في الإنسان الروحي يحرق الشعوب المحيطة يمينًا ويسارًا أي يحرق النيات والأعمال الشريرة التي للنفس والجسد معًا.
يرى القديس ديديموس الضرير أن اليمين واليسار هنا يشيران إلى التطرف، فالروح القدس يحرق في المؤمن روح البخل كما يحرق روح التبذير.
والعجيب أن الله إذ يعمل بروحه الناري في بيت يهوذا يبدأ بخيام يهوذا [7] قبل خلاص البيوت والقصور، حتى لا يكون لأحد فخر. يبدأ بساكنى الخيام الذين هم بلا حماية، حتى لا يفتخرون في نصرتهم أنهم بقوتهم وحصونهم المنيعة وقصورهم وبيوتهم نالوا الخلاص.
يتحدث القديس ديديموس الضرير عن خيام يهوذا التى يُخلصها الرب قائلاً: [هذه الخيام هي الفضيلة التي يتكلم عنها في الأمثال: "خيمة المستقمين تزهر" (أم 14: 11)، وكما يُرنم المرتل بخصوص المحبة التي توحيها له هذه الخيام: "كم هي محبوبة خيامك يا رب الجنود ؟!" )مز 83: 1). كيف لا تكون محبوبة وهي ممتلئة بالذين يحتفلون بأعيادها، فإن أصوات الفرح وأعمال النعمة لا يمكن أن تظهر في موضع آخر سوي خيام الصالحين (مز 41: 5؛ 17: 15)؟!].
ويرى أيضًا في خيام يهوذا رمزًا للجسد الفاني المذلول الذي نلبسه فإنه إذ ينعم بخلاص الله يلبس عدم الفناء والمجد والقوة ويتحول من جسد حيواني إلى جسد روحاني (1 كو 15: 42–44).
أما إبطال افتخار بيت داود وسكان أورشليم على يهوذا فيشير إلى سقوط إفتخار الحكماء في أعين أنفسهم فإن الودعاء والبسطاء يسبقونهم، إذ يعمل الله بقوة فيمن يشعر بضعفه: "العاثر منهم في ذلك اليوم (يكون) مثل داود وبيت داود مثل الله مثل ملاك الرب أمامهم" [8]. بمعنى أن أضعفهم، المتعثر فيهم، يكون غالبًا كداود (2 صم 17: 8؛ 18: 3) إن يكون الله نفسه قدامه يسنده. أما سرّ النصرة فهو ظهور الله من بيت داود، وكما يقول القديس ديديموس: [إن بيت داود هنا يشير إلى مريم حيث يأتي الرب متجسدًا منها. في ذلك اليوم حيث يتحقق التجسد الإلهي تعلن قوة الله في بيت يهوذا الجديد بينما يهلك إبليس وأعماله وينهدم سلطانه على المؤمن، إذ يقول: "ويكون في ذلك اليوم إني ألتمس هلاك كل الأمم الآتين علي أورشليم" [9].
يعلق القديس ديديموس الضرير: [في ذلك اليوم يقترب حيث ينتهي ليل الجهل والخطية كقول الرسول: "قد تناهي الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور" (رو 13: 12). في ذلك اليوم يُبيد كل الشعوب التي تحمل روح حرب ضد أورشليم، يُبيد تلك التي هي غريبة عن الحق وعن خدمة الله لا بإبادة الناس وإنما بنزع الشر وعدم التقوى... هكذا جاء سيدنا ومخلصنا يبحث عن جنسنا الضائع وينقذنا بإبادته كل الشعوب العاملة ضد أورشليم أي إبادة أسباب الشر والحرب من أعمال محرمة وأفكار هرطوقية.
في إختصار نقول أنه بينما يغضب الرب على المقاومين فيترنحوا من كأس غضب الله ويكون المؤمن نفسه هو الكأس [2]. وبينما يفتح الله عينيه على أولاده ليسندهم ويقودهم في حربهم الروحية إذا به يصيب أعداءه (إبليس) بالعمى [4]. وبينما يعطي الله نفسه لأولاده كسرّ قوة ونار آكلة يجعل الأعداء (الخطايا) كحزم القش فتحترق [6]. وبينما يسند الضعفاء المتعثرين من أولاده يهلك العدو في شره.
هكذا يسند الرب أولاده "بيت يهوذا" على التمتع بخلاصه خلال إتكاله عليه وكما يقول القديس سيرنيوس: [إسمع ما يقوله الملك (الله) نفسه مستصوبًا الرجال الشجعان، مستدعيًا إياهم إلى الحرب الروحية (ضد الخطية)، قائلاً: "ليقل الضعيف إني قوي، ليكن المتألم مصارعًا" (يؤ 2: 10-11 الترجمة السبعينية). ها أنت ترى أنه ليس إلاَّ المتألمين والضعفاء وحدهم هم الذين يحاربون في المعركة الإلهية، الضعفاء الذين لهم بحق ضعف قائد المئة (مت 8: 9)... القائل: "لأني حينما أنا ضعيف فحيئنذ أنا قوي" (2 كو 12: 9)، كما قيل "لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 9)[65]].
3. روح النعمة والتضرعات:
إذ يملك الرب على بيت يهوذا يفيض بروحه القدوس على كنيسته ليهبها كل نعمة ويسندها على جهادها حتى تعبر هذا العلم، وفي نفس الوقت يسقط الذين طعنوا السيد بحربة خطاياهم تحت الدينونة الأبدية ويصيرون في نوح عظيم.
"وأفيض على بيت داود وعلي سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات" [10]. وكما يقول القديس ديدموس الضرير: [إن روح النعمة والتضرعات إنما هو الروح القدس واهب النعمة الذي يُعطى لنا من أب الرأفة (2 كو 3: 3): "بعد هلاك الأمم (إبليس وأعماله) يضيف الكتاب أنه في ذلك اليوم المشار إليه يفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم بروح النعمة والتضرعات، لأنه أب التضرعات (2 كو 1: 3) وله الروح القدس. في هذا يكتب القديس بولس: "لأن محبة الله قد إنسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو 5: 5). وسليمان في سفر الحكمة يقول: "فما في السموات من اطلع عليه، ومن علم مشورتك لو لم تؤتِ الحكمة وتبعث روحك القدوس من الأعالي، فإنه كذلك قوّمت سبل الذين على الأرض وتعلم الناس مرضاتك" (حك 6: 14-16). واهب الروح القدس يقول في إشعياء: "أعطيك روحي" وأيضًا: "أعطيته روحي" (إش 42)... كما يقول: "سأفيض من روحي على كل جسد" (يؤ 3: 1). ويفهم من كلمات الرسول أن روح النعمة هو الروح القدس، إذ يقول: "من خالف ناموس موسي فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشر تظنون انه يُحسب مستحقًا من داس إبن الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟!" (عب 10: 28-29)... أيضًا روح النعمة هو روح التضرع (الرأفة) الذي يوهب من أب الرأفة (2 كو 1: 3)].
هذا هو ثمر الصليب إذ أفاض على الكنيسة بالروح القدس، روح النعمة الذي يفيض بنعمه الإلهية وعطاياه السماوية، وروح الرأفة الذي يسند ويترفق، أما الذين يرفضون الخلاص ويصوبون حربة الخطية فيقال عنهم: "فينظرون إلى الذين طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره، في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم كنوح هدد رمون في بقعة مجدون" [10-11].
يقول القديس ديديموس الضرير: [قاسى اليهود قتلة المسيح عذابات وصاروا في نوح كمن مات لهم إنسان عزيز لديهم وإمتلأوا مرارة كمن فقد إبنه البكر، إذ أدركوا غضب الله حتى النهاية (1 تس 2: 16) فنُزع عنهم وطنهم وتشتتوا في كل الأرض].
"يعظم النوح في أورشليم"... لعله يُشير إلى حائط المبكي حين يأتي اليهود من كل بقاع العالم يبكون حالهم و تشتتهم!
هنا يصف النوح بنوح هدد رمون[66] في بقعة مجدون، تلك البقعة التي فيها قتل المصريون يوشيا الملك بسهامهم فرثاه أرمياء النبي والمرنمون والمرنمات، ولم يكن حزن عام وشديد منذ قيام إسرائيل كأمة مثلما حدث عندما حملت المركبة الملكية جثته في شوارع أورشليم لدفنها.
يكشف عن مرارة هذا النوح بتشبيهه بنوح الوالدين على وحيدهما، يمس حياة كل عشيرة بل وكل فرد لذا تنوح كل عشيرة فعشيرة على حدتها، وينوح الرجل على إنفراد وزوجته على إنفراد إذ لا يحتمل أحدهما تعزية الآخر من هول ما يشعران به. أما سببه فخطأ جماعي موجه ضد السيد المسيح المطعون، إذ يقول: "فينظرون إلى الذين طعنوه".
يعلق كثير من الآباء على هذه العبارة الخاصة بلقاء الأشرار مع السيد المطعون في يوم الرب العظيم، فمن كلماتهم.
v يتعلمون أنهم سيعرفوا الذي طعنوه ويقرعون صدورهم... هذا الذي لم يعرفوه قبلاً لأنه جاء في إتضاع تأنسه.
v في البداية رفضوا التعرف عليه بسبب إتضاع تأنسه.
العلامة ترتليان[67]
v عندما يأتي مع ملائكته ليدين (مت 25: 31) ألاَّ يراه الذين طعنوه؟! إنهم يرتبكون إذ يكون الوقت قد تأخر برفضهم التوبة النافعة.
v الذي دين يجلس ديانًا، الذي وقف أمام كرسي الحكم يُدان عن جرائم زورًا سيُدين الجرائم الحقيقية!
v سيأتي في هيئة بشرية يراها الأشرار... ينظرون إلى الذي طعنوه، فيتطلعون إلى الجسد الذي ضربوه بالحربة... ويبقى الله (بالنسبة لهم) مخفيًا في الجسد فلا يرون اللاهوت (في مجده) بعد الدينونة إنما يراه الذين عن يمينه.
v يظهر الابن وحده للصالحين والأشرار في الدينونة بنفس الشكل الذي كان عليه حين تألم وقام وصعد إلى السماء... ولكن عندما يذهب الصالحون إلى الحياة الأبدية يرونه كما هو، وليس كما جاء ليُدين الأحياء والأموات، وإنما يظهر كمكافأة للأحياء!
القديس أغسطينوس[68]
ينوح الأشرار إذ يرون السيد وقد حمل الجراحات بسببهم، أما الأبرار فيدخل بهم إلى أمجاده وينعمون بما لا يستطيع الأشرار معاينته!
الأصحاح الثالث عشر
جراحات الراعي
إن كان الله يفيض بروحه القدوس روح النعمة والتضرعات على مؤمنيه ليسحب قلوبهم بالتوبة إلى الإتحاد مع المخلص المجروح لأجلهم، بينما يسقط الأشرار المتمسكون بشرهم في النوح المرّ ويحرمون من المجد الأبدي على ما سببوه للمخلص من جراحات، لهذا يحدثنا في هذا الأصحاح عن:
1. تقديس الأرض وسكانها [1-6].
2. الراعي المجروح [7-9].
1. تقديس الأرض وسكانها:
يتحدث عن سرّ تقديس الأرض (الجسد) وسكانها (النفس) خلال ينبوع الدم الإلهي الذي يطهر من كل خطية ونجاسة وينزع عنا كل روح نجس ويبيد فينا كل ما هو ليس من الله، قائلاً: "في ذلك اليوم يكون ينبوع مفتوحًا لبيت داود ولسكان أورشليم للخطية وللنجاسة، ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود إني أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تُذكر بعد وأزيل الأنبياء أيضًا والروح النجس من الأرض" [1-2].
ما هو هذا الينبوع المفتوح لنا نحن بيت داود، إذ صرنا فيه ملوكًا، ولسكان أورشليم أي المتمتعون برؤية السلام، هذا الذي ينزع الخطية والنجاسة إلاَّ جراحات الرب يسوع؟! إنه ينبوع التطهير بالنسبة لنا وعلة دينونة للأشرار في نفس الوقت. هذا هو الينبوع الذي لا ينضب، فتبقي الكنيسة ترتوي به كل أيام حياتها وتتقدس فيه على الدوام.
يعلق القديس ديديموس الضرير على هذا الينبوع بقوله: [هذا الرش أو السفك يتم بواسطة الدم الإلهي للمخلص، هذا الذي يتكلم عنه القديس بطرس... "للطاعة ورش دم يسوع المسيح، لتكثر لكم النعمة والسلام"... كما يقول: "عالمين أنكم أُفتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب ... بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس" (1 بط 1: 18-19). فالذين يخضعون هكذا للدم المسفوك ينالون قلبًا طاهرًا، قائلين كما لو كانوا شخصًا واحدًا في صلوتهم المتكررة بلا إنقطاع: "تغسلني فأبيض أكثر من الثلج"، لينالوا الطهارة التي قيل عنها: "الديانة الطاهرة النقية"[69]].
هذا هو ينبوعنا الحيّ الذي فيه نغتسل ونتطهر من كل نجاسة، وخلاله ينقطع من الأرض أسماء الأصنام، أن ينزع كل ما لإبليس عن أرض جسدنا فلا تكون أرض مملكته. إن كانت الشريعة قد منعت النطق بأسماء الآلهة الوثنية[70] إنما لكي لا يكون لغريب ذكر في جسدنا بل يملك الله وحده عليه. ولا يقف التقديس عند إزالة إسم الأصنام وإنما يمتد إلى إزالة الأنبياء الكذبة الذين يعملون لحسابها، وأيضًا إزالة الروح النجس الذي هو روح الضلال والكذب.
وتظهر قوة الحياة المقدسة من قوله أنه إذ ينوح الوالدان التقيان من أجل خطاياهما لا يتركان ابنهما يقوم بدور نبي كاذب، مفضلان أن يطعنا ابنهما بحربة فيموت عن أن يسمحا له بالنبوة الكابة [3]. هكذا خلال الحياة المقدسة ينزع الشر تمامًا وينفضح الأنبياء الكذبة ويخزون ولا يلبسون ثوب شعر لأجل الغش [4]، فلا يحملون زي الأنبياء المتقشف، بل ينكرون أنهم أنبياء. هكذا يفيض الله على شعبه روح النعمة والتقديس فلا ينخدعون بالمظاهر الكاذبة ولا يحتملون الضلال.
إن سألهم أحد عن جراحتهم، إذ عُرف أنبياء الأوثان خاصة البعل أنهم يجرحون أنفسهم عندما يسألون الآلهة (1 مل 18: 28) فيجيب كل واحد منهم من خوفه وخجله أنه ليس بنبي وإنما مجرد فلاح جُرح في بيت أحبائه وليس خلال العبادة [5-6].
والعجيب أنه إن كان النبي الكاذب في خداعه يخفي علة جراحاته الحقيقية فيخفي أنه جرح نفسه بنفسه في عبادة مضللة، إذا بالسيد المسيح كلمة الله الحق يُخرج بصدق في بيت أحبائه، فيخونه تلميذه وتسلمه خاصته للموت... وكأن الله يخرج حتى من كلمات الأشرار نبوة صادقة عما يتم في شخص المسيا.
2. الراعي المجروح:
بينما يُغالط النبي الكاذب في أمر جراحاته، إذ بالسيد المسيح يعلن جراحاته مقدمًا بروح النبوة، إذ قيل: "إستيقظ يا سيف على راعيَّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود، أضرب الراعيَّ فتتشتت الغنم وأرد يديّ على الصغار" [7].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يثور الشيطان بعنف شديد ضد المعلمين لأنه بهلاكهم يتشتت القطيع. بذبح الغنم يقل القطيع لكن بإصابة الراعي يهلك القطيع كله... بنفس واحدة يهلك الكل[71]]. هذا ما ظن الشيطان أنه قادر أن يفعله بضربه للمسيا المخلص، ظن أنه يضرب الراعي فيتشتت الغنم ليرد يده متسلطًا على الصغار]. يقول القديس ديديموس الضرير: [عن هذه النبوة كتب متى الإنجيلي عندما قُبض على يسوع وهرب تلميذه: "لكي يتم ما قيل بالأنبياء" (مت 2: 23)، "إنيّ أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية" (مت 26: 31). يفهم من كلمة (أضرب) وغيرها من الكلمات الخاصة بالموت أن الراعي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 15)، يبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 20: 28)].
خلال هذه الجراحات يقول الرب أن ثلثي سكان الأرض: "يُقطعان ويموتان والثلث يبقى فيها، وأدخل الثلث في النار وأمحصهم كمحص الفضة وأمتحنهم إمتحان الذهب، هو يدعو بإسمي وأنا أجيبه، أقول هو شعبي وهو يقول الرب إلهي" [8-9].
إن كان بسبب رفض جراحات السيد أو رفض السيد المجروح عن البشرية يُقطع ثلثا الأرض من أرض الأحياء ويموتا أبديًا فإن الثلث يدخل تحت نار الضيق، ليشاركوا مخلصهم المجروح بجراحاتهم، أو بمعني آخر يحملون جراحتهم فيهم علامة إتحادهم معه.
بالضيق تدخل الكنيسة في أتون الصليب لتُعلن فيها كلمة الله كفضة مصفاة سبع مرات (مز 12: 6)، وتعلن حياتها كذهب مصفى، أي حياة سماوية روحية مملوءة بالغنى الحقيقي والمجد الأبدي. فإن كانت الفضة تُشير إلى كلمة الله[72]. هكذا كل نفس تود أن تحمل فضة صادقة أي شهادة لكلمة الله، وتصير بطبيعة سماوية (ليست ترابية)، روحية (غير جسدانية) لها الغنى والسلطان الحق، يليق بها أن تمتحن بنار الصليب. مثل هذه النفس تسمع الصوت الإلهي يقول: "هو شعبي" أي يضمها للعضوية الحقيقية لكنيسته السماوية، إما هي فتُرنم بفرح قائلة له: "الرب إلهي"!
الأصحاح الرابع عشر
الصليب والمعمودية
في أورشليم الجديدة
إن كان هذا السفر قد بدأ بالعودة للتوبة ممتزجة بالرجاء في مجئ المسيا المخلص، "الراكب الفرس الأحمر"، وينطلق بنا من إعلان إلى آخر، ومن نبوة إلي نبوة خاصة بعمل المسيا الخلاصي على الصليب وفتح ينابيع دمه الأقدس لتطهيرنا، يُختم السفر بالحديث عن تمتع أورشليم الجديدة (الكنيسة) بهذا العمل الخلاصي خلال مياه المعمودية بقوة الصليب.
1. سبي أورشليم [1-2].
2. على جبل الزيتون (الرب يحمل آلامنا فيّه) [3-5].
3. الصليب كيوم معروف [6-7].
4. هدم الإنسان القديم وقيام الجديد [12-21].
1. سبي أورشليم:
"هوذا يوم للرب يأتي فيقسم سلبك في وسطك، وأجمع كل الأمم على أورشليم للمحاربة فتؤخذ المدينة وتُنهب البيوت وتفضح النساء ويخرج نصف المدينة إلي السبي وبقية الشعب لا تقطع من المدينة" [1-2].
في ختام الأصحاح السابق نرى أن ثلثي الأرض يُقطعان ويموتان بينما يبقى الثلث فيها يُمحص بالنار كالفضة ويمتحن كالذهب. وكما يرى القديس ديديموس الضرير أن الثلثين هما الوثنيون واليهود الرافضون للخلاص، أما الثلث فهو جماعة المؤمنين الذين أُعتقوا من السبي الشيطاني بالصليب وقبلوا النار الإلهية واهبة التقديس، هذه التي قال عنها القديس يوحنا المعمدان: "هو يعمدكم بالروح القدس والنار" (مت 3: 11)، كما قال السيد نفسه: "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49). ويرى القديس ديديموس الضرير أنها نار التجارب أيضًا الممحصة للنفس، إذ يقول: [الذين عبروا من النار أي الثلث الأخير من المسبيين الذين تنقوا واستجاب الرب صلاتهم هؤلاء يقولون لله الذي وهبهم السلام: "لأنك جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة، أدخلتنا إلي الشبكة وجعت ضغطًا على متوننا، ركبت أنُاسًا على رؤوسنا، دخلنا في النار والماء ثم أخرجتنا إلى الخصب" (مز 66: 10–12). وفي إشعياء أيضًا يقول الله مخلص الإنسان: "لا تخف لأني معك، إذا اجتزت في المياه فأنا معك وفي الأنهار فلا تغمرك، إذا مشيت في النار فلا تلدغ واللهيب لا يحرقك..." (إش 43: 3-4). كيف يكون المشي في النار والخروج منها بلا خسارة إلاَّ إذا كان لنا صوت الرب الذي قيل عنه أنه يطفىء لهيب النار. فكما انشق البحر الأحمر بضربة العصا المقدسة فعبر الشعب بلا خسارة هكذا ينشق لهيب النار وينفتح للعبور فيه دون احتراق[73]].
النار الإلهية سواء نار الروح القدس واهب التقديس أو نار التجارب الممحصة تزيد المؤمن بهاءً ومجدًا، أما بالنسبة للمعاندين فيتحطمون بها، لهذا يقول: "هوذا يوم الرب يأتي فيقسم سلبك في وسطك" [1]. فيوم الرب هو يوم خلاص للنفوس الخاضعة وتحرير لها من سبيها، لكنه يوم قاسٍ ومرّ للنفوس المتعجرفة المتمسكة بشرها. وكما قيل بإشعياء النبي: "هوذا يوم الرب قادم قاسيًا بسخط وحمو غضب ليجعل الرض خرابًا ويبيد منها خُطاتها" (إش 13: 9).
غالبًا ما تُقسم الغنائم خارج المدينة المسبية حتى لا ينشغل السابون بالغنيمة فيسترد المسبيون قوتهم ويحاربونهم، أما هنا فيقول: "يقسم سلبك في وسطك" علامة إستخفاف الأعداء بالمدينة وإدراكه تحطيمها تمامًا مع عدم وجود أي إحتمال لتشتم نفسها. وتظهر بشاعة هذا الإستخفاف أن يقسموا النساء كغنيمة لهم ليرتكبوا الشر معهن أمام أزواجهن، وكما قيل بإشعياء: "تحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم" (إش 13: 16).
ويرى القديس ديديموس الضرير أن الغضب الإلهي قد أدرك أورشليم إلى النهاية (1 تس 2: 16) بقتلها للرب وتلاميذه، فسقطت تحت سطوة يسطس القائد الروماني الذي خربها تمامًا بصورة بشعة سجلها يوسيفوس المؤرخ اليهودي.
إنها صورة مؤلمة للنفس التي تسقط تحت سبي إبليس خلال عدم الإيمان، فيقتحم العدو اعماقها ويذلها في الداخل، ويثير كل الخطايا (الأمم) ضدها، فينهب كل خير فيها وينجس الجسد (النساء) بكل طاقاتها، ويتحطم كل ثمر (الأطفال).
والعجيب أن نصف المدينة تُحمل إلى السبي خارجًا، أما البقية فلا تُقطع من المدينة [2]. النصف الأول يُشير إلى أورشليم القديمة أو اليهود رافضي المخلص، أما البقية فتُشير إلى الذين قبلوا الإيمان به فأقيمت عليهم الكنيسة أورشليم الجديدة. وفي نفس الوقت يُشير النصف الأول إلى الإنسان الخارجي القديم الذي يلزم أن يُطرد، أما البقية فتُشير إلي الإنسان الداخلي الذي يتجدد. ليمت القديم ويحيا الجديد فينا!
2. على جبل الزيتون (الرب يحمل آلامنا فينا):
إذ تتحطم أورشليم القديمة الحرفية الناموسية لتقوم فينا أورشليم الجديدة الروحية، ليسكن فيها الرب ويحارب عنها ويسندها معلنًا صليبه فيها، يقول: "فيخرج الرب ويحارب تلك الأمم كما في يوم حربه يوم القتال، وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق، فينشق جبل الزيتون من وسطه ونحو الشرق ونحو الغرب واديًا عظيمًا جدًا وينتقل نصف الجبل نحو الشمال ونصفه نحو الجنوب. وتهربون في جواء جبالي لأن جواء الجبال يصل إلي آصل، وتهربون كما هربتم من الزلزلة في أيام عزيا ملك يهوذا، ويأتي الرب إلهي وجميع القديسين معك" [3–5].
إذ سقط الإنسان تحت سبي إبليس وانهار أمام الخطايا (الأمم) تقدم خالقه ليحرره، إذ قيل: "فيخرج الرب ويحارب تلك الأمم كما في يوم حربه يوم القتال" [3]. تقدم الرب بنفسه ليحارب إبليس بكل شروره ليحرر الإنسان من سطوته. ويعلق القديس ديديموس الضرير على كلمة "خرج" بقوله: [نعم، يقول ربنا ومخلصنا عن نفسه في الإنجيل: "لأني خرجت من قبل الله (الآب) وأتيت، لأني لم آتِ من نفسي لأن ذاك أرسلني" (يو 8: 42). وبنفس المعني يقول حبقوق لله: "خرجت لخلاص شعبك، لخلاص مسيحك، سحقت رأس بيت الشرير، معريًا الأساس حتى العنق" (حب 3: 13). وكما يخرج ويأتي إلى من يخلصهم كذلك يخرج بصورة أوضح عندما يصنع حربًا (ضد إبليس). جاء في سفر ميخا: "فإن هوذا الرب يخرج من مكانه وينزل ويمشي على شوامخ الأرض" (مي 1: 13)، وفي إشعياء: الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه" (إش 42: 13)].
يخرج الرب ليحارب عنا فيقف في ذلك اليوم، أي يوم الفداء، على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق، فينشق الجبل من وسطه ونحو الشرق ونحو الغرب ليصنع واديًا عظيمًا جدًا وينتقل نصف الجبل نحو الشمال ونصفه نحو الجنوب... ماذا يعني هذا؟
أولاً: وقف المخلص على جبل الزيتون شرقي أورشليم بكونه الزارع الذي غرس أشجار الزيتون المقدسة التي قيل عنها: " أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله" (مز 52: 9)، "بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك" (مز 128: 3). هذه الأشجار كما يقول القديس ديديموس: [لا تزرع في الوادي من جهة الغرب، إنما على الجبل في الأعالي جهة الشرق، يشرق عليها شمس البرّ بنوره الإلهي، وكأنها بالأشجار التي غرسها الرب في الفردوس في جنة عدن نحو الشرق (تك 2: 8). كل منها تسمع صوت المصلوب: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43) بهذا تقول الأشجار المقدسة مع الرسول: "أما نحن فسيرتنا في السموات" (في 3: 20)].
ثانيًا: إن كنا بالمسيح يسوع المصلوب غُرسنا كأشجار زيتون في بيت الله شرقي أورشليم، فإننا نقف هناك مع التلاميذ نتأمل صعود السيد عند جبل الزيتون متوقعين مجيئه كقول الملاك (أع 1: 12).
ثالثًا: بالإيمان غُرسنا شرقي أورشليم على الجبل المقدس، أما اليهود فبجحدهم المسيا المخلص إنحدروا إلى الوادي العظيم جدًا نحو الغرب [4] ومعهم كل جاحدي النعمة الإلهية، ويكون الوادي أشبه بالهوة التي تفصل الذين يُغرسون في الشرق من الذين في الغرب.
رابعًا: ينتقل نصف الجبل إلى الشمال حيث ريح الشمال الباردة والنصف الآخر نحو الجنوب حيث الريح الدافئة الحارة. النصف الأول يُشير إلى برودة الروح أو الشر والآخر يُشير إلى حرارة الروح (الظهيرة الروحية). ويرى القديس ديديموس في قول العروس: "إستيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها، ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16) ان ريح الشمال تُشير إلى إبليس حيث البرد القارس المهلك للزرع الذي يعوق نسمات العطر الإلهي، أما ريح الجنوب فبحرارتها وعطرها تلهب النفس ممثلة السيد المخلص القائل: "جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!" (لو 12: 49).
لنقل لريح الشمال لا باللسان بل بالعمل أن ترجع عنا بعيدًا بتحقيق كلمات الرسول: "إمتنعوا عن كل شبه شر" (1 تس 5: 22)، ولندع ريح الجنوب بقبول السيد المسيح في حياتنا عمليًا!
خامسًا: يرى القديس ديديموس في القول: "جواء الجبال يصل إلى آصل" [5]، ان الاخدود الذين بين الجبال يصل إلي غسائيل الذي قيل عنه: "خفيف الرجلين كظبي البر" (2 صم 2: 18). فالمؤمن بالمسيح يسوع ينطلق بين الجبال المقدسة بأرجل خفيفة مسرعة نحو عريسها، بنظرات روحية ثاقبة نحوه.
سادسًا: يقول: "وتهربون كما هربتم من الزلزلة في أيام عزيا ملك يهوذا ويأتي الرب إلهي وجميع القديسين معك" [5]. هذه الزلزلة المشهورة هي التي حدثت في أيام عزيا ملك يهوذا، في أيام يربعام بن يوآش ملك إسرائيل وقد ذكرها عاموس (عا 1: 1)، وإذا عرف عزيا بخطيته نحو المقدسات بايقاده على مذبح البخور (2 أي 26: 16) أُصيب ببرص في جبهته أمام الكهنة في بيت الرب وطُرد من هناك وأقُيم ابنه عوضًا عنه، فالهروب من الزلزلة إنما يعني هروبنا مما حل بعزيا، من برص خطيته لننعم بحلول الرب إلهنا فينا ليملك داخلنا.
لنهرب من زلزلة عزيا لنتقبل زلزلة الصليب التي خلالها إنطلق كثير من الأموات إلى أورشليم وظهروا لكثيرين (مت 27: 51-52)، لكي تزلزل فكرنا الأرضي الترابي وتقيم فينا الفكر الروحي الحيّ.
3. الصليب كيوم معروف:
"ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور، الدراري تنقبض، ويكون يوم واحد معروف للرب، لانهار ولا ليل، بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور" [6-7]. فإنه إذ يتحدث عن الصليب في حياتنا يفرز الأشجار المغروسة في الشرق عن التي في الغرب، والتي تتقبل الريح الجنوبية عن التي تتقبل الريح الشمالية، والتي تحمل الصليب مسرعة إلى لعسائيل بأرجل خفيفة وبصيرة ثاقبة نحو عريسها المصلوب عن النفس الجاحدة، والتي ترفض زلزلة عزيا من التي تنحني لها... هذا كله يتحقق في يوم الصليب الذي وصفه هكذا:
أولاً: "لا يكون نور"، إذ حدثت ظلمة وقت الصليب، كشف عن السلطان الذي أُعطي للظلمة ولكن إلى حين.
ثانيًا: "يوم واحد معروف للرب"، وكما يقول القديس ديديموس: [يوم الرب مستمر لا يقطعه ليل]؛ انه يوم النور الأبدي (إش 60: 9).
ثالثًا: "لا نهار ولا ليل، بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور" [7]. إنه ليس بنهار لأن الظلمة غطت الأرض، ولا بليل لأنه وقت النهار، فهو ليس بنهار ولا ليل، لكن في وقت المساء يكون نور حيث إنقشعت الظلمة الخارجية بعد الساعة التاسعة، كما إنقشعت الظلمة الداخلية خلال عمل الصليب في حياة البشرية.
4. فيض الروح القدس والكنيسة:
"ويكون في ذلك اليوم أن مياهًا حية تخرج من أورشليم نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي، وفي الصيف وفي الخريف تكون" [8]. ما هذه المياه إلاَّ مياه الروح القدس التي ارتبطت بالصليب؟! ففي دراستنا لسفر حزقيال (ص 47) إرتبطت المياه بالمذبح، أي بذبيحة الصليب. والآن إذ يتحدث عن الصليب كيوم معروف يشغل ذهن الله خلاله تفجرت ينبايع الروح القدس خارجة من أورشليم حيث الرسل إلى البحر الشرقي والبحر الغربي أي إلى الأمم في المشارق والمغارب. وقد جاء في الترجمة السبعنية: "البحر السابق والبحر اللاحق"، أي للعمل في حياة اليهود الذين سبقوا فتمتعوا بالشريعة ثم في حياة الأمم. هكذا إنفتح الباب بالفيض على البشرية كلها كقول الرب: "ويكون بعد ذلك إني أسكب روحي على كل البشر" (يؤ 2: 28)، بهذا يتمجد إسم الله في الكل.
يرى القديس ديديموس أن هذه المياه الحية الصادرة من أورشليم لتصب في البحرين الشرقي و الغربي إنما هي الشريعة الروحية أو المعرفة الإلهية أو الحب الإلهي الأمور التي تفيض في الكنيسة – أورشليم العليا – لتعمل في العلم لأجل تقديسه، إذ يقول: [تبلورت هذه الفكرة عن تفسيرنا: "لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتليء من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر" (إش 11: 9)، تمتليء من الحب الإلهي الذي من الله، يفيض على المختارين فيستر كثرة من الخطايا (يع 5: 20)، تغطي الأفعال الشريرة فلا يبقي منها شيء، هكذا معرفة الرب هي ماء يغطي البحر ويحوله إلى مياه عذبة ونقية].
يمكننا القول أن نفوسنا قد صارت بحرًا شرقيًا مضروبًا بالبر الذاتي (الضربة اليمينة) أو بحرًا غربيًا مضروبًا بالضربات الشمالية؛ فنحن في حاجة إلى عمل الروح القدس فينا لينزع عنا ملوحة مياهنا الذاتية وملوحة مياه الشر إلى عذوبة النهر المقدس الذي يفرح مدينة الله.
خلال هذه المياه الجديدة العذبة أي فيض الروح القدس يملك الله على الكنيسة الممتدة في المسكونة، إذ يقول: "ويكون الرب ملكًا على الأرض، في ذلك اليوم يكون الرب وحده وإسمه وحده" [9]... إنه يملك لا على اليهود وحدهم بل وعلى الأمم القادمين إلى الرب. وكما يقول القديس ديديموس: [قبلاً كان هناك فرق بين البحرين الشرقي والغربي، أي بين اليهود واليونانيين. لا يعترف الكل بوحدانية الله، إذ يعتقد الوثنين بوجود آلهة كثيرة، أما اليهود فلهم إله واحد، ولكن إذ جاء الإنجيل إنتشرت معرفة الخالق الواحد الوحيد لدي الجميع. يكتب بولس: "أم الله لليهود فقط، أليس للأمم أيضًا؟! بل للأمم أيضًا، لأن الله واحد، هو الذي سيبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان" (رو 3: 29)... يكون الرب وحده في ذلك اليوم الذي صنعه الرب (مز 117: 24). حيث تشرق شمس البر (ملا 3: 20)، ويكون إسمه وحده أيضًا، لأنه إذ يتحد كل البشر في الفكر والتقوى التي بلا عيب يكون لهم إسم واحد يدل على الله. بهذا يتحقق قول المزمور: "ما أعجب إسمك القدوس على الأرض كلها؟!" (مز 8: 1)، وأيضًا: "عظمت إسمك القدوس على الأرض" (مز 137: 2)... وبهذا تتحقق الطلبة المقدمة لله: "ليتقدس إسمك"]...
يكمل النبي حديثه قائلاً: "وتتحول الأرض كلها كالعربة من جبع إلى رمون جنوب أورشليم، وترتفع وتغمر في مكانها من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزوايا، ومن برج حننئيل إلى معاصر الملك، فيسكنون فيها ولا يكون بعد لعن فتُعمر أورشليم بالأمن" [10-11].
بهذه العبارات يكشف عن أبعاد الكنيسة التي يعمل فيها الروح القدس كمياه حية تفيض خلال الصليب ليتمجد إسم الله وحده على الأرض، والتي يمكن تلخيصها في الآتي:
أولاً: يقول: "وتتحول الأرض كلها كالعربة من جبع إلى رمون جنوب أورشليم"، ولم كانت "جبع" عند القديس ديديموس تعني "شهادة"، و "رمون" تعني "مكان مرتفع أو عالٍ"، ففي رأيه أن معرفة الرب التي تفيض بها الكنيسة أبعادها هي الشهادة للرب بالروح العلوي (السماوي). يمكننا القول أن الكنيسة التي تفيض فيها مياه الروح القدس تمتد في حياة البشرية من جبع أي من الشهادة لله في المسيح يسوع بكونه بر الله العامل فينا لينطلق بنا إلى رمون أي يدخل بنا إلى الحياة المرتفعة العالية. أما كون رمون جنوب أورشليم، فكما سبق فرأينا أن ريح الجنوب حارة تلهب أورشليمنا بالروح الذي لا يبرد ولا يفتر.
ثانيًا: "ترتفع وتغمر في مكانها" [10]. إذ ترتفع النفس إلى رمون يليق بنا ألاَّ تتوقف عن الإرتفاع، وكما يقول القديس ديديموس: [تحمل قوة علوية لترتفع ولا تهبط، إذ يليق بالذين بلغوا الهدف ووصلوا إلى الكمال عينه خلال الجهاد أن يثبتوا في القداسة].
ثالثًا: "من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزوايا" [10]. تنطلق الكنيسة الحية من باب بنيامين، أي باب ابن اليمين، فتكون كعريسها الجالس عن يمين العظمة، ليس لها أعضاء عن اليسار بل كلهم ابناء اليمين، أي ورثة المجد. تنطلق الكنيسة إلى باب الزوايا فتكون كالسيد حجر الزاوية التي رفضه البناؤن (مز 117: 22؛ إش 28: 16؛ أف 2: 20؛ 1 بط 2: 6)، ولقد ربط اليهود مع الأمم في بناء متكامل. هكذا الكنيسة كعريسها تربط الكل معًا بالروح القدس ليكون مقدسًا واحدًا للرب.
إذن، لندخل من باب بنيامين الذي يدعى "الباب الأول" الذي لا يدخله إلاَّ المختفي في السيد المسيح، القائل بدالة وقوة: "افتحوا ليّ أبواب البر، أدخل فيها وأحمد الرب" (مز 117: 49)، "هذا الباب للرب، الصديقون يدخلون فيه" (مز 117: 20). لدخل هذا الباب ونرتبط بحجر الزاويا المرذول من الناس والممجد من الله، ولا نكن كالمرائين الذين لا يدخلون الباب السماوي بل يقفون في الزاويا يطيلون الصوات لأجل طلب مديح الناس.
رابعًا: "من برج حننئيل إلى معاصر الملك" [10]، إن كانت كلمة "حننئيل" في العبرية تعني "الله تحنن أو أنعم"؛ وهو برج قرب باب الضأن وبرج المئة كما بتجديده نحميا (نح 3: 1؛ 12: 39)، وإن كانت معاصر الملك تُشير إلى بيت الخمر الروحي (نش 2: 4) الذي يرمز للفرح الداخلي، فإن كنيسة العهد الجديد تتسم ببرج "نعمة الله المجانية"، والذي تحدث عنه السيد مع تلاميذه قائلاً: "من منكم وهو يُريد أن يبني برجًا لا يجلس أولاً ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله، لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل، فيبتدأ جميع الناظرين يهزأون به" (لو 14: 28-29). هكذا يبدأ الإنسان حياته الكنيسية بعمل حساب النفقة: هل لديه الإيمان بنعمة الله المجانية؟ هل يستطيع أن ينعم بالبرج الإلهي الفائق حتى يستطيع التحصن فيه، قائلاً: "لأنك كنت ملجأ ليّ، برج قوة من وجه العدو، لأسكنن في مسكنك إلى الدهور، أحتمي بستر جناحيك" (مز 61: 3-4). خلال هذا البرج ينطلق المؤمن إلى معاصر الملك أي إلى بيت الخمر ليعتصر مع الرب الذي اجتاز المعصرة لينعم بفرح الروح القدس!
خامسًا: "فيسكنون فيها ولا يكون بعد لعن، فتعمر أورشليم بالأمن" [11]. عوض الخراب الذي حلّ بالنفس بسبب الخطية تمتلئ مجدًا وحياة، فتكون عامرة لا بالناس فحسب وإنما بالله نفسه الذي يقدسها فتتسع بحب البشرية كلها، وهكذا تخرج من حالة الخراب الكئيب إلى حالة الملء بنعمة الله وحب القريب والشعور بالسلام الفائق والأمن الداخلي.
5. هدم الإنسان القديم وقيام الجديد:
يختم النبي حديثه عن عمل الله الخلاصي في كنيسته المقدسة التي رأينا أبعادها بالكشف عن ضرورة هدم الإنسان القديم بكل أعماله الشريرة وقيام الإنسان الجديد المقدس في الرب، معلنًا الآتي:
أولاً: يعلن عن الضربة التي تصيب الأمم الوثنية التي كانت تحيط بأورشليم لمحاربتها بكونها رمزًا لأعمال الإنسان القديم أو حرب الخطايا، فيقول: "لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم" [12]. إن كان الجسد – قبل تقديسه – يمثل بشهواته الشريرة الإنسان القديم لذا يذوب هذا الجسد الحامل العداوة لله (رو 8: 7). ولئلا يظن أحد أن الجسد في ذاته شر قال: "لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم" فإن ما يحلّ بالجسد ليس إنحلالاً لكيانه المادي وإنما لشهواته القديمة ليحمل فيه تقديسًا، وهكذا أيضًا تذوب عيونهم في أوقابها أي تنحل عن نظراتها القديمة لتتقبل بصيرة روحية داخلية جديدة تليق بالإنسان الجديد، ويذوب لسانهم في فمهم فلا يهلك اللسان في ذاته إنما يموت عن شره ليقدم صوتًا مقدسًا يليق بالحياة الجديدة. فالإبادة لا تمس الجسد وأعضاءه في ذاتها إنما تصيب الشر الكامن فيها لتحل البركة والبر عوضًا عنه.
ثانيًا: "ويكون في ذلك اليوم أن اضطرابًا عظيمًا من الرب يحدث فيهم فيمسك الرجل بيد قريبه وتعلو يده على يد قريبه" [13]. يشرح القديس ديديموس الإضطراب هنا لا بمعني فقدان السلام وإنما الشعور بالعجب الشديد أمام عمل الله الذي يربك النفس فيجعلها عاجزة عن إدراك أسراره، كالقول: "يفزعون إلى الرب و إلى جوده في آخر الأيام" (هو 3: 5)، أو "سمعت خبرك فجزعت" (حب 3: 2). فكل نفس تعجب أمام عمل الله، فيمسك الرجل بيد قريبه، فيسير الكل معًا بروح واحد في جهادهم الروحي.
ثالثًا: "ويهوذا أيضًا يحارب (في) أورشليم وتجمع ثروة كل الأمم من حولها ذهب وفضة وملابس كثير جدًا" [14]. من هو يهوذا الذي يُحارب في أورشليم وليس ضد أورشليم، ليجمع لحسابها ثروة الأمم من ذهب وفضة وملابس كثيرة، إلاَّ شخص السيد المسيح الخارج من سبط يهوذا أي يهوذا الحقيقي الساكن في أورشليمنا الداخلية يحارب عنا الحرب الروحية ما دام ساكنًا فينا ليغتصب الإمكانيات والطاقات التي كانت تستخدم قبلاً للشر كغنيمة له، يستخدمه لبنياننا الروحي؟! إنه كملك حقيقي يحارب في النفس ليهبها النصر والغنى فتتزين له ملكة سماوية؟
إن كان الذهب يُشير إلى الروح أو السماء، والفضة إلى النطق أو الكلمة الإلهية والملابس إلى المواهب، فإن عريسنا الساكن فينا يُحارب ضد إبليس لتقديس روحنا وفكرنا وكل مواهبنا.
رابعًا: "وكذا تكون ضربة الخيل والبغال والجمال والحمير وكل البهائم التي تكون في هذه المحال كهذه الضربة" [15].
يرى القديس ديديموس أن هذه الحيوانات تُشير إلى الخطايا التي يضربها الروح أي خطايا الإنسان القديم التي يجب التخلي عنها. ففي رأيه الخيل يُشير إلي إشتهاء الإنسان إمرأة أخيه كقول الكتاب: "صاروا حصنًا معلوفة سائبة، صهلوا كل واحد على إمرأة صاحبه" (أر 5: 8). وتُشير البغال إلى عقم الروح خاصة الذين يمارسون بتولية الجسد دون التمتع ببتولية الروح وطهارتها، فيكون الإنسان كخصي لا من أجل الملكوت بل من أجل إعجاب الناس بهم (مت 19: 12). وتُشير الجمال إلى الذين يهتمون بشريعة الله لكن بلا تمييز، إذ ليس لهم الظلف المشقوق فهم دانسون (لا 11: 14). وتُشير الحمير إلى عدم الفهم، يتثقلون بالأحمال منحنية رؤوسهم نحو الأرض وغير قادرين على التطلع نحو أورشليم العليا.
هكذا بالروح القدس تصيب الضربة هذه الأعمال الشريرة التي سقط الإنسان تحت نيرها حتى يتحرر منها.
خامسًا: يُحدثنا عن تمتع الأمم بعيد المظال، إذ يصعدون إلى أورشليم من سنة إلي أخرى ليسجدوا للملك العظيم [16-19]. لا يعيد اليهود وحدهم بل يتمتع الأمم بهذا العيد حيث تنطلق كنيسة العهد الجديد نحو أورشليم السماوية بلا توقف لتقديس العالم، فيعيد البشر بعيد المظال، مدركين أن أجسادهم "المظال" قد تقدست للرب، خلالها يسجدون للملك رب الجنود حتى يخلعوها (2 بط 1: 14) ليلبسوها من جديد أجسادًا روحية في اليوم العظيم. إنها ذات أجسادنا لكنها تحمل طبيعة تليق بالأبدية. في هذا يحدثنا الرسول بولس معلنا كيف يشتاق المؤمن لا أن يخلع الجسد بل يحمله جديدًا صار لا يقوى عليه الموت، إذ يقول: "فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نُريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكي يُبتلع المائت من الحياة" (2 كو 4: 5).
سادسًا: يعود فيؤكد تقديس الجسد بقوله أنه يكتب على أجراس الخيل "قدس للرب" [20]. فإن كانت الخيل تُشير إلى الجسد، فحتى أجراسها تصير قدسًا للرب، بمعنى أنه يكون في الجسد عضوًا دنسًا أو حاسة نجسة، بل كل ما فيه من الداخل والخارج هو قدس الرب.
مرة أخرى يؤكد قدسية كل شيء لحساب الرب فيقول أن القدور التي في بيت الرب وكل قدور أورشليم ويهوذا تكون "قدسًا لرب الجنود" [21]، وكأنه لا يوجد في الكنيسة المقدسة شيء دنس أو نجس انما يكون كل شيء أشبه بقدر أو آنية تحوي داخلها الكنز السماوي.
للمرة الأخيرة يؤكد ذات المعني بقوله: "لا يكون بعد كنعاني في بيت رب الجنود" [21]، أي ليس من مقاوم لله ولا عابد للوثن داخل الكنيسة الحقيقية، وليس من شيء غريب داخل المؤمن الحقيقي.
[1] حاولت اختصار أقوال القديس ديديموس الضرير فى الأصحاحات الخمسة الأولى حيث يمكن الرجوع إليها بتوسع فى الكتاب المذكور.
[2] The New Westminster Dict of the Bible, P 1014.
[3] Raven J.H. ; Old Testament Introd, P 241.
[4] Jerome Biblical Comm. P 391
[5] Dict. Of the Bible, P 949. S. IBID 950
[7] On Ps. 145.
[8] On Ps. 6:4.
[9] Sermons on N.T. Lessons 92:4.
[10] أقوال القديس ديديموس الضرير في الأصحاحات الخمسة الأولي مقتطفة عن ترجمتين، أحدهما للأستاذ مليكه حبيب والمرحوم الشماس يوسف حبيب، والثانية لمدام عايدة حنا بسطا.
[11] راجع تك 16: 7-13؛ خر 3: 2-6؛ قض 13: 9، 22.
[12] راجع مقاييس المدينة في كتابنا: رؤيا يوحنا اللاهوتي، 1979، ص 211-212.
[13] Adv. Haer 5:19:1.
[14] De Incar. 25:4.
[15] On Ps. 90 (91).
[16] يري البعض أن "صهيون" بالعربية تعني "حصن" أو "مرتفع".
[17] On Ps. 90 (91).
[18] Pl 9:978.
[19] Ser. On N.T. 16: 21.
[20] راجع تفسير الصحاح الأول 18–21.
[21] راجع تفسير يؤئيل ص3، حزقيال ص 25-32.
[22] On Ps.112.
[23] CF .ST. Greg .Nyssa: Adv. Eunomus 1:2; ST. Ambrose: Of Christian Faith 3: 7.
[24] To The Heathen 10.
[25] ST. Ambrose: Of Christian Faith 3:7.
[26] On Ps. Hom35,36.
[27] Ser.on N.T.28:2.
[28] On Baptism of Christ.
[29] راجع تفسيرنا إنجيل متي 7: 16.
[30] يرى القديس أغسطينوس أن رقم 2 يشير للحب، إذ يجعل من الإثنين واحداً، ولأن الأرملة عبرت عن حبها بتقديم فلسين، والسامري الصالح بتقديم دينارين لصاحب الفندق، والناموس قدم وصيتين عن الحب… (راجع تفسيره يوحنا مقال 17: 6).
[31] Thesaurus 34 PG 75:609.
[32] أخذ العلامة ترتليان بنفس الرأى Adv. Marc 4:23.
[33] Conc. Stat. 15:3.
[34] In Acts hom 12.
[35] Conc. Stat. 19:6.
[36] In Exod.hom16.
[37] On Virginity 18.
[38] In Matt. hom 38:3.
[39] تحدث فى هذا الأمر بإفاضة (راجع النص في ترجمة الأستاذ مليكة و الشماس يوسف حبيب).
[40] CF. New Westminster Dic, P 909
[41] ترجمة الإبنة المباركة تريز سعد.
[42] راجع تفسير يوئيل 1983، ص 36-41.
[43] New Westminster Dic, P 1021.
[44] ST. Augustine: In Ioan tr 17: 6.
[45]On Ps. Hom 14.
[46] Ibid.
[48] راجع سفر الخروج الأصحاح الأول (15-18).
[49] In I Tim Hom. 10..
[50] Fest. Ep. 14.
[51] Ibid 6.
[52] Ibid 5.
[53] J. Strong: Dict. of the Words in the Hebrew Bible, P 18.
[54] Ibid 17, 113.
[55] In Matt. Hom 66: 2.
[57] On Ps. Hom 10
[58] Ep. 22: 19.
[59] Ep. 108: 16.
[60] ترجمة الدكتور إلهامي إبراهيم.
[61] Comm. On Zach. 11:8 PL 25: 1503.
[62] ترجمة الدكتور تغريد راغب.
[63] راجع تفسيرنا: رؤيا يوحنا اللاهوتي (رؤ 13: 18).
[64] On Ps. Hom 11.
[65] Cassian: Conf 7: 5.
[66] هددرمون إسمان أراميان لإلهين مشهورين، وكانت " هددرمون " تسمي مكسيميانوبولس في أيام القديس جيروم، حاليًا تدعي الرمانة.
[67] Answer to the Jews 14; Adv. Marc. 3:7.
[68]On Ps.102; Ser. on N.T. 77-9; In Ioan Tr 21: 13; 36: 12.
[69] ترجمة الدكتورة مني أبو سيف حلمي.
[70] Tert. On Idoltary 20.
[71]In I Tim hom 1: 1
[72] راجع تفسير زك 11: 12-14؛ 6: 9-15 (سابعًا).
[73] ترجمة الدكتورة مني أبو سيف حلمي.