الفصل الثاني
حتمية الوحي الإلهي
عرف الإنسان خالقه يوم خلقه,, كانت بينه وبين إلهه مودة,, كان الله يتحدث إلى آدم وحواء في جنة عدن أحاديث الصفاء والهناء,,
وسقط الإنسان
أسقطه الشيطان,,, علمه العصيان,
أغوى حواء أن تأكل من الشجرة المحرمة، فأكلت وأعطت آدم فأكل,,
وظهر عري الإنسان,,
وأقامت معصيته حجاباً كثيفاً بينه وبين خالقه، كما قال إشعياء النبي:
هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّصَ، وَلَمْ تَثْقَلْ أُذُنُهُ عَنْ أَنْ تَسْمَعَ.
بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَسْمَعَ
* إشعياء 59: 1 و2 ,
خرج الإنسان من جنة عدن,, طُرد منها لأنه لم يعد يستحق البقاء فيها,, لكنه حتى بعد طرده من الجنة ظل يتطلع إلى الله في آلامه، وضيقاته وخطاياه,,
والسجل المقدس الموحى به من الله يؤكد لنا أن الله لم يترك نفسه بلا شاهد في عصر من العصور,, لكنه يعلن أيضاً أن غالبية البشر ضلوا طريقهم إلى الله,, وقد سجل بولس الرسول صورة لضلال الإنسان في كلماته:
لِأَنَّ غَضَبَ اللّهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِا لْإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ اللّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لِأَنَّ اللّهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لِأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلَاهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِا لْمَصْنُوعَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلَا عُذْرٍ. لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللّهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِله، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلَاءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللّهِ الذِي لَا يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ الذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَحَّافَاتِ * رومية 1: 18-23 ,
أظهر الله حقيقة وجوده للإنسان منذ خلق العالم,
ظهرت قدرته واضحة في خلق العالم,
في النظام الفلكي البديع:
اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللّهِ، وَالفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ * مزمور 19: 1 ,
وظهرت عظمته في خلق الإنسان,
فمع أنه خلق الإنسان من تراب,, إلاّ أنه صنع من هذا التراب العجب العجاب,,
كل خلية في الإنسان تنطق ببديع صنعه,
القلب وتركيبه العجيب ونبضاته,, مضخة الدم إلى خلايا جسم الإنسان,, هذه المضخة التي تعمل بلا انقطاع حتى نهاية العمر,
العين بدقتها الرائعة، وقدرتها على احتواء مناظر تبعد عنها بعداً طويلاً,, أدق من أية آلة تصوير صنعها الإنسان,
العقل وما يحويه من قدرات وإمكانيات,, للوصول إلى النتائج من المقدمات,
النفس وما تحويه من العواطف والحب والكراهية,, الفرح والحزن,, الرحمة والقسوة,, الإحساس بالسعادة والإحساس بالشقاء,, الحنان والغضب والكثير من الانفعالات,
حار الأطباء وسط أعضاء جسد الإنسان العجيب,, فجعلوا لكل طبيب تخصصاً في عضو منه,, طبيب للقلب، وطبيب للصدر، وطبيب للعينين، وطبيب للأذنين,, لأن واحداً لا يستطيع استيعاب كل ما يحدث في ذلك الجسد البديع الصنع,
بحق قال داود:
أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَباً
* مزمور 139: 14 ,
وفي ترجمة أخرى أحمدك من أجل أني خليقة عجيبة ومدهشة ,
الخليقة,, سواء كانت خليقة الكون أو خليقة الإنسان,, لم يتأملها الإنسان,, وسار وراء ظلمة عقله الغبي، وصنع لنفسه آلهة أعلنت عن مدى غبائه، وجهله، وشر قلبه,
اتسعت الهوة التي فصلت الإنسان عن إلهه,
حكمة الإنسان عجزت عن أن تقوده لمعرفة الله,,
من هنا ظهرت ضرورة الوحي الإلهي,, أو بعبارة أخرى ضرورة إعلان الله جلت قدرته عن ذاته وعن صفاته بكلمة موحى بها منه تحدث بها تبارك اسمه لأنبيائه,, إذ لا سبيل لمعرفة الله الحي الحقيقي إلا بالوحي الإلهي,
ظهر في ألمانيا فيما بين سنة 1743-1819 فيلسوف عظيم اسمه جاكوبي وكانت كتاباته رداً على فلسفة اسبينوزا الذي نادى بأن العقل وحده هو باب المعرفة,
قال جاكوبي : إن العقل غير المُعان بالوحي الإلهي سيقود الإنسان حتماً إلى الإلحاد,, ذلك لأن العقل بطبيعته الخاصة لا يستطيع أن يعالج سوى الأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، لأنه هو نفسه محدود,, وهو في معالجته للأشياء ذات الحدود، وأجزاء الأشياء، يضع هذه الأجزاء معاً ليكشف ما بينها من روابط، ولكنه يعجز عن الحصول على مادة الحقيقة الخام، لا سيما الحقيقة التي تشمل الأشياء جميعاً مضموماً بعضها إلى بعض في وحدة كاملة متكاملة ,
ويستطرد جاكوبي قائلاً: إن الله الذي مكن إثبات وجوده، وحقيقة ذاته، وكمال صفاته بمنطق الله عن طريق العقل تتضمن سيطرة العقل,, والخالق الأعظم لا يمكن أن يسيطر عليه أو يحتويه عقل,, إن حقيقة الله ليس سبيل معرفتها التفكير المنطقي,, وربط النتائج بالمقدمات,, لكن الله تسامت حكمته تنازل فأعلن عن ذاته العلية بالوحي الذي أعطاه لأنبيائه وسجله في كتابه الكريم ,
من هنا كان المصدر الوحيد، الموثوق به، لمعرفة الله الحي الحقيقي,, هو كلمته الصادقة التي أوحاها لأنبيائه، وبعيداً عن هذه الكلمة الصادقة يتصور كل إنسان الله كما يحلو لتصوراته وتخيلاته,, وبهذا يضل ضلالاً بعيداً، ويعبد الحيوان، والشجر، والحجر، وأرواح الموتى من البشر,