البابا شنودة الثالث
سلسلة الحروب الروحية
( 2 )
الحروب الروحية
الكتاب : الحروب الروحية ( 2 ) .
المؤلف : قداسة البابا شنودة الثالث .
الطبعة : الأولي ـ مارس 1986 م .
المطبعة : الأنبا رويس ( الأوفست ) العباسية ـ القاهرة .
الناشر : الكلية الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس .
رقم الإيداع بدار الكتب : 29663 / 1986 م .
الفصل الأول : الحروب داخلك وخارجك |
7 |
الفصل الثاني : حرب الذات |
25 |
الفصل الثالث : الفراغ |
53 |
الفصل الرابع : النسيان |
61 |
الفصل الخامس : الشك |
69 |
الفصل السادس : الخوف |
79 |
الفصل السابع : حروب الفكر |
89 |
الفصل الثامن : المظاهر الخارجية |
109 |
الفصل التاسع : خطايا اللسان |
119 |
الفصل العاشر : قساوة القلب |
129 |
الفصل الحادي عشر : الفتور الروحي |
139 |
الفصل الثاني عشر : حرب الكآبة |
165 |
الفصل الثالث عشر : محبة المديح والكرامة |
193 |
الفصل الرابع عشر : العنف |
221 |
كان لابد من أن ننشر مجموعة من الكتب عن الحروب الروحية ، لأنها من الموضوعات الهامة التي تتعلق بحياة كل إنسان . وكان أول كتاب أصدرناه من هذه السلسلة هو [ حروب الشياطين ]
والكتاب الذي بين يديك هو الجزء الثاني من هذه السلسلة التي ألقينا محاضراتها منذ الستينيات . فأقدم مقالة فيه [ محبة المديح والكرامة ] كنا قد ألقيناها في مؤتمر للخدام عقد في كنيسة مارمينا بالمندرة بالإسكندرية سنة 1965م . وطبعتها ونشرتها كنيسة العذراء بمحرم بك ، وأعادت طبعها مرات عديدة . ولكنها أدمجت ونشرتها كنيسة العذراء بمحرم بك ، وأعادت طبعها مرات عديدة . ولكنها أدمجت في هذا الكتاب مع تغير كبير .
ثم نشرت هذه المقالات في جريدة وطني خلال العام الماضي ( 1985 ) . ورأينا نشرها في كتاب لتكون سهلة في متناول أيدي الجميع .
وهناك موضوعات أخري كثيرة سننشرها تباعاً إن شاء الله ضمن مجموعة [ سلسلة الحروب الروحية ] . ومن ضمنها كتاب عن [ الغضب ] . وربما كتاب آخر عن خطايا اللسان التي لخصناها في إحدى مقالات هذا الكتاب تلخيصاً شديداً .
وكان بعض الآباء قد عرضوا لموضوع الحروب الروحية في مقالاتهم عن الثمانية أفكار المحاربة للنفس ، التي هي البطنة والزنا والغضب والكآبة وشهوة القنية والمجد الباطل والكبرياء . وغالبيتها عرضت بطريقة رهبانية ، كما في كتابات يوحنا كاسيان ن والقديس مار أوغريس . فيمكن الرجوع إلى ما ورد عن هذه الموضوعات في كتابات الآباء ...
وإلى أن نلتقي في الجزء الثالث من الحروب الروحية ، أرجو لكم نجاحاً في كل جهادكم الروحي ، لكيما يقودكم الرب في موكب نصرته ( 2كو2 : 14 ) . وقد راعينا في هذا الكتاب أن تحوي كل حرب روحية ، طريق علاجها ، إلى جوار أسبابها ومظاهرها .
مقدمة
حياة كل إنسان لا تخلو من الحروب ...
حتى سير الآباء القديسين ، لا تخلو من حروب روحية ، بعضها خارجي كان من الشياطين ، والبعض ـ وهو قليل ـ كان من داخلهم .
والحروب التي من الشياطين أصدرنا لأجل شرحها كتاباً خاصاً فيه عن 25 نوعاً من محاربات الشياطين . كما تحدثنا أيضاً عن 11 طريقة في كيفية الانتصار على تلك الحروب . لذلك سنمر على هذه الحروب الشيطانية مروراً عابراً في هذا الفصل ...
من الحروب الخارجية أيضاً حروب تأتي من العثرات الخارجية ، من البيئة ومن الصدقات الضارة . وسوف نتحدث عن هاتين النقطتين وننصح بقراءة ما يتعلق بهما كذلك في كتابنا [ حياة التوبة والنقاوة ] .
ومن جهة الحروب الداخلية ، ركزنا على نقطتين هامتين هما الأفكار والشهوات الأفكار تحارب العقل . والشهوات تحارب القلب والحواس . على أن حروب الفكر رأينا ـ بالإضافة إلى ما ورد في هذا الفصل ـ أن نخصص لها باباً مستقلاً في هذا الكتاب . نتركك الآن إلى الصفحات المقبلة لتقرأ عن الحروب الداخلية والخارجية ، واعتبر ما تقرأه مجرد مقدمة للحروب الروحية بوجه عام ...
الحروب التي في داخلك
تأتي من شهوات القلب من الداخل ، ومن أفكار العقل ، ومن حركات الجسد .
والحرب الداخلية أصعب من الحرب الخارجية ، لأن الإنسان يكون فيها عدو نفسه . وهذه الحرب تكون صعبة ، لأنه يشتهيها ولا يريد مقاومتها .
لذلك كانت نقاوة القلب هي أهم شئ في حياة الإنسان . وكما قال أحد القديسين : إن القلب النقي حصن لا ينال ..
القلب يشبه البيت المبني على الصخر مهما هبت الزوابع عليه من الخارج ، لا يمكن أن تضره بشيء ( مت7 : 24 ، 25 ) ..
والذي لا تكون له حروب من الداخل ، فهذا إن اتته حرب من الخارج تكون خفيفة عليه . ويمكنه الانتصار عليها ، لأن قلبه رافض لها : وإرادته لا تميل إلى التجاوب معها وقبولها ...
والحرب الداخلية ربما يكون سببها طبع اندمج في الخط
يئة . وهنا يكون قد ترسب من الماضي في قلب الإنسان وفكره ما يحاربه .
وقد يكون سبها حالة فتور ، أو طبيعة ضعيفة تستسلم للخطأ ... وربما يكون سببها إهمال من الإنسان في ممارسة الوسائط الروحية فيضعف القلب من الداخل ، ويترك الفكر يطيش حيثما يشاء بلا ضابط .
وربما تبدأ بالتراخي في ضبط الحواس ... والحواس هي أبواب يدخل منها الفكر .
والحرب الداخلية قد تأتى خفيفة أو عنيفة . وحتى إن بدأت خفيفة : كلما تراخي الإنسان لها ، تسيطر عليه ...
ومن الحروب الداخلية حرب الأفكار .
حرب الأفكار
قد تكون الأفكار في اليقظة . وقد تكون في المنام . والأفكار أثناء النوم ربما تكون مترسبة من أفكار وأخبار النهار ، مما ترسب في العقل الباطن من شهوات ومن أفكار ، وما جلبته الأذن من أخبار وحكايات ، وما قرأة الشخص من قراءات رسبت في ذهنه .
كل هذه تأتي في أحلام ، أو في سرحان ، أو ما يسمونه أحلام اليقظة . ويستمر فيها الإنسان طالما كان القلب قابلاً لها ... فإن كان رافضاً لها تتوقف ، ويصحو لنفسه ...
وإرادة الإنسان ضابط هام للفكر فهي التي تسمح بدخول الفكر ... وحتى إن دخل خلسة ، هي التي سمح باستمراره أو بايقافه ..
ومن هنا تأتي المسئولية ...
ومن هنا نرد على السؤال القائل : هل هذه الأفكار إرادية ، أم غير إرادية أم شبه إرادية ، أي من النوع الذي هو غير إرادي الآن ، ولكنه نابع من إرادة سابقة تسببت فيه .
فقد يغرس الشيطان فكراً في عقل الإنسان ، يدخل إليه بغير إرادته . ولكن حتى هذا الفكر ، الذي لا مسئولية عليك في قبولة .
إن أردت ، يمكنك أن تطرد الفكر ، ولا تتعامل معه ، ولا ترحب به ... لأنك إن قبلت الفكر الخاطئ ، تكون خائناً للروح القدس الساكن فيك ، وخائناً لمحبة الله ، ومقصراً في حفظ وصاياه ، وفي صيانة قداسة قلبك من الداخل .
وقد يأتيك الفكر الخاطئ في حلم ... فإن كنت نقياً تماماً ، سوف لا تقبله في الحلم أيضاً ... وإن كنت لم تصل إلى هذا المستوي وقبلته ، فستحزن بسببه كثيراً في يقظتك ، ويترك حزنك هذا أثره العميق في عقلك الباطن ، لرفض كل حلم مماثل في المستقبل : إن لم يكن مباشرة ، فبالتدريج إلى أن تصل إلى نقاوة العقل الباطن .
إذن قاوم الفكر الخاطئ بالنهار ، أثناء يقظتك ، لكي تتعود المقاومة حتى بالليل أثناء نومك وتنغرس هذه المقاومة في أعماق شعورك ، ويتعودها عقلك الباطن .
إن زمام أفكارك في يدك ، سواء منها الأفكار التي تصنعها بنفسك ، أو التي ترد إليك من الخارج ، من الشيطان أو من الناس . وما أصدق قول المثل :
إن كنت لا تستطيع أن تمنع الطير من أن يحوم حول رأسك ، فإنك تستطيع أن تمنعه من أن يعشش في شعرك !
وبإرادتك ، واشتراكك مع عمل النعمة فيك ، يمكنك السيطرة على الأفكار ، فلا تجعلها تأخذ سلطاناً عليك . ولا تستطيع الأفكار الخاطئة أن تفقدك نقاوتك ، وذلك لأنك لا تجاوب معها . وما أصدق قو القديس يوحنا ذهبي الفم :
لا يستطيع أحد أن يضر إنساناً : ما لم يضر هذا الإنسان نفسه .
لذلك لا تستسلموا للأفكار . وليكن كل إنسان حكيماً . يعرف الفكر ، كيف يبدأ عنده ، وكيف يتطور ، وما خط مسيرة داخل ذهنه ؟ وما نوع الأفكار التي تبدأ برئية وهادئة وتنتهي بنهاية خاطئة ؟ فليحترس من أمثال هذه الأفكار ، ولا يعطي مجالاً للفكر حتى يشتد ...
وإن اشتدت عليك الأفكار بطريقة ضاغطة ومستمرة ، فلا تيأس ، ولا تقل لا فائدة من المقامة ، وتستسلم للفكر .
إن اليأس يجعل الإنسان يتراخي مع الفكر ، ويفتح له أبوابه الداخلية ، ويضعف أمامه ويسقط ، أما أنت فحارب الأفكار وانتصر ... وكيف ذلك ؟
كيف تنتصر على الفكر ؟
1 ـ لا تخف من الأفكار ، ولا تفترض هزيمتك أمامها . بل قل مع الرسول :
" أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني " ( في4 : 13 ) .
واصمد في قتال الأفكار متذكراً تلك العبارة الجميلة : " مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح "
( 2كو10 : 5 )
2 - درب نفسك على أن تتولى قيادة أفكارك . ولا تجعل الأفكار تقودك .
3 – أملأ فكرك باستمرار بشيء روحي ... حتى إذا أتاه الشيطان بفكر رديء ، لا يجد الذهن متفرغاً له . اشغل نفسك ... فهذا علاج وقائي .
إذن لا تترك عقلك في فراغ ، خوفاً من أن يحتله الشيطان ويغرس فيه ما يريد .
ولهذا فإن القراءة الروحية مفيدة جداً .. ليس فقط في شغل الذهن ومنع الأفكار الرديئة عنه ، وإنما أيضاً لها فائدة إيجابية ، لأنها تعطي الفكر مادة روحية للتأمل ، وتعطي القلب مشاعر محبة لله قوياً في طرد الأفكار المضادة ...
4 ـ كن متيقظاً باستمرار ، ساهراً على نقاوة قلبك ، فلا يسرقك الفكر الخاطئ دون أن تحس .
واطرد الأفكار من بادئ الأمر حينما تكون ضعيفة ، وأنت لا تزال قوياً ...
لإنك إن تركن الأفكار الخاطئة باقية فترة في ذهنك ، لا تلبث أن تثبت أقدمها وتقوي عليك . وكلما اسمر واستقرت في داخلك ، تضعف أنت ولا تستطيع مقاومتها وتسقط . لذلك كن متيقظاً وسريعاً في طرد الأفكار . وتذكر قول المرتل في المزمور :
" يا بنت بابل الشقية طوبي لمن يمسك أطفالك ويدفنهم عند الصخرة " ( مز137 ) .
فهو يخاطب بابل أرض السبي ، التي تسبي إليها قلبه . فيقول طوبي لمن يمسك أطفالك ، أي الخطايا وهي صغيرة ، وهي في مبدئها ، قبل أن تتطور ، ويدفنها عند الصخرة . " والصخرة كانت المسيح " ( 1كو10 : 4 ) .
5 ـ اهتم بالفضيلة الروحية التي يسمونها " استحياء الفكر " .
أقصد بهذا أنه عندما يكون فكرك ملتصقاً بالله ، بالصلاة ، بالتأمل ، بعبارات الحب ، بالتسبيح وبالترتيل . حينئذ يستحي الفكر ـ وهو ملتصق بالله .. ومن أن تشغله أفكار الخطية ، فيرفضها ، وهذا علاج روحي ..
من هنا كان إنشغال الفكر بالله علاجاً وقائياً من الأفكار الخاطئة . إذ يستحي من التاقه السابق بالرب .
6 ـ ومن الناحية المضادة ، ابتعد عن العثرات التي تجلب لك أفكاراً خاطئة .
ابتعد عن كل لقاء ضار ، وعن كل صادقة أو معاشرة خاطئة . ابتعد عن القراءات التي تجلب أفكاراً مدنسة أو على الأقل تتهيك عن الفكر الروحي . ابتعد عما يشبه هذا من السامعات والمناظر والأحاديث وكل مسببات الفكر البطال .
7 – وما دامت الحواس هي أبواب الفكر ، فلتكن حواسك نقيه ، لتجلب لك أفكاراً نقيه .
إن تراخيت مع الحواس ، فإنك بذلك إنما تحارب نفسك بنفسك ، فاحترس إذن ولتكن حواسك معك وليست ضدك . ومن هنا كان التأمل في صور القديسين ، وسماع أخبارهم ، وسماع الألحان والقداسات ، وجو الكنيسة من بخور وأنوار وأيقونات وطقوس روحية ، كل ذلك يجلب للقلب أفكاراً روحانية .
8 ـ أحترس من الأفكار المتوسطة ، التي ليست هي خيراً ولا شراً .
لأنها كثيراً ما تكون تمهيداً لأفكار خاطئة . فالذي لا يضبط فكره ، وإنما يتركه شارداً هنا وهناك ، قد يرسو على موضوع خاطئ ويستقر فيه ... فمن الناحية الإيجابية اربط فكرك بمحبة الله ، أو بأي موضوع نافع ، أو حتى بعملك ودراساتك وخدمتك ومسئولياتك ، لكي لا يسرح في أمور عديمة الفائدة .
9 ـ إذا أتعبك الفكر ولم تستطيع أن تنتصر عليه ، اهرب منه بالحديث مع الناس .
حتى إن كنت في وحدة أو خلوة ، اترك وحدتك وخلوتك واختلط بغيرك . لأن حديثك مع الناس يطرد الفكر الخاطئ منك ، إذ لا يستطيع عقلك أن ينشغل بموضوع الفكر وبالأحاديث في نفس الوقت . واعرف أن الوحدة بمعناها الروحي هي اختلاء مع الله . فإن تحولت إلى اختلاء مع الأفكار الشريرة ، فالخلطة أفضل منها طبعاً ...
10 – استعن على طرد الفكر بالصلاة .
والأب الكاهن يقول للرب في القداس الإلهي : " كل فكر لا يرضي صلاحك ، فليبتعد عنا " .
وهناك قاعدة روحية أحب أن أقولها لك في محاربة الأفكار وهي :
11 – الهروب من الأفكار خير من محاربتها . لأن الفكر الشرير الذي ينشغل به عقلك : حتى لو انتصرت عليه ، يكون قد لوثك في الطريق .
لا تخدع نفسك قائلاً : [ سأري كيف يسير الفكر وكيف ينتهي ] ـ ولو من باب حب الاستطلاع ..! لأنك تعرف تماماً أن هذا الفكر سيضرك . فلا داعي لتجربة تعرف نتيجتها ..
ولا تتهاون أيضاً قائلاً : [ أنا أستطيع أن أهزم الأفكار . ولكنني أناقشها لأظهر ضعفها ] .. فربما تغلبك الأفكار ، وهي التي تظهر ضعفك ..
ثم لماذا تضيع طاقاتك في القتال ؟
اشغل عقلك بشيء طاهر مقدس يقويك في الحياة الروحية ، ويزيد حرارتك ، بدلآً من هذه الصراعات التي لا تفيدك شيئاً بل تضرك .
12 ـ اعرف أيضاً أن الأفكار إذا استمرت ، قد تقود إلى أفكار أو شهوات فتكون أخطر لأنها تنتقل من الذهن إلى القلب ، ومن الفكر إلى العاطفة .
وهنا ننتقل إلى نقطة أخري وهي :
حرب الشهوات
وهي كثيرة منها شهوة الجسد ، وشهوة المعرفة ، وشهوة الرئاسة والمناصب ، وشهوة الانتقام ، وشهوة السيطرة ، وسيطره المال ، وشهوة الامتلاك ، شهوة العظمة والشهرة .
وهنا تكون ملكية القلب قد انتقلت من الله إلى غيره . وتفشل في الاستجابة لقول الرب : " يا ابني اعطني قلبك " ( أم23 : 26 ) .
1 – فإن وصلت إلى الشهوة لا تكملها ، بل حاول أن تتخلص منها . وتذكر تلك العبارة الجميلة
" افرحوا لا لشهوة نلتموها : بل لشهوة أذللتموها " .
إن أكثر شئ يفرح الإنسان هو أن ينتصر على نفسه . حقاً إن لذة الانتصار على النفس هي أعمق من اللذة بأية شهوة أخري .
2 ـ وإن تعبت من شهواتك ، لا تيأس . ولا تظن أنه لا فائدة .
انظر إلى ما يستطيع المسيح أن يعمله لأجلك ، وليس إلى ما تعجز أنت عن عمله .
إن المسيح قادر أن يحول السامرية إلى مبشرة ، والمجدلية إلى قديسة . لا تظن مطلقاً أنك تحارب وحدك ، فاله بكل نعمته يعمل معك كما عمل مع غيرك .
3 – لذلك تذكر الذين انتصروا . ولا تضع أمامك انهزاماتك السابقة وضعف طبيعتك .
إن الله يحبك كما أحب هؤلاء ، وسيعمل فيك كما عمل فيهم . ولكما تزداد الحرب تزداد النعمة جداً . فالتصق بالله واطلب معونته .
4 ـ في شهواتك ، جاهد مع اله كثيراً ، حتى ترجع السحابة فوق الخيمة .
لا تخجل من الصلاة وأنت في عمق الخطية . ولا تفعل مثل أبينا آدم الذي حينما أخطأ ، هرب من الله واختبأ خلف الشجر ! وكلما سقطت ، تمسك بالله أكثر ، لكي ينجيك وينقيك ويقودك إلى التوبة .
قل له : [ حارب يارب في ، وانتصر على أعدائي وأعدائك ، ولا تتركني وحدي ] .
قل له : [ أنا إن انهزمت يارب أمام الخطية ، فأنا لا أزال إبنك ، محسوب عليك ، ومنسوب إليك ، أنا من قطيعك وإن كنت قد ضللت . وأنا ابنك وإن سكنت في كورة بعيدة . أنا مازلت درهمك وإن لم أكن موجوداً في كيسك ..
أنت لا تتخلي عني ، وأنا لا أتخلي عنك ، مهما حاول العدو أن يوجد انفصالاً بيني وبينك . إن كن قد تركتك بالفعل ، فأنا لم أتركك بالقلب ولن أتركك . مازلت أحبك ، وإن كنت قد أخطأت إليك ] .
افعل مثل القديس بطرس ، الذي بعد أن أنكر المسيح ، وجدف ولعن وقال لا أعرف الرجل ، جرؤ أن يقول للمسيح في ذلة العارف بمشاعرة : " أن تعلم يارب كل شئ . أنت تعرف أني أحبك " ( يو21 : 17 ) .
5 – لا تجعل الخطية تفصلك عن محبة الله ، بل افتح له قلبلك وقل له :
تأكد يارب إنها خطية ضعف ، وليست خطية بغضة ، ولا خطية خيانة .
6 – وأنت نفسك ، تأكد أن الله يعرف ضعفك ، وإنه لا يزال يحبك .
ثق إنك وأنت في الخطية ، هو يعمل على إنقاذك ، واجتذابك إليه ، وردك إلى رتبتك الأولي . إنه الله الذي سعي وراء آدم ليخلصه ، دون أن يسعي آدم إلى التوبة .
7 – شهواتك الخاطئة ، أضف إليها ما تستطيعه من عمل روحي ، لكي تقلل من حدتها وخطورتها ، ولكي تقيم توزاناً داخل قلبك .
وثق أن الجانب الخير سينمو داخل في قلبك شيئاً فشيئاً حتى تتخلص من شهوات الخطية . وإن شعرت بعمل الروح القدس في قلبك ، فلا تهمله وتستمر في شهواتك ، بل اعمل معه ...
8 – وإن عرفت ضعفك فلا تعرض نفسك للحروب مرة أخري .
محاربات تأتيك من الخارج
وهذه الحروب تأتي عليك من مصادر معروفة : إما من الشيطان ، أو من الناس سواء كانوا أعداء أو أصدقاء وأحباء ! وقد تأتي من العالم ، من المادة ، من البيئة المحيطة بكل ما فيها من عثرات ...
حروب من الشيطان
حروب الشيطان إما أن تكون بطيئة طويلة المدي ، أو أن تكون فجائية وعنيفة ...
الحروب البطيئة ، قد لا نشعر بها يجذب بها الشيطان ضحاياه بتدريج طويل ، لا يكادون يشعرون فيه بما يحدث لهم .
يحذرهم قليلاً قليلاً ، وينقص من حرارتهم الروحية شيئاً فشيئاً على مدي واسع حتى تتغير حياتهم وهم لا يدركون ذلك إلا بعد فوات الفرصة ، حتى يضربهم بعد ذلك ضربته الشديدة وهم غير مستعدين لها .
ولعله بهذه الطريقة حارب سليمان الحكيم ، بالترف والمتعة وكثرة النساء ومجاملتهن ، إلى أن سقط ( 1مل11 : 1 – 8 ) . وكان سقوطه في زمان شيخوخته !!
أما الحروب العنيفة الفجائية ، فقد تشبه الظهورات المفزعة ، أو الرؤي الكاذبة وأمثال هذه من الضلالات الشيطانية .
وقد جرب القديس أنطونيوس الكبير بحروب مثل هذه ، وانتصر عليها بالاتضاع والأفراز والصلاة . وهزم الشياطين حتى هربت منه في خزي .
على أن الله لا يسمح بأن تحدث هذه الحروب لكل أحد ، لأنه " أمين لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون " ( 1كو10 : 13 ) .
ولعل من أمثلة الحروب العنيفة الشيطانية التي حدثت فجأة ، التجربة التى أصابت أيوب الصديق ( أي1 : 2 ) . ونلاحظ أنها كانت بسماح من الله ، في حدود معينة ، وفي طاقة احتمال أيوب ، وانتهت بخير وبركة ( أي42 ) .
على أن حروب الشيطان ليست كلها فزعاً ومناظر كما حدث للقديس أنطونيوس وليست كلها أمراضاً وخراباً ، كما حدث لأيوب الصديق .
فهناك حروب أخري من الشيطان بأفكار يلقيها في الذهن ، أو شهوات يلقيها في القلب . وهذه الحروب تكون ضعيفة إلى أن يفتح لها الإنسان باباً لتدخل منه إلى قلبه وإلى مشاعرة وهنا يكون قد أخطأ
وتعتبر خيانة روحية أن تفتح أبوابك لعدو الخير الذي يريد تحطيم ملكوت الله داخلك .
إنها خيانة للرب الذي رضي أن يدخل بيتك وبيت فيه ، وأنت بإرادتك تدخل عدوه إليه في داخل قلبك ، ليحل فيه بدلاً من الله !
إنها خيانة للرب الذي اشتراك لنفسه وأحبك حتى المنتهي ، واستأمنك على سرائره المقدسة ، وجعل قلبك هيكلاً لروحه القدوس ( 1كو6 : 19 ، 20 ) وهوذا أنت تستجيب للشيطان وتفتح له قلبك ، وتقبل أفكاره المضادة !!
وفي خيانتك ، إذ ترفض عمل النعمة فيك ، يقوي علك الشيطان .
لا تحتج بأن الحروب الخارجية قوية ؟
إنك تجعلها قويه حينما تستسلم . أما إن قاومت فسيضعف الشيطان أمامك كقول الرسول : " قاوموا إبليس فيهرب منكم " ( يع4 : 7 ) .
إن القلب القوي الثابت في الله ، الأمين في محبته ، يستطيع أن يطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة ( أف6 : 16 ) .
عندما تقوي قلب داود بالإيمان ، تضاءلت أمامه كل قوة جليات الجبار ( 1صم17 : 26 ) . وعندما قوي قلب موسي النبي ، تضاءلت أمامه قوة فرعون وكل جيشه ولم تخفه أمواج البحر الأحمر . وأنت كلما كان قلبك من الداخل قوياً ، لا تضعف مطلقاً أمام حروب الشياطين بل تعزيك كلمة الروح القدس الناطق في الأنبياء :
" من أنت أيها الجبل العظيم ؟! أمام زربابل تصير سهلاً " ( زك4 : 7 ) .
إننا إن ضعفنا نحن للشيطان كرامه ليست له ، ونجعله يتجرأ علينا بينما يكون هو خائفاً منا في بادئ الأمر !
يخيل إلى أن رئيس الشياطين ، حينما يرسل شيطاناً من أعوانه لمحاربة أحد المؤمنين ، يرتعب هذا الشيطان ويقول : كيف أحارب هذا الإنسان الذي هو صورة الله وهيكل لروحه القدوس ؟! كيف أحارب هذا الجبار الذي تحيط به ملائكة الله لتنجيه ؟! كيف أقترب من إبن لله يلبس درع الإيمان وخذوه الخلاص ( أف6 ) ؟!
ماذا أفعل إذا رشمني بعلامة الصليب ؟! وإلى أين أهرب إن رفع يديه يصلي ؟! وكيف أخزي أن طردني قائلاً : إذهب يا شيطان ...
ولعجب هذا الشيطان الضعيف ، يري الإنسان خائفاً منه هارباً أمامه ، فيتجرأ عليه ويحتقره ..؟
فيقص له شعره – كما صنع بشمشون – ويفقأ عينيه ، ويجعله يجر الطاحون وهو هزأه للأطفال ( قض16 : 19 –21 ) .
لذلك لا تخافوا من الشياطين ، لئلا تقوي عليكم . وأنت أيها الإنسان يا صورة الله ، احترم نفسك .. مع الشياطين .
من أمثلة حرروب الشياطين المعروفة حروب الشك في الله ، تتعبها حرب أخري هي اليأس . فلا تخف هذه الأفكار ليست منك . إنها حرب خارجية لا دخل لك فيها !
الشيطان يلقي إلى ذهنك أفكاراً تشك في وجود الله ، وفي محبته وعنايته ، وأفكاراً ضد فاعليه الصلاة وضد شفاعة القديسين . ثم بعد ذلك يقول لك : كيف تخلص وفي داخلك هذه الأفكار ؟! بينما تكون أنت رافضاً الشك ، ومقاوماً لها ، غير راض عنها ، بل تصلي أن يرفعها الرب عنك ! كل هذا يدل على أن هذه الأفكار ليست منك .
إنها حرب بالفكر ، وليست سقوطاً بالفكر . حتى إن سقطت إلى لحظات يكون ذلك عن ضعف وليس خيانة للرب والرب يغفر لك ...
ونصيحتي لك : امتنع عن القراءات التي تجلب لك الأفكار ، وكذلك المعاشرات الرديئة التي توصل إليك هذه الأفكار وأمثالها ، فغالباً ما تكون هذه الأفكار وهذه السماعات ، هي أسلحة من الشيطان استخدمها لمقاتلتك كن حكيماً إذن .
وهذا الأمر يقودنا إلى النقطة التالية :
الصداقات الضارة
هذه الصداقات التي تضرك في روحياتك ، أو في عقيدتك ، أو في فكرك ، والتي تتلف قلبك ومشاعرك ...
أول سقطة لأمنا حواء ، كانت من معاشرة رديئة بجلوسها مع الحية .
وسقطة آخاب الملك كانت بسبب زوجته إيزابل الشريرة . وكذلك كانت سقطه سليمان الحكيم بسبب زوجاته الأجنبيات .
لذلك أنصحكم باختيار أصدقائكم الذين ما أسهل أن يؤثروا عليكم بأفكارهم .
وأنصحكم بحسن اختيار شركائكم في الحياة الزوجية لأن لهم تأثيراً بلا شك على حياتكم الروحية بالعلو أو الهبوط ...
والأزواج في تأثيرهم أكثر خطراً وعمقاً من الأصدقاء أو المعارف والزملاء ...
فالصديق قد يلتقي بك في أوقات محددة . أما الزوج فهو شريك الحياة باستمرار . فيجيب انتقاؤه صالحاً من كل جهة ، ليس من الناحية الاجتماعية فحسب ، بل أيضاً من النواحي الروحية والعقائدية ، وبعمق . ولا يصح الاكتفاء بالشكليات .
ولنتذكر في كل ذلك قول الكتاب :
" المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة " ( 1كو15 : 33 ) وقوله أيضاً : " أعداء الإنسان أهل بيته " ( مت10 : 36 ) .
مثال ذلك الآباء والأمهات ، حينما يمنعون أولادهم عن الصوم ، وعن التدين ، وعن التكريس ، وعن الكنيسة والاجتماعات . بل ويدعونهم إلى الزينة وإلى الترفيهات المتنوعة ، ولا يقدمون لهم قدوة صالحة ببيت متدين !
ومثال ذلك الزوج غير المتدين الذي يجر زوجته معه إلى نفس الضياع الذي هو فيه ، ويسخر من تدينها ، ولا يشجعها على الممارسات الروحية ويمنعها من الخدمة ، ولا يعطيها فرصة للصوم ولا للتناول ..! لذلك قال الرب في الإنجيل :
" من أحب أباً أو أماً أكثر مني ، فلا يستحقني .. " ( مت10 : 37 ) .
والإنسان ربما لا يستطيع أن ينفصل على أقاربه وأهل بيته . ولكن ينبغي أن يحب الله أكثر منهم ، ويطيع الله أكثر منهم ، ولا يضحي بروحياته أو بدينه من أجل أقربائه .
وليذكر باستمرار قول الرسول : " ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس " ( أع5 : 29 ) .
لا يوجد أعز من الله ، ولا أحب من الله . ولا يوجد أهم من مصيرك الأبدي . ومع ذلك فهناك أشخاص يجب الابتعاد عنهم من الأقارب .. إن لم يكن ابتعاداً بالجسد ، فعلي الأقل يكون الابتعاد عن طريق عدم الاشتراك معهم في التصرف ، ولا في الحديث ، ولا في أي شئ خاطئ .
على أن البعض قد يمنعهم الخجل من البعد عن الخاطئين أقارباً كانوا أو أصدقاء ... وبهذا يشتركون في الخطأ بسبب الخجل !
فينبغي للإنسان الروحي أن يعرف أن هناك حدوداً للخجل وأن هناك مواقف تحتاج إلى حزم وغلى قوة شخصية، وإلى تصرف جاد يبعد به عن العثرة ومسبباتها .
لقد صدق المثل القائل : [ أسأل عن الرفيق قبل الطريق ] فربما يؤثر عليك أحد أقربائك تأثيراً يتلف نفسك أو يدخل إلى قلبك وإلى ذهنك مبادئ وأفكاراً تقود حياتك في إتجاة خاطئ .
اعلم أن قريبك الحقيقي هو الذي يقربك إلى الله ، وصديقك الحقيقي ه الذي يكون صديقاً في روحياته وصادقاً في حفظه لسمعتك وفي اهتمامه بخلاص نفسك ...
ننتقل إلى حرب خارجية هي :
العثرات
العثرة هي كل ما يسقطك من الخارج ، أو كل ما يجلب لك فكراً خاطئاً ، أو شعوراً خاطئاً ، أو شهوة خاطئة . وقد تأتي العثرات من السمع أو النظر أو القراءة أو من باقي الحواس . فعليك أن تبتعد بقدر إمكانك عن العثرات ، كما يجب أنك أنت لا تكون عثرة لغيرك .
والعثرات ربما تفرض نفسها علينا وربما نسعي نحن برغبتنا إلهيا .
فالتي تفرض نفسها تكون حرباً خارجية ، والتي نسعى إليها تكون حرباً داخلية تطلب إشبعاً لها من الخارج . وفيها تجتمع الحربان الداخلية , وهذه دينونتها أشد ، والنجاة منها أصعب ...
والسيد الرب كان حازماً جداً في أمره الإلهي بالبعد عن العثرات ..
وذلك بقوله : " إن كنت عينك اليمني تعثرك ، فاقلعها والقها عنك وإن كانت يدك اليمني تعثرك ، فأقطعها وإلقها عنك " ( مت5 : 29 ، 30 ) .
وكثير من الآباء يفسرون عثرة العين اليمني ، بالعثرة التي تأتيك من أعز إنسان إليك . أما اليد اليمني فتشير إلى أكثر الناس مساعدة لك .
وبهذا على الإنسان أن يقطع نفسه عن هؤلاء الأحباء والأعزاء .. إن كانت صلته بهم ستفقده أبديته ... وتجلب له حروباً خارجية لا يضمن هل يصمد أمامها أم لا ...
المهم أن تبعد عن الحرب الخارجية مهما كان الثمن ، ولا تقع فيها بإرادتك لأنك تصلي كل يوم قائلاً : " لا تدخلنا في التجارب ، لكن نجنا من الشرير " ( مت5 : 13 ) .
إن هناك عثرات تستهوى الإنسان فيحوم حولها مثلما تحوم الفراشة حول النار ، وتظل تحوم حولها حتى تحترق .. ومع أنها تري فراشات كثيرات قبلها قد احترقت بالنار ، إلا أنها لا تهدأ حتى تحترق مثلها .. !
وقد يوجد من يعثرك ويسقطك . ثم يفلت هو ، وتضيع أنت : وقد يمكنه هو أن يتوب ، وتجد أنت صعوبة في التوبة ! لذلك احرص بكل قوتك وبكل عمل النعمة فيك ، أن تبعد عن العثرة ، وتهرب بذلك من كل حرب خارجية على قدر طاقتك ...
ومن مصادر العثرة والحروب الخارجية ، ألوان معينة من القراءات .
القراءات تؤثر في أفكار الإنسان ، وتؤثر في مشاعرة . وربما تشكل مبادئه ، وتقود مساره في الحياة ...
وهناك قراءات أخري واضحة الخطأ ، يجب عليك الابتعاد عنها تماماً ، ولا تحتاج هذه إلى مشهورة أو سؤال .
وهناك قراءات تجلب شكوكاً أو بلبلة ، وأخري تثير مشاعر وشهوات .
ولا يكفي للإنسان الروحي أن يبعد عن القراءات الضارة ، إنما ينبغي من الناحية الإيجابية أن يقرأ ما يعمق محبته لله ، وهذا يكون كعلاج وقائي له في الحروب الخارجية .
وإن كان الإنسان محارباً بحب المعرفة ، وهو يعلم تماماً أنه ليست كل معرفة نافعة ، بل قد توجد معارف نفقده بساطته ، أو تفقده نقاوته ، وتجعل نظرته إلى الأمور تتغير إلى أسوأ ! .. لذلك يجب على كل شخص روحي أن يدقق كثيراً في نوعية قراءاته ، حتى لا يجلب على نفسه حروباً ...
لأنه من مشاكل القراءة أيضاً أنها تلصق بالعقل أفكاراً ليس من السهل عليه أن يمحوها وينساها .. وقد تحتاج إلى وقت طويل جداً حتى تفارق ذاكرته ! ...
من أسباب الحروب الخارجية أيضاً :
البيئة
ونعنى بها الجو العام المحيط به .. أفكار البيئة التي يعيش فيها ، واتجاهاتها ، ونوعية الحياة ، والمبادئ السائدة في المجتمع ، وأسلوب التعامل ، والمفاهيم التي يعتنقها الكل أو الغالبية ...
وبالأكثر صعوبة أن يحيا شاذاً هذه البيئة ، بمبادئ روحية لا يفهمونها . وهكذا يجد البار أنه يعذب نفسه يوماً بعد يوم ( 2بط2 : 8 ) ، أو على الأقل يبذل جهداً ضخماً ليحتفظ بأسلوبه الروحي في الحياة أو على الأقل : يجد أن منهجه الروحي يعرضه لعديد من الحروب ... فماذا يفعل ؟
إن كان بإمكانه أن يغير البيئة ، فهذا أفضل جداً . وإن لم يستطع فليصمد ... وليجاهد ويغلب . والله لا ينسي تعب محبته .
حياتنا هي أن نشهد للحق ، إن لم يكن بلساننا ، فعلي الأقل بأسلوبنا العملي في الحياة . وقد نصحنا الرسول قائلاً : " لا تشاكوا هذا الدهر " ( رو12 : 2 ) . والحياة الروحية يلزمها الجهاد والصبر والثبات .
وليثق هذا الإنسان أنه في كل جهاده لا يحارب وحده ، بل نعمة الرب تعمل معه . ومن يصير إلى المنتهى فهذا يخلص ( مت10 : 22 ) .
إن المحاربات الروحية كثيرة وعلينا نحن أن نجاهد ونغلب . وما أكثر النعم التى وهبها الرب للغالبين ( رؤ2 ، 3 ) . فجاهد أن تكون من الغالبين ، حتى لا تفقد إكليلك ، الذي يهبه لك في ذلك اليوم الديان العادل ( 2تى4 : 8 ) الذي سيعطى كل واحد أجرته بحسب تعبه ( 1كو3 : 8 ) .
الفصل الثاني
حرب الذات
خطورة الذات
الذات والخطية
المحبة الخاطئة للذات
تصطدم بالله وبأب الاعتراف
الشعور بالذات ، وتكبيرها
الذات في محيط العطاء
أخطاء الذات في المعاملات
إنكار الذات ، وبذل الذات
الزهد ـ قهر الذات
الذات في محيط الخدمة
الميل الثاني ، والمتكأ الأخير
إدانة الذات
خطورة الذات
أقدم عدو حارب البشرية ، وأخطر عدو ، هو الذات ، إن الشيطان لا يحاربك بقدر ما تحاربك ذاتك . مشكلتك الكبري هي الذات .
الذي ينتصر على ذاته من الداخل ، يستطيع أن ينتصر خارجاً على العالم وعلى جميع الشياطين ، والذي تهزمه ذاته ويضعف هو أمامها ، يمكن أن يقع في أية خطية .
وإذ استعرضنا تاريخ الخطية في العالم ، نجد أن الذات متداخلة في كل خطية ولذلك فالإنسان المنتصر على ذاته ، يكون منتصراً في كل حرب روحية ، مادامت ذاته لا تخونه ولا تفتح أبوابه للأعداء ، فلا يهمه أي عدو خارجي ، وصدق القديس يوحنا ذهبي الفم قال :
لا يستطيع أحد أن يؤذي إنساناً ما لم هذا الإنسان نفسه .
والأذية الحقيقية هي فقدان الملكوت وفقدان السلام الداخلي ، وهذا لا يأتيك مطلقاً من الخارج ، ما دامت نفسك قوية في الداخل .
ولعل إنساناً يسأل : ألا تأتي عثرة من الخارج ؟ إغراء .. شهوة .. محاربة خارجية ؟
نقول إن الحروب الخارجية تأتي وكذلك العثرات ، ولكن لا سلطان لها عليك ، السلطة هي لإرادتك ، المرجع الأخير هو ذاتك ؟
هل أنت في داخلك تقبل العثرة أو الإغراء ، أو لا تقبل ؟ هل أنت تصمد أمام الحرب الخارجية أو لا تصمد ؟
إن يوسف الصديق تعرض لحرب عنيفة من الخارج من امرأة فوطيفار . ولكنه لم يسقط ، لأنه كان رافضاً الخطية في داخل قلبه . فلم يقبل الإغراء ، وانتصر على العثرة .
إن الشيطان يقترح عليك اقتراحات ولكنه لا يرغمك على التنفيذ .
الذات والخطية
إذن الوقوع في الخطية سببه الذات دون التركيز على الإغراءات الخارجية التى هي مجرد عروض تقبلها الذات أو ترفضها .
حقاً أن كثرة إلحاح هذه الإغراءات يسبب ضعف الذات من الداخل ، فتستسلم أخيراً وتسقط .
ويكون ضعف الذات هو السبب المباشر . أما العثرات فهي سبب غير مباشر .
ولذلك فإن الذات القوية من الداخل تبعد عن العثرات الخارجية ، حتى لا تؤثر عليها هذه الاغراءات ، فتضعف أمامها . وهكذا حذرنا المزمور الأول من طريق الأشرار ، ومجالس المستهزئين وقال القديس بولس : " أما الشهوات الشبابية فأهرب منها " ( 1تى 2 : 23 ) .
والهروب هنا يكون دليلاً على نقاوة الذات ، لأنها ترفض التأثير الخارجي الخاطئ ...
ولذلك حسناً هرب يوسف الصديق ، ولم يكن هروبه دليل ضعف ، بل دليل قوة .. كان برهاناً على قوته التى استطاعت أن ترفض الخطية وتبعد عنها
الذات النقية ترفض حتى الفكر الخاطئ ، وليس فقط العثرة الخارجية إنها ترفض أن تتفاوض مع هذا الفكر ، إنما تطرده بسرعة ، حتى لا تعطيه فرصة للاستقرار ، وفرصة لإضعافها من الداخل .
وقوة الذات تأتى هنا في غلق أبواب الفكر وأبواب القلب أمام كل اقتراح خاطئ من الشياطين ..
ولهذا فإن المرتل يسبح الرب في المزمور قائلاً : " سبحي الرب يا أورشليم ... سبحي إلهك يا صهيون ، لأنه قوى مغاليق أبوابك ، وبارك بنيك فيك " ( مز146 ) .
وسفر النشيد يطوب الذات التى هي ط جنة مغلقة ، عين مقفلة ، ينبوع مختوم " ( نش4 : 12 )
ولقد صدق المثل الذي قال :
أنت لا تستطيع أن تمنع الطير من أن يحوم حول رأسك ، ولكنك تستطيع ||أن تمنعه من أن يعشش في شعرك .
لابد أن تأتي العثرات . ولكن ما هو موقف ذاتك منها ؟ ما مدي استجابة الذات أو رفضها لهذه العثرات ؟
إنك لابد ستقابل في يوم من الأيام شخصاً يقول لك كلاماً مثيراً .. ولكن المهم هل أنت في الداخل ، ستنفعل وتثار ؟ أم ستكون أقوي من الإثارة ؟ وهذا الكلام الذي قد يكون مثيراً لغيرك ، لا يكون مثيراً لك ، إنما تقابله في هدوء ورصانه وحكمة .
وهنا أختبار الذات ، لا أقول إن السبب كله يقع على الحروب الخارجية إنما هناك حرب داخلية مع الذات . فإن كانت الذات قد خانت الله ، وقبلت الأعداء الخارجيين ، أعداءها وأعداء الله ، فلا نستطيع هنا أن نعفيها من المسئولية ..
وهنا نسأل : هل ذاتك صديقتك أم عدوتك ؟ هل هي معك أم عليك ؟ وصدق مار إسحق قال ..
إن اصطلحت مع ذاتك ، تصطلح معك السماء والأرض .
أي إن استطعت في داخلك أن تقيم صلحاً بين جسدك وعقلك وروحك ، ويسير الثلاثة معاً في طريق واحد هو طريق الروح ، ولا يشتهي الجسد ضد الروح ، ولا الروح ضد الجسد حينئذ تصطلح معك السماء والأرض ، فلا تخطئ إلى الله ، ولا إلى ألناس ولا تخطئ إلى نفسك ..
ولكن لعل إنساناً يقول إنه يحب ذاته ، وذاته تحبه ، وهو يسعد ذاته على لدوام ، وهنا نعرض لنقطة هامة وهي :
المحبة الخاطئة للذات
ما معني أن تحب ذاتك ؟ هل معنى ذلك أن تدلل ذاتك ، وتعطيها كل ما تطلب وكل ما تشتهي ؟ وهل محبتك لذاتك هي أن تمدح الذات ، وتمجدها ، وتفضلها على جميع الناس .
إن كنت تفعل هذا وما يشابهه ، إذن فأنت تحب ذاتك محبة خاطئة ..
المحبة الحقيقية للذات هي أن تسيرها في طريق روحي ، وتلصقها بمحبة الله ، وتوصلها إلى ملكوته .
والمحبة الحقيقية للذات هي أن تؤدب هذه الذات إن أخطأت ، وتقوم طريقها كلما انحرفت الحقيقية للذات هي أن تؤدب هذه الذات إن أخطأت ، وتقوم طريقها كلما انحرفت ، وإن أدي الأمر أن تعاقبها ، أو أن تقف ضد رغباتها الخاطئة .
غبر أن الذات قد تريد أحياناً أن تعيش في حياة اللذة ، سواء كانت لذة جسدية أو حسية ، أو لذة بالعالم وشهواته ... وهنا تكون ذاتك حرباً عليك ... ويكون واجبك أن تقف ضدها بكل قوة ... ونتذكر باستمرار قول الرب :
" إن أراد أحد أن يأتي ورائي ، فلينكر نفسه ، ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني " ( لو9 : 23 ) .
يضع أمامنا الرب فضيلة ـ إنكار الذات ـ كفضيلة رئيسية في الحياة معه ، ولو أدي الأمر أن يحمل الإنسان صليبه كل يوم ، وربما يكون صليباً في مقاومة هذه الذات ، وفي إخضاعها .
ولكن ما أكثر الذين يحبون ذواتهم محبة خاطئة ، ومن مظاهر ذلك ..
تكبير الذات
يريد أن تكون ذاته باستمرار كبيرة وعظيمة ، ولكنه يخطئ في الوسيلة إذ يسعى إلى ذلك بطريقة خاطئة .
فهو يريد أن تكون نفسه كبيرة من الخارج ، وليس في الداخل .
كبيرة من الخارج ، أي بمظاهر خارج النفس ، كالمناصب والألقاب ، والغني والشهرة ، ومديح الناس ، وكل هذه الأمور لا علاقة لها بطبيعته النفس ونقاوتها ، بل هي ضدها وتدل على جهل وعدم فهم . بينما يقول لنا الوحي في المزمور :
كل مجد ابنه الملك من الداخل ( مز45 ) .
على الرغم من أنها " مشتملة بأطراف موشاة بالذهب ، ومزينة بأنواع كثيرة " ( مز44 ) .
فما هو هذا المجد الداخلي ، لمن يريد لنفسه أن تكون كبيرة حقاً ، وبطريقة روحية ؟
المجد الداخلي ، هو أن تكون الذات صورة الله ومثالة ، كما سبق الله وخلقها على شبهه ( تك1 : 26 ، 27 ) .
المجد الداخلي للذات هو أن تشتمل بثمار الروح التي هي محبة فرح سلام وداعة لطف ... إلخ .
( غل5 : 22 ) . وأن تكون الذات نقية قديسة طاهرة بلا لوم في كل شئ ، متضعة هادئة رحيمة حكيمة ... فهذا هو المجد الحقيقي والذي يوصل نفسه إلى هذه الفضائل فهو الذي يحب نفسه محبة حقيقية روحية .أما كسب المديح للذات ، وتمجيدها من الخارج . وأما السعي إلى احترام الناس لهذه الذات . وتقديرهم لها . فهي أمور خارجية ، من المفروض في الإنسان الروحي أن يرتفع عن مستواها ..
ما الذي تستفيده الذات روحياً ، إن مدحها الآخرون ؟ وما قيمة هذا المديح بالنسبة إلى أبدبتها ؟ وهل الكرامة الخارجية هي وسيلة روحية لتكبير الذات ، أم هي حرب روحية يسقط فيها الكثيرون ؟
من مظاهر هذه الحرب . ما يسمونه عبادة الذات ، أو عشق الذات ...
إذ يريد الإنسان أن تكون ذاته جميلة في عينية ، جميلة في أعين الناس ، بلا عيب أمامهم ولا نقص .. كما لو كان يؤمن بعصمة ذاته ، أو بأنه لا يمكن أن يخطئ .
إنه إنسان معجب بذاته ، كمن يحب باستمرار أن ينظر إلى مرآة ، ويتأمل محاسنه .
مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يحتمل اهانة ، مهما كانت ضئيلة ، ولا يحتمل نقداً ، ولا يحتمل أن يكمله أحد بصراحة .
إن هذا كله ، يراه مشوهاً لصورته التي يريد لها أن تبقي جميلة رائعة أمام الناس وإذ لا يقبل الصراحة أو النقد ، يبقي كما هو في أخطائه ، ولا يصحح مسيرته ، ولا يغير صفاته ، وهكذا تكون محبة الذات سبباً في ابعاده عن النقاوة الداخلية .
وتكون محبة الذات هذه خطراً على أبديته ، لأنها ليست محبة حقيقية .
إنها محبة لسمعه هذه الذات . ولصورتها أمام الناس ، وليست محبة لأبديتها ، ولا محبة لنقاوتها ، إنها محبة غير روحية تشكل خطراً ، وتجلب ضرراً ، ونستطيع أن نقول إنها ليست محبة ، بل هي حرب روحية .
ومع ذلك ، فإن محاولة تكبير الذات بمحبة مديح الناس ، هي حرب يسقط فيها كثيرون ..
والذي يحب المديح ، لا يكتفي بمديح الناس ، بل يتطور إلى أن يتحدث كثيراً عن نفسه ، ويمتدحها أمام الآخرين ؟
وفي حديثه عن نفسه ، لا يكون عادلاً ، ولا يذكر حقيقية ذاته كاملة ، فهو لا يتحدث إلا عن محاسن ذاته وانتصاراتها وأمجادها ، وفي نفس الوقت يخفي ما فيها من عيوب ، وإن أظهر له أحد هذه العيوب أو بعضها يحاول أن يبررها ويدافع عنها .
إنها حرب قديمة
إنها الحرب التي حورب بها أبوانا الأولان ، حينما أغراهما الشيطان ، قائلاً : " تصيران مثل الله ، عارفين الخير والشر " ( تك3 : 5 ) .
وكما كان كبر الذات حرباً للإنسان كان هو نفسه سقطة الشيطان .
وفي ذلك وبخه الوحي الإلهي قائلاً : " وأنت قلت في قلبك : أصعد إلى السموات . أرفع كرسي فوق كواكب الله . أصعد فوق مرتفعات السحاب ... أصير مثل العلي " ( إش14 : 13 ، 14 ) . فتكرار كلمة " أصعد وكلمة فوق مع كلمة مرتفعات " كلها تدل على محاولة تكبير الذات .
بل أن تكبير الذات وصل هنا إلى درجة التأله ... أصير مثل العلي .
هلب ترون خطورة للذات أكثر من هذا الارتفاع ، أو من هذا الانحدار ؟ لقد حورب هيرودس بهذه الحرب ، فضربه ملاك الرب ، فأكله الدود ومات ( أع12 : 22 ، 23 ) .
ومن مظاهر تكبير الذات أن يكون الإنسان باراً في عيني نفسه .
وقد قيلت هذه العبارة في سفر أيوب " فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب . لكونه باراً في عيني نفسه " ( أي32 : 1 ) .
بل وبخه اليهو قائلاً له : " قلت أنا أبر من الله " ( أي35 : 1 )
ومن مظاهر تكبير الذات في القديم ، قصة برج بابل :
هؤلاء الذين قالوا : " هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً ، يكون رأسه في السماء ...
ونصنع لأنفسنا اسماً " ( تك11 : 4 ) .
وكانت النتيجة أن الله عاقب كبرياء هؤلاء ، بأن بلبل ألسنتهم وبددهم في الأرض .
يقودنا هذا أن نبحث نقطة أخري وهي أن محبة الذات .
تصطدم بالله
إذا وثق الإنسان بذاته ، يبدأ بعمل خطير و هو : استقلال ذاته عن الله ...
يثق بتدبيره لنفسه ، و تحلو تدابيره فى عينيه ، فلا يستشير الله فى شئ و يقول : ما دمت أعرف ، فلماذا اطلب معرفة من الله ، و لماذا أطلب معونة ؟
لذلك فالواثق بذاته : تصعب علية جداً حياة التسليم .
حياة التسليم تحتاج إلى اتضاع قلب ، و عدم التمسك بالرأى الخاص ، و بالتالى تقف ضدها تمااً حرب الذات.
هنا و نتذكر الخطأ الذى وقع فيه يونان النبى ، الذى هرب من الله ، إذ كان له مشيئة خاصة لم تتفق و قتذاك مع مشيئة الله .
و لما عفا الله عن نينوى – غم ذلك يونان غماً شديداً فاغتاظ – حتى وبخه الله قائلاً : " هل اغتظت بالصاب ؟ " (يون1:4،4) .
حقاً انها مأساة ، أن يغتاظ إنسان من مشيئة الله ، اغتياظاً يطلب به الموت و لكنها الذات !! حتى بالنسبة إلى نبى عظيم كيونان ، حورب كما حورب غيره .
على أن هناك اتجاهاً آخر فى مشكلة الذات ، و هو رفض الله كلية 0
وقع فى هذا الخطأ المرعب ، الوجوديون الذين رأوا بسبب شهواتهم الخاصة أن وجود الله يعطل وجودهم 0
و رأوا أن محبة الله تقف ضد رغباتهم ، و ضد تحقيق الذات عندهم بالصورة التى يحبونها فى حياة اللذة و المتعة ، و فى حياة الحرية المطلقة التى تريد أن تفعل ما تشاء ، حتى لو كان ضد القيم و الآداب و المثل ، و ضد وصايا الله .
أن الحرية المطلقة التى تطلبها الذات ، هى حرب من حروب الذات ، تهدف إلى الاباحية ، و تنتهى إلى الالحاد .
و بعض الناس دخلوا فى هذا النطاق و لكن بأسلوب مختلف ، و لكنه للأسف ينتهى إلى نهايات مشابهة .. هؤلاء هم اللاهوتيون أعطوا أنفسهم حرية فى العقيدة بغيرة حدود . و كل ما لم يوافقهم من تعليم الكتاب انكروه ، أو اعتبروه اساطير أو حاولوا ترجمته حسب إتجاه الذات عندهم .
قصة فلك نوح لا تعجب عقلهم مثلاً ، إذن لا مانع من اعتبارها أسطورة 00 على أن هناك نوعاً آخر اتخذت عنده الذات أسلوباً ضد وصية الله و لكنه أخف من هذا بكثير 00
مثال ذلك الذين لا يحفظون وصية يوم الرب بسبب الذات و مشاغلها أو الذين يكسرون وصية العشور ، بسبب الذات و انفاقاتها .
هؤلاء اصطدمت عندهم الذات بالله سلوكياً و ليس عقيدياً ..
محبة الذات تصطدم أيضاً بأب الاعتراف :
تصطدم بأب الاعتراف
الإنسان المعتد بذاته ، يكون أب الاعتراف بالنسبة إليه مجرد شكليات .
أنه لا يطلب إرشاد من أب اعترافه لأنه يعرف كل شئ و الحل حاضر فى ذهنه ، و هو لا يطلب منه قيادة حياته الروحية ، لأنه يعرف كيف يقودها و يعرف الخير لها بالأكثر 0!!
كل ما يطلبه من أب الاعتراف هو الموافقة عما يعرضه هو عيه ، حتى يستوفى الشكليات من جهة موافقة أب الاعتراف ، و إن لم يوافقه ، يظل يجادله و بلح .
و يشرح و يبدى أعتراضات عملية على الحلول الأخرى التى يعرضها أب الاعتراف ، لكى يستقر أخيراً على رأيه . و بالاختصار نقول عن الواقع فى حرب الذات أن الطاعة صعبة عليه ، و أنه يسلك دائماً حسب هواه ..
أنه يفكر لنفسه ، و الفكر الذى يأتيه من غيره ، هو مجرد اقتراح لا يلتزم به ، مهما كان مصدره . و إن كان سلوكه هكذا مع اب اعترافه ، فبلا شك سيسلك هكذا مع رؤسائه المدنيين .
لذلك كثيراً ما نرى المعتد بذاته يصطدم برؤسائه فى العمل . و يمكن أن يصطدم ببعض زملائه أيضاً ، إنه يشعر أنهم يتدخلون فى عمله .
الشعور بالذات
شعور الإنسان بذاته و تمركزه حولها له أسباب نذكر منها :
أول شئ يجعل الإنسان يشعر بذاته ، هو التفوق ، و المواهب ، و القدرات غير العادية و الشعور بالقوة .
كل هذه أمور قد تحاربه من الداخل و ربما تريد أن تعبر عن وجودها بأى مظهر خارجى يثبت به الإنسان أنه صاحب مواهب و مقدرات ..
و تزيد الحرب عليه ، إن دخلت فى دور من المقارنة ..
و شعر أنه أفضل من غيره فى شئ ما ، أذكى منه ، أو أكثر معرفة أو أكثر خبرة ، أو أقوى جسداً ، أو أجمل شكلاً ، أو صاحب موهبة معينه ، فى الرسم ، فى الموسيقى ، فى الشعر ، فى عمل اليد عموماً ، فى اللغة ... إلخ .
و حتى فى خدمة الرب قد تبرز الذات .. إن شعر الإنسان أن له طاقات فى الخدمة أكثر من غيره . كأن يكون أكثر حفظاً من الألحان أو أجمل صوتاً ، أو أن يكون أكثر من غيره دراسة للكتاب ، أو إلماماً بأقوال الآباء ، أو أن يكون أعمق تأثيراً فى خدمته ، أو فى وعظه ، أو فى وعظه ، أو فى تدبيره ، أو فى مشروعاته .
و قد يكون سبب الشعور بالذات : المركز ، المنصب ، الغنى ، الشهرة . و ربما تكون كل هذه أسباب شعور بالذات ، و لكن المتواضعين يفلتون منها ، إن استخدموا كل ذلك فى مجال خدمة الآخرين ، و ليس فى مجال ظهور ذواتهم أو الافتخار بها ، أو الارتفاع على غيرهم ..
إن المواهب له بلا شك خطورتها .
فقد ترفع القلب من الداخل ، و ربما ترفعه فى الخارج ايضاً ، و تقود إلى حرب المجد الباطل ، و لذلك قد يتساءل الفكر عن الذين أعطاهم الرب موهبة صنع المعجزات ، كيف كانوا يحتملونها ؟ و بخاصة لو كانت إقامة موتى ، أو فتح أعين العميان .. و لهذا قال أحد الآباء :
إن وهبك الله موهبة ، فاسأله أن يهبك معها اتضاعاً ليحميها ، أو أسأله أن يرفعها عنك .
و هنا و نتعجب من الذين ، بدلاً من أن يطلبوا من الله أن يمنحهم نقاوة القلب و ثمار الروح ، نرام يطلبون منه موهبة التكلم بألسنة مثلاً ..
و لا تكون فى ذهنهم وقتذاك خدمة الكلمة فى مجاهل أفريقيا أو الصين أو اليابان .. و إنما يطلبون الموهبة و كفى .
ألا يحتمل جداً أن تكون وراء طلب مثل هذه المواهب ، حرب من الذات ؟
ماذا تفيدك أيها الأخ أمثال هذه المواهب ، التى قد تكون حرباً عليك ، و لماذا يحزن قلبك إن لم تكن لك ؟ هوذا الرب يأمرنا أن نطلب ملكوت الله و بره .
أما أن شاء تدبيره الإلهى ، أن يهبنا شيئاً من هذه المواهب أم من الجائز أن تقودنى إلى كبرياء تضيع أبديتى ؟
نتائج عبادة الذات
الإنسان المعتد بذاته يصل إلى العناد و تصلب الرأى .
فكره هو فوق الكل ، لا يقبل فيه معارضة ، بل يعادى من يعارضه أو يكرهه ، أو يعمل على تحطيمه ، أو على الأقل يتجاهل الرأى الآخر .
إنه اعتداد بالذكاء الشخصى أو بالمعرفة الشخصية . و فيه يكون الشخص صعب التفاهم جداً .
و أمثال هؤلاء ، أن حدثهم أحد ، يردون عليه قبل ان يكمل حديثه ، و قد يقاطعونه أثناء الكلام أكثر من مرة .. و مهما أورد محدثهم من أدلة قوية ، يبقون على رأيهم كأن لم يقل شيئاً ..
و لذلك يتجنبهم الناس ، أو يتجنبون النقاش معهم ، شاعرين أنه لا فائدة . و المعتد بذاته ، إذا تولى رئاسة ، يصل إلى أسلوب من التسلط .
ليس فقط من جهة تصلبه فى الرأى إنما أيضاً من جهة تنفيذ هذا الرأى و لو بالقوة ، و قد يحدث هذا حتى فى محيط الخدمة ، حينما يلغى أحد الخدام شخصية كل الخدام الآخرين و النقاش معهم ، إذ لا فائدة من النقاش ! أنا قلت كده !
و هنا عبادة الذات ، تقود حتماً إلى الغرور ، و الكبرياء ، و حب العظمة .
و فيها ينتقد الإنسان حياة الوداعة و التواضع و الهدوء ، و يصل من التسلط إلى التأله . على أن هناك جانباً آخر ، قد يقع فيه لون آخر من محبى الذات ..
الإشباع الحاطئ للذات
و ذلك هو الإشباع الخاطئ لمحبة الذات و نقصد به اشباع الذات عن طريق اللذة و ليس عن طريق الكبرياء .
يجمع الأمرين معاً قول القديس يوحنا الرسول ، شهوة الجسد و شهوة العيون ، تعظم المعيشة (1يو16:2) .. فشهوة الزنا تدخل فى حرب الذات و شهوة الطعام هى حرب أخرى للذات فى نطاق الجسد .
لأن حرب الذات قد تأخذ اتجاهاً جسدياً ، كما تأخذ اتجاهاً نفسياً .
و قد يدخل فى إشباع الجسد ، عدم القدرة على الصوم ، و التهالك على الطعام الشهي ، و شرب الخمر ، و على أنواع المكيفات ، ربما تصل إلى حد الإدمان . و الحديث عن شهوات الجسد ، موضوع طويل ليس الآن مجاله ..
الذات فى محيط العطاء
محبة الذات تقف حائلاً منيعاً ضد الآخرين ، و ضد حياة البذل ، و العطاء .
مثال لذلك الغنى الغبى و أهماله للعازر المسكين (لو16) . و مثال لذلك أيضاً كل المصابين بالبخل و التقتير ، و الذين يهملون دفع البكور و العشور و النذور ، لكى ينفقوه على الذات .
على أن المحب لذاته قد يعطي ، ولكن في حدود معينة لا تصطدم بذاته ورغباتها ..
هو قد عطي من فضلاته ولا يستطيع مطلقاً من أعوزه ، كما فعلت تلك الأرملة القديسة التي طوبها الرب له المجد ( لو21 : 4 ) .
·
ومهما أعطي ، فإنه يعطي خارج ذاته ، ولا يمكنه مطلقاً أن يبذل ذاته . المحب لذاته ، لا يمكنه أن يضحي بذاته من أجل غيره ، ولا يمكنه أن يفتدي غيره بنفسه . وإن وجد خطراً يلحق به إن دافع عن غيره ، يضع حداً لدفاعه . لأن ذاته هي الأهم في نظرة ! ... حقاً ما أبعد محبة الذات عن التضحية ، وعن الفداء ، وعن الاستبسال في الدفاع عن الآخرين .بل قد تقف الذات حائلاً ضد الخدمة أيضاً ، بحجة ضيق الوقت أيضاً .
فالمحب لذاته يعطي للخدمة ما فضل من وقته كما يعطي الفقراء من فضلاته .ومن الجائز أن يعتذر عن الخدمة ، ولا يلتزم بمواعيدها ، إن طرأت عليه مشغولية ما ، فإنه يفضلها على الخدمة ، مهما كانت نتائج ذلك بالنسبة إلى الخدمة .
إن كان الأمر هكذا ، فماذا نقول إذن عن الاستشهاد ؟
المحب لذاته لا يستطيع ان يقدم على الاستشهاد ، لأن نفسه عزيزة عليه ، ولهذا كان لابد للشهيد أن يتخلص أولاً من محبة الذات والاهتمام بها هذا الاهتمام الباطل الذي لا يحفل بأبديتها .
الشهيد من أجل الله يبذل ذاته .
وهناك درجة أقل من الشهادة ، وهي إعطاء الإنسان ذاته لله بتكريسها له . فالتكريس درجة عليا
في الخدمة ، يهب المكرس فيها كل وقته لله ، على شرط أن يبعد التكريس اً تكبر به الذات ، إنما تكريس تبذل فيه الذات .والإنسان المنكر لذاته ، حينما يعطي إنما يعطي خير ما عنده .
لآته لا يحب الخير لذاته ، بقدر ما يحب الخير لغيره ، وفي ذلك يقول الرسول عن المحبة إنها " لا تطلب ما لنفسها " ( 1كو13 ) .
المحب لذاته لا يمكنه أن يعطي خير ما عنده ، بل يحتجزه لنفسه .
واسؤا ما في محبة الذات في هذه الناحية أن يعطى الإنسان شيئاً ثم يندم عليه فيسترجعه .
ننتقل الآن إلى نقطة أخري عن الذات وهي :
أخطاء الذات في المعاملات
أحياناً يجد الإنسان المحب لذاته ، إنه لابد أن يقف ضد الآخرين لا ثبات ذاته .
وأول خطوة في ذلك هي المنافسة .
المنافسة إن كانت مباراة في النفع العام ، بحيث يتنافس الكل في خدمة المجتمع ، حينئذ تكون المنافسة خيراً .. وكما قال الكتاب : " حسنة هي الغيرة في الحسنى " ( غل4 : 18 ) .
إما أن كانت المنافسة هي محاولة انتصار فريق على الآخر ، ولو بتحطيمه فهنا تظهر الذات ومعها عدم محبة الآخرين .
حسن أن يتبارى الجميع في التفوق أما أن يكره شخص من يتفوق عليه فهنا أيضاً تظهر خطورة محبة الذات . هنا تقود الذاتية إلى الحسد وإلى الغيرة وإلى الكراهية .
إنها الغيرة الطائشة التي تريد أن يصل إليها وحدها كل شئ ، ولا يصل إلى أحد شئ ، هي وحدها التي تكبر والتي تملك ، وهي وحدها التي تتفوق ، والتي تمدح ، وهي التي تسلط عليها الأضواء ، ولا تسلط على غيرها ... وإلا ...
وإلا تبدأ الذات حرباً مع كل من ينافسها ، أو يسير في نفس الطريق معها .
ذات تريد أن تكبر ، وذات أخري تريد أن تكبر وحدها ، وهنا الخطورة حيث تثير هذه الذات جواً غيرها دون عيب فيه ، ودون أن يقترف ذنباً ضدها أو ضد أحد ..إنه صليب يحمله المتفوقون ، ممن يحسدونهم على تفوقهم .
وهذا هو الذي لاقاه داود النبي من شاول الملك ، أو هذا هو الذي لاقاه يوسف الصديق من أخوته ، ولنفس السبب قام هيرودس ضد السيد المسيح منذ مولده وبنفس الشعور قال : الفريسيون بعضهم لبعض : " انظروا أنكم لا تنفعون شيئاً .. هوذا لعالم قد ذهب وراءه " ( يو12 : 19 ) .
حقاً ما أصعب تلك العبارة التي قيلت في سفر التكوين .
" لم تحتملها الأرض أن يسكنا معاً " ( تك13 : 6 ) .
إذا أرادت الذات أن تملك ، تكون مستعدة أن تحطم كل من ينافسها ، مثلما حدث أن آخاب قتل نابوت اليزرعيلى .
ونفس الوضع في الاحترام والمديح .
إن كان من مشاكل المحب لذاته ، أنه يحب مديح الناس واهتمامهم به واحترامهم والاهتمام له ، فأخطر من هذا ، شخص يريد أن يكون الوحيد الذي هو موضع الاحترام والاهتمام والمديح بتقدير الآخرين .
ومن هنا تأتي الصراعات بين أصحاب المهنة الواحدة ، أو الذين يعملون في نشاط واحد ، أو يتنافسون على رئاسة .
مريم واحد ، أو يتنافسون على رئاسة .
مريم كانت جالسة عند قدمي المسيح تستمع إليه ، ولم تفعل شيئاً ضد مرثا . ولكنها لم تسلم من انتقادها ... إنها الذات التي دفعت مرثا إلى انتقاد أختها مريم ، لماذا أتعب أنا وحدي ، تقوم هي لتتعب معي ، أو لماذا هي تتمتع بجلسة التأمل واحرم أنا منها ؟ ( لو10 : 40 ) .
وكما حدث من أجل الذات أن مرثا انتقدت مريم ، حدث لنفس السبب أن الابن اكبر انتقد أخاه الأصغر ( لو15 ) .
نقطة أخري في محبة الذات . وهي أن المحب لذاته لا يمكن أن يأتي بالعيب على نفسه وإنما ...
يلقي بمسئولية أخطائه على غيره .
حتى أن رسب في الامتحان ، فإما أن واضع الامتحان كان قاسياً في أسئلته ، وإما أن المصحح لم يكن رحيماً في تصحيحه . وإما أن الله لم يسنده في امتحاناته على الرغم من الصلوات التي رفعت إلهي .
ولذلك يري نفسه مظلوماً باستمرار المحب لذاته .. إما أن يصل وإما دائماً يسخط ، ويتذمر ، ويشكو .
يشكو والدية ، ويشكو المجتمع ويشكو الزمان الذي يعيش فيه ، ويشكو معاملات الآخرين ، ويشكو معاملات الآخرين ، ويشكو أسباباً عديدة لعدم وصوله ، وينتقد كل اللذين وصلوا ، وأسالبيهم التي ارتفع هو عن مستواها ...
أما ذاته فهي الوحيدة التي لا يشكوها والوحيدة التي لم تخطئ ...
ومن أجل هذا ، هو لا يصلح عيباً فيه ، لأن ذاته تبدو أمامه بلا عيب .. وإذ تستمر متاعبه ويستمر عدم إصلاحه لنفسه ، تستمر بالتالي شكاواه التي لا تنتهي .
إن كان رئيساً يشكو من أخطاء مرؤوسيه .. وإن كان مرؤوساً يشكو رؤساءه وزملاءه ..
وإن كان ولا أحد من هؤلاء قد أخطأ ، حينئذ يشكو الأنظمة والقوانين واللوائح ! المهم أنه يدافع عن ذاته إن ارتكب خطأ : فيغطيه بالكذب أو بتبريرات عديدة ، أو يلقي التبعي على غيره ، أو يقول إنه ما كان يقصد ... وهكذا بدلاً من أن يصلح ذاته ، يغطيها !
والمحب لذاته حساس جداً نحو كرامته ، يعامل نفسه والناس بميزانين مختلفين .
يدقق جداً في أقل كلمة توجه إليه بينما لا يبالي بما يقوله هو للناس . ويريد معاملة ، لا يعامل بها غيره .
هو حساس نحو كرامته ، ولكنه ليس حساساً نحو كرامة الناس في معاملته لهم .
متى وكيف ينكر الإنسان ويدين ذاته هذا ما أود أن أحدثك عنه الآن .
إنكار الذات
المثال العظيم
إن كان الإنسان الأول قد أنهزم في حرب الذات ، واشتهي أن يصير مثل الله ( تك3 : 5 ) فإن السيد المسيح الذي بارك طبيعتنا فيه ، صحح هذه النقطة . وكيف كان ذلك ؟ يقول عنه الرسول إنه :
" أخلي ذاته . وأخذ شكل العبد صائرً في شبه الناس " ( في2 : 7 ) .
وعاش على الأرض فقيراً ، ليس له أين يسند رأسه ( لو9 : 58 ) بلا وظيفة رسيمه في المجتمع . وتنازل عن كرامته . " ظلم . أما هو فتذلل ولم يفتح فاه .. واحصي مع إثمه " ( أش53 : 7 ، 12 ) ولم يدافع عن نفسه ...
أنكر ذاته مكن أجلنا . ووضع ذاته لكي يرفعنها نحن . ووقف كمذنب لكي نتبررر نحن . ذاته لم يضعها أمامه بل وضعنا نحن ..
ومع أن معمودية يوحنا كانت للتوبة ولم يكن السيد محتاجاً إلى توبة ، وبالتالي ما كان محتاجاً إلى معمودية ، إلا أنه من أجلنا تقدم إلى العماد . وفي نكران للذات قال لعبده يوحنا : " اسمح الآن " ( مت3 : 15 ) .
إن إخلاء المسيح لذاته موضوع واسع ، ليس الآن مجاله . يمكن أن تقرأ عنه مقالاً طويلاً في كتابنا ( تأملات في الميلاد ص7 إلى28 ) .
نتابع الآن عناصر إنكار الذات :
بذل الذات
سواء كان هذا البذل من أجل الله ، أو من أجل الكنيسة ، أو من أجل أي إنسان قريب أو بعيد . وما أجمل قول القديس بولس الرسول في هذا الشأن :
" ولا نفسي ثمينة عندي " ( أع20 : 24 ) وهكذا بذل الرسول نفسه في خدمته .
" في تعب وكد . في أسهار ، في أصوام . في جوع وعطش ، في برد وعري ، بأسفار مراراً كثيرة ، بأخطار في المدينة ، بأخطار في البرية ، بأخطار في البحر ، بأخطار من أخوة كذبة " ( 2كو11 ) " في شدائد ، في ضرورات ، في ضيقات ، في سجون " ( 2كو6 : 4 ، 5 ) .
وهكذا أعطي نفسه مثالاً للخدمة التي لا تبحث عن الراحة . إنما تبذل ذاتها وتتعب في الكرازة والتعليم وفي البحث عن الضال ..
إنه نفس مثال الشمعة التي تذوب لتنير للآخرين ، ومثال حبة البخور التي تحترق لتعطي رائحة ذكية لغيرها .
إنه مثال نقدمه لمن يشترط لتكريسه أن يكون ذلك في بلدة كبيرة ، أو في كنيسة غنية ، أو في كنيسة قريبة من بيته !
من أجل الكرازة تغرب الرسل في بلاد بعيدة . وكرز البعض وسط شعوب من آكلي لحوم البشر . المهم أن تنتشر كلمة الله .
إذا دعيت يا أخي للخدمة ، لا تفكر في ذاتك ، ولا في راحتك ، ولا في احتياجاتك المالية والمادية ، فالله يعتني بكل هذه . إنما ركز تفكيرك كله في احتياج النفوس إلى الله . وابحث عن الأحياء المحتاجة ، والمناطق غير المخدومة مهما بذلت في سبيل ذلك ..
وتذكر في الخدمة قول الرب :
" من وجد حياته يضيعها . ومن أضاع حياته من أجلي يجدها " ( مت10 : 39 ) .
فما معني هذه العبارة العجيبة ؟ وما هي أعماقها الروحية ؟ وما أمثلتها ؟
من أضاع نفسه
لعل البعض كان يظن أن موسى النبي ـ من أجل غيرته المقدسة – قد ضيع نفسه ، حين ترك الامارة والقصر الملكي !! " مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله ... حاسباً عار المسيح غني أفضل من خزائن مصر " ( عب11 : 25 ، 26 ) .
ولكن نفس موسى لم تضع ، وإنما وجدها في راحة الآخرين ، وفي إيمانهم ، وفي عمل الله به . وهكذا صار زعيماً للإيمان في أيامه .
وأول من ائتمنه الله على شريعة مكتوبة .
ووقف موسي على جبل التجلي مع المسيح وإيليا . أما الإمارة التي ضيعها فكانت نفاية إلى جوار الأمجاد التي حصل عليها .
على أن موسي ما كلن ينظر إلى هذه الأمجاد حينما ترك قصر فرعون ... إنما كان يهمه أن يبذل ذاته لأجل الشعب مفضلاً أن يذل معهم على التمتع بالقصور !! ..
ونفس الوضع نراه مع إبينا إبراهيم . فحينما دعاه الله ، إنما دعاه إلى البذل ، بأن يترك أهله وعشيرته وبيت أبيه ، ويذهب ليتغرب بعيداً في أرض لا يعرفها ( تك12 ) . ثم دعاه بعد ذلك إلى اختبار أصعب ، إلى بذل ابنه الوحيد . " وإبراهيم لما دعي أطاع " ( عب11 : 8 ) .
وبذل إبراهيم صار صورة مضيئة عبر الأجيال . وعوضه الله عنه بنسل كنجوم السماء ورمل البحر . وكلنا أبناء لإبراهيم ( رو4 : 11 ، 16 ) .
هل كان إبراهيم يفكر في ذاته ، حينما رفع السكين ليذبح ابنه ؟!كلا ، لم تكن ذاته أمامه اطلاقاً ، بل كانت أمامه وصية الله . وبنفس الشعور ترك إبرام وطنه ، وهو لا يعلم إلى أين يذهب ( عب11 : 8 ) .
ولكن الله وضع المكافأة لهذا الذي بذل ، ولكل من يبذل .
إبذل ذاتك إذن . وثق أن هذه الذات ستكون عزيزة وغالية جداً عند الله . ولن يتركها تضيع . بل سيردها إليك أضعافاً . وتجدها فيه .
ننتقل إلى نقطة أخري في إنكار الذات ، وهي :
الزهد وعدم التنعم
الإنسان الذي يهتم بذاته وشهواتها يقول كما قال سليمان من قبل : " بنيت لنفسي بيوتاً ، غرست لنفسي كروماً ، عملت لنفسي جنات وفراديس ...
ومهما اشتهته عيناي . لم أمسكه عنها ... " ( جا2 : 4 – 10 ) .
هنا التنعمات المادية والجسدية للذات والتي ينطبق عليها قول الرب : " من وجد حياته يضيعها " ( مت10 : 39 ) .
وعكس ذلك الزهد ، في الأكل ، في الملبس ، في كل شئ .
الذين تنعموا استوفوا خيراتهم على الأرض . كما قيل لغني لعازر ( لو16 : 25 ) أما الزاهدون فأجرهم فوق مع الله في السماء .
كل قصص الأباء الرهبان والمتوحدون والسواح ، إنما هي أمثلة رائعة عجيبة في حياة الزهد التي يتجحد الذات وكل شهواتها .
وهناك أمثلة في الزهد ، حتى لأشخاص عاشوا في قصور الملوك مثل دانيال النبي لذي قيل عنه : " وأما دانيال ، فجعل في قلبه أنه لا يتنجس في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه " ( دا1 : 8 ) . وقال هو عن نفسه في صومه :
" لم آكل طعاماً شهياً . ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر . ولم أدهن . حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام " ( دا10 : 3 ) .
أين الذات هنا ، بالنسبة إلى إنسان يعيش في قصر ملك ، ويرفض كل أطايبه ويكتفي بالقطانى ؟! ومع أنه كان رئيساً للولاه ، لا يضع في فمه شيئاً شهياً ...
إن تداريب الصوم هي محاولات عملية لقهر الذات . وكذلك السلوك بالعفة .
قهر الذات
الصوم والعفة هما قهر للذات من جهة طلبات الجسد وشهواته . وهناك قهر آخر للذات من جهة النفس ...
سعيد هو الإنسان الذي يراقب ذاته ويمنعها كلما تشرد نحو النعمان العالمية .
فقد تميل النفس إلى حب الظهور ، وإلى الإعلان عن ذاتها ، والسعي وراء العظمة . وفي كل ذلك ينبغي أن نقاومها .
وتقنع ذاتك التنعم بالله أفضل وأنه خير لها أن تكتنز خيراتها في العالم الآخر .
إن الذين يريدون أن يتنعموا هنا ، لابد يقف أمامهم قول الرب : " الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم " ( مت6 : 5 ) .
لا تحاول إذن أن تأخذ كل حقوقك على الأرض ، فمن الخير أن تأخذها هناك ، حيث يسمح الله كل دمعة من عينيك .
فإن مالت نفسك . أو مال جسدك إلى متع العالم الحاضر . امنعها بشدة لا قسوة عليهما . إنما ضماناً ولأبديتهما .
فالذي يدلل ذاته هنا ، إنما يهلكها ... والذي يتراخي في ضبط ذاته ، تقوي ذاته عليه وتتمرد على سلوكه الروحي . بعكس الذي يدرب ذاته ويروضها في دروب الرب .
وثق أن قهر الذات لذة روحية لا تعادلها كل ملاذ الجسد .
ولعلني أكون قد كلمتك عن قهر الذات في مقال سابق عن التغصب .
ومن العجيب أن الذات تحب أن تظهر حتى في الخدمة ! حيث يجب أن تختفي تماماً .
الذات في الخدمة
إن الشيطان إذا وجد الإنسان حريصاً يقهر ذاته في كل ملاذ الجسد ، قد يحاول أن يدخل معه في حرب أخري ، لكي يجعل للذات مجالاً للظهور في محيط الخدمة !
وما أسهل أن يجد الإنسان في الخدمة مجداً وظهوراً واشباعاً للذات .
ما أسهل أن يتخذ إنسان العظة لعرض معلوماته ، والإعلان عن مواهبه ومعارفه ، حتى إن كان كل ما يقوله بعيداً كل البعد عن خلاص النفس وعن موضوع العظة ! ويقف الشيطان ضاحكاً راضياً عن العظة التي تهلك الواعظ ، ولا تفيد أحداً من الموعوظين !
ما أسهل أن الخادم يربط المخدومين بشخصه وليس بالله . أو يكون منهم فريقاً يناصره إذا تعب . وهنا تبدو الذات واضحة .
أما الروحيون فهم ليسوا كذلك .
العظة بالنسبة إليهم هي محاولة مخلصة للدخول إلى أعماق النفس لأجل تطهيرها وتقريبها إلى الله ، بترك خطاياها ، وبمحبة الخير والله ، أياً كانت اللغة أو الأسلوب .
فالمهم هو الهدف الروحي .
شتان بين عظة يخرج منها السامعون قائلين [ هذا واعظ علامة ] وبين عظة يخرجون منها قائلين نريد أن نتوب ...
ذاته الواعظ أو المعلم أو الكارز ، ليست هي الهدف ، إنما الهدف هو خلاص النفس . والواعظ الناجح هو الذي يكسب نفوساً للرب ، وليس الذي يكسب تقديراً شخصياً من سامعيه ... وما أجمل قول المرنم في المزمور :
" ليس لنا يارب ليس لنا . لكن لاسمك القدوس أعط مجداً " ( مز115 : 1 ) .
العظة هي أن نكشف للموعوظ ذاته وحروبه : ونعلمه كيف يدين ذاته وكيف ينتصر عليها : لا أن نقدم له معلومات لا يدان في اليوم الأخير على جهله أياها !
ولو أن كل واعظ نقي عظته من
الذات ، وركزها على خلاص الآخرين ، لكسبنا للملكوت كسباً عظيماً ..." ينبغي أن ذاك يزيد . وإني أنا أنقض " ( يو3 : 30 ) .
وهكذا كان يوحنا يحول كل محبة الناس إلى المسيح ويختفي هو . إنه لم يأت ليشهد لنفسه ، وإنما " ليشهد للنور ، ليؤمن الكل بواسطته " ( يو1 : 7 ) .
جاء يعد الناس لاستقبال المسيح ، ويهيئ له شعباً مستعداً ( لو1 : 17 ) وينجح يوحنا في رسالته لاختفاء ذاته . ونسجل هنا حقيقة هامة :
هناك أمران تنجح الخدمة بهما :
1 ـ أن يكون الله هو الهدف .
2 – وإن يكون الله هو الوسيلة ولا تكون الذات هدفاً ولا وسيلة .
ذلك لأن كثرين يعتمدون على ذاتهم في الخدمة اعتماداً أساسياً ، على ذكائهم ومعلوماتهم وتأثيرهم الشخصي كما يعتمدون على شهرتهم وهيبتهم في قبول الناس لتصرفهم ولكلامهم .. ! وأين الله ؟
وإذ لا يدخل الله في الخدمة ، تفشل وتظهر الذات . وإذ تقل الصلاة في الخدمة ، تضع لأن الله لم يباركها .
إن خدمة الروحيين لها طابعها الخاص : تشعر فيها أن الله هو الي يعمل . وهو الذي يبارك كل خطوة وأنها ليست نتيجة فلان أو فلان ...
لذلك يوجد أيضاً السلام في محيط الخدمة ، وتوجد المحبة أيضاً والتعاون . وليس فقط كل واحد يختفي لكي يظهر الله ، إنما أيضاً يختفي لكي يقدم غيره من الخادمين على نفسه .
أما إن وجد في الخدمة بولس وأبولس . فهنا توجد الذات . وتوجد معها الشقاقات ( 1كو3 : 3 ، 4 ) .
ولهذا نصح السيد المسيح تلاميذه بأن يبعدوا الذات عن محيط الخدمة ، حينما فكروا من يكون الأول فيهم . وقال لهم :
" لا يكون هكذا فيكم ، بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً ، فليكن لكم خادماً كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم . ويبذل نفسه فدية عن كثيرين " ( مت20 : 26 – 28 ) .
وما أجمل قول الشيخ الروحاني :
[ كل مكان حللت فيه . كن صغير أخوتك وخديمهم ]
إن محبة الرئاسة حرب شديدة قد تعمل على إفساد الخدمة . وكذلك التنافس ومحبة الظهور . وكلها ناتجة عن الذات .
وهذه كلها عالجها السيد المسيح بمبدأ " المتكأ الأخير " لو14 : 10 ) .
المتكأ الأخير
ولسنا نعني هنا الأخير من جهة المكان ، إنما من جهة المكانة .
فلا تحسب نفسك أنك أهم الموجودين في المكان الذي تحل فيه .
وإن رأيك هو أهم الآراء ، وقرارك هو أهم القرارات . ومركزك هو الأهم .. وينبغي أن تكون أنت المطاع ، وأنت المحترم وسط الكل ، وإلا تغضب وتثور !!
لا تعط لنفسك كرامة وتفرضها على الآخرين . إنما اترك الناس يكرمونك من أجل ما يرونه من وداعتك واتضاعك
لا ترغم الناس على احترامك ... فالاحترم شعور داخل القلب ، لا يأتي بالإرغام ، إنما بالتقدير الشخصي .
قد ترغم إنساناً على طاعتك ولكنك لا تستطيع أن ترغمه على احترامك والارغام في هاتين الحالتين كليتهما لون من سيطرة الذات ... وفي معاملاتنك مع الناس . كن نسيماً ولا تكن عاصفة !
كثيرون يحبون صفة – العاصفة – لأن فيها القوة . أما النسيم فيمثل الوداعة واللطف ، اللذين ينبغي أن يتصف بهما كل من ينكر ذاته .
في معاملاتك مع الناس . لا تفضل نفسك على غيرك .
فإن الرسول يقول لنا : " مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة " ( رو12 : 10 ) .
على أن يكون ذلك من عمق القلب ، وبعمق الاتضاع ، وبغير رياء ...
وهناك درس آخر في التعامل مع الناس ، دمه لنا الرب في العظة على الجبل ، وهو :
الميل الثاني
وقال في ذلك : " من سخرك ميلاً واحداً ، فأذهب معه اثنين . من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك ، فاترك له الرداء أيضاً " ( مت5 : 40 ، 41 ) .
وبنفس الوضع تحدث الرب عن الخد الآخر .
فقال : " من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " وكأنه أراد بها كله أن يقول لنا :
كن مظلوماً لا ظالماً . وكن مصلوباً لا صالباً . لا تنتقم لذاتك .
إن الذات تريد أن تأخذ حقها ، وتأخذه بنفسها ، وهنا على الأرض ، وبسرعة على قدر الإمكان
أما تعليم الرب لنا في إنكار الذات فيقول لنا فيه :
" لا تقاوموا الشر " ( مت5 : 39 ) .
لا تجعل ذاتك تتدخل ، لتنال حقوقك أو لتنتقم . واذكر قول الكتاب : " لي النقمة ، أنا أجازي ، يقول الرب " ( رو12 : 19 ) .
ومع أن النقمة للرب ، لا تطلب أنت منه هذه النقمة . فالكتاب يقول :
" المحبة لا تطلب ما لنفسها " ( 1كو13 ) .
ولماذا لا تطلب ما لنفسها ؟ ذلك لأنها بعيدة عن الذات .
وفي نفس الوقت الذي لا تمجد فيه نفسك ، ينبغي على العكس أن تدين ذاتك .
مشكلة المشكلات ، في كل المعاملات ، أن يعتقد الإنسان أنه على حق ! على طول الخط !
إدانة الذات
لذلك إذا أخطأ لا يعتذر ، لأنه يشعر أنه على حق ولم يخطئ . وإذ ساء تفاهمه مع أخية لا يذهب ليصالحه ، لأنه يأمل أن طلب الصلح لابد يأتي من الطرف الآخر ! لماذا ؟ إنها الذات .
بل حتى مع الله ، قد لا يعترف بأخطائه ، لأن ذاته تقنعه أنه لم يخطئ .
إدانة الذات تأتي من الاتضاع . والاتضاع يأتي بنكران الذات وغير المتضع لا يدين ذاته ولا يلومها . بل دائماً يدين ويلوم الآخرين !!
وإن قلت له : لماذا تلوم الآخرين يلومك لأنك تقول له هذا .
الإنسان الذي لا يعكف على تمجيد ذاته وتكبيرها ، بأسلوب علماني ، والذي يهدف باستمرار إلى تنقية ذاته من كل الأخطاء وتكبيرها ، بأسلوب علماني ، والذي يهدف باستمرار إلى تنقية ذاته من كل الأخطاء والنقائص ... تراه باستمرار يلوم نفسه ، ويفحص أخطاءه ويدين ذاته عليها ..
في إحدي المرات زار البابا ثاؤفيلس منطقة القلالي ، وسأل الأب المرشد في الجبل عن أحسن الفضائل التى أقتنوها ، فأجابه :
[ صدقني يا أبي ، لا يوجد أفضل من أن يأتي الإنسان بالملامة على نفسه في كل شئ ... ] .
هذا هو الأسلوب الروحي الذي يسعي به الإنسان إلى تقويم ذاته : يأتي بالملامة على نفسه ، وليس على غيره وليس على الظروف المحيطة به .. وليس على ظاناً أنه قصر في معونته .. !
والذي يدين نفسه ههنا ، ينجو من الدينونة في العالم الآخر .
لأنه بإدانته لنفسه يقترب من التوبة ، وبالتوبة يغفر له الرب خطاياه . أما الذي لا يدين ذاته . من أجل اعتزازه بهذه الذات ، فإنه يبقي في خطاياه ، ولا يتغير إلى أفضل ، ويكون تحت الدينونة . وصدق القديس الأنبا أنطونيوس حينما قال :
[ إن دنا أنفسنا ، رضي الديان عنا ] ..
[ إن ذكرنا خطايانا ، ينساها لنا الله . وإن نسينا خطايانا ، يذكرها لنا الله ] .
وإدانتنا لأنفسنا تساعد على المصالحة بيننا وبين الناس . يكفي أن تعتذر لإنسان وتقول له : [ لك حق . أن أخطأ في هذا الأمر ] .. لكي تضع بهذا حداً لغضبه ويصطلح معك ... أما إن ظللت تبرر موقفك ، فإنك تري خصمك يشتد في إثبات إدانتك . وما أجمل قول القديس مقاريوس الكبير في هذا المجال :
[ احكم يا أخي على نفسك ، قبل أن يحكموا عليك .. ] .
الفصل الثالث
الفراغ
هناك حروب روحية كثيرة تحارب الإنسان في طريقة الروحي : بعضها من داخله ، وبعضها من خارجه ، من الشيطان أو الظروف المحيطة . وسنتحدث اليوم عن الفراغ كأحد هذه الحروب ...
والفراغ على أنواع منها :
فراغ الوقت
إن الفراغ يتعب من يشعر به ، وقد يقوده إلى أخطاء روحية عديدة ، إذا أساء الطريقة في ملء هذا الفراغ .
لذلك عندما خلق الله أبانا آدم ، لم يتركه في فراغ ، بل أوجد له عملاً يعمله ..
وهكذا يقول الكتاب : " وأخذ الرب آدم ووضعه في جنة عدن ، ليعملها ويحفظها " ( تك2 : 15 ) . ولم يعمل آدم وحواء من أجل الرزق إذ كان وفيراً في الجنة ، بل من أجل ألا يوجد فراغ في حياتهما يتعبهما . ويخيل إلى أن الخطية حاربتها في وقت فراغ ولو كانا مشغولين وقتذاك ، لما وجد الشيطان فرصة للحديث ولإغراء .
وحتى الرهبان ، أصبح العمل جزءاً من حياتهم ، بشرط ألا يعطلهم عن روحياتهم .
عمل اليد شئ معروف في بستان الرهبان ... ومازال موجوداً حتى الآن لأن الراهب حينما يبدأ حياته الرهبانية لا تكون له القدرة على قضاء الوقت كله في الصلاة . فخوفاً من أن يقع في فراغ يتلف حياته ، يعطيه الدير عملاً ومن فائدة العمل له أيضاً أن يشترك في خدمة الدير ومحبة إخوته ، وأن يكتشف أخطاءه أثناء تعامله مع الآخرين ويعالجها ...
إن الفراغ يسبب الشعور بالملل والضجر ، لذلك يهرب منه الإنسان إلى تسلية تريحه . وقد اختيار هذه التسليات .
ربما يلجأ إلى الثرثرة مع الناس ، بطريقة تضيع وقته ، ووقت الآخرين ، وقد تتعبهم .. وقد يلجأ إلى الملاهي أو المقاهي أو النوادي ، وما أكثر ما يصادفه هناك من أخطاء ، وقد يلجأ البعض إلى مجرد المشي – أو ما يسميه البعض بالنزهة – بلا هدف .
أو قد يصب فراغه في الآخرين فيضيع وقتهم ...
وإضاعة الوقت هكذا – وقت الفراغ – هي إضاعة جزء من حياة الإنسان ، كان يمكن استغلاله فيما يفيده ويفيد غيره ..
والذي يضيع وقته ، لاشك أنه لا يشعر بقيمة حياته ، وغالباً ليس أمامه هدف كبير يسعي إليه . لأن الذي يضع أمامه هدفاً كبيراً ، إنما يستغل كل وقته لتحقيق هذا الهدف ... وقد يشعر أحياناً أنه محتاج إلى وقت ، ولا يجد .
لذلك عليكم أن تملأوا فراغكم بشيء مفيد ، وكذلك فراغ أولادكم .
ربما تتضايقون أحياناً من الضوضاء التي يحدثها الأطفال ، وتشبعونهم توبيخاً ولوماً وانتهاراً ودروساً في الأخلاق ، وتكثر أوامرك ونواهيكم ، وعقوباتكم وتهديداتكم لهؤلاء الأطفال . وغالباً ما يكون سبب إشكالاتهم كلها هو الفراغ ، ولو إنكم استطعتم أن توجدوا لهم سليمة يملأون بها هذا الفراغ لاسترحتم واستراحوا من هذا كله ... فكروا إذن في شغل وقت الفراغ عند أولادكم بما ينفعهم ويريحكم بما ينفعهم ويريحكم ...
وهنا نسأل : كيف تقضون وقت فراغكم ؟ وهل الطريقة سليمة ؟ وهل هي نافعة ؟
أتستغل هذا الوقت من أجل نموك الروحي ، أو الفكري ، أو في خدمة الآخرين أو في أية تسلية غير ضارة ، أو عمل محبة نحو الناس وافتقادهم ؟ أم في خدمة الآخرين أو أية تسلية غير ضارة ، أو عمل محبة نحو الناس وافتقادهم ؟ أم وقت فراغك هو وقت ضائع ، ربما تقضيه إلى جوار الراديو أو التلفزيون الذي أحياناً لا يأخذ وقت فراغك فقط وإنما يطغي على وقتك كله حتى اللازم لمسئولياتك أيضاً ؟ وهنا نسأل :
هل معالجتك فراغ الوقت تؤدي بك إلى فراغ في الروح ؟
فراغ الفكر
أحياناً يؤدى الوقت إلى فراغ في الفكر ، ويبقي العقل بلا عمل . فيأتي الشيطان ليشغله أو ليشاغله . وكما قال المثل ..
عقل الكسلان معمل للشيطان ..
لذلك من الخطورة بمكان الوحدة أو الخلوة التى لا تنشغل بعمل روحي . فإذا لم يوجد فكر روحي يضبط العقل فإن يطيش في فكر خاطئ ..
إنما مفهوم الوحدة في معناها الروحي إنها خلوة مع الله ، فهي ليست فراغاً ..
ويوجد فراغ آخر في الفكر من جهة عدم امتلائه بالمعرفة ، ونقصد المعرفة النافعة فالإنسان الذي لا يدأب على تثقيف نفسه بالمعلومات المفيدة له روحياً وكنسياً بالإضافة إلى المعلومات الثقافية العامة اللازمة له ، فإن مثل هذا الإنسان يوجد نفسه في فراغ فكري بحيث إذا تحدث مع غيره ، لا ينطبق بشيء له عمق أو له فائدة .
إن تعليم المرأة أمكن أن يخرجها من هذا الفراغ الذي عاشته في عصور مظلمة وكذلك تعليم الريفيين أخرجهم أيضاً من الفراغ الفكري ..
وإن خدمة الكلمة لازمة جداً لاخراج الناس من الفراغ الفكري ، إلا إذا كان ما يقدم لهم هو فراغ أيضاً .
وهذا يقع فيه الخدام الذين لا يهتمون بتحضير دروسهم وعظاتهم ، فلا يقدمون للسامعين شيئاً يفيدهم ، ومثلهم الذين يقدمون الذين معلومات معروفة متكررة لا عمق فيها ولا جديد ولا تأثير . إنه فراغ ، ومثال هؤلاء أيضاً الذين يقدمون فكراً لا روح فيه ، مجرد معارف ومعلومات ، لا تتصل بالقلب في شئ تشعر الروح فيها أنها فراغ ... وهذا يقودنا إلى نقطة أخري هي الفراغ الروحي .
الفراغ الروحي
خلق الله الروح في الإنسان الأول على صورة الله ومثالة .. لذلك فإن الروح لا يمكن أن يملأها إلا الله وحده .
الروح التى تحيا بعيدة عن محبة الله تعيش في فراغ ، مهما كانت ألوان العواطف المقدمة لها . كلها لا تشبعها .
وربما يوجد أشخاص لهم مشغوليات كثيرة تملأ كل وقتهم . ولهم مشروعات ضخمة يقومون بها ، ومسئوليات خطيرة ملقاه على عواتقهم . وقد تكون لهم معلومات واسعة جداً ولهم دراسات عميقة ، ومع ذلك يعيشون في فراغ روحي . وكل ما يقومون به من عمل لا يشبع مطلقاً الروح التى فيهم هي على صورة الله وشبهه .. قد يتعب هؤلاء في حياتهم من أجل أهداف متعددة يحققون بعضها ... ولكن تبقي في قلوبهم رغبة لم تتحقق بعد ، تشعرهم باستمرار بفراغ أرواحهم وهذه الرغبة لا تحققها إلا الصلة العميقة بالله ، والثبات في محبته .
وهؤلاء إن انطلقت أرواحهم من الجسد ، وإن بعدت عن المادة ، ستشعر تماماً بكل يقين كم هي فارغة . وكل أمور العالم التى عاشت فيها لم تسد شيئاً من هذا الفراغ لذلك من الآن ، ونحن في هذا العالم ، يرون في آذاننا قول الرسول :
" امتلئوا بالروح " ( أف5 – 18 ) .
إنه لا ينفعك بشيء أن تملأ حياتك بأمور كثيرة ، دون أن تملأ قلبك بالله .
ما أسهل أن يتحول الإنسان إلى ماكينة دائمة الدوران ، بلا روح ، ولكن تعمل بكل نشاط وقوة ... الوقت مملوء بمشغوليات ، ولكن لا روح فيها . وعلى الرغم من العمل الكثير ، ينظر الله إلى مثل هذا الإنسان فيجده فارغاً .
فيقول له نفس العبارة التى قيلت لراعى كنيسة لاوديكيه : " لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ، ولا حاجة لي إلى شئ ... ولست تعلم أنك الشقي والبائس وفقير وأعمي وعريان " ( رؤ3 : 17 ) .
لذلك املأوا أرواحكم بمحبة الله ومعرفته ، لأن أرواحكم تشعر بفراغ إن بعدت عن الله ومحبته ومعرفته .
ولا يكفي أن تذوقوا ما أطيب الرب ، إنما يجب أن تمتلئوا به .
وإن امتلأتم يمكنكم أن تفيضوا على الآخرين . الحب الذي فيكم يملأ قلوبهم حباً . والسلام الذي فيكم يملأ حياتهم سلاماً . والروح الذي يعيشون به يقودهم إلى السلوك بالروح .
ما أجمل – بعد عمر طويل – حينما تصعد أرواحكم إلى الله ، تصعد وهي ممتلئة حباً وفرحاً وسلاماً وإيماناً ، مع كل ثمار الروح الأخري ( غل5 : 22 )
املأوا أرواحكم بالغذاء الروحي ، لكي تمتلئ أرواحكم من ثمار الروح .
كالشجرة التى تقدم لها ما تحتاجه من الماء والسماد ، فتقدم لك ما تحتاجه أنت من زهر وثمر ..
أتشعر أن روحك في فراغ ، املأها إذن من كل وسائط النعمة . قدم لها ما تحتاجه من القراءات الروحية العميقة وفي مقدمتها كلمة الله . قدم لها ما تحتاجه من تأملات وصلوات وتساببيح ومزامير وأغاني روحية ( أف5 : 19 ) .
ولا تترك روحك فارغة ، ولا معوزة شيئاً من أعمال النعمة .
الروح القوية تكون شخصية قوية . والروح الفارغة تنتج شخصية فارغة وهذا يجعلنا نتحدث عن نقطة أخري في الفراغ هي فراغ الشخصية .
فراغ الشخصية
ما أصعب أن يشعر الإنسان أن شخصيته فارغة ، لا قيمة لها في المجتمع الذي يعيش فيه ، ولا ثمر لها ، ولا تأثير !
بل حتى قد يشعر الإنسان بهذا الشعور فيما بينه وبين نفسه . وقد يقع بهذا السبب في صغر النفس . إذ يرى أنه عمق له ، ولا فكر ، ولا معلومات ، ولا شخصية ولا قوة !
وقد يصاب بعقدة النقص ، فيحاول أن يملأ نقصه بنقص آخر .
وبدلاً من أن يملأ فراغ شخصيته يضيف إليها فراغاً آخر يحاول به أن يغطي فراغه ، بلا جدوى ...
وما مظاهر هذا العلاج الخاطئ :
إما أن هذا الإنسان يعيش في الخيال وليس في الواقع . ويحاول أن يرضي نفسه بأحلام اليقظة حتى لا تشعر بفراغها . ولكن هذه الأحلام لا تنفعه .
لأنه يفيق من أحلام اليقظة على واقع مؤلم ، لا تغيره الأحلام !
وقد يحاول آخر أن يعالج شعوره بالفراغ ، بالثرثرة وكثيرة الأحاديث ، كما لو كان الكلام يوجد له شخصيته . وربما يسأم الناس من كلامه ويرونه فراغاً .
وقد يحاول التغطية على فراغ شخصيته بمدح ذاته أمام الناس .
فيشرح الأعمال " العظيمة " التي قام بها ! أو ينسب أعمال غيره إلى نفسه !! أو يحطم غيره انتقاداً وتشهيراً ، لكي يبدو هو في قمة المعرفة وخارج دائرة النقد ! أو يقاوم العاملين لأنه يتضايق من كونهم يعملون وهو لا يعمل أو يجلس في عظمة ، ويغطي فراغه بالغني والاناقة ومظاهر الكبرياء وصوتاً !
ومثال ذلك أيضاً المرأة التي تغطي على فراغ شخصيتها بالزينة والتجميل والتحلي بالذهب والأحجار الكريمة ، بينما يقول المزمور :
" كل مجد ابنه الملك من داخل " ( مز45 ) .
ليت المتجمع يستطيع أن يعالج أمثال هؤلاء الذين يشعرون بفراغ في الشخصية بأن يوجد لهم ما يشغلهم ويستغل طاقاتهم المعطلة ، إن كانت لهم طاقات يمكن الاستفادة بها .
ويا ليت كل إنسان يكتشف طاقاته ، ويحاول أن يستغلها للخير . والذي يشعر بفراغ شخصيته ، عليه أن يملأها ، بدلاً من محاولة تغطيتها بطرق خاطئة .
وعلى كل إنسان أن يسأل نفسه كل يوم : ما هو الشيء المفيد الذي فعله في هذا اليوم ؟ ويجاهد لكي يعمل عملاً ، ليس من أجل أن يشعر بالامتلاء ، إنما حباً في الخير ، وحباً للناس . حينئذ سيمتلئ دون أن يسعي إلى ذلك .
وليت كل إنسان يكون له هدف كبير يسعي إليه ، ويبذل كل طاقاته لتحقيقه وكلما كان هذا الهدف روحياً ونافعاً ، فإن العمل لأجله ينفذ صاحبه من الشعور بالفراغ .
وهكذا يكون الطموح علاجاً للشعور بالفراغ ، على أن يكون طموحاً سليماً ، وبعيداً عن الغرور والذاتية .
ننتقل إلى نقطة أخري في موضوع الفراغ وهي الفراغ العاطفي .
الفراغ العاطفي
وهذا الفراغ على نوعين :
أحدهما حالة إنسان يشعر أن قلباً كبيراً ولا يجد من يملأ قلبه .
يريد أن يوزع محبته ، ولا يعرف أين ؟ فيشعر بفراغ في قلبه من جهة الإعطاء . وهذه حالة سهلة في علاجها . فلو أمكن لهذا أن يوزع محبته في مجالات الخدمة ، لشعر بالسعادة بلا شك :
إن خدمة الأطفال تشبع القلب . وكذلك خدمة اليتامى ، والمعوزين ، والفقراء ، والمعوقين ، والمرضي ، وكل من هو في حاجة ، وحل مشاكل الناس ..
ولكن حذار لأصحاب هذا الفراغ العاطفي من الانحراف !
والنوع الثاني من الشاعرين بالفراغ العاطفي ، هم الذين يشعرون أنهم في حاجة إلى من يحبهم ولا يجدونه .
ومثال ذلك ابنه تعيش في بيت بعيد عن الحب : مع أب حازم جداً وشديد في معاملته ، كثير التوبيخ ، كثير العقاب . وإلى جواره أم قاسيه لا تجد الابنة منها حناناً على الإطلاق ...
ما أكثر ما تنحرف البنات اللائى لا يجدن حباً وحناناً من الوالدين والأسرة !
ربما – وهي في هذه الحالة النفسية – تجد من يقدم لها هذا الحب بطريقة مخالفة أو بطريقة خاطئة ، فتقبل ذلك ، بل وتقبل عليه ، لأنها في حاجة إلى قلب ، أي قلب .
ونحن إذ ننصح الآباء والأمهات بمحبة أبنائهم وبناتهم حماية لهم من الانحراف ، إنما في نفس الوقت نحث الأبناء والبنات بالبحث عن الحب بطريقة سليمة طاهرة .
ولابد سيجدون هذا في محبة الله وملكوته ، وفي الصادقات البريئة الطاهرة . وأيضاً في محيط الخدمة . وكذلك في العطاء .
فالذي يعطي حباً وحناناً مقدساً لغيره ، يأخذ في نفس الوقت من الحب والحنان أكثر مما يعطي .
المهم أن القلب يمتلئ بالعاطفة ، سواء معطياً أم آخذاً . وحالة الإعطاء هي في نفس الوقت حالة أخذ .
إن داود النبي وجد في صداقة يوناثان محبة أعجب من محبة الناس ( 2صم1 : 26 ) ويوحنا الحبيب وجد في محبة الرب أعظم محبة في الوجود .
والذين عاشوا في الرهبنة والبتولية ، وجدوا في محبة الله ما أنساهم الكون كله وما فيه . وما أجمل قول الشيخ الروحاني :
[ محبة الله غربتنى عن البش والبشريات ] .
وبعد . أترانا قلنا كل ما يجب أن نقوله عن الفراغ ؟ لا شك هناك أمور أخري باقية .
الفصل الرابع
النسيان
قال أحد القديسين : كل خطية ، يسبقها إما الشهوة أو الغفلة أو النسيان . وأريد اليوم أن أكلمكم عن النسيان باعتباره حرباً روحية يؤدي إلى السقوط .
ففي وقت الخطية ، نكون ناسين الله ، وناسين الوصية ، وناسين حياتنا الروحية كلها ، بل أيضاً ناسين الموت والأبدية ، وناسين أرواح الملائكة وأرواح القديسين التي تبصرنا ونحن في ذات الفعل !!
ولو أن الإنسان تذكر كل هذا ، ما كان يخطئ ، أو على الأقل كان يؤجل ، أو أنه كان يخجل أو يخاف ، ويبتعد ...
في الواقع أن الإنسان في ساعة الخطية ، لا يكون شئ من هذا كله في ذاكرته .
يحذره الشيطان تحذيراً كاملاً لكي ينسي . أو تخدره الشهوة أو الانفعال .
ينسي أو تناسي ، ولا يحب أن يذكره أحد بالله والوصية والأبدية ، بل ينسي أيضاً الأيام المقدسة ، إن كان ذلك في صوم أو في عيد .. وينسي المواضع المقدسة ، وينسي إنه هيكل الله ، وروح اله ساكن فيه ، وينسي دم المسيح الذي سفك من أجله ، وينسي وعوده وعهوده لله .وما هو الوعظ ، سوي أن الواعظ يذكر الناس بكل هذا . حتى يبعدهم التذكر عن جو الخطية ، خوفاً وخجلاً واستحياء ، وسمواً بأنفسهم عن السقوط ..
ولأن الله يعرف أضرار النسيان ، ويريد إنقاذنا ، لذلك وضع أشياء عديدة ، بها نصحو ونفيق . فما هي هذه الأمور ، التي يعالج الله بها نسياننا ... ؟
كان الله قد وضع في داخلنا الضمير لكي يذكرنا بطريق البر .
إنه يسمي الشريعة الطبيعية ، التي بها كتب الله شريعته على قلوبنا .
فيوسف الصديق مثلاً ، حينما قال : " كيف أفعل هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ! " ( تك39 : 9 ) لم تكن أمام يوسف وصية مكتوبة ، وإنما كانت في داخله الشريعة غير المكتوبة ، الشريعة الطبيعية التي تذكره بأن هذه خطية ...
ولما بدأ البشر ينسون الشريعة الطبيعية ، أعطاهم الله على يد موسى النبي أول شريعة مكتوبة .
وأمرنا الله أن نضع هذه الشريعة أمامنا في كل حين ، حتى لا ننسي ..
فقال : " لتكن هذه الكلمات التى أنا أوصيك بها اليوم على قبلك . وقصها على أولادك ، وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق ، وحين تنام وحين تقوم . واربطها علامة على يدك . ولتكن عصائب بين عينيك . وأكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك "
( تث6 : 6 – 9 ) .
كل ذلك لكي لا ننسى الوصية وأمرنا أن نلهج بها نهاراً وليلاً .
وهكذا قال داود النبي : " لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي ، لهلكت حينئذ في مذلتي " ( مز119 .
وقل عن الرجل البار في المزمور الأول : " في ناموس الرب مسرته ، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً فيكون كشجرة مغروسة على مجاري المياه " ( مز1 : 2 ، 3 ) .
وقال الرب ليشوع بن نون :
" لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك . بل تلهج فيه نهاراً وليلاً ، لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه " ( يش1 : 8 ) .
ولما رأي الله أن أسفار الشريعة الخمسة قد كثرت على الناس ، ساعدهم على تذكرها بأن لخصها لهم في سفر واحد هو سفر التثنية ، أو تثنية الاشتراع . وسفر التثنية هذا ، كان يأخذه كل ملك ، تدون له نسخة لكي يقرأها باستمرار حتى لا ينسي ويخطئ .
وهذه الوصايا كانت توزع للقراءة على الناس في الهيكل والمجامع على مدار السنة حتى لا ينسوها .
ومازالت الوصايا موزعة علينا نسمعها في الكنائس في كل قداس وكل صلاة طقسية ، حتى لا ننسي .
ففي كل قداس نستمع إلى قراءات من الإنجيل ومن الرسائل ومن المزامير وفي الصوم الكبير وفي أسبوع البصخة تتلي علينا فصول من العهد القديم . وفي ليلة سبت النور ( ابو غالمسيس ) يقرأ سفر الرؤيا وكل تسابيح وصلوات الأنبياء . كل ذلك لكي لا ننسي .
ولكي لا ينسى البشر أرسل الله لهم الأنبياء والرسل . بل أرسل لهم الروح القدس قائلاً : " يذكركم بكل ما قلته لكم " ( يو14 : 26 ) .
ولنفس الغرض أرسل الله الرعاة والوعاظ والمعلمين وكل رتب الكهنوت ، لكي يذكروا الناس بكلمة الله حتى لا ينسوها . وسماهم " خدام الكلمة " وقال القديس بولس الرسول عن ذلك : ط كأن الله يعظ بنا " ( 2كو5 : 20 ) .
وما أجمل قول مار أوغريس :
كل فكر يحاربك ، ضع أمامك وصية ، حينئذ يضعف وتنتصر عليه .
إنك بهذا تأخذ قوة من الوصية ، وتأخذ معرفة واستناره ، فتميز فكر المحاربة وتطرده . وهذه القديس بولس الرسول يعزينا قائلاً :
" كلمة الله حية وفعالة ، وأمضي من كل سيف ذي حدين " ( عب4 : 12 ) .
ولكي لا ننسي أعطانا الرب وسيلة أخرى هي المواسم والأعياد .
فمثلاً لكي لا ننسي صلبه من أجلنا ، مع ما يقدمه هذا الصلب من مشاعر مقدسة ... وضعت لنا الكنيسة أسبوع الآلام كتذكار سنوي . ووضعت لنا صوم الأربعاء والجمعة كتذكار أسبوعي لنا صلاة الساعة السادسة من النهار كتذكار يومي .
كل ذلك حتى لا ننسي الدم الطاهر الذي سفك لأجلنا ، فنستحي من الخطية .
ولذلك فإن الذي لا يصوم ، يمكن أن ينسي . أو الذي يصوم بغير فهم ولا عمق ، يمكن أن ينسي . والذي لا يصلي صلوات الساعات ، يمكن أن ينسي .
وهكذا ما أسهل أن يسقط من لا يمارس هذه الوسائط الروحية .
كل احتفالات الكنيسة بالمواسم والأعياد ، تذكرنا بحقائق إيمانية نافعة لنا ، وتهبنا مشاعر روحية تمنعنا من الخطية .
ونفس الوضع بالنسبة إلى الأصوام ، وكذلك كل طقوس الكنيسة وصلواتها ، وكل ما فيها من أنوار وأيقونات وبخور .
ولهذا كانت الأصوام أياماً روحية تمنع عنا حروباً كثيرة . وعلى الأقل تذكرنا بأن الروح يجب أن تنتصر على رغبات الجسد ، ليس في الأكل فقط ، بل في كل شئ .
والأيقونات تذكرنا بحياة القديسين ، وسيرتهم العطرة ، لنأخذها مثالاً .
والأنوار تذكرنا بأننا نور العالم ( مت5 : 14 ) . والشموع تذكرنا بأن نبذل أنفسنا لتنير للآخرين .
بل الأنوار تذكرنا أيضاً بالملائكة . وبأن الكنيسة كالسماء ، وبأننا نضئ كالكواكب في السماء ، وتذكرنا الأنوار بكلمة الرب التى هي مضيئة تنير العينين ( مز19 ) والتي قال عنها داود النبي : " مصباح لرجلي كلامك ، ونور لسبيلي " ( مز119 : 105 ) .
وصلاة القداس نفسها ، تذكرنا بحياة الرب كلها وبموته عنا وبمجيئه الثاني ليدين العالم ...
وتذكرنا بأن ننتظره إلى أن يجئ . بل تذكرنا أيضاً بالاستعداد الروحي اللازم لنا لكي نتناول من تلك السرائر الإلهية التى تهبنا الحياة ..
من فوائد التذكر :
التذكر يساعدنا لكي لا نخطئ . وهكذا فعل الرب مع آدم وحواء ونسلهما .
كان الموت هو أجرة الخطية . وهذا الموت تخلصنا منه بالكفارة والفداء . وعلى الرغم من تمام الفداء وكفايته ، وضع الله عقوبة لآدم أنه بعرق جبينه يأكل خبزه وعقوبة لحواء أنها بالوجع تحبل وتلد أولاداً ( تك3 : 19 ، 16 ) .
استبقى الله هذه العقوبة بعد الفداء ، لكي نتذكر ، فنتضع ونتوب .
ويمكن لمحبة الله إن تغفر كل شئ ، ولكن العقوبة لازمة لنا ، حتى لا ننسي أن الخطية خاطئة جداً ، وحتى لا ننسي الدينونة أيضاً .
لذلك لا يليق بنا أن نتذمر بسبب العقوبة . إنما نستفيد منها روحياً .
كما أن تذكرنا لخطايانا يفيدنا أيضاً .. وهكذا قال داود النبي : " خطيتي أمامي في كل حين " ( مز50 ) .نتذكر خطايانا ، لكي نندم عليها ، ولكي ننسحق بسببها ، ولا نرتفع مهما وصلنا إلى مستوي وحي بعد التوبة ..
وهكذا فإن القديس بولس الرسول حتى بعد أن صعد إلى السماء الثالثة لم ينس إنه اضطهد الكنيسة فقال : " أنا الذي لست أهلاً لأن أدعي رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله " ( 1كو15 : 9 ) . ولماذا أيضاً لا ننسي خطايانا ؟
لا ننساها ، لكي نشفق على الساقطين ( عب13 : 3 ) . وأيضاً لكي نحترس فلا نقع في الخطية مرة أخري ... كذلك نذكرها لكي يفغرها لنا الله .
وفي ذلك قال القديس أنطونيوس الكبير : [ إن نسينا خطايانا ، يذكرها لنا الله . وإن ذكرنا خطايانا ، ينساها لنا الله ] .
لا تقل إذن : مادام الله قد غفر لي خطاياي ، فلأنسها ، إنها محيت !!
إنك لست أفضل من داود النبي ، ولست أفضل من بولس الرسول . وكل منهما ذكر خطاياه بعد مغفرتها له .
وكما لا تنسي خطاياك ، لا تنس إحسانات الله إليك . لأن نسيانك إحسانات الله ، يفقدك فضلية الشكر ، ويقلل محبتك لله .
وهذان الأمران لهما خطورة كبيرة على حياتك الروحية ..
أمر الرب الشعب أن يقيموا تذكاراً لكي ينسوا عبور الأردن ( يش4 : 9 ) وعبور البحر الأحمر لا ننساه في التسبحة ، والمن وضع تذكاره في تابوت العهد وكذلك عصا هارون التى أفرخت .
أذكر احسانات الله ، وأذكر معها وعودك لله ونذورك ، فهذا نافع لروحياتك .
أذكر كل ما وعدت الرب به في ضيقاتك ، وفي خطاياك التى سترها .. واذكر ما وعدت الله به في كل اعتراف وتناول ، واخجل من موقفك بعد كل ذلك .
إن القديسين لم ينسوا مطلقاً كل ما فعله الرب معهم من احسانات .
إذا وضعت محبة ربنا أمامك ... تشتعل محبته في قلبك ...
الكنيسة وضعت لنا صلاة الشكر في مقدمة كل صلاة ، لكي لا ننسي احسانات الله . أضف إليها في ذاكرتك تفاصيل من عندك . وهكذا تحب الله ، وتخجل من محبته لك ، فلا تخطئ .
كذلك لا تنسي وعود الله وعنايته ، حتى لا تقع في الخوف أو في القلق .
كلما تحيط بك ضيقة . تذكر أبوة الله لك ، وحفظه ورعايته ، وقوله : " لا أهملك ولا أتركك – لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك " ( يش1 : 5 ) " أنا معك لا يقع ب أحد ليؤذيك " 0 أع18 : 9 ) .
" يسقط عن يسارك ألوف ، وعن يمينك ربوات . وأما أنت فلا يتقربون إليك " ( مز91 : 7 ) .
إن الذي يخاف ويقلق . هو بلا شك إنسان ينسي محبة الله ووعوده .
وحتى إن نسي ، عليه إن يقول للرب كما قال داود النبي : ط أذكر لي يارب كلامك الذي جعلتني عليه أتكل . هذا الذي عزاني في مذلتي " ( مز119 ) .
هذا كله يحيمك أيضاً من حروب الشك وقت التجربة .
لذلك أحفظ الآيات التي تمنحك الرجاء والثقة في عمل الله من أجلك ، وتمنحك أيضاً عمقاً في الإيمان . ضعها في ذهنك باستمرار . ورددها كثيراً لكي لا تنساها ، ولكي تطمئن وتفرح بالرب
هناك أمر هام آخر يجب ألا ننساه مطلقاً وهو :
أذكر غربتك على الأرض :
في هذا الأمر كان داود النبي يتأمل باستمرار قائلاً في صلواته : " غريب أنا على الأرض ، فلا تخف عني وصاياك " ( مز119 ) ، " أنا غريب عنك ، نزيل مثل جميع آبائي "
( مز39 : 12 ) .
والشعور بالغربة – كان يذكر داود أيضاً بالموت .. فتنفعه الذكري لذلك هو يقول : " عرفني يارب نهايتي ، ومقدار أيامي كم هي ، فأعلم كيف أنا زائل " ( مز39 : 4 ) .
وليس داود النبي فقط ، بل جميع الآباء أيضاً ، قال عنهم القديس بولس الرسول : " أقروا أنهم غرباء ونزلاء على الأرض " ولذلك كانوا " يبتغون وطناً أفضل أي سماوياً "
( عب11 : 13 ، 16 ) .
إن تذكر الإنسان للأبدية ، يمنعه عن الخطية . كل الآباء النساك كانوا يذكرون الموت .
نقطة أخيرة هي : أذكر ضعفك ..
حينما تفتكر ضعفك ، ستبتعد عن مجالات الخطية وعن كل العثرات ... وأيضاً ستحترس وتدقق في حياتك . وبهذا تنجح في حروبك الروحية .
إن الذين اغتروا بأنفسهم سقطوا .
وقد قيل عن الخطية إنها " طرحت كثيرين جرحي ، وكل قتلاها أقوياء " ( أم7 : 26 ) .
أما الذي يشعر بضعفه ، فإنه يتضع والاتضاع يلاح قوي تخافه الشياطين . والذي يتضع يصلي طالباً معونة الله ، والصلاة سلاح يجعله ينتصر .
إن عرفت هذا كله ، قاوم النسيان الضار . واستغل نسيانك فيما يفيد .
كأن تنسي إساءات الناس إليك ، وتنسي الأعمال الطيبة التي عملتها ، وتنسي أمور العالم الباطل ، وتنسي كل المخاوف التي يخوفك بها العدو .
سؤال
ولعل البعض يسأل – من جهة التذكر والنسيان – هل أنا مطالب بأن أضع خطيتي أمامي في كل حين ( مز50 ) ، إذا كنت حينما أتذكر خطاياي ، أعود فأسقط فيها مرة أخري ؟
وطبعاً ليس المقصود بتذكر الخطايا ، أن يتذكر الإنسان التفاصيل المعثرة التي تتعبه وتسقطه . على أنني بمشيئة الرب سأجيب على هذا السؤال بالتفصيل في الباب الخاص بحروب الفكر
( انظر ص108 ) .
الفصل الخامس
الشـك
الشك واضراره
الشك هو حالة من عدم الإيمان ، ومن عدم الثبات . ولذلك قال الرب لبطرس : " يا قليل الإيمان ، لماذا شككت ؟ " ( مت 14 : 31 ) إنها مرحلة زعزعة ، وعدم وضوح للرؤية . والشك أيضاً حالة من عدم التصديق ...
الشك جحيم للفكر وللقلب معاً ...
قد يكون دخوله سهلاً . ولكن خروجه صعب جداً . وقد يترك أثراً مخيفاً ما يلبث أن يظهر بعد حين .
الشك يجعل الإنسان يفقد سلامه ، ويفقد طمأنينته .
والمعجزات قد لا تحدث بسبب الشك بينما تحدث للبسطاء الذين يصدقون .
وإذا استمر الشك يتحول إلى مرض وإلى عقد لها نتائجها ...
وهذا الشك قد يتلف الأعصاب ، وقد يدعو إلى الحيرة وكثرة التفكير ، ويمنع النوم ... ومن نتائجه أيضاً التردد والخجل ، وعدم القدرة على البت في الأمور ..
والشك على أنواع كثيرة ..
أنواع الشك
منها الشك في الدين والله والعقيدة . والشك في الناس ، وفي الأصدقاء ، بل الشك في النفس أيضاً . والشك في الفضائل ، وفي إمكانية التوبة أو في قبولها ، والشك في الخدمة وفي طريق الحياة .
1 ـ الشك في الله :
كأن يشك الشخص في وجود الله . وهذه حرب فكرية مصدرها الشيطان ، تأتي في سن معينة ، وهي دخيلة على الإنسان .
وقد يكون سببها الكتب وأفكار الملحدين أو معاشرتهم ، والناقشة يف أمور أعلي من مستوي الإنسان . وقد تأتي من بحوث منحرفة في الفلسفة أو في العلوم أو تاريخ الكون ونشأته . وقد يثيرها أشخاص على مبدأ [ خالف تعرف ] ..
وقد لا يكون الشك في وجود الله ، وإنما في معونته وحفظة ، وفي محبته وفي صدق مواعيده ، وفي جدوى الصلاة ..
إن رفقة لما شكت في مواعيد الله من جهة مباركة يعقوب ، لجأت إلى طريقة بشرية خاطئة فيها خداع لإسحق . ( تك27 ) . وإبراهيم أبو الآباء في وعود الله من جهة نسل كنجوم السماء ورمل البحر ، لجأ هو أيضاً إلى طرق بشرية .. ( تك16 ) .
2 ـ الشك في العقيدة :
وقد يأتي من تأثير الطوائف الأخري بحضور اجتماعاتهم ، أو قراءة كتبهم ونبذاتهم ، وبخاصة لمن ليس له أساس راسخ في العقيدة .. كمن يحضر اجتماعات السبتيين أو يستقبل مبشرين من شهود يهوه ، أو يتأثر بكتابات أو عظات غير أرثوذكسية ... فيبدأ الشك يدخل إلى قلبه وفكره
والفروض أن يكون الإنسان ثابتاً في عقيدته . وما أجمل قول الرسول :
" مستعدين كل حين ، لمجاوبة كل من يسألكم عن سر الرجاء الذي فيكم " ( 1بط3 : 15 ) .
وهكذا يكون الإنسان في عقيدته مبنياً على الصخر ، وقد يحاول البعض أن يقنعك بأن دراسة العقيدة جفاف بعيد عن الروحانية ، لكي لا تدرس ثم تقع في الشك إذا حوربت بسؤال صعب . أما أنت فاقرأ الكتب الروحية ، وادرس الكتب العقيدية واللاهوتية أيضاً ...
3 ـ الشك في الأصدقاء :
هذا الشك سببه قلة الثقة ، أو قلة المحبة . إن الإنسان إذا أحب شخصاً محبة حقيقية ، يثق فيه ، وبالتالي لا يشك ..
والعلاج هو العتاب ، بجو من الصراحة والمواجهة ، وفي محبة ...
وكذلك عدم التأثر بالسماعات والوشايات ، وعدم تصديق كل ما يقال .. لأنه كثيراً ما يكون الاتهام مبنياً على ظلم ، مهما كانت تبدو الدلالات واضحة ... ! ولا يصح أن تحكم على أحد حكماً سريعاً ، وبدون الاستماع إليه ...
4 ـ الشك في الناس :
ربما خطأ فردي ، تطبقه على الكل ... خطأ فرد في جماعة ، يطبق على كل الجماعة ! أو سقطة فرد في أسرة ، تجلب الشك في كل الأسرة ، وربما يكون بعض أفرادها صالحين جداً ... بل قد يتمادي الشك حتى شعباً بأكمله أو بلداً بأكمله ..
5 – الشك في الفضائل :
كأن يشككك شخص قائلاً : ما لزوم الصوم ؟ وهل الفضيلة الجسدية لها قيمة ؟ وما معني الحرمان ؟ وما لزوم العفة ؟! وما لزوم الصلاة مادام الله يهتم بنا دون أن نصلي ؟!
وقد يتمادي ليقول لك : ما لزوم الفضائل ؟! إنها أعمال . أو ناموس !! والإنسان لا يتبرر بالناموس !!
أو قد يقول لك : خذ راحتك ! مادامت مؤمناً ، فلن تهلك ! حتى إن سقطت سبع مرات فلابد ستقوم !
وقد يأتي الشك في المبادئ والقيم .
الشك في ما هو الحلال وما هو الحرام ؟
الشك في المخترعات الحديثة كالتلفزيون والراديو والسينما والموسيقي ، وهل هي حرام أم حلال ؟ والشك في أشياء كثيرة جديدة على المجتمع ، مثل تحديد النسل ، وأطفال الأنابيب ... ألخ .
والأمر يتوقف على الروح وليس الحرف . وكذلك على الفهم والدراسة .
فالسنيما حسب نوعية استخدامها ، تكون حراماً أو حلالاً ، وكذلك التليفزيون والراديو والفيديو والموسيقي والتمثيل .. هل هي تستخدم للخير أو للشر ؟
6 – الشك في النفس :
أحياناً يشك الإنسان في نفسه ، فلا تكون له ثقة في نفسه ، ولا في قدراته وإمكانياته ...! كالطالب يشك في قدرته على النجاح ، أو في كفاية الوقت له ...أو إنسان يشك في تصرفاته ، هل هي سليمة أم خاطئة ؟ وهل هو محبوب من الناس أم مكروه .
الطفل يحدث له هذا . ولذلك نعطيه الثقة بالمديح وبالتشجيع .
أما التربية القاسية وكثرة التوبيخ ، فقد تولد عقدة الشك في النفس .
حتى الكبار يحتاجون أيضاً إلى تشجيع وإلى كلمة طيبة ، وإلى رفع روحهم المعنوية ، وبخاصة إن كانوا في حالة مرض أو ضيق ، أو في مشكلة وضائق ، حتى لا يدركهم اليأس . وحتى لا يقول الواحد منهم ... لا فائدة .. قد ضعت !! وهكذا يشك في مصيره ..
وقد يشك الإنسان في طريقه في الحياة ، وما الذي يناسبه ويصلح له ؟
هل حياة الزواج أم البتولية ؟ أم الرهبنة أم الخدمة أم التكريس هل يقوي على هذا الطريق أم لا ؟ وهل يثبت فيه أم يندم عليه وهل تصلح له هذه الدراسة أو هذه الوظيفة أم تصلح ؟
ربما تكون مجرد أسئلة ، وقد ترتفع إلى مستوي الشكوك وتتعب النفس وتحيرها .
وقد يصل فيها الشخص إلى مرحلة من التردد يعجز أن يبت فيها بقرار . وقد يلجأ إلى الاستشارة ويستمر معه الشك ، أو يلجأ إلى القرعة ويستمر أيضاً معه الشك .
يعض الناس : المراحل المصيرية أمامهم محاطة بالشكوك ، وطريقهم غير واضح لهم ، يقفون أمامه في تردد .
والأمر يحتاج إلى الثبات في الهدف وفي الوسيلة ، وفي المبادئ الروحية . ويحتاج أيضاً إلى معرفة للنفس وصراحة في مواجهتها وتحديد اتجاهاتها وإمكانياتها .
أما الشك في القدرة ، فيسنده قول القديس بولس الرسول : " أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني " ( في4 : 13 ) .
7 – الشك في الخدمة :
كثيراً ما يشك الخادم في خدمته ، هل هي ناجحة أم فاشلة ؟ وهل يستمر فيها أم ينقطع عنها ؟
وربما يكون السبب أنه يهتم بالثمر السريع . فإذا لم يأت ، يشك في خدمته . ولعلنا نأخذ درساً من الزراعة ، إذ تحتاج البذرة إلى وقت حتى تنمو ، وإلى وقت حتى تشتد وتصبح شجرة .
إن أم أوغسطينوس استمرت تصلي من أجل أوغسطينوس صلوات طويلة ، دون أن يبدو هناك ثمر . ولم تشك ...
أسباب الشك
قد تكون أسباب الشك داخلية ، نابعة من الإنسان نفسه . وقد يكون للشك أسباب خارجية . وسنحاول أن نتأمل كل هذا ، لكيما نعرف العلاج المناسب ...
1 – قد يكون سبب الشك هو طبيعة الشخص نفسه :
كأن تكون شخصيته مهزوزة أو معقدة ، يسهل أن تقع في الشك . أو قد يكون موسوساً ، وطريقته في التفكير تجلب له الشك ...
وقد يكون ضيق التفكير ، ليس أمامه سوي الشك . ولو كان واسع الأفق لزال شكه ..
2 – البساطة أو العمق :
قد يكون إنسان بسيطاً ، يصدق كل شئ ، فلا يقع في الشك .
وربما هذا البسيط نفسه يقبل كل ما يقال له فيقع في شكوك ، كأن يحكي له شخص عن أخطاء صديق له في حقه ، فيصدقها ويشك فيه .
أو لبساطته يخدعه الناس من جهة عقيدة أو إيمان ويوقعونه في شكوك .
وبنفس الوضع نري أن الإنسان العميق التفكير قد يصل إلى النتيجتين معاً : الشك وعكسه ..
فبالعمق قد يكشف زيف الشكوك فلا يقع فيها .
وأحياناً قد يكشف زيف الشكوك فلا يقع فيها .
وأحياناً شدة التفكير تقوده إلى لون من العقلانية يفقد فيها بساطة القلب ، ويحب أن يستوعب أسراراً لاهوتية أو روحية بعقله القاصر ، فيقع في الشك . وهكذا ما أكثر وقوع فلاسفة في الشكوك ...
3 – الخـــوف :
الخوف والشك يتلازمان في كثير من الأحوال . وقد يكون أحدهما سبباً ، وقد يكون هو النتيجة ..
فالخوف يجلب الشك . والشك يكون من نتائجه الخوف .
فبطرس الرسول حينما مشي على الماء ، ثم شك ، خاف نتيجة لشكه . ولما خاف زادت شكوكه فسقط في الماء ، وصرخ ...
4 – حروب الشياطين :
كثيراً ما يكون الشك حرباً من الشيطان . وهي حرب قديمة ، مثلما فعل الشيطان مع أبوينا الأولين ، ليجعلهما يشكان في طبيعة الشجرة المحرمة ، وفي نتيجة الأكل منها ، وبالتالي يشكان في وصية الله لهما ... وقد حاول أن يحارب السيد على الجبل بالشك أيضاً فلم يفلح . وكذلك على الصليب " إن كنت ابن الله ، انزل من على الصليب " . ( مت27 : 40 ) .
وبالشك حاول الشيطان أن يثني القديس أنطونيوس عن طريق الرهبنة . وربما يأتي الشيطان بشكوك للإنسان في ساعة الموت حتى يهلكه ...
إن الشيطان يعرف كل الشكوك التى مرت على العالم من آلاف السنين ، ويمكنه أن يحارب بها
وهو يلقي الشكوك في كل شئ ... في الإيمان ، وفي العلاقات مع الآخرين ، لكي يبلبل فكر الإنسان ويلقيه في حيرة . والشكوك لا تأتي من الشيطان فقط ، وإنما ..
5 – من البيئـة :
من الوسط المحيط . مثلما حدث لمريم المجدلية : التي رأت السيد المسيح بعد القيامة وكلمها ... مع ذلك لما وجدت نفسها في وسط كله شكوك وقد ألقي اليهود الشائعات التى ملأت المكان ، حينئذ شكت المجدلية أيضاً ! ( يو20 ) .
وقد تأتي الشكوك أيضاً من معاشرة الشكاكين . وكما أنه بمعاشرة الواثقين والمؤمنين ، ينتقل الإيمان والثقة إليك ، كذلك بمعاشرة الشكاكين ينتقل الشك .
فأبعد عن عشرة هؤلاء أو على الأقل احترس من كلامهم ولا تصدقه .
ومن المصادر التي تنقل الشك ، القراءة التي تحوي شكوكاً ، فأبعد عنها . وليكن اختيارك للكتب من النوع الذي يبنيك وليس من النوع الذي يحطم فيك العقائد أو القيم !
لأن هناك كتاباً هوايتهم أن يشككوا القارئ في المسلمات الثابتة ، لكي يظهروا أنهم يفهمون ما لا يفهمه الغير!
ومن مصادر الشك أيضاً : الشائعات وكثيراً ما تكون خاطئة . لذلك لا تصدق كل ما يقال ، ولا تردد هذه الشائعات أنت أيضاً ، وإلا يكون الشك قد دخل إلى نفسك .
ومن أسباب الشك أيضاً :
6 – الانحصار في سبب واحد :
ربما لا يحضر صديق حفلة تقيمها . وتكون هناك أسباب عديدة لعدم حضورة ولكنك إن حصرت التعليل في سبب واحد تخيلت به اهماله لمشاعرك ، حينئذ يدخلك الشك . كذلك في تأخر زوج عند موعد رجوعه إلى بيته ... إن حصرت الزوجة تفكيرها في سبب واحد ، يدخلها الشك .
لذلك – فليكن ذهنك متسعاً وافترض أسباباً عديدة ، وحللها ، حتى لا تظلم أحداً لا تشك في محبيك ..
والعجيب أن الذين ينحصرون في سبب واحد ، قد يتخيرون اسوأ الأسباب التي تتعبهم وتبلبل أفكارهم ...
مثل أم تتأخر ابنتها عن ميعاد عودتها إلى البيت ، فتسك أنه قد اصابها حادث أو أن أحداً خطفها ، أو حدث لها سوء من أي نوع . وتظل في قلق حتى تعود ..
وربما يكون قد دخلها الشك في انها ستعود ..!
وقد يأتي الشك من سبب آخر هو :
7 – طول المدة :
مثلما حدث لأبينا إبراهيم ، لما طالت المدة عليه ولم ينجب نسلاً .
ومثلما يحدث أن أناساً تطول عليهم المدة في ضيقة أو في مشكل ، دون حل وهنا نتطرق إلى سبب آخر هو :
8 – الشك بسبب الضيقات :
مثلما حدث لجدعون الذي شك قائلاً للملاك : " إذا كان الرب معنا ، فلماذا أصابتنا كل هذه ( البلايا ) ؟ وأين عجائبه التي اخبرنا بها آباؤنا ؟ " ( قض6 : 13 ) .
ومثل شكوك الشعب في البرية ، وكذلك أمام البحر الأحمر .. ( خر14 )
إن شدة الخطر قد تجعل الإنسان يشك . وهكذا كانت مشاعر الجيش أمام جليات الجبار ، بعكس داود النبي الذي لم يشك مطلقاً ، وقال للجبار في ثقة : " اليوم يحسبك الرب في يدي " ( 1صم17 : 46 ) .
وإذا صالت المدة في الضقية ، ووصل صاحبها إلى اليأس ، فقد يشك في رحمة الله ، أو يشك في أن هناك عملاً قد عمل له ، ويبدأ في زيارة المشعوذين ليكفوا له هذا العمل ...!
إن الضيفات وطول المدة ، تحتاج إلى قلب قوي لا تلعب به الأفكار والشكوك .
ومن أسباب الشك أيضاً :
9 – تعميم الخطأ :
كإنسان تعيش في بيت مملوء بالنزاع والشجار بين أبيها وأمها ، فتخاف من الزواج ، وتشك في انها إذا تزوجت ، لابد سيحدث لها مثل هذا . تشك في كل زوج أنه سيكون مثل أبيها في معاملته لأمها ..! أو كإنسان قال سراً لصديق فأذاعه . وحينئذ يشك في جميع الأصدقاء واخلاصهم .
وربما تكون النتيجة أنه ينطوي على نفسه ، ولا يقول كلمة سر لأحد مهما كان قريباً إلى قلبه ويقول ... لعله يفعل مثل فلان !
لاشك أن كل الناس هكذا ! فيقول لك أحدهم : شعب البلد الفلانية كلهم بخلاء . أو احترس أن تتزوج أحداً من بلد كذا ... كل ذلك بسبب حادث فردي ...
10 ـ الشك بسبب الوهم :
فقد يتوهم شخص أن رقم 13 لابد أن وراءه شراً . فيدخله الشك في كل يوم يكون تاريخه 13 أو مضاعفاته ، سواء من الشهر الميلادي أو العربي أو القبطي ...
وتكبر المسألة في ذهنه إلى حد الوسوسة ...
ويكون من الصعب أن تخرج هذه ( العقيدة ) من ذهنه ...
الفصل السادس
الــخـــوف
مقدمتان عامتان
الخوف المقدس
الخوف الطبيعي
الخوف من الموت
الخوف من الناس
الخوف من الشيطان
الخوف بلا سبب
علاج
مقدمتان هامتان
في موضوع الخوف لابد أن نضع أمامنا مقدمتين هامتين وهما :
1 – ليس كل خوف خطيئته أو حرباً فهناك خوف مقدس ...
2 ـ لم يكن الخوف في طبيعة الإنسان عند خلقه ، قبل خطيئته أبوينا الأولين ...
فلما خلق الله آدم ، كان يعيش مع الوحوش ولا يخاف . وكانت علاقته مع الله أيضاً خالية من الخوف .
ولكنه بعد الخطيئة بدأ يخاف . ومن فرط خوفه أختبأ وراء الأشجار . وقال لله : " سمعت صوتك في الجنة فخشيت " ( تك3 : 10 ) .
وزاد مرض الخوف بعد قتل قايين لأخيه : وتحول إلى رعب .
وهكذا قال قايين لله : " إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض ، ومن وجهك أختفي ، وأكون تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني " ( تك4 : 14 ) . ومن ذلك الحين ، أصبح الخوف أحد الأمراض النفسية ، ودخل في طبيعة الإنسان .
وتعددت أسباب الخوف ، وتعددت نتائجه . وصار إحدى الحروب الروحية التى يحارب بها الشيطان الإنسان .
وأصبحت هناك درجات من الخوف ، الخشية والجبن والفزع ، والهلع ، والرعب بل يمكن أن يموت الإنسان من شدة الخوف ، ويمكن أيضاً أن يفقد عقله ، أو تنهار أعصابه ويرتعش جسمه خوفاً ...
الخوف المقدس
وتدخل فيه عبارة " رأس الحكمة مخافة الله " ( مز111 : 10 ، أم9 : 10 ) . وعبارة " سيروا زمان غربتكم بخوف " ( 1بط1 : 17 ) .
وقد قال السيد المسيح : " لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد . ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها . بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم " ( مت10 : 28 ) " نعم أقول لكم من هذا خافوا " ( لو12 : 5 ) .
وهنا يقدم لنا السيد المسيح نوعين من الخوف : أحدهما مطلوب ، والآخر خوف خاطئ .
ومخافة الله تدعو إلى مهابته وطاعته وحفظ وصاياه ، وتقود إلى محبته وإلى حياة التوبة وحياة الخشوع .
على أن الخوف المقدس بكل أنواعه ليس هو موضوع حديثنا اليوم ، لأننا نركز هنا على الحروب الروحية .
الخوف الطبيعى
قال أحد علماء النفس إن الإنسان يخاف من ثلاثة أسباب : الظلام والمجهول والحركة المفاجئة ...
وواضح أن هذه الأسباب الثلاثة تتركز في سبب واحد ، هو المجهول ، فالظلام يطوي خلفه مجهولاً . والحركة المفاجئة لها سبب مجهول ...
على أن هناك أشخاصاً لهم جسارة قلب ، لا يخافون من الظلام ولا من الحركة المفاجئة ، ومع ذلك ليسوا روحيين .. !
الخوف من الموت
وغالبية الناس أيضاً يخافون من الأذى ، ومن الموت ومسبباته ...
يندر أن يوجد إنسان لا يخاف من الموت . وربما يكون هذا الخوف هو أيضاً خوف من المجهول .
فالموت شئ مجهول ، لم يجربه الخائف وكذلك ما وراء الموت شئ مجهول أيضاً .
والإنسان يخاف هذا الموت كيف يموت ؟ كيف تخرج روحه من جسمه ؟ كل هذه السباب تخيف الكثيرين ...
أما الذي يضمن مصيره بعد الموت ، فإنه لا يخافه ، بل يشتهيه .
وهكذا يقول القديس بولس الرسول : " لي إشتهاء أن أنطلق واكون مع المسيح ذاك أفضل جداً " ( في1 : 23 ) ولاشك أن اللص اليمين ما كان يخاف الموت ، بعد سماعه وعد الرب له : " اليوم تكون معي في الفردوس " ( لو23 : 43 ) . ولا سمعان الشيخ كان يخاف الموت ، لأنه طلبه من الرب : " الآن يارب تطلق عبدك بسلام حسب قولك ، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك " ( لو3 : 29 ، 30 ) .
إنما يخاف الموت غير التائب ، وغير المستعد له . ويخافه من يحب العالم الحاضر .
وكل هذا يدل على أن في الأمر خطية . حتى إن كان خوف الموت شيئاً طبيعياً ، إلا أن الأسباب التي دعت هنا إلى هذا الخوف ، تحمل معنى الخطية .
وبعض القديسين المشهورين بالاتضاع كانوا يخافون الموت قائلين إنهم خطاة .
وخوف الموت إما يجعل الإنسان يستعد له ، أو يهرب منه .
الإنسان الروحي يستعد للموت بالتوبة والسلوك في محبة الله ، وحينئذ يختفي الخوف منه ، يمنحه الله اطمئنانا .
ولكن الشيطان قد يستغل خوف الموت ، ليلقي بضحيته في إتجاه عكسي .
يجعله يهرب من الموت ، ومن سيرته ومن اخباره ، وينهمك في ملاذ الحياة فلا يسمع عن هذا الموضوع المتعب !
وللأسف نجد مرضي في حالة خطيرة وعلى حافة الموت ، بينما أقاربهم يبعدون عنهم هذا الاسم المخيف وكذلك أطباؤهم ، بأكاذيب ، وطمأنة خادعة ، ويشغلونهم في أحاديث وسمر ولهو وتسلية ، لكي ينسوا .
وهكذا يريحونهم من خوف الموت ، إلى أن يدهمهم فجأة بدون استعداد .
أو قد يغري الشيطان ضحيته قائلاً : ما دمت ستموت . تمتع إذن بالدنيا على قدر استطاعتك ، قبل أن تتركها . مثال ذلك قول الابيقوريين : " فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت " ( 1كو15 : 32 ) .
وهكذا نجد الخوف من الموت سلاحاً والبعد عن خوف الموت سلاح آخر .
والشيطان يحارب بالاثنين كليهما فإذا تأكد الإنسان أنه سيموت ، قد يحاربه الشيطان بطريقة أخري تمنع عنه التوبة والاستعداد للموت ، وهي :
يجعل خوف الموت يشل تفكيره فيحصره في الخوف ، وليس في الاستعداد لأبديته .
لا يجعل أمامه سوي رعب الموت ، بحيث هو الصورة الوحيدة القائمة أمامه ، بكل ما تحوي من ترك الحياة وترك الأحباء وترك الملاذ . وما في هذه الصورة من يأس وألم .. دون التفكير في الأبدية والاستعداد لها .
وفي حالات أخري ، قد يتخذ الشيطان خوف الموت ، ليلقي بالإنسان في خطايا مميته ، كإنكار الإيمان مثلاً .
وهنا نقول إن الشهداء والمعترفين ما كانوا يخافون الموت إطلاقاً ، بل كانوا يشتهونه ليلصوا إلى الحياة الأفضل ، في عشرة الله وملائكته وقديسيه .
إن محبة الأبدية ، تنجي القلب من خوف الموت ، وتعطيه روح الاستعداد .
الحديث عن الأبدية ، وعن أورشليم السمائية ، وعن القيامة الممجدة والحياة بالروح .. كلها من الموضوعات الجميلة التي يلزم لأولاد الله أن يتأملوها ، ويتركوا تأثيرها يتعمق في قلوبهم وفي أفكارهم وأحاسيسهم .
الذي يخاف الموت ، يخاف العدوى والجراثيم ، وضعف الصحة . وقد يحاول الوقاية من كل هذه السلبيات بطريقة مرضية أيضاً قوامها الخوف الزائد عن الحد ، الذي يشك في كل شئ ..
وقد يتخذ الشيطان خوف المرض ، ليلقي بالإنسان ، في ملاذ الحياة ..
في الأكل والشرب والمقويات ، حتى تتحسن صحته ... وفي الرياضة وتغيير الجو وعدم حمل الهموم ، والتخفيف من العمل ، من النشاط الزائد والكد والجهد .. بطريقة مبالغة جداً ، وخائفة جداً ، حتى يهمل ضروريات روحية هامة ، ويهمل الإخلاص لواجبه ، ويبتعد عن زيارة المرضي . وتصبح صحة الجسد هي هدفه ، وليس نشاط الروح ..!
على أن المرض ليس هو السبب الوحيد للموت . فقد يموت الإنسان نتيجة لشجاعته وبسالته ، كالجندي مثلاً ...
فإذا زحف خوف الموت إلى قلب إنسان ، قد يسلبه الشجاعة والجرأة ويحوله إلى مخلوق جبان ، مهلهل النفسية ، ينتزع الخوف منه كل مقومات الشخصية . ولذلك حسناً قال القديس اوغسطينوس :
[ جلست على قمة العالم ، حينما أحسست في نفسي أني لا أخاف شيئاً ولا أشتهي شيئاً ] .
وهذه النقطة تنقلنا إلى عنصر آخر من عناصر الخوف وهو :
الخوف من الناس
إنها حرب روحية أخري تصيب البعض ممن تضعف نفوسهم ، وهي خوف الناس .
وقد لا يخافون الله ، مثلما يخافون الناس ، ويخشون أذاهم !!
يتصورن في الناس قوة قد تبطش بهم ، أو تضيع مستقبلهم ، أو تتعبهم وتؤذيهم ، أو تخدش سمعتهم ، أو تقف في طريق آمالهم ... لذلك هم يعملون للناس ألف حساب ...
ويستغل الشيطان خوفهم من الناس لكي يلقبهم في المقل والرياء والنفاق .
يظنون أنهم بتملق الناس يكسبون محبتهم ورضاهم عنهم ، أو على الأقل بهذا الرياء يبعدون أذيتهم عنهم . وهكذا ترخص نفوس الناس ، ويهبط مستواهم . ولا مانع من أجل ارضاء الناس أن يقولوا عن المر حلواً ، وعن الحلو مراً ، وأن يعادوا من يعاديه هؤلاء ، ويصافوا من يصادقوه !!
وتضيع المبادئ والقيم في طريق الخوف ، بل قد يضيع الإيمان نفسه !!وقد يقع الإنسان في خيانة أحبائه خوفاً .
وينسى قول الكتاب : " ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس " ( أع5 : 29 ) وينسي أيضاً قول الوحي الإلهي : " مبرئ المذنب ، ومذنب البرئ ، كلاهما مكرهة للرب " ( أم17 : 15 ) . ويصبح كل ما يشغل هذا الخائف هو كيف ينجو أياً كانت الوسيلة أو متعبة للضمير .
وفي الخوف ، وفي صغر النفس ، لا يذكر إلا تلك العبارات ...
أرضهم ، مادمت في أرضهم .
ودارهم ، ما دمت في دراهم . وحيهم ، مادمت في حيهم .
يفعل ما يفعلون ، يقول ما يقولون ، ولا مانع من أن يتقلب مع الجو .
إن الخوف يجرفه مع التيار فيسيره الخوف وليس الضمير .
وقد تعاتب هذا الإنسان ، وتذكره بالمبادئ الروحية ، فيقول لك : [ ماذا أفعل ؟ حياتي في يد هؤلاء ] ! فإذا قلت له : بل حياتك في يد الله وحده تكون كمن يتكلم كلاماً نظرياً بعيداً عن الواقع والحياة العملية .
حقاً ، ما أكثر الذين حطمهم الشيطان بالخوف . وكان إيمانهم القلبي أقل بكثير من المخاوف الخارجية .
وكثيرون عبدوا البشر وليس الله . لا بسبب خوفهم من الأذى فحسب ، إنما أيضاً لخوفهم من أن تضيع شهوات لهم أو مكاسب عالمية ، هي في أيدي هؤلاء الناس ، يمنحونها أو يمنعونها .. ! والذي يشتهي يخاف أن يفقد ما يشتهي ، فيسير في التيار .
هؤلاء لم يخافوا فقط من رؤسائهم في العمل ، أو مصادر المادة بالنسبة إليهم ، إنما كذلك مصادر متعتهم !!
وهنا ما أكثر أخطاء الساقطين : محبة المتعة خطأ . والخوف من فقد هذه المتعة خطأ آخر . وتملق من يخافون أن يفقدهم متعتهم خطأ ثالث . واستمرارهم في هذا الخوف ، من أجل استمرار المتعة خطأ رابع .. وهكذا دواليك ...
وقد يخاف البعض من يخشون أن يكشفوهم في أخطائهم .
فإما أن يعاملوهم بخوف ، في مجالات للإرضاء والإسكات . وإما أن يقودهم الشيطان إلى التخلص بجريمة من هؤلاء ! كالسارق الذي يقتل من يراه وهو يسرق . وكالزاني الذي يقتل من قد يفضح خطيئته . ولا يكون القاتل في هذه الحالة في مركز القوة ، إنما على العكس : في مركز الضعف والخوف ..
والناس عموماً يخافون من هم أقوي منهم .
سواء من هم منهم عقلاً ، أو أقوي منهم بطشاً ، أو أقدر على الانتقام ، أو على تدبير المشاكل
والخوف من الناس يزيدهم إيذاء .
يشعرون أن الذي أمامهم غير قادر عليهم ، فيقدرون هم عليه ، أو يستمرون في تخوفهم له . وفي خوفه ، يخضع بالإكثر . وفي خضوعه يزداد أيذاء من يخيفونه . والدائرة دور ..
وبنفس الطريقة يسلك الشيطان مع الناس . فلينتقل إلى هذه النقطة :
الخوف من الشيطان
الشيطان يفرحه أن تخافه . فإذا خفت ، تستسلم له . أو تياس من حربه فلا تقاوم . أو تستشعر الهزيمة كلها حاربك ، فلا تستبل في مصارعته . بينما الرسول يقول :
" قاوموه راسخين في الإيمان " ( 1بط5 : 9 ) حتى لو كان كأسد يزأر ..
القديس الأنبا أنطونيوس ، حاربه الشيطان بكل الأساليب ، فلم يخف منه .. حتى حينما كان يظهر مفزعة ، ما كان القديس يفزع . كان الأنبا أنطونيوس لا يخاف أن يبيت في مقبره وسط العظام . وكذلك القديس مقاريوس الكبير ، ما كان يخاف من المثل وهو متوسد جمجمة ، يكلمه الشيطان من داخلها .. ؟
آباؤنا انتصروا على الشيطان ، لأنهم ما كانوا يخافونه ، ولأن الرب أعطاهم – وأعطانا – سلطاناً على جميع الشياطين .
حقاً ، ما أجمل قول السيد المسيح : " رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء " ( لو10 : 18 ) . لا تخف إذن من الشيطان ، إن القوة الإلهية التي معك هي أعظم بكثير من قوتهم التى يهاجمونك بها .
وأيضاً لا تخف ، لأن الله لا يسمح بأن تجرب فوق ما تطيق ( 1كو10 : 13 ) .
والشيطان لا يستطيع أن يقرب إليك ، بدون سماح من الله ، كما هو واضح في قصة ايوب الصديق ... والله لا يسمح له إلا في حدود استطاعتك أنت في أن تنتصر .
فلا تعط الشيطان قدراً فوق قدرة ، ولا تخف منه فوق ما ينبغي ...
واعلم أن ما يلزمك في معاملة الشياطين ، هو الحرص وليس الخوف . ولا نترك هذه النقطة بدون ملاحظة أخري ، وهي :
الخوف بلا سبب
كثيرون يخافون بدون سبب جدي يدعو فعلاً إلى الخوف .
خوفهم إما خوف طفولى ، أو قد يكون لوناً من الخوف المرضي ..
فالطفل قد يخاف من لصوص في البيت أو أشباح ، بينما لا يكون هناك لصوص ولا عفاريت .
والكبار بنفس الوضع قد يخافون من أسباب لا وجود لها ، أو يتصورن مخاوف وهمية ، لا حقيقة لها على الإطلاق
. إنما يخلقهما خيالهم المريض ؟
وهناك أمراض نفسية من هذا النوع ، فيها عقدة الخوف ، يتصور فيها المريض أن هناك من يعملون على إيذائه . بينما لا يؤذيه إلا مرضه النفسي ..!
وقد يكون لهذا الخوف أسباب من حروب الشياطين التى تغرس فيه الخوف تضع في عقله شكوكاً غير موجودة ، أن هناك من يدبر ضده تدابير ، أو يترصده ، يحاول إيذاءه .
علاج :
يحتاج الإنسان أن يتذكر وعود الله الكثيرة التي تقول له لا تخف .. لا يقع بك أحد ليؤذيك ( أع18 : 10 ) . ويتذكر باستمرار حفظ الله ومعونته .
والإيمان يمنع الخوف ، ويذكر الخائف بالقوة الإلهية الحافظة له ..
وما أجمل قول داود النبي : ط إن سرت في وادي ظل الموت ، فلا أخاف شراً لأنك أنت معي " ( مز23 ) .
الفصل السابع
حروب الفكر
الأفكار الخاطئة
بداية الفكر
مصادر الفكر الخاطئ
الحرب ، والسقوط
ما يساعد على السقوط
أنواع من حروب الفكر
لا تعايش الفكر
مضار استبقاء الفكر
العبودية للفكر .. والانتصار
سؤال وجواب
الأفكار الخاطئة
المفروض في الإنسان أن يعيش نقياً وهذه النقاوة تشمل روحه وجسده ونفسه وفكره ومشاعره ، وكل شئ .. ونحن نصلي إلى الله في قداساتنا قائلين : " كل فكر لا يرضي صلاحك ، فليبعد عنا " .
ونقول أيضاً في صلواتنا : " طهر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا ، وأفكارنا ونياتنا " إذن لأفكار أيضاً تحتاج إلى تطهير .
والأفكار الخاطئة التي تمر على العقل قد تكون أفكار غضب أو انتقام ، أو أفكار عظمة وكبرياء ومجد باطل وأحلام يقظة ، أو أفكار حسد وغيره ، وشهوات عالمية ، أو قد تكون أفكار زنا ونجاسة .. وما إلى ذلك ، ولهذا يقال في القداس أيضاً :
" تذكار الشر الملبس الموت " .
أي الذي يؤدي إلى الموت الروحي ، هذا ينبغي ألا نجعل ذاكره تجول في أذهاننا .
البعد عن تذكار الشر
تذكرك خطايا الآخرين ، قد يوقعك في خطية الإدانة ، أو تحقير الناس والتشهير بهم ... وتذكرك إساءات الناس إليك ، قد يوقعك في كراهيتهم وفي خطية الغضب وربما شهوة الانتقام .. وتذكرك الخطايا الجسدية ، قد ينجس فكرك ويوقعك في شهوة الجسد مرة أخري .
إن تذكر الشر باستمرار ، يثبت الفكر الشرير في أعماق النفس . يثبته في العقل الباطن . ومن الأفكار الخاطئة المترسبة في العقل الباطن ، تصدر أفكار شريرة ، وظنون سيئة ، وشكوك وتصدر أيضاً شهوات . وقد تظهر أيضاً شهوات . وقد تظهر الخطايا في هيئة أحلام .
لذلك ابعد عن الفكر الشرير ، ولا تحاول أن نتذكره ... حتى في تبكيت النفس عليه . فما أدراك ؟ قد يبدأ دخول الفكر إليك بالتبكيت ، ثم يتحول إلى حرب داخلية تعود فيها المناظر الشريرة ، لا بأسلوب ندم إنما بانفعال وشهوة ...
ولعل إنساناً يسأل : ألا يجوز لي أن أضع خطيتي إمامي في كل حين ، أبكت نفسي عليها ، لا كسب التوبة والاتضاع ؟
أقول : يمكن أن تتذكر خطيئتك بصفة عامة ، ولكن حذار أن تدخل في التفاصيل المعثرة ، أو في التفاصيل المثيرة .
ونقول هذا بالذات عن الخطايا الانفعالية ، والخطايا الشهوانية ، وبخاصة إن كان الإنسان لم يتخلص منها تماماً ، ولم يصل فيها إلى النقاوة الكاملة ، ويمكن أن تعود فتحاربه ...
إنك أن بدأت تتذكر تفاصيل هذه الخطايا ، إنما تدخل نفسك في دائرتها مرة أخري .
وقد يكون التبكيت على الخطية ، مجرد خدعة يلجأ إليها الشيطان ليدخل بها الفكر إليك أو أنه ينتهر هذه الفرصة المقدسة لكي يحولها عن مسارها إلى اتجاه مضاد .
بداية الفكر
إن فكر الخطية قد لا يبدأ بخطية .. لأنه لو بدأ هكذا ، يكون قد كشف عن نفسه ، وعندئذ يهرب منه القلب النقي ، أو يطرده ، أو يقاومه بكل السبل حتى لا يثبت .
ولكنه قد يبدأ بصورة خداعية ... ربما يبدأ مثلاً بالغيرة المقدسة ، ومحبة الرغبة في بناء الملكوت ... ويتطور إلى دراسة الأخطاء التي تحتاج إلى إصلاح . ويتدرج من الأخطاء إلى المخطئين . ومن الرغبة في إصلاحهم إلى القسوة عليهم . وحينئذ يصبح الفكر كله إدانة وسخط على هؤلاء ، وكراهية لهم ، ورغبة في القضاء عليهم . وهناك فقط يكشف الفكر عن ذاته .
وقد يبدأ الفكر بعكس هذا ، بالعطف على الساقطين ومحاولة إنقاذهم .
وهنا يستعرض نوعية السقوط ، ودرجته وأسبابه وقصصه ... وربما ينفعل بكل هذا انفعالاً ألمياً ، فيسقط فكرياً في نفس الأمر ..
لذلك ليس كل إنسان يصلح في العمل على إنقاذ الآخرين ، ولا في ميدان الاصلاح .
الفكر الخاطئ قد لا يبدأ بصورة خطية . وأيضاً قد يبدأ ضعيفاً .
يخيل إليك أنك تستطيع بسهولة أن تنتصر عليه ... ولكنك كلما تستبقيه داخلك ، وكلما تأخذ وتعطي معه .. يثبت هو أقدامه ويقوي عليك . ذلك لأنك مكنته من وضع اليد على أرض مقدسة داخل نفسك .كما إنك أشعرت الفكر أنك تريده باستبقائك إياه ... ومادمت تريده ، غذن فأنت تعجز عن طرده .
كذلك في استقباله ، يكثر الحاحه عليك ، وضغطه على مشاعرك ، وحينئذ قد تضعف أمامه ، لأنك لم تعد في قوتك الأولي التي كانت لك بداية الفكر .. ولم يعد هو في ضعفه الذي بدأ به .. وهنا تبدو الحرب غير متوازنة ، وتحتاج إلى مجهود أكبر للسيطرة عليها .
أمنا حواء ، لما بدأ معها الفكر ، كان أضعف منها ، مجرد سؤال . وقد تمكنت فعلاً من الرد على الفكر بقوة ، فلم تذكر فقط أن الله قال لهما : " لا تأكلا من الشجرة " بل أنه قال بالأكثر " لا تمساه " .. ولكن حواء مع معايشة الفكر الخاطئ ، واستمرار عروضه وإغراءاته ، بدأت تضعف ، وتحولت من الفكر ، إلى الشك ، وإى الشهوة ، وأخيراً مدت يدها وقطفت وأكلت ، وسقطت واسقطت غيرها .
وبالمثل حدث لقايين ..
قال له الله إن الخطية رابضة على الباب ، إنها لم تدخل بعد ، إنه ( أيقايين ) " يسود عليها " ( تك4 : 7 ) . ومع ذلك بتوالي الفكر ، وسماحه له أن يدخل إلى قلبه ومداولته معه ، خضع قايين أخيراً للفكر الذي سيطر عليه ، وقاده إلى قتل أخيه ...
نقطة أخري في سبب سيطرة الفكر عليك بعد أن كان ضعيفاً :
وهي إنك باسترخائك في طرد الفكر الخاطئ ، إنما تخون الرب ، باستبقائك فكراً ضده ، وبسبب هذه الخيانة تتخلى عنك النعمة التي كانت مصدر قوتك .
وحينئذ يصبح من السهل سقوطك ... ورمبا كان في داخلك لون من الكبرياء ، شعور بالذات ، يقنعك أنك أقوي من الفكر ، وأنك تستطيع طرده في أية لحظة أردت !!ولذلك تتركك النعمة لتشعر بضعفك فتهرب في المستقبل من أي فكر خاطئ يأتيك ... وهكذا تنتصر عليه بالاتضاع وليس بادعاء القوة والقدرة على طرده ..
وربما الفكر الضعيف الذي أتاك ، استطاع أخيراً أن يقوي عليك ، لأنك حاربته وحدك ، ولم تلجأ إلى الله بالصلاة لكي ينقذك منه ، ونسيت أن ترشم ذاتك بعلامة الصليب وتلب قوة من فوق ...
مصادر الفكر الخاطئ
1 – قد يأتي الفكر من فكر سابق ...
فالأفكار ليست عميقة ، إنها تلد أفكاراً من نوعها ، كجنسها ، ربما فكر بدأت به من أيام ، ويريد أن يكمل ...قصة بدأت ، ولم تصل إلى نهاية ، وتريد مزيداً من التفاصيل . ولو من باب حب الاستطلاع ، فأهرب من ذلك .
2 – وقد يأتي الفكر الخاطئ من الخبرة .
3 – أو ربما تزكت في عقلك الباطن قصص أو مشاعر أو رغبات ، تحب أن تطفو على عقلك الواعي ، وتتفاوض معك ! ..
فاحرص على نقاوة عقلك الباطن ، ولا تختزن فيه أشياء تعكر نقاوة فكرك ... وإن كنت قد اختزنت فيه خطايا أو معثرات قديمة ، فلا تستعملها . بالوقت والأهمال يتنقى منها ، بحلول أفكار نقية جديدة تحل محلها داخلك .
4 – والعقل الباطن يختزن من مصادر متعددة ، منها القراءات ، والسامعات ، والمناظر ، والأفكار ، والشهوات ..
عليك إذن أن تكون حريصاً على نقاوة قلبك في كل ما تقرؤه وما تسمعه وما تراه ، وكل ما تفكر فيه .. وإن تجعل رغباتك أيضاً نقية ، كما تحرص على نقاوة حواسك ، وعلى رأي ماراسحق .
5 – الحواس هي أبواب الفكر .
احترس إذن من الحواس التي عملها هو " الجولان في الأرض والتمشي فيها " ( أي1 : 7 ) . فهي تجول هنا وهناك تجلب للعقل أفكاراً من النظر الطائش غير النقي ، ومن السماعات الباطلة ، ومن كل ما تشم وما تلمس .
الحواس النقية تجلب أفكاراً نقية . والحواس الدنسة تجلب أفكاراً دنسة .
والحواس الطائشة تجلب أفكاراً طائشة .
وضبط الحواس يساعد بلا شك على ضبط الفكر أيضاً .. والذي جاهد للحصول على نقاوة الفكر ، علية أن يراقب حواسه ، ويدربها على الحرص الروحي .
6 – والفكر الخاطئ قد يأتي أيضاً من الشيطان ، أو من الناس .
سليمان كان أحكم أهل الأرض ، وبالوقت تأثر بنسائه ( 1مل11 : 3 ) .
وكم من زوج فشل في حياته بسبب ما تصبه أمه أو أخته في أذنيه من جهة زوجته ، فتأثر بذلك ، ودخلته أفكار لم تكن عنده من قبل في فترة الخطوبة وفي الشهور الأولي للزواج . وكذلك كم من زوجة فشلت بسبب نصائح أهلها .
أفكار غريبة تأتي لأي شخص ، ليست هي منه ، ولكنها تستطيع أن تغير طبعه وأسلوبه .
لذلك راجع أفكارك باستمرار ، ولا تكن تحت تأثير أو سيطرة شخص ما ، تعتنق ما يقوله من أفكار ، بغير فحص ...
ويحدث هذا أيضاً من بعض المرشدين الروحيين ، ومن يقومون بالتعليم .
فكثيراً ما يصير مريدوهم وتلامذتهم صوراً كربونية منهم ، يقولون كما يقولون ، ويفكرون بما يفكرون في اعتناق لكل أفكارهم مهما كانت خاطئة أو خطية .7 – وقد تأتي الأفكار من الشيطان يلقبها في ذهن الإنسان ولو كاقتراح .
وعلى الإنسان أن يميز ، ليري هل هذا الفكر من الله أم من الشيطان ؟ وإن لم تكن له موهبة الإفراز ، يمكنه أن يستشير من له هذه الموهبة .
إن الشيطان لا يرغم إنساناً على قبول أفكاره ، إنما هو يقدم عروضاً ، ويقدمها في إغراء .
وهكذا فعل مع أبوينا الأولين ..
والإنسان الروحي يقاوم كل فكر ضد وصية الله .. وكما قال الرسول : " قاوموه راسخين في الإيمان " ( 1بط5 : 9 ) .
على إننا نود أن نضع في هذه النقطة قاعدة هامة وهي :
الحرب والسقوط
ليس كل فكر خاطئ يأتي إلى عقل الإنسان يعتبر خطية ... فقد يكون مجرد حرب .. وهناك فارق بين الحرب ، والسقوط .
في الحرب الروحية ، تكون هناك أفكار خاطئة تلح على عقل الإنسان الحاحاً ، وبشدة وربما لمدة طويلة وهو رافض لها ، يقاومها بكل ما يستطيع من قدرة ، ومع ذلك هي مستمرة وضاغطة .
أما السقوط بالفكر ، فهو قبول الفكر وعدم مقاومته ، أو مقاومته بمقاومة شكلية ضعيفة ، هي في الحقيقة مستسلمة وراضية !!
وقبول الفكر الخاطئ نقول إنه خيانة لله ، لأنه فتح أبواب القلب لأعداء الله ، وقبلهم مكانه . ولأن الإنسان أثناء هذا الفكر يكون قد دنس هيكله المقدس ، الذي هو أصلاً هيكل للروح القدس ( 1كو3 : 16 ) . وكأنه يطرد روح الله من قلبه ، لأنه " لا شركة للنور مع الظلمة " ( 2كو6 : 14 ) .
وفي السقوط بالفكر ، يكون الإنسان ملتذاً بالفكر ، أو متعاوناً معه ، ينميه ويقويه ويستديمه ويكمل عليه .
ويكون هو والفكر شيئاً واحداً ، ولا يستطيع أن يميز في مجرى التفكير الخاطئ بين الفكر الذي بدأ كالحرب ، والفكر الصادر من هذا الإنسان الساقط ... من قلبه وعقله هو !
وفكر السقوط قد يكون مصدره شهوة أو رغبة .. والشهوة والفكر يتبادلان الوضع كسبب ونتيجة ...
فالفكر الخاطئ تنتج عنه الشهوة والشهوة ينتج عنها الفكر الخاطئ .
وكل منهما سبب للآخر أو نتيجة له ، يقويان بعضهما البعض في خط واحد .
وفي هذه الحلة يتعاون الفكر الذي من الخارج ، مع الفكر الذي من الداخل .
ما يساعد على السقوط
والسقوط بالفكر تساعد عليه أمور أخري منها الاسترخاء ، والفراغ والضعف ، والاستسلام ، ومحبة الحكايات ، والرغبة .
1 – فإن حورب الإنسان بفكر خاطئ ، وبقي في حالة فراغ واسترخاء ، لابد أن يشتد الفكر عليه ، وقد يقوي بسهولة على إسقاطه .
لأنه في حالة الفراغ ينفرد الفكر بالإنسان ، بلا مقاومة ، وبلا دفاع .
وقد قيل في الأمثال : " عقل الكسلان معمل للشيطان " وقيل عن هذه الحالة في الإنجيل إن الشيطان يأتي إلى هذا البيت ، فيجده مزيناً مكنوساً ، فيذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أشر منه ، فتدخل وتسكن هناك ( لو11 : 24 ، 25 ) .
لذلك احترس في قوت فراغك من الأفكار التي تأتي إليك .. والأفضل أنك لا تترك فكرك في حالة فراغ .
إن العلق من طبيعته أنه دائماً يعمل ، وهو في انشغال مستمر ، إما بأمور هامة ، وإما بأمور تافهة ... ولكنه لا يتوقف .
2 – ففي حالة الاسترخاء ، قد يفكر في أي موضوع ، وقد يعبر على عديد من القصص والأخبار والأفكار ..
هنا قد يستغل العدو استرخاءه فيلقي إليه بفكر خطية أو بفكر يؤول إلى خطية .. دون أن يشعر .
وهنا ينبغي أن يستيقظ الإنسان لنفسه ، ويطرد هذا الفكر بسرعة ، قبل أن يستقر ويستمر ..
ويحسن في حالة الاسترخاء ، أن تشغل نفسك بشئ هادئ بسيط ، لا يقود إلى خطية .
والاسترخاء معناه إراحة الأعصاب وليس معناه إلقاء النفس إلى الأفكار ..
3 – قلنا إنها تساعد على السقوط بالفكر أيضاً حالة الضعف الروحي ، التي لا تقدر على المقاومة فتستسلم للأفكار .
لذلك إن وجد الإنسان الروحي أنه في حالة ضعف ، عليه أن يهتم بنفسه بالأكثر ، ويكون في حالة حرص مشدودة ، ويراقب نفسه بكل قوة ، ويقدم لها في نفس الوقت كل الأغذية الروحية التي تقويها وتنتشلها من ضعفها .
احترس جداً من حالات الضعف ، واهرب أثناءها من كل مسببات العثرات والأفكار ..
ولعله عن أمثال هذه الحالة ، قال الرب : " صلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ، ولا في سبت " ( مت24 : 20 ) ..
" في شتاء " حسب الرمز – تعني فترة البرودة الروحية التي لا حرارة فيها . و " في سبت " أي فترة الراحة والاسترخاء ... فكلاً الأمرين لهما خطورتهما . على أنني أقول لك في هذا :
4 – مهما كنت ضعيفاً ، لا تستسلم .
اثبت في قتالك مع عدو الخير ، إلى أن تأتيك قوة من فوق ، فتنتشلك مما أنت فيه ، وتنتهر الشيطان من أجلك .
وذلك كما حدث لهوشع الكاهن الذي بسببه قال ملاك الرب :
" لينتهرك الرب يا شيطان ، لينتهرك الرب ... إليس هذا شعلة منتشلة من النار "
( زك3 : 2 ) .
والضعف ليس حجة للسقوط ، إنما هو حجة لطلب المعونة ، التي بها تقاوم الشيطان .
أما كيف تقاوم الفكر ، فهذا ما أريد أن أحداثك عنه في المقال المقبل ..
5- لا تكن في داخلك محباً للحكايات الخاطئة .
لأنك إن كنت هكذا ، فستجد لذة في تأليف قصص خاطئة تؤذيك روحياً ، تشبع رغبات خاطئة داخل نفسك .
وهنا تكون الخطية في داخلك ، نابعة منك ، من ( مواهبك ) ! وكثيرون من هواه تأليف القصص ! إما يبدأون بها ، أو أن الشيطان يلقي إليها بفكر ، فيؤلفون عليه حكايات طويلة لا تنتهي ..
وتكون الأفكار مجرد عمل إرادي ، لإشباع رغبات خاطئة ...
مثل فكر انتقام ، أو زنا ، أو أحلام يقظة ...
أنواع من حروب الفكر
ثلاثة أنواع من الناس :
ثلاثة أنواع من الناس تتعبهم الأفكار :
1 – النوع الذي من الناس تتعبهم الأفكار :
2 – والذي يعايش الفكر ويستبقيه .
3 – والنوع الخصب في خيالة ، الذي يمكنه أن يؤلف أفكاراً وقصصاً .
كل هؤلاء ، إن كانت أفكارهم تحوم حول خطايا معينة ، فلا شك أن الأفكار تستطيع أن تتعبهم جداً ، لأنها لا تجد في داخلهم مقاومة بل ترحيباً .
يسعى وراء الفكر
هذا لا تأتيه الأفكار وتتعبه ، إنما هو الذي يتعب الأفكار !
هو الذي يفتش عن مصادر الفكر ، يسعي ليحصل على مادة للفكر .
يرسل حواسه هنا وهناك ، بقصد ونية ، لكي تحصل له على مادة تغذي فكره ، ويفرح بذلك جداً ويشتهيه .
هذا هو النوع المحب للاستطلاع ، الذي يبحث عن أخبار الناس وأسرارهم .
ويسره أن يتحدث في أمثال هذه الموضوعات ، ويزيد على ما يسمع تعليقات واستنتاجات من ذهنه ، وبخاصة في كل ما هو سيئ وشرير . وكل هذا يكتنز في ذهنه صوراً تؤذيه روحياً ...
وهكذا يقع في نوعين من الخطايا : خطايا اللسان ، وخطايا الفكر .
وكل منهما يقوي الآخر ويسببه ..
إن جلس هذا النوع مع أحد أصدقائه ومعارفه ، يبادره على الفور : ماذا عندك من أخبار ؟ ماذا حدث لفلان ، وماذا حدث من فلان ؟ ماذا رأيت وماذا سمعت ؟ وما رأيك في كل هذا ؟ وماذا تعرف أيضاً ؟
ويظل ممسكاً بهذا الصديق ، يستخرج كل ما عنده ، مثل فلاح يحلب بقرة ، ولا يترك ضرعها حتى يخرج كل ما فيه !
وبهذا يضر نفسه ، ويضر غيره ، بما حواه الحديث من أسرار الناس .
إنه يهوي معرفة أخبار الناس . وكل شخص يصادفه في الطريق ، يحاول أن يصطاده منه خبراً ! وإن جلس إلى مائدة يأكل مع غيره ، تجول عيناه ليعرف ما الذي يأكله فلان ، وما طريقته في الأكل ، وما الذي يحبه ، وما الذي لا يستسيغه ؟! وهكذا في باقي الأخبار ، حتى في صميم الخصوصيات !!
والعجيب في مثل هذا أنه : إن كان هناك شئ رديء يتهافت على سمعه .
وإن وجد شئ حسن ، لا يستقبله بحماس !
إنه يجمع الأخبار والأسرار والأفكار . حواسه طائشة ، يتعبها " الجولان في الأرض والتمشي فيها " ( أي2 : 2 ) .
وتسأله ما شأنك بهذا ؟ أو ما الذي تستفيده ؟ فلا تجد جواباً . إنه مرض . يصبح عادة عند البعض ، جزاءاً من طبعه !
أتسأل مثل هذا : ما أسباب الفكر عنده ؟ إنها عادته في محبة الاستطلاع .
كم من أناس أضروا أنفسهم ، وأضروا غيرهم بحب الاستطلاع ، ومحاولة كشف كل ما هو مستور ، وربما بحيل غير لائقة تشتمل على خطايا أخري كثيرة ...
ولكن لعلك تقول ، ماذا أفعل إذا لم أكن أنا مصدر الفكر ، وإنما أتاني من آخرين ، ونت أنا الضحية ؟
أقول لك : إن الفكر الخاطئ ، لا يجوز لك أن تسمع عنه ، أو تفكر فيه ، أو تقرأ عنه ، أو تكلم أحداً في موضوعه . لا تعايشه على الإطلاق .
لا تعايش الفكر
فلا أنت تعيش معه ، ولا تتركه يعيش فيك . بل اطرده بسرعة .
لا تستبقه في ذهنك ، ولا حتى في أذنيك . وابعد بكل جهدك عن الأشخاص الذين يسببون لك الفكر ز وإن اضطررت إلى الاستماع إليهم ، بسبب خارج عن إرادتك ، فلا تنصب .
واشغل نفسك أثناء الحديث بموضوع آخر . ولا تأخذ معهم ولا تعط أثناء عرضهم لكلام معثر ..
وما اضطررت إلى سماعه من كلام خاطئ ، لا تعاود التفكير فيه مرة أخري ، فإن ذلك يثبته في عقلك الباطن . وأذكر باستمرار المزمور الأول الذي يامرك بالبعد عن طريق الخطاة ومجالس المستهزئين .
إذن لا تعايش الفكر ولا مسبباته ..
أبعد عن الشخص الذي يصب في أذنيك أخباراً تجلب أفكاراً ، أو الذي يكون مجرد منظره أو حركاته أو أسلوبه مصدراً للأفكار .؟
إن داود لما عايش مسببات الفكر سقط ليس في الفكر وحده ، بل فيما هو أشد منه وأبشع . وكذلك كان الحال مع شمشون ومع غيرهما ممن كانوا أقوياء ...
وآخاب الملك ظل الفكر يتعبه من جهة حقل نابوت اليزرعيلي . وإذ استمرت معه الأفكار ، واشتعل بخطية السطو على نصيب غيره ، وإذ أضافت زوجته ايزابل وقوداً إلى هذا الاشتعال ، تطور آخاب من مجرد الفكر ، حتى وصل إلى القتل والسلب والظلم .
واعرف أنك إن تهاونت في طرد الأفكار فقد تلد أفكاراً أخري ، إذ لا يوجد فكر عقيم . قد يلد الفكر فكراً من نوعه أو نوع آخر . وقد يل انفعالاً ، او شهوة أو مشاعر رديئة عديدة . وقد يلد خطايا كثيرة يصعب حصوها ويصعب طردها .
ويصبح الفكر أباً لعائلة كبيرة .
إذن اطرده من أوله ، قلب أن ينمو وينتشر في داخلك ، وقبل أن يسيطر على إرادتك . واعرف أن طرد الفكر يكون سهلاً في أوله . ولكنه يصبح صعباً إن استمر .
إن الفكر الخاطئ يجس نبضك أولاً ليعرف مدي نقاوة قلبك ، ومدي استعدادك الداخلي للتفاوض معه ..
فإن رفضت التفاهم معه ، يعرف أنك لست من النوع الرخيص السهل الذي يحب الأفكار ، فيتركك . وإن حاول أن يستمر يكون ضعيفاً بسبب نقاوتك الداخلية .
أغلق أبوابك
لذلك حذار أن تفتح باباً للفكر .
تفتح الباب له ، معناه أنك بدأت تخضع له ، وبدأت تحب به وتخون سيدك ...
بل عليك أن تتذكر ما قيل عن عذراء النشيد :
" اختى العروس جنة مغلقة ، ينبوع مختوم " ( نش4 : 12 ) .
إنها مغلقة أمام كل فكر شرير يطرق باب الذهن ، وأمام كل شهوة خاطئة تطرق باب القلب ... لا تفتح بابها لكل أحد . بل لا تفتح إلا لكل فكر مقدس طاهر ..
أما من جهة الأفكار الخاطئة ، فإن الملائكة تغني لهذه النفس قائلة :
" سبحي الرب يا أورشليم ، سبحي إلهك يا صهيون ، لأنه قوي مغاليق أبوابك ، وبارك بنيك فيك " ( مز147 : 12 ، 13 ) .
هذه البواب المغلقة هي أبواب النفس الابية التي لا تفتح لكل طارق من الأفكار العدو . بل هي نفس مخلصة لربها . لذلك بارك بنيها فيها ، بنيها المولودين فيها من الروح القدس ، أي المشاعر المقدسة .
إغلق أبوابك أمام الفكر الخاطئ ، لأنه لا يستريح حتى يكمل .
الفكر هو مجرد خادم مطيع ترسله الشهوة ليمهد الطريق أمامها .
من الصعب أن يبقي الفكر فكراً ، دون أن يتطور إلى ما هو أخطر . الفكر إذن هو مجرد مرحلة في حروب العدو . فاحترس منه جداً ، حتى لا يقودك سهلاً إلى مرحلة أخري لا تدري مدي خطورتها .
الفكر يتطور في تنقلاته ، من الحواس إلى الذهن ، إلى القلب ، إلى الإرادة .
إذا استبقيت الفكر في أذنيك ولو قليلاً ، يزحف إلى عقلك ، وهنا قد يتناوله الخيال فيلد منه أبناء عديدين ، وينمو الفكر داخلك ، حتى يصل إلى قلبك وإلى مشاعرك وعواطفك وغرائزك وشهواتك . وهنا تكون الحرب قد وصلت إلى قمتها ...
إذن بتدوالك مع الفكر ، يأخذ سلطاناً عليك ، لأنه اصبح داخلك . اجتاز حصونك ، وصار داخل المدينة مختلطاً بأهلها !!
ما أخطر هذه المرحلة عليك !
إنه في هذه الحالة يكون قلبك هو الذي يحاربك ، أو تكون لك حربان داخلية وخارجية ، والداخلية أصعب . ويكون وصول الفكر إلى قلبك هو أقصي ما يتمناه .
وحينئذ يجتمع أولاده حوله ضدك . وأولاده هم شهوات القلب .
فإن سقط القلب في يد الفكر ، تسقط بالتالي الإرادة بسهولة ، إذ يضغط القلب عليها .
الإرادة تكون قوية ، حينما يكون القلب قوياً ، وحينما يكون الفكر في الخارج . ولكن حينما يضعف القلب ن تضعف الإرادة تلقائياً . وإن لم تفتقدها النعمة بقوة من فوق ، ما أسهل أن تستسلم وتسقط في خطية عملية .
إذن اغلق أبوابك من بادئ الأمر ، حتى لا تتطور إلى مراحل خطرة .
قال القديس دوروثيئوس : [ من السهل أن تقلع عشبه صغيرة ، ولكن إن أهملتها حتى تصير سنديانة ضخمة حينئذ يكون من الصعب عليك اقتلاعها ] .
لذلك اقتلع الأفكار من أول خطوة تخطوها إليك ، وما أجمل ما قيل عن ذاك في المزمور : " طوبي لمن يسمك أطفالك ، ويدفنهم عند الصخرة " ( مز137 : 9 ) .
أي يسمك الخطايا وهي أطفال ، وهي أفكار ، قبل أن تنمو ، ويدفنها عند الصخرة ، والصخر كانت المسيح ( 1كو10 : 4 ) .
مضار إستبقاء الفكر
قلنا إن الفكر إذا لم يطرده الإنسان بسرعة ، يتقوي عليه ، ويصبح داخله ويصل إلى القلب وإلى الإرادة ، ويتعب النفس ، ويصبح مادة لأفكار أخري ولخطايا أخري ...
وحتى إن أمكن للإنسان أن ينتصر بعد كفاح مرير ، ف، الحرب لابد ستطول .
وطول هذه الحرب الروحية ينهك الإنسان ، الذي ربما يصبح قريباً من اليأس والاستسلام ، لأنه يكون قد بدأ يشعر بضعفه أمام الفكر .وطول فترة القتال مع الفكر ، قد يثبته في العقل الباطن .
ويضيف إلي ذاكره الإنسان صوراً ما كان يود أن تضاف إلى ذاكرته ، لئلا تصبح في المستقبل مصدراً لأفكار أخري ولشهوات وأحلام وظنون .
وحتى إن انتصر الإنسان أخيراً ، يكون عقله قد اتسخ أثناء القتال .
إذ أتيح للفكر أن يصب فيه قتالات وتأثيرات ومشاعر ، كما أن الفكر في فترة بقائه يكون قد دغدغ الحواس وترك تأثيره على القلب وعلى الجسد أيضاً .
وكمثال للتأثير على الجسد :
إنسان ذكره العدو بمشاجرة بينه وبين شخص آخر ، فتهاون في طرد الفكر ، حتى بدأ يتذكر تفاصيل المشاجرة كلها ، في ذلك يجد نفسه قد عاد إلى الغضب ، يجد جسده قد سخن ، اندفعت الدماء إلى عروقه ، واحمرت عيناه ، واكفهرت ملامحه ، وبدأ يفكر كيف ينتقم لنفسه .
انظر إلى داود النبي يحكى ضغطات الأفكار فيقول :
" إلى متى يارب تنساني ، إلى الانقضاء ؟ حتى متى تحجب وجهك عني إلى متي أردد هذه المشورات في نفسي ، وهذه الأوجاع في قلبي النهار كله ؟ إلى متى يرتفع عدوي على ... أنر عيني لئلا أنام نوم الوفاة ، لئلا يقول عدوي قد قويت عليه " ( مز12 ) .
إذن اهرب من الفكر ولا تسبقيه ، فأنت لا تعرف إلى أين يقودك ، وإلى أين ينتهي ...
والهروب أيضاً فيه أتضاع قلب ، والاتضاع هو أكبر سلاح لهزيمة الشيطان ،
أما الذي يعتد بقوته ، وبقدرته على قتال الأفكار ، فقد تتخلي عنه النعمة قليلاً ، حتى إذا ما دخل في الحرب الروحية وعنفها حينئذ لا يدعي القوة مرة أخري ، ويعتمد على الله أكثر مما يعتمد على إرادته الخاصة وصمودها وقوتها .لهذا كثيراً ما يسمح الله بالحروب ، لكي يقتني الإنسان الاتضاع . لا شئ يغيظ الشيطان ، قدر رفضك للتفاوض معه ..
لقد كان تفاوض حواء مع الحية ، هو أول خطوة في السقوط ، واستطاع الشيطان في حديثه معها ، أن يتولي توجيه فكرها وحواسها ، وصارت لعبة في يديه وتحت قيادته وتأثيره .
إنك بالتفاوض مع الفكر الشرير إنما تدخل نفسك في دائرته .
على الأقل يشعر أنه لا مانع لديك من التفاهم معه ، وكم من علاقة خاطئة بدأت بالجدل أو بالمقاومة ، وانتهت إلى الاستسلام ، أما رفض التفاهم مع الفكر ، فهو طرد صريح له من بادئ الأمر ، وعدم إعطائه فرصة لتجربة تأثيره .
أنت قد تدخل الفكر إليك ، ثم لا تعرف كيف تخرجه ...
لذلك فإن رفضه ، وعدم معايشته ، هو حل سليم لا نقاش فيه .
ذلك أن استبقاء الفكر ، قد يؤدي إلى سيطرته ، وإذا استمر فترة طويلة فقد يؤدى إلى حالة من العبودية .
العبودية للفكر
إذا سيطر الفكر على الإنسان ، ليس فقط يقوده ، ليس فقط يقوده إلى السقوط ، إنما بالأكثر إلى الخضوع الدائم للفكر ، والاستبعاد له .
إن شعر الفكر انه وصل إلى القلب وإن الإنسان أصبح يريده ، لذلك لا مانع من ان يطرقه باستمرار . فيستمر الفكر أياماً أو أسابيع في ذهن هذا الإنسان المستعبد له ..
وفي كل حين يضيف إليه شيئاً جديداً ويبقي معه باستمرار ، يطرد منه كل فكر خير ، ينام والفكر في ذهنه ، ويصحو والفكر في ذهنه ، ويمشي ويعمل والفكر قائم .
إذن كيف يمكن للإنسان أن ينتصر ؟
الانتصار على الفكر
أول الوسائل ، ذلك المثل القائل :
الوقاية خير من العلاج ..
لا تأخذ باستمرار موقف المدافع ، فإنك في دفاعك قد تنتصر حيناً ، وتنهزم حيناً آخر .
إنما خذ موقف الحصانة الداخلية ، بالعمل الروي الإيجابي الذي يحصن قلبك ضد الأفكار .
ليكن لك برنامج روحي قوي مستمر من صلوات ومزامير ، وقراءات روحية وتأملات ، وتراتيل وألحان ، واجتماعات روحية ، وصداقات روحية ، وغذاء روحي دائم يملأ القلب بمشاعر نقية وحينئذ ينطبق عليك قول الرب :
" الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح ، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر " ( لو6 : 45 ) .
إذن قلبك هو منبع الأفكار ، إن كانت مشاعره روحية تخرج منه أفكار روحية ، وإن أتته أفكار شريرة من الخارج ، يرفضها .
فلنهتم إذن بالقلب وخزينة الروحي بدلاً من أن نقضي الحياة الروحية صراعاً مع الأفكار .
وثق إنك إن كنت مشغولاً باستمرار بفكر روحي نقي ، فإن الأفكار الشريرة لن تجد لها مكاناً فيك ، ولن تعوزك اطلاقاً إلى القتال معها .
لذلك غالباً ما نجد الأفكار الشريرة تتعب الإنسان في فترات فتوره .
وإذن قلبك هو منبع الأفكار ، إن كانت مشاعرة روحية تخرج منه أفكار روحية ، وإن أتته أفكار شريرة من الخارج ، يرفضها .
فلنهتم إذن بالقلب وخزينة الروحي بدلاً من أن نقضي الحياة الروحية صراعاً مع الأفكار .
وثق أنك إن كنت مشغولاً باستمرار بفكر روحي نقي ، فإن الأفكار الشريرة لن تجد لها مكاناً فيك ، ولن عوزك اطلاقاً إلى القتال معها .لذلك غالباً ما نجد الأفكار الشريرة تتعب الإنسان في فترات فتوره .
وإذ يكون فكرة خالياً من العمل الروحي ، يأتي الشيطان ويعيش فيه .
أما إن كان منشغلاً بصلاة ، أو قراءة روحية ، أو تأمل روحي ، فإن الأفكار لا تقدر عليه .
ولعلك هنا تسأل : هل الأفكار لا تحارب الإنسان في حالة نشاطه الروحي ؟
أقول إنها تحاربه ، ولكنها لا تقدر عليه ، ولا تتعبه .
فالأفكار حاربت القديسين ، ولكنها لم تتعبهم ولم تهزمهم ، بل قالوا مع القديس بولس : " مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح " ( 2كو10 : 5 ) .والانشغال الروحي يطرد الأفكار ، بشرط أنه يكون انشغالاً بعمق .
فالقراءة السطحية ، والصلاة غير العميقة ، قد لا تطرد الأفكار ، ومن هنا كان البعض يسرح أثناء صلاته ، في أي فكر .
عيشوا في عمق روحي ، تهرب الأفكار منكم ، بنعمة الرب ..
سؤال وجواب
سؤال
إذا كنت حينما أتذكر خطاياي أقع فيها مرة أخري ، فهل أنا مطالب بقول داود النبي : " خطيتى أمامي في كل حين " ؟ ( مز 50 ) .
الجواب
ليس المقصود بهذه العبارة أن تتذكر التفاصيل المعثرة التي تتعبك . يكفي في حالتك أن تذكر الخطية جملة وليس تفصيلاً .
ونقطة أخري : هي أن الآباء قالوا إن الخطايا الشهوانية أو الإنفعالية هي التي تحارب الإنسان بالخطايا مرة أخري .
فلنفرض مثلاً أنك اشتهيت مركزاً معيناً ، أو اشتهيت أن تقتني شيئاً تحبه ، أو أنك وقعت في شهوة جسدية فتذكار تفاصيل هذه الشهوات قد يتعبك . أو أن وقعت في خطية إنفعالية مثل الغضب أو الحسد أو الرغبة في الانتقام ، فربما تذكار التفاصيل يتعبك .
وعن هذه الخطايا وأمثالها ، قيل في القداس الإلهي : " تذكار الشر الملبس الموت " .
لذلك يمكن أن تتذكر خطاياك في إنسحاق لتندم عليها وتتضع . أما إن وجدت التذكر سيدنس فكرك ، أو يعيد شهوة رديئة إلى قلبك ، أو أنه يجعلك تنفعل بالغضب أو الحسد أو الانتقام أو محبة العالم .
فحينئذ اهرب من تذكار الخطية . تذكار الخطية هو وسيلة لهدف .
وكل ممارسة روحية ، اعملها بحكمة ولا تكن حرفياً في ممارسة الفضائل .
الفصل الثامن
المظاهر الخارجية
لقد هاجم السيد المسيح محبة المظاهر الخارجية . وذلك في توبيخة الكتبة والفريسيين المرائين ، " لأنكم – الكتبة والفريسيون المراؤون – تنقون خارج الكأس والصحفة ، وهما من داخل مملآن اختطافا ودعارة " . وقال لهم أيضاً : " ويل لكم لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة ، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة " ( مت23 ك 25 ، 27 ) .
ونفس الوضع كان في العهد القديم .
إذ أنه لم يقبل المظاهر الدينية من اليهود ، كالاحتفالات بأوائل الشهور والأصوام والصلوات والبخور والذبائح ، مع عدم نقاوة القلب ..!
فقيل في سفر إشعياء : " لماذا لي كثرة ذبائحكم – يقول الرب - ... لا تعودوا تأتون بتقدمه باطلة . البخور هو مكرهة لي ... رؤس شهوركم وأعيادكم أبغضتها نفسي . صارت على ثقلاً . مللت حملها . فحين تبسطون أيديكم ، أستر عيني عنكم . وإن أكثرتم الصلاة ، لا أسمع ... أيديكم ملآنة دماً " ( إش1 : 11 – 15 ) .
إن الله يهمه القلب قبل كل شئ ، وليس المظاهر الخارجية .
ولذلك فإنه قال ، " فوق كل تحفظ قلبك ، لن منه مخارج الحياة " ( أم4 : 23 ) وقال أيضاً : " يا ابني اعطني قلبك ، ولتلاحظ عيناك طرقي " ( أم23 : 26 ) .
فالفضائل التي لا تنبع من القلب ومن الحب ، مرفوضة من الله ..
لأن الله لا يحب المظاهر الخارجية . إنه يريد حقيقة الإنسان من الداخل . يريد مشاعره وعواطفه ومحبته ، وليس مجرد عمل خارجي لا قيمة له .
الصلاة من قلب نقي ، أو من قلب منسحق ، هي صلاة مقبولة . أما صلاة الأشرار فمرفوضة .
لهذا قبل الله صلاة العشار ، ولم يقبل صلاة الفريسي الممزوجة بالكبرياء والافتخار وإدانة الآخرين . كذلك لم يقبل صلوات هؤلاء الذين قال لهم : " أيديكم ملآنة دماً " ( إش1 : 15 ) كما أن الكتاب قال في وضوح : " ذبيحة الأشرار مكرهة للرب " ( أم15 : 8 ) " ذبيحة الشرير مكرهة ، فكم بالحري حين يقدمها بغش " ( أم21 : 27 ) . وقال أيضاً : " من يحول أذنه عن سماع الشريعة ، فصلاته أيضاً مكرهة " ( أم28 : 9 ) .
لذلك ينبغي التركيز على النقاوة الداخلية ، التى هي المصدر الحقيقي لكل نقاوة من الخارج .
أحياناً بعض الوعاظ والخدام والمربين ، يهتمون كل الاهتمام بالنقاوة الخارجية فقط ، ويركزون عليها .
فبالنسبة إلى الفتاة مثلاً : يهتمون بمظهرها .. هل تتفق ملابسها وقواعد الحشمة ؟ هل هي تسرف في زيتنها ؟ ويركزون عظاتهم على هذه السلبيات ..
ويتركون الباعث الداخلي الذي يكمن في القلب ، وراء عدم الحشمة !
والمفروض أن يكون التركيز على الداخل : على محبة الله ، ومحبة الفضيلة ، ونقاوة القلب . وإذا صار القلب نقياً من الداخل ، وتخلص من المشاعر التي تدفع الفتاة إلى التبرج في زينتها ، حينئذ هي نفسها ، من تلقاء ذاتها ستتخلى عن كل هذه المظهريات .
إن التوبيخ والعنف والضغط ، ليست هي الأمور التي تصلح . ربما تقدم مجرد مظهر خارجي .
ويبقي القلب في الداخل كما هو ، بنفس رغباته وشهواته . وربما يضاف إليه التذمر والكبت والضيق .. أما إذا تنقي القلب ÷ فإنه حينئذ سينفذ كل تلك النصائح برضي واستماع ، وبدرجة أرقي من الناحية الروحية .وبالمثل مع الشاب الذي يطيل شعره ، ويلبس ملابس غير لائقة به كشاب متدين ..
يحتاج أن يعرف ما هي معاني الرجولة ؟ وما هي مظاهر قوة الشخصية ؟ وكيف يمكنه أن يكتسب احترام الاخرين ؟ بالإضافة إلى نقاوة القلب . فإن اقتنع بكل هذا لابد سيترك كل تلك الأخطاء بدون توبيخ ، وبدون قهر ..
ليس المهم أن ننظف خارج الكأس ، بينما الداخل كله نجاسة :
إن الإصلاح من الداخل هو أكثر ثباتاً ورسوخاً في النفس : وبه ينصلح الإنسان بطريقة حقيقية ، ولا يكون واقعاً في تناقض ما بين داخلة وخارجه . كما أنه لا يكون تحت ضغط ، بحيث يتلمس ظروفاً للانفلات من هذا القهر الخارجي !!
فلنبحث إذن عن الأسباب الداخلية التي تؤدى إلى الخطأ الخارجي ، ونعالجها :
خذوا الكذب مثلاً ، كظاهرة :
الشخص الذي يكذب ، هل ستصلحه عظات عن الكذب ؟ أو توبيخ له على كذبه ؟ أم أن الأعمق تأثيراً عليه واصلاحاً له ، ههو البحث عن الأسباب التي تجعله يكذب : هل هي الخوف من إنكشاف شئ ؟ أو الرغبة في الحصول على منفعة معينة ؟
أو القصد من الكذب هو التباهي ؟ أو التخلص من الإحراج ؟ او السبب هو الخجل ؟ أم هي قد أصبحت عادة ، بحيث يكذب بلا سبب ؟ أم هو يكذب بقصد الفكاهة ، أو بقصد الإغاظة ؟ أو التلذذ بالتهكم على الناس ؟!!
نبحث عن سبب الكذب ، ونعالجه ونقنع صاحبه بعدم جدواه . ونقدم له حلولاً عملية للتخلص من كذبه ، أو بدائل لا خطأ فيها ..
كالصمت أحياناً ، أو الهرب من الاجابة بطريقة ما ، أو الرد على سؤال بسؤال ، أو الاعتذار من خطا بدلاً من تغطية بالكذب ، وكذلك الاقتناع بخطأ التباهي ، وخطأ التهكم على الناس . مع الاقتناع أيضاً بكسب ثقة الناس واحترامهم بأسلوب الصدق .
وهكذا نعالج الداخل ، فيزول الخطأ الخارجي تلقائياً ، كنتيجة طبيعية ..
وبهذا لا نهمل الخارج تماماً . وكيف ذلك ؟ ولماذا ؟
ليس الاهتمام بالداخل ، معناه أننا لا نهتم بأعمالنا الخارجية ...
فالمفروض أن نكون قدوة . كما أن أخطاءنا الخارجية قد تعثر الآخرين .
وفي هذا قال السيد الرب : " فليضئ نوركم هكذا قدام الناس ، لكي يروا أعمالكم الحسنة ، ويمجدوا أباكم الذي في السموات " ( مت5 : 16 ) وواضح من هذه الأية أن الغرض هو تمجيد الله ، وليس تمجيد الذات . وقيل أيضاً :
" معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس " ( رو12 : 17 ) .
لأنه هكذا ينبغي أن يكون أولاد الله . وكما قال القديس يوحنا الحبيب : " كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية .. بهذا أولاد ظاهرون .. " ( 1يو3: 9 ، 10 ) ومن جهة العثرات ، قال السيد الرب : " ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة " ( مت18 : 7 ) .
فالمفروض أن يسلك الإنسان من الخارج سلوكاً حسناً مع اعتبارين :
1 – أن يكون ذلك لتمجيد الله ، وليس لتمجيد ذاته .
2 – إن يكون السلوك الخارجي طبيعياً ، نابعاً من نقاوة القلب الداخلية .
وإن كنت لم تصل بعد إلى نقاوة القلب الداخلية ، فاغضب نفسك على ذلك . حقاً أنه من فضلة القلب يتكلم اللسان . فإن كانت مشاعر قلبك لم تنتق بعد من جهة بعض الناس ، فليس معني هذا أن تخطئ إليهم بلسانك ، لكي يكون لسانك وقلبك في خط واحد! كلا . بل احترس بلسانك حتى لا تخسرهم . ثم بعد ذلك عود قلبك أن يكون مثل لسانك في كلامه الطيب .
وهنا يكون التغصب والرغبة في كسب الناس باحترامهم ومحبتهم ، من الاعتبارات التي تضاف إلى وجوب السلوك الخارجي الحسن .
ولا يعتبر هذا لوناً من الرياء ، إنما يكون في هذه الحالات لوناً من ضبط النفس . وضبط النفس من الخارج لازم ومطلوب . ويدخل في نطاق التدريبات الروحية التي يصل بها الإنسان إلى حياة النقاوة .
إذن نظف الداخل ليتفق مع الوضع الخارجي السليم . ولا تهبط بالخارج إلى مستوي الداخل ، إن كان داخلك غير سليم ..
المفروض أن تكون نقياً من الداخل ومن الخارج ، فحاول أن تصل إلى الأمرين معاً . وإن بدأت بأحدهما ، اكمل بالآخر أيضاً .
واحتراسك الخارجي ممدوح . ولكن لا تكن مكتفياً به ، ب أضف إليه النقاوة الداخلية . وليكن هذا هو تدريبك في كل الفضائل .
خذ مثالاً هو الصوم ، من جهة السلوك الخارجي ، والعمل الداخلي .
ليس الصوم هو مجرد فضيلة خارجية خاصة بالجسد وحده . كأن يمتنع الجسد عن تناول ما يشتهيه من الطعام ، مع قهر نفسه على الانقطاع كليه عن الطعام فترة معينة ، إنما ينبغي أيضاً أن يمنع نفسه عن الأخطاء . ويتمشى منع النفس مع منع الجسد .
فإن كان لم يصل إلى هذا المستوي الروحي في داخله فليس معني هذا أن يكسر صومه ويفطر !
وإلا يكون قد انحل جسداً وروحاً ! بل عليه أن يدرب قلبه من الداخل ، ليتمشى مع صوم الجسد من الخارج ، ولو بالجهد وبالوقت وبالتدريب ، إلى أن يصل بنعمة الرب . وبهذا يمكننا أن نضع قاعدة روحية للتوازن بين المستويين الداخلي والخارجي ، وهي هذا :
إن كان أحد المستويين مرتفعاً ، والآخر منخفضاً ، فأرفع المنخفض إلى مستوي المرتفع .
ولكن لا تكتف مطلقاً بأن تسلك حسناً من الخارج . فالله ينظر إلى قلب . إنما جاهد باستمرار أن تنقي قلبك ، وأن يكون كل سلوكك الخارجي السليم مجرد تمهيد أو تدريب للعمل الجوانى .وكثيراً ما تكون التنقية الخارجية وسيلة للتنقية الداخلية ..
مثال ذلك شاب ، تحاربه في داخله أفكار شهوانية جسدية ومشاعر نجسه لا تتفق مع حياة العفة ، وربما تسبب له أحلاماً دنسة تتعبه .. أتراه يستطيع أن يسلك من الخارج هكذا ، ليكون خارجه تماماً كداخله ؟! كلا بلا شك ، وإ فإنه يضيع نفسه ، ويضيف إلى خطايا الفكر والقلب ، خطايا العمل والحس والجسد !
مثل هذا ، عليه أن يحترس جداً من الخارج . وهذا الاحتراس الخارجي يساعده على النقاوة الداخلية ، مع عدم الاكتفاء بالحرص الخارجي ..
لذلك لا تيأس مطلقاً . ولا تقل : ما فائدة النقاوة الخارجية ، إن كنت في داخلي دنساً ؟! وما فائدة عفة الجسد ، إن كانت روحي زانية ؟!
هذه حرب من الشيطان ليوقعك في اليأس وفي الخطية .
إن صمودك الخارجي يعني رفضك للخطية . أضف إليه صموداً آخر ضد الأفكار . وثق أن الله لابد سيرسل نعمته لمعونتك ...
ومن أجل أمانتك من الخارج ، سيعينك الله من الداخل ، مادمت تطلبه وتستغيث به .
كن أميناً في هذا القليل الذي هو الخارج ، فيقيمك الله على الكثير الذي هو النقاوة الداخلية .
ولكن في نفس الوقت لا تهمل الوقت داخلك ، فالله يريد القلب . جاهد في داخلك ، أيضاً ..
ادخل في حرب الأفكار في الداخل ، كما انتصرت في حرب الجسد والحواس من الخارج ..
وسيتعاون الأمران معاً . احترسك من الخارج ، سيمنع عنك حروباً داخلية كثيرة . وعلى الأقل سوف لا تحارب في ميدانين في وقت واحد . وحرصك الخارجي سيدخل عنصر الحصر في حياتك ، ويدربك على الحرص من الداخل أيضاً . ثم يضاف إليها معونة تأتيك من فوق ، يرسلها الله مكافأة على أمانتك ...
إن الأشخاص المبتدئين ، قد يكتفون بالانتصار في الحروب الخارجية ، لكنهم يتدرجون بعد ذلك إلى الدخول في الحروب الداخلية وهي أصعب ولكنها أعمق جداً ، وتوصل إلى نقاوة القلب الفكر . وبذلك يصبح القلب مسكناً لله .
ونقاوة القلب تعني رفضه للخطية وكراهيته لها . والوصول إلى ذلك يساعده تماماً في الانتصار على الحروب الخارجية ، إذ لم يعد لها سلطان عليه .
حتى إن جاءته الخطية في حلم ، وهو ليس في وعيه ، يكون عقله الباطن متنبهاً لها تماماً ، ورافضاً لها . وهكذا لا يمكن أن يخطئ في أحلامه ، لأن قلبه وعقله يرفضانها . وإن حدث أن الخطية ضغطت عليه جداً في حم ، بالحاح شديد للتنفيذ ، لابد حينئذ سيسقط ، لأن قلبه يرفض أن يخطئ . وينطبق عليه قول الرسول :
" ولا يستطيع أن يخطئ " ( 1يو3 : 9 ) .
ويبرر الرسول ذلك بقوله : " لأن زرعه يثبت فيه " ويقول عنه أيضاً أنه " يحفظ نفسه والشرير لا يمسه " ( 1يو5 : 18 ) .هذا من الناحية السلبية ، من جهة الخطية . فماذا أيضاً من الناحية الإيجابية ؟ نقول :
إذا تنقي القلب ، تكون كل أعماله الفاضلة دوافعها روحية ، ومن أجل الله وحده ..
وأيضاً من أجل الله ، وليس من أجل الذات .
فلا يكون فعله للخير ، من أجل أن تكبر ذاته في عينيه ، أو من أجل أن تكبر ذاه في أعين الناس ... وكلا الأمرين يدخلان في نطاق خطية المجد الباطل التي تدفع إلى خطية الرياء .. وما أد قول السيد المسح عن ذلك في حديثه عن الكتبة والفريسيين :
" وكل أعمالهم يعملونها ، لكي تنظرهم الناس " ( مت23 : 5 ) .
وهنا يدخلون في خطية محبة المظاهر الخارجية . ويكون الخير الذي يفعلونه ليس خيراً حقيقياً ، إذ قد امتزج بمحبة الذات ، ومحبة المجد الباطل ، ولا يكون هدفه نقياً . ليس هدفه محبة الله ، ولا محبة الخير ، وليس مقصوداً لذاته ، وليس صادراً عن طبيعة نقيه . وهنا يسأل البعض :
هل معني هذا أننا لا نفعل الخير أبداً أمام الناس ؟ حتى لا ينظروننا وحتى لا يأتينا مديح منهم بسبب ذلك !!
كلا طبعاً ، فالكتاب : " معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس " ( رو12 : 17 ) .
ومن جهة المديح ، كان الرسل والقديسون جميعاً يقابلون بمديح من الناس . ومازال المديح يلاحقهم حتى بعد موتهم . ولم يكن في ذلك خطية . ومن غير المعقول أن يتوقف البار عن عمل الخير تماماً ، لكي ينجو من مديح الناس !!
إذن كيف نوقف بين كل هذا ، وبين الوصايا الخاصة بعمل الخير في الخفاء !!
هوذا الرب يقول : " متى صليت ، فأدخل إلى مخدعك واغلق بابك ، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء . وأبوك الذي يري في الخفاء . وأبوك الذي يرى في الخفاء ، يجازيك علانية " ( مت6 : 6 ) ، وقوله أيضاً : " متى صنعت صدقة ، فلا تعرف ، شمالك ما تفعله يمينك " ( مت6 : 3 ) وقوله أيضاً : " .. لكي لا تظهر للناس صائماً ، بل لأبيك الذي في الخفاء " ( مت6 : 18 ) .
وللتوفيق بين كل ذلك أقول لك :
1 – على قدر امكانك أعمل الخير في الخفاء .
ولكنك في أحوالك كثيرة قد لا تستطيع . فأن أمام الناس تذهب إلى الكنيسة وتصلي ، وتواظب على الاجتماعات ، ويرونك وأنت تتناول باستمرار ، وتصوم كل الأصوام الكنيسة . وخدمتك معروفة في الكنيسة ، وربما عطاياك للفقراء تصير معروفة ، مثل عطايا الأنبا إبرام أسقف الفيوم ، والأرخن إبراهيم الجوهري ، والأنبا صرابامون أبو طرحة .
فما هو الحل أمام هذه المعرفة ؟
2 – ليست خطيئة أن يعرف الناس ما تفعله من خير ، إنما الخطيئة هي أن يكون الهدف من عمل الخير هو أن يراه الناس ويمدحوه ..!!
وهذا ما عناه السيد المسيح بقوله : " متى صنعت صدقه ، فلا تصوت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة ، لكي يمجدوا من الناس " ( مت6 : 20 ) .
وأيضاً قوله : " فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع ، لكي يظهروا للناس " ( مت6 : 5 ) . وأيضاً " فإنهم يغيرون وجوههم ، لكي يظهروا للناس صائمين "
( مت6 : 16 ) .
واضح هنا أن الهدف هو أن يظهروا للناس ، ولكي يمجدوا من الناس .. هنا المظهرية ، أو محبة المظاهر الخارجية .
فإن كنت تفعل الخير ، وقلبك نقي من محبة المظاهر ، وليس هدفك أن يراك الناس ، بل تهرب من هذا .. إذن لا يهمك مطلقاً أن يعرف الناس أنك فعلت ذلك .
3 – اهرب من معرفة الناس .. فإن عرفوا ، لا تجعل ذلك يؤثر على قلبك . انسه ولا تهتم .
القديس بولس الرسول قال عن خدمته وخدمة معاونية : " بصيت حسن ، وصيت رديء " " بمجد وهوان " ( 2كو6 : 8 ) . ولم يرتفع قلبه بالمجد ولا بالصيت الحسن . والقديس مقاريوس الكبير قال : كن كالميت الذي لا يبالي بكرامة ولا بهوان .
4 – إن وصل المديح إلى أذنك ، لا تدخله إلى قلبك . بل تذكر ضعفاتك وخطاياك ، لكي تغطي عليه .
5 – وهناك أمور تستطيع أن تخفيها حتى في أعمالك الظاهرة . فقد يعرف الناس أنك صائم ، ولكنك بقدر إمكانك تخفي عنهم درجة صومك ، من جهة موعد انقطاعك والأصناف التى تأكلها . فإن عرف البعض شيئاً منها ، لا تجعل الكل يعرفون . وبالمثل في العطاء ، قد يعرفون أنك تعطي ، ولا يعرفون كل ما تعطي ...
وقد يعرف البعض أنك تصلي ، ولكنهم لا يعرفون حالة قلبك في الصلاة .
وقد يعرف البعض أحياناً بالنسبة إلى الصلوات العامة ، كصلوات الكهنة في القداسات .
ونصيحتي في هذا الأمر أن ينسى الكاهن تماماًُ شعباً يسمعونه . ويركز فقط إنه قائم أمام الله ، وأنه يخاطب الله وحده سواء سمعه الناس أم لم يسمعوه ...
فإن جعل في ذهنه أن يعجب الناس بصلاته ، يكون قد وقع في محبة المظاهر ؟
ولا تكون الصلاة هنا موجهة إلى الله ، وإنما موجهة إلى الناس ، من أجل الذات !
كذلك إن قام الكاهن بأنشطة كثيرة ووضع في نفسه أن يعجب بها الناس ، وليس أن يخدم بها الملكوت .
وهنا يكون قد وقع في المظهرية ، ويزيد الأمور سوءاً ، إن كانت مجرد أنشطة ومشروعات ، ولا نصيب للروح فيها ..
وبعد ، يخيل إلى أننا لابد أن نلتقي حول هذا الموضوع مرة أخري لتكميلة ، إن أحبت نعمة الرب وعشنا ..
الفصل التاسع
خطايا اللسان
اللسان سيف ذو حدين ، يمكن أن يستخدم في الخير ، كما يمكن أن يستخدم في الشر ولهذا قال الكتاب :
" بكلامك تتبرر ، وبكلامك تدان " ( مت12 : 37 ) .
وقد قال الرب للعبد البطال : " من فمك أدينك أيها العبد الشرير " ( لو19 : 22 ) . وداود النبي قال للغلام الذي بشره بموت شاول الملك : " فمك شهد عليك " ( 2صم1 : 16 ) ولما تكلم بطرس قالوا له : " لعنتك تظهرك " . وقال الرب في خطورة الكلام البطال :
" كل كلمة بطالة تكلم بها الناس ، سوف يعطون عنها حساباً في يوم الدين " ( مت12 : 36 ) .
والمقصود بالكلمة البطالة ، ليس فقط الكلمة الشريرة ، إنما أيضاً الكلمة التي بلا منفعة .
ذلك لأن الله لم يخلق اللسان عبثاً ، وإنما خلقه لفائدة ، إن لم يؤدها يكون طاقة معطلة . فليس كل فضل اللسان أنه يخطئ . بل لابد أن يكون له عمل إيجابي . لأنه هل من المعقول أن توجد آله ، كل فائدتها أنها لا تضر أحداً ؟! أم لابد أن يكون لها انتاج مفيد ؟ هكذا اللسان ..
لذلك فالثرثرة إحدى خطايا اللسان .
لأنها استخدام للسان بطريقة خاطئة ، وربما بطريقة مزعجة . ولأنها أيضاً أضاعة لوقت السامع ، ولوقت المتكلم كذلك ..
ولأن اللسان قد ينفع وقد يضر ، لذلك يتعجب الرسول قائلاً : " ألعل ينبوع ينبع من نفس عين واحدة : العذب والمر ؟! " ( يع3 : 11 ) . وخطورة اللسان يشرحها القديس يعقوب الرسول باستفاضة ، بقوله :
" إن كان أحد لا يعثر في الكلام ، فذاك رجل كامل ، قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً " ( يع3 : 3 ) .
ويقول فيه أيضاً – هكذا اللسان – هو عضو صغير ويفتخر متعظماً . هوذا نار قليلة أي وقود تحرق . فاللسان نار ، عالم الإثم .. يدنس الجسم كله ، ويضرم دائرة الكون ، ويضرم من جهنم ( يع3 : 5 ، 6 ) .
وفي خطورة اللسان ، أعتبرت خطيئته دنساً ، وأعتبرت أيضاً نجاسة :
وفي هذا قال السيد المسيح أيضاً عن نجاسة اللسان : " ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان ، بل ما يخرج من الفم ، هذا ينجس الإنسان " ( مت15 : 11 ) .
إذن النجاسة ليست هي خطايا الزنا مثلاً ، بل أيضاً خطايا اللسان !
وهذا يعطى خطايا اللسان خطورة :
ولهذا وصفها القديس يعقوب الرسول بأنها سم مميت ، وشر لا يضبط وعالم الإثم ، وتدنس الجسد كله ، وتضرم من جهنم ...
ما أكثر الأخطاء والخطايا التي يقع فيها اللسان . من الصعب حصرها .
منها خطايا الكبرياء :
مثل الافتخار ، وتبرير الذات ، ويدخل فيها العناد ، - المقاوحة – ومقاطعة الآخرين أثناء كلامهم ، ليتكلم هو الحديث بغطرسه .
من أخطاء اللسان ، خطايا الكذب :
مثل الكذب الصريح ، والمبالغة ، وأنصاف الحقائق ، والغش ، والخداع ، والتضليل ، والتلفيق ، وشهادة الزور ، والمغالطة والمكر .
كذلك توجد أخطاء للسان ضد المحبة .
مثل كلام الشتيمة ، والنرفزة ، والسب واللعن ، وإدانة الآخرين ، وتحقيرهم . والتهكم عليهم ، ومسك سيرتهم ، والغيبة ، والنميمة ، والدسيسة . كذلك ألفاظ التهديد ، والتعيير وافشاء أسرار الناس ، والتشهير بهم ، والقاء المسئولية عليهم والهروب من المسئولية ونشر الشائعات .
ومن هذه أيضاً : خطايا القسوة :
ومنها الكلام الجارح الموجع الذي لا يبالي فيه قائله بمشاعر من يتحدث إليه . وكذلك ألفاظ التهديد والتخويف ، وما إلى ذلك .
ومن خطايا اللسان : عدم العفة :
مثل القصص البطالة ، والفكاهات الماجنة ، والأغاني العابثة ، والعبارات الجنسية ، وكل كلام الأغراء ، والكلام المكشوف ، والأسلوب غير المهذب ، والأسلوب الوقح ، وما تستحي الأذن الحسنة المحتشمة من سماعه .
كذلك توجد أخطاء للسان في العقيدة .
مثل كلام التجديف ، ونشر الشكوك في الدين والعقيدة ، ونشر البدع والهرطقات وإعثار العرفين بها ، واستخدم اسم الله باطلاً ، وتشويه الفكر بالخرافات .
وهناك أخطاء هي صغر نفس :
مثل كلام التملق ، والمديح الزائف ، ومجاراة المخطئين في أخطائهم . والسلوك بلسانين ، ومع كل ريح ، والنفاق ، والرياء ، وكثرة الشكوي والتذمر ، وعبارات الخوف واليأس ..
تشبه خطايا اللسان ، خطايا أخري تنضم إلى الموضوع ، وإن لم تكن خطايا لسان بالمعنى الحرفي للكلمة ..
ونعني بها الألفاظ ، التي قد لا يلفظها الإنسان بشفتيه ، ولكنه يلفظها على ورق مكتوب ، أو على ورق مطبوع .
إنها نفس الخطايا ن ونفس تكون أكثر بشاعة من خطايا اللسان . لأن الذي يسجل على نفسه كتابة أو طباعة من هذا النوع إنما يدل على استهانته بمسئولية هذه الألفاظ ..!
وعلى كل فالخطية هي نفي الخطية .
سيان أن تشتم إنساناً بلسانك ، أو أن تشتمه في ورقة .
الشتيمة هي نفس الشتيمة .. والاستهانة بالشخص ونفسيته ، هي نفس الاستهانة . والدوافع النفسية في الحالين هي نفس الدوافع ، ولكن قد تختلف المسئولية من حيث اختيار الأسلوب الكتابي بدلاً من الأسلوب الشفاهى ..
وهل السبب هو أن الكتابة أسهل من المواجهة ؟ .. إذ يجرؤ إنسان أن يكتب ألفاظاً ، لا يجرؤ أن يقولها مواجهة ؟
وعلى أية الحالات ، فإن خطايا اللسان تدل على خطايا أخري تقف معها وتسببها : خطايا داخل القلب .
قد يغضب اللسان ، ويتلفظ أثناء غضبه بألفاظ شديدة غير لائقة ، ومع ذلك قد يعتذر عنه أصدقاؤه ، بأنه على الرغم من أخطائه هذه ، قلبه أبيض ..
وهذا خطأ واضح ، لأن القلب الأبيض الفاظة بيضاء مثله ، وقد قال الكتاب : " من فضلة القلب ( أو من فيض القلب ) يتكلم اللسان " ( مت12 : 34 ) .
" الإنسان الصالح ، من كنز قلبه الصالح ، يخرج الصالحات ، والإنسان الشرير : من كنز قلبه الشرير ، يخرج الشرور – لأن من الثمر ، تعرف الشجرة " ( مت12 : 33 – 35 ) .
إذن الألفاظ الخاطئة ، تدل على وجود نفس الأخطاء داخل القلب .. فخطية اللسان هنا خطية مزدوجة .
الألفاظ القاسية تدل على قلب قاس والألفاظ المتكبرة تدل على قلب متكبر والألفاظ المستهترة تدل على قلب مستهتر ، والألفاظ الحاقدة تدل على قلب حاقد وهكذا .
فالذي يريد أن يصلح ألفاظه ، عليه أن يصلح قلبه أولاً .
وإلا فإنه سوف يقع في خطية أخري هي الرياء ، إن كان يقول ألفاظاً بلسانه ، هي عكس المشاعر التي في قلبه ، أو إن كان يدعي مشاعر في قلبه ، عكس الألفاظ التي يقولها لسانه . إذن خطايا اللسان ، ليست هي مجرد خطايا لسان ، بل هي في واقعها خطايا مركبة ..
فخطية اللسان ، غالباً ما تكون الخطية الثانية أو الثالثة ..
·
خطية ثانية أو ثالثة
ولنضرب مثالاً بخطية الكذب :
يندر أو يستحيل ، أن تكون خطية الكذب هي خطية أولي : وإنما في غالبية الحالات أو فيها كلها ، تكون خطية ابنه لحظية أم .
فالكذب خطية يغطي بها الإنسان خطية أخري سابقة لها ، وغالباً ما ترتبط بالكذب خطية ثالثة هي الخوف .
فنتيجة للخطية التي يراد إخفاؤها ، متحدة بخطية الخوف ، تتولد خطية الكذب ، ويكون ترتيبها : الخطية الثالثة ...
وكيراً ما يعترف الإنسان على الأب الكاهن ، بأنه قد يكذب ، دون أن يذكر الخطيئتين الأخريين . وخطية النرفزة كذلك ، هي خطية ثالثة أو رابعة ..
الألفاظ الشديدة أو القاسية ، التي يقولها الإنسان في نرفزته ، لم تصدر من فراغ إنما هي وقد ولدت من خطايا أخري ، ربما منها محبة الذات وكرامتها أو مصلحتها ، مع خطية عدم الاحتمال ، وكذلك خطية القسوة وأيضاً عدم محبة أو احترام الشخص الذي وجهت إليه هذه الألفاظ .. من هذه الخطايا الأربع تولد خطية الألفاظ القاسية في النرفزة وتكون هي الخطية الخامسة في الترتيب .
.
والذي يريد أن يعالج نفسه من الغضب ومن ألفاظه القاسية ، علية أن يعالج قلبه أولاً من الخطايا الأربع السابقة .
أما إذا أراد أن يبرر نفسه في غضبه وفي ألفاظة القاسية ، فإن الكلام الذي يلفظه لسانه لتغطية نرفزته ، إنما يشكل خطية سادسة في الترتيب ، هي خطية تبرير الذات .
فالمفروض في الإنسان الروحي أنه لا يبرر ذاته ، إنما يدين ذاته .
بنفس الوضع إن فحصنا جميع خطايا اللسان ، سنجدها كلها خطايا مركبة يمكن بتحليلها أن تشمل كل منها عديداً من الخطايا ..
وبالإضافة إلى كل هذا ، نضع :
1 – النتيجة الأولي هي أن الكلمة التي خرجت من فمك ، لا تستطيع أن تسترجعها .
ربما تندم عليها ، أو تحاول تبريرها أو الاعتذار عنها . ولكن الأمر الذي خرج عن إرادتك هو أن غيرك قد سمعها ، بكل ما يحمل هذا السماع من تأثيرات .
وهنا تختلف خطايا اللسان عن خطايا الفكر وخطايا القلب التي هي داخلك . أي التي هي قاصرة عليك وحدك ، لم تنكشف أمام الآخرين .
وهنا ننتقل إلى النتيجة الثانية ، وهي :
2 – تأثير خطايا اللسان على سامعيها :
لنفرض أنك حقدت على إنسان ، وساءت مشاعرك من نحوه . مازال هذا الأمر داخل قلبك لم يصل إليه ، ولم يسئ إلى العلاقة بينك وبينه ، أو لم يزدها سوءاً ..
أما إن انكشفت مشاعرك بألفاظ أساءت إليه ، فكيف تعالج الأمر ؟
لم يعد الأمر هنا قاصراً على خطية داخلك إنما تطور إلى علاقة خارجية . وربما تحاول أن تصلح هذه العلاقة فلا تستطيع ، أو أن تصالح من سمع إساءاتك ، فيرفض ذلك ، لأن ردود الفعل التي حدثت نتيجة لكلامك ، مازال تأثيرها يعمل داخل قلبه ، وربما لا يغفر بسهولة .
فإن كان كلام الإساءة قد سمعه آخرون أو سمعه كثيرون ، حينئذ تكون الدائرة قد اتسعت .
فقد يتحمس له الذين سمعوا ، وقد تتغير قلوبهم نحوك أو يردون بالمثل وربما يغفر لك من أسأت إليه ، ولا يغفر لك من سمعوا إساءتك .وحتى الذي يغفر ، بما يكون قد أخذ عنك فكرة ، لا يستطيع بسهولة أن يغيرها ..
وبقدر ما يكون كلامك جارحاً ، فعلي هذا القدر يكون تأثيره أعمق . وقد يزداد التأثير أن كانت لهجة صوتك تماثل قسوة ألفاظك ، وتشابهها ملامحك ، وهكذا تكون الأمور قد إزدادت تعقيداً ..
كلما تكلمت ، ضع أمامك أن ذاكرة الناس ربما لا تنسي .
إنك قد تنفس عن مشاعرك الداخلية ولكنك للأسف تنسي مشاعر سامعك وتأثيراته ، وفكرته التي يأخذها عنك وكذلك فكرة باقي السامعين ، أو من يسمعون عما حدث بطريق غير مباشر ... لذلك حسناً قال الكتاب إنك " بكلامك تدان " .
3 – من النتائج الأخري لخطايا اللسان :
إنك قد تتوب عن هذه الخطايا ، بينما سامعك لا يتوب ، ويطالبك الله بدمه ..
كلامك ربما يغرس خطية معينة في ذهن أو قلب سامعك : قد تكون خطية شك ، إن كان كلامك يحوي شكوكاً ، وقد يتغير قلبه من جهة أشخاص آخرين نتيجة لشتهيرك بهم . وقد صدق ما قلته أنت من كذب ، ويترك ذلك في نفسه أثراً ، وقد يردد ما رويته من حكايات ماجنة ونكات بذيئة ، ويتأثر بها ومن يسمعه .
ثم تتوب أنت عن خطايا لسانك ، ولا يتوب من سمعك ، فماذا يكون موقفك ؟
وكيف تعالج خطايا من أخطأ بسب كلامك ؟ أم تظل خطاياه محسوبة عليك ، مستمرة ضدك حتى بعد توبتك .
وربما تبقي من الخطايا التي لا تعرفها لأنك لم تدر عمق خطاياك باللسان وعمق نتائجها بالنسبة إلى غيرك ..
ما أسهل إنك تقدم للناس مبدأ خاطئاً يسيرون عليه . ثم تصحح أنت هذا المبدأ داخلك ، بينما يكون سامعوك قد جعلوه دستوراً لحياتهم ..
حقاً إن خطايا اللسان ليست خطايا عقيمة . فما أكثر أولادها ..
وفي خطورة خطايا اللسان ، تأمل قول الرب في العظة على الجبل :
: من قال لأخية رقاً ، يكون مستوجب المجمع ، ومن قال يا أحمق يكون مستحقاً نار جهنم " ( مت5 : 22 ) وقد قال القديس أوغسطينوس : إن كلمة رقاً هي أقل عبارة تدل على عدم احترام
لهذا ينبغي الاحتراس جداً من أخطاء اللسان ، ومن قسوة الألفاظ ، ومن عبارات التهكم والاستهزاء .
أول قاعدة هي الإبطاء في الكلام .
لا تسرع إطلاقاً في كلامك ، وبخاصة لو كنت في حالة انفعال أو غضب ، فربما لا تستطيع أن تضبط نفسك ، ولا أن تدقق في اختيار الألفاظ المناسبة فتكون عرضة للخطأ ، وتذكر قول الرسول :
" ليكن كل إنسان مسرعاً في الاستماع مبطئاً في التكلم ، مبطئاً في الغضب ، لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله " ( يع1 : 19 ، 20 ) .
وإن غضبت ، نصيحتي لك أنك لا تسرع بالرد ، لا تتكلم ولا تكذب ... إنما هدئ نفسك أولاً ، لأن إنفعالك هو الذي سوف يجيب ، وليس عقلك ولا روحك ... والانفعال خطر عليك وعلى سامعك ، وربما لا تستطيع معالجة نتائجه .
وإن كنت رئيساً لغيرك ، أو من رجال الدين ، أو أباً جسدياً ، فلا تعط نفسك الحق في الكلام بلا ضابط أو بلا مراعاة لمشاعر غيرك .
لأن – الكبار – كثيراً ما يعطون أنفسهم حقوقاً أزيد مما يجب ، لا يراعون فيها إحساسات من هم أصغر منهم سناً أو مركزاً ، محتجين بأن لهم الحق في أن يوبخوا وأن يؤدبوا وأن يعلموا ناسين أن كل هذا ينبغي أن يكون بلياقة وحسب ترتيب ( 1كو14 : 40 ) وناسين قول الكتاب : " لتصر كل أموركم بمحبة " ( 1كو16 : 14 ) وناسين أن من ثمر الروح : " لطف " ( غل5 : 22 ) .
إنه أمر محزن ، أن يفقد – الكبار – أبديتهم في توبيخ من هم أصغر منهم ..
وأمر محزن أيضاً أن يظن – الكبار – أنه قد رفعت عنهم التكاليف .. فما عاد الله يطالبهم بالوداعة والتواضع والرقة وآداب الحديث ، كأنهم ارتفعوا فوق مستوي الوصية .. لذلك لا تكن كبيراً في عيني نفسك واسمر حريصاً في كلامك ..
قديسون كثيرون وجدوا أن الصمت علاج نافع لأخطاء اللسان .
وهوذا المرتل يقول : " ضع يارب حافظاً لفمي ، باباً حصيناً لشفتي " ( مز140 ) بل أن القديس العظيم الأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك يقول عبارته المشهورة :
[ كثيراً ما تكلمت فندمت . وأما على سكوتي ، فما ندمت قط ] .
لذلك حاول أن تدرب نفسك على الصمت ، وإن تكلمت ، فليكن كلامك للضرورة ، وباختصار وحسب حاجة الموقف ، وبصوت هادئ رصين .. وتذكر أنه قيل عن السيد المسيح أنه كان :
" لا يخاصم ولا يصيح : ولا يسمع أحد في الشوارع صوته " ..
ولا تكن شغوفاً بتعليم غيرك ، أو بالحديث عن معلوماتك ، أو بالتحدث في أي موضوع حتى لو كان خارج دائرة اختصاصك . واعلم أن الخطأ في التعليم – وبخاصة في مجال الدين – له أضرار أخطر بكثير من إساءة مشاعر أحد بالكلام . وهوذا الرسول يقول :
" لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم . لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا " ( يع3 : 1 ، 2 ) .
ونصيحة أخري ، أنك في كلامك مع كل أحد ، راع آداب الحديث . ولعلني أكلمك عنها في كتاب عن الصمت والكلام ، إن أحبت نعمة الرب وعشنا .
حاول أن تأخذ درساً من كل أخطائك السابقة في الكلام .
ولتكن كل كلمة من كلامك بميزان دقيق ... وليكن كلامك للمنفعة .
الفصل العاشر
قسوة القلب
نوعان من القساوة
موقف المسيح من القسوة
صفات القلب القاسي
أسباب قساوة القلب
معالجة القسوة
إن قسوة القلب لها اتجاهان : قسوة نحو الله ، وقسوة نحو الناس .
القسوة نحو الله ، هي الرفض المستمر لله وإغلاق القلب أمامه ، وعدم الانجذاب نحو إحسانات الله ومحبته التي يظهرها لنا ، ولا لقرعه على باب قلوبنا .
أما القسوة نحو الناس ، فمظهرها قسوة المعاملة : الكلمة القاسية ، والنظرة القاسية ، والعقوبة القاسية والتوبيخ القاسي ، وقد تكون القسوة على الجسد في تعذيبه ، أو قد تكون قسوة على النفس في إذلالها وسحقها والتشهير بها ، والعنف في معاملتها .
والإنسان الخاطئ يقع في الأمرين معاً .
وعكس القسوة : الرحمة والحنو والعطف والإشفاق . وما أكثر كلام السيد المسيح عن الرحمة ، حتى إنه قال : " طوبي للرحماء فإنهم يرحمون " ( مت5 : 7 ) . وجعل الرحمة شرطاً لدخول الملكوت ( مت25 : 35 ، 36 ) وقد حرم غني لعازر من الملكوت ، لأنه لم يشفق على لعازر ( لو16 : 21 ) .
كان يشفق على الزناة والخطاة ، ويقبل دموع التائبين منهم ، ويعاملهم بكل حنان ، مثلما دافع عن المرأة الخاطئة التي ضبطت في ذات الفعل ( يو8 : 7 ) .
ولكنه في نفس الوقت ، ما كان يقبل القساة مطلقاً ، بل كان يوبخهم بشدة .
لقد وبخ الكتبة والفريسيين المتشددين في الدين ، لأنهم كانوا في تعليمهم " يحزمون أحمالاً ثيلقة عسرة الحمل ، وضعونها على أكتاف الناس ، وهم لا يريدون أن يحركوها بأصبعهم " ( مت23 : 4 ) . ولذلك قال لهم : " ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون ، لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ، ولا تدعون الداخلين يدخلون " ( مت23 : 13 ) .
إن القسوة كثيراً ما تكون مظهراً أو نتيجة لكبرياء القلب . لذلك كان الرب أيضاً ضد المتكبرين . بل يقول الكتاب : " الرب يقاوم المستكبرين " ( 1بط5 : 5 ؛ يع4 : 6 ) .
وهكذا يدعو الله دائماً إلى الحنان والعطف . ويحذر القساة من أنهم سوف يلاقون نفس المعاملة ، ويعاملون بنفس الأسلوب . فيقول لهم : " بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ويزاد " ويقول لهم أيضاً : " بالدينونة التي بها تدينون تدانون " ( مت7 : 1 ، 2 ) .
فليحترس القساة إذن ، وليخافوا على أنفسهم من قساوة أنفسهم .
إن القساوة حرب شيطانية . ومن يتصف بها يشابه الشيطان في صفاته . لن القسوة من صفات الله ، بل الله رحين باستمرار ، شفوق على الكل ..
وليست القسوة مكروهة من الله فقط ، بل أيضاً من الأبرار أصحاب القلوب الرقيقة . وهكذا نري أن يعقوب أباً الآباء يوبخ قسوة أبنية شمعون ولاوى ، فيقول عنهما :
" ملعون غضبهما فإنه شديد ، وسخطهما فإنه قاس " ( تك49 : 7 ) .
إن القلب الطيب قريب من الله . إنه مثل عجينة لينه في يد الله ، يشكلها مثلما يشاء ، بعكس الأشرار الذين لهم قلوب صخرية صلبة قاسية ، لا تخضع لعمل الله فيها ولا تستجيب ولا تشكل ... ولذلك يحذرنا الرسول من هذه القسوة فيقول :
" إن سمعتم صوته ، فلا تقسو قلوبكم " ( عب3 : 8 ، 15 ؛ عب4 : 7 ) .
إن الله ينظر إلى الخطية باستمرار على اعتبار أنها قساوة قلب ، لأن
القلوب الحساسة لا تعاند الله مطلقاً ، ولا تغلق أبوابها في وجهه .
إنها حساسة لصوت الله ولدعوته ، سريعة الاستجابة له . تتأثر جداً
بمعاملات الله وبعمل نعمته . وإن بعدت عنه نحن إلى الرجوع بسرعة .
أقل حادثة تؤثر فيها . وكل كلمة من الله تذيب قلبها وتعيده إليه .
وعكس ذلك كان فرعون في قساوة قلبه ، غذ كان لا يلين مطلقاً ولا يتوب مهما كانت الضربات شديدة ..!
القلب القاسي إذن : توبته ليست سهلة ، وتأثره بوسائط النعمة ضئيل جداً ووقتي وسريع الزوال ، بل قد لا يتأثر على الإطلاق .. ! وهذا يجعلنا ندرس موضوعاً هاماً وهو :
صفات القلب القاسي
القلب القاسي – من جهة تعامله مع اله – يعيش في جو من اللامبالاة . كلمة الله لا تترك تأثيرها في قلبه . بل كما حدث مع أهل سادوم ، لما كلمهم لوط وحذرهم من غضب الله " كان كمازح في أعين أصهاره " ( تك19 : 14 ) .. كلمة الله بالنسبة إلى قلوب القساة مثل بذار وقع على صخر .
القاسي القلب ، ليس فقط لا يتأثر بكلام الروح ، بل قد يسخر ويتهكم ، ويرفض السماع !
ويرفض المجال الذي تقال فيه كلمة الله وذلك إذا تقسي قلب إنسان من جهة الله ، يبعد عن الكنيسة والاجتماعات ، ويبعد عن الكتاب المقدس وعن الصلاة ، وعن كل الممارسات الروحية . ولا تعود هذه الأمور تؤثر فيه كما كانت قبلاً ..
تصبح وصايا الله ثقيلة عليه ، بينما الثقل هو في قلبه ..
قلبه قاس لا يتأثر بأي دافع روحي لا يتأثر بحنان الله ، ولا بإنذاراته وعقوباته . ولا يتأثر بالحوادث ولا بالأحداث ، لا بالمرض ولا بالموت أحبائه ولا تؤثر فيه صلاة ولا كلمة روحية . واحسانات الله يقابلها بنكران للجميل أو ينسبها إلى أسباب بشرية وينطبق عليه قول الرب :
" بسطت يدي طول النهار إلى شعب معاند ومقاوم " ( رو10 : 21 ) .
وهكذا فإن فساوة القلب تقود إلى العناد والمقاومة . وربما شخص مخطئ تشرح له خطأة لمدة ساعات طويلة ، وكأنك لم تقل شيئاً هو مصر على موقفه ، يرفض أن يعترف بالخطأ . القلب صخري لا يستجيب ..
ما أصعب أن تتخلى النعمة عن مثل هذا الشخص ، كما قال الرب : " فلسمتهم إلى قساوة قلوبهم ، ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم " ( مز81 : 12 ) .
أو كما قيل : " أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا " ( رو1 : 28 ) لذلك أسلمهم الله إلى أهوان الهوان ( رو1 : 26 ) .
وهكذا إذا استمرت قساوة القلب ، تكون خطيرة جداً ، لأنها تقود إلى التخلي من جانب الله ، والضياع من جهة الإنسان ..
الإنسان الحساس دموعه قريبه . أما القاسي ، فيندر أن تبتل عيناه .
مهما كانت الأسباب .. لأن الدموع دليل على رقة الشعور ، والقاسي لا رقة في مشاعره ، سواء في تعامله مع الله أو مع الناس ..
بل على العكس ، تقوده قساوة القلب إلى الحدة وإلى الغضب .
فالقاسي تشتغل مشاعرة ضد الآخرين بسرعة ، ويحتد ، ويثور ، ويهدد وينذر ولا يحتمل أن يمسه أحد بكلمة . وفي نفس الوقت لا يراعي مشاعر الآخرين بجرح غيره بسهولة وفي لا مبالاة . ولا مانع من أن يهين غيره ولا يشتمه . ولا يتأثر من جهة وقع الألفاظ عليه ..
وهنا يجمع القاسي القلب بين أمرين متناقصين : فيكون حساساً جداً من جهة المعاملة التي يعامله بها الناس ولا إحساس من جهة وقع معاملته على الآخرين .
فهو إذا وبخ غيره بحق أو بغير حق يكون كثير التوبيخ وعميقة . وإذا غضب على أحد ، يكون طويل الغضب وعنيفة .
في قسوته لا يحتمل أحداً ، ويريد أن يحتمله الكل ، فلا يثورون لثورته بل يتقبلونها في شعور بالاستحقاق لما ينالهم منه :
على كل ، القسوة منفرة ، ومن يستسلم لحروب القسوة ، يخسر الناس ويفشل في حياته الاجتماعية ...
لذلك احترسوا جميعاً من قساوة القلب " وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض " ( أف4 : 32 ) وتذكروا أنه من ثمار الروح : " وداعة ولطف أناة " ( غل5 : 22 ) .
ومن ثمارها أيضاً المحبة والسلام ..
مادام الأمر هكذا ، فلنعرف ما هي أسباب قساوة القلب لكي نتفاداها .
أسباب قساوة القلب
من جهة قساوة قلب الإنسان من نحو الله فإن أهم سبب هو محبة الخطية .
إن محبة الخطية تسبي القلب ، فتجعله يتعلق بها ، وينسي الله وكل ما يختص به ، بل ينظر إلى الله كعدو يريد أن يمنعه عن الخطية التي يحبها . وهكذا يتقسي قلبه من جهته .
ولعله لهذا السبب قال الكتاب إن " محبة العالم عداوة لله " ( يع4 : 4 ) .
الشاب الغني لمما أحب المال ، تقسي قلبه أمام المسيح ، وتركه ومضي حزيناً ( مت19 : 22 ) . وامرأة لوط لما أحبت خيرات سادوم ، تقسي قلبها حتى حينما كان الملاك ممسكاً بيدها ولم تنظر إلى الله الذي أنقذها ومحبته لها بل نظرت إلى سادوم ، فتحولت إلى عمود ملح ( تك19 ) .
وأكثر من الشاب الغني وامرأة سادوم ، تقسي قلب فرعون ، لما أحب سلطته من جهة وأحب أن ينتقع بتسخير شعب بأكمله . لذلك لم يستفيد من كل المعجزات والضربات .
كذلك فإن الوجوديين الملحدين الذين أن يتمتعوا بوجودهم بعيداً عن وصايا الله من أجل محبتهم للعالم تقسي قلبهم حتى أنكروا وجود الله نفسه . وقال فيلسوفهم : [ خير لي أن الله لا يوجد ، لكي أوجد أنا ] !
ومحبة الخطية أثرت على شمشون الجبار فنسي نذوره ونسي كرامته ، وباح بسر قوته ، إذ كان قد تقسي القلب تجعل الإنسان يتمسك بالخطية ويؤجل التوبة وكلما يسمع صوت الرب في قلبه ، يطغي عليه صوت الخطية ومحبة العالم والجسد فتقسي القلب ويرفض عمل النعمة فيه ..
قد يتقسى القلب أيضاً بسبب الصحبة الشريرة وتأثيرها على الإنسان .
ونضرب مثلاً لذلك آخاب الملك ومدي تأثير زوجته إيزابل الشريرة عليه في تقسيه قلبه .
لقد كان آخاب حزيناً لا يعرف كيفية الحصول على حقل نابوت اليزرعيلى واضطجع على سريره ولم يأكل خبزاً ( 1مل21 ) . ولكن إيزابل رسمت له الخطة كيف يلفق تهماً حول نابوت اليزرعليى ، وكيف يتمكن من قتله والحصول على حقله ..
فتقسي قلب آخاب ، وقام من حزنه ويأسه ، ونفذ الخطة وقتل نابوت .
ومن تأثير الصحبه الشريرة في نقسيية القلب نصائح الشباب لرحبعام ابن سليمان في معاملة الشعب الذي طلب تخفيف النير عنه ..
كان الشيوخ قد نصحوه بالهدوء واللين والحب في معاملة الشعب . وقالوا له : " إن صرت اليوم عبداً لهذا الشعب ، وخدمتهم واحببتهم وكلمتهم كلاماً حسناً ، يكونون لك عبيداً كل الأيام " ( 1مل12 : 7 ) .
ولكن الشباب أدخلوا القساوة إلى قلبه ، واقنعوه بأهمية السلطة والكرامة ووجوب خضوع الناس له .
وقالوا له : هكذا تخاطبهم قائلاً " إن خنصري اغلظ من متني بي . أبي أدبكم بالسياط ، وأنا أؤدبكم بالعقارب . أبي حملكم نيراً ثقيلاً . وأنا أزيد النير عليكم " ( 1مل12 : 1 ، 11 ) . ونفذ رحبعام نصيحة الشباب . بكل قوة وكانت النتيجة إنشقاق المملكة عنه .
ما أسهل أن تقسي قلب أي شاب بأصدقاء يتأثر بهم ، يدخلون في قلبه معاني جديدة عن القوة والبطولة ، أو عن الحرية ، والحقوق التي يطلبها ..
وهكذا يثور على كل سلطة ورئاسة سواء في البيت أو المدرسة أو الشارع بل قد يثور أيضاً على النظام وعلى القانون ويري الرجولة في أن يفرض رأيه . وكثير من الشباب في بعض بلاد الغرب يرفضون الخضوع لآبائهم حينما يكبرون ، بحجة الحرية الشخصية .
ويعتبر الشاب أن نصيحة والده له ، هي مجرد رأي ، قابل للصحة والخطأ يمكن أن يأخذ به أو لا يأخذ !
وهكذا يتقسى قلبه من جهة والده ، وأيضاً من جهة أي أب روحي أو مرشد ويعتز برأيه ، ويعتد برأيه . ويصر على أنه صاحب القرار ، مهما كان حدثاً أو قليل الخبرة في الحياة ! إننا نحتاج أن نربي أولادنا منذ طفولتهم المبكرة حتى لا تتلقفهم أفكار جديدة عليهم ، تتلفهم وتقسي قلوبهم .
نحتاج أن نحصن أولادنا قبل أن تقسي قلوبهم أفكار تدفعهم إلى الجدل في البديهيان ، ورفض كل شئ لمجرد الرفض ..
الأفكار التي تصور لهم الطاعة ضعفاً والخضوع خنوعاً ، والهدوء خوفاً وجنباً وفي تقسية قلوبهم تقلب لهم كل الموازين فيفرحون بهذا إحساساً بالوجود والشخصية ...
وإن تكلمنا عن أثر الصحبة الشريرة في تقسية القلب ، لا نقصد بهذه الصحبة مجرد أشخاص ، وإنما ايضاً الكتب والمطبوعات ، وكل وسائل الأعلام ، والوسائل السمعية والبصرية ، التي يجب أن نتأكد من سلامتها .
وما نقوله عن الصغار ، يمكن أن نقوله عن الكبار أيضاً : في محيط الأسرة مثلاً ..
مثال ذلك زوجة تقسي قلب زوجها على أولاده من زوجة سابقة . وتظل تصب في أذن ابنها المتزوج أحاديث عن أخطاء زوجته ، أو إهانات هذه الزوجة لها حتى تتغير معاملته لزوجته ويقسو عليها ..
فعلي كل إنسان أن يكون حريصاً ولا يسمح للقسوة أن تزحف إليه من الآخرين ولا يصدق كل ما يسمعه .
الكبرياء :
من أسباب قساوة القلب أيضاً الكبرياء التي تدفع الإنسان إلى أن يبالغ في كرامته وعزة نفسه ، واحترام الناس ، بأسلوب يجعله يقسو على كل شخص يشعر أنه يمس كرامته في شئ ..
والكبرياء تجعل القسوة تظهر في ملامحه وفي نظراته ، وفي حدة صوته وفي نوعية ألفاظه ، وطريقة معاملاته .
الطبع والوراثة :
وقد تكون من أسباب القسوة طباع موروثة . وهنا قد يسأل البعض :
ما ذنب إنسان ورث طبعاً قاسياً ، بينما غيره قد ولد وديعاً ، وليس في حاجة إلى بذل مجهود لمقاومة قسوة فيه ؟!
وهنا نقول إن الطبع يمكن تغييره مهما كان مورثاً . والذي يبذل جهداً لتغيير طبعه تكون مكافأته عند الله أكثر .
وأمامنا مثال القديس موسي الأسود الذي تغيرت طباعه من القسوة الشريرة إلى العكس ، وصار وديعاً خدوماً محباً للآخرين .
هناك أسباب أخري للقسوة ليس الآن مجالها ، إنما ذكرنا ما سبق كمثال .. ونريد أن نختم بكلمة بسيطة عن :
معالجة القسوة :
يمكن معالجتها بحياة التوبة كالقديس موسي الأسود . ويمكن أن يكون ذلك بمعاشرة الودعاء والرحومين وما يتركونه في النفس من تأثير وقدوة حسنة ... يضاف إلى هذا قصص القديسين الذين اشتهروا بالوداعة والطيبة والشفقة حسنة ... يضاف إلى هذا قصص القديسين الذين اشتهروا بالوداعة والطيبة والشفقة على كل أحد . ويمكن أن يأخذ الإنسان درساً من مضار كل مناسبة تقسي قلبه فيها .
كذلك مما يساعد على رقة القلب الاتصال بالآم المجتمع ، وخدمة المحتاجين والفقراء ، والمرضي والعجزة والمعوقين واليتامى والأرامل . وكذلك المساهمة في حل مشاكل الناس .. ومما يساعد على رقة المشاعر من الموسيقي الهادئة وعلاج لتوثر الأعصاب ، مع الصلاة أن يغير الله الطبع القاسي .
الفصل الحادي عشر
الفتور الروحي
الحرارة والفتور
أنواع من الفتور
مظاهر خطيرة للفتور
من الحب إلى الروتين
أسباب الفتور وعلاجها :
الانشغال عن الله
البعد عن التوبة
الاكتفاء وعدم النمو
خطورة المتكآت الأولي
دخول الآخرين إلى حياتك
البعد عن وسائط النعمة
الظن أن الروحيات ممارسات
وجود خطية أو شهوة
الكبرياء ، وتقليل فترة الانسحاق
الكسل والتهاون
الحرارة والفتور
الفتور هو نقص في الحرارة الروحية ، والكتاب يطلب منا أن نكون " حارين في الروح " ( رو12 : 11 ) .
والروح القدس حل في يوم الخمسين ، كألسنة من نار ( أع2 : 3 ) ألهبت الرسل القديسين . والله ظهر لموسي النبي كنار ملتهبة في العليقة ( خر3 : 2 ) وقد قيل أيضاً : " إلهنا نار آكلة " ( عب12 : 29 ) .
فالذي يحل فيه روح الله ، لابد أن يكون حاراً في الروح .
تكون الحرارة في قلبه ، وفي حبه وفي صلاته وعبادته وخدمته . حرارة تشمل حياته كلها . وكل مكان يحل فيه يلتهب بحرارته ، يلتهب بالنشاط ، وبالغيرة المقدسة التي فيه .
الإنسان الروحي يحب الله والناس . والمحبة شبهت في الكتاب المقدس بالنار وقيل في ذلك : " مياة كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة " ( نش8 : 7 ) .
لذلك فالخادم المحب يلتهب ناراً ، كما قال بولس الرسول عن خدمته :
" من يعثر ، وأنا لا ألتهب ؟ " (
2كو11 : 29 ) . وهذه الحرارة التي في الإنسان الروحي تسري إلى غيره .والملائكة القديسون الذين يعملون عمل الرب بكل حرارة ونشاط ، وقيل عنهم : " الذي خلق ملائكته أرواحاً ، وخدامة ناراً تلتهب " ( مز104 : 4 ) .
غير أن كثيرين من أولاد الله الروحيين لا تستمر معهم الحرارة الروحية ، فيصيبهم الفتور .. ولا يبقون على محبتهم الأولي ، وتكون هناك أسباب بلا شك قد أدت إلى هذا الفتور .
إنهم يؤدون صلواتهم ، ولكن ليس بنفس الحب – ولا بنفس العمق ، ولا بنفس الروح . وهم يقرأون الكتاب ولكن بلا تأثر ، وكذلك الاجتماعات الروحية والقداسات لم يعد لها نفس التأثير في قلوبهم كما كانت قبلاً .
أصبحت عبادتهم كأنها جسد بلا روح ، لها صورة التقوى ، وليس لها قوتها ( 2تي3 : 5 ) . يكلمون الله دون أن يشعروا بوجوده أمامهم ، ولا بوجوده في حياتهم .
وما أشد كراهية الله لهذا الفتور ، كما عبر عن ذلك في سفر الرؤيا .
إذ قال لملاك كنيسة لاودكية :
" هكذا لأنك فاتر ، ولست بارداً ولا حاراً ، أنا مزمع أن أتقياك من فمي " " ليتك كنت بارداً أو حاراً " ( رؤ3 : 16 ، 15 ) .
على أن حالة الفتور هي حالة نسبية بالنسبة إلى مستواها .
فما يعتبر فتوراً بالنسبة إلى القديسين الكبار ، قد يعتبر حرارة بالنسبة إلى الأشخاص العاديين ؟
إنهم نزلوا درجة عن مستواهم العالي ولكنهم لا يزالون أعلى بكثير من غيرهم على الرغم من نزولهم هذا .
أنواع من الفتور
هناك فتور عادي يحدث لجميع الناس حتي للقديسين ، وهناك فتور خطر ، يهدد الحياة الروحية بالسقوط . وهناك فتور نسبي ، إذا قورنت حياة روحية لشخص بحياته في فترة أخري ، وكل منهما قوية ..
الفتور العادي هو مظهر لطبيعتنا القابلة للميل ، التي لا تستقر على الدوام في خط قوي دائم الارتفاع .
أما الفتور الخطر فهو الذي يستمر مدة طويلة ، ويكون بعمق ، وبدون توبيخ داخلي . وقد يعتاده الإنسان فلا يبذل جهداً للقيام منه . وقد يلبس أحياناً ثياب الحملان . كإنسان تعود على جو الكنيسة ، فأصبح باعتياد يدخلها بلا هيبة لها ولا وقار ، وبلا خشوع منه ولا تأثر . وقد ينهي فيها ويأمر ، ويرفع صوته ويصيح . وربما يتخذ حجة حفظ النظام لكى ينتهر ويقسو ، أو يقاطع الكاهن أو الشماس في صلاته مصححاً خطأ نحوياً ويبحث في ذلك عن روحياته فلا يجدها ، أو قد لا يبحث ظاناً أنه يفعل شيئاً حسناً .
وهنا يكون قد تحول من الفتور إلى الخطية .. دون أن يشعر . أو قد يشعر ويحاول تبرير ذاته .
يكون في حالة الفتور قد فقد وداعته ، أو فقد اتضاعه ، أو فقد احترامه للمكان ، واحترامه للآخرين ..
مظاهر خطيرة للفتور
الفتور هو عملية هبوط . كيف ؟
الفتور هو هبوط من الحب إلى الروتين . أو هبوط من الروح إلى العقلانية . أو هبوط من فضائل الروح إلى فضائل الجسد . أو هو هبوط من الانشغال بالله إلى الانشغال بالناس .
أو الفتور هو توقف في الحركة .. أو هو تعامل مع الله من الخارج ، وليس من الداخل . أو هو الاهتمام بالفضائل من حيث مقياس الطول ، وليس مقياس العمق ..
وكل بند من هذه الأمور له حديث طويل سنحاول هنا أن نوجزه ونشرح ليس فقط مظاهر الفتور ، وإنما أيضاً أسبابه ...
من الحب إلى الروتين
المفروض في الحياة الروحية أن تكون حباً لله ، يتخلل كل فضيلة من الفضائل .
فأنت تصلي لأنك تحب الله ، وتقول : " إشتقاقت نفسي إليك يا الله كما تشتاق الأرض العطشانة إلى الماء " ( مز63 ) ، " محبوب هو اسمك يارب فهو طول النهار تلاوتي " ( مز119 ) .
أما في حالة الفتور ، فقد تتحول الصلاة إلى واجب ، إلى فرض ، تؤديه لكي لا يتعبك ضميرك ، ويتهمك بالتقصير .
وقد تصلي بغير رغبة ، وبغير عاطفة وبغير حرارة ، وربما أيضاً بغير فهم . وتفقد عناصر الصلاة الروحية ، فلا تكون صلاة بانسحاق وبخشوع ، ولا تكون الصلاة بإيمان ولا بتأمل ، ولا بحب ، وإنما أنت تصلي وكفي . وقد تحولت الصلاة إلى روتين .
وما يقال عن الصلاة في حالة الفتور قد يقال أيضاً عن باقي الوسائط الروحية .
فتصبح قراءتك للكتاب روتينية أيضاً تقرأ بغير فهم ، ولا تأمل ، وبغير تطبيق على حياتك وبغير تداريب ، وبغير لذة في كلام الله ، كما قال داود النبي :
" فحت بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة " ( مز119 ) وإنما تقرأ كروتين وواجب ...
لعلك بدأت حياتك الروحية بالحب الإلهي ، ولكنك لم تستمر . فلماذا ؟
ربما أوصلك إلى هذا الفتور ، اهتمامك بالكمية ، وليس بالنوعية ، فتحولت إلى شكلية العبادة .
تريد أن تصلي عدداً من المزامير ، وعدداً من الصلوات ، وتريد أن تقرأ عدداً معيناً من الإصحاحات ، وتضرب عدداً محدداً من المطانيات .
وفي ذلك لا يهمك : كيف ؟
لم تعد تهمك الروح ، وإنما العدد . فإن وصلت إلى هذا العدد ، تصبح للأسف راضياً عن نفسك ، ولا يهمك مدي رضي الله عن أسلوبك هذا .
وعلى رأي مارإسحق ، حينما تعرض لموضوع كهذا ، تصبح بأنك ينبغي أن تقول لنفسك ، أنا ما وقفت أمام الله لكي أعد ألفاظاً ...
ومعلمنا بولس الرسول فضل خمس كلمات بفهم على عشرة آلاف بلسان ( 1كو14 : 19 ) . وربما ، لكي تكمل واجبك هذا في صلاتك عنصر السرعة ، ومع السرعة عدم الفهم وعدم التأمل .
وهكذا يكون هدفك أن تنتهي من أداء هذه الفريضة !! التي يسميها الرهبان قانوناً – ولا يكون هدفك هو المتعة بالحديث مع الله في حب .
وانحراف الهدف عن مساره الروحي يوصلك حتماً إلى الفتور لأنه يبعدك عن روحانية الصلاة التي تسبب حرارتها .
كثيرون في بدء استلامهم للألحان ، كانوا لا يحفظونها ، وكذلك الابصلمودية فكانوا يصلونهم ببطء ، وبالتالي ، بتأمل وبروح وبالمران لما وصلوا إلى مرحلة الحفظ ، ازدادت سرعتهم تباعاً ، حتى أصبحوا يرتلون التسبحة في سرعة ربما لا تنضج فيها الألفاظ تماماً .
ومع السرعة والحفظ ، قل الفهم ، وقلت المشاعر ، وقل التأمل ، وأصبحت الألحان مجرد موسيقي تخلو من روح الصلاة .
إذا حوربت بشئ من كل هذا ، أو بكل هذا معاً ، قل لنفسك : أنا أريد أن أصلي . أريد أن أكلم الله من قلبي ، ولو بكلمات قليلة ، مثلما كلمة العشار بجملة واحدة ، ومثلما خاطبة اللص على الصليب بعبارة واحدة .
لذلك ربما يكون من أسباب فتورك اكتفاؤك بالصلوات المحفوظة ، تتلوها ولا تصليها .. دون أن تضيف إليها صلوات خاصة تقولها من قلبك ، ومن عاطفتك .
ما أعمق صلوات المزامير وباقي الصلوات المحفوظة . ليتك تصليها بفهم ومن قلبك .. إنها كنوز روحية ، ولكن بالإضافة إليها ، تحتاج أن تصلي صلواتك الخاصة بألفاظ من عندك تعبر عمل في قلبك ، تخاطب بها الله في صراحة كاملة وفي حب ، كأنك واقف أمامه تراه .
ادخل في تداريب هذه الصلوات الخاصة ، كلما حوربت بالفتور ، وايضاً في فترات حرارتك الروحية ، وتأمل نتيجتها في حياتك .
اخرج إذن من عبودية الكمية والسرعة والروتين والقانون ، وحاول أن تصلي بروح ، وبفهم ، وعاطفة . وكذلك أفعل في كل وسائطك الروحية . ولكن احذر من أن تهبك إلى أسفل .
إن كنت في فتور ، صل عدداً أقل ولكن بعمق أكثر ، ثم حاول أن تصل إلى نفس الكمية بنفس العمق ..
وإلا فأثبت عند العدد القليل ، فالعمق أهم ، أنه يعالج فتورك ..
والفتور لا يقتصر مطلقاً على موضوع الصلاة والقراءة والتأمل ، وباقي الوسائط الروحية ، إنما قد يوجد فتور أيضاً في مشاعر القلب الداخلية ، وفي ثمار الروح المتنوعة ، وفي الحياة الروحية بوجه عام ... فربما الغيرة المقدسة في الخدمة ليست كما كانت في حرارتها السابقة . وربما الاشتياق إلى التكريس قد قل وفتر . أو الحرارة في محاسبة النفس وفي حياة التوبة قد فقدت قوتها .. إلخ .
وفي موضوع الفتور ، ربما نجد مظاهره وأسبابه قد تشابهت ...
فالانشغال عن الله مثلاً : قد يكون مظهراً الفتور ، وقد يكون أيضاً سبباً للفتور .. وسياسة الاكتفاء وعدم النمو : قد تكون أيضاً من أسباب الفتور ، كما أنها مظهر من مظاهره . وقد تحدثنا في هذا الفصل عن الانتقال من الحب إلى الروتين كمظهر من مظاهر الفتور . ويمكن أن نعتبر هذا الانتقال إلى الحياة الروتينية من أسباب الفتور أيضاً . لذلك سنتابع باقي الحديث عن الفتور تحت عنوان أسبابه ونتائجه .
ننتقل إلى سبب آخر من أسباب الفتور وهو المشغولية .
أسباب الفـتـور وعلاجه
الانشغال عن الله
من أخطر أسباب الفتور أن ينشغل الإنسان إنشغالاً لا يجد فيه وقتاً لله أو وقتاً لروحياته ...
ولا يصبح العمق لله ، بل للمشغوليات ولا تكون لله الأولوية ، بل يوضع في آخر القائمة ... وهذا تضيع الوسائط الروحية التي تبعث الحرارة في القلب فيفتر .
والمشغوليات على أنواع : بعضها عالمية ، وبعضها في نطاق الخدمة الدينية ..
قد ينشغل الإنسان بمسائل عائلية ، أو بدراسة ، أو بأي نشاط من الأنشطة أو ينشغل بتسلية أو بهواية ، أو بعمل .. بحيث لا يجد وقتاً لروحياته الخاصة ..
ولمثل هذا نقدم نصيحتين :
1 – تحتاج إلى تنظيم وقتك ..
2 – ماذا ينفع الإنسان ، لو ربح العالم كله وخسر نفسه ( مت16 : 26 ) .
ولكي تنظم وقتك ، بحيث تترك فيه جزءاً لروحياتك ، لابد أن تشعر بقيمة الوسائط الروحية في حياتك ، وبقيمة أبديتك ، فإن وصلت إلى هذا التقييم ستصل وبالتالي إلى الاهتمام ، ثم تخصص وقتاً لروحياتك مهما كانت مشاغلك .
واحترس من المشغوليات الخاصة بالخدمة والكنيسة ، لأنها احياناً تعطلك عن روحياتك بأسلوب يرضى عنه ضميرك ..
اعرف تماماً أنه إن ضعفت روحياتك ضعفت بالتالي خدمتك ، ولا يكون لها ثمر لأن الخدمة ليست مجرد نشاط إنما هي روح تنتقل من شخص لآخر .. وهي حياة يمتصها المخدوم من الخادم .
واعرف أن الخدمة ليست عذراً يبرر منعك عن التمتع بالله وعشرته .. كما أن الله لا يطالبك بخدمة تبعدك عن الصلاة والتأمل ، والحياة السرية معه ...
أنت تحتاج إذن إلى أن تنظم خدمتك ..
وتذكر قصة الابن الكبير الذي قال لأبيه : " ها أنا أخدمك سنين هذه عددها .. وجدياً لم تعطني قط ، لأفرح مع أصدقائي " 0 لو15 : 29 ) . ومع خدمته هذه الطويلة ، كانت مشيئته ضد مشيئة الآب ، وكانت روحياته ضعيفة ، في حديثه مع أبيه ، وفي حديثه عن أخية ، وفي عدم مشاركته لأبيه في فرحة بعودة هذا الأخ .
فلا تكن مثل هذا الابن الكبير ، الذي خدم خدمة عطلته عن التمتع بأبيه ، وعن الاهتمام بنفسه وروحياته ...
وحاول أن تقبل من المشغوليات ما هو في حدود طاقتك .
ومن أجل روحياتك ، تنزل عن بعض المشغوليات ، وما أكثر المشغوليات التى يسهل التنازل عنها ، مثل بعض المسليات ، وبعض المقابلات ، وكثير من الأحاديث ..
وعلى الأقل تستطيع أن ترفع قلبك إلى الله ، بين الحين والحين أثناء مشغولياتك حتى إن أخذت كل وقتك ، لا تأخذ كل قلبك .. ولا تجعلها تأخذ كل وقتك ، لأنك لا تملك هذا الوقت كله لتبعثره ... أين ملكية الله ؟
ولا أريد أن أحدثك عن ملكية الله لكل حياتك .. وإنما على الأقل في وسط مشغولياتك العديدة ، ليتك تتذكر أمرين هامين من جهة نصيب الله في وقتك .
1 – اذكر يوم الرب لتقدسه ..
2 – اذكر وصية البكور في وقتك .
اعرف انك إن كنت أميناً في تنفيذ وصيه يوم الرب ، فلابد ستأخذ منها رصيداً روحياً يمنع عنك الفتور الأسبوع التالي ..
ولو كنت أميناً في وصيه البكور ، واعطيت الله بكور يومك ، فإن الحرارة الروحية التي تأخذها من هذا ، ستبقي معك طول يومك ، وستدفعك إلى تخصيص أوقات أخري لروحياتك ..
3 – ملاحظة أخري أقولها لك :
إنك إن انشغلت طول يومك في عمق بأمور العالم ، فإن هذه الأمور ستملك داخلك ، وتسيطر على قلبك وفكرك بحيث إذا وقفت بعدها للصلاة ، تجد عقلك يسرح فيها ، وتكون صلاتك فاترة .
وهكذا حينما نتكلم عن المشغولية ، كسب من أسباب الفتور ، لا نقصد فقط مشغولية الوقت ، وإنما مشغولية القلب والفكر أيضاً .. وهي مشغولية أكثر خطراً ، لأنها تدخل إلى داخل الإنسان ...
4 – لذلك وضعت لنا الكنيسة المقدسة نظام الصلوات السبع ، حتى تقطع مشغوليات اليوم بصلة مع الله ..
ووضعت هذه الصلوات ، بحيث لا تمر ثلاث ساعات ، دون أن يرفع الإنسان قلبه إلى الله ، ويتحدث معه بعيداً عن مشغوليات العالم واهتماماته وهكذا يحتفظ بحرارته الروحية .
لهذا إن كنت أميناً في صلوات النهار ، لن تفتر ، لأن ذكر الله لم ينقطع من ذهنك طول اليوم .
لاشك أنه من اسباب الفتور ، الغربة عن الله فترة طويلة ، كما يحدث للبعض الذين يصلون صلاة باكر وصلاة النوم ، ولا صلاة يصلونها فيما بينهما فيما بينهما ، في أدق ساعات النهار وأكثرها مشغولية ، وأكثرها محاربات وعثرات .
أتريد أن تبعد عن الفتور ، ارفع بين الحين والحين إلى اله ، ولو بجملة واحدة ، أو صلاة قصيرة لا تستغرق دقيقة واحدة ، أو عدة ثوان .
البعد عن التوبة
إثنان لهما حرارة في الروح .
أحدهما قريب العهد بالتوبة ، متضع ومنسحق القلب ، ودموعه قريبه من عينيه ويريد أن يعوض السنوات السابقة التي أكلها الجراد ... لذلك فهو يجاهد بكل حرارة لكي يصل .
والثاني هو إنسان وصل إلى الحب الإلهي :
والحب في قلبه نار تلتهب ، تملأ قلبه بالحرارة الروحية ، سواء في صلوات أو في خدمته ، أو أي عمل روحي يعمله .
أما الذي هو في وضع متوسط ، فإنه يكون في فتور .
إنه يشبه الشعب الإسرائيلي في البرية ، لا هو خارج من أرض العبودية يطلب من الله الخلاص ويري عجائب الله معه .. ولا هو وصل إلى كنعان في أرض تفيض لبناً وعسلاً ، ولا هو يتغذى بالمن والسلوى هكذا الذي في المرحلة المتوسطة :
لا هو في حرارة التوبة . ولا هو في حرارة الحب .
ليست له حرارة العشار الواقف من بعيد ، ولا يجرؤ أن يرفع نظره إلى السماء وليست له حرارة يوحنا الرسول الذي يتكئ على صدر المسيح في دالة وفي حب .
إنما في مرحلة متوسطة ، فاترة .
يشتاق إلى الأيام التي كان فيها يبكي على خطاياه ، فلا يجدها .. لقد غطت عليه شكلية من عبادة لا روح فيه ولا عمق ...
إنه الآن يصلي ويصوم ، ويقرأ الكتاب ، ويحضر الاجتماعات الروحية ويعترف ويتناول ، وربما يخدم أيضاً . وفي كل هذا لا يجد سبباً لانسحاق القلب ..
وقد مرت فترة بعيداً عن السقوط فقد معها تبكيت الضمير من الداخل ، وفقد الشعور بعدم الاستحقاق ، وفقد دموع التوبة وحرارتها ، وفي نفس الوقت يمارس كل الوسائط الروحية بلا عمق وبلا حب . فلا هو في سماء ولا هو في أرض .. إنه في فتور ..
على مثل هذا الإنسان أن بأمثلة عالية في الروح ، سواء بالخلطة أو القراءة ، تشعره بأنه لا شئ ، فتعود إليه مشاعر التوبة والانسحاق وبالتالي حرارة التوبة .
أو يمكنه أن يدخل في تداريب روحية : إما أن تقويه وترجع إليه حرارة الروح ، أو أنها تشعره بضعفه وعجزه عن الوصول إلى عمق التدريب ، فيدخل مرة أخري في حياة التوبة ، ولكن بمستوي آخر .
أو يحاول أن يتدرب على روحانية الصلاة وروحانية الصوم ، وروحانية كل الوسائط الروحية الأخري .
يخرج من نطاق شكلياته ، ويدخل في عمق الصلة مع الله ، ويصارح نفسه أن صلاته ليست صلاة ، وصومه ليس صوماً ، وراءته ليست قراءة وعليه أن يتعلم من جديد كيف يصلي ويصوم ويقرأ ..
وهكذا يبدأ من جديد توبه حقيقية ، شاعراً أن عبادته الحالية تحتاج إلى توبة .. وهذا البدء من جديد بطريقة سليمة يوصله إلى الحرارة .
وربما تكون توبته على أساس غير سليم ، أو غير قوي ، تسبب في فتوره ، فعليه أن يصلح أساس توبته لكي يحيا في حرارة روحية حقيقية ...
زوال التأثر الوقتي المسبب للتوبة ، صار سبباً للفتور . . فيجيب أن يبني علاقته بالله على أساس مستقيم من حب الخير وحب الله ... والاقتناع بالحياة الروحية ، وبهذا يبعد عن الفتور .
الدافع الأول كان مجرد مرحلة وانتهت ولكن لا يصح أن يحيا التائب في مستواه ، بل يصحح دوافعه الروحية لكي تستمر حرارته .
هناك سبب آخر للفتور هو :
الاكتفاء وعدم النمو
طالما الإنسان الروحي يمتد إلى قدام فإنه يحتفظ بحرارته الروحية ، لأن الحركة فيها حرارة ، أما إذا وصل إلى مستوي معين ووقف عنده ، فإنه يصاب بالتحجر أو بالفتور . وكثير من الناس يقعون في هذه المشكلة ، كانو قبل التوبة بعيدين عن الصلاة ، فبدأوا يذوقون حلاوة الصلاة ، ووجدوا في ذلك لذة ملأت قلوبهم بالحرارة الروحية .
ثم وصلوا إلى ضوع معين في الصلاة ، ووقفوا عنده .. وبالوقت أصبحوا يكررونه في غير وعي ، وبهذا الجمود فتروا .
ونفس الأسلوب اتبعوه في باقي الوسائط الروحية ، من صوم وقراءة وخدمة ..
إنهم يذكروننا بالسيارة ، التي كلما تتحرك ، تحتفظ بحرارتها ، فإن وقفت بردت . وإن طال وقوفها ، تضعف بطاريتها ، وتحتاج إلى شحن من جديد .
وخذ مثالاً من القديس بولس الرسول الذي على الرغم من أنه صعد إلى السماء الثالثة ( 2كو12 : 2 ) . كان يقول :
" أنسي ما هو وراء ، وأمتد إلى ما هو قدام .. أسعي نحو الغرض .. أسعي لعلي أدرك ... "
( في3 : 12 – 14 ) .
فإن كان الرسول العظيم يسعي ، ويمتد إلى قدام ، فماذا تقول أنت عن نفسك ؟
إن امتدادك إلى قدام ، يجعلك باستمرار غير راض على الوقوف عند أي مستوي تصل إليه ، وبالتالي تتحرك ... وبهذا لا تفتر .
إن الوقوف له أخطاره . إذ ليس فقط يقود إلى الفتور ، بل قد يتدرج من الفتور إلى السقوط .
لأن الذي يقف ، ليس هو فقط لا يمتد إلى قدام ، بل هو أيضاً عرضه للرجوع إلى الوراء ..!
إن الحياة الروحية ، هي حياة دائمة الحركة ، دائمة الحرارة ، دائمة النمو تسعي حتى تصل إلى ملء القامة .
لا يكتفي المؤمن بأن يحيا بالروح وحسب الروح ، إنما يسعي ليتمم قول الرسول : " امتلئوا بالروح " ( أف5 : 18 ) .
وفي هذا الامتلاء لا يفتر .
ولكن في هذا النمو ، وفي هذا الامتلاء ، احترس من سبب آخر من اسباب الفتور وهو :
خطورة المتكآت الأولي :
الإنسان في بدء حياته الروحية يعيش في حياة الاتضاع والانسحاق . ويعيش النعمة قريبة منه ، لأنه " قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم " .
وهكذا بالاتضاع وبالانسحاق والنعمة يعيش في حرارة روحية .
ولكن يحدث كلما ينمو أن تعهد إليه بمسئوليات ، ويبدأ أن يجلس في المتكآت الأولي .
وليست الخطورة في المتكآت الأولي ذاتها ، وإنما في ارتفاع القلب بها ، والبعد عن حياة الحرص والتدقيق والاتضاع ، وبهذا تفتر الحياة الروحية .
في بادئ توبته ، كان يدخل إلى الكنيسة ، وهو يقول : نشاز أنا يارب في هذا اللحن الجميل . وغريب أنا في وسط جماعة القديسين . وغير مستحق أن أكون في هذا الموضع المقدس .. بل أنا " بكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك " ..
أما الآن ، فإنه يدخل إلى الكنيسة لكي يعلم ، أو لكي ينظم ، أو لكي يدبر !
يدخل كأحد القادة ، وقد نسي الشعور بعدم الاستحقاق ... ربما في غير خشوع وفي غير ركوع ، وفي غير دموع ... كما كان قبلاً !
ربما يدخل إلى الكنيسة لكي يأمر هذا أو ذاك ، أو لكي ينتهر هذا أو ذاك أو ليناقش نظاماً معيناً ، أو ليدبر عملاً ما . أو ليقوم بخدمة أو بنشاط من أنشطة العديدة . ومن الجائز في هذا كله ، أن ينسي أن هذا هو بيت الله .
وطبعاً قد اختفيت تماماً عبارته السابقة ... أنا نشاز في لحن جميل ...
ومن الجائز هنا أن تكون – الكلفة – قد رفعت بين هذا ( التائب ) وبين بيت الله ! وتكون الكنيسة قد فقدت هيبتها في نظره ، ويصبح وهو داخل الكنيسة يتحدث مع هذا وذاك ، ويحك مع أصدقائه ، ويرتفع صوته وهو ينادي على من يريده في غير خشية .
وقد يتطور الأمر ، فيفقد الخشية بالنسبة إلى الصلوات والأسرار .
فالصلوات بالنسبة إليه تصبح ألحاناً يتقن موسيقاها ، وألفاظاً يعرفها ، ويعرف أعماق معناها ، وليست حديثاً موجهاً إلى الله .
أيوجد فتور أكثر من هذا ؟
والعجيب أنه قد يغطي على كل هذا الفتور ، بأنه ارتفع إلى مستوي المحبة التي تطرح الخوف إلى خارج ( 1يو4 : 18 ) !!
وإذ يفقد الخشوع والاتضاع ، وإذ ينسي حياة الانسحاق ، يحيا في فتور .
احترس يا أخي من أن تعتبر نفسك عموداً من أعمدة الكنيسة ، شاعراً بأهميتك ، وشاعراً بأنك إذا غبت ستترك فراغاً لا يمكن ملؤه ..
واحترس من أنك إذا اختلفت يوماً مع المسئولين عن الخدمة ، تهددهم بأنك ستترك الخدمة ، ظاناً أن تركك للخدمة لابد سيزعزع أساسات الكنيسة .. اعلم أن وراء كل هذا شعوراً بأهمية الذات ، تكمن وراءه كبرياء خفية هي سبب فتورك ..
من أجل هذا لا مانع لدي الرب أن يبعدك بعض الوقت عن الخدمة ، ليريك أن الكنيسة مازالت هي الكنيسة من غيرك ، ولكي يتضع قلبك ، ويعود إليك انسحاقك ، فتعود إليك أيضاً حرارتك الروحية ...
إن إيليا النبي العظيم ، بعد انتصاره في جبل الكرمل ، وبعد تخليصه الجو الروحي من كل أنبياء البعل وأنبياء السواري ، وبعد ان انفتحت السماء بصلواته مرة أخري ، قال له الرب تلك العبارة المؤثرة :
" واذهب راجعاً .. وامسح اليشع بن شافاط نبياً عوضاً عنك " ( 1مل19 : 15 ، 16 ) .
وأخذ اليشع اثنين من روح إيليا ، وعمل معجزات أكثر منه ، وبقيت الأرض بعد ارتفاع إيليا إلى السماء ، ولم يكن هذا انتقاصاً من قدر هذا النبي العظيم ، الذي مجده الله يرفعه إلى السماء وبوقوفه على جبل التجلي ..
إنما في جبعه الله سهام كثيرة .. وهو " قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم " ( مت3 : 9 ) ..
لذلك إن أستأمنك الله على خدمة ، قل له : من أنا يارب حتى تجعلني من عداد خدامك ، وأنا ثقيل الفم واللسان ( خر4 : 10 ) . وقد أكون عثرة للخدمة ، أو مقصراً في كل مسئولياتها وعندك ولا شك خدام كثيرون أفضل مني .. إنه تشجيع منك لي أن تستخدمني في كرامك ، على غير استحقاق منى .
بهذه الروح المتضعة ينبغي أن تسلك في المتكآت الأولي ، حتى لا تفتر ، وإن أتاك مديح من الناس ، تذكر خطاياك وضعفاتك ..
واحذر من أن تقبل المديح ، أو أن تجعله يدخل إلى نفسك ، لئلا تفارقك النعمة وتبرد حرارتك . بل ارجع المجد كله الله .. وقل كما قال القديس بولس المتواضع :
" ولكن لا أنا ، بل نعمة الله التي معي " ( 1كو15 : 10 ) .
وإذا دخلت إلى المتكآت الأولي كمعلم ضع أمامك قاعدة هامة وهي :
احترس من أن تتحول من عابد إلى عالم ..
احترس من أن يجرفك الفكر ، وتجرفك الكتب ، وتصبح باحثاً عن مجرد المعرفة أو أن تتحول إلى مصدر من مصادر المعلومات .
وفي ميدان الفكر تنسي الروح .. !!
تستهويك الكتب والقراءة ، وتلهيك عن نفسك وعن أبديتك ..
واحترس من أن يستهويك الجدل ، فتنشغل به ، وفي سبيله تقع في خصومات لا تحصي ، وتفقد محبتك للآخرين ، وتحب أن تنتصر في النقاش وتهزم غيرك ..
أو أنك في جدلك تتعالي على الآخرين ، أو تجرحهم وتهينهم وتنقص من قدرهم أو أن تثق بنفسك في كل ما تقول ، وتعتد برأيك ، ولا تريد أن تتنازل عن شئ ..
واحترس من أنك في جدالك لا تقبل أن يعارضك أحد ، ولا تقبل أن يناقشك أحد ، ولا تكلم أحداً من فوق .
كل هذه الأساليب في الجدل ، حتى إن كانت من أجل العقيدة ، تصيبك بالفتور الروحي ، وقد تكسب الجدل عقلياً ، وتخسر نفسك روحياً .. وربما تخسر الاثنين ..
كثيرون أصبحوا خزانة معلومات ، بينما أرواحهم بقيت فارغة ..
قليل من العلم ، مع اهتمام بالتطبيق أهم بكثير ، من علم أوسع بلا تطبيق . قد تهتم بقراءة عدد من الإصحاحات كل يوم ، بدون عمق في الفهم ، وبدون تأمل وبدون تطبيق ، وبدون تداريب ، وبدون صلاة ، فلا تستفيد روحياً .
وتظل حياتك فاترة على الرغم من القراءات الكثيرة .
ليس المهم هو مقدار ما نقرأ ، وإنما روحانية القراءة وعمقها ..
لا تضع نفسك في المتكآت الأولي ، ولا تسع إلى ذلك ، سواء كان ذلك في المستوي الإداري أو العلمي أو القيادي . وكن صغيراً في عيني نفسك ولا تدع المعرفة بكل شئ ، ولا مانع في بعض الأمور أن تقول لا أعرف ..
من الأسباب الأخري للفتور ..
دخول الآخرين إلى حياتك
من الخطورة أن يتحول هدفك في حياتك الروحية من الله إلى الناس .
كنت في الأول تحيا روحياً من أجل أبديتك ، ومن أجل محبتك لله ، ولكن يحدث بعد أن تتقدم في الروحيات ، أن يدخل الآخرون في حياتك ، ويسكلوا جزءاً من أهدافك ..
ربما يصبح أهم أهدافك من السلوك الروحي هو القدوة أو البعد عن العثرة .
فليس من أجل حب الخير ، أو حب الله ، تفعل الخير .. وإنما تفعله حتى تكون قدوة لناس .. حتى تقدم لهم مثالاً عملياً في الحياة الروحية ، كنور للسالكين في الظلمة .. وبنفس الوضع تبعد عن الخطأ حتى لا تعثرهم ، وليس كراهية للخطية ، التي ربما تتساهل معها في الخفاء ، مادامت لا تعثر أحداً .
وهكذا يكون دافعك الروحي من الخارج وليس من الداخل ، فتفتر . وقد تتحول إلى إنسانين .. أحدهما محترس لأجل الناس .. والأخر متهاون خارج نطاق رؤيتهم .
وفي كل ما تقول وما تفعل ، قد يهمك جداً تعليق الناس ، وأحكامهم .. وتتطور إلى أن تفعل ما يرضي للناس ، وشيئاً فشيئاً قد يصبح الناس هم هدفك ويضيع هدفك الروحي ، فتفتر حياتك .
قد تصلي في اجتماع ، ويهمك رأي الناس في صلاتك ، وتصبح صلاتك لأجل الناس وليس لأجل الله .
وقد تعجبك الصلاة بدموع ، وليس من أجل الله ، ولكن لكي يمدح الناس روحانية صلاتك ، أو لكي ترضي أنت عن نفسك . وفي كل هذا يكون الله قد اختفي من حياتك ..
والناس لهم آراء متنوعة .. وقد صدقت الأم سارة الراهبة حينما قالت :
[ لو اني أرضيت الكل ، لوجدت نفسي تائهة على باب كل أحد ]
ما اسهل أن يحسب الناس التدقيق تطرفاً ، فهل نترك التدقيق لكي نرضي الناس ؟
وقد تفتر حياتك أيضاً بسبب مجاملاتك الكثيرة للناس .
من أجلهم تضيع الكثير من وقتك في ما لا يفيد .. ومن أجلهم قد تدخل في أحاديث ومناقشات تتعب نفسك ، ومن أجلهم قد تتعطل صلواتك وتأملاتك ، وا أعمق قول بولس الرسول : " أم أطلب أن أرضي الناس ؟ فلو كنت بعد أرضي الناس ، لم أكن عبداً للمسيح " ( غل1 : 10 ) ..
لذلك اجعل علاقة الناس بك في حدود روحية حتى لا تفتر روحياتك .
البعد عن الوسائط الروحية
وعن صلوات الساعات
يندر أن يفتر إنسان في روحياته ، إلا ويكون من أسباب فتوره تقصيره في ممارسة الوسائط الروحية ، وإهماله صلوات الساعات ..
ذلك لأن الوسائط تذكر الإنسان بالله ، وتشوقه إلى العمل الروحي ، وتقوي قلبه في الداخل . فإن أهملها يضعف روحياً ويفتر ..
ونعني بالوسائط الروحية : الصلاة والقراءة والتأمل ، والصوم ، والاعتراف والتناول ، والاجتماعات الروحية ، والمواظبة على الكنيسة ، والخدمة .
والمفروض أن تكون ممارستها بطريقة روحية .
ولعل سائلاً يسأل : ولكنني أمارس كل هذه الوسائط ، ومع ذلك أحيا في فتور . فما السبب ، وما العلاج ؟
والإجابة على هذا السؤال هي :
1 – إما أن تكون الممارسة بطريقة روتينية خاطئة . وفي هذه الحالة تحتاج إلى أن تؤدي بفهم وعاطفة وتركيز وبروح .
2 – وإما أن تكون هناك حرب خارجية ، وينفع هنا الصبر ، إلى أن يرفع الله هذه الحرب ، أو يساعد في الانتصار عليها . مع الثبات في العمل الروحي .
3 – والفتور في الوسائط الروحية لا يعني التوقف عنها أو إلغاءها . وإلا يكون الإنسان قد هبط بالأكثر إلى أسفل ، بدلاً من إصلاح حالته ...
ونذكر من أهم هذه الوسائط : صلوات الساعات ( صلوات الأجبية ) فلا شك أن المصلي بها ، لابد ستنخس ضميره بعض عبارات لكي توقظه ... فإن لم يتأثر بها الآن ، لابد سيتأثر بها بعد حين .
فصلاة النوم مثلاً تذكره بالموت والدينونة والأبدية ، وكذلك صلاة نصف الليل ، تدعوه إلى اليقظة والتوبة .
وصلاة الغروب تذكره بخطاياه وتكاسله ، وتدعوه إلى التوبة وطلب المغفرة .
وصلاة باكر تذكره بأن يسلك روحياً طوال النهار ، وأن يبدأ بدءاً حسناً ...
وهكذا باقي الصلوات ، كل منها لها تأثيرها الروحي . وإن التفت المصلي إلى معانيها لابد أن يستيقظ ضميره .
وإن لم يحدث هذا التأثير ، فلابد بمداومة الصلاة بها يحدث التأثير بعد وقت ، يقول خلاله المصلي : " انتظرت نفسي الرب ... من محرس الصبح إلى الليل " ( مز13 ) .
وهناك من الناحية المقابلة سبب آخر للفتور ينبغي الالتفات إليه ، وهو :
الظن بأن الروحيات
هي مجرد ممارسات
البعض يظنون أن الحياة الروحية هي مجرد صلاة وصوم ، واعتراف وتناول ، واجتماعات وخدمة ، وجدول روحي لهذا الوسائط يحاولون أن يملأوه لكي تستريح ضمائرهم . وفي كل هذا يقعون في الفتور . فلماذا ؟
ذلك لأنهم اقتصروا على هذه الممارسات ، ونسوا نقاوة القلب من الداخل ، التي هي الأساس الذي يعتمد عليه العمل الروحي . وبدون هذا الأساس يفتر الإنسان .
إن مجرد الممارسات الروحية ، بدون ثمار الروح في الداخل ، قد تحول المكتفي بها إلى فريسية واضحة ...
تحوله إلى قبور مبيضة من الخارج ، كما كان يفعل الفريسيون يدققون في الممارسات الخارجية ، وقلوبهم خالية ، وقلوبهم خالية من المشاعر الروحية الحقيقية .
اهتم إذن بالعمل الداخلي ، بالفضائل الرئيسية كالمحبة والإيمان والتواضع والوداعة والنقاوة والطهارة ... وحينئذ ستجد صلاتك لهيب نار ، لأنها نابعة من قلب نقي مملوء من محبة الله ومحبة الفضيلة ...
ذلك لأنه – للأسف الشديد – قد يوجد من يصلي ، وبينه وبين غيره خصام شديد أو يصلي ويقرأ ويعظ ويعلم ، وفي داخله غضب ونرفزة وكبرياء ... وما إلى ذلك ... فكيف تكون له حرارة في الصلاة ، بينما قلبه بعيد عن الروحيات ، بل كيف تكون له صلة بالله في صلاته ، وقلبه بعيد عن الله بالغيظ والحقد والخصام ؟!
إذا أردت إذن أن تتخلص من الفتور احرص على أن يكون عملك الروحي مرتكزاً على ثمار الروحي من الداخل ( غل5 : 22 ) .
وتذكر في كل ممارساتك الروحية ، قول الرب الصريح : " يا ابني اعطني قلبك " ( أم23 : 26 ) وتوبيخه لليهود في سفر إشعياء النبي " حين تبسطون أيديكم ، استر وجهي عنكم . وإن أكثرتم الصلاة ، لا اسمع . أيديكم ملآنة دماً " ( إش1 : 15 ) ...
وهذا ينقلنا إلى نقطة أخري من أسباب الفتور ، وهي :
وجود خطية أو شهوة
ربما يسير الشخص في طريق روحي سليم ، ويستمر على هذا وقتاً ، ثم تأتي محبة معينة أو شهوة ما ، لكي تشغل قلبه ومشاعره ، وتأخذ جزءاً من مكان الله ومكانته في داخله ، فتفتر حياته .
ولأنه ترك محبته الأولي ن تتركه الحرارة الروحية ، فيقع في الفتور .
ابحث إذن ، ما هو الدخيل الذي يحتل مكان الله في قلبك ؟ وابحث ما هي الخطية التي زحفت إليك ، سواء كانت واضحة أو غير واضحة ، أو كانت خطية تلبس ثياب الحملان ، وتأتيك في زي فضيلة لتخدعك !
ولعله من أنواع هذه الفضائل : الغيرة والدفاع عن الحق ، ومحبة الاصلاح إن كان ذلك بغير افراز وفهم !
وباسم الدفاع عن الحق ، يخاصم الناس ويعاديهم ، وينتهر ويوبخ في غير رفق ، وفي غير حب ، وربما في غير فهم . وباسم الاصلاح ينتقد ويدين وربما يشتم ، ويقسو في أسلوبه ، ويتحول إلى نار تلتهم كل ما أمامها . بل يتحول أيضاً إلى عين نقادة ، لا تري سوي السوء ، ولا تري في الناس خيراً ، وتشك في الآخرين وتتهمهم اتهامات باطلة ...
وفيما هو يدعي أنه ينزع أنه ينزع الزوان من الأرض ، يتحول هو أيضاً إلى زوان ، ويبحث عن روحياته فلا يجدها ، وتصبح حياته فاترة ، يقول له الرب فيها : " أنا مزمع أن اتقياك من فمي " ( رؤ3 : 16 ) .
ليس معني هذا ، أن يبعد الإنسان عن الاصلاح والغيرة والدفاع عن الحق ، وإنما ينبغي أن يكون ذلك بفهم وبحكمة ، وبأسلوب روحي كما قال الكتاب : " لتصر كل أموركم في محبة " (1 كو16 : 14 ) وأيضاً يقول الرسول : " من هو حكيم وعالم بينكم ، فلير أعماله بالتصرف الحسن بالتصرف في وداعة الحكمة . ولكن إن كان لكم غيره مرة وتحزب في قلوبكم ، فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق . ليست هذه الحكمة نازلة من فوق ... " ( يع3 : 13 – 15 ) .
هذه هي روح الإصلاح : في محبة ، في وداعة الحكمة ، وهنا لا يخطئ الإنسان في غيرته ولا تفتر روحياته .
وما أجمل قول الرسول في طريقة إصلاح الآخرين : " اصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ، ناظراً إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضاً . احملوا بعضكم أثقال بعض " ( غل6 : 1 ، 2 ) . نقول هذا لأن كثيرين يبدأون توبتهم بحرارة روحية ، يعجب بها الناس ، فيرشحونهم للخدمة . وفي الخدمة تتملكهم غيرة بغير معرفة ( رو10 : 2 ) فتفقدهم حرارتهم فيفترون !
حقاً إن التركيز على اصلاح الآخرين أضاع أناساً كثيرين !!
يريد الشخص أن يصلح غيره . ومن أجل هذا يفكر طول الوقت في خطايا الآخرين . وفي ذلك ينسى خطاياه فيفتر . وفيما كان في بدء توبته يركز على روحياته ، ويهتم بخلاص نفسه ، نراه في الخدمة قد نسي نفسه تماماً ، وأصبح مشغولاً بخلاص الآخرين أو بأخطاء الآخرين ، أو باصلاح المجتمع ! وليته بفعل ذلك بطريقة سليمة إنما يسلك بأسلوب خال من الحب ، وربما يحوي أيضاً كبرياء داخلية !
أيسأل مثل هذا عن أسباب الفتور ؟ هي هذا السلوك الذي يحياه ! ليته عاش في اتضاع ، يبحث في إنسحاق عن خلاص نفسه ..
يا أخي ، فكر في نفسك ، أنك أنت أيضاً خاطئ تحتاج إلى اصلاح ، بدلاً من انشغالك بالناس وأخطائهم مما تفتر معه روحياتك .
وكلمة أخري اهمس بها في أذنك ، ربما تكون هي السبب في فتورك ، وهي السبب كذلك في أخطائك حينما تعمل في مجال الغيرة والاصلاح .
ربما تكون في طباعك قسوة أنت غير متنبه إليها . فلما دخلت في الحياة مع الله ، انسلت هذه القسوة داخلة معك دون أن تشعر . وظهرت في معاملاتك حينما تشتغل بالغيرة والاصلاح باسم الله !
انظر إلى بولس الرسول ، الذي قال لتلميذه تيموثاوس الأسقف : " وبخ . انتهر عظ " ( 2تي4 : 2 ) . كيف كان القديس بولس هذا يعظ ؟ أنه يقول لكهنة أفسس حينما استدعاهم من ميليتس . يقول لهم عن أسلوبه : " متذكرين أنني ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل أحد " ( أع20 : 31 ) .
لهذا لم يفتر القديس بولس وهو يتنهر الناس . لأنه كان ينذرهم بدموع . وفي دموعه كانت توجد رقة وحب ..
إذن القسوة سبب من اسباب الفتور وإدانة الآخرين سبب آخر ، لأن في كليهما تبعد النعمة عن الإنسان ، لتشعره بأنه " تحت الآلام " ( يع5 : 17 ) مثل كل هؤلاء وإذ تبعد عنه النعمة يفتر .
لأن الحرارة الروحية ليست من مجهوده البشري ، إنما من عمل الروح فيه . فإن بعد بالقسوة والإدانة عن عمل الروح ، حينئذ يفتر ...
هناك سبب مشابه ، يقود إلى الفتور وهو الكبرياء :
الكبرياء
والكبرياء على أنواع كثيرة ...
نذكر كمقدمة لها قول الكتاب : " قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح " ( أم16 : 18 ) . فإن كانت الكبرياء تقود إلى الكسر والسقوط ، فعلي الأقل توصل إلى الفتور .. ومن أمثلة الكبرياء شعور الإنسان أنه قد وصل . وحينئذ يفتر !
كإنسان يستقل قطاراً ، وهو في حرارة الاشتياق لأن يصل ، فإن وصل أو شعر بذلك ، تفارقه حارة الاشتياق .
أما الذين مهما فعلوا كل ما أمروا به ، يقولون أنهم عبيد بطالون ( لو17 : 10 ) ، فهؤلاء لا يدركهم الفتور . لأنهم مازالوا في حرارة الاشتياق إلى الوصول ، يقول كل منهم – مهما بلغ من كمال – " لست أحسب أني قد أدركت ... ولكنى أسعى لعلي أدرك . انسي ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام " ( فى3 : 12 ، 13 ) .
وهذا السعي يمنح حرارة تمنع الفتور . بل فيه يري الإنسان – كلما ينمو – أن حياته السابقة – في كل علوها – كانت فتوراً . فيسعي بالأكثر ، بحرارة أكثر ...
نوع آخر من الكبرياء يجلب الفتور ، وهو شعور الإنسان أنه قد صار كبيراً وإن غيره أصغر منه . وأنه ينبغي أن يعامل ككبير ، له الاحترام ، وله الخضوع ، وله التسليم في كل ما يشاء .
لم يكن هكذا في بدء توبته ، حينما كان يشعر بالانسحاق وعدم الاستحقاق ، أما الآن – وقد كبر في عيني نفسه – تفارقه النعمة ، فيفتر ، ليشعر بضعفه فيتضع .
إن الحرارة الروحية لا يمكن أن تجتمع مع الكبرياء في مكان واحد .. فإن حدث أن دخلت واحدة على الأرخي تقول هذه لتلك : " اعتزلي عني . إن ذهبت شمالاً ، فأنا يميناً . وإن ذهبت يميناً ، فأنا شمالاً " ( تك13 : 9 ) .
ومع ذلك فأصحاب المواهب – فكرية كانت أو روحية ، قد يبدأون بدءاً حسناً . ثم تحاربهم مواهبهم فيفترون .
لذلك فإن الله – من محبته للبشر – لا يمنح مواهبه لكل أحد . لأنه ليس الجميع يحتملون المواهب !! فقد تكبر قلوبهم ، ويكون ذلك سبباً في فتورهم !
صدق أحد الآباء حينما قال : إن منحك الله موهبة ، فاسأله أن يمنحك اتضاعاً لتحتملها ، أو اسأله أن ينزع هذه الموهبة منك ...
لذلك ما أجمل قول داود النبي : " خير لي يارب أنك أذللتني ، حتى أتعلم حقوقك " ( مز119 : 71 ) .
" قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم " ( مز34 : 18 ) . لذلك اتضع ، ولينسحق قلبك ، ليقترب منك الله ، ويمنحك حرارة الروح ، فيفارقك الفتور .
تنقلنا هذه النقطة إلى سبب آخر من أسباب الفتور ، وهو :
تقليل فترة الإنسحاق
والإسراع إلي الفرح
في بدء حياة التوبة ، كثيراً ما يكون الإنسان منسحقاً متضعاً يبكي على خطاياه ، وفيما هو هكذا ... يأتيه من ينصحه بترك الحزن ، على اعتبار أن المسيح قد غفر له خطاياه ، وبالتالي يدعوه إلى حياة الفرح !فيترك انسحاقه الذي هو سبب حرارته . ويمضي الوقت يفتر .
إن كل خطية لم تستوف ما يلزمها من الانسحاق ، يمكن أن تعود . أو على الأقل يعتاد الإنسان اللامبالاة ، فيفتر .
القديس بولس الرسول في كل مجده الروحي ، لم يفارقه إنسحاقه ، ولم ينس خطاياه ، بل كان يقول : " أنا الذي لست مستحقاً أن أدعي رسولاً ، لأني اضطهدت كنيسة الله " ( 1كو15 : 9 ) .
وداود النبي كذلك ، بعد أن نال الموعد بمغفرة خطيته ، وضعها أمامه في كل حين ( مز50 ) . وكان في كل ليلة بدموعه يبل فراشة ( مز6 ) . وإذ حافظ القديس بولس ، وداود النبي القديس على إنسحاق قلبيهما ، استمرا في حرارتهما الروحية ولم يفترا . لا تسرع إذن إلى حياة الفرح . بل إن أتاك ، قل : [ أنا لا أستحقه ] . أو على الأقل : ليكن لك انسحاقاً الداخلي ، مهما
عشت في فرح الروح ...
سبب آخر للفتور هو الكسل :
الكسل والتهاون
إنهما سببان واضحان من أسباب الفتور لا يحتاجان إلى شرح .
فهما ضد الجهاد الروحي وضد السعي إلى الكمال . وبهما يقصر الإنسان في الصلاة والسهر ، وفي التغصب اللازم لكبح جماح النفس ...
إن ملكوت الله لا يعطي للكسالى ، وإنما للذين يجاهدون . وقد قال الكتاب : " ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة " ( إر48 : 10 ) .
خاتمة
وبعد ، إن موضوع الفتور موضوع طويل ، أكتفي بهذا الذي قلناه فيه ، على أن أعود إليه في كتاب خاص إن شاء الله .
الفصل الثاني عشر
حرب الكآبة
الكآبة المقدسة
الكآبة الطبيعية
الكآبة الخاطئة
الكآبة المرضية
علاج الكآبة
العلاج النفسي
العلاج بالعقاقير
التدين المريض
العلاج الروحي للكآبة
ما هي الكآبة ؟ ما مظاهرها ، وما أسبابها ؟ وما نتائجها ، وما علاجها ؟ هذا ما نود أن نتحدث عنه اليوم ، مفرقين بين الكآبة السقيمة ، حرباً كانت أم مرضاً ..
الكآبة المقدسة
لاشك أنه توجد كآبة مقدسة ، تدفع إليها دوافع روحية ، ويسلك فيها الإنسان بأسلوب روحي ، وتكون مؤقتة وليست منهج حياة ..
1 - مثال ذلك نحميا ، الذي لما سمع أن أورشليم سورها منهدم ، وأبوابها محروقة بالنار ، وشعبها في عار عظيم .. يقول : " فجلست وبكيت ، ونمت أياماً وصليت ... " ( نح1 : 4 ) . حتى أن الملك ارتحشستا لاحظ عليه ذلك وقال له : " ما هذه إلا كآبة قلب " فأجابة نحميا : " كيف لا يكمد وجهي والمدينة بيت مقابر آبائي خراب ، وأبوابها قد أكلتها النار " ( نح2 : 2 ، 3 ) .
هذه الكآبة دفعت نحميا إلى الصلاة والصوم ، وإلى عمل إيجابي فعال أزل به أسباب قد أكلتها النار " ( نح2 : 2 ، 3 ) .
2 - ومثل نحميا كان عزرا الذي لما رأي أخطاء الشعب ، اكتأب وصام وصلي ، نجح في تطهير الشعب ، ولم تستمر كآبته ( عز9 ، 10 ) .
3 - ونقرأ في بستان الرهبان عن دموع الآباء القديسين ، وعن تلك النصيحة المشهورة : [ إجلس في قلايتك وابك على خطاياك ] .
4 - نسمع أيضاً عن الكآبة التي تصحب التوبة والصوم ، وتساعد على التواضع وانسحاق القلب .
ومن أمثلتها ما ذكر عن الصوم في سفر يوئيل ( يوء2 : 12 - 17 ) . وما ذكر عن صوم أهل نينوى وتذللهم أمام الله في المسوح والرماد ( يون3 ) . كذلك توبة داود وكيف كان يبلل فراشة بدموعه ( مز6 ) .
كانت كآبة الخطاة تتحول إلى توبة ، وتنتهي بالفرح ، وبعزاء داخلي في أعماق القلب ، وتؤدي إلى إصلاح السيرة كلها .
ولعل هذا ما يقصده الكتاب بعبارة " بكآبه الوجه يصلح القلب " ( جا7 : 3 ) .
ونسمع أيضاً عن الكآبة في الخدمة مثل قول القديس بولس الرسول : " مكتئبين في كل شئ ، ولكن غير متضايقين " ( 2كو4 : 8 ) .
وهكذا كانت الكآبة في الخدمة مصحوبة بالعزاء ، كقول الرسول : " إن الله يعزينا في كل ضيقتنا ، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في ضيقة " ( 2كو1 : 4 ) ولعل من أروع الأمثلة للكآبة المقدسة ، أن السيد المسيح في البستان حزن واكتأب ( مت26 : 37 ، 38 ) وكانت نفسه حزينة حتى الموت .
ومن أمثلة هذا النوع أيضاً - مراثي إرمياء - وكثير منها نبوءات عن السيد المسيح . ومع ذلك قال المسيح لتلاميذه :
" لكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم " ( يو16 : 20 ) .
من كل هذا نري أن الكآبة المقدسة تكون لأسباب روحية ، ومصحوبة بالعزاء وبالرجاء ، وتتحول أخيراً إلى فرح ، وهي مؤقتة وليست صفة مستمرة .
الكآبة الطبيعية
ومن أمثلتها الحزن على وفاة عزيز كبكاء مريم ومرثا عند قبر لعازر .
ومن أمثلة هذا النوع أيضاً - أيوب بعد وفاة أولاده ، وبناته وخراب بيته ، وضياع صحته .
وكذلك بكاء يعقوب ، لما سمع أن ابنه يوسف قد افترسه وحش رديء ( تك37 : 34 ) .
هذا حزن طبيعي ، ننتقل منه إلى نوع آخر ، هو الكآبة الخاطئة .
الكآبة الخاطئة وأسبابها
هي التي تحوي الخطية داخلها :
1 - مثل كآبة إنسان في قلبه شهوة خاطئة لم يستطيع أن يحققها .
مثال هذا النوع كآبة آخاب الملك ، لما رجع إلى بيته مكتئباً مغموماً ، لأنه لم يستطع أن يغتصب حقل نابوت اليزرعيلى ( 1مل21 : 4 ) . وقد قادته هذه الكآبة إلى القتل والظلم والكذب ليحقق شهوته .
2 - وهناك كآبة سببها الغيرة ، والحسد ...
مثالها كآبة الابن الأكبر الذي رفض أن يدخل بيت أبيه ليشترك في الفرح بأخيه ، قائلاً إن أباه لم يعطه جدياً ليفرح مع أصدقائه ، بينما ذبح لأخيه العجل المسمن ( لو15 : 28 - 30 ) .
ومثال ذلك أيضاً كآبة أي إنسان يشعر أن غيره قد حصل على شئ ، بينما هو أحق منه به .
3 - هناك كآبة أخري سببها الفشل .
بينما الفشل لا يعالج بالكآبة ، وإنما بمعرفة أسبابه ن ومعالجة هذه الأسباب بطريقة إيجابية ، أما مجرد الكآبة ، فإنها تضيف إلى الفشل مشكلة أخري تحتاج إلى حل .
وتزداد الخطورة في مثل هذه الكآبة إذا كان سببها الفشل في ارتكاب خطية
كفشل امنون أولاً في الخطيئة مع ثامار ( 2صم13 ) . وكفشل آخاب أولاً في اغتصاب حقل نابوت ... ومثل فشل أي طالب في القدرة على الغش أثناء الامتحان ، أو فشل إنسان في الانتقام لمقتل أحد أقربائه . إنه فشل في ارتكاب خطية الاكتئاب عليه هو خطية أخري .4 - وهناك كآبة سببها اليأس :
مثل يأس عيسو ، لما علم أن البركة قد انتقلت إلى أخية وانتهي الأمر ، وقال له أبوه إسحق : " ماذا أصنع لك يا ابني ؟ قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك ، أني قد جعلته سيداً لك " فلما سمع عيسو كلام أبيه ، صرخ صرخة عظيمة ومرة جداً ( تك27 : 33 - 38 ) . ورفع صوته وبكي ..
5 - وهناك كآبة إنسان ينحصر بالضيقات . ويبقي فيها حزيناً بلا رجاء .
وعلاجه أن يقول لنفسه كما قال داود النبي : " لماذا أنت كئيبة يا نفسي ؟ ولماذا تحزنينني ؟ توكلي على الله " ( مز42 : 11 ) . لا تجمع المشاكل ، وتكومها أمامك وتقف حزيناً ، بلا حل ، بلا رجاء ، بلا إتكال على الله ، إذكر قول الكتاب :
" لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم " ( 1تس4 : 13 ) .
إن الكآبة التي بلا رجاء ، هي كآبة خاطئة . حتى لو كانت بسبب طبيعي ، كالبكاء على ميت ، أو بسبب روحي كالبكاء على خطية .
لذلك إن أحاطت بك المشاكل ، فرقها ، ضع الله بينك وبينها ، فتختفي ويظهر الله ، بمعونته .
6 - هناك كآبة أخري سببها الحساسية الزائدة ..
إذ قد يوجد إنسان حساس جداً نحو كرامته ، أو حساس جداً نحو حقوقه ، يتضايق جداً لأي سبب ، أو لأقل سبب ، أو بلا سبب ، يريد معاملة خاصة ، في منتهي الرقة ، في منتهي الدقة ، في منتهي الحرص فإن لم يجدها ، وطبعاً نادراً ما يجدها حينئذ يكتئب ..
7 - وهكذا يأتي الاكتئاب أيضاً للذين لا يعيشون في الواقع بل يرفضونه ، ولا يضعون له سوي بديل خيالي لا يتحقق .
فهم ثائرون على وضعهم ، ولكنهم لا يحاولون تغييره بطريقة عملية ، توصلهم إلى ما يريدون ، إنما يكتفون بالثورة ، يبقون حيث هم في كآبة وفي سخط على كل شئ .
وإن أتتهم لحظات سعادة تكون ببعض أحلام اليقظة التي يعيشون فيها في خيال يتمنونه ، ثم يستيقظون من أحلامهم وخيالاتهم ، ليجدوا واقعهم كما هو ، فيزدادوا سخطاً عليه ، وتزداد كآبتهم .
ونصيحتنا لهؤلاء أن يكونوا واقعين فإما أن يعيشوا في قناعة تسعدهم ، راصين بما عندهم بل شاكرين أيضاً ، وإما أن يعملوا على تغير الواقع عملياً ، ولا يكتفون بالكآبة .
8 - وقد يأتي الاكتئاب بسبب ضيق الصدر وعدم الاحتمال ..
الإنسان الواسع الصدر والقلب يستطيع أن يمرر أشياء كثيرة تذوب في قلبه ولا يضيق بها ، أما الذين لا يحتملون ، فلابد أن يصلوا إلى الكآبة .
كذلك سعة الفكر تعالج الكآبة تعالج الكآبة ... فبدلاً من الاكتئاب ، يفكر في حل .
الإنسان الذكي ، إذ أحاطت به مشكلة أو ضيقة . بدلاً من إرهاق أعصابة ونفسيتنه بالمشكلة ومتاعبها ... يشغل ذهنه بإيجاد حل للخروج من المشكلة ، فإن وجد الحل يبتهج ، وتزول حدة المشكلة ، وإن لم يجد ، يصبر ، والذي لا يستطيع أن يصبر ، لا شك أنه ضيق الصدر ، وهذا تزداد كآبته ويكون سببها قلة الحيلة .
9 - وقد تحدث الكآبة بسبب حرب خارجية من عدو الخير ، دون ما سبب ظاهر ..
يغرس في النفس أسباباً للضيق ولو يخترعها ، أو يكبر ويضخم في أسباب تافهة لا تدعو إلى الكآبة ، أو يحاول أن يلهو بالإنسان كلما يسعد بوضع ، يعزيه بأوضاع أخري كأنها أفضل مما هو فيه ، فإن وصل إليها ، يغريه بغيرها ، أو بوضعه الأول .
ويوجده في جو من التردد وعدم الثبات : يكون سبباً في الكآبة .
فمثلاً إن كان راهب يعيش في الوحدة ، يغريه بالخدمة واكاليل الاشتراك في بناء الملكوت ، وإن كان يخدم ، يغريه بالوحدة وحياة التأمل والسكون والصلاة الدائمة ، ومتعة الوجود في حضرة الله .. وهكذا لا يثبت على حال فيكتئب .
وهذا يقودنا إلى سبب آخر للكآبة وهو الشك ..
10 - الشك إذا استمر ، يحطم النفس ، ويجعلها في حالة كآبة وقلق .
سواء كان شكاً في إخلاص صديق أو في أمانة زوجة وعفتها ، أو كان شكاً في حفظ الله ومعونته ، أو شكاً في الإيمان .. أو قد يكون الشك في الطريق الذي يسلكه الإنسان أهو حسب مشيئته الله أم لا ؟ أو قد يكون شكاً في تدابير ضد الإنسان وهو لا يدري ..
أفكار الشك تخرج من العقل : لكي توجد عذاباً في النفس ، وتقود إلى تصرفات تتناسب في الخطأ مع هذه الشكوك وحدتها .
مثل زوج يشك في عفة زوجته ، فيغلق عليها الأبواب والنوافذ ، ويتجسس عليها ، ويسمح لنفسه أن يفتش خطاباتها ، وأدراجها ، ويحقق معها في كل ما يشك فيه ، ويجعل حياتها عذاباً .. وقد تكون بريئة كل البراءة ..
يحاسبها على كل ابتسامه ، وعلى كل كلمة ، وعلى كل لقاء ، وعلى كل حركة .. حياته تصبح في جحيم ، وحياتهم تصبح في جحيم ، وتكون للكآبة نتائج أخري خطيرة ..
إن حرب الكآبة حرب معروفة ، ومشهورة ، على أننا نريد أن ننتقل إلى النوع الرابع منها وهو
الكآبة المرضية
كما أن الشك المسبب للكآبة ، إذ تطور قد يتحول إلى مرض ، كذلك الكآبة قد تتحول إلى مرض
إذ تضغط الأفكار فيها على الإنسان حتى تحطم كل معنوياته ، وتزيل منه كل بشاشة .
فكر الكآبة يلصق بالمريض ولا يفارقه .. يكون معه في جلوسه وفي مشيه في نومه وفي صحوه ، بأفكار سوداء كلها حزن وقلق وخوف ، وصر كئيبة أمامه ، بلا حل ولا رجاء .
كآبة تضيع حياته ، وروحياته ، ونفسيته وعقله ، باقتناع داخله أنه قد ضاع وانتهي ..
1 - كإنسان يظن مثلاً أن خطيته لن تغفر وأنه وقع في التجديف على الروح القدس ( مت12 : 31 ) .
وربما يكون الشيطان هو الذي ألقي في ذهنه هذا الفكر ، حتى يوقعه في الكآبة ، ثم في اليأس ، على اعتبار أنه قد فقد أبديته ، وأنه لا سبيل إلى الخلاص حسب تعليم الكتاب .
أو قد يوصله إلى نفس الفكر ونفس الكآبة بأن يذكره بما قيل عن عيسو أنه :
" لم يجد للتوبة مكاناً ، مع أنه طلبها بدموع " ( عب12 : 17 ) .
ويخفي عنه كل الآيات الخاطئة بقبول الله للخطاة مثل قوله : " من يقبل إلى لا أخرجه خارجاً " ( يو6 : 37 ) . ومثل قول الرسول إن : " الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون " ( 1تى2 : 4 ) . أو يضع أمامه تلك الآية :
" وأعطيتها زماناً لكى تتوب عن زناها : ولم تتب " ( رؤ2 : 21 ) . ويشعره الشيطان بأن التوبة لها زمان محدد ، وأن زمانه قد فات .
وهكذا يقطع رجاءه من الخلاص ، حسبما قال داود في المزمور : " كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهة " ( مز3 ) . يضع أمامه ما ورد في ( عب6 : 4 - 8 ) ويدقق على عبارة : " لا يمكن تجديدهم للتوبة " .
وهذه هي طريقة الشيطان ، قطع الرجاء ، ليوقع في الكآبة واليأس .
وطبعاً كل الآيات السابقة لها تفسير ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى من يفهمه معني الكلمات ، ويكلمه عن محبة الله التي لا حدود لها ، وإنه قبل اللص في آخر حياته دون أن يحدد له زماناً ..
وكآبة اليائس ليست هي كآبة الوجه التي يصلح بها القلب ( جا7 : 3 ) .
2 - وقد يكون سبب الكآبة المرضية هو عقدة الذنب .
كأن يموت له أب أو ابن ، فيشعر أنه السبب في موته ، ويظل هذا الأمر يتعبه ، ويجلب له حزناً لا ينقطع .
ويظل يقول : ربما أكون قد قصرت في حقه ، ولولا تقصيري ما مات . ويظل الشيطان يذكره بمناسبات للتقصير وإن قال له أحد إنك لم تقصر ، وجلبت له الأطباء والدواء ، يقول في كآبته المرضية ، ربما لو أحضرت له طبيباً أكثر شهرة ، ما مات .. ربما لو سافر إلى الخارج .. وهكذا تطوف به الأفكار وكلها كآبة .
3 - وربما سبب الكآبة هو مرض له ، يظن أنه بلا شفاء ..
أو يتوقع له نتائج خطيرة يصورها له الوهم بأسلوب يتعب نفسيته ..
وما أكثر الأسباب التي تؤدئ إلى الكآبة المرضية ، والتي تصيب الإنسان بحزن لا يتخلص منه ، ولا يعطي نفسه فرصة للشفاء منه .
الاعراض والعلاج
والمريض بالكآبة ، قد يكون ساهماً باستمرار ، كئيب الوجه ، والملامح ، وكثير البكاء ، كثير الشكوى ، يائساً تطحنه الأفكار السوداء بلا رجاء .
يظن أنه قد ضيع أبديته ، أو ضيع نفسه ومستقبله ، أو ضاعت صحته ، أو أنه تسبب في ضياع غيره ، أو أن ما ينتظره أسوأ مما هو كائن ..
وقد تحاول أن تصحح له أفكاره فلا يقبل ، وينظر إليك في يأس ثم يبكي ، فهذا الذي تقوله ، قد سبق أن سمعه من ذهنه قبل ذلك ، وظهر له أنه حل عديم الجدوى .
أو قد يرفض الحديث جملة ، إذ لا فائدة منه ، ويشعر أن من يكلمونه لا يحسون به .
وهناك نوع عكسي ، يريد أن يحكي عن متاعبه ، لكي يجد حلاً ..
ومشكلة هذا الشخص هي أنه إما لا يجد حلاً ، فتزداد كآبته . أو يجد الشخص الذي يستريح إليه ، فيظل يتردد عليه كثيراً ، وفي كل مرة يقضي ساعات في الكلام والحوار حتى يهبر منه هذا الشخص المريح ، فيتعبه هذا الهروب ، ويري أنه يفقد القلب الذي أراحه ، وفقدانه يزيد كآبته .
ومن جهة العلاج ، هناك نوعان من المصابين بالكآبة ..
أ - نوع يرفض العزاء ويرفض التفاهم .
ب - ونوع يتشبث بالفكر ، كلما يخرجونه منه يعود إليه ، وكلما يشفي يعود مرة أخري إلى مرض كما كان ، وربما أزيد ..
ربما تخطر عليه فكرة الانتحار ..
لكي يتخلص به من آلامه ومن حزنه فإما أن ينفذ الفكرة ، أو يجدها هي أيضاً بلا فائدة ، وذلك إن كان يؤمن بالأبدية ، أو لأنه يفضل الكآبة على الموت أو لأنه يحاول أن يحل مشاكله عن طريق الخيال والفكر وأحلام اليقظة .
وعموماً يكون للكآبة تأثيرها السيئ على صحته ..
من جهة إنهاك الأفكار ، التي هي أيضاً تنهك الأعصاب ، وأيضاً من جهة التعب النفسي وتأثيره على الجسد .
وكذلك من جهة فكرة واحدة محيطة به ، لا يعرف كيف يخرج من حصارها له ..
إنه مرض يتعبه ، ويتعب كل الذين حوله ، ويتعب طبيبه ، ويتعب مرشده الروحي .. ويحتار أب الاعتراف كيف يتصرف معه .
إذن ما هو العلاج ؟
الكآبة ليست علاجاً لمشاكلك
إن أول علاج لك هو أن تعتقد تماماً من أعماق قلبك أن الكآبة ليست علاجاً لمشاكلك .
تحدث لك مشكلة ، كما أن جميع الناس تحدث لهم مشاكل . فتسبب لك هذه المشكلة حزناً في قلبك أو ضيقاً . وهذا أيضاً يحدث لجميع الناس .. ولكنك أنت بالذات تستمر معك الكآبة مدة أطول مما يجب يلاحظ الكل أنها ليست كآبة طبيعية .
ويحاولون أن يعزوك . أو أن يخففوا عنك . ولكنك بإصرار شديد ترفض أن تتعزي . فيسأم
الناس من الحديث معك ويتركونك . فتجلس في كآبة أكثر وفي انطواء ..وهنا أسألك : هل استفدت شيئاً من كآبتك ؟ هل عالجت مشكلتك ؟ هل أراحتك نفسياً من الداخل ... أم تعبت بالأكثر ؟! وهل أراحتك من جهة علاقتك بالناس . أم تعقدت علاقاتك بالأكثر ؟!
لا شك أنك خسرت بالكآبة . أكثر مما كنت تتوقع .
وأصبحت كآبتك بسبب المشكلة ، هي مشكلة أضخم من المشكلة التي اكتأبت بسببها !
وبقيت المشكلة الأولي لم تحل .. مع إضافة مشكلة الكآبة إليها ، ومع ما نتج عن ذلك من انطواء ، ومن سوء علاقة مع الناس وخسارة الجو الهادئ الذي كنت تعيش فيه . كما إنك عرضت على الناس نقصاً ما كانوا يعرفونه فيك . وهو عدم احتمالك ، وعجزك عن احتمال المشاكل ... فلماذا هذا الاتلاف ؟
كن واقعياً . وفكر في حل مشاكلك ولا تركز على الاكتئاب . وإن لم تجد حلاً لمشكلتها ، انتظر الرب .. أو احتمل وعش في واقعك .
وإن اكتأبت بحكم الطبيعة البشرية لا تجعل هذه الكآبة تطول ، ولا تجعلها تستمر ، ولا تكشف نفسك هكذا قدام الناس . ولا تجعل الناس ينظرون إليك في إشفاق ، أو في يأس من تغيير حالتك .
حاول أن تكون أقوي من المشكلة .
وإن لم تستطيع ، حولها إلى الله الذي هو أقوي من الكل ، والذي كل شئ مستطاع عنده ( مت19 : 26 ) .. وبعد ذلك انسها في يدي الله . ولا تعد تفكر فيها .
هناك مشاكل كثيرة ، يمكن أن تحل بالإيمان ، وبالتسليم ، وبالصلاة ..
ولكن لا توجد مشكلة واحدة يمكن حلها بالكآبة . إذن عليك أن تؤمن بأن الله موجود ، وأنه لابد أن يتدخل وهو ضابط الكل ، يري كل شئ ، ولا تفوته ملاحظة شئ ، وهو يعرف متاعبك أكثر مما تعرفها ، ويشفق عليك أكثر مما تشفق على نفسك .
ومادام الله يهتم ، فلا تحمل أنت هموماً على كتفيك . اترك الأمر لله .
هناك مشاكل في إمكانك حلها .. وهناك مشاكل أخري حلها في تركها ، أو حلها في نسيانها . وربما تكون مشكلتك ( التي تبدو لك بلا حل ) هي من هذا النوع .
ولعلك تقول : وكيف أنسي ؟
كيف أنسي المشكلة ، وهي لاصقة بذهني أكثر من التصاق جلدي بلحمي ؟ أفكر فيها كل حين ، في جلوسي ، في مشيي ، في وجودي وحدي ، وفي وجودي مع الناس ، لا أفكر إلا فيها وإن قرأت أسرح فيها ، ولا أتحدث في موضوع سواها . هى بالنسبة إلى كالنفس الداخل والخارج ، أحسست أو لم أحس .. !!
هنا ، أقدم لك حلاً عملياً وهو :
المشغولية
إشغل نفسك باستمرار : واهرب من الفكر ، من هذا الفكر الكئيب الذي فيك ..
لابد أن تقتنع أن مداومة التفكير في المشكلة تضرك من كل ناحية : تضرك جسدياً وعصبياً ونفسياً ، وترهقك ، وتزيد المشكلة ، وفي نفس الوقت لا وصول إلى حل ..
إذن اترك هذا التفكير المرضي .. وفي صراحة قل لنفسك : كفاني تعباً من هذا التفكير الذي لم يفدني بشيء ..
وإن لم تستطيع ، اشغل نفسك باستمرار . اشغل نفسك بأي شئ يبعد عنك الفكر المرهق .
ومن هنا كان العمل المستمر مفيداً للذين يشكون من الكآبة ، إلى أن يتعبوا من العمل ، فيناموا في راحة ، وهكذا تستريح أعصابهم من إرهاق الفكر لها ..
كما أن العمل يشعر الإنسان أنه قادر على إنتاج شئ ، أو قادر على تحمل مسئولية ، فيريحه هذا نفسياً . كما تريحه ثمار عمله . وفي خلال ذلك يكون قد بعد عن الفكر ...
غير أن البعض قد يرفضون العمل أو يهربون منه ، لكي يخلو عقلهم مع الفكر .. !
الفكر المرضي أصبح للأسف الشديد يشكل أهمية كبري في نفوسهم ، لا يستغنون عنها . فهم يريدون أن يفكروا في المشكلة . يريدون أن يستمروا دائرين في هذه الدائرة .
المفرغة التي لا توصل إلى حل .. !
فإن قبلوا العمل ، تكون علامة صحية ..
علامة على أنهم قلبوا الاستغناء عن الفكر ، ولو قليلاً ، في فترة العمل ... وهذا حسن جداً .. مجرد قبولهم العمل ، أمر مفيد ، حتى لو كان ذلك تغصباً . وتزداد حالتهم تحسناً ، كلما قبلوا العمل برضي وبفرح ووجدوا فيه لذة ..
وأحياناً يكون رفضهم للعمل ، بحجة أن أعصابهم مرهقة ، وقدرتهم الجسدية لا تمكنهم من العمل .. !
وهذه الحجة قد تكون حقيقية عند البعض إلى حد ما .. وقد تكون وهمية عند البعض الآخر . أو يكون وراءاها عامل نفساني .. مثل شخص كلما يعرض عليه العمل ، يشعر بإعياء جسدي مفاجئ ، هو رد فعل لرغبته الداخلية في عدم العمل . على أية الحالات ، يكون العمل حسب الطاقة ، وقد يكون أيضاً عن طريق التدرج ، حسبما يقدر المكتئب ، وحسبما يستجيب للعمل . ويحسن عرض أعمال عليه ، يختار منها ما يناسبه ..
فإن لم يقدر على العمل اليدوي ، هناك أنواع أنشطة يمكن أن يقوم بها .. وهناك ألوان من التسلية والترفيهات والقراءة قد تشغله .. وهناك علاج آخر هو الموسيقي .
الموسيقى كعلاج
لاشك أن هناك أنواعاً من الموسيقي لها تأثير قوي على النفس ، ويمكنها أن تريح وأن تهدئ ، وأن تبعد الإنسان عن جو الحزن والكآبة ، وتنقله إلى أجواء أخري ..
ويمكن إختيار قطع الموسيقي المفيدة ، التي لا تضر روحياً . وفي نفس الوقت يكون لها العمق والتأثير ، والقدرة على نقل المشاعر المتألمة ، وفتح أبواب من الرجاء أمامها ..
وهنا أذكر أن ابنتنا الدكتورة نبيلة ميخائيل ، قد نالت درجة الماجستير ودرجة الدكتوراه في العلاج بالموسيقي ببحوث علمية نالت تقديرها من الجامعة ومن أوساط كثيرة ...
ولا أظن أن الإنسان المكتئب يرفض الموسيقى . والموسيقي ليس المقصود بها الغناء ، فهناك موسيقى عميقة لا يصاحبها غناء .
والموسيقى الدينية ذات تأثير كبير في النفس . والمفروض طبعاً البعد عن الموسيقى الحزينة ، التي قد تبقي المريض في ألمه وحنه وانوطائه .
إن الموسيقى هي علاج للنفس من الداخل ، علاج للمشاعر والأحاسيس .. وقد تكون أكثر تأثيراً من العظات في كثير من الأحيان . ربما تشبهها في بعض الأزقات تراتيل وألحان معينة .
على أن البعض قد يلجأ إلى العلاج الكيمائي عن طريق العقاقير .
ولي ملاحظة على هذا العلاج ، مع مقارنته بالعلاج النفساني ، ثم أيضاً بالعلاج الروحى .
العلاج بالعقاقير والعلاج النفسي
العلاج بالعقاقير قد يكون مقبولاً ، حينما يكون المريض في حالة عصيبة معينة ، أو في حالة نفسية لا تقبل التفاهم ولا الحوار ، أو في حالة تصميم شديد على ما هو فيه ...
فيعونه العقاقير للتهدئة ، وربما تهدأ أعصابه ، وتصبح في حالة تسمح بالعلاج النفسي ...
كأن يكون هناك فكر يرهق المريض جداً ... ويضغط على أعصابه ونفسيته ضغطاً عنيفاً لا يحتمله . بل قد يطرد عنه النوم طرداً من كثرة التفكير .. ولذلك فهو في حاجة ماسة إلى فترة من الراحة ، تهدأ فيها أعصابه وبالتتالي تهدأ نفسيته .. وهنا يعطونه العقاقير كمسكنات أحياناً ، أو لكي ينام ويستريح من الفكر .
وهنا قد تبدو العقاقير ضرورة ، وبخاصة للمريض الهائج ، الذي يرفض الاعتراف بأنه مريض ، ويرفض العلاج .
نقول هذا مع اعترافنا بأضرار كثير من العقاقير ، وما تحدثه من تأثيرات أخري ضارة بالصحة ... ولكن في مثل تلك الحالات الصعبة ، ربما لا يجد الطبيب علاجاً غيرها في ذلك الوقت . ولكني أقول في صراحة .. لا يصح أن تكون العقاقير علاجاً دائماً ، أو العلاج الوحيد . ولكن العلاج النفسي في موضوع الكآبة أفضل منها بكثير ، حينما يأتي موعده ..
إن المريض قد يأخذ المهدئات أو المسكنات أو المنومات ، لكي يستريح من الفكر الذي يتعبه . وقد يهدأ أو ينام ، ثم يصحو أو يفيق ، فيجد الفكر مازال أمامه ، فيأخذ قدراً آخر من العقاقير وتتكرر العملية ...
وقد لا يأتي العقار بنتيجة ، فتزداد الكمية المعطاة ، أو يعطونه عقاراً آخر حتى لا يعتاد العقا الأول ، أو عقاراً آخر أشد تأثيراً ، أو يستبدل المسكن بمنوم . ومن كثرة المنومات قد يترهل جسمه أو تضعف ذاكرته ، أو يصبح في حالة ( دروخة ) مستمرة . ويستمر الفكر المتعب معه .
وهنا أحب أن أقول حقيقة هامة وهي :
إن العقاقير ربما تكون لعلاج النتائج وليس لعلاج الأسباب .
والأسباب هي الأفكار والمشاعر التي سببت الكآبة ، وأيضاً أسباب هذه الأفكار وهذه المشاعر ، وأيضاً نوعية النفسية ، ونوعية العقل والتفكير ..
ما علاقة العقاقير بكل هذا ؟
وإن عالجت العقاقير سبباً ، ربما تتلف إلى جواره شيئاً آخر . فإن جعلت المريض ينسي الفكر المرهق ، ربما تؤثر على ذاكرته بوجه عام .
إن أسباب الكآبة ، قد يصلح لها العلاج النفساني بأسلوب أعمق والمشكلة أن العلاج النفساني يحتاج إلى وقت ...
المريض يريد أن يفرع كل ما في داخله ، ويحكي كل ما يتعبه . وقد يستمر ذلك بالساعات . والطبيب ليس لديه وقت .. وبخاصة إذا ما تعود المريض هذه الإطالة وحكاية القصص التي لا تنتهي . وهنا قد يسأم الطبيب ويشفق على وقته الخاص .
وسأم الطبيب أو ملله ، يجعله لا يستمع أكثر ، فيتوقف العلاج النفسي .
ونحن لا نلوم الطبيب ، فقد يكون له عذره ، وبخاصة إذا كان كلام المريض متكرراً ، أو كان يعيد نفس الكلام الذي تعب الطبيب معه في التعليق عليه . وقد يحتج الطبيب بأن تدليل المري لا يفيده ويشجعه على إطالة الجلسة ، أو يؤدي إلى وجود دالة بينه وبين الطبيب فيطلبه باستمرار ، وفي أوقات عمله مع آخرين . وفي أوقات راحته ..
لاشك أن العلاج النفسي يحتاج إلى وقت ، وإلى صبر واحتمال ، كما يحتاج أيضاً إلى حكمة ، ومعرفة بالنفس البشرية .
فقد يري الطبيب أن شكوك المريض ليس سليمة ، وأن ما يقدمه من أسباب لتعبه ، هو كلام مبالغ فيه ، أو مجرد أوهام ، أو الحقيقية عكس ذلك تماماً . ويشرح كل ذلك للشخص المكتئب ، ومع ذلك يبقي مصراً على فكره ، بل ربما يشك أحياناً في الطبيب ذاته ، وفي كفاءته وفي إخلاصه ! إنه مرض ..
لقد تحولت الكآبة من حرب داخلية أو حرب خارجية ، إلى مرض ..
وعلينا أن نبحث كل ذلك ، لندخل في علاجه . بل ونقدم نوعاً آخر من العلاج ، هو العلاج الروحي . وهنا لابد من التعرض لنقطة هامة هي :
التدين المريض
والتدين المريض له أسباب وأعراض عديدة .. ولكننا نركز على النقاط الآتية :
1 - الكآبة كمنهج روحي .
2 - الصرامة في معاملة النفس والآخرين .
3 - المثاليات التي هي فوق الطاقة .
كثيرون من المرشدين الروحيين يركزون على عبارة : " بكآبة الوجه يصلح القلب "
( جا7 : 3 ) ..
ويركزون أيضاً على قول الآباء في بستان الرهبان : [ ادخل إلى قلايتك ، وابك على خطاياك ] . ويعظون كثيراً عن الدموع وفوائدها . وكل هذا كلام روحي له فائدته وله وقته .
لكن الكآبة قد تصلح لوقت ، ولكنها لا تكون منهجاً دائماً للحياة .
وهؤلاء المرشدون لا يتحدثون عن الفرح ، بل ربما يعتبرونه ضد التوبة .. كما يعتبرون الضحك علامة انحلال روحي !
وينسي هؤلاء قول الكتاب : " افرحوا في الرب كل حين ، وأقول أيضاً افرحوا ( في4 : 4 ) . وقوله أيضاً إن ثمار الروح " محبة وفرح وسلام " ( غل5 : 22 ) .
وقول السيد المسيح : " أراكم فتفرح قلوبكم . ولا ينزع أحد فرحكم منكم " ( يو16 : 22 ) . وبنفس السفر الذي وردت فيه عبارة : " بكآبة الوجه يصلح القلب " ، ورد فيه أيضاً : "
" للبكاء وقت وللضحك وقت " ( جا3 : 4 ) .
إن التزمت الدائم ، والحديث المستمر عن وجوب الكآبة ، يغرسان الكآبة في أعماق النفس . وربما يسلك البعض فيها بحكمة واتزان ، بينما تتحول عند البعض الآخر إلى مرض !
ويصبح كل شئ يدعو إلى الكآبة !
التوبة تدعو إلى الكآبة ، لأن داود النبي كان في كل ليلة يبل فراشة بدموعه والخدمة تدعو إلى الكآبة ، كما بكي نحميا على أورشليم ، وكما بكي إرمياء في مراثيه ، وكما قال داود في مزاميره : " الكآبة ملكتني من أجل الخطاة الذين تركوا ناموسك " ( مز119 ) .
التواضع أيضاً لابد أن تصحبه الكآبة !
لئلا الفرح يقوده إلى ارتفاع القلب !
والصلاة أيضاً قد تكون شديدة ! وتنظر إلى ملامح شخص من هؤلاء أثناء صلاته ، فتجدها متجهمة جداً متأزمة ، يتعبك التطلع إليها !
حقاً هناك كآبة روحية ، ولكن معها عزاء . وهناك حزن مقدس ، ولكن معه رجاء . والفرح بالرب يختلط بكل تلك المشاعر .
أما الذين يركزون على الكآبة وحدها بدون عزاء ، بدون رجاء ، بدون فرح بالرب وعمله ، فهؤلاء لم يفهموا المسيحية كما ينبغي ، ولم يفهموا الإنجيل الذي هو " بشارة مفرحة " .
هؤلاء يقدمون للناس قدوة كئيبة .
بل قد يهرب البعض ويخافون من التدين ، لئلا يصيروا في هذه الصورة المحزنة ، الدائمة التجهم ، التي لا تضحك مطلقاً ، وقد فقدت البشاشة والابتسامة والوجه المضيء ! وأصبحت الروحيات عندها هي دموع لا تنقطع وصرامة لا تنفرج .
هؤلاء ينبغي أن يفرقوا بين الدموع الروحية التي تؤول إلى فرح ، وبين الدموع التي تحرق النفس وتمزقها ، وتدخلها في ظلمة محزنة !
هل العلاقة مع الله حزن دائم بلا عزاء ؟! وهل الله المحب الحنون لا يود أن يرانا إلا باكين مكتئبين ؟! وهل الله المحب الحنون لا يود أن يرانا إلا باكين مكتئبين ؟! وهل الكآبة التي تصلح القلب ، تستمر كآبة بعد أن تصلحه ؟!
أم تعطي مكانها للفرح والعزاء ؟
نقطة أخري وهي المثاليات ...
حسن وواجب أن ندعو إلى المثاليات . ولكن يجوز أن يوصلنا هذا إلى الكآبة المستمرة ، بحجة أننا لم نصل بعد إلى الكمال المطلوب ، ومازلنا في الموازين إلى فوق فطريق الكمال طويل ، والسلوك فيه يحتاج إلى جهاد وصبر .
ويليق بنا أن نفرح بكل خطوة نخطوها في الطريق ، وليس أن نحزن ونكتئب بسبب الخطوات الباقية التي علينا أن خطوها فيما بعد ..
ولا تظن أن مثل هذا الفرح ، فيه كبرياء أو ارتفاع قلب ، لأنه فرح بالله الذي أعاننا ، وليس بقدرتنا ومجهودنا البشري .
وبدلاً من أن نكتئب على ما ينقصنا نصلي لكي يعين الله ضعفنا ويكمل نقصاتنا .
إن الكآبة لا تعالجنا ، بل قد تعطلنا وقد يتخذها العدو لالقائنا في اليأس ..
هنا ونتكلم عن العلاج الروحي .
العلاج الروحي للـكـآبـة
الإنسان الروحي هو بعيد تماماً عن الكآبة المرضية . قد يكتئب أحياناً كآبة روحية أو طبيعة ، إلى حين . أما الكآبة المرضية ، فعنده حصانة ضدها ، مبنية أساساً على روحانية سليمة ، نذكر من خصائصها سبع فضائل هامة هي :
الإيمان بالله وعمله ، والرجاء ، والقناعة أو التجرد ، حياة الشكر ، الفرح والبشاشة ، الواقعية ، الصبر والاحتمال وسنحاول أن نتكلم بإيجاز عن كل من هذه الفضائل ، وعلاقتها بعلاج الكآبة ، أو بالقوية منها .
الإيمان كعلاج ووقاية
نحن نؤمن أن الله ضابط للكل ، يدبر هذا الكون ، ويهتم بأودلاه ، في محبة لهم ، وعناية بهم ، قد نقشهم على كفه ( إش49 : 16 ) وشعره واحدة لا تسقط من رؤوسهم بدون إذنه ( لو21 : 18 ) وإن سمح بضيقات تصيبهم ، فلابد أن ذلك من أجل خير في المستقبل . وكما قال الكتاب :
" إن كل الأشياء تعمل للخير للذين يحبون الله " ( رو8 : 28 ) .
ولذلك قال القديس يعقوب الرسول : " احسبوه كل فرح يا أخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة " ( يع1 : 2 ) .
إذن التجارب والضيقات بالنسبة إلى المؤمن - تنشئ فرحاً لا حزناً ، متذكراً قول الكتاب إنه :
" بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله " ( أع14 : 22 ) .
وهو بهذا يري أنه يدخل في شركة آلام المسيح ( في3 : 10 ) وينفذ وصيته في حمل الصليب ، إذ قال : " من لا يحمل صليبه ويتعبني فلا يستحقنى " ( مت10 : 38 ) وكذلك فهو ينفذ وصيته في الدخول من الباب الضيق ، لأنه " ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه " ( مت7 : 14 ) .
لذلك فالمؤمن الحقيقي لا يحزن إن صادفته مشاكل ، بل على العكس يحزن إن كان طريقه خالياً من الضيقات التي هي علامة من علامات الطريق . فهو إن عاش في راحة دائمة ، يقول في شك : لعلني أخطأت الطريق .
المؤمن الحقيقي يفرح بالضيقات ، كقول الرسول : " لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح " ( 2كو12 : 10 ) ويشعر كلما أصابته ضيقة انه يسير في طريق الرسل والآباء ، والأنبياء الذين كانت حياتهم هكذا ..
يفرح بطريق أيوب ولعازر المسكين ، لأن تعزيات كثيرة في انتظاره ،
لذلك فإن المؤمن الحقيقي يرفض أن يستوفى أجره على الأرض ، أو أن ينال خيراته ههنا ، واضعاً آماله كلها في " المدينة التي لها الأساسات ، التي صانعها وبارئها الله " ( عب11 : 10 ) .
ويحتمل كل ذلك في فرح ورضي .
يحتاج في كل ذلك أن يقرأ عن محبة الرب وحنوه وإشفاقه ، مع أمثلة كثيرة عن معاملاته لأولاده ، كإشفاقه ، على إيليا والأرملة أثناء المجاعة ( 1مل17 ) وإرساله ملاكاً لدانيال سد أفواة الأسود ، وإنقاذه للفتية في أتون النار .
وليقرأ قصصاً في رعاية الله للآباء السواح والمتوحدين ، وللشهداء والمعترفين ، وقصصاً في قبول الله للتائبين .
وإلى جوار هذا الإيمان ، فليكن هناك رجاء في عمل الله معه في المستقبل ، وهنا نطرق نقطة أخري وهي :
الرجاء كعلاج للكآبة
ونقصد بالرجاء النظرة المستبشرة من جهة المستقبل ، وعدم الاستسلام لليأس مهما كانت الظروف ضاغطة ومها كانت الحلة سيئة ..
إن الذي يعيش في الرجاء ، لا تزعجه الضيقة الحاضرة ، إنما يبهجه الحل القريب لهذه الضيقة ، وهكذا يكون الإنسان دائم التفاؤل ، واثقاً تماماً أن كل خطأ لابد سيصحح ، وكل باب مغلق لابد سينفتح .
طبيعي أن اليأس يلد كآبة ، والكآبة هي أيضاً تلد يأساً .
وكل منهما يكون بالنسبة إلى الآخر سبباً ونتيجة ، أما المؤمن الحقيقي فهو بعيد عن كليهما .
بالرجاء يري الحل قائماً أمامه ، وبهذه الرؤية يفرح قلبه ويسر ، وكما قال الرسول :
" فرحين في الرجاء " ( رو12 : 12 ) .
وفي الفرح بالرجاء ، وبالحل الآتي عن طريق الإيمان ، يمكنه أن يصبر ويحتمل .
الصبر كعلاج
الذي يريد حلاً سريعاً لمشاكله ما أسهل أن يقع في الكآبة كلما وجد الأيام تمر به والحالة كما هي في ضيقها .
أما الإنسان الواسع الصدر ، فيعطي مدي زمنياً للمشكلة لكي تنحل .
ويكون مستعداً للصبر ولو إلى سنوات طويلة ، واثقاً بأن الرب سيأتي ولو في الهزيع الأخير من الليل . ولا ينتظر وهو متضايق كئيب ومنحصر في نفسه ، إنما وهو راضي القلب ، في ثقة كاملة بعمل الله .
يقول لنفسه : لابد أن الرب أن الرب سيأتي ولا يهمني متى ؟ إنما الذي يهمني هو ثقتي بمجيئه .
وهو يري أن الوقت الذي يختاره الله ، هو أفضل الأوقات ، هو الوقت المناسب الذي تحدده حكمة ، وبرضاه حسن تدبيره الإلهي .. لهذا يقول المزمور :
" انتظر الرب ، تقو وليتشدد قلبك وانتظر الرب " ( مز27 : 14 ) .
وتسأل إلى متي فيجيبك : " انتظرت نفسي الرب من محرس الصبح حتى الليل " ( مز130 ) . تقول : وإذا لم يكن عندي صبر ؟ أقول لك : دع المشاكل تعلمك الصبر . وأيضاً فإن الإيمان والرجاء يدربانك على الصبر .
وإن لم تصبر ، ستتعب نفسك وتكتئب ..
الصبر أفضل ، وليكن صبراً في ثقة وفي يقين بعمل الرب ..
ننتقل إلى نقطة أخري في معالجة الكآبة وهي :
القناعة أو التجرد
فضيلة التجرد تقضي على الكآبة تماماً ... لأن الذي تخلص من جميع الرغبات والشهوات ، على أي شئ سوف يكتئب ؟. .. أنه لن يجد مطلقاً سبباً يدعو إلى الاكتئاب .؟ ولهذا نسمع في كل قداس قول الكتاب :
" لا تحبوا العالم ، ولا الأشياء التي في العالم .. العالم يمضي ، وشهوته معه " ( 1يو2 : 15 ، 17 ) .
كل أمور العالم زائلة ، بما في ذلك الكرامة ، والصيت والغني والسلطة .. فإن ضاع من إنسان مؤمن شئ من هذا أو ما يشابهه ، فلن يحزن بسببه أو يكتئب .. بل أن القديس بولس الرسول يقول :
" خسرت كل الأشياء ، وأنا أحسبها نفاية " ( في3 : 8 ) .
وطبيعي أن الذي يحسب كل شئ نفاية ، لن يكتئب بفقدان شئ ، وكما قال القديس أوغسطينوس : [ جلست على قمة العالم ، حينما أحسست في نفسي أني لا أخاف شيئاً ولا أشتهي شيئاً ] ..
فإن لم تكن عند الإنسان فضيلة التجرد فلتكن عنده على الأقل فضيلة القناعة .
فيكتفي بما هو فيه ، ولا يطلب ما هو أكثر ، أو ما هو أفضل ، إلا في حدود ما يسمح له الله به ...لا يرتئي فوق ما ينبغي .. بل يحيا " حسبما قسم الله له نصيباً من الإيمان " ( رو12 : 3 ) .
مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يكتئب بل يقول في رضي :
مادم الله المحب يرضي لي بهذا الوضع ، فأنا أيضاً راض به ..
وبهذا الشعور ، لن يتخلص فقط من الكآبة ، بل بالأكثر يصل إلى حياة الشكر ..
حياة الشكر وقاية وعلاج
الإنسان المتدرب على حياة الشكر لن يصاب إطلاقاً بالكآبة ..
ولهذا يقول لنا الرسول : " شاكرين في كل حين ، على كل شئ " ( أف5 : 20 ) ويقول لنا الرسول : " افرحوا كل حين ... اشكروا في كل شئ " ( 1تس5 : 16 : 18 ) .
وهكذا تضع لنا الكنيسة صلاة الشكر في مقدمة كل صلاة ، لا لكى نصليها فقط ، بل لكي نحيا حياة الشكر ...
نشكر الله عل كل حال ، ومن أجل كل حال ، وفي كل حال .. حتى في وفاة أي حبيب نبدأ الصلاة عليه بالشكر .
وإن كنا نشكر ، فلماذا نكتئب ؟
يقيناً أن هناك من يصلي هذه الصلاة دون أن يحياها ..
عود نفسك إذن على حياة الشكر وفي كل ما يمر بك من أحداث ، قل أشكرك يارب . لابد أن وراء هذا خيراً ، وإن كنت لا أعلم ..
حتى أن كان هناك شر ، ستحوله أنت إلى خير : يا صانع الخيرات يا محب البشر ..
الإنسان الذي يحيا في الشكر ، هو بلا شك إنسان مؤمن .. مؤمن بخيرته الله الإلهية ، وهكذا انحدر إلى الكآبة .. يكون إيمانه قد اهتز ..
أما الذي يشكر على كل شئ ، فإنه ليس فقط يرتفع فوق مستوي الكآبة ، وإنما أكثر من هذا يصل إلى حياة الفرح .
الفرح علاج ووقاية
المؤمن الذي يحيا في حياة الفرح بالرب ، لا تستطع الكآبة أن تصل إليه .
هو فرحان لأنه وجد الرب . ومع الرب أصبح لا يريد شيئاً ، ولا يكتئب بسبب شئ يكفيه الله
الذي تعود حياة الفرح ، يهرب بطبيعته من الكآبة وكل أسبابها .
وإن صادف شيئاً متعباً ، لا يفكر فيه كثيراً ، ولا يفحص أعماقه المحزنة أنما يلقيه جانباً ، حتى لا يعكر فرحة الرب .
إنه يري الكآبة حرباً من الشيطان ، يحاول بها أن ينزع فرحه الإلهي منه ليلقيه في الحزن
وهو لا يستسلم لحرب الشيطان ، بل يتمسك في إصرار بقول الرب لتلاميذه : " ولا ينزع أحد فرحكم منكم " ( يو16 : 22 ) .
لذلك عيشوا في حياة الفرح ، والبشاشة ، وابعدوا عن التدين المريض الذي يدعوكم إلى الكآبة .
اجمعوا آيات الكتاب التي تدعو إلى الفرح ، احفظوها عن ظهر قلب ، ورددوها بين الحين والآخر . واسترجعوها في ذاكرتكم كلما أحاطت بكم الضيقات وكلما حاربتكم الكآبة .
وثقوا أنكم بالفرح والبشاشة تقدمون مثالاً طيباً عن التدين السليم وثمره في القلب ..
وهكذا ينجذب الناس إلى الدين ، الذي استطاع أن يجعل حياتكم سعيدة . أما التدين الذي يلقي صاحبه ، فإن الناس يخافونه ويهربون منه ، لئلا يصيبهم منه ما أصاب غيرهم ..
وحينما أقول الفرح ، لا أقصد الفرح العالمي ، بل الفرح بالرب ، وهو فرح أعمق وأصدق .
البشاشة أيضاً ، ليست هي ما في أهل العالم من انحلال أو استهتار ، وإنما هي نور الفرح الإلهي ، والسلام الداخلي ، والإيمان ، يشع على الوجه فيبسط ملامحه ، ويعلن أنه سعيد بالحياة المقدسة التي يحياها ..
والإنسان البشوش دائماً يتعزى الناس بمنظره في وسط الضيقات ، وهو كلما أحاطت به مشكلة ، يتركها خارج قلبه ، ولا يسمح أن تدخل داخل قلبه ..
هو بعيد عن التعقيد ، يأخذ كل المشاكل ببساطة قلب ، وإن أحاطت به مشكلة ، يعمل على حلها بقدر ما يستطيع ، ويقول أنا ألقيتها بجملتها على الله ، ويستمر في فرحه .
نقطة أخري في علاج الكآبة وهي :
الواقعية
ونقصد بها أن تعيس في الواقع وليس في الخيال ، ولا في مثاليات خيالية ..
لا تتصور وضعاً خيالياً لتعيش فيه أو مثاليات خيالية ليعيش فيها غيرك فإن لم تجد هذا ولا ذاك ، تلقي بنفسك في الكآبة ..
إن مات لك حبيب أو إن فاتتك فرصة ، أو إن فقدت شيئاً ، أو إن أصابك مرض ، عش في واقعك .
أعمل ما عليك ، واترك الباقي لله ولا تعش في كآبة ، متخيلاً الوضع المثالي الذي كان ينبغي أن تكون فيه ، لنفرض أن إنساناً أصيب في حادث وبترت له ساق أو ذراع ، ايحيا في كآبة طول عمره أم أنه يرضي بواقعه ، ويتأقلم حسب الوضع الذي هو فيه .
كذلك لا تفترض مثالية خيالية في جميع الناس ، ولا حتي في خدام الكنيسة ، افترض الواقع ،
أنهم بشر لئلا إذا صدمت بمثالية أحدهم ، تتحطم وتتعب وتكتئب ..إن أخطأ منهم أحد ، صل من أجله ، ولا تتعقد بسببه . إن الكتاب قد شرح لنا أخطاء رسل وأنبياء وقديسين ، وبقوا في حكم الله كما هم ، على الرغم من أخطائهم .
أخطاء الناس اعتبرها طبيعية ، جزاءاً من طبيعة الإنسان المائلة ، ولا تدعها تحطم نفسيتك .
كثير من الناس يتعبون من معاملات الآخرين وأخطائهم ، كما لو كانوا يفترضون في هؤلاء الآخرين عصمة لا تخطئ ، بينما العصمة هي لله وحده ..
ننتقل إلى نقطة أخري في علاج الكآبة وهي :
علاج الكآبة داخل التدين
ومن أمثلة ذلك سوء الفهم لآيات يفهم منها أن خطاياه لا تغفر .
وهذه الآيات تحتاج إلى فهم سليم إذا لم يستطيع أن يصل إليه ، عليه أن يسأل العارفين ، وإن لم يقنعه أحدهم ، يسأل غيره ، ولكن لا يدفعه كل ذلك إلى الكآبة ، ومن أمثلة هذه الآيات :
1 - خطية التجديف على الروح القدس :
ربما يصل إنسان إلى كآبة مرضية ، شاعراً أنه هالك ولا رجاء فيه ، لوقوعه في خطية التجديف على الروح القدس وهذا نقول له :
إن الذين أنكروا لاهوت الروح القدس لما تابوا قبلتهم الكنيسة .
فليس التجديف هو أن يأتيك فكر رديء من جهة روح الله ، أو أن تلفظ بكلمة إزدراء عليه .. فكل ذلك يمكن مفغرته ، والخطية الوحيدة التي بلا مغفرة ، هي التي بلا توبة .
والتجديف على الروح القدس هو رفض مدي الحياة لكل عمل للروح القدس في قلبك . وبهذا لا تتوب ، لأن التوبة تأتي بعمل الروح .
ومع عدم التوبة يكون عدم المغفرة . إما إن تبت ولو بعد عشرات السنين ، لا يكون رفضك السابق تجديفاً لأنه ليس مدي الحياة .
2 - مثال آخر يتعب البعض ، وهو قول الكتاب عن عيسو إنه :
" لم يجد للتوبة مكاناً ، مع أنه طلبها بدموع " ( عب12 : 17 ) .
وهذا الأمر ليس عن خطية معينة ، وإنما عن بيعه البكورية ، وكان البكر سيأتي من نسله المسيح ، فأصبح المسيح سيأتي من نسل يعقوب الذي أخذ البكورية ، ومن المحال أن يأتي من نسل يعقوب وعيسو معاً .
هذا هو الأمر الذي تاب عيسو عنه ولكن بعد فوتا الفرصة ..
أما كل توبة أخري ، فلها مغفرة والسيد المسيح يقول : " من يقبل إلى لا أخرجه خارجاً " ( يو6 : 37 ) . فمتي أقلبت إليه تأبئاً لا يمكن أن يطرحك خارجاً ، حسب وعده الإلهي .
3 - ومن الأخطاء التي يقع فيها البعض وتوصل إلى الكآبة ..
التركيز على ثقل الخطية وليس على محبة الله ..
وقد رد الله على ذلك بقوله : " إن كانت خطاياكم كالقرمز ، تبيض كالثلج " ( إش1 : 18 ) . وقد قال أحد الآباء إن كل خطايا البشر بالنسبة إلى حنان الله ورحمته ، مثل قطعة من الطين ألقيتها في المحيط ..
لذلك على الوعاظ والمرشدين إن وجدوا إنساناً على حافة اليأس ، آلا يركزوا على بشاعة الخطية ، بل على حنان الله وإشفاقه ويضربون أمثلة من مغفرته للخاطئين ..
4 - مما يجلب الكآبة أيضاً :
الحديث عن الكمال الصعب الوصول إليه ..
إلى جوار الحديث عن الكمال ، ينبغي الكلام عن أن الله يقبل كل عمل صغير مهما كان تافهاً ، كامتداحه كأس الماء البارد ، وذهاب ملكه التيمن إلى سليمان وفلسي الأرملة .
كما أن الكمال يصل إليه الإنسان بالتدريج .. والله يقبل كل خطوة ..
5 - كذلك مما يدفع البعض إلى الكآبة محاولة تقليد دموع القديسين .
ومع امتداح دموع التوبة والحب .. فإن القديسين كانت لهم بشاشة ، واضحة في حياة القديس أنطونيوس ، والقديس سرابيون الكبير والقديس مقاريوس الاسكندري .
وبعد
نحن ننصح الجميع بعدم التطرف في حياتهم الروحية ، ونقول لهم :
هذا العالم الحاضر لا يخلو من المتاعب فلنعش في واقعية ، وندرب أنفسنا على الفرح مهما كانت ضيقاته .
ولا نبالغ في حجم المشاكل ولا في صعوبة حلها ، فلكل مشكلة حل .
وإن وقع أحد في الكآبة ، عليه أن يخرج منها ، مهما كان سببها . وترك الكآبة في نفسه يتعبه وبمرضه ويعطل حياته الروحية ، ويعوق حياته الروحية ، ويعوق صلته بالمتمع المحيط به .
وترك النفس في الكآبة يتعبه ويمرضه فلا داع للبقاء فيها .
الفصل الثالث عشر
محـبــة المديح والكرامة
الذين لا يحبون المديح
محبو المديح ( 6 أنواع )
شرور تنتج عن محبة المديح
علاج محبة المديح والكرامة
بطلان الكرامة العالمية
المديح ليس دائماً
التخلص من إعجابك بنفسك
تذكر خطاياك
تذكر درجات أعلي
تذكر عمل النعمة معك
احتمال مذمة غيرك
اخفاء الفضائل
الهرب من محبة الرياسة
مثال القديس بنونيوس
تحدثنا في مقال سابق عن محبة المظاهر الخارجية . ومحبة المظاهر ناتجة عن محبة المجد الباطل ، وفي مقدمتها محبة المديح والكرامة . وهنا نوجه النظر إلى مبدأ هام وهو :
المديح شئ . ومحبة المديح شئ أخر وقد يمدح الإنسان ولا يخطئ . ولكنه إذا أحب المديح يكون قد أخطأ .
لاشك أن المتفوقين والبارزين وأصحاب المواهب قد مدحوا في حياتهم والرسل والأنبياء والأباء قد سعي إليهم المديح أيضاً دون أن يخطئوا حينما سمعوه والقديس بولس الرسول قال عن خدمته وخدمة رفقائه : " بمجد وهوان ، بصيت حسن وصيت رديء " ( 2كو6 : 8 ) .
إذن نالوا مجداً وصيتاً حسناً ، ولم يخطئوا في ذلك .
والسيد المسيح نفسه كثيراً ما كانوا يمدحونه ، ويبهتون من كلامه وتعليمه ويقول بعضهم لبعض ، ما رأينا قط مثل هذا ولكنه ما كان يهتم بهذا ، بل كان يقول : " مجداً من الناس لست أقبل "
( يو5 : 41 ) .
الذين لا يحبون المسيح
1 - نوع يسمعه : وكأنه لم يسمع .. وكما قال القديس مقاريوس الكبير :
[ لا يبالي بكرامة ولا بهوان ] .. مات عن كليهما ..
2 - نوع آخر يهرب من المديح الذي يأتي إليه ، سواء كان مديحاً من الناس أو من داخل نفسه ، أو من الشيطان .
3 - والنوع الثالث ، من مبالغته في كراهية المديح ينسب إلى نفسه عيوباً ليست فيه ..
كبعض القديسين الرهبان الذين كانوا يتظاهرون بالجهل أو بالخيل أو بأهمال العبادة ، ومثل تلك القديسة الراهبة التي قال عنها القديس الأنبا دانيال : [ تعالوا لأربكم عظم فضائل هذه القديسة التي تدعونها " الهبيلة " ! ]
وهذا النوع كان يفرح بكلمة المذمة حينما يسمعها .
ويمثل هذه المذمات ، كان يغطي فضائله فلا تظهر ، مكتسباً فضيلة أعظم هي الاتضاع .
محبو المديح
أما محبو المديح فهم على درجات متفاوتة في الخطأ ، نذكر من بينها :
النوع الأول
هو الذي يأتيه بالمديح ، دون أن يسعي إليه . ولكنه يفرح بهاذ المديح ويبتهج .
وهذا النوع على درجات :
أ - إنسان يسر بالمديح ، ويسمعه صامتاً ومسروراً في داخله ، دون أن يشعر به أحد .
ب - وإنسان آخر يسمع المديح ويتسبب في الاستزادة منه . فيقول بعض العبارات التي تجعل من يمدحه يزيد في مدحه . كأن يجره من موضوع المديح ، إلى موضوع آخر يستحق المديح أيضاً .. أو يذكره بتفاصيل ق نسيها تكون موضعاً المديح جديد .
ج - وهناك إنسان يحب المديح ، ويسمعه هو مسرور . ولكنه يتظاهر برفضه لهذا المديح ، متمنعاً بأسلوب يجعل مادحه يزيد في مدحه . وقد يعيب هذا الإنسان في نفسه ، لكي يدافع المادح عنه بعمق أكثر ! وهنا يخلط محبة المديح بالرياء أيضاً .
النوع الثاني
وهو أصعب من سابقه قليلاً تمثله حال إنسان لم يأته المديح . ولكنه يشتهيه ويحب أن يسمعه . وفي اشتهائه يسلك أحد أن سمعه . وفي اشتهائه يسلك أحد طريقين :
أ - يشتهي المديح ، ويظل صامتاً حتى يصله ، متحيلاً أسباباً لذلك ... كأن يبدأ الحديث في موضوع معين له فيه موقف يستحق المديح ، ويتدرج في الكلام حتى يصل إلى هذه النقطة ويترك غيره يركز عليها .
ب - حالة أخري . وهى إنسان يشتهي المديح ، ويعمل أعمالاً صالحة أمام الناس لكي ينظروه وهذا ما تكل الرب عنه في ( مت6 ) .
النوع الثالث
وهو أصعب من النوعين السابقين :
تمثله حالة إنسان يحب المديح ويشتهيه ، دون أن يصل إلى ذلك . فيتحايل بأسباب توصل سامعه إلى مدحه ومع ذلك لا ينال ما يشتهي .
فيكره الشخص الذي لا يمدحه ، ويعتبره خصماً وعدواً ، وينشأ بينهما نوع من القطعية !
فعلي الرغم من أن هذا الإنسان لم يغضبه إلا أنه في نفس الوقت لم يجامله ببعض الكلام الطيب ، أو لم يقابله مقابلة يتوقعها ، أو بدرجة معينة من الاحترام !
هذا الذي يكره من لا يمدحه ماذا يفعل إذن بمن ينتقده ؟!
إذا كان الساكت فقط ، دون أن يمدحه ، يقابل منه بهذه الكراهية ، فكم يكون شعوره إذن تجاه ناقديه ؟! لاشك أن هذا النوع لا يحيط نفسه إلا بأصدقائه ومحبيه ومريديه ، بالصنف الذي يريحه ...
النوع الرابع
وهو نوع تجمع فيه كل الأنواع ويزيد عليها أيضاً ، فهو يشتهي المديح ، ويسر عدما يسمعه ويكره من لا يمدحه . ولا يكتفي بكل هذا ..
إنما يمدح نفسه ، إن لم يجد أحداً يمدحه .. ويظل يحكى أمام الناس أعماله الفاضلة .
إنه يتحدث كثيراً عن نفسه ، ويبرز ذاته في كل مناسبة . ويدخل في كلامه عنصر الافتخار ، حتى لو بدأ أنه يسرد مجرد وقائع .
النوع الخامس
وهو أصعب من سابقه بكثير ، فالنوع السابق قد افتخر بالأعمال التي قام بها فعلاً . كشفها أمام الناس لكي يروها ويقدروها .
ولكن النوع الأصعب هو هذا :
إنسان يمتدح نفسه بما ليس فيه فيذكر عن نفسه فضائل ليست له ، أو يبالغ في مدح نفسه ، أو ينسب إلى ذاته فضائل أو أعمال غيره .
وعلى عكس هذا المثال الذي ذكرناه تحضرني قصة راهب قديس كان ينكر ذاته جداً . فحينما كان يعمل عملاً حسناً من أجل الدير لاشك أن الكثيرين سيمدحونه علية ، كان يشرك أحد الرهبان معه ، ولو في جزء طفيف من العمل ، أو في نهاية العمل تقريباً . فإذا ما سئل عن العمل بعد نهايته ، ينشب الفضل لهذا الراهب الذي ساعده ، ويقول : [ أبونا فلان ، البركة فيه ، عمل وعمل .. ]
مثال آخر ، نذكره في عدم التركيز على الذات في المديح ، وهو مثال اللاعبين الذين يلبعون بروح الفريق Team Work .
فلو أن كل لاعب خذ الكرة مثلاً وظل يجري بها وحده ، لكي يصيب الهدف بنفسه ، وينال فخر ذلك لا نهزم الفريق لا محالة . ولكننا نرى أن اللاعب يمرر الكرة إلى غيره ، وهذا يمررها أيضاً إلى غيره لكي يصيب الهدف .. المهم أن الفريق هو الذي ينتصر ، وليس المهم بواسطة من ! هنا إنكار الذات الذي هي عكس محبة المديح .
أما الذي يركز على نفسه ، ويتجاهل دور غيره ، فإن يتجاهل عمل النعمة معه ، ومعونة الله له أيضاً .
ففي كل عمل حسن يعمله ، ينسب كل شئ إلى نفسه ، ولا يذكر اسم الله إطلاقاً ، بعكس يوحنا المعمدان الذي كان يخفي ذاته ليظهر الرب ، وبعكس قول المزمور :
" ليس لنا يارب ، ليس لنا ، لكن لاسمك أعط مجداً " ( مز115 : 1 ) .
يقينا أن كل عمل فاضل قد عملناه ، لم نعمله وحدنا بدون معونة إلهية ! فهوذا الكتاب يقول : " إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناءون " ( مز127 : 1 ) .
إن نجاح أي عمل ، لا يتوقف على عاملة فقط ، فقد تكون هناك ظروف خارجية كثيرة ساعدت على ذلك ، ويد الله التي أعانت أو التي مهدت هذه الظروف ..
النوع السادس
وهو أسوأ الأنواع كلها .
فبالأضافة إلى أنه يجمع كل ما سبق من أنواع ، إلا أنه يزيد في أنه :
قد تزيد محبة المديح عنده ، إلى أنه يحب أن يكون المديح له وحده فقط .. !
ولذلك فإنه يتضايق جداً إذا ما مدح أحد غيره . يتضايق من المادح ومن الممدوح ويحسد هذا الممدوح ، ويغير منه ، وقد بوجه إليه عيوباً ، يحقد عليه .
بعد أن تحدثنا في إيجاز شديد عن هذه الأنواع الستة من محبي المديح ننتقل إلى الحديث عن :
شرور تنتج عن محبة المديح والكرامة
إنها كثيرة جداً . وربما نتعرض في هذا المقال إلى أربعة عشر نوعاً . وهي :
1 - الرياء ..
محب لمديح يصير إنساناً مرائياً ، يكون غرض الخير عنده هو أن يراه الناس ، دون أن يكون للخير قصد في ذاته ، فهو لا يحب الخير لذاته ، وإنما حباً للظهور ..!
2 - الغضب وعدم الاحتمال ..
محب المديح دائماً يخفي عيوبه . وهكذا بالضرورة لا يحتمل أن ينسب إليه عيب .. فهو يكره الانتقاد . وإذا انتقده أحد ، لا يطيق ذلك مطلقاً . وقد لا يقف الأمر عند حدود عدم الاحتمال ، بل ربما يتطور إلى الغضب والهياج والنرفزة والثورة ..
إنه يحب أن تكون نفسه جميلة في عينيه باستمرار . فمن يكشف له عيوباً في نفسه ، يتعرض لغضبه ، صوناً لجمال هذه النفس .
وهنا نشير إلى أن أنواعاً كثيرة من الغضب ، يكون علاجها بعلاج محبة المديح والكرامة ، التي فيها يعتبر الإنسان كل نقد وتوجيه كأنه إهانة وقد يتطور الأمر إلى :
3 - الكراهية :
فلا يكره فقط من ينتقده ، وإنما قد يكره أيضاً من لا يمتدحه ، وقد يكره من يمدح شخصاً آخر غيره ، وبخاصة لو كان هذا المديح خاصاً بعل اشترك هو فيه ، ويحب أن يستأثر بالفخر كله لنفسه !
4 - الحسد :
الذي يحب المديح والكرامة ، يحسد كل من يناله مديح وكرامة ، ويود لو كان يأخذ كل ذلك بدلاً منه . إذ هو لا يحب أن يكون أحد أفضل منه !
5 - إدانة الغير والتشهير به :
وإذ هو يحب أن يكون متفوقاً على الكل فلكي يكون مشاركوه أقل منه ، قد يعيب شخصايتهم وأعمالهم . وبهذا نراه دائماً ينتقض من قدر غيره لكي يكون هو الأفضل بالمقارنة .
6 - وبذلك يخسر محبة الناس :
إن الناس يكرهون الافتخار والتباهي ففيما يسلك محب المديح بهذا الأسلوب يخسر تقدير الناس . وفيما يشهر بغيره ، ويفضل ذاته على غيره ، يخسر محبة الناس أيضاً .
7 - ومحب المديح يحب المتكآت الأولي :
يحب العظم ، يحب الظهور ، يحب أن يكون الأول ، وأن يكون الظاهر موضع اهتمام الناس ، وموضوع حديثهم وكل هذا يجعله يدخل في مناقشات ومشاحنات مع غيره . وكل من يراه ظاهراً ، يحاول أن ينزله ، ويقول عنه إنه رديء !
8 - وقد يقع في الكذب أيضاً :
لا مانع عنده من الكذب ، إن كان هذا يوصله إلى المديح . فهو ق يكذب فيما ينسبه إلى نفسه من فضائل ، وفي إعطاء الآخرين صورة مثلي عن ذاته ليست هي له . وهو قد يكذب فيما ينبه إلى غيره من عيوب .. ويكذب بأن ينسب إلى نفسه مواقف ، الفضل فيها للغير .
9 - وقد يقوم بمؤامرات ودسائس :
وذلك ضد من يراهم منافسين له في الكرامة ، حتى ينزعهم من طريقة ، ويبقي الفخر كله له وحده .
10 - وربما يمتلئ بالشر :
فيشتهي موت غيره لكي يأخذ مكانه ! وقد يشتهي خراب الآخرين وضياعهم لكي يأخذ هو مركزهم . وقد يشتهي بالنسبة إلى زميل له ، أن يغضب عليه رؤساؤه ، أو أن توجه إليه تهمة ، لكي يظهر هو ، ويخلو الجو له .
وقد لا يصل إلى المستوي الذي يلفق فيه تهماً ضد غيره ، ولكنه يسر في داخله إذا وجهت هذه التهم من طريق آخر .. !
11 - ومحب المديح كثيراً ما يصبح مشكلة للمجتمع الذي يعيش فيه :
فهو دائماً عبء على هذا المجتمع وتصرفاته توقع الآخرين في الإدانة أو في الاشمئزاز . وسعيه لأن يصبح كل شئ في يده ، وكل مديح موجه إليه ، يجعله لا يعطي فرصة لغيره ، فيتعب كل من يشترك معه في عمل .
وعدم قبولة النصح والتوجيه يجعله عقدة صعبه الحل أمام من يتعاملون معه .
وهو قد يلغي أحياناً من الداخل ، ولا يستطيع أن يقدم سبباً لغليانه .
فهو مريض ، لا يمكن أن يفصح عن حقيقة مرضه . وهو أيضاً مريض يرفض كل علاج . ولا يشعر في داخله أنه مريض .
وهو سريع الحساسية والتذمر .
لا يحتمل أحداً . وقليلون هم الذين يستطيعون احتماله . ربما لو دخل زائر وسلم على غيره بحرارة أكثر منه يتضايق .. !
12 - ومحب المديح قد يتحول إلى إنسان متلون غير ثابت :
ليس له خط واضح يسير فيه ، إنما هو يسير مع كل خط يوصله إلى المديح . أنه يتلون مع الناس كيفما كانت صورهم .
فهو مع الشخص الوقور ، وقور ومتزن . وهو مع محب الفكاهة ، إنسان خفيف الظل إلى أبعد حد . هو مع محب الصمت ، يصمت ومع المتكلمين يتكلم ، ليظهر أنه واسع المعلومات .
إذا وجد الدفاع عن شخص يكسبه مديحاً ، يدافع عنه .
وإن وجد الكرامة في مذمة هذا الشخص يذمه ويبالغ في ذلك !
يدافع عن الحق ، إن كان هذا يضعه في موقف البطولة ، أما إذا كان الدفاع يسبب له ضرراً ، أو يعرضه إلى ذاته تنقص من قدره ، فإنه يقول لنفسه : " يصمت الحكيم في ذلك الزمان لأن الأيام شريرة " ( عا5 : 13 ) .
إنه يري المدح بأية الطرق ، حتى لو كانت متناقضة !
واحد محب للنسك ، لا يأكل أمامه وآخر يحب الممتعة ، يقدم له أصنافاً كثيرة على المائدة .
إنه يلبس لكل حالة لبوسها ، ويتخذ شكلاً يتفق وحالة الشخص الذي يتعامل معه ، لكي ينال رضاه وثقته ومدحه ، ويكون في وضع كريم أمامه ! وماذا أيضاً ؟
13 - ومحب المديح قد يقع في الغطرسة والكبرياء ..
مع كل ما تسببه الكبرياء من نتائج سيئة .. وفي نفس الوقت إن وجد أن التواضع يهبه هذه العظمة ، ويكون به مكرماً أمام الناس ، لا مانع من أن يبدو متواضعاً ، لكي يمدح منهم !
14 - ومحب المديح يخسر حياته الروحية خسراناً كاملاً ،
ويخسر السماء والأرض :
يخسرها بكل هذه الأخطاء السابقة التي يقع فيها . ويخسرها لأن الفضائل التي يعملها تفقد روحانيتها لانحراف الهدف منها إلى محبة المديح ، وهكذا لا تصبح له فضيلة على الإطلاق .
إنه مهما عمل ومهما تعب ، يقف أمام الله صغر اليدين ، ولا جزاء له عند الله ، لأنه أخذ أجرته على الأرض .
باع كل أعماله بالكبرياء والمجد الباطل ، وبالمديح والكرامة . ويقول له أبونا إبراهيم : " إنك استوفيت خيراتك في حياتك " ( لو16 : 25 ) . إنك لم تفعل فضيلة واحدة من أجل الله .
فيفقد أبديته كما يفقد الأرض أيضاً وقد يفقد الكرامة أيضاً .
فهو يفقد الأبدية ، بسبب كل الخطايا التي يقع فيها . وهو أيضاً يفقد محبة الناس واحترامهم . ويعيش على الأرض شقياً ، يسعى بكل الطرق إلى المديح ، وينافس ويحسد ، ويفقد سلامه الداخلي .
هو قد يفقد الكرامة أيضاً ، حسبما قال مارإسحق عبارته الجميلة :
[ من سعي وراء الكرامة ، هربت منه ومن هرب منها بمعرفة ، سعت وراءه ] .
عــلاج محبة المديح والكرامة
سوف نضع أمامك بمشيئته بعض نصائح وتدريبات ، تختار منها ما يناسبك ، لأن أسباب محبة المديح ومظاهرها تختلف من شخص إلى آخر فربما ما يناسب غيرك من النصائح لا يناسبك أنت .
وأول نصيحة نقولها لك هي :
1 - بطلان الكرامة العالمية
لابد أن تعلم جيداً أن مديح الناس لا يوصلك إلى ملكوت الله .. بل قد يعطلك عنه .
أنت لا تدخل الملكوت برأي الناس فيك ، بل برضي الله عنك .
وما أكثر زيف مديح الناس ..
البعض قد يمدحك بسبب المجاملة والبعض بسبب التشجيع ، والبعض بسبب أدبه الخاص . والبعض قد يمدحك لغرض معين في نفسه ، أو بسبب التملق ، أو يمدحك لمجرد إرضائك إذ يعرف عنك أنك تحب هذا الإطراء .. !
فلا تغتر بهذا الإطراء ، ولا تصدق كل ما يقال فيك من مديح . ولا تلتذ به سواء كان حقاً أو باطلاً .
ولا تجعل هذا المديح يسبب لك لوناً من المجد الباطل ، فهذا خطر على أبديتك . وقي مع السيد المسيح له المجد :
" مجداً من الناس لست أقبل " ( يو5 : 41 ) ..
وحتى إن كنت قد عملت أعمالاً حسنة ، قل لنفسك : ماذا يفيدني أن آخذ عن كل تعبي أجراً على هذه الأرض الفانية . مديحاً ، أو كرامة ، أو مناصب ورئاسات وفي الأبدية أسمع تلك العبارات المخيفة :
" إنك استوفيت خيراتك في حياتك " ( لو16 : 5 ) ولذلك لم يعد لي نصيب فوق في السماء ! حقاً ما أخطر هذا الأمر : أن نبيع الآخرة ، لكي نشتري هذه الدنيا !! واعرف أيضاً أن :
2- المديح ليس دائماً
فمن يمدحك الآن ، قد لا يمدحك غداً وقد يذمك بعد غد .. ! ليس الناس ثابتين في مديحهم ، كما قد لا يكونون صادقين فيه ..
وحتى إن كانوا صادقين ، إنهم يمدحون مواقف معينة . وقد تتغير المواقف أو لا تثبت ..
وهناك أشخاص قد يمدحون في وجهك ، ويتكلمون عليك من وراء ظهرك وذمهم لك قد لا يصل إلى سمعك ، بينما يسمعه آخرون .
كذلك أيضاً الذين يكرمونك لوضع معين أنت فيه ، أو لوظيفة تشغلها أو مركز كبير ..
ربما يكرمون المركز ، وليس أنت . فإن زال هذا المركز ، كأن تتركه أنت أو هو يتركك ، حينئذ لا يكرمونك كما كانوا يكرمونك من قبل .. !
وربما أشخاص يمدحونك كثيراً ، ويكرمونك بدرجة كبيرة . ومع ذلك فإنهم لا يثبتون على هذه الحال :
إنما نتيجة لدسائس الآخرين يتغيرون .
فقد يحسدك البعض على ما أنت فيه ، أو قد يعاديك البعض لسبب ما فيشيع عنك هؤلاء وأولئك أموراً تغير فكرة الناس عنك ! وما أكثر ما يشيعه البعض إدعاء وكذباً . وهكذا تجد إكرام الناس لك قد قيل . وتغير أسلوب معاملتهم لك !
وربما كما نلت من قبل مديحاً لا تستحقه ، أصبحت تعاني من الناس ظلماً لا تستحقه !!
إذن اهتم قبل كل شئ برضى الله عليك ، وبأجرك السماوي . ولا تضع كل اهتمامك في ما يقدمه لك الناس من كرامة ، قد تكون زائفة أو زائلة !
3 - التخلص من إعجابك بنفسك
من أخطر أنواع المديح التي تحارب الإنسان : مديح نفسه لنفسه . هوذا الكتاب يقول :
" لا تكن حكيماً في عيني نفسك " ( أم3 : 7 ) ويقول أكثر من هذا : " الرجل الغبي حكيم في عيني نفسه " ( أم28 : 11 ) .
وكما أنه من الخطأ أن يكون الإنسان حكيماً في عيني نفسه ، كذلك خطأ أكبر أن " يكون باراً في عيني نفسه " ( أي32 : 1 ) .
وكل هذه الكبرياء الداخلية لها اضرارها ولها خطايا كثيرة تتولد منها فإلي جوار الخيلاء والمجد الباطل هناك أضرار أخري :
إن كنت حيكماً في عيني نفسك ، ربما تحتقر حكمة الآخرين ، وتكلمهم من فوق ، بروح التعالي !
وبهذه الروح ، لا تقبل نقداً من أحد ولا نصحاً ، وتجد نفسك وقد اصطدمت بكل من يخالفك في الرأي ، وبدأت تهاجمه . وهكذا تفقد الموضوعية في الفكر ، وتحول الخلاف فيه إلى أمور شخصية . وتري أن من يعارض فكرك قد عارض شخصك !
وإن كنت حكيماً في عيني نفسك ، سوف لا تطلب الحكمة التي من فوق ولا التي عند الآخرين !
ربما تصل إلى مرحلة من الاكتفاء بالذات وهكذا تفقد النمو . حقاً ما أجمل قول سيدنا يسوع المسيح ، وهو يحادث الآب قائلاً : " أحمدك أيها الآب . لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء ، وأعلنتها للأطفال " ( مت11 : 25 ) .
إذن قف أمام الله كجاهل ، حتى تأخذ من حكمته . ولا تحتقر عقل أحد ، لئلا ينزع الله منك الحكمة ..
حاول باستمرار أن تستفيد من كل أحد . فالكتاب قد عملنا أن نأخذ درساً حتى من النملة ( أم1 : 6 ) ومن زنابق الحقل ( مت6 : 38 ) .
ومهما علوت في الحكمة والمعرفة ، تذكر قول الكتاب ..
" وعلى فهمك لا تعتمد " ( أم3 : 5 ) .
أما البار في عيني نفسه ، فإنه لم يعرف نفسه بعد ، ولم يعرف أياً ما هي مقاييس البر !
ومثل هذا الشخص ، لكي يعالج نفسه ، ويتخلص من هذا البر الذاتي وإعجابه بنفسه ، ننصحه بالآتي :
4 - تذكر خطاياك
كلما أتاك مديح من الناس من الخارج أو مديح من ذاتك من الداخل ، تذكر خطاياك ، وتذكر أيضاً نقائصك وسقاتك وعيوبك .. وقل لنفسك في صراحة تامة :
هؤلاء الناس يمدحونني لا يعرفونني . ولو عرفوا بعض نقائصي ، لتغيرت معاملتهم لي ..
وقل أيضاً : أشكرك يارب لأنك سترتني . وهل بسبب سترك ، أتمادى أنا وأقبل المديح من الناس ؟! أو أنسي خطاياي ، وأبدأ في مديح ذاتي كأني لست أعرف ذاتي وعيوبها ... !
وتذكار خطاياك ، إن لم يعظ على المديح ، فإنه لابد سيقلل تأثيره عليك .
إنه يقيم نوعاً من التوازن داخل نفسك ولا يتركها فريسة لمحبة المديح . إنما يوقظها لتدرك حقيقتها ، ويوقفها عند حد معين من الإعجاب بالذات لا تتعداه .
وإن لم تذكر خطاياك الماضية ، فعلي الأقل خف من الخطايا المقبلة . فالكتاب يقول : " قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح " ( أم16 : 18 ) .
لذلك إن قبلت المديح ، أو فرحت به ، قل لنفسك : أنا الآن عرضه للسقوط ، بل بهذا المديح أنا فعلاً قد سقطت . فالأجدر لي أن أعالج نفسي بالإتضاع : إن حوربت بالبر ، أتذكر خطاياي . وإن حوربت بالحكمة والمعرفة ، فلا أنسي ما ينقصني من معارف ، أو ما وقعت فيه أحياناً من أخطاء فكرية .
وهنا أوجه إلى علاج آخر هو :
5 - تذكر درجات أعلي
كلما حوربت بالفضيلة أو المعرفة تذكر أنك لا شئ بالنسبة إلى ما هو مطلوب منك ، وبالنسبة إلى الدرجات العليا التي وصل إليها آخرون ..
نشكر الله أنه في كل فضيلة من الفضائل ، قد ترك لنا القديسون أمثلة عالية جداً ومستويات تكاد تكون فوق إدركنا .. إن قارنا أنفسنا بهم ، ربما تصغر نفوسنا في أعيننا .
وهكذا في المعرفة أيضاً وصل آباؤنا وبعض معاصرينا إلى درجات أعلي منا بمراحل ..
لذلك قارن نفسك هو أعلى منك حتى تتضع وحذار أن تقارن نفسك بمن هو أقل منك كي لا ترتفع ..
وهنا قد تقف أمامك مشكلة أخري لتحاربك وهي قولك حقاً أنا ضعيف وقليل المستوي بالنسبة إلى مستويات القديسين وقصص التاريخ . ولكنني أشعر أنني أعلي بكثير من مستوي الوسط الذي أعيش فيه ، فكيف أقاوم إذن الشعور بالذات داخل نفسي ؟
حتى هؤلاء الضعفاء الذين تنتقدهم ربما فيهم فضائل وصفات تنقصك وهذا هو الدرس الذي ألقاه السيد المسيح على الفريسيين ..
هذا الفريسى الذي افتخر على العشار قائلاً : أشكرك يارب أني لست مثل سائر الناس الظالمين الخاطئين الزناه ولا مثل هذا العشار ( لو18 : 1 ) أراه السيد المسيح أنه على الرغم من صومه وعشوره ، فإن العشار كان أفضل منه في اتضاعه وفي انسحاق قلبه . كذلك أظهر الرب لذلك الفريسي الذي استضافه ، أن المرأة الخاطئة التي بللت قدميه بدموعها ، كانت أفضل منه ، وتفوقه حباً وكرماً واتضاعاً ( لو7 : 44 - 47 ) ..
لذلك إذا قارنت نفسك بإنسان ووجدت أنك تفوقه في أشياء ، افحص ربما يكون هو أفضل منك في أمور أخري ..
لا تقل أنا أكثر منه علما ، بل قل إنه أكثر منى بساطة ونقاوة قلب .. لا تقل أنا أفضل منه في أصومه وصلواتي بل قل هو أفضل مني في احتماله وتسامحه ..
وثق أنك لو تخيلت عن كبريائك ، ستجد في غالبية الناس فضائل تنقصك .
وهكذا وجد مارافرايم السرياني في المرأة الخاطئة المتبرحة فضيلة تنقصه ! ووجد القديس الأنبا أنطونيوس في المرأة التي تعرت أمامه لتستحم .. وجد فيها صوت الله إليه !وهكذا أيضاً وجد القديس مقاريوس الكبير عند راعي البقر تعليماً ينفعه في حياته . ووجد القديس موسي الأسود عند الصبي زكريا عطية من الروح القدس يحتاج إليها .
إن الله كثيراً ما كان يختار صغاراً لكي يوبخ بهم الكبار ..
لقد اختار رئيس النوتية الأممي ، لكي يوبخ به يونان نبي الله العظيم ( يون1 : 6 ) . واختار إيمان المرأة الكنعانية ، ليوبخ به إيمان جيلها كله واختار لعازر المسكين ليوبخ به الرجل الغني العظيم ، واختار جهال العالم ليخزي بهم الحكماء بل اختار المزدري وغير الموجود ، ليبطل من يظن أنه موجود ( 1كو1 : 27 ، 28 ) .
لذلك لا تظن أنك كبير ، لئلا تقول لنفسك مع ذلك الجبار : أيها البرج العالي ، كيف سقطت ..
وإن ظننت أنك كبير وقوي ، تذكر أن الشيطان في غروره يهوي جداً إسقاط الكبار والأقوياء ، لذلك هو يحاربهم بكل شدة وبأشد عنف ... ولهذا قال الكتاب عن الخطية أنها :
" طرحت كثيرين جرحي ، وكل قتلاها أقوياء " ( أم7 : 26 ) .
أما إن كنت ترى نفسك باراً على الرغم من كل ذلك و خوف عليك من سقوط فاسمح لي هنا أن أقدم لك نصيحة أخري وهي :
6 - تذكر عمل النعمة معك
أنت قائم لم تسقط ، لأنك قوي ، وغنما لأن النعمة هي التي تسندك ..
لذلك لا تفتخر باطلاً بقوتك لأنه لو تخلت النعمة عنك ، لشابهت باقي الساقطين ، ولا فرق ! .. وكما يقول المزمور : " إن لم يحفظ الرب فباطلاً سهر الحارس " ( مز127 ) .
غ، وجدت نفسك قد نجوت من هجمات الشيطان ، تغني بمعونة الرب لك ، وقل :
" لولا أن الرب كان معنا .. لا بتلعونا ونحن أحياء ، عند سخط غضبهم علينا " ( مز124 ) ..
أنت مجرد أداة في يد الله ، عمل بها الرب خيراً . فلماذا تركز على الأداة وليس على اليد التي عملت بها .
لماذا تنسي عمل النعمة فيك ، وتنسب عمل الله إلى نفسك ؟
قل لنفسك باستمرار : أنا ، من أنا ؟! أنا لا شئ .. حفنة تراب ورماد ! كتلة من الضعف والخطأ إن تخلت النعمة عني ، لا أصبح شيئاً على الإطلاق . وهوذا السيد المسيح قد قال لنا : " بدوني لا تقدرون أن تعلموا أن تعلموا شيئاً " ( يو15 : 5 ) ..
لذلك قل : أنا أخشي أنه بسب الكبرياء ، تتخلي عني النعمة . وحينئذ أسقط ، وانكشف أمام الناس ، على حقيقتي الضعيفة ..
لأنه إن كنت في كل مرة يعمل الله فيك ، تنسب الفخر إلى نفسك ، وتنسي عمل الله ! وتقبل مديح الناس لك ، دون أن توجه هذا المجد إلى الله ... لا مانع إذن من أن يتركك الله إلى نفسك لتعمل وحدها ، حتى ترينا قوتها التي تفتخر بها ، والتي تقبل المديح من الناس .. ! وإن حدث هذا فلابد أنك ستسقط ، لأنك بدونه لا تستطيع شيئاً .. ( يو15 : 5 ) .
لذلك إن أردت الاحتفاظ بعمل النعمة فيك ، لا تمدح نفسك ، ولا تقبل مديحاً من آخرين ..
ولست أقصد بعدم قبول المديح أنك ترفض سماعه .. فقد لا تستطيع هذا وربما إن رفضت ، يزداد الناس مديحاً لك ، وهكذا تأتي بنتيجة عكسية . إنما أقصد أنك لا تقبل المديح في داخل قلبك ، ولا ترضي به ، ولا تصدفه ، ولا تلتذ به ..
وهناك نصيحة أخري وهي :
7 - أحتمال مذمة غيرك
بعض الذين يحاولون أن يهربوا من المديح ، قد يذمون أنفسهم أمام الناس وربما ينالون بذلك مديحاً أكثر .. عن قصد أو بغير قصد .. لذلك قال القديس سرابيون الكبير للراهب الشاب الذي لم يحتمل نصيحة منه ، واحمر وجهه ..
[ لا تلم نفسك ملامة باطلة . فليس التواضع هو أن تذم نفسك ، وإنما أن تحتمل وتقبل المذمة التي تأتيك من آخرين ] ..
لأنه ما أسهل أن يقول إنسان عن نفسه : [ أنا خاطئ وضعيف ] . ولكنه لا يحتمل ان يقول له غيره : [ أنت خاطئ وضعيف ] ..
أتراه يذم نفسه ، وهو غير مقتنع بما بقوله ؟! أو أنه يفعل ذلك لتؤخذ عنه فكرة أنه متواضع ، ويكون هذا الموقف لوناً من الرياء !!
أم أنه يقول عن نفسه إنه خاطئ لأن مذمته لنفسه لا تجرحه ، بينما مذمة الآخرين له تجرحه ، لأنهم أخذوا عنه فكرة كهذه .. !
أما التواضع الحقيقي ، فإنه يقبل المذمة يعتبرها كأنها اعتراف له صدره من غيره ..
أو بقبلها في مقابل مديح آخر قد ناله من قبل . ويقبلها لكي يغطي بها على فضائله فلا تظهر . أو يقبلها كجزاء أرضي له على خطايا قد ارتكبها من قبل ، معروفة كانت أو غير معروفة .
وقبوله المذمة من الآخرين في داخل القلب ، يعتبرها الآباء أنها الخد الآخر الذي نحوله ..
فقد قال القديس الأنبا أنطونيوس : [ حينما يذمك أحد من الخارج ، عليك أن تلوم نفسك من الداخل ، لكي تقيم توازناً بين داخلك وخارجك ] .
وبهذا يحدث أمران : إنك لا تتعب من الداخل ، ولا ترد الإهانة لغيرك من الخارج .
إن الذي يحب المديح والكرامة ، لا يستطيع أن يحتمل الإهانة . وقد يرد عليها بوسائل متعددة :
أ - أبسط السبل وأبعدها عن الخطأ ، أن يردها بالدفاع عن نفسه واثبات نقاوته مما تنسب إليه . وموضوع الدفاع عن النفس ، وتقييمه بين الخطأ والصواب ، يتوقف على لدوافع التي تدفع إليه ، هل هي نقية أم لا ..
ب - وقد يرد الإنسان الإهانة بإهانة مثلها ، أو بإهانة أشد منها .
وهنا يكون قد انتقم لنفسه بمحبته للمديح والكرامة. ويكون قد كسر وصيه الرب القائلة : " لا تقاوموا الشر .. " ( مت5 : 39 ) ويكون قد كسر أيضاً الوصية القائلة : " لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء .. " ( رو12 : 19 ) ويكون قد ابتعد عن المحبة التي من أوصافها أنها " تحتمل كل شئ " وأنها " لا تطلب ما لنفسها " ( 1كو13 : 7 ، 5 ) .
ج - وقد يرد الإهانة ، عن طريق الشكوي ، والتشهير بغيره واشعار الناس أنه مظلوم ، لكي ينتقموا له أيضاً من ظالمة !!
وهكذا أيضاً يكون قد انتقم ، ووقع في كل الخطايا السابقة ، وبقي أن الذي يعتقد باستمرار أنه مظلوم ، لا يستطيع مطقاً أن يصلح نفسه ، لأنه على الدوام يبرر نفسه ..
د - وهو قد يرد على الإهانة داخل قلبه ، إذ يعتبر هذا الإنسان عدواً له ويعامله كعدو ، وربما يخاصمه أو يقاطعه ..
ويكون هذا منه موقفاً إيجابياً تجاه ما اعتبره أنه إهانة . كل ذلك لأجل محبة الكرامة ! أما الذي لا تهمه الكرامة العالمية ، فلا يهتم بكل هذا ، ولا يأخذ موقفاً ضده .
فالمتواضع لا يعتبر كل مذمة تصل إليه كأنها اهانة . فقد تكون كشفاً لذاته وقد يشكر غيره على ذلك ، لأنه أظهر له نقصاً فيه يحتاج إلى علاج ..
وهكذا لا يعادي من ينتقده أو من يعارضه فيه هذا العيب . ويكون من وجهه إليه ساعده على خلاص نفسه ، وعلى إصلاح عيوبه .
صدق القديس يوحنا ذهبي الفم حينما قال : [ من يتكلم عنك بالذام ، اتخذه لك صديقاً ] ..
9 - اخفاء الفضائل
الذي لا يحب المديح ، تراه يخفي فضائله عن الناس ، حتى لا ينال مديحاً منهم بسببها . فهو بكل الوسائل ، وبصدق نية ، يعمل الخير في الخفاء حسب وصيه الرب ( مت6 ) وحسبما كان يفعل القديس الأنبا صرابامون أبو طرحة ..
حقاً إن كنت تعمل الخير من أجل الله ، لا من أجل الناس ، فماذا يهمك إن كان الناس يرون هذا الخير أو لا يرون ؟ !
تحضرني هنا قصة حدثت مع القديس الأنبا بموا . جاءت إليه في أحد الأيام القديسة ميلانيا - قبل رهبنتها - وكانت من الأثرياء وأعطته صرة فيها كمية كبيرة من الذهب ، وطلبت إليه أن ينفقها على الرهبان الذين في البرية الجوانية . فنادي القديس بموا على تلميذه ، وسلمه الصرة دون أن يفتحها وطلب إليه أن يوزعها على الرهبان المحتاجين في البرية الجوانية . وهنا قالت له ميلانيا : [ ولكنك لم تفتحها يا أبي . لتعرف مقدار ما فيها كم هو ؟ ] فنظر إليها القديس في عمق وقال لها :[ إن كنت يا ابنتي قد قدمت هذا لمال لله ، فهو ولا شك يعرف مقداره كم هو ] .. !
وأخذت ميلانيا درساً وحياً ، ينقذها من المجد الباطل الذي يريد أن يظهر كثرة ما قدمته من مال ، أمام القديس ، وأمام نفسها ..
وهنا نذكر قول السيد الرب :
" وأما أنت فمتي صنعت صدقة ، فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك " ( مت6 : 3 ) ..
فما معني هذه الوصية الإلهية ؟ وما عمقها ؟ معناها أنه لا يكفي فقط أن الناس لا يعرفون ما تفعله أنت من الخير إنما أكثر من هذا ..
لا تجعل فضائلك تعرفها نفسك أيضاً اخفها عن نفسك . لا تذكرها ولا تتذكرها ولا تتأملها .
بعض الناس يقدمون للفقراء ، بدون عد حتى لا يعرفوا ما أعطوه . وهكذا ينفذون الوصية حرفياً ، والبعض يعطي ولا يحاول أن يتذكر تفاصيل ما أعطاه ، ولا يجلس في آخر كل فترة ليجمع حصيلة كل ما قدمه خلال تلك الفترة .
إن الله لا يحاسبك فيما أعطاه لك فلا تحاسبه أنت في ما أعطيته له :
إنس كل ما فعلته من خير . لا تعد تتذكره . لا تتحدث عنه أمام الناس ، ولا تفكر فيه فيما بينك وبين نفسك . ولا يكن هدفك في العطاء ، أو في عمل الخير عموماً ، أن يراك الناس ، أو أن يمدحوا عملك .
وليس معني هذا أنك لا تعمل الخير ، خوفاً من أن يراك الناس :
إنك في هذه الحالة تعتبر مقصراً في حياتك الروحية ، إنما افعل الخير حباً في الخير ، وحباً للناس الذين تعمل معهم الخير ، وحباً له الذي أعطاك الخير الذي تفعله . ولا تبال بعد ذلك أن يراك الناس أو لم يروك ...
أحياناً نظر الناس ، يعطي حماساً لعمل الخير ولكنه ليس حماساً روحياً إنما هو حماس لكسب المديح !
وفي هذا الأم نذكر أن راهباً سورياً سكن في برية شهيت . وفي أحد الأيام أتي إلى القديس مقاريوس الكبير ، وقال له : [ لماذا يا أبي حينما كنت في بلدي ، كنت أطوي الأيام صوماً ، وهنا في البرية أشعر بالجوع الشديد قبل أن أصل إلى الغروب ؟!] فأجابة القديس مقاريوس : [ حينما كنت في بلدك ، كان الناس يرونك ، فكنت في صومك تتغذي على المجد الباطل . أما هنا في البرية ، فإذ لا يراك أحد تشعر بالجوع ! ]
وفي إخفاء الفضائل ، قد يحارب المؤمن بأن يكون قدوة ..
ولكن الإنسان المتضع ، لا يضع نفسه قدوة لأنه لا يري في نفسه شيئاًُ يقتدي به الآخروب .
إنه يقول لله في صلاته : [ أنت تعرف يارب حياتي ، كم هي خاطئة . فهل لأنك سترتني ولم تشأ أن تكشفني أمام الناس ، استغل أنا هذا الستر ، وأتمادي لأجعل نفسي قدوة ! من أنا حتى أكون قدوة ! ؟! ] .
لذلك لا يجوز لنا أن نجعل هدفنا أن نكون قدوة ، حتى لو صرنا قدوة بدون إرادتنا بترتيب من الله ..
إن الذي يهدف أن يصير قدوة ، ما أسهل أن يقع في الكبرياء وفي الرياء ، ويظهر للناس بغير حقيقته ! يخفي أخطاءه ، ويظهر فضائل له !
أما المتواضع الهارب من القدوة ، فإنه قد يظهر للناس نقائصه وضعفاته .
أتي بعض رهبان من الاسقيط إلى ألم سارة ، وحكوا لها نقائصهم . فقالت لهم :
[ بالحقيقة أنكم أسقيطيون لأن ما عنكم من الفضائل تخفونه . وما ليس فيكم من الرذائل إلى أنفسكم ] .
وكان القديس الأنبا بيشوى ، إذا عرف عنه تدبير روحي معين ، يتركه وينشغل بتدبير آخر لا يعرفه أحد ، ولكن ليس معني هذا ، أن تترك كل تدبير حسن تسير فيه .
فقد يضرك هذا . إنما اثبت في كل تدبير صالح من أجل نموك الروحي ، وليس لكي ينظرك الناس . وليكن اخفاؤك لفضائلك بحكمة ..
ومع ذلك نقول إن بعض الأشخاص - بحكم وضعهم - من المفروض أن يكونوا قدوة ، لئلا يعثروا غيرهم . مثل رجال الاكليروس والقادة والمسئولين على أن يكون ذلك بطبيعة حياتهم ، وليس اصطناعاً أو رياء ...
وحتى هؤلاء أيضاً ، يمكن أن تكون لهم فضائل كثيرة مخفاه . والمهم أن لا تكون اهتماماتهم بنموهم الروحي يقولون مع الرسول : " أنسي ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام "
( في3 : 13 ) . من الأمور الهامة أيضاً في الهرب من محبة المديح والكرامة :
10 - الهرب من محبة الرئاسة
ليست الرئاسة في حد ذاتها خطية فقد وضع الله رئاسات حتى بين الملائكة وقد يكون إنسان رئيساً وفي منصب كبير ، ومع ذلك يكون وديعاً ومتواضع القلب .
العيب إذن ليس في الرئاسة إنما في محبة الرئاسة ..
إن الذي يشتهي الرئاسة ، إنما يشتهي لنفسه أمجاداً على مستوي محبة العالم ، وليس على مستوي روحي ، ومثل هذا ، إذا حصل على رئاسة قد تتلفه وترفع قلبه .. وقد يظن أنه قد صار شيئاً ، ويجب أن يعامله الناس هكذا ..
والذي يشتهي الرئاسة ، مصيره أن يقع في أحلام اليقظة ..
كأن يخلو إلى نفسه ، ويتصور أنه قد صار كذا وكذا ، وأنه قوبل بدرجات معينة من المديح والتقدير والاحترام .. ويتصور أنه يقوم بأعمال عظيمة لم يعملها أحد غيره ، لو أعطيت له تلك المناصب ! وكلها تخيلات من المجد الباطل ، تشعره بأنه يستطيع أن يعمل ما لم يعمله غيره .
وقد يسمح الله أن تسند إلى مثل هذا الشخص مسئوليات فيفشل فيها . لأن الإنسان يمكنه أن يعمل في الخيال ما يعجز عنه في الواقع .
ومثال ذلك قصة شيخ ذهب لافتقاد راهب محارب بالمجد الباطل . وكان هذا الراهب يتصور أنه واقف يعلم الموعوظين . وكان يلقي عظته عليهم بصوت سمعه الشيخ في الخارج . وبعد العظة باركها وصرفهم بسلام .. هنا وقرع الشيخ الباب ، ففتح له الشاب ، وفكر في نفسه ما عسي أن يقول عنه الشيخ إذا كان قد سمعه فلكي يتأكد قال : [ إني أسف يا أبانا ، لئلا تكون قد جئت من زمن وتعطلت على الباب ] .
فابتسم الشيخ وقال : [ لقد جئت يا ابني وأنت تصرف الموعوظين ] !
فاحرص أن تبتعد عن أحلام اليقظة هذه وتتصور ما ليس لك .
سئل القديس يوحنا الأسيوطي : [ هل يليق بالإنسان أن يطلب رتبه وسلطاناً لتقويم المعوجين وأبطال الشرور ؟ فأجاب :
[ كلا .. لأنه إن كان وهو بعيد عن الدرجة ، يشتهي أن يكون عظيماً فماذا يعمل عندما يصل إلى الرئاسة والعظمة نفسها ؟ لأن الذي لم يعرف الاتضاع وهو في حقارته ، فماذا يفعل عندما يكون في عظمته ؟! ]
وأضاف القديس عن مثل هذا الشخص : [ إن كان منتفخاً وهو بعيد عن المناصب ، فماذا يعمل عندما يأخذ المناصب ؟! ] إن الرئاسة قد لا تضر الناضجين روحياً الذين يحتملونها باتضاع ، ولكنها تضر غير الناضجين . قال القديس اوروسيوس أحد خلفاء القديس باخوميوس الكبير .
[ إن الرئاسة مضرة للأشخاص الذين لم ينضجوا ] .
وضرب لذلك مثلاً فقال : [ إذا أحضرت طوبة من طين لم تحترق بعد بالنار والقيتها في الماء فإنها تذوب . أما إذا حرقت بالنار ، فلو القيت في الماء تبقي وتشتد ... كذلك الشخص الذي يصل إلى الرئاسة قبل أن ينضج قبلما يحمص بالنار ، أي باختبارات الحياة ، قبلما يزول منه المجد الباطل ، فإنه معرض للهلاك ] .كذلك مساكين هم الناس الذي يخضعون لرئاسة شخص محب للمجد الباطل . أنه يضيع نفسه ، ويضيع معه الناس ، من أجل المجد الذي يطلبه
ولذلك من الخطر جداً ، أن يوضع في رتبه الرعاية أشخاص يحبون الكرامة العالمية . فإن كنت لست متضع القلب ، لا تطلب لنفسك درجة الكهنوت ، بل اشته لنفسك أن تكون خروفاً في رعية المسيح عن أن تكون راعياً يطلب دم رعيته من يدك .
اشته أن تكون حملاً من القطيع ، يرعاك غيرك ، لا أن تكون مسئولاً عن رعية .
لأنك إن كنت لا تقدر أن تربح نفسك فكيف تقدر أن تربح للرب نفوساً كثيرة .. ؟! إن كنت في الوقت الذي لم يكن عليك فيه أثقال ، لم تستطع أن تحيى ذاتك ، فكيف تقدر أن تخلص شعباً كبيراً من شر العالم ؟! الإنسان المتضع الذي يريد خلاص نفسه ، ويشعر في داخله بعجزة عن الرعاية ، يهرب منها .
أما إذا أمسكك الله وصيرك راعياً فأطلب منه قوة تعينك .
إن كانت حاجة الكنيسة قد وضعتك في منصب ، فلا تثق بقوتك ومواهبك بل اسكب نفسك أمام الله ، لكي يعمل هو بك ، ولكي يعمل فيك ومعك . وتكون أنت مجرد آلة يسيرها هو حسب غني وفرة حكمته .
إن صرت راعياً ، أو صاحب منصب ، فكن متضع القلب ..
لا تعتبر نفسك أنك قد صرت من أعمدة الكنيسة ، ولا تسلك بعظمة ، إنما اعتبر نفسك مجرد خادم ، واسلك كخادم ، كما غسل المسيح أرجل تلاميذه . وقال عن نفسه : " إن إبن الإنسان لم يأت ليخدم ، بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين " ( مر10 : 45 ) .
سألني كاهن جديد ، أن أقول له نصيحة بمناسبة خدمته ، فقلت له :
[ كن ابناً وسط اخوتك ، وأخاً وسط أولادك ] ..
وهكذا لا يرفع نفسه ويستمر في اتضاعه . أما إن كان يريد أن يتمتع بكرامة في منصبه ، فلا شك أنه سيضيع نفسه . لأن المناصب ليست رفعة ، وإنما خدمة . والذي يسلك فيها كخادم فهذا سيرفعه الله ، دون أن يرفع هو نفسه ..
قال القديس برصنوفيوس :
[ لا تحسب نفسك في شئ من الأمور ولا يحسبك أحد شيئاً ، وأنت تنتج ( أي تستريح ) ] ..
ذلك لأن الناس يحبون المتضعين ، وينفرون من كل محب للمديح أو الكرامة كذلك فإن المحب للرياسة قد يصطدم بغيره من يشتهون نفس الشهوة وينافسونه فيها . أما الذي يحب المكتآ الأخير ، فإنه لا ينافس أحداً .
وإن صرت رئيساً ، فلا تتسلط على أحد ، بل عامل الكل بالرفق ..
اعرف جيداً أنك مجرد رئيس على عملهم ولست رئيساً على أشخاصهم .
أما أشخاصهم ، فلها عندك كل احترام وكل حب . واعرف أنك ومرؤوسيك سواء أمام الله ، وربما تكون لبعضهم منزلة عند الله أعظم . اشعر في داخلك أنك زميل لهم ، وأن كنت أقدم ، تفاهم معهم بروح الود وبالبساطة .
فالسلطة تعطي للبعض من أجل إدارة العمل ، وليس من أجل كرامتهم الشخصية ..
والذي يعتبرها تكبيراً لنفسه ، يكون قد انحرف عن هدفها وعن تواضعها وهذا الكلام يقال أياً عن الأب والزوج في الأسرة ، كما يقال عن المعلم مع تلاميذه ، وعن المرشد مع يرشدهم ، وعن كل من يتولي مهام القيادة والأبوة والرعاية ..
كان القديس باخوميوس يرفض أن يحمل له أولاده حاجياته وهو سائر في الطريق ..
بل كان يحب أن يشابههم في كل خدمة وهكذا قال بولس الرسول أيضاً : " حاجاتي وحاجات الذين معي ، خدمتها هاتان اليدان " ( أع20 : 34 ) .
بهذا كان الآباء قدوة لابنائهم في الخدمة وفي الاتضاع . وبهذه القدوة كسبوا محبتهم ، وكسبوا خضوعهم أيضاً ..
وما كانوا ينظرون إلى أنفسهم اطلاقاً كرؤساء ، إنما كآباء . ليسوا أصحاب سلطة ، إنما كأصحاب قلوب كبيرة مملوءة بالحنان والشفقة . القديس الأنبا شيشوي ، حينما سلموه أخاً جديداً ليعلمه ، ما كان يصدر له أمراً في أي شئ . فلما عاتبه الآباء على ذلك ، قال لهم :
[ أنا لست رئيساً عليه لآمره .. فإن أراد أن يتعلم . فلينظر إلى كيف أعمل ، وليعمل مثلي ] .
لذلك فإن تواضع القلب هو شرط أساسي لكل من يتولي عملاً قيادياً ، حتى لا يهلك نفسه وأنفس الذين يقودهم أيضاً ، وحتى لا يكون قدوة سيئة في عمله القيادي . وإنما عليه أن يقود الناس بالحب والتعليم والمثال السليم ، وليس بالسلطة وبالأمر والنهي .. أما عن المواضعين الذين يهربون من الرئاسة ، فإننا نضع أمامهم مثال القديس بينوفيوس .
مثال القديس بنوفيوس
عرفنا قصة هذا القديس من يوحنا كاسيان مؤسس الرهبنة في فرنسا .
كان القديس بينوفيوس رئيساً على دير يضم أكثر من مائتي راهب في منطقة البرلس ..
وكان متضعاً جداً ومهاباً ، وله مكانه عند الكثيرين ممن يحبون قداسته وحياته الفاضلة ومواهبه الروحية ، وكذلك بسبب شيخوخته وكهنوته .
وفي أحد الأيام جلس هذا القديس إلى نفسه ، وقال لها : " [ وما نهاية هذا التوقير الذي لقاه كل يوم ؟ ألعلني سوف استوفي خيراتي على الأرض وأين الطريق الضيق والكرب عملاً بقول الكتاب : " لأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله " ( أع14 : 22 ) ] .
لذلك هرب القديس بينوفيوس ذات يوم من الدير ، متنكراً في زي علماني وسار جنوباً حتى وصل أحد أديره القديس باخوميوس الكبير في إسنا .
وطرق الباب طالباً أن يقبلوه في الدير ... فنظروا إليه في تعجب : من هذا الشيخ الذي أتي ليترهب ؟! هل بعدما تمتع بالعالم وشبع منه ، يأتي أخيراً ليصير قديساً ؟!
وطردوه قائلين له : [ إنك لا تصلح ] . فألح عليهم فقالوا له [ أنك لا تستيطع أن تحتمل تعب الرهبنة ] . فظل يلح ووقف على الباب مدة دون أكل أو شرب ..
فلما رأوا احتماله وصبره ، ادخلوه الدير على شرط أن يبقي في زي العلمانيين ولا يرسم راهباً!
واسندوا إليه مساعدة راهب شاب مسئول عن حديقة الدير . فلم يمانع وكان الشاب يأمره كخادم فيطيع .. إنها امنيته التي اشتهاها !
وكان الشاب شديداً في معاملته ، وكان هو دقيقاً في طاعته . وكان في نصف الليل والرهبان نيام يقوم بالأعمال التي يشمئز منها غيره لقذراتها ، مثل تنظيف دورات المياه . وما كان الرهبان يعرفون من الذي قام بهذا العمل ..
وظل على هذا الطقس ثلاث سنوات .
وكان يقول للرب : [ أشكرك يا سيدي من أجل عطاياك إذ منحتني ما اشتهي فهنا لا احترام ولا توقير ، بل أوامر وطاعة ] .. ثم بعد ذلك أتي لزيارة الدير راهب م أديره البرلس ، ورأي القديس بينوفيوس ، وهو يحمل السباخ ويضعه حول الشجر . فشك في الأمر ولم يصدق أنه هو . وأخيراً سمعه يتلو مزاميره بصوته المعهود ، فعرفه وسجد له .
فانكشف موضوعه ، وأخذوه بمجد عظيم وأرجعوه إلى ديره . فهرب مرة أخري إلى بيت لحم ..
وعمل هناك خادماً في قلاية يوحنا كاسيان . وتصادف أن ذهب راهب آخر لزيارة القديس . وعندما قابله عرفة فأعادوه مرة ثانية باحترام كبير إلى ديره .
وزاره يوحنا كاسيان عند مجيئه إلى مصر ، وكتب عنه في مؤلفاته . إنه مثال حي للهرب من الرياسات .
إننا نضع هذه الأمثلة الرهبانية أمامنا كمجرد أمثولة للهرب من محبة الكرامة . وقد لا يستطيع البعض محاكاتها كما هي هنا في العالم .
ولكنها مجرد درس يعلمنا على الأقل أن نبعد عن شهوة الكرامة ونهرب منها .
وإن وضعنا الرب في منصب رئاسي فيه باتضاع قلب . فنكون في عمل الرئاسة ، ولا تكون محبة الرئاسة في قلوبنا .
الفصل الرابع عشر
العنف
العنف خطية مركبه
أنواع العنف
أسباب العنف
العنف دليل الضعف
العنف الخاطئ والعنف السليم
العنف خطية مركبة
إن المسيحية لا توافق على العنف في كل صوره ، لأنه سلوك غير روحي وتتركز فيه مجموعة من الخطاء .
1 - إنه خطيئة مركبة وخطيئة منفرة .
لذلك فهو مكروه من الكل . والذي يتصف بالعنف ، لا يستطيع أن يربح أحداً من الناس . وسنحاول أن نحلل العنف ، لنري ما بداخله من الخطايا .
2 - العنف دليل على قسوة القلب .
والقلب الرقيق لا يمكن أن يكون عنفياً ، بل تكون تصرفاته رقيقة ، وألفاظه أيضاً رقيقة ومنتقاة ، لا يسمح لنفسه أن يخدش شعور أحد .
3 - والعنف ضد فضيلة الوداعة .
الذي يلجأ إلى العنف ، يفقد وداعته في الحال . وقد دعت المسيحية إلى الوداعة كما دعت إلى الرقة والهدوء .
وفي العظة على الجبل ، نري أن السيد المسيح ، قد وضع الوداعة في مقدمة التطويبات ، وقال في ذلك :
" طوبى للودعاء ، فإنهم يرثون الأرض " ( مت5 : 5 ) .
وعندما دعانا أن نتشبه به ، وهو الكامل في جميع الصفات والفضائل ، قال " تعلموا مني ، لأني وديع ومتواضع القلب " ( مت11 : 29 ) ..
وفي وداعة السيد المسيح وبعده عن العنف ، قيل عنه في الإنجيل المقدس إنه :
لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته قصبة مرضورة لا يقصف ، وفتيلة مدخنة لا يطفئ " ( مت12 : 20 ) .
4 - والعنف لا يتفق مع المحبة :
والمسيحية ذكرت أن المحبة والوداعة واللطف ، هي من ثمار الروح ( غل5 : 22 ) . وقالت إن : " الله محبة من يثبت في المحبة ، يثبت في الله ، والله فيه " ( 1يو4 : 16 ) .
والإنسان الروحي يعالج مشاكله بالحب وليس بالعنف . لأنه بالحب يكسب الله والناس . أما في سلوكه بالعنف ، فإنه يخسر الكل .
5 - العنف أيضاً خطيئة عدوانية :
والمسيحية ضد العدوان . إنها تقول : " لا يغلبنك الشر ، بل اغلب الشر بالخير " ( رو12 : 21 ) " باركوا على الذين يضطهدونكم . باركوا ولا تلعنوا ... لا تجازوا أحداً عن شر بشر .. إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس . لا تنتقموا لأنفسكم إن جاع عدوك فأطعمة ، وإن عطش فاسقة " ( رو12 : 14 - 20 ) .
إن المسيحية التي تمنع عن الغضب الإنساني ، لا يمكن أن تسمح بالعنف أو العدوان ...
هوذا الرسول يقول : " ليكن كل إنسان مسرعاً إلى الاستماع ، مبطئاً في التكلم مبطئاً في الغضب . لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله " ( يع1 : 19 ، 20 ) ويقول الكتاب أيضاً : " لينزع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب " ( أف4 : 31 ) " لا تستصحب غضوباً ، ومع رجل ساخط لا تجئ " ( أم22 : 24 ) .
المسيحية تمنع الغضب الإنساني ، لأنه الخطوة الأولي إلى العدوان والعنف والقتل ..
فيقول السيد المسيح في العظة على الجبل : " إن كل من يغضب على أخية باطلاً ، يكون مستوجب الحكم " ( متى5 : 22 ) . والمقصود هنا بالغضب الباطل ، تميزه عن الغضب المقدس ، الذي من أجل الله ، واسلوبه أسلوب روحي ، بعيد عن الجسد والتهاب أعصابه ..
6 - العنف يدل على البغضة :
حيث يتطور الغضب إلى بغضه وتتطور البغضة إلى العدوان والعنف والرغبة في الإيذاء . وفي هذا يقول الإنجيل المقدس : " كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس " ( 1يو3 : 15 ) .
إن لم يكن قاتله بالفعل ، فهو قاتله بالنية أو الفكر . وكلها فروع لخطيئة واحدة ..
7 - العنف يحمل رغبة في الانتقام أو على الأقل يدل على عدم الاحتمال :
هو حالة إنسان لم يستطع أن يحتمل لذلك يريد أن ينتقم لنفسه ، ويأخذ حقه أو ما يظن أنه حقه ، بذراعه البشري .. دون أن يترك هذا الأمر لله ، الذي قال : " لي النقمة ، أنا أجازى ، يقول الرب " ( رو12 : 19 ) وأيضاً دون أن يترك هذا الأمر للقانون وللمجتمع ..
والمسيحية لا تدعو فقط إلى الاحتمال لأن الاحتمال فضيلة سلبية . إنما تدعو إلى فضيلة إيجابية هي المحبة ..
والحب والعنف لا يسيران معاً في طريق واحد . لأن الكتاب يقول : " المحبة تتأني وتترفق .. المحبة تحتمل كل شئ المحبة لا تطلب ما لنفسها " ( 1كو13 ) .
في حالة العنف ، يكون الحب قد تواري . وظهر مكانه شئ آخر ، فما هو ؟
8 - الذات تظهر وقت العنف :
فالإنسان يستخدم العنف إثباتاً لذاته أو دفاعاً عن ذاته . أو دفاعاً عن ذاته . وفي نفس الوقت يريد أن يكون غيره مقهوراً له ..
والمسيحية تحارب الذات بكل قوة وبكل وضوح . فيقول السيد المسيح : " من أراد أن يتبعني فلينكر ذاته " ( مت16 : 24 ) .
وفي الحقيقة أن العنف لا يثبت ذاته إنما يثبت ضعف ذاته .. ! وكيف ؟
9 - في العنف لا يضبط نفسه :
أما العنيف فإنه يفقد ضبط النفس فلا يستطيع أن يتحكم في أعصابه ولا في غضبه وقد يتصرف تصرفات هو جاء ، تدل على أنه لا يتحكم أيضاً في عقله وفي تفكيره بينما الكتاب يقول : إن من يحكم نفسه هو خير ممن يحكم مدينة ( أم16 : 32 ) .
10 - العنف دليل على الضعف :
العنف دليل الضعف
إذا لم يستطع قلب الإنسان أن يتسع بالحب ، وإذا لم يتمكن عقله من حل الأمور بحكمة وهدوء ، وإذا لم يقدر أن يضبط أعصابه في اتزان ، حينئذ يلجأ إلى العنف .
ويكون العنف دليلاً على قلة الحيلة والعجز عن التصرف السليم ..
حقاً إن غالبية العنفاء ضعفاء في حقيقة شخصياتهم . ليست لديهم قوة أعصاب ، ولا قوة احتمال ، ولا قوة تفكير . وسأضرب لذلك أكثر من مثل .
المدرس الذي يلجأ إلى العنف مع تلاميذه هو مدرس ضعيف ..
أقصد المدرس الذي لا يستطيع أن يضبط النظام بين تلاميذه ، فيثور عليهم ويضرب هذا ، ويطرد ذاك ، ويشتم ويعاقب ، هو بلا شك إنسان ضعيف لأنه لو كان قوياً ، ما كان يلجأ إلى شئ من هذا . بل يمكنه أن يضبط الفصل بقوة شخصيته ، أو بذكائه وجاذبية شرحه ، أو بمرحه ولطفة ، أو بمحبة تلاميذه له ..
ولكنه إذ خلا من كل هذه الصفات المحببة ، لجأ إلى العنف بدافع من قلة الحيلة ..
مثال آخر هو الأم التي تضرب أطفالها :
أم يصيح ابنها ، أو يلهو ويجري ويعبث ، ولا تستطيع أن تضبطه ، ولا تستطع أن تتركه يلعب ، فتلجأ إلى العنف : تضرب أو تشتم أو تهدد أو تخفيه بطريقة ما !! كل هذا لأنها لا تملك الخبرة ولا المعرفة بالطرق التربوية وكيفية معاملة الأطفال . ولو عرفت لكسبت طفلها دون اللجوء إلى العنف .
لأن العنف هنا يكون وسيلة لتغطية العجز أو مجرد رد فعل لقلة الحيلة .
أو هو تغطية لضعف داخلي ، ربما يكون هو عدم الاحتمال . إن الشخص الذكي يستطيع أن يخرج من اشكالاته بسهولة ، في حكمة وحسن تصرف .. أما الضعيف فيستخدم العنف .
وهكذا يقول الرسول : " يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات الضعفاء ولا نرضي أنفسنا " ( رو15 : 1 ) .
أنواع من العنف
1 - نوع من العنف هو الإيذاء بكل درجاته :
ومنه الضرب : والقتل بأنواعه . وكذلك كل ألوان التعذيب الجسدي أو النفسي كالتخويف مثلاً وإثارة الذعر . وكله داخل في العنف العصبي .
2 - عنف آخر هو الاهارب :
ويشمل جرائم الخطف للأفراد وللطائرات والسفن ، ومن أعماله تفجير السيارات الملغومة والرسائل الملغمة ، وكافة أعمال النسف والتدمير والتخريب ، والذعر . وكلها جرائم على مستوي بشع .
3 - ومن العنف أيضاً الحرب :
والحروب قد شهدها العالم منذ أقدم العصور ، وهو من ظواهر العنف وبخاصة إن كانت عدوانية وليست دفاعية .
على أن هناك حروباً تتصف بلون أعمق . وهي الحروب النووية ، أو التي تستخدم الغازات السامة ، أو الأسلحة الفتاكة والمحرقة أو الحروب التي تضرب المستشفيات أو مساكن المدينيين . وكذلك الحروب التي تدمر مدناً بأكملها ، وتقضي على حضارات ، وتخلف مجموعات من المشوهين والمعوقين .
4 - وهناك عنف آخر على مستوي فردي مثل تحطيم المعنويات :
ومن أمثلته الزجر الشديد ، والتوبيخ القاسي ، والتركيز بالاستمرار على الأخطاء ، وتحطيم الشخصية . وقد يدخل في هذا المجال نوع من العنف هو :
5 - عنف الإهانة :
ويشمل التهكم اللاذع والتشهير ، والتجريح ، والقذف ، والتجاهل ، والمقاطعة ، والشتيمة والسب ... وما إلى ذلك من ألوان القتل الأدبي أو المعنوي . وقد تصحب ذلك عبارات من التهديد .
وهناك مظهر آخر للعنف هو :
6 - عنف العتاب :
ويشمل العتاب الشديد القاسي الذي يجرح ، وربما لسبب تافه لا يستحق . وقد يستمر هذا العتاب طويلاً ، أو يكون أمام الآخرين ، أو يكون مصحوباً بأسلوب عصبي وبألفاظ لا تليق . وقد يصبح طبعاً . فيعاتب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة حتى يفقد أصدقاءه .
وقد قال الشاعر في هذا النوع :
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارة على القذي ظمأت وأي الناس تصفو مشاربه
وهناك نوع آخر من العنف ، يختلف عن كل ما سبق ، ويمكن أن نسميه العنف السلبي .
7 - العنف السلبي :
مثال ذلك شخص لا يقدر على العنف الإيجابي ، فليلجأ إلى العنف السلبي ، مثال : الكآبة المستمرة ، البكاء الدائم ، الإضراب عن الطعام ، الصمت الحزين ، الانسحاب ...
وكلها أنواع من العنف الهادئ الصامت ، تمثل ضغطاً مستمراً على الطرف الآخر . وقد يوجد عنف آخر ، ليس موجهاً ضد الآخر . إنما هو يعمل داخل الإنسان ذاته ، ذلك هو عنف الشهوات .
8 - عنف الشهوات :
فقد توجد شهوات تحارب الإنسان بعنف حتى تدمره تدميراً ، مثل شهوة الجشع التي لا تستريح مهما أخذت ومهما جمعت . ومثل شهوة المخدرات ، شهوة الكبرياء . والمعروف أن الشهوات لا تستريح حتى تكمل ... وهكذا تستمر .
وقد تصحب الشهوات أفكار مدمرة : تلصق بالعقل ولا تفارقة ، حتى تحطم صاحبها ، لدرجة أن البعض يعالجونها بالمنومات ليستريح من الأفكار ..
أسباب العنف
1 - من أسباب العنف القسوة في الطباع .
فهناك أشخاص طباعهم قاسية ، يتعاملون باستمرار بهذه القسوة . وإذا زادت حدتها عندهم تتحول إلى عنف . وقد ترجع هذه القسوة إلى ظروف اجتماعية احاطت بالفرد ، وربما يكون قد حصل عليها عن طريق الوراثة .
2 - وقد يكون السبب تعب في الأعصاب ، ربما سببه الارهاق مثلاً .
وفي حالة الإرهاق وتعب الأعصاب ، لا يقدر الإنسان على الاحتمال ، فيرد بعنف . وإذا زاد الضغط عليه ، يتصرف بعنف .
3 - وقد يكون السبب في العنف هو قلة الحيلة ، أو اخفاء الضعف بالعنف كما ذكرنا .
4 - وقد يكون سبب العنف هو مرض عصبي أو مرض عقلي :
ولعل من المتمسكين بهذه النظرية أصحاب المدرسة الإيطالية : الذين يقولون إن كل مجرم مريض . ولذلك يبحثون عن المرض الذي دفعه إلى الجريمة . ومعروف أن بعض الأمراض العقلية يصحبها عنف وكذلك كثير من الأمراض العصبية .
ولكن ذلك لا يمنع أن هناك مجرمين يقومون بالعنف وهم في صحة عقلية تامة ، وإلا زالت المسئولية في كل الجرائم !!
5 - وقد يكون الخوف سبباً ثانياً في أعمال العنف ... خوفاً من اكتشاف الجريمة مثلاً ...
كسارق ، اقتحم بيتاً للسرقة فقط ، وليس للقتل . ولكنه قد يضطر إلى ذلك إذا رآه أحد ، وخاف من انكشاف أمره .
أو كعصابة تقتل بعض الذين يعرفون أسرارها ، حتى لو كانوا من أعضائها ، خوفاً من أن يذيعوا هذه الأسرار ..
أو كشخص يظن أن آخر يتآمر عليه ، فيعامله بعنف خوفاً من تآمره .
6 - وقد يكون سبب العنف هو الغرور والاعتزاز بالقوة . أو سوء استخدام القوي والإمكانيات
كمن يضرب الآخرين ، ليشعرهم أنه أقوي منهم ، وأنه يستطيع قهرهم متى أراد ويحدث هذا أحياناً مع بعض المراهقين ، ومع بعض الطغاة ومع بعض العصابات في إخضاع أفراد العصابة لطاعة أوامرهم ..
7 - وربما يكون سبب العنف هو الحقد :
فالذي يحقد على آخرين ، قد ينفس عن حقده بالعنف . كشخص يحقد على آخر ظاناً أنه سيأخذ ميراثه ، أو يحل محله في مركزه ، فيستخدم معه العنف . وقد تدفع الغيرة أو الحسد إلى مثل هذا أيضاً .
أو قد يكون السب هو رد العنف بعنف ..
8 - وقد يكون سبب العنف هو الفهم الخاطئ :
كما قال السيد المسيح لتلاميذه عما سيلقونه من مؤامرات اليهود وقسوة الرومان :
" تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله " ( يو16 : 2 ) .
ومن هذا النوع من يقتل ، وفي مفهومه أنه يمحو عاراً للأسرة ، أو ينتقم لدمائها ...
9 - وهناك من يلجأ إلى العنف ، ظاناً أنه اسهل الحلول وأسرعها .
بينما أسهل الحلول ليس هو أفضل الحلول ، أو قد يري مثل هذا الشخص أن العنف هو الحل الوحيد . وقد يقول لك : هذه الأمور لا يصلح لها إلا العنف ... أو هؤلاء الأشخاص لا ينفع التعامل معهم إلا بالعنف ..
10 - وقد يكون العنف لوناً من السياسة أو الحيلة ..
وذلك حسبما يقول المثل السائر : اضرب المربوط ، فيخاف السائب . أو كما يقول الكتاب : " اضرب الراعي فتتشتت الرعية " ( زك13 : 7 ) . وهنا لا يكون العنف مقصوداً لذاته ، إنما هو مجرد وسلية لغرض ...
وهذا يقودنا إلى نقطة أخري وهي :
11 - العنف الظاهري :
وليس هو عنفاً حقيقياً . مثال الآب الذي يتظاهر بالغضب والرغبة في استخدام العنف ، وذلك ليقود ابنه إلى الطاعة . أو مثال رئيس العمل الذي يهدد بعقوبة معينة لا ينوي مطلقاً أن يفرضها ، وذلك لتخويف مرؤسيه حتى يسلكوا حسناً .
12 - العنف المشترك :
كشخص ليس هو عنيفاً في ذاته ، ولكنه يستخدم عنفاء يوصونه إلى غرضه ، فيكون العنف هنا غير مباشر بالنسبة إليه ..
العنف الخاطئ ، والعنف السليم
لا نستطيع أن نسمي كل عنف خطية فهناك مواقف تحتاج إلى عنف ، مثل معاقبة الخطاة المستهترين أو المستبيحين أو الذين يهددون المجتمع بجرائم تحطمه أو تحطم تراثه وقيمته .
والله نفسه سجل في الكتاب المقدس أنواعاً من العقوبات كانت عنيفة . وذلك لكي يرتدع الآخرون ، ولكي تكون درساً للأجيال . لأن التسامح المستمر قد يقود إلى الاستهتار . ولعل الطوفان في العهد القديم كان من هذا النوع ، وكذلك إنشقاق الأرض لتبتلع قورح وداثان وابيرام .
وفي العهد الجديد ، واضحة جداً في هذا المجال قصة حنانيا وسفيرا ( أع5 ) .
وقد قال الكتاب عن السلطان أنه لا يحمل السيف عبثاً ن إذ هو خادم الله ، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر ( رو13 : 4 ، 5 ) .
فهناك جرائم إذا لم تؤخذ بعنف ، قد يستهتر مرتكبوها فيكررونها ، ويكونون قدوة سيئة لغيرهم . أما إذا عولجت بحزم وحسم ، فإن المجتمع يتنقى ويتطهر .
وهنا نذكر قاعدة روحية هامة ..
هناك فرق بين الحق العام والحق الخاص . قد نتساهل في حقوقنا الخاصة ، بدافع من الوداعة والحب والسلام والمغفرة للمسيئين . أما الحق العالم فلا تساهل فيه .
إننا لا نملكه ، بل هو ملك للمجتمع كله . والمجتمع يحتاج إلى صيانة ، حتى لا يأكل القوي الضعيف .
اطلب الكتب الآتية ، من مؤلفات قداسة البابا
أ - روحانية الصوم :
وهو يشمل خمسة أبواب هامة عن الصوم هي :
أهمية الصوم ، الصوم والجسد ، قدسوا صوماً
فضائل ومشاعر ومصاحبة للصوم ، تداريب أثناء الصوم .
ب - خمس كتب عن أسبوع الآلام ، وهي :
1 - لك القوة والمجد ( تسبحة البصخة ) .
2 - أسبوع الآلام .
3 - خميس العهد .
4 - الجمعة الكبيرة .
5 - كلمات المسيح على الصليب .
ج - تجربة المسيح على الجبل :