الرد على نقد المسلمين لخطايا الأنبياء في الكتاب المقدس
خطايا الأنبياء في القرآن والسنة
خطية داود
يحاول هذا البحث الوصول إلى إجابة السؤال التالي:-
هل يقر القرآن بوقوع النبي داود في خطيئة الزنا أم لا؟
وللإجابة على هذا السؤال سوف نتناول الآيات الواردة في القرآن والتي ذكرت قصة داود بالبحث والتحليل ، والآيات موضوع الدراسة موجودة في سورة "ص" وبالتحديد من الآية 21 إلى الآية 26 حيث تقول الآيات :-
( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ {21} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ {22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ {23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ {س} . {24} فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ {25} يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ {26} )
ولنرجع إلى المصادر الإسلامية في تفسير القرآن
أولا : تفسير الجلالين :- {وهل } معنى الاستفهام هنا التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده {أتاك } يا محمد {نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } محراب داود أي مسجده حيث منعوا الدخول عليه من الباب لشغله بالعبادة أي خبرهم وقصتهم
{إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف } نحن {خصمان } قيل فريقان ليطابق ما قبله من ضمير الجمع وقيل اثنان والضمير بمعناها والخصم يطلق على الواحد وأكثر وهما ملكان جاءا في الصورة خصمين وقع لهما ما ذكر على سبيل الفرض لتنبيه داود عليه السلام على ما وقع منه وكان له تسع وتسعون امرأة وطلب امرأة شخص ليس له غيرها وتزوجها ودخل بها {بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } تجر {واهدنا } أرشدنا {إلى سواء الصراط } وسط الطريق الصواب
{إن هذا أخي } أي على ديني {له تسع وتسعون نعجة } يعبر بها عن المرأة {ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها} أى اجعلني كافلها {وعزني } غلبني {في الخطاب } أي الجدال وأقره الآخر على ذلك
{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك } ليضمها {إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء } الشركاء {ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } ما لتأكيد القلة فقال الملكان صاعدين في صورتيهما إلى السماء قضى الرجل على نفسه فتنبه داود قال تعالى {وظن } أى أيقن {داود أنما فتناه } أوقعناه في فتنة أي بلية بمحبته تلك المرأة {فاستغفر ربه وخر راكعا } ساجدا {وأناب }
{فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى } أى زيادة خير في الدنيا {وحسن مآب } مرجع في الآخرة {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } تدبر أمر الناس {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } أى هوى النفس {فيضلك عن سبيل الله } عن الدلائل الدالة على توحيده {إن الذين يضلون عن سبيل الله } عن الايمان بالله {لهم عذاب شديد بما نسوا } بنسيانهم {يوم الحساب } المرتب عليه تركهم الايمان ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا
نتيجة 1 : هذا تفسير الجلالين ذكر قصة اشتهاء داود لزوجة غيره
ثانيا : زيدة التفاسير :-
(وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) بعث الله إلى داود ملكين لينبهه على التوبة، أتوه من أعلى سوره، ونزلوا إليه في محرابه حيث يصلي. عن ابن عباس أن داود رأى امرأة أوريا تغتسل فأعجبته فقدم زوجها في الحرب حتى قتل فلما انقضت عدتها خطبها داود وتزوجها.فتسور عليه الملكان المحراب، وكان شأنهما ما قص الله في كتابه، وخر داود ساجدا فغفر الله له وتاب عليه. وبعض العلماء ينكر هذه القصة في حق امرأة أوريا، ويقول: لم يكونا ملكين، بل كانا بشرين اختصما في النعاج حقيقة.
(إذ دخلوا على داود ففزع منهم) دخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس (ولا تشطط) أي لا تَجُرْ في حكمك (واهدنا إلى سواء الصراط) أرشدنا إلى الحق، واحملنا عليه، ثم قال أحدهما: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) النعجة الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش نعجة (ولي نعجة واحدة) والعرب تكنى عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج من البقر (فقال أكفلنيها) أي أعطني نعجتك حتى أضمها إلى نعاجي وتكون كفلي ونصيبي (وعزني في الخطاب) أي غلبني (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) حكم ببطلان ما سمعه من طلب صاحب النعاج التسع والتسعين أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها. قال النحاس: ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: ( لقد ظلمك) لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم (وإن كثيرا من الخلطاء) وهم الشركاء في المال. (ليبغي بعضهم على بعض) يظلمه غير مراع لحقه (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطا ولا غيره (وقليل ما هم) أي: وقليل هم (وظن داود أنما فتناه) أيقن أننا ابتليناه، علم عند ذلك أنه هو المراد، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن يحتال عليه حتى يتزوج امرأته. وقيل: استغفر ربه من أنه حكم بين الخصمين في النعاج قبل أن يسمع بينة الخصم الآخر وكان الحق له (فاستغفر ربه) لذنبه (وخر راكعا) أي: ساجدا، وعبر بالركوع عن السجود (وأناب) أي: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه، ما تقدم من أنه قدم زوج المرأة الواحدة في الحرب حتى قتل، فتزوجها هو، ونبهه الله على ذلك، وعرض له بإرسال ملائكته إليه حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه، فاستغفر وتاب (فغفرنا له ذلك) أي ذلك الذنب الذي استغفر منه (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) الزلفى: القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه، وحسن المآب: حسن المرجع، وهو الجنة (يا داود إنا جعلناك خليفة) أي: وقلنا له: استخلفناك على الأرض، أو جعلناك خليفة لمن قبلك من الأنبياء، لتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر (فاحكم بين الناس بالحق) أي: بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده (ولا تتبع الهوى) في الحكم بين العباد (فيضلك عن سبيل الله) هو طريق الحق، أو طريق الجنة (بما نسوا يوم الحساب) أي: بسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل
نتيجة 2 : وهذه اقوال زبدة التفاسير ذكرت قصة داود واشتهائه للمرأة المتزوجة وقصة استحمامها في البحيرة ، إلى جانب أن داود قال ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) كقول آخر للعلماء . وواضح جدا أن قصة اشتهاء داود لزوجة المرأة هي الغالبة على التفسير . وسوف يتضح لنا أي تفسير هو الذي رجح عند العلماء عندما نستعرض بقية التفاسير .
ثالثا : مختصر الطبري :- {نبأ الخصم}: خبر الخصم. و"الخصم" في هذا الموضع: مَلَكَان {إذ تسوروا المحراب} دخلوا من غير باب و"المحراب": مقدم كل بيت ومجلس.
{ففزع منهم} لأنهما دخلا عليه ليلا، في غير وقتِ نَظَرِهِ بين الناس {قالوا لا تخف} لما رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب {خصمان} بمعنى: نحن خصمان {بغى}: تَعَدَّى بغير حق {ولا تشطط} لا تَمِلْ ولا تَحِفْ {واهدنا}: احملنا على الحق وأرشدنا إليه
{إن هذا أخي} يعني: على ديني {له تسع وتسعون نعجة} مَثَلٌ ضربه الخصم المتسور على داود {فقال أكفلنيها} انزل لي عنها. وَخَلِّ سبيلها، لأضمها إليَّ {وعزني في الخطاب}: صار أعز مني في مخاطبته إياي.
{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ... } إلى قوله: {وأناب} يقول داود: لقد ظلمك بسؤال نعجتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نعاجه {وإن كثيرا من الخلطاء}: من الشركاء {ليبغي}: ليتعدى {وقليل ما هم} بمعنى: وقليل هم.
{وإن له عندنا لزلفى} لقُرْبَة منا يوم القيامة {وحسن مآب}: حسن منقلب.
{إنا جعلناك خليفة في الأرض} استخلفناك حَكَما بين أهلها، من بعد مَنْ كان قبلك من رسلنا {ولا تتبع الهوى} في قضائك بينهم {فيضلك عن سبيل الله}: فتجور عن الحق، الذي هو سبيل الله.
نتيجة 3 : تفسير الطبري أيضا رجح قصة اشتهاء داود لزوجة أوريا.
رابعا : تفسير المنتخب :-
وهل جاءك - يا محمد - خبر الخصوم الذين جاءوا داود من سور المحراب وهو محل العبادة، لا من بابه.
إذ دخلوا على داود فخاف منهم واضطرب. قالوا: لا تخف ، نحن متخاصمان، ظلم بعضنا بعضا، فاحكم بيننا بالعدل ولا تتجاوزه، وأرشدنا إلى الطريقة المثلى.
قال أحد الخصمين: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال: اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي: وغلبني في المخاطبة.
قال داود قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر: لقد ظلمك بطلب ضم نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرًا من المتخالطين ليجوز بعضهم على بعض، إلا من استقر الإيمان في قلوبهم، وكان عمل الصالحات من دأبهم، وهم قلة نادرة، وعرف داود أن الأمر ما هو إلا امتحان منا له، فطلب من الله المغفرة، وانحنى راكعا لله، ورجع إليه خاشعًا.
فغفرنا له تعجله في الحكم، وإن له عندنا لقربى وحسن مرجع.
وأوحى الله إليه: يا دواد إنا صيرناك خليفة عنا في الأرض، فاحكم بين الناس بما شرعت لك، ولا تسر في الحكم وراء الهوى، فيحيد بك عن سبيل الله، إن الذين يحيدون عن سبيل الله باتباع أهوائهم لهم عذاب شديد بغفلتهم عن يوم الجزاء.
نتيجة 4: تفسير المتخب ذكر أن خطيئة داود كانت أنه لم يسمع كلام الشخص الآخر وتسرع في الحكم ، وأغفل تماما القول الآخر باشتهاء داود لزوجة أوريا.
خامسا : تفسير ابن كثير :- قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا وقوله تعالى "ففزع منهم" إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عز وجل "وعزني في الخطاب" أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب وقوله تعالى "وظن داود إنما فتناه" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي اختبرناه وقوله تعالى "وخر راكعا" أي ساجدا "وأناب" ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا "أربعين صباحا" فغفرنا له ذلك أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين وقد اختلف الأئمة في سجدة ص هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في السجدة في ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال " سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكرا" تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد الكنجدروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد ابن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم كأنى أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وأجعلها لي عندك دخرا وضع بها عني وزرا وأقبلها مني كما فبلتها من عبدك داود قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجة عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال البخاري عند تفسيرها أيضا حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ "ومن ذريته داود وسليمان" "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو ابن عبد الله المزني أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب ص فلما بلغ إلى الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال قفصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد تفرد به أحمد وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال صلى الله عليه وسلم "إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم "فنزل وسجد تفرد به أبو داود وإسناده عل شرط الصحيح.
نتيجة 5 : تفسير ابن كثير امتنع عن ذكر القصة لانها مأخوذة من الاسرائيليات ( أي من الكتاب المقدس ) . ورد علمها الى الله تعالى . لم يصدقها ولم يكذبها ( اعني قصة الاسرائيليات ) ، والتزم بالامر بعدم تصديق قصص أهل الكتاب وعدم تكذيبها كما يأمر الحديث ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْآيَة) صحيح البخاري. ولم يقدم ابن كثير أي تفسير لهذه الآية مطالبا المسلم بقراءتها كما هي دون فهم القصة التي تكمن خلفها .
سادسا : تفسير القرطبي :-
فيه أربع وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُوا الْمِحْرَابَ } «الْخَصْم» يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر. قال الشاعر:
وَخَصْم غِضابٌ يَنْفُضُونَ لِحَاهُمُ كنفضِ البَرَاذينِ العِرابِ المَخَالِيَا
النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به هاهنا مَلَكان. وقيل: «تَسَوّرُوا» وإن كان اثنين حملاً على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعًا له، مثل الركب والصحب. تقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصمٍ. ومعنى: «تَسَوّرُوا المِحْرَابَ» أتوه من أعلى سوره. يقال: تسوّر الحائط تسلّقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السّوَرُ جمع سورةٍ مثل بُسْرَةٍ وبُسَرٍ وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدّمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة:
ألم تَرَ أنَ اللّهَ أعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلّ مَلْكٍ دونها يتذبذب
يريد شرفًا ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة بالفارسي. وفي الحديث: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب: «إن جابرًا قد صنع لكم سؤرًا فَحَيّهلاً بكم». والمحراب هنا الغرفة لأنهم تسوّروا عليه فيها قاله يحيـى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقد مضى القول فيه في غير موضع. {إِذْ دَخَلُوا عَلَىَ دَاوُودَ} جاءت «اِذْ» مرتين لأنهما فعلان. وزعم الفرّاء: أن إحداهما بمعنى لما. وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينًا لما قبلها. قيل: إنهما كانا إنسيين قاله النقاش. وقيل: ملَكَين قاله جماعة. وعينهما جماعة فقالوا: إنهما جبريل وميكائيل. وقيل: ملَكَين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته. فمنعهما الحرس الدخول، فتسوّروا المحراب عليه، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين وهو قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُوا الْمِحْرَابَ } أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب قاله سفيان الثوري وغيره. وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدّث نفسه إن ابتلى أن يعتصم. فقيل له: إنك ستبتلي وتعلم اليوم الذي تبتلي فيه فخذ حِذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يَدرُج بين يديه. فهمّ أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها. قال السدّي: فوقعت في قلبه. قال ابن عباس: وكان زوجها غازيًا في سبيل الله وهو أورِيا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدّمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدّتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلامًا أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابًا، وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشَبّ، وتسوّر الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه. ذكره الماوردي وغيره. ولا يصح. قال ابن العربي: وهو أمثل ما روي في ذلك.
قلت: ورواه مرفوعًا بمعناه الترمذيّ الحكيم في «نوادر الأصول» عن يزيد الرقاشيّ، سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهمّ بها قطع على بني إسرائيل بَعْثًا وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدوّ قَرّب فلانًا وسماه، قال فقرّبه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يُستنصر به فمن قُدّم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقُدّم فقُتِل زوج المرأة ونزل الملَكان على داود فقصّا عليه القصّة». وقال سعيد عن قتادة: كتب إلى زوجها وذلك في حصِار عَمّان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب، وفيه الموت الأحمر، فتقدّم فقتل. وقال الثعلبي قال قوم من العلماء: إنما امتحن الله داود بالخطيئة لأنه تمنى يومًا على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم، ويعطيه نحو ما أعطاهم. وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام، يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: يا رب! إن الخير كله قد ذهب به آبائي فأوحى الله تعالى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها ابتلى إبراهيم بنمرود وبالنار وبذبح ابنه، وابتلى إسحاق بالذبح، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك. فقال داود عليه السلام: فابتلني بمثل ما ابتليتهم، وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة. فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه، وأغلق بابه، وجعل يصلّي ويقرأ الزبور. فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، فوقف بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها، فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوّة، فذهب ليأخذها فطارت ونظرُ داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها، فنظر امرأة في بستان على شط بركة تغتسل قاله الكلبي. وقال السدي: تغتسل عريانة على سطح لها فرأ أجمل النساء خَلْقًا، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده إعجابًا بها. وكان زوجها أوريا بن حنان، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا، وقدّمه قبل التابوت، وكان من قدّم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد. فقدّمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك. قال الكلبي: وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود، وكان إذا ضرب ضربة وكبّر كبّر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وكبّرت ملائكة السماء بتكبيرة حتى ينتهي ذلك إلى العرش، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره. قال: وكان سيوف الله ثلاثة كالب بن يوفنا في زمن موسى، وأوريا في زمن داود، وحمزة بن عبد المطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه: أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت ففتح الله عليه، فقتل في الثالثة شهيدًا. فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدّتها. فهي أم سليمان بن داود. وقيل: سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يومٍ بغير مقارفة شيء. قال الحسن: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء جزءًا لنسائه، وجزءًا للعبادة، وجزءًا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم، ويومًا للقضاء. فتذاكروا هل يمرّ على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبًا؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة الزبور، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدّم. قال علماؤنا: وفي هذا دليل وهي:
الثانية: على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولاً بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في «النساء». وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. وقد قال عليه السلام لعبد الله بن عمرو: «إنّ لزوجك عليك حقا» الحديث. وقال الحسن أيضًا ومجاهد: إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلِف: والله لأعدلنّ بينكم، ولم يستثن فابتلي بهذا. وقال أبو بكر الورّاق: كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال: هل في الأرض أحد يعمل كعملي. (فأرسل) الله إليه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول لك: أعجبتَ بعبادتك، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب، فإن أعجبت ثانية وَكَلْتُك إلى نفسك. قال: يا رب كِلني إلى نفسي سنة. قال: إن ذلك لكثير. قال: فشهرًا. قال: إن ذلك لكثير. قال: فيومًا. قال: إن ذلك لكثير. قال: يا رب فكِلني إلى نفسي ساعة. قال: فشأنك بها. فوكّل الأحراس، ولبس الصوف، ودخل المحراب، ووضع الزبور بين يديه فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه، فكان من أمر المرأة ما كان. وقال سفيان الثوري: قال داود ذات يوم: يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم. فأوحى الله إليه: يا داود منك ذلك أو مني؟ وعزتي لأكِلَنّك إلى نفسك. قال: يا رب اعف عنّي. قال: أكلك إلى نفسك سنة. قال: لا بعزتك. قال: فشهرًا. قال: لا بعزتك. قال: فأسبوعًا. قال: لا بعزتك. قال: فيومًا. قال: لا بعزتك. قال: فساعة. قال: لا بعزتك. قال: فلحظة. فقال له الشيطان: وما قدر لحظة. قال: كِلْني إلى نفسي لحظة. فوكله الله إلى نفسه لحظة. وقيل له: هي في يوم كذا في وقت كذا. فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة، ووكل الأحراس حول مكانه. قيل: أربعة آلاف. وقيل: ثلاثين ألفًا أو ثلاثة وثلاثين ألفًا. وخلا بعبادة ربه، ونشر الزبور بين يديه، فجاءت الحمامة فوقعت له، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان. وأرسل الله عز وجل إليه الملَكين بعد ولادة سليمان، وضربا له المثل بالنعاج فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخرّ ساجدًا أربعين ليلة على ما يأتي.
الثالثة: قوله تعالى: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم. وقيل: لدخولهم عليه بغير إذنه. وقيل: لأنهم تسوّروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. قال ابن العربي: وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه ادميّ بحيلة إلا أن يقيم إليه أيامًا أو أشهرًا بحسب طاقته، مع أعوان يكثر عددهم، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا: إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرًا عن ذلك: «تَسَوّرُوا الْمِحْرابَ» إذ لا يقال تسوّر المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازًا وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعًا أنهما ملَكَان لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا عُلْويّ. قال الثعلبي: وقد قيل: كان المتسوّران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له مَلَك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي: والأول أحسن أنهما كانا مَلَكين نَبّهَا داود على ما فعل.
قلت: وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل: كيف يجوز أن يقول الملكان «خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» وذلك كذب والملائكة عن مثله منزّهون. فالجواب عنه أنه لا بد في الكلام من تقدير فكأنهما قالا: قدّرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، وعلى ذلك يحمل قولهما: {إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل والله أعلم.
الرابعة: إن قيل: لِم فزع داود وهو نبيّ، وقد قويت نفسه بالنبوّة، واطمأنت بالوحي، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والأذِية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا: {إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىَ} (طه: 45) فقال الله عز وجل: «لاَ تَخَافا». وقالت الرسل للوط: {لاَ تَخَفْ إِنّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُوَا إِلَيْكَ} (هود: 81) وكذا قال الملكان هنا: «لاَ تَخَفْ». قال محمد بن إسحاق: بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلاً ضربه الله له ولأوريا فرآهما واقفين على رأسه فقال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىَ بَعْضُنَا عَلَىَ بَعْضٍ} فجئناك لتقضي بيننا.
الخامسة: قال ابن العربي: فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما، وهلا أدّبهما وقد دخلا عليه بغير إذن؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه: الأوّل: أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام، وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملاً في هذه الأحكام، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني: أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث: أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة، ومثل ضربه الله في القصة، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع: أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد.
قلت: وقول خامس ذكره القشيري وهو أنهما قالا: لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب، توصلنا إلى الدخول بالتّسور، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم، وأصغى إلى قولهم.
السادسة: قوله تعالى: {خَصْمَانِ} إن قيل: كيف قال: «خَصْمَانِ» وقبل هذا: «اِذْ تَسَوّرُوا الْمِحْرَاب» فقيل: لأن الاثنين جمع قال الخليل: كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبرًا، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة، خبّر الاثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج: المعنى نحن خصمان. وقال غيره: القول محذوف أي يقول: {خَصْمَانِ بَغَىَ بَعْضُنَا عَلَىَ بَعْضٍ} قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض لجاز. الماوردي: وكانا ملكين، ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يتأتى منهما كذب وتقدير كلامهما ما تقول: إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل: أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرّض للخصومات الأخر. والبغي التعدّي والخروج عن الواجب. يقال: بغى الجُرْح إذا أفرط وجعه وترامى إلى ما يفحش، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة.
السابعة: قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ} أي لا تَجُرْ قاله السدّي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه وأشططت أي جُرت. وفي حديث تميم الدارِيّ: (إنك لشَاطّي) أي جائر عليّ في الحكم. وقال قتادة: لا تَمِل. الأخفش: لا تُسرِف. وقيل: لا تُفرط. والمعنى متقارب. والأصل فيه البعد من شطتِ الدار أي بعدت شطّتِ الدار تَشِطّ وتَشُطّ شطّا وشُطوطًا بعدت. وأشطّ في القضية أي جار، وأشطّ في السّوْم واشتط أي أبعد، وأشطّوا في طلبي أي أمعنوا. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث:
«لها مهر مثلها لا وَكْسَ ولا شطط» أي لا نقصان ولا زيادة. وفي التنزيل: {لّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف: 14) أي جورًا من القول وبعدًا عن الحق. {وَاهْدِنَآ إِلَىَ سَوَآءِ الصّرَاطِ} أي أرشدنا إلى قصد السبيل.
الثامنة: قوله تعالى: {إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أي قال الملَكَ الذي تكلم عن أورِيا «اِنّ هَذَا أخِي» أي على ديني، وأشار إلى المدّعى عليه. وقيل: أخي أي صاحبي. «لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» وقرأ الحسن: «تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً» بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة، وهي الصحيحة من قراءة الحسن قاله النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة لما هي عليه من السكون والمعجَزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحِجْرة والناقة لأن الكل مركوب. قال ابن عون:
أنا أبوهنّ ثلاثٌ هُنّهْ رابعةٌ في البيت صُغْرا هُنّهْ
ونعجتي خمسا تُوفّيهِنّهْ ألا فتًى سمحٌ يُغذّيهِنّهْ
طَيّ النّقَا في الجوع يَطْوِيهِنّهْ ويلُ الرّغِيف ويلَهُ منْهُنّهْ
وقال عنترة:
يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمن حَلّتْ لَهُ حَرُمتْ عليّ وليتَها لم تَحْرُمِ
فَبَعَثْتُ جاريتي فقلتُ لها اذْهَبِي فتَجَسّسِي أخبارَها لي وَاعْلَمِ
قالتْ رأيْتُ مِن الأعادي غِرّةً والشّاةُ مُمْكِنَةٌ لمن هو مُرْتَمِ
فكَأنّمَا الْتَفَتَتْ بِجيدِ جِدايةٍ رَشَإٍ مِنَ الغِزْلانِ حُرّ أرْثَمِ
وقال آخر:
فرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ فَأصَبْتُ حَبّةَ قَلْبِها وطِحَالَهَا
وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل: هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق، كأنه قال: نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى: يقول: خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة كما تقول: رجل يقول لامرأته كذا ما يجب عليه؟
قلت: وقد تأوّل المزنيّ صاحب الشافعي هذه الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن شهاب الذي خرجه «الموطأ» وغيره: «هو لكَ يا عبدُ بنَ زَمْعَة» على نحو هذا قال المزني: يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أنّ هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد، ولا على زَمْعَة قول ابنه إنه ولد زنى، لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره. وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة إذ دخلوا عليه ففزع منهم، قالوا: لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرِف بها ما أرادوا تعريفه. فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في هذه القصة على المسألة، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث فإنه عندي صحيح. والله أعلم.
التاسعة: قال النحاس: وفي قراءة ابن مسعود «إِنّ هَذَا أخِي كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى» و«كان» هنا مثل قوله عز وجل: {وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رّحِيمًا} (النساء: 96) فأما قوله: «أنثى» فهو تأكيد، كما يقال: هو رجل ذكر وهو تأكيد. وقيل: لما كان يقال هذه مائة نعجة، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير، جاز أن يقال: أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها. وفي التفسير: له تسع وتسعون امرأة. قال ابن العربي: إن كان جميعهن أحرارًا فذلك شرعه، وإن كنّ إماء فذلك شرعنا. والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورًا بعدد، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لضعف الأبدان وقلة الأعمار. وقال القشيري: ويجوز أن يقال: لم يكن له هذا العدد بعينه، ولكن المقصود ضرب مثل، كما تقول: لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك، أي مرارًا كثيرة. قال ابن العربي: قال بعض المفسرين: لم يكن لداود مائة امرأة، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلاً المعنى: هذا غنيّ عن الزوجة وأنا مفتقر إليها. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن العدول عن الظاهر بغير دليل لا معنى له، ولا دليل يدلّ على أن شرع من قبلنا كان مقصورًا من النساءِ على ما في شرعنا. الثاني: أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله» وهذا نص.
العاشرة: قوله تعالى: {وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أي امرأة واحدة: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي انزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس: أعطنيها. وعنه: تحوّل لي عنها. وقاله ابن مسعود. وقال أبو العالية: ضمها إليّ حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: اجعلها كِفلي ونصيبي. {وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبني. قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. يقال: عزّه يَعُزّه (بضم العين في المستقبل) عَزّا غلبه. وفي المثل: من عَزّ بَزّ أي من غَلَبَ سَلَب. والاسم العزة وهي القوّة والغلبة. قال الشاعر:
قَطاةٌ عَزّها شَرَكٌ فباتَتْتُ جاذِبهُ وقد عَلِقَ الْجنَاحُ
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: «وَعَازّنِي فِي الْخطَابِ» أي غالبني من المعازّة وهي المغالبة عازّهُ أي غالبه. قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة فقيل: معناه غلبني ببيانه. وقيل: غلبني بسلطانه لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له: سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلاً حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت: أما إذا كان عدلاً فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته، كما عجب من جوابي له واستغربه.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ} قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببيّنة، ولا إقرار من الخصم هل كان هذا كذا أو لم يكن. فهذا قول.
وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبّهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال: في كتاب «إعراب القرآن». وقال: في كتاب «معاني القرآن» له بمثله. قال رضي الله عنه: قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: ما زاد داود عليه السلام على أن قال: «أكْفِلْنِيهَا» أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال: ما زاد داود - صلى الله عليه وسلم - على أن قال: «أكْفِلْنِيهَا» أي تحوّل لي عنها وضمها إليّ. قال أبو جعفر: فهذا أجلّ ما روي في هذا، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته، فنبهه الله عز وجل على ذلك، وعاتبه لما كان نبيًا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعًا فإن داود - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما فقال له: بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا ويسند؟! وعلى من في نقله يعتمد، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة «الأحزاب» نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة، وذلك قوله: {مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} (الأحزاب: 38) يعني في أحد الأقوال: تزويج داود المرأة التي نظر إليها، كما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال للزوج في فراق، بل أمره بالتمسك بزوجته، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها. فكانت هذه المنقبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم. ولكن قد قيل: إن معنى {سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} (الأحزاب: 62) تزويج الأنبياء بغير صداق منَ وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق. وقيل: أراد بقوله: {سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} (الأحزاب: 62) أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره. وهذا أصح الأقوال. وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة وهذا نص القرآن. وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية وربك أعلم. وذكر الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُوا الْمِحْرَابَ } الآية: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خِطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال: هو أوريا فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأوّل، ولم يكن بذلك داود عارفًا، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك، من حيث أعجب بها إما وصفًا أو مشاهدةً على غير تعمد وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبهه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسوّر الملَكَين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض لكي يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ} فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول. قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملّة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر. وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلّم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر» وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل: تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك. والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه.
قلت: ذكر هذين الوجهين القشيري والماورديّ وغيرهما. قال القشيري: وقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل فيمكن أن يقال: إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه. وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته، فهذا معلوم من قرائن الحال، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول، فسكّته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه. قال ويحتمل أن يقال: كان من شرعهم التعويل على قول المدّعي عند سكوت المدّعى عليه، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول. وقال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له: ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت، أو كانت خافية فظهرت: السجود لله عز وجل. قال والأصل في ذلك قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ} إلى قوله: {وَحُسْنَ مَـآبٍ}. أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام: أنه سمع قول المتظلم من الخصمين ، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألاّ يسأل الخصم فقال له مستعجلاً: «لَقَدْ ظَلَمَكَ» مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرّني قبل أن أجرّه، وجاءك متظلمًا من قبل أن أحضره، لتظنّ أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخَرّ راكعًا لله تعالى شكرًا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئًا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصوّر في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه فقال: «يَا دَاوُدُ اِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ» فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة، التي توخاه بها بعد المغفرة، أن خطيئته إنما كانت التقصيرَ في الحكم، والمبادرةَ إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه. ثم جاء عن ابن عباس أنه قال: سجدها داود شكرًا، وسجدها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتباعًا، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم. {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} أي بسؤاله نعجتك فأضاف المصدر إلى المفعول، وألقى الهاء من السؤال وهو كقوله تعالى: {لاّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} (فصلت: 49) أي من دعائه الخير.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَإِنّ كَثِيرًا مّنَ الْخُلَطَآءِ} يقال: خلِيط وخلطاء، ولا يقال طويل وطولاء لثقل الحركة في الواو. وفيه وجهان: أحدهما أنهما الأصحاب. الثاني أنهما الشركاء. قلت: إطلاق الخلطاء على الشركاء فيه بعد، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء، فقال أكثر العلماء: هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدّلو والمراح. وقال طاوس وعطاء: لا يكون الخلطاء إلا الشركاء. وهذا خلاف الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُجْمع بين متفرّق ولا يفَرّق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» وروي «فإنهما يترادّان الفضل» ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء فاعلمه. وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه. ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون (الصدقة) على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة. وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي: إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة. قال مالك: وإن أخذ المصّدّق بهذا ترادّوا بينهم للاختلاف في ذلك، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {لَيَبْغِيَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ} أي يتعدّى ويظلم. {إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ} فإنهم لا يظلمون أحدًا. {وَقَلِيلٌ مّا هُمْ} يعني الصالحين، أي وقليل هم فـ«ما» زائدة. وقيل: بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم. وسمع عمر - رضي الله عنه - رجلاً يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال أردت قول الله عز وجل: {إِلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مّا هُمْ} فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر!
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَظَنّ دَاوُودُ أَنّمَا فَتَنّاهُ} أي ابتليناه. «وَظَنّ» معناه أيقن. قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين. والقراءة «فَتَنّاهُ» بتشديد النون دون التاء. وقرأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «فَتّنّاهُ» بتشديد التاء والنون على المبالغة. وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السّمَيْقَع «فَتَنَاهُ» بتخفيفهما. ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو، والمراد به الملَكَان اللذان دخلا على داود عليه السلام
السادسة عشرة: قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، فلم يفطن داود فأحبّا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حِيال وجهه، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه.
قلت: وليس في القرآن ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرّهم داود على ذلك. ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك: القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور. ولا بأس أن يجلس في رحبته ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود ولا بأس بخفيف الأدب. وقد قال أشهب: يقضي في منزله وأين أحب.
السابعة عشرة: قال مالك رحمه الله: وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم، وأوّل من استقضى معاوية. قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء. وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضي حتى يكون عالمًا بآثار من مضى، مستشيرًا لذوي الرأي، حليمًا نزها. قال: ويكون ورعًا. قال مالك: وينبغي أن يكون متيقظًا كثير التحذر من الحيل، وأن يكون عالمًا بالشروط، عارفًا بما لا بُدّ له منه من العربية فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له. وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب: أبقيت لك حجة؟ فإن قال لا حكم عليه، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة. وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ} اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة: الأوّل أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنته النظرة. قال أبو إسحاق: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، فصارت الأولى له والثانية عليه. الثاني أنه أغزى زوجها في حملة التابوت. الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود فزوّجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا، فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها، وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا، كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله. السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر. قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السديّ عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرّمًا لجلدته ستين ومائة لأن حدّ (قاذف) الناس ثمانون وحدّ (قاذف) الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضًا. قال الثعلبي: وقال الحارث الأعور عن عليّ: من حدّث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدًا جلدته حدّين لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين، وحجة للمجتهدين. قال ابن العربي: وهذا مما لم يصح عن عليّ. فإن قيل: فما حكمه عندكم؟ قلنا: أما من قال إن نبيّا زنى فإنه يقتل، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة، فقد اختلف (نقل) الناس في ذلك فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته، فإنه يناقض التعزير المأمور به، فأما قولهم: إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها. وأما قولهم: إنه (نوى) إن مات زوجها تزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرّضه للموت. وأما قولهم: إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يردّه القرآن والآثار التفسيرية كلها. وقد روى أشهب عن مالك قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبًا من داود عليه السلام وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده، ثم صنع مثل ذلك مرتين، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدًا حتى نبت العشب من دموع عينيه. قال ابن العربي: وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهمّ بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة لأنه مباح فعله، لاسيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة، وإنما اتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه، وإنما ذِكرهم لحسن الطائر خرقٌ في الجهالة. أما أنه روي أنه كان طائرًا من ذهب فاتبعه ليأخذه لأنه من فضل الله - سبحانه وتعالى - كما روي في الصحيح: «إن أيوب عليه السلام كان يغتسل عريانًا فخرّ عليه رِجل من جراد (من ذهب) فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه فقال الله تعالى له: «يا أيوب ألم أكن أغنيتك» قال: «بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك». وقال القشيري: فهمّ داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كُوّة البيت، وقاله الثعلبي أيضًا وقد تقدّم.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَخَرّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أي خر ساجدًا، وقد يعبر عن السجود بالركوع. قال الشاعر:
فخرّ على وَجهِه راكِعًا وتابَ إلى الله مِنْ كُلّ ذنب
قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمى السجود ركوعًا. وقال المهدوي: وكان ركوعهم سجودًا. وقيل: بل كان سجودهم ركوعًا. وقال مقاتل: فوقع من ركوعه ساجدًا لله عز وجل. أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة، ثم وقع من الركوع إلى السجود لاشتمالهما جميعًا على الانحناء. {وَأَنَابَ} أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله. وقال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله عز وجل: {وَخَرّ رَاكِعًا} فهل يقال للراكع خَرّ؟. قلت: لا. قال: فما معنى الآية؟
قلت: معناها فخرّ بعد أن كان راكعًا أي سجد.
الموفية عشرين: واختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا؟ فروى أبو سعيد الخدري: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر {صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ } فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتَشَزّنَ الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها توبة نبيّ ولكني رأيتكم تَشَزّنتم للسجود» ونزل وسجد. وهذا لفظ أبي داود. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «صَ» ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها. وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال: «صَ» توبة نبيّ ولا يسجد فيها وعن ابن عباس أنها توبة نبيّ ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به. قال ابن العربي: والذي عندي أنها ليست موضع سجود، ولكن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به. ومعنى السجود أن داود سجد خاضعًا لربه، معترفًا بذنبه، تائبًا من خطيئته فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه، وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد. والله أعلم.
الحادية والعشرون: قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: قوله: {وَخَرّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} فيه دلالة على أن السجود للشكر مفردًا لا يجوز لأنه ذكر معه الركوع وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرًا فأما سجدة مفردة فلا وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرًا، ولو كان ذلك مفعولاً لهم لنقل نقلاً متظاهرًا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة.
قلت: وفي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى يوم بُشّر برأس أبي جهل ركعتين. وخرّج من حديث أبي بكرة: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمر يسرّه - أو يسّر به - خر ساجدًا شكرًا لله. وهذا قول الشافعي وغيره.
الثانية والعشرون: روى الترمذي وغيره واللفظ للغير: أن رجلاً من الأنصار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ: {صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ } فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرًا، وارزقني بها شكرًا.
قلت: خرّج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة (فسجدت) فسجدتْ الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم احطط بها عني وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا. قال ابن عباس: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ «السجدة» فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة. ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال: قلت يا رسول الله رأيتُني في النوم كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ «صَ» فلما بلغت السجدة سجدتْ فيها، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها أجرًا، وحط عني بها وزرًا، وارزقني بها شكرًا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أفسجدت أنت يا أبا سعيد» فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: «لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة» ثم قرأ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «صَ» حتى بلغ السجدة فسجد، ثم قال مثل ما قالت الشجرة.
الثالثة والعشرون: قوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي فغفرنا له ذنبه. قال ابن الأنباري: «فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ» تام، ثم تبتدئ «وَاِنّ لَهُ» وقال القشيري: ويجوز الوقف على «فَغَفَرْنَا لَهُ» ثم تبتدئ «ذَلِكَ وَاِنّ لَهُ» كقوله: {هَـَذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ} (صَ: 55) أي الأمر ذلك. وقال عطاء الخراساني وغيره: إن داود سجد أربعين يومًا حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه، فنودي: أجائع فتطعَم وأعارٍ فتكسَى فَنَحب نحبة هاج المرعى من حرّ جوفه، فغفِر له وستر بها. فقال: يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلاً من بني إسرائيل، تركت أولادهم أيتاما، ونساءهم أرامل؟ قال: يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة. قال: يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة. ثم قيل: يا داود ارفع رأسك. فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نَشِب في الأرض، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها. رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء. قال الوليد: وأخبرني مُنِير بن الزبير، قال: فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله. قال الوليد قال ابن لهيعة: فكان يقول في سجوده سبحانك هذا شرابي دموعي، وهذا طعامي في رماد بين يدي. في رواية: إنه سجد أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة، فبكى حتى نبت العُشْب من دموعه. وروي مرفوعًا من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن داود مكث أربعين ليلة ساجدًا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده: يا رب داود زلّ زلّة بَعُد بها ما بين المشرق والمغرب ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثًا في الخلق من بعده فقال له جبريل بعد أربعين سنة يا داود إن الله قد غفر لك الهَمّ الذي هممت به» وقال وهب: إن داود عليه السلام نودي إني قد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال: لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك؟ قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدًا. فقال الله لجبريل: اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه، فأنا أسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا، ونادى يا أوريا فقال: لبيك! من هذا الذي قطع عليّ لذتي وأيقظني؟ فقال: أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حلّ فإني عرّضتك للقتل قال: عرضتني للجنة فأنت في حلّ. وقال الحسن وغيره: كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين، ويقول: تعالوا إلى داود الخطّاء، ولا يشرب شرابًا إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قَصْعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه، وكان يذرّ عليه الرماد والملح فيأكل ويقول: هذا أكل الخاطئين. وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر، ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله. وقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته منقوشة في كفه. فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه. وروى الوليد بن مسلم: حّدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مثل عيني داود مثل القِربتين تَنْطُفان ولقد خدّد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض». قال الوليد: وحدّثنا عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول داود إذ هو خلوٌ من الخطيئة شدّة قوله في الخطائين أن كان يقول: اللهم لا تغفر للخطائين. ثم صار إلى أن يقول: اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم سبحان خالق النور. إلهي! خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني. اِلهي! أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها سبحان خالق النور. إلهي! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحْبها عليّ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إليّ روحي. وفي الخبر: أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته فكان ينادي: اِلهي! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت عليّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إليّ روحي ربّ! اغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم. وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها. وكان إذا كان يوم نَوْحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشّعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران: ألا إن هذا يوم نوحِ داود، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده فيهبط السياح من الغيران والأودية، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عُكّفٌ وبنو إسرائيل حول منبره، فإذا أخذ في العويل والنوح، وأثارت الحرقات منابع دموعه، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحًا وبكاء، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم. ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة أتاه مَلَك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل فقال: جئت لأقبض روحك. فقال: دعني حتى أنزل أو أرتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها أثرًا. قال: فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال. وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وقيل: تسع وسبعون، وعاش مائة سنة، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة.
الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَـآبٍ} قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: {وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ} قربة بعد المغفرة. {وَحُسْنَ مَـآبٍ} قالا: والله إن أوّل من يشرب الكأس يوم القيامة داود. وقال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. وعن مجاهد: يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده: فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزًا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى. قال: ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له هاهنا ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا (حتى يقرّب فيسكن) فذلك قوله عز وجل: {وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَـآبٍ} ذكره الترمذي الحكيم. قال: حدّثنا الفضل بن محمد، قال حدّثنا عبد الملك بن الأصبغ قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال حدّثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره. قال الترمذي: ولقد كنت أمر زمانًا طويلاً بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله: {رَبّنَا عَجّل لّنَا قِطّنَا} (صَ: 16) والقِط الصحيفة في اللغة وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } (الانشقاق: 7): وقال لهم: «إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم» قالوا: «رَبّنَا عَجّلْ لَنَا قِطّنَا» أي صحيفتنا «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ» قال الله تعالى: {اصْبِر عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ} (صَ: 17) فقص قصة خطيئته إلى منتهاها، فكنت أقول: أمره بالصبر على ما قالوا، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد من هذا الذكر؟ وكيف اتصل هذا بذاك؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه، حتى هداني الله يومًا فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله وقالوا: «رَبّنَا عَجّلْ لَنَا قِطّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ» فأوجعه ذلك من استهزائهم، فأمره بالصبر على مقالتهم، وأن يذكر عبده داود سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه، وهو حبيبه ووليه وصفيه فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا، فكيف كان يحلّ بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف، وقد أخبر الله عنهم فقال: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهَـَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا} (الكهف: 49) فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها. وقد روينا في الحديث: إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق ثم يقال هاهنا، ثم يرى فيقلق حتى يُقرّب فيسكن. يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} أي ملّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلُف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. وقد مضى في «البقرة» القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ} أي بالعدل. وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا فاحكم بين الناس بالعدل {وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَىَ} أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله {فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي عن طريق الجنة. {إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي يحيدون عنها ويتركونها {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ} في النار {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي بما تركوا من سلوك طريق الله فقوله: «نَسُوا» أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين. ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوّة. وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته.
الثالثة: الأصل في الأقضية قوله تعالى: {يَدَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ} وقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ} (المائدة: 49) وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ} (النساء: 105) وقوله تعالى: {يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ } (المائدة: 8) الآية. وقد تقدّم الكلام فيه.
الرابعة: قال ابن عباس في قوله تعالى: {يَدَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَىَ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوًى، فلا تشته في نفسك الحق له لِيفلُج على صاحبه، فإن فعلتَ محوتُ اسمك من نبوّتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدلّ هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألاّ يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة، أو غيرهما. وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام، لأنه تقدّم إليه خصمان فهوِي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: بلغني أن قاضيًا كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علَما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك وإذا هو قصّر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مدّ يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطًا فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصّرت عن الحق قصّر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعامًا ولا شرابًا، ولم يفِض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحلّ الله له من أهل أو مطعم أو مشرب. فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه، فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقًا وخِدْنًا، فتحرّك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمدّ يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمّر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه فخرّ ساجدًا وهو يقول: يا ربّ شيئًا لم أتعمده ولم أردْه فبيّنْه لي. فقيل له أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به، قد أردته وأحببته ولكن الله قد ردّ الحق إلى أهله وأنت كاره. وعن ليث قال: تقدّم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما، ثم عادا فأقامهما، ثم عادا ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدّما إليّ فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك، ثم عادا فوجدت بعض ذلك له، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما. وقال الشعبي: كان بين عمر وأُبَيّ خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته، فقال عمر: هذا أوّل جورك أجلسني وإياه مجلسًا واحدًا فجلسا بين يديه.
الخامسة: هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه لأن الحكام لو مكّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه ويهلك عدوّه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر قال: لو رأيت رجلاً على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترى فرسًا فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه وقال: «من يشهد لي» فقام خزيمة فشهد فحكم. خرّج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في «البقرة».
نتيجة 6: نرى من تفسير القرطبي أنه اعتمد بشكل أساسي على قصة أوريا لتفسير الآية ، وقد اعتمدت جميع الأقوال النافية لهذه القصة على استنكار من المعترضين عليها لكون هذه الخطية تصدر من نبي فقط ، ولم تعتمد اعتراضاتهم على حجج قوية غير أنهم يرفضون أن يقوم نبي بهذا العمل واعتقادهم الشخصي أن الأنبياء معصومين من الخطأ وهو ما تنفيه الآية القرآنية التي نحن بصدد بحثها أساسا! ، حيث أنها تتحدث عن خطية داود بالفعل. . وقد قدم القرطبي أيضا الوجه الآخر لتفسير الآية الذي يعتمد على أن خطية داود تكمن في اصدار حكمه بدون سماع الرأي الآخر ، وقد ذكر القرطبي حجج الرافضين لهذا الرأي والتي اعتمدت على أدلة منطقية ( يرجى مراجعى المسألة الثانية عشر لقراءة الحجج النافية لتفسير خطأ داود على أساس تسرعه في الحكم ).
سابعا : تفسير البيضاوي :-
أقصى ما في هذه القصة الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ( داود ) ود أن يكون له ما لغيره ، وكان له امثاله ، فنبهه الله بهذه القصة ، فاستغفر وأناب عنه ، وما روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها ، وسعى حتى تزوجها ، وولدت منه سليمان ان صح فلعله خطب مخطوبته او استنزله عن زوجته ، وكان ذلك معتادا فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى ، وما قيل أنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارا وأمر ان يقدم حتى قتل فتزوجها داود هراءً وافتراًء . نتيجة 7: واضح من تفسير البيضاوي اعتماده في تفسير الآية على قصة أوريا ، لدرجة وصفه للزيجة بأنها كانت ( هراء وافتراء ) .
خلاصة البحث :-
1- أجمعت تفاسير العلماء المسلمين على تفسير قصة خطية داود بقصة أوريا ..
2- من اين استقوا تفسيرهم لقصة أوريا التي اجمعوا عليها ؟ : قصة أوريا التي تحكي خطية النبي داود هي قصة مستقاة من الكتاب المقدس ، وقد أخذها المفسرون المسلمون وعدلوا فيها بما يتناسب مع أهوائهم ، فقاموا بتخفيف الذنب الذي ارتكبه داود من الزنا إلى النظر بشهوة ، ودفع الزوج إلى الموت حتى يحظى بزوجته خالصة له ، ولم يعتمد العلماء المسلمون في حذفهم لبعض تفاصيل القصة وتعديلهم فيها على أي مصادر علمية أو أثرية ولا حتى عن طريق محمد ، بل اعتمدوا على تقديرهم الشخصي للخطوط الحمراء في تصورهم للخطية التي تكون صادرة عن نبي. حيث أجمعوا على أنها لا يجب أن تكون من الكبائر ويجب تعديل القصة لجعل الخطية من الصغائر فقط. مع ملاحظة أن تقسيم الخطايا إلى كبائر وصغائر هو تقسيم إسلامي فقط وغير موجود في المسيحية حيث تعتبر المسيحية أن كل خطية هي كبيرة لأنها خطية في حق الله الغير محدود. بينما يغفل الدين الإسلامي في تقسيمه للخطايا هذا الأمر ويعتمد في تقسيمه للخطايا على تقديرات بشرية لحجم الخطية وضررها الاجتماعي الدنيوي ومقدار اللذة التي يحصل عليها الخاطيء . اذن الخلاصة التي نستنتجها من هذه النقطة تحديدا هي أن علماء المسلمين اعلاه لم يكونوا أمناء وحذفوا ( حرفوا ) تفاصيل لا تروق لهم في الكتاب المقدس ..، أي أنهم قاموا بعملية يجرمها القرآن أصلا ويعتبرها من أبشع الذنوب ، وهي عملية التحريف في نصوص مقدسة لكي تتوافق لا مع القرآن ولكن مع تقديراتهم الشخصية ومعاييرهم الأخلاقية وهو أمر يدعو إلى العجب . ولا يستثنى من هذا الأمر إلا ابن كثير الذي ربما يكون قد أدرك هذا الأمر ومن ثم رفض أن يذكر قصة أوريا لأنه رفض أن يحرف في نصوص الكتاب المقدس بما يتلاءم مع هواه كما فعل المفسرون الآخرون دون استحياء ، وقد أدى به ذلك إلى الامتناع عن تفسير هذه الآية أصلا وطالب القاريء أن يقرأها كما هي وأن يرد علمها إلى الله . وهو شيء يستدعي الاحترام للمفسر ابن كثير لأنه نأى بنفسه عما فعله المفسرون الآخرون ورفض أن يحرف في نصوص الكتاب المقدس لأنه يرفض ذكر نصه كما هو. ورفض المفسرين ومن بينهم ابن كثير لذكر نص الكتاب المقدس الذي يحكي خطية داود أصلا نابع من اعتبارات ذاتية زائفة ترفع الأنبياء فوق مرتبة وطبيعة البشر الخاطئة وتضعهم في مصاف الملائكة وتنفي عنهم أي نوع من الخطايا ، وهو ما يتعارض مع القرآن ذاته ، مما يدفع العلماء المسلمين مرغمين بنصوص القرآن التي تذكر خطايا الأنبياء إلى التصغير من هذه الخطايا والتقليل من شأنها قدر المستطاع حتى لا يصل بهم الأمر إلى حد نفي الآيات القرآنية ذاتها وهو ما يخرجهم من دائرة الإسلام. لذلك عمدوا إلى أخذ القصص الحقيقية من الكتاب المقدس مجبرين ، وعندما رأوا صراحة الكتاب المقدس وذكره لخطايا الأنبياء دون محاباة أو تمجيد زائف لأي شخص ، عمدوا إلى تحريف النصوص وذكر القصص في كتبهم محرفة حتى تلائم متطلباتهم الذاتية . ولكن هذه الجريمة التي قام بها المفسرون للأسف – أو ربما لحسن الحظ – أوقعتهم في إشكالية لم يشعروا بها وهذه الإشكالية هي ما نناقشه في النقطتين التاليتين .
3- لو اعتمدنا على التفسير الذي يقول بأن خطية داود التي استغفر وأناب عنها وتسببت في سجوده أربعين عاما كما تقول روايات المسلمين فسوف نقع في إشكالية هامة تؤثر على صورة نبي الإسلام نفسه باعتباره أفضل نبي في الأنبياء وسوف تؤدي إلى هدم هذا الاعتقاد المجمع عليه من علماء المسلمين من أساسه …لأنه إذا كان من سنن الانبياء انهم اذا اخطأوا ولم يسمعوا لقول احد المتخاصمين وتسرعوا في الحكم ان يخروا ركعا وان ينيبوا أربعين عاما كاملة ..حتى يغفر الله لهم ، فإن هذا يدفع إلى التساؤل عن سنن الانبياء الذين يعبسون في وجوه العمي الضعفاء ويعرضون عنهم ليس لشيء بل لأنهم فقط أرادوا أن يعرفوا ماذا يعني الاسلام !!! ( راجع سورة عبس في القرآن ) ، والغريب أن المفسرين لا يعتبرون هذا ذنبا على الإطلاق ، وهو ما يدفع للتساؤل أيضا عن عدد السنين التي كان داود سيقضيها ساجدا من وجهة نظر العلماء المسلمين لو أن رجلا جاء له وطلب منه أن يعرفه على الله ولكن داود عبس في وجه الرجل وأدار له ظهره ، أعتقد أن هذا الذنب أعظم من الحكم في قضية دون الاستماع إلى كل أطرافها..لأن الحكم يكون في قضية دنيوية بينما العبوس والإعراض عن الأعمى الذي جاء يسأل عن الله وعن مستقبله الأخروي كان في أمر أجل وأخطر من القضية الدنيوية التي كان داود يحكم فيها بين الخصمين ( قضية نزاع على امرأة ) ، ولكن مع ذلك نجد المفسرين المسلمين يجعلون داود خاطئا ويسجد أربعين سنة حتى ينبت عشب الأرض من دموعه ، وينفون تماما أن العبوس في وجه الأعمى كان خطأ من محمد وإن كان خطأ فقد استلزم فقط مجرد عبارات عتاب رقيق دون أي سجود أو بكاء كما فعل داود..وهو ما يدفع إلى التساؤل عن أحقية محمد لكي يكون أفضل من داود..وعن عدالة هذا التفضيل …
4- لو أخذنا بالتفسير الآخر الذي قاله العلماء والذي يعتمد على أن خطية داود كانت النظر بشهوة إلى زوجة أوريا فقط فسوف نجد أنه من سنن الانبياء أنهم إذا اشتهوا زوجات الغرباء أن يخروا ركعا وأن ينيبوا أربعين عاما..حتى يغفر الله لهم. ولكن بعض الانبياء اشتهوا زوجات أدعيائهم وأحلها الله لهم حلالا طيبا (راجع كتاب " زوجات النبي " لبنت الشاطي في قصة زواج محمد من زينب بنت جحش ) ، ولم يكن في ذلك عليهم أي لوم، بل ربما كان اللوم لهم لأنهم كتموا مشاعرهم في داخلهم ولم يفصحوا عنها ، لأنهم قالوا لابناءهم بالتبني ( امسك عليك زوجك واتق الله ) .وهي أيضا مقارنة بين داود ومحمد تدفعنا إلى التساؤل حول معيار العدالة في تفضيل محمد على داود وعلى الأنبياء عامة ، وحول العدالة التي تجعل من ذنوب داود حسنات لمحمد …وهو ما يؤدي بنا إلى الرفض المطلق لكون هذه العدالة من مصدر إلهي إطلاقا ..فلا بد أن يكون مصدرها إنساني بحت.
5- هذه النقطة جانبية ولكني أحب الإشارة إليها ، فقد ظهر في تفسير القرطبي أن محمدا أخذ دعاء سجود التلاوة من شخص عادي رأى الدعاء في المنام فأعجب الدعاء النبي فأخذه هو وأصبح بذلك سنة ، فمن اولى بهذه السنة؟
6- هل هناك أي دليل من العقل والنقل على ان اليهود حرفوا قصة داود ونسبوا له الزنى ؟ هل ذكر نبي الاسلام ان داود لم يزني ؟ ، ولماذا يفعل اليهود ذلك ، أعني التحريف ونسب الزنا إلى داود ؟ ، ولو فعلوا ذلك استهزاء بداود فلماذا لا يزالون يعتزون به كملك لهم بل ينتظرون عودة مملكته ؟ ، ولماذا لم يحذفوا القصص التي تمجد داود كملك من التوراة طالما ان غرضهم الاساءة اليه كنبي ؟ متى تم اضافة هذه القصة وماالسبب ؟
7- سؤال منطقي يوجه إلى المعترضين على قصة خطية داود الواردة في الكتاب المقدس : هل الحديث ( حدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ) يستثنى منه قصة داود ؟ ، واذا كانت الاجابة بنعم فما الدليل على ما تقول به من استثناء لهذه القصة من الحديث سوى انها " لا تعجبك ولا تليق بنبي " ؟
وفي نهاية هذا البحث أحب أن أقتبس بضعة أسطر من كتاب ( نعم الكتاب المقدس هو كلمة الله ) لمؤلفه جون جلكرايست ، حيث يرد على أحمد ديدات في انتقاده لخطايا الأنبياء الواردة في الكتاب المقدس بقوله : (ونتعجب كيف تجاهل ديدات قصةً في الكتاب المقدس تكشف شراً أعظم من كل الشرور التي اختار أن يكتب عنها. ففي سفر صموئيل الثاني 11 نقرأ أنَّ داود رأى بثشبع تستحم فأمر بإحضارها وارتكب معها الزنا. وعندما حملت بطفل عمل داود على قتل زوجها أوريا واتَّخذها زوجة له. إنَّ هذه القصة - على أقل تقدير - تساوي جميع القصص التي أشار إليها ديدات معاً في شرها, ولكنه اختار بعناية أن لا يذكرها, لماذا؟ لأنَّ القرآن أيضاً يذكرها. نقرأ في سورة "ص" أنَّ رجلين مثلا أمام داود, واحد كان له 99 نعجة, وجاره عنده نعجة واحدة. وطلب صاحب النعاج التسعة والتسعين النعجة الوحيدة التي عند جاره. فحكم داود بأنَّ الذي له 99 نعجة قد أخطأ في حق جاره بطلب نعجته الوحيدة. بعد ذلك, نقرأ أنَّ داود أدرك أنَّ المثل كان ضده شخصياً. ويذكر القرآن أنَّ الله قال له: "وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ 25 فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ" سورة ص 38:24و25. فما هي فتنة داود التي تاب عنها, فنال مغفرة الله؟ لا بد لنا من الرجوع إلى التوراة لنجد الإجابة. في صموئيل الثاني 12 نقرأ أنَّ النبي ناثان حدَّث داود عن غني عنده قطيع من الخراف, ولكنه عندما احتاج لخروف من أجل وليمة, أخذ الخروف الوحيد الذي يملكه أحد خدامه. فغضب داود على الرجل الغني, فقال ناثان: "أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ! هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: أَنَا مَسَحْتُكَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَنْقَذْتُكَ مِنْ يَدِ شَاوُلَ وَأَعْطَيْتُكَ بَيْتَ سَيِّدِكَ وَنِسَاءَ سَيِّدِكَ فِي حِضْنِكَ, وَأَعْطَيْتُكَ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا. وَإِنْ كَانَ ذلِكَ قَلِيلًا كُنْتُ أَزِيدُ لَكَ كَذَا وَكَذَا. لِمَاذَا احْتَقَرْتَ كَلامَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ؟ قَدْ قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ بِالسَّيْفِ, وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ لَكَ امْرَأَةً, وَإِيَّاهُ قَتَلْتَ بِسَيْفِ بَنِي عَمُّونَ." 2صموئيل 12:7-9. واضح الآن كيف "فتن الله" داود! كما يقول القرآن. لقد كان له أكثر مما يحتاج وزوجات كثيرات, لكنه أخذ لنفسه الزوجة الوحيدة لخادمه. وعندما قال داود: "قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ". أجابه ناثان: "الرَّبُّ أَيْضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ" 2صموئيل 12:13. فالقرآن والكتاب المقدس متشابهان في رواية ارتكاب داود الزنا مع بثشبع. ونحتاج فقط لأن نركز على قول أمرين:
1واضح أنَّ ديدات اختار أن يتجاهل هذه القصة عن شر داود, لأنه يعرف أنَّ لها ما يطابقها في القرآن.
2 إنَّ القرآن يؤيد رواية الكتاب المقدس, فلا يوجد اعتراض سليم على ما ورد به من قصص يهاجمها ديدات.
جميع الأنبياء هم من دم ولحم, وارتكابهم لأي ذنب جسيم كان أمراً محتماً, شأنهم شأن سائر البشر, ولا يمكن أن نهاجم الكتاب المقدس لأنه لم يرحم الأنبياءحينما كشف أعمالهم. محمد نفسه كان رجل عاطفة مشبوبة, مثل أي رجل آخر. ورغم أنه كان له تسع زوجات في وقت واحد, لكنه لم يستطع أن يكبح رغبته في أن يعاشر من يقع عليها اختياره بدلاً من معاشرة كل واحدة بالدور. وعندما نزلت سورة الأحزاب 33:51 والتي أعطته "إذناً إلهياً" أن يعاشر أياً من زوجاته حينما يرغب في ذلك, قالت له زوجته المفضلة, عائشة: "إنَّ الله يسرع لك في هواك" صحيح البخاري مجلد 6 صفحة 295.
أما المسيح فهو الإنسان الوحيد الذي عاش دون أن يخضع لنزوات ورغبات وضعفات باقي البشر. ويسأل ديدات في ضوء ما جاء في 2تيموثاوس 3:16: تحت أي عنوان نستطيع أن نرتب القصص التي يذكرها؟ وسوف أعطيه جواباً على سؤاله:
1 من أجل التعليم: بأنَّ كل الناس خطاة بما في ذلك الأنبياء وأحسن الناس. والجميع في حاجة إلى الغفران, الذي هو هبة نعمة الله في المسيح يسوع.
2 من أجل التوبيخ: لا يمكن أن يرتكب الإنسان الشر ضد الله دون أن يجني العواقب. لقد كان يهوذا أكبر من شقيقه يوسف. ولقد ارتكب يهوذا الإثم المعيب مع زوجة ولده دون أن يعرف من تكون. ولكن يوسف رفض أن يرتكب الإثم مع زوجة فوطيفار. وعاقب الله يهوذا وكافأ يوسف, عندما جثا يهوذا وإخوته جميعاً أمام يوسف حاكم مصر, وهم يطلبون منه الطعام الذي يمسك رمقهم!
3 من أجل التقويم: رغم أنَّ الله قد يغفر لنا ذنوبنا, لكنه قد يجعلنا نعاني من نتائجها, لأنَّ في هذا خير لنا. لقد نال داود الغفران عما ارتكبه من زنا, ولكنه عانى من أربع هزائم كبيرة في حياته نتيجة لخطيته. وقد ساهم ذلك في تقويمه, فلم يرتكب مثل ذلك الإثم مرة أخرى. 4 من أجل التدريب في البر: هذه الأحداث جميعاً ترينا أنَّ الإنسان ليس فيه برٌ موروث, لكن لديه فقط أشر الإمكانيات إذا توافرت له الفرصة أن يرتكب أفظع الشرور. وما يعوزنا هو أن نفتش عن بر الله الذي نناله بالإيمان بالمسيح.
بعد أن تاب داود عن جريمته النكراء صلَّى قائلا: "قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. لا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ, وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لا تَنْزِعْهُ مِنِّي. رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاصِكَ, وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي" مزمور 51: 10-12.
يستطيع الخطاة أن يحصلوا على بر الله بالتوبة عن خطاياهم وطلب غفران الله والثقة فيه لنوال الخلاص. قد عبَّر بطرس الرسول عن ذلك بقوله: "تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا, فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" أعمال الرسل 2:38)
مراجع البحث : تفسير الجلالين ، زبدة التفاسير ، مختصر الطبري ، تفسير المنتخب ، تفسير ابن كثير ، تفسير القرطبي ، تفسير البيضاوي ، صحيح البخاري ، نعم الكتاب المقدس كلمة الله- جون جلكرايست.