شيوخ اليهود يحاكمون المسيح

كان حق توقيع حكم الإعدام للوالي الروماني وحده، ولو أن الحكومة الرومانية، كانت تنفذ أحكام رؤساء الدين اليهودي بسهولة، منعاً للمشاكل.

وكان لليهود رئيسان للكهنة، أولهما حنان - الرئيس الشرعي. ولكن الوالي الروماني كان قد عزله منذ عشرين سنة، وأقام صهره قيافا رئيساً للكهنة بدله. وكان حَنّان صاحبَ نفوذ عند الشعب، كما كان صانع المكائد الأكبر ضد المسيح.

أخذ الجنود المسيح بعد القبض عليه في البستان إلى بيت حنان، وكان تلاميذه قد هربوا، لكن يوحنا التلميذ الحبيب رجع وانضم إلى الجمهور المتَّجه من البستان إلى دار رئيس الكهنة. ولأنه كان معروفاً ومقبولاً فيها، دخل مع الداخلين. ورجع سمعان بطرس أيضاً وتبعهم لكن من بعيد، فلما وصل بعد الآخرين أوقفتْهُ الجارية البوابة، فطلب منها أن تستدعي له من داخل صديقه ورفيقه يوحنا. فلما خرج يوحنا وتكلم مع الجارية أدخل بطرس معه إلى الدار، لكن ليس إلى غرفة الرئيس حيث دخل هو.

يظهر أن الرئيس قيافا أرسل حالاً فجمع ليلاً الذين أرادهم من رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ، لكي يُجْروا محاكمة غير رسمية يُصدِرون فيها حكماً رسمياً معجَّل التنفيذ، ليتمكَّنوا من تسليم المسيح باكراً للوالي الروماني، لكي ينفّذ حكمهم بالإعدام قبل يوم ذبيحة الفصح، لأن شريعة موسى كانت تحرم أي عمل مثل هذا يوم عيد الفصح وفي أيام العيد بعده.

أمام رئيس الكهنة

»فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلَامِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ. أَجَابَهُ يَسُوعُ: »أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلَانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هؤُلَاءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا«. وَلَمَّا قَالَ هذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً، قَائِلاً: »أَهكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟« أَجَابَهُ يَسُوعُ: »إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟« وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ« (يوحنا 18:19-24).

يا لغرابة الصورة التي أمامنا الآن! ها رئيس الكهنة الأصلي الحقيقي المُقام من اللّه (المسيح) يقف مكتوفاً مخفوراً ليُحاكَم أمام شخصٍ اختلس اسْمَ رئيس الكهنة ووظيفتَه ومقامَه، بعد أن حصل على موافقة والٍ شريرٍ وثني.

اتهم رئيس الكهنة المسيح أنه قائد مجموعة من المتآمرين لإثارة فتنة ضد الحكومة. بدليل مرافقة الجماهير له في جولاته، فسأله عن تلاميذه وتعليمه. وكان جواب المسيح: »في الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ إسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتُهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلتُ أنا؟«. ولو أن المسيح لبَّى طلب رئيس المحكمة وشَرحَ تعاليمه لَمَا كان لجوابه تأثيرٌ في المحاكمة القانونية، ولَمَا أقنع سائليه. ولم يعجب ردُّ المسيح واحداً من الخدم الواقفين في الغرفة فلطم المسيح ووبّخه على جوابه للرئيس. ولا شك أننا نذكر تعليم المسيح في وعظه على الجبل بأن المضروب على أحد خديه يحوّل للضارب خده الآخر، الذي لم يقصِدْ منه المعنى الحرفي، ولا أن إطلاقه يكون على كل الظروف. فبدلاً من خضوعه لهذه اللطمة بسكوت، وبَّخ الخادم الذي ضربه بكل رزانة وحق قائلاً: »إنْ كنتُ تكلمتُ ردياً فاشهد على الرديء، وإنْ حسناً فلماذا تضربني؟«. أما اللطمات الأخرى التي أتته بعد حين فلم يعترض عليها بشيء.

شهود الزور

»وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ وَقَالَا: »هذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللّهِ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ«. فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: »أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟« وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ: »أَسْتَحْلِفُكَ بِاللّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ؟« قَالَ لَهُ يَسُوعُ: »أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الْآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الْإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ«. فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: »قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟« فَأَجَابُوا وَقَالُوا: »إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ«. حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: »تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ!« (متى 26:59-68).

أهتم الرؤساء كثيراً بتدبير شهود زور. لكن لم تتفق شهاداتهم. أخيراً تنسّموا نجاحاً من شاهدين يشهدان بأن المسيح قال إنه يهدم الهيكل ثم يُقيمه في ثلاثة أيام. وهذا تحريف لكلام قاله منذ ثلاث سنين في الهيكل لما طهَّره أول مرة، وكان يَقصد به هيكل جسده. لكن كلام الشاهديْن اختلف فسقطت شهادتُهما، فاحتدَّ الرئيس ووقف في الوسط وطلب من المسيح أن يدافع عن نفسه جواباً على الشهود. »فلم يجبه بكلمة«. فتحققت نبوة إشعياء القائلة: »ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ« (إشعياء 53:7).

عند ذلك قال الرئيس: »استحلفك باللّه الحي أن تقول لنا: أأنت المسيح ابن اللّه؟«. لم يقدر المسيح أن يسكت عند هذا السؤال، لئلا يُؤخذ سكوته دليلاً على رجوعه عن تصريحاته السابقة بهذا المعنى، أو على خوفه من مضطهديه، لذلك أجاب حالاً بالإِيجاب. وزاد قوله إنهم سوف يبصرونه كابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.كأنه يتنبأ للرئيس وللمحكمة عن يوم يأتي، حين تتبدَّل الأمور، فيكون هو الديَّان الذي يدين الرئيس وقومه.

ما هذا الكلام الغريب العظيم من مكتوفٍ يُحاكم، يوجِّهه إلى محاكميه الذين بيدهم حياته؟ وهل يحقُّ لمجرد بشرٍ أن يقول كلاماً كهذا؟ وتظاهر الرئيس بأنه لا يحتمل أن يسمع كلاماً يعارض العظمة الإلهية، فمزَّق ثيابه وقال: »قد جدف. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ ها قد سمعتم تجديفه. ما رأيكم؟«.

لا يحقُّ لرئيس أن يعلن رأيه في قضية مطروحة لحكم المجلس، لأن ذلك يؤثر تأثيراً مهماً في الأصوات بعده. وكان القانون العبراني العادل يقضي بأن تُؤخذ في المجالس أصوات الأصاغر فيه قبل الأكابر. ومن هذا نرى أن قيافا فقد صلاحيته كحاكم في هذا الوقت، عندما أصدر حكمه أن المسيح جدف، الأمر الذي يعني قتل المسيح. ولكنه حصل على موافقة جميع زملائه في المجلس أن المسيح يستحق الموت.

ولما رأى الخدم والحرس العسكري أن الرؤساء حكموا بصوت واحد على المسيح بأعظم جريمة دينية ممكنة، وأنهم مستاؤون منه غاية الاستياء، أطلقوا العنان لميولهم الوحشية، عالمين أنهم بذلك يسُرُّون الرؤساء. ومع أن المحاكمة الرسمية لم تكن قد بدأت أخذوا يبصقون في وجه المسيح، ويغطُّون وجهه ويلكمونه، ويقولون: »تنبأ لنا أيها المسيح، من هو الذي ضربك؟« ثم جلدوه وأجروا عليه أنواع الإستهزاء المُهين، تحقيقاً للنبوة القديمة القائلة: »بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ« (إشعياء 50:6).

كانت محاكمة المسييح في غرفة تشرف على الدار الخارجية، حيث تجمَّع الخدم والعبيد. وفي أوائل نيسان يشتد البرد قبيل الفجر. فأضرموا جمراً في وسط الدار ليستدفئوا، وانضمَّ بطرس إليهم. ويظهر أن بطرس لم يعترض على شيء من الكلام المُهين الذي دار بينهم في حق سيده، فلم ينتقده أحد. لكن بعد حين تقدمت »البوابة« التي فتحت له، وتفرست فيه، وقالت له: »وأنت كنت مع يسوع الناصري الجليلي. ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟«. فأنكر قدام الجميع قائلاً: »لستُ أنا (أي لست من تلاميذ هذا الإنسان). لست أدري ولا أفهم ما تقولين. ولست أعرفه يا امرأة«.

بطرس ينكر المسيح

»وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: »وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!« فَأَنْكَرَ قَائِلاً: »لَسْتُ أَدْرِي وَلَا أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!« وَخَرَجَ خَارِجاً إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضاً وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: »إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!« فَأَنْكَرَ أَيْضاً. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: »حَقّاً أَنْتَ مِنْهُمْ، لِأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ«. فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: »إِنِّي لَا أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!« وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: »إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ«. فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى« (مرقس 14:66-72).

لكن إنكاره أوقد حريقاً في قلبه، فتركهم وخرج خارجاً إلى الدهليز. وبينما هو هناك سمع صوت صياح الديك. واعترضته جارية أخرى أكّدت للحاضرين أن هذا منهم. فأنكر بقَسَم تثبيتاً لإنكاره السابق لكي لا يكشفوا كذبه. أخيراً بعد ساعة زاد عليه الاعتراض من الذين أكدوا أنه أحد تلاميذ المسيح، ولا سيما أن لهجته الجليلية تدلُّ على ذلك، إلى أن ظهر بينهم نسيب ملخس الذي قطع أذنه في البستان، وقال إنه رآه مع المسيح هناك.

ولما رأى بطرس شدة الخطر الذي يتهدده، وعرف أن الإنكار البسيط كالسابق لا يكفيه، أخذ يحلف ويلعن مؤكداً أنه لا يعرف المسيح.

لم يفرغ بطرس من إنكاره الفظيع، إلا وصاح الديك ثانية. وكان المسيح ينتظر هذا الصياح لينقذ تلميذه من الهوَّة التي تورط فيها، فحوَّل اهتمامه عن عذابه في تلك المحاكمة وما يتبعها، ليسأل عن نفس هذا البطل الساقط. وأدار وجهه عن رئيس الكهنة والرؤساء لينظر إلى بطرس في الدار، فالتقَت عينا المسيح بعيني تلميذه، بالاتفاق مع صياح الديك. وأسَرَ المسيحُ قلْبَ بطرس بلفْتةِ الحب المقترن بالحزن. فابتدأت دموعه تسيل نهراً، وتغلَّبت فيه العواطف الشريفة على الدنيئة، وحلّت التوبة القلبية الصافية محل الجحود والإنكار، فعلم أن خطيئته قد غُفرت وأن صلاة المسيح لأجله لكي لا يفنى إيمانه قد استُجيبت. لم يعُد بطرس يسأل: ماذا يقول الناس عنه، ولا ماذا يتهدده من الخطر. لكنه سأل فقط عن رضى سيده حبيب نفسه. »فخرج إلى خارج وبكى بكاء مراً«. ونال الغفران التام.

»هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ« (اش 1:18). »أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لِأَجْلِ نَفْسِي، وَخَطَايَاكَ لَا أَذْكُرُهَا« (إشعياء 43:25) »طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ « (مز 32:1). والمسيح الذي خلّص بطرس بلَفْتَتِه، ينجّي في كل حين من أعمال الإِثم ودركاته كلَّ من ينظر إليه نظرة الإيمان.

محاكمة المسيح صباحاً

»وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ قَائِلِينَ: »إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا«. فَقَالَ لَهُمْ: »إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونَ، وَإِنْ سَأَلْتُ لَا تُجِيبُونَنِي وَلَا تُطْلِقُونَنِي. مُنْذُ الْآنَ يَكُونُ ابْنُ الْإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللّهِ«. فَقَالَ الْجَمِيعُ: »أَفَأَنْتَ ابْنُ اللّهِ؟« فَقَالَ لَهُمْ: »أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ«. فَقَالُوا: »مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لِأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ«. فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلَاطُسَ« (لوقا 22:66-23:1).

كانت المحاكمة في الليل غير قانونية - وما أن أشرق صباح يوم الجمعة حتى قرَّر شيوخ اليهود أن يصدِروا حكمهم الذي اتفقوا عليه خلال الليل. ولما عقدوا جلستهم الرسمية سألوه إن كان هو المسيح المنتظر، فأجابهم: »إنْ قلتُ لكم لا تصدقون، وإنْ سألتكم لا تجيبونني«. ثم كرر عبارته السابقة بخصوص جلوسه عن يمين القوة الإلهية. فسألوه: »أفأنت ابن اللّه؟« ولما أجابهم بالإيجاب قالوا: »ما حاجتنا بعد إلى شهود، لأننا نحن سمعنا من فمه؟«.

فحكم هذا المجلس الملي المعظَّم على المسيح بالإِعدام، لارتكابه جريمة التجديف. فماذا يفعل المجلس الآن بعد حكمه هذا؟

كان لا بد أن يصدق الوالي الروماني بيلاطس على هذا الحكم، ليصبح نافذ المفعول. ولما كان اليوم التالي من أيام عيد الفصح الهامة التي تدوم أسبوعاً، كان عليهم أن يسرعوا للحصول على موافقة بيلاطس، لأنه لو لم ينفَّذْ هذا الحكم يوم الجمعة لاقتضى الأمر تأجيله أسبوعاً كاملاً. ومن يدري ما سيحدث خلال هذا الأسبوع؟ سيحاول الشعب أن يخلصه من الحكم الظالم.. لذلك قام كل جمهورهم وجاءوا إلى دار الولاية ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي.

ما هذه الصورة المحزنة والمكدرة؟ ها رؤساء الشعب معلمو الشريعة الإلهية الطاهرة، يسيرون في مقدمة جمع في شوارع المدينة المقدسة، ليسلّموا مسيحهم ورجاءهم الوحيد، ورجاء العالم أجمع، إلى والٍ قاسٍ ظالم وثني ليصلبه.

يهوذا ينتحر

»حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ قَائِلاً: »قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً«. فَقَالُوا: »مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!« فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: »لَا يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لِأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ«. فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهذَا سُمِّيَ ذلِكَ الْحَقْلُ »حَقْلَ الدَّمِ« إِلَى هذَا الْيَوْمِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ: »وَأَخَذُوا الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ« (متى 27:3-10).

وهنا شعر يهوذا الإسخريوطي أنه أجرم في حق المسيح. ربما تمنّى أن يُفلت المسيح من قبضتهم بقوته ومعجزاته. ولكن لما رأى أن المحاكمة ماضية في الطريق وأن المسيح يواجه الموت، أسرع لشيوخ اليهود يردُّ الثلاثين من الفضة ويقول: »قد أخطأت إذْ سلّمتُ دماً بريئاً«. ولم يكن رؤساء اليهود يهتمُّون بمحاكمة عادلة، فجاوبوا يهوذا باحتقار قائلين: »ماذا علينا؟ أبصر أنت؟«.

ألقى يهوذا بالفضة إليهم. ولكن تمسُّكهم الظاهري بالشريعة جعلهم يرفضون إعادتها للخزانة، فتغلَّبوا على المشكلة بأن اشتروا بالمال حقلاً جعلوه مقبرة للغرباء، فتحقَّقت نبوة هامة في التوراة (زكريا 11:12 ، 13).

ولما رأى الإسخريوطي أن المسيح لم يَنْجُ من الموت، ندم غاية الندم، لكن ندمه كان مختلفاً عن ندم بطرس الذي أنكر، فقد سعى ليصلح أمره مع الناس فقط. اعترف للبشر أولاً، فلقي الفشل الذي يصيب كل من يقدِّم أولاً للبشر اعترافه بخطاياه. توهم أنه يقدر أن يصلح ما فعل وهذا مستحيل. كان عليه أن يستغفر من اللّه أولاً، ويطلب منه أن يصلح ما أفسده هو.

مسكين الإسخريوطي، أولاً وأخيراً... مضى وخنق نفسه. سقط على وجهه وانشقَّ من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها. فأي نتيجة مرعبة هذه التي تجانس خيانته العظيمة؟ هذه لمحة من عذاب جهنم، أبرقت منها على العالم عبرة ومثالاً. فمن لا يتَّعظ بها؟