المسيح يموت مصلوباً

»أسلمه بيلاطس للصلب« - هذا القول فاتحة فصل جديد في حياة المسيح الأرضية، حمل فيه خطايا البشر ليكفّر عنها، فاقت فيه آلامه كثيراً جداً ما سبقها من الآلام التمهيدية. لقد حقق رؤساء اليهود ما أرادوه. وها هي الجماهير ترى هذا الذي أجرى المعجزات منهوك القوى، دامي الجراح. ها حمل اللّه الذي يرفع خطية العالم يسير ليُذبَح عن البشر، ويجتازُ أزقَّة مدينته حاملاً صليبه - المذبح - الذي سيُرفع عليه، كما حمل قديماً جدُّه إسحق الحطب المهيَّأ لحرْقه ذبيحةً إلى الجبل المقدس.

المسيح يسقط تحت حمل الصليب

»وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى »مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ« أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ« (متى 27:31-34).

لا نغفل الأسباب التي ذهبت بقُوى المسيح الجسدية في هذا النهار، حتى سقط تحت حمل الصليب، فاضطر أصحاب الأمر أن يحمِّلوا صليبه لغيره. ولا نجهل ما للآلام الروحية من التأثير على قُوى الإِنسان الجسدية. وندرك أن هذه الآلام الروحية كانت أعظم بما لا يُقاس من الجسدية، ففي الساعات الأولى من يوم الجمعة هذا، مع الليل الذي تقدمها، حُرم المسيح من النوم كلياً، وسِيق مكتوفاً من البستان في جبل الزيتون إلى قصر رئيس الكهنة، ثم دار المحكمة، فقصر بيلاطس فقصر هيرودس، ثم قصر بيلاطس ثانية. والوقوفُ في المحاكمات الطويلة، واللطمُ المتكرر وما تعلَّق به، والجَلْدُ الذي لا نعلم مقداره مع ما نزف من دمٍ بسببه.. كل هذه جعلت قواه تخور.

وما أكبر الآلام الروحية الساحقة لنفسٍ ذات رِقة وحب وشعورٍ كنفس المسيح. نذكر خيبةَ آماله في تلاميذه وهم يتشاجرون حول من منهم هو الأعظم، وخيانةَ يهوذا، وسقوطَ بطرس، وهروبَ كل التلاميذ والمصارعةَ العجيبة في البستان، وبعدها معاملاتُ العنف والتحقير والتخجيل والاستهزاء الوحشي، ناهيك عن الجوع والبرد القارص. كل هذه أسباب جعلته يسقط تحت حمل الصليب. وفي آلامه كما في تجربته كان ناسوته فقط في هذه المعصرة الرهيبة.

كان أربعة حراس يسوقون المصلوب إلى حيث صُلب، فلما رأوا عجز المسيح عن حمل الصليب، سخَّروا رجلاً قيراونياً من شمال أفريقيا اسمه سمعان، كان راجعاً من الحقل، ليؤدي هذه المهمة. لم يوجد من يتبرع بهذه المساعدة في كل ذلك الجمهور بسبب عار الصليب المشين الذي لا يتحمله أحد طوعاً. لكن ما كان وقتها عاراً تحوَّل فخراً، وأصبح سمعان القيرواني في مقدمة جيش شريف لا يُحصى عدده من حاملي صليب المسيح.

بعد هذا استأنف الجمهور سيره، ومعهم ثمانية حراس يسوقون مجرمَيْن، ويحملون ألواحاً ثلاثة مرفوعة فوق الرؤوس، يعلن كلٌ منها اسم أحد المصلوبين ووطنَه وجُرمه الذي يُعاقب عليه. أما اللوح الذي عليه اسم المسيح فكان مختلفاً لأنه مكتوب في ثلاث لغات: العبرانية لغة الدين، فكان ابن داود وابن اللّه. وباليونانية لغة العلم، لأنه نور العالم والحق الأزلي. واللاتينية لغة السياسة، لأنه ملك إسرائيل وملك القديسين وملك الملوك ورب الأرباب. كان الإعلان يقول: »هذا هو يسوع الناصري ملك اليهود«. اسمه يسوع. ووطنه الناصرة. وجريمته ظهوره كأنه ملك اليهود، ثائراً ضد قيصر.

نساء أورشليم يبكين عليه

»وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: »يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لَا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلَادِكُنَّ، لِأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلْآكَامِ: غَطِّينَا. لِأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟«. وَجَاءُوا أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلَا مَعَه« (لوقا 23:27-32).

تمسك بيلاطس إلى النهاية ببراءة المسيح. لكن لما أسلمه للصلب صار مُضطرّاً أن يبيّن أمام الجميع جريمةً تستوجب الصلْب، فلم يجد ذلك إلا بالتزوير. وفي هذا التزوير انتقم من اليهود بسبب ضغطهم عليه ليفعل ظلماً. وكتب »ملك اليهود«. فصار العار على اليهود الذين صلب ملكهم، لذلك اعترض رؤساء الكهنة طالبين أن يغيّر الوالي هذا العنوان، حتى لا يكون المصلوب ملكهم، بل شخصاً قال إنه ملك اليهود. لكن بيلاطس أصرَّ على ما فعل. هذا الذي سأل استخفافاً: »ما هو الحق؟« خدم الحق وهو لا يدري.

يسبِّب موكبٌ كهذا تجمُّعاً عظيماً في أزقة المدينة وخارجها، فأخذ الحنان بعض النساء الكثيرات الواقفات لما رأين منظر المسيح المحزن، فأخذن ينُحْن بأصوات عالية ويلطِمْن على صدورهن، لا يخشين إظهار المواساة لهذا المغضوب عليه من رؤسائهن. ولما كان الرؤساء مطمئنِّين إلى انتصارهم، لم يبالوا بعمل النساء. واعترض المسيح على بكاء النساء - مع أن هذا البكاء كان الشيءَ الوحيد الذي يُعبّر عن مشاعر محبةٍ في ذلك اليوم. اعترض عليه مع أنه لم يعترض على شيء مما وقع عليه من معاملات عدائية، لأنه المحبُّ الصفوح. فلماذا يبكين عليه والبكاء على أنفسهن أوْلَى؟ إنه يرى ما لا يرَيْنه مما سيأتي عليهنّ وعلى أورشليم، مما يجعل الناسَ يطوِّبون الذين لا نْسلَ لهم، ويتمنُّون أن تسحقهم الجبال الشامخة تخلُّصاً من عذاباتٍ تجعل الموت رحمة لا نقمة، بسبب شدتها ومرارتها. فالتفت إليهم وقال: »يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكنّ وعلى أولادكن«. وسألهنَّ هذا السؤال: »لقد سمحت العناية الإلهية للحاكم الروماني بأن يفعل كل هذا بإنسان هو كالعود الرطب، لأن حياة الصلاح فيه، فماذا يُنتظَر أن يفعل هؤلاء الرومان العتاة بعد حينٍ بصالبيه الظالمين الذين لا حياة صالحة فيهم، بل الذين يشبهون العود اليابس؟«. لقد رأى المسيح ذلك اليوم الذي فيه تحل اللعنة على أورشليم وسكانها، حين تُنصَب الصلبان الكثيرة العدد، التي سيراها بعض سامعيه وقت خراب أورشليم، والمعلَّقون عليها هم صالبوه وعيالهم. لم تكن هنا حاجة لبكاء على شخص حقق ما يريد. صحيح أن المشاهدين رأوا المسيح في موقف الانكسار، وهو وحده علم ما لا يعلمه العالم: إن ذلك موقف الانتصار. فلا عجب أنه اعترض على بكائهم عليه.

ليس المسيح شهيداً

لم يجبر أحدٌ أن يقبل ما فعله به أعداؤه. فليس موت المسيح موت شهيد، فالشهداء يُقتَلون على رغم إرادتهم، ولو استسلموا للموت دون إكراهٍ لكان ذلك افتخاراً. وهذا حرام. لكنهم كانوا يريدون أن يعيشوا. نعم كانوا يريدون أكثر أن يُرضُوا اللّه، فلما اضطرهم مضطهدوهم للاختيار بين ترك الحياة وترك رضى اللّه، فضَّلوا الاستشهاد على مخالفة ما يطلبه اللّه منهم، ولكن لم تكن لهم قدرةٌ للتخلُّص من أعدائهم.

أما موقف المسيح فيختلف عن هذا كلياً.. لقد أوضح كثيراً سلطانه أنه قادر أن يخلِّص نفسه من أيدي أعدائه. وبما أن خلاص البشر يتوقف على استسلامه للصلب، يكون تخليصُه أعظم ضرر على الجنس الخاطئ. فالعقل أيضاً يؤيد الوحي في هذا الأمر. لذلك لا يكفي مطلقاً أن ننظر إلى صَلْب المسيح كحادث تاريخي مؤثر فقط، بل كحادث تتوقف عليه حياتنا الروحية وسعادتنا الأبدية. ولهذا قال الرسول بولس: »مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لَا أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ« (غلاطية 2:20) »عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لَا نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ« (رومية 6:6).

المسيح يرفض المخدِّر

»وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى »مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ« أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ« (متى 27:33، 34).

لما بلغ هذا الموكب محلَّ الصلْب قدموا للمسيح مزيجاً مخدِّراً استعداداً لصلبه. ولما كان اليهود يستهجنون عادة العقاب بالصلب، ألّف نساؤهم لجاناً لأجل تخفيف آلام من يُصلب من قومهم، واستشهدوا بنصيحة سليمان الحكيم في أمثال 31:6 فكانوا يمزجون مع الخمر بعضَ الأعشاب المخدِّرة ويقدمون هذا الشراب للمهيَّئين للصلْب قبل أن يبدأ تعذيبُهم. لكن المسيح قصد أن يشرب كأس الآلام على مرارتها حتى ثُمالتها. ولم يقبل مخدرات، ورفض حتى أخفَّ تخفيضٍ في صفاء أفكاره، لأن عليه في هذا الوقت أن يوجِّه من على الصليب كلاماً جوهرياً لسامعيه، وصلواتٍ مهمَّة لأبيه، وهذا يقتضي حفْظَ القوى العقلية والروحية سالمة تماماً من التدهور، فلما ذاق الشراب الذي قدموه له وعرف ما هو، رفض أن يشرب.

صلبوه بين لصين

»وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: »اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً«. ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: »هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ«. حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ« (متى 27:35-38).

صُلب مع المسيح لصان، فوضع العسكر صليب المسيح بين صليبيهما. يقولون إنهما زميلا باراباس في اللصوصية والقتل، وإن صليب المسيح كان مُعدّاً لرئيسهما باراباس، فحلَّ المسيح محله. ويُؤخذ من بعض الكتابات أن اسم باراباس كان يشوع أي مخلص - وباراباس، اسمه الثاني يعني ابن الآب، وأن اسمه جعله يتوهم أنه يقدر أن يخلص شعبه من النير الروماني. وأن هذا كان أساس الجرائم التي سبّبت الحكم عليه بالإِعدام صلْباً مع زميليه. وأن هذا كان سبب انتصار الشعب له بطلب إطلاقه وصَلْب المسيح مكانه.

كان الحراس يربطون المحكوم عليه بالصلب على صليبه وهو مسطَّح على الأرض، ثم يدقُّون مسامير كبيرة في يديه وقدميه. ثم يرفعون الصليب ويغرزونه في الأرض. ولا تكون أقدام المصلوبين مرتفعة كثيراً عن الأرض، ثم يجلسون يحرسونه نهاراً وليلاً إلى أن يموت، لئلاّ يأتي أحد مريديه ويُنزِله عن الصليب. وكان المصلوب يعيش غالباً بعد صلْبه يومين أو على الأقل يوماً كاملاً. وإذْ كان لا بد من موته كان الحراس في توحُّشهم يستبيحون التسلية بتعذيبه، وتعجيلاً لموته كانوا يكسرون ساقيه بعصا من حديد. وكان الرومان يتركون الجثة معلقة على الصليب فريسة لوحوش البرية والطيور الكاسرة. لكن اليهود كانوا يطلبون تنزيلها قبل غروب الشمس. أما ثياب المصلوب فكانت قانونياً نصيبَ حراسه الأربعة.

المسيح يطلب الغفران لصالبيه

»فَقَالَ يَسُوعُ: »يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ«. وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا« (لوقا 23:34).

لما ابتدأ العسكر صلْبَ المسيح كانت قد مضت ثلاث ساعات من النهار في محاكمته أمام المجمع اليهودي، ثم الوالي الروماني، ثم الملك هيرودس الأدومي، ثم من السيْر إلى محلّ الصلْب. وكان الجنود معتادين على صراخ الغضب والشتائم والألفاظ الكفرية التي يصبُّها المصلوبون على رؤوسهم، والمرجَّح أن اللصين ماثلا غيرَهما في ذلك. أما المسيح فسمعوه يصلّي لأجلهم صلاة محبة في كلمته الأولى على الصليب: »يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون«. لم يطلب لهم المعذرة أو التبرئة بحجَّة جهلهم ما يفعلون، لكنه طلب لهم الغفران بحجة أن خطيتهم أخفُ مما كانت لو عرفوا تماماً من هو الذي يصلبونه. نذكر قول بولس الرسول: »لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ« (1 كورنثوس 2:8).

في صلاة المسيح: »يا أبتاه اغفر لهم« لهجةٌ جديدة لم نسمعها منه سابقاً. كان عادة يلفظ بالغفران كمَنْ له الحقُّ أن يمنح ذلك، لكنه الآن يتكلم كمن يسامحهم بحقوقه عليهم، ويهتمّ بأن ينصرف عنهم الغضبُ الإلهي على ما فعلوه به.

تحققت نبوات

لم يكن العسكر الروماني يعلمون ماذا يفعلون، لأنهم في ظلام العبادة الوثنية.. ولا عرف رؤساءُ اليهود ماذا يفعلون، لأنهم أغمضوا عيونهم للنور عمداً، فأتاهم العَمى الذي يأتي كلَّ من يحبس البصر طويلاً. لم يعلموا ما يفعلون لأنهم تمموا النبوات الصريحة بخصوص مسيحهم عن غير معرفة أو تقوى فأثبتوا بفعلهم أن يسوع مسيحُهم، بينما أنكروا ذلك بقولهم. مثالُ هذا اشتراكهم بتسمير جسده على الصليب، ليتمموا النبوة القائلة: »جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ« (مزمو 22:16).

وبتعليقه بين لصين تمموا النبوة القائلة: »جُعِلَ مَعَ الْأَشْرَارِ قَبْرُهُ... وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ « (إشعياء 53:9 ، 12).

هذا المصلوب مكلَّل بتاج من شوك، لأن فوق رأسه عنوان »ملك اليهود«. فكل ذي بصيرة يرى تيجاناً أخرى مجيدة تزيّن جمالَ مُحيَّاه وتكلل جبهته. وفي التاج الشوكي نرى رمزها. نراه متوَّجاً بالحكمة الشديدة، والقدرة الخيرية، والقداسة السماوية. وكأن هذه التيجان تختلط لتؤلِّف تاجه الأعظم، تاجَ حبه الفدائي السائد في كلامه وحركاته. وقد برهن العسكر الروماني - عن غير قصد - أن هذا المصلوب هو مسيح اليهود الحقيقي الذي تنبأ بمجيئه الأنبياء، لأنهم لما اقتسموا ثيابه ليأخذ كل جندي حقَّه منها، أتمُّوا دون أن يقصدوا النبوَّة القائلة: »يقسمون ثيابي بينهم«. ثم لما وصلوا إلى القميص المنسوج بغير خياطة، اقترعوا عليه، فأتمُّوا بقية النبوة القائلة: »عَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ«. وبنَزْع ثيابه عنه، أتمُّوا الكلام الأول في تلك النبوة وهو: »أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ« (مزمور 22:17 ، 18).

ما أعظم السخرية التي سمعها المسيح على الصليب. سخروا أولاً على ما حرّفوه من كلامه عن نقض الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام، وثانياً على قوله إنه ابن اللّه، وثالثاً أنه جعل ذاته مخلِّص البشر، ورابعاً أنه ادَّعى بأنه المسيحُ مختار اللّه، وخامساً أنه يدَّعي بأنه يتكل تماماً على اللّه، وسادساً لأنه لما سأله بيلاطس: »أأنت ملك اليهود؟« أجاب بالإيجاب.

حسب أفكارهم السطحية كان الصليبُ تكذيباً كافياً لكل هذه البنود الستة، فطالبوا المسيحَ أن يخلِّص ذاته من الصليب ليؤمنوا به مخلصاً للآخرين، مع أن تخليصه نفسه من الصليب - وهو قادر على ذلك - يوقع البشر جميعاً في يأس الهلاك الأبدي. لكن هذا الاستهزاء كان تحقيقاً للنبوات التي منها: »كُلُّ الَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: »اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لِأَنَّهُ سُرَّ بِهِ« (مزمور 22:7 ، 8).

وانضم العسكر الروماني، ومعهم اللصين إلى صفوف المستهزئين. فقدَّم له العسكر خلاً للشرْب بدلاً من الخمر الذي يُقدَّم للملاك، قائلين: »إنْ كنتَ أنت ملك اليهود فخلِّصْ نفسك«. وأما استهزاء اللصين فيُعذَر أكثر من غيره، لأن تعذيبهما هيَّج الشر في قلبيهما، ولأنهما يفكران أن يحمِّسا هذا القدير ليخلِّص ذاته إنْ أمكن، فيخلصْهما معه، وصدقَتَ بكلامهما نبوةٌ أخرى هي: »تَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ« (مزمور 69:9).

توبة أحد اللصين

»وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: »إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!« فَانْتَهَرَهُ الْآخَرُ قَائِلاً: »أَوَلَا أَنْتَ تَخَافُ اللّهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لِأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ«. ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: »اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ«. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: »الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ« (لوقا 23:39-43).

قال المسيح مرة: »وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الْأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ« (يوحنا 12:32) الذين يجذبهم إليه بواسطة صليبه هم كنجوم في فَلَك آلامه المظلم. وحالاً ظهر الكوكب الأول، أحد هذين اللصين، الذي اصطلح المفسرون على اعتباره معلَّقاً عن يمين المسيح. لقد رأى تصرفات المسيح وسكوتَه وصبره وصلاته لأجل صالبيه، ولا سيما احتماله بلطف تعييراته وتعييرات رفيقه المصلوب معه، فآمن بهذا المصلوب، وتاب عن فعله، وبدأ يخدم هذا المخلص بما في استطاعته، لأنه قاوم رفيقه ووبخه في وجه القوم المتجمعين مع رؤسائهم، ودافع وحده عن المسيح بجرأة عجيبة. وبذلك قام مقام التلاميذ الذين هربوا. قال لزميله: إنْ كان هذا الجمهور الذي ليس تحت حكم العذاب والموت، يعيِّر رفيقنا المصلوب، أيجوز لنا نحن المصلوبَيْن أن نفعل فعلهم؟ أَوَلاَ تخاف اللّه، إذْ أنت تحت هذا الحُكم بعينه؟ أما نحن فبعدلٍ، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محلِّه«.

ما أغرب هذا الصوت في آذان السامعين، ولا سيما في آذان المستهزئين. لص يقول للص: »أَوَلاَ أنت تخاف اللّه؟« ويعترف بأنه يستحق الصلْبَ لأجل آثامه. ويسمِّي المصلوب بجانبه رباً سوف يجيء منتصراً كملك. فصارت دموع أسفه على ماضيه كالعدسيات في المِرْقب، تمكّنه من رؤية ما كان بعيداً عن أبصار الآخرين. لقد رأى بالإيمان ملكوتاً روحياً ملِكُهُ هذا المصلوب. جعله يدعوه: »اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك«. فكم من الألوف استفادوا وتشجعوا وخَلَصوا بواسطة هذا المِثال، وكم من خاطئ قضى حياته بعيداً عن اللّه، ثم قدَّم أخيراً توبة حقيقية مقبولة عند اللّه، بسبب قبول المسيح توبة هذا اللص.

في الكتاب المقدس حادث واحد شهير يشجّع الذي لم يتُبْ في حياته السابقة على أن يقدِّم التوبة عند مماته. لكنه حادث وحيد، لئلا يطمع كلُّ خاطئ بسببه ويؤجل توبته إلى ساعة مماته. وسرعان ما قال المسيح للص: »الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس«. وعد المسيح اللص بسعادة بعد موته حالاً، يكون هو رفيقه فيها، وفي هذا الوعد أظهر مرة أخرى سلطانَه الإلهي. وتمَّت في هذه الساعة نبوةٌ أخرى للنبي الإنجيلي إشعياء، قال فيها عن المسيح: »مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا« (إشعياء 53:11).

مثَّل اللصان الجنس البشري بأسره. فكان عن يسار المخلص المصلوب ممثِّلُ القسم الهالك من البشر، لأنهم يموتون في خطيتهم. وعن يمينه ممثّل القسم الذي يخلُص بخلاصٍ أبدي، لأنه يتوب ويؤمن بالمخلص الوحيد. فبينما كان الكهنة يقدمون في تلك الساعة للّه في هيكله الحُزْمة، التي هي باكورة حصاد الشعير، حسب شريعة موسى، قدم المسيح رئيس كهنتنا للآب في السماء باكورة حصاد الذين دعاهم بموته إلى الإِيمان والخلاص. نعلم من كلام المسيح عن الفرح الذي يكون في السماء بخاطئ واحد يتوب، أن فرحه بهذا التائب أنساه عذاباته. وأنه حسبه مكافأة عن كل ما تكبَّده في إتيانه من السماء بالنظر إلى قيمة النفس الواحدة. فكلمته هذه الثانية على الصليب هي كالأولى حباً، لا لنفسه بل للآخرين، وليس للقريبين منه بل للبعيدين عنه في الروح والأفكار والصفات.

المسيح يهتمّ بأمه العذراء

»وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً، قَالَ لِأُمِّهِ: »يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ«. ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: »هُوَذَا أُمُّكَ«. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ« (يوحنا 19:25-27).

وجَّه المسيح كلمته الأولى على الصليب إلى أبيه لأجل صالبيه. وجّه كلمته الثانية إلى تلميذه الجديد اللص التائب. ووجَّه كلمته الثالثة، وهي الأخيرة التي تختصُّ بغيره من البشر، إلى أمه مريم التي يجوز في نفسها السيف الذي أنبأها به سمعان الشيخ منذ ثلاث وثلاثين سنة، لما أخذ طفلها على ذراعيه (لوقا 2:35). كان منظر مريم العذراء، هذه الأم الحزينة التي بلغ عمرها لا أقل من خمسين سنة، وهي غارقة بالدموع السخينة، منظراً مؤثراً جداً. وحقاً لا يمكن أن يعرف إلا العليمُ سبحانه مقدار حزنها المفرط في هذه الساعة الهائلة. فانصباب المسيح على مقاصده الروحية الفائقة، واحتماله كل آلامه الروحية والجسدية، لم يشغلاه عن الاهتمام الحبي بحاجات هذه الوالدة المقدسة، حتى الجسدية منها.

نظر المسيح إليها بالحنان البنوي، وأومأ برأسه إلى يوحنا الواقف بجانبها وقال: »هوذا ابنك«. ثم قال ليوحنا: »هوذا أمك« لعِلْمه أن هذا الرسول الأمين المحب الغيور، يقوم بالخدمة البنوية نحوها في كل ما يجب، أفضل مما يفعل إخوته وأخواته، فاختاره وخصَّه بهذا الشرف العظيم. وفي كل هذا العمل نفى المسيح أن الذي يتخصّص لخدمة الدين يجوز له أن يستعفي من الاهتمام بحاجات عائلته الجسدية. فمن تلك الساعة أخذها يوحنا إلى خاصته. ومِنْ عدم ذكرها مع النساء اللواتي حضرن إنزال المسيح عن الصليب ودفْنه، نستدلُّ أن المسيح أمر يوحنا أن يأخذها حالاً من ذلك الموقف القاسي، ليحميها من مشاهدة حوادث تسليمه الروح وإنزاله عن الصليب، ثم وضعه في القبر.

إلهي، لماذا تركتني؟

»وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: »إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟« (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: »هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا«. فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلَأَ إِسْفِنْجَةً خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً: »اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!«

فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ: »حَقّاً كَانَ هذَا الْإِنْسَانُ ابْنَ اللّهِ!« وَكَانَتْ أَيْضاً نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، اللَّوَاتِي أَيْضاً تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ« (مرقس 15:33-41).

لما انتصف النهار، دخل المسيح في دور جديد فاق كل ما سبقه أهمية، فقد حقّق نبوة إشعياء: »حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ اللّهِ وَمَذْلُولاً... وَهُوَ مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا... وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي... أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ َهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ« (إشعياء 53:4-6 و8 و10 و12).

فلما ابتدأ هذا الدور الجديد أظلمت الشمس في رائعة النهار، من الثانية عشرة ظهراً إلى الثالثة مساء. فكأن الطبيعة اشتركت في حزنه العميق ولبست الحداد.

عند دخول المسيح إلى العالم ظهر كوكب ليعلن مجيئه. وعند خروجه انحجبت الشمس لتعلن قرب تسليمه روحه إلى الموت الطبيعي. وبدلاً من النور الباهر الذي أضاء ليلاً على سهول بيت لحم عند ولادته، هبط على النهار ظلامٌ عمَّ الأرضَ كلها عند موته. والسر المكتوم الطبيعي في كيفية إظلام الشمس يقابله السرُّ الأعمق في كيفية حلول الغضب الإلهي على المسيح الإنسان الكامل، الذي كان أيضاً ابن اللّه الحبيب، المولود الجديد.

والأمر الذي يزيل كل ريب في هذا التفسير لذلك الظلام، هو كلمة المسيح الرابعة التي قالها في آخر الساعات الثلاث: »إلهي إلهي، لماذا تركتني؟« ليس لنا أن نتجاسر بالسؤال عما جرى بينه وبين الآب في تلك الساعات التي كان فيها مختلفاً عن البشر جميعاً، وفصلت بينه وبين الجماهير المزدحمة.

سمع صرخته هذه عدد كاف من الناس فقد قالها »بصوت عظيم« فعلموا أن الآب تركه في تلك الساعة، ليعلم العالم أن ذلك كان لأجل التكفير عن خطايا البشر، خصوصاً وأن صلاته اختلفت تماماً عن كل صلاة أخرى قدمها ذُكرت له. لم يصلّ كعادته »أيها الآب« أو »يا أبتاه« بل: »إلهي إلهي« - أي أنه يشعر بفاصل جديد وقتي بينه وبين الآب، يمنع عنه حق مخاطبة أبيه. وذلك أفضل برهان لتغيير العلاقة في تلك الساعة بينه وبين الآب - فقد كان في موقف النائب عن الجنس البشري - وقد حقَّق في هذه الكلمات النبوة التي جاءت في مزمور 22:1.

أنا عطشان

»بَعْدَ هذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: »أَنَا عَطْشَانُ«. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ، فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ« (يوحنا 19: 2

30).

بسبب المشابَهة بين لفظة »إلهي« واسم النبي إيليا في اللغة الأرامية، استنتج بعض الواقفين هناك أن المسيح يستنجد بالنبي إيليا. ويظهر أن هذه الصرخة فكَّت أغلال الظلام. فبزوال الألم الروحي عند انقشاع نور الشمس، عاد الألم الجسدي بشدة فقال (وليس صرخ): »أنا عطشان«. هوذا معطي ماء الحياة الذي قال للسامرية: »من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش أبداً«. يقول: »أنا عطشان«. لأن عطشه جسدي، والماء الذي يعطيه هو الروح.

عند هذا ركض أحد الحراس وملأ أسفنجة خلاً ووضعها على قصبة وسقاه، فاعترضه بعض قساة القلوب قائلين: »أتركْهُ لنر: هل يأتي إيليا ليُنْزِله ويخلّصَه«. أما المسيح فرضي أن يمتصَّ هذا الشراب المنعش، لأنه قصد أن يسلّم روحه بكل ما يمكن من النشاط. فعند كلمته هذه الخامسة تمت نبوة أخرى تقول: »فِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ« (مزمور 69:21).

قد أُكمل

يعد أن شرب المسيح الخل قال كلمته السادسة: »قد أُكمل«. أعلن أنه أكمل أهمَّ حوادث التاريخ البشري في كل عصوره، وهو عمل الفداء الذي به تمَّت المصالحة بين الإله القدوس والبشر الخطاة. »لِأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الْأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الْآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ وَلَا شَكْوَى أَمَامَهُ« (كولوسي 1:19-22). قد أكمل النظام الموسوي مع رموزه من كبيرها إلى صغيرها، وانتهى العهد القديم في العهد الجديد. »الْأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً« (2 كورنثوس 5:17) قد أكمل سَيْر الإِله المتأنس بين الناس. ومن الآن فصاعداً لم يعد يخالط البشر كما كان يفعل، بل يظهر ظهوراتٍ متقطِّعةً فقط في جسد مجده الجديد أمام تلاميذه الأولين، ثم بعد قليل يتوارى تماماً عن أبصار العالم إلى يوم مجيئه الثاني المجيد.

في يديك أستودع روحي

»وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: »يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي«. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ« (لوقا 23:46).

كانت كلمة المسيح الرابعة: »إلهي إلهي، لماذا تركتني؟«... وقد أعلنت الانفصال الوقتي الرهيب بينه وبين الآب. فبصراخ آخر عظيم مثله، يعلن الآن للجماهير زوال ذلك الانفصال تماماً، ورضاه التام بأن يموت على الصليب لأنه يصرخ مصلياً: »يا أبتاه، في يديك أستودع روحي«. فأتمَّ بهذه الكلمة السابعة على الصليب نبوة أخرى جاءت في مزمور 31:5. وأظهر رجوع علاقته مع الآب بكلمته »أبتاه«. فبهذه الكلمة السابعة والأخيرة، وبهذه العبارة المؤثرة التي كررها عدد غفير من تابعيه بعده في ساعات الاحتضار، ودَّع ابنُ مريم وابنُ الإنسان خدمته الأرضية اليومية الاعتيادية بين الناس لينزل إلى القبر هنيهة.

ثم نكس المسيح رأسه وأسلم الروح. ففي موته آية عظيمة أشار إليها قبلاً في قوله: »أنا أضع نفسي عن الخراف. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتُها من أبي« (يوحنا 10:15 ، 18) أي أنه بفعل إرادته فصل نفسه عن جسده فقيل: »أسلم الروح« لأنه قد أتمَّ عمله المطلوب. وهذا يتفق مع موته السريع في مدة ست ساعات بعد صلبه، لأنه عُلّق على الصليب ساعة تقديم ذبيحة الصباح في الهيكل، وأسلم روحه في ساعة تقديم ذبيحة المساء. ولم يكن الصلب يُمِيت المصلوب في يومه.

الزلزلة وقيام الموتى

»وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالْأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: »حَقّاً كَانَ هذَا ابْنَ اللّهِ«. وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي« (متى 27:51-56).

عندما سلم المسيح نفسه للموت ارتجفت الطبيعة لموت رب الحياة. قيل إن »الأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت«. وكان لتفتيح القبور نتيجة عجيبة، إذ قام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين. فهذه، والمعجزات الأخرى التي حدثت عند خروجه من العالم، تشبه المعجزات التي حدثت عند دخوله إلى العالم في أنه لم تشترك فيها يده أو يدٌ بشرية على الإِطلاق. وهذا ما يزيد كثيراً قوة شهادة هذه المعجزات لشخصه الفريد.

شقُّ حجاب الهيكل:

كان من جملة نتائج هذه الزلزلة وما تبعها أن حجاب الهيكل انشقَّ من وسطه إلى اثنين من فوق إلى أسفل. كان هذا الحجاب في وضعه الأصلي علامة بأن الرضى الإلهي محجوب عن البشر، حتى عن الكهنة منهم، بسبب خطاياهم. وأن السبيل إلى اللّه مغلق في وجه الجميع. إلا أن رئيس الكهنة استُثني لأنه يمثل الرئيس الأصلي، الابن الحبيب. وكان الحجاب أيضاً رمزاً لطبيعة المسيح البشرية التي كانت تحجب وتعلن طبيعته الإلهية في الوقت الواحد. فبتمزيق جسد المسيح على الصليب انفتح للبشر باب السماء، ولذلك لاق أن يتمزق أيضاً الستار في الهيكل الذي كان يشير إلى ذلك الجسد. وكان لشقِّ الحجاب معنى كبيرٌ يشمل أيضاً زوال النظام الموسوي، وطقوس الهيكل، والكهنوت البشري، والذبائح الحيوانية، والرموز القديمة، بناء على إتمام المرموز إليه في شخص المسيح.

حقاً كان هذا ابن اللّه:

كان مع الحراس الاثني عشر ضابط برتبة قائد مئة، يدير حركة صَلْب الثلاثة. ولا ريب أنه مع جنوده قد اطَّلع على الظلم في معاقبة المسيح، لذلك كان للمعجزات التي حدثت بسببه كالظلام والزلزلة تأثير عظيم يخيفه، كما يخيف كل من كان مشتركاً في هذه الجريمة. ألا يخشون عقاب اللّه؟ لذلك خافوا جداً. لكن مع خوفهم شعروا بأن يداً إلهية كانت مع المسيح تبرهن أنه ليس كالناس، فمجّدوا اللّه وشهدوا لصلاح المسيح. وفاق رئيسهم في شهادته لأنه فاقهم في إدراكه وقال: »حقاً كان هذا الإنسان ابن اللّه«. فصار من الكثيرين الذين قال عنهم المسيح تكراراً في وعظه أنهم »سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ« (متى 8:11 و12). كما أن أفراد الجمهور انصرفوا وهم يقرعون على صدورهم عجباً وتخشُّعاً.