المسيح في القبر
»ثُمَّ إِذْ كَانَ اسْتِعْدَادٌ، فَلِكَيْ لَا تَبْقَى الْأَجْسَادُ عَلَى الصَّلِيبِ فِي السَّبْتِ، لِأَنَّ يَوْمَ ذلِكَ السَّبْتِ كَانَ عَظِيماً، سَأَلَ الْيَهُودُ بِيلَاطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا. فَأَتَى الْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ الْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. لكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. وَالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ. لِأَنَّ هذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: »عَظْمٌ لَا يُكْسَرُ مِنْهُ«. وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: »سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ« (يوحنا 19:31-37).
أسلم المسيح الروح قبل أن يبتدئ العيد العظيم بساعتين، فتيسرَّ للرؤساء عذرٌ لتجديد تعذيب المسيح، فطلبوا من الوالي أن يكسر سيقان المصلوبين، فلبَّى الوالي طلبهم وأمر بذلك، لأنه لا يتصور أن يموت أحد في هذا النهار. وكان الرؤساء يريدون أن يعاملوا عدوهم العظيم بعد موته معاملة المجرمين السياسين بعد صَلْبهم، فيطرحون جسده خارج المدينة لتفترسه الوحوش. لكن قانون خروف الفصح يمنع كلياً كَسْر عظم منه، وتقول إحدى النبوات عن المسيح إن عظماً منه لا ينكسر (مزمور 34:20) فكيف يتحقَّق هذا الرمز، وكيف تتمُّ هذه النبوة، بعد أَمْر الوالي الذي ذُكر؟ الجواب في ما جرى. فبعدما نفذ العسكر أمر الوالي في اللصين أتوا إلى المسيح فوجدوه قد مات. وهكذا أوقفتهم يد اللّه عن كسر عظامه.
ولكن لو تركوا المسيح هكذا لنقَصتْ براهين موته الحقيقي، وهذا أمر مهم. لأنه بعد حين قامت جماعة أنكرت حقيقة القيامة، مدَّعية بأنه دُفن في سُبات طبيعي واستفاق في قبره. فاستدركت العناية الإلهية شكوكاً كهذه، وأوجدت ما ينافيها تماماً، فإن واحداً من العسكر طعن جنب المسيح بحربة فتحت جرحاً عميقاً، جعل المسيح يقول بعد قيامته لتوما: »هات يدك وضعها في جنبي«. ومن هذا الجُرح »خرج دم وماء«. لأجل تحقيق هذا الأمر المستغرَب أضاف البشير قوله: »وَالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ« (يوحنا 19:35). ثم يستشهد بالنبوة القديمة »فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، الَّذِي طَعَنُوهُ« (زكريا 12:10).
مات فعلاً:
هذه خاتمة حوادث الصلب. أن المسيح الذي كان بمجرد لَمْسه يحوِّل الأجسام المصابة بالأمراض الكريهة والمميته، إلى أجسام صحيحة، حوّل بلَمْسه صليباً مؤلماً معيباً، شعار اللعنة والتوحّش، إلى موضوعِ الإكرام والإجلال، فصار شعار التمدُّن واللطف والحب والإِشفاق والشرف والخلاص الأبدي. لما كتب بولس الرسول: »وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ« (غلاطية 6:14) - كاد أن يكون منفرداً في العالم بهذا الافتخار. أما اليوم فيزداد الافتخار كثيراً جيلاً بعد جيل، ويزداد عدد شركائه فيه.
طلب دفن المسيح
»وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، إِذْ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ - جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ اللّهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَتَعَجَّبَ بِيلَاطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: »هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟« وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. فَاشْتَرَى كَتَّاناً، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِالْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ« (مرقس 15:42-46).
كان للمسيح تلميذ في الخفاء اسمه يوسف، من الرامة، كان عضواً في مجلس اليهود الأعلى. وكان يملك بستاناً به قبر محفور في صخر - ولعله كان يريد أن يدفنوه فيه في أورشليم المدينة المقدسة. وكان يوسف الرامي صاحب مكانة بسبب مقامه وغناه، وكان له مركز طيب عند بيلاطس. فلما عرف يوسف بموته وطلب أن يأخذ جسد المسيح. ومع أنه لم يتبع المسيح ظاهراً أيام انتصاره، إلا أنه تبعه يوم انكساره، فأثبت شرفه الحقيقي وصِدْق إيمانه. ووافق بيلاطس على طلب يوسف بعد أن تحقق من موت المسيح. فاستدعى قائدَ المئة الذي تولَّى أمر الصلب. ولما تأكد منه أن المسيح قد مات، أصدر الأمرَ للحرس العسكري بالسماح ليوسف أن يأخذ الجسد.
تكفين المسيح ثم دفنه
»ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَلكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، سَأَلَ بِيلَاطُسَ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ، فَأَذِنَ بِيلَاطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ يَسُوعَ. وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الْأَطْيَابِ، كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا. وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ، وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيباً« (يوحنا 19:38-42).
اشترى يوسف الرامي كتاناً ثميناً لأجل التكفين، وجاء معه محبٌّ آخر يماثله في أنه مشير غني شريف وتلميذ خفي للمسيح، وهو نيقوديموس الذي »أتاه ليلاً« في أورشليم قبل هذا الوقت بثلاث سنين، وكلّمه المسيح عن الولادة الثانية من فوق (يوحنا 3). أتى الآن حاملاً مزيج مرٍّ وعودٍ للتحنيط نحو مئة مناً أي ما يقارب خمسة عشر رطلاً من الأطياب الثمينة، وهو ما يكفي لتحنيط جثة ملك. ولا بد أنه كان معهما خدم يساعدونهما في العمل الشاق الذي يقصدانه. ولا شك أن يوحنا انضمَّ إليهما في العمل.
مات المسيح منبوذاً حسب النبوَّة، لكنه دُفن بإكرام كملك، بفضل غيْرَة يوسف الرامي ونيقوديموس، فصحَّت النبوة الأخرى أنه »وَجُعِلَ مَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهُِ« (إشعياء 53:9) فبالنظر إلى غِنى يوسف لا بد أن يكون قبره »مغارة كبيرة« في جانبها المكان المُعدُّ لوضْع الجسد، فأخذوا الجسد عن الصليب وأتمُّوا الرسوم اللائقة من غَسْل وتحنيط وتكفين داخل المغارة. ولبثت النساء الأمينات واقفات في جوار المكان ينظرن إلى بعض ما حدث. ثم دحرجوا حجراً كبيراً على باب القبر.
حراسة القبر المختوم
»وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلَاطُسَ قَائِلِينَ: »يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِئَلَّا يَأْتِيَ تَلَامِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلَالَةُ الْأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الْأُولَى!« فَقَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: »عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ«. فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ« (متى 27:62-66).
لا بأس من تحويل النظر قليلاً من التلاميذ المحبِّين إلى شيوخ اليهود المبغضين، الذين ظنوا أنهم أفلحوا تماماً في المهمة التي شغلتهم كثيراً في هذه السنين الأخيرة، واستراحوا نهائياً من المسيح. لكن هل استراحوا حقاً كما يزعمون؟ وهل تسكت ضمائرهم عن تعذيبهم لسفكهم دماً بريئاً، مخالفين أقوال اللّه لأسلافهم؟ كان ما شاهدوه وسمعوه من قرائن الصَّلْب قد شوَّش أفكارهم لئلا يكون كلام المسيح أنه يقوم في اليوم الثالث صحيحاً، فذهبوا إلى بيلاطس يقولون: »يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة أشرَّ من الأولى«. فأجابهم باستخفاف: »عندكم حراس. اذهبوا واضبطوه كما تعلمون«. فمضوا وضبطوا القبر بالحُرَّاس وختموا الحجر. ويُرجَّح أنهم أفهموا الحراس بأن عملهم الخصوصي الذي وضعوهم هناك لأجله هو أن يقتلوا يسوع حالاً، فيما إذا قام كما قال.
في يوم الجمعة الذي فيه صُلب المسيح، يذكر الإنجيل بالاسم قليلين فقط من تابعي المسيح، فمن تلاميذه بطرس والإسخريوطي ويوحنا. ومن المؤمنين به سراً يوسف ونيقوديموس وربما سمعان القيرواني، ومن النساء أمه وأختها ومريم المجدلية وسالومة. إلا أنه يقول أيضاً: »كان جميع معارفه واقفين من بعيد ينظرون صَلْبه، ونساء كثيرات كُنَّ قد تبِعنْه من الجليل«. وهؤلاء جميعاً يهدُّهم الفشل واليأس. لقد خطف الذئب الراعي، فأي رجاءٍ يبقى للقطيع؟
يقف المفكر المُخْلص تجاه ذلك القبر المختوم ليسأل نفسه: »هل يقوم هذا المدفون، أو هل يبقى في القبر ليرى فساداً نظير جميع الذين ماتوا قبله وبعده. فإن قام، عليه أن يقوم دون واسطة بشرية. قال عند قبر لعازر: »أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ« (يوحنا 11:25) وأكد لليهود أن له سلطاناً أن يضع نفسه أو يأخذها أيضاً. وإنْ لبث في قبره يَصْدُق الذين صلبوه لما عيَّروه بأنه لا يصلح مخلِّصاً للعالم ما دام عاجزاً عن تخليص نفسه بنزوله عن الصليب.
فكيف ينتهي أمر المسيح؟
كان غروبُ شمس السبت بداءة اليوم الثالث بعد موت المسيح، فاعتُبر الليلُ كلّه من اليوم الثالث حسب الاصطلاح اليهودي، أما القيامة فكانت قبيل نهاية هذا الليل وبدون رؤية أحدٍ من البشر.
خرج جسد المسيح من أكفانه دون رفعها، فبقيت ملفوفة في مكانها كما كانت وهي محيطة بجسده، حتى أنه ذُكر صريحاً أن المنديل الذي كان على رأسه وُجد ملفوفاً (لم يقل مطوياً). وتحرر جسده من القيود الطبيعية، فصار يظهر بغتة دون أن يُرى له قدوم، ودون أن تعيقه الحواجز الطبيعية.
النساء يجئن صباح الأحد بالحنوط
»وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَّوَلِ الْأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: »مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟« فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لِأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً« (مرقس 16:1-4).
اتفقت النساء الأمينات أن يأتين بالحنوط الذي أعدَدْنه مساء الجمعة، ويجتمعن باكراً صباح الأحد عند القبر لتجديد التحنيط بإتقان، وكان هذا لظنهنَّ أن المسيح باقٍ في قبره. فاهتمَّ بهن مجلس السماء بناءً على أمانتهن وغيرتهن في أصعب الأحوال. فلم يكد يبتدئ هذا الاجتماع عند شق فجر اليوم الأول، أي الأحد، إلا سبقتهن إلى القبر خدمة الملائكة.
كُنَّ قد شاهدن في ساعة الدفن الحجر الكبير الذي أُغلق به القبر، فتحيرن في كيفية دحرجته ليتمكنَّ من الوصول إلى الجسد، لأنه كان عظيماً جداً. لكنهن جهلن صعوبةً أعظم جداً، وهي ما عمله الرؤساء بعد مبارحتهن القبر. ولا ريب أنهن لو اقتربن إليه في وجود الحراس لاعتبروهنَّ آتياتٍ لسرقة الجسد، وعاملوهن أقسى معاملة. ولو سُمح لهن بالاقتراب، فماذا كنَّ يصنعن بختم الحكومة على الحجر؟ لكن بما أن صعوبة رفع الحجر التي يعرفنها لم تثنهنَّ عن الواجب الحبي، أزال اللّه مِن أمامهن ليس تلك فقط، بل أيضاً ما هو أعظم منها كثيراً مما يجهلنه وهو حراسة الحراس، التي أُخفيت عنهن، رحمةً بهن، لئلا تمنعهنّ عن تأدية خدمتهن الشريفة، أَوَليس أكثر ما تخفيه عنّا العناية الإِلهية (إذا لم نَقُلْ كلُّه) قد أُخفي رأفةً بنا؟
أرسل اللّه ملاكاً ليفعل ما لا تستطيعه النساء. نزل الملاك ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، فحدثت عند نزوله زلزلة عظيمة، فارتعب الحراس وهربوا من دحرجة الحجر، ومن هيئة الملاك الذي كان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج.
نهضت النساء للمجيء إلى القبر والظلام باق، وسِرنْ إلى أن بلغْنَ المكان عند طلوع الشمس وعيونهن شاخصات إلى القبر من بعيد، ولم تكن أمُّ يسوع معهن لأنها كانت في بيت يوحنا الحبيب تستقبل تعزيات من يتجرأ من المحبين على زيارتها بمناسبة وفاة ابنها.
أما مريم المجدلية فكانت المتقدمة في زمرة النساء المتعبدات، لأنها كانت تشعر بعظمة دَيْنها لمخلِّصها - والذي غفر له المسيح كثيراً يحبُّ المسيح كثيراً - ولم تجد من الخدمة والإكرام ما يكفي ليعبِّر عن شكرها القلبي للذي فكَّ أسْرَها القديم من نير سبعة شياطين.
»وَفِي أَوَّلِ الْأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً، وَالظَّلَامُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ. فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: »أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ«. فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الْآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. وَكَانَ الِاثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الْآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَانْحَنَى فَنَظَرَ الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الْأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الْأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الْآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الْأَمْوَاتِ. فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا« (يوحنا 20:1-10).
لما وقع نظر مريم على القبر ورأت الحجر مدحرجاً عن الباب، ظنّت أن شخصاً محباً أو مبغضاً أخذ الجسد الكريم، فكيف تطيق أن يهين المبغضون هذا الجسد؟ فرجعت راكضة إلى المدينة لتخبر بطرس ويوحنا، ولما وجدتهما قالت لهما: »أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه؟«. فركض التلميذان إلى القبر مدفوعَيْن بمزيد الإهتمام والكدر. وسبق يوحنا بطرس، ولم يكتف بطرس بنظرة من بعيد، بل دخل القبر ليفحص بالتدقيق، لعله يجد سبباً يفسّر فُقدان الجسد. ثم دخل يوحنا مرة أخرى وراء بطرس، وفحصا المكان معاً، ورأيا هيئة الأكفان الغريبة، وبرهانَ اليد الإِلهية الظاهرة في بقاء منديل الرأس منفصلاً عن الأكفان، كما هي العادة في التكفين. وبعد المشاهدة مضى بطرس متعجباً في نفسه مما كان، أما يوحنا فرأى وآمن، بعد أن رأى الدلالة الواضحة على أن غياب الجسد لم يكن بعمل بشري، بل بقيامة خارقة للعادة. فإن هيئة الأكفان المرتّبة جيداً، وبقاءها في القبر، علامة كافية على أن عدم وجود الجسد لا يُعزَى إلى يدٍ أثيمة أو معادية. وكانا يعلمان جيداً أن ليس بين المحبين مَنْ أخذ الجسد من القبر، فأتمَّت الأكفانُ الغاية من ذِكرها، إذْ أقنعت بطرس ويوحنا أن المسيح قد قام حقاً ويقيناً.
كان القبر الفارغ برهاناً على القيامة لا يقبل الريب. فلو أن الأعداء أخذوا الجسد، لفنَّدوا القول بأنه قام، لأن جسده الميت بين أيديهم. والمحبون لا يجدون سبيلاً إلى أخذه، لأن ضعفهم ويأسهم، وختم الحكومة، والحراس، وسطوة خصومهم، موانع كافية تحول دُون ذلك. ولو فرضنا أنهم تمكّنوا من سرقة الجسد حسب تهمة اليهود، لكي يدّعوا أنه قام، فكيف نفسر اختباءهم في علية أورشليم مساء ذلك الأحد، وهم خائفون وغير مصدِّقين أنه قام؟