المسيح قام.. بالحقيقة قام

»فَقَالَ الْمَلَاكُ لِلْمَرْأَتَيْنِ: »لَا تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لِأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. وَاذْهَبَا سَرِيعاً قُولَا لِتَلَامِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الْأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا« (متى 28:5-7).

بعد أن رأى بطرس ويوحنا القبر الفارغ رجعا إلى المدينة، أما النساء فمكثْنَ عند القبر ثم دخْلنَه. وفيما هنَّ مُحْتارات في أمر فقدان الجسد، ظهر لهنَّ ملاك فاندهشن. فلما رأى الملاك دهشتهن طمأنهنَّ وأظهر أنه يعرف غايتهن، وأن المسيح حقق وعده وقام، ثم دعاهن لينظرْنَ الموضع الذي كان نائماً فيه. وبينما هن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض ظهر لهن ملاكان بثياب براقة، وبّخاهن لأنهن يطلبْنَ الحي بين الأموات، ودعاهن لينظرن الموضع الذي كان الجسد مضطجعاً فيه، ثم أمرهن بالإِسراع إلى التلاميذ (مخصّصين منهم التلميذ الساقط الحزين بطرس). ليبَشرْنهم بقيامة سيدهم، ويخبرْنَهم بأنه يسبقهم إلى الجليل، وهناك يرونه حسب وعده لهم.

فخرجن سريعاً من القبر، وهربْنَ من المكان بخوف وفرح - بخوف بسبب هذه الظهورات الغريبة التي لا سوابق لها، وبفرح لأن سيدهن حقاً قام. وساقهن هذا الخوف مع هذا الفرح حتى ذهبن راكضات لإبلاغ الخبر للتلاميذ سريعاً.

عندما قام جسد المسيح الجديد الممجَّد لم ترافقْهُ الأكفان من قبره، فأكفان المسيح إحدى صفحات تاريخه، نام فيها حيناً، لكن الذين فتشوا عنه فيها لم يجدوه، لأنه كان حاضراً بينهم حياً غير منظور. والذين يفتشون عن المسيح في التاريخ، كما عن سِير المشاهير القدماء، لا يجدونه لأنه حاضر بينهم حياً غير منظور، والتاريخ لا يريه كما هو، بل تراه عينُ الإِيمان فقط. ولا يعرف أحد المسيح إلا باختبار حضوره المبارك معه شخصياً. وتجديد الإختبار ضروري، لأن الماضي منه لا يفي بالمطلوب. نرى ذلك في تلاميذ المسيح، لأن اختبارهم في المسيح قبل موته لم يفِ بالمطلوب بعد قيامته، واختبارهم الماضي صوَّره لهم في قبره، فاحتاجوا لاختبارٍ جديد يريهم إياه في جسد مجده.

المسيح يظهر لمريم المجدلية

»أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ، فَنَظَرَتْ مَلَاكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالْآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً. فَقَالَا لَهَا: »يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟« قَالَتْ لَهُمَا: »إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ«. وَلَمَّا قَالَتْ هذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: »يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟« فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: »يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ«. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: »يَا مَرْيَمُ!« فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: »رَبُّونِي« الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: »لَا تَلْمِسِينِي لِأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ«. فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلَامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هذَا« (يوحنا 20:11-18).

كانت مريم المجدلية قد عادت إلى القبر المقدس، بعد أن أخبرت بطرس ويوحنا، فأخذها البكاء الشديد عند باب القبر. وانحنت لتنظر لأول مرة داخله، فما كان أعظم عجبها لرؤية الملاكَيْن جالسيْن وجهاً لوجه عند طرفي القبر. لم يُذكَر أنها دُهشت كغيرها أو جزعت عند رؤية الملاكين، لأن تأثير الحزن الشديد في قلبها لم يترك للخوف مجالاً.

وسأل الملاكان مريم عن سبب بكائها، فأعادت ما قالته لبطرس ويوحنا. نراها في شدة حزنها مثالَ الذين يبكون وينوحون في ظروف تستدعي السرور، لأنها بكت لفراغ القبر، بينما هذا أعظم داع للسرور والابتهاج، ولو أنها عرفت الحقيقة. فكم من مرةٍ في حياتنا حزنّا لأمورٍ حسبناها مصائب، وهي بالحقيقة بركات.

الظاهر أن رفيقات مريم كنَّ قد ابتَعدْن عنها، وأنها لم تعلم بظهور الملاكين لهن. طلبت الجسد الميت لتكرمه، فنالت رؤية ظهوره حياً قبْلَ ظهوره لأحدٍ غيرها. لأنها لم تكَدْ تجيب الملاك حتى سمعتْ ما جعلها تلتفت إلى الوراء، فنظرت رجلاً بهيئةٍ بسيطة، حسبْتهُ حارس البستان، سألها: »يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟«.

في هذا السؤال المزدوج بعض التبكيت، لأن كلامه المكرر السابق عن قيامته لم يرسخ في ذهنها، فأجابت على سؤاله أنها مستعدة أن تستلم الجسد، وتجد له قبراً آخر مناسباً - وربما حوَّلت نظرها عنه منتظرة جوابه - فقال لها: »يا مريم«. بذات الصوت الذي ألفته مدة اتِّباعها إياه. هو الراعي الصالح الذي يدعو خرافه الخاصة بأسمائها، وخاصته تعرفه. فلما دعاها باسمها عرفته، والتفتت وكل عواطفها متيقظة، وقصدت أن تقبِّل قدميه. ونادته: »ربوني«. أي »يا معلمي«.

ولكن المسيح أوقفها عن هذه الحركة، ليشعِرها بالتغيير الكامل الذي نتج عن قيامته وأظهر لها السبب بقوله: »لأني لم أصعد بعد إلى أبي«. أراد أن يُفهِمَها ويُفْهِمَ العالمَ بواسطتها أن الواجب في التمسُّك به هو التمسك الروحي لا الجسدي. فعلى شعبه المسيحي أن يتعلم ذلك، »اَللّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا« (يوحنا 4:24). وأن لا يطلبوا تمثيلاً خارجياً أو حضوراً محسوساً. وأمر المسيح مريم أن تذهب حالاً وتبشّر تلاميذه بأنها رأته، وقد قام، وأنه يصعد قريباً إلى اللّه أبيه (في طبيعته الإلهية) وإلهه (في طبيعته البشرية).

شرّف المسيح تلاميذه بلقب جديد دلَّ على لطفه وتواضعه. دعاهم قبلاً تلاميذه وأصدقاءه وأحباءه. أما الآن فلأول مرة يدعوهم »إخوتي«. فما أعظم الحب الذي جعله يحتضنهم كإخوة، بعد كل ما صدر منهم مما ينافي هذه الأخوية الروحية له. وما أعظم التواضع الذي فعل ذلك بعد ما حصل له من التمجيد الجديد بالنسبة إلى الماضي. إلا أنه لم يشملهم معه بصيغة الجمع، ليقول: »أصعد إلى أبينا وإلهنا«. بل حافظ على التفرُّد بقوله: »أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم«. لأن اللّه أبوه بالولادة الذاتية، كما قال في المزمور: »أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ« (مزمور 2:7). لكنه أبوهم بالتبني الروحي. بنوة المسيح للّه بنوَّة أصيلة، أما بنوة التلاميذ للّه فهي بنوة مكتسبة، في المسيح.

المسيح يظهر للنسوة

»فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لَاقَاهُمَا وَقَالَ: »سَلَامٌ لَكُمَا«. فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: »لَا تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولَا لِإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي« (متى 28:8-10).

ثم ظهر المسيح ظهوره الثاني كالأول، وليس لتلاميذه ولا لرجالٍ من تابعيه، بل للنساء وهنَّ ذاهبات راكضات ليتممْن وصية الملائكة، ويبشرن التلاميذ بالقيامة، فتممن ذلك بأن أخبرن التلاميذ الأحد عشر ومن معهم، فلم يصدقوهن، ولا سيما قولهن إنهن قد رأين المسيح، بل نسبوا إليهن الهذيان.

ولقد حوّلت العناية الإِلهية عدم تصديق التلاميذ إلى أعظم بركة، لأن ذلك أصبح من أهم البراهين الدامغة على صِدْق القيامة. قال أحد المفسرين إن شكوك التلاميذ لم تَزُلْ إلا شيئاً فشيئاً عند توالي البراهين القاطعة. فشكُّهم الأول يقوي ثقتنا بشهادتهم بعد تيقُّنهم. شكُّوا وقتاً قصيراً لكي لا نشك أبداً.

الحراس يُبلِغون بالقيامة

»وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ إِذَا قَوْمٌ مِنَ الْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. فَاجْتَمَعُوا مَعَ الشُّيُوخِ، وَتَشَاوَرُوا، وَأَعْطَوُا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: »قُولُوا إِنَّ تَلَامِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. وَإِذَا سُمِعَ ذلِكَ عِنْدَ الْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ«. فَأَخَذُوا الْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ، فَشَاعَ هذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْيَهُودِ إِلَى هذَا الْيَوْمِ« (متى 28:11-15).

أما الحراس فقد أسرعوا يخبرون بما جرى عند القبر. واحتار رؤساء اليهود ماذا يفعلون؟

لم يكن المسيح بعد قيامته يظهر لكل الناس، بل لخاصته فقط من التلاميذ. فعقد رؤساء اليهود مجمعاً ليبحثوا الأخبار التي حملها إليهم الحراس، ودفعوا لهم رشوة ليقولوا إن تلاميذ المسيح سرقوا جسده من القبر بينما الحراس نيام. لقد زادت خطية الرؤساء لأن قيامة المسيح كانت بقوة الروح القدس، ونسبوها إلى السرقة، فصار عملهم هذا تجديفاً على الروح القدس، مثلما فعلوه لما نسبوا قوة المسيح في المعجزات إلى الشياطين. وماذا يُقال عن هؤلاء الذين كرروا قولهم للمسيح إنهم يؤمنون به إنْ أعطاهم آية من السماء. فأيّةُ آيةٍ من السماء أعظم من آية قيامته وما رافقها من الآيات الفائقة؟ وأي معجزة أعظم: أن ينزل عن الصليب وهو حي كما طلبوا منه، أو أن يقوم من القبر في اليوم الثالث بعد موته؟

لو كان الإيمان متوقّفاً على البراهين لآمنوا لا محالة، لأن البراهين كانت متواصلة ومتزايدة مدة الثلاث سنين، حتى انتهت بأعظمها وهي قيامته. ألَمْ يقل المسيح في مَثَل الغني ولعازر إن الذين لا يؤمنون بواسطة الكتب المقدسة، لا يؤمنون ولو قام واحد من الأموات؟ (لوقا 16:31) فليس الإيمان ثمر البراهين وحدها، لأن الإيمان الخلاصي أول وقبل كل شيء هبة إلهية، وعلى ذلك فإنه يتوقف على حالة القلب ومدى استعداده لقبول الهبة. والمنطق وحده مهما كان دقيقاً وصادقاً لا يوصّل إلى السماء. فلا يتوهم صاحب البراهين الدامغة أنه يربح النفوس بمجرد الجدال، مهما كانت معارفه سامية ولسانه طلِقاً في البيان.

أكبر برهان على القيامة:

أما أثبت البراهين على قيامة المسيح، فجاء في الحوادث التابعة لصعوده. فبعد صَلْبه بسبعة أسابيع فقط نرى تلاميذه يجاهرون أمام الجموع المتجمهرة في أورشليم ذاتها، بحقيقة قيامته. ويوبخون الرؤساء صراحة في مركز سطوتهم على قتلهم المسيح الذي أقامه اللّه من الأموات، ونرى الألوف يؤمنون حالاً بتأثير هذه المجاهرة، وتأثير المعجزات التي فعلها رسله ونسبوها إلى قوة المسيح الذي قام من قبره ممجَّداً. فلو كان تكذيب خبر القيامة ممكناً، لما استطاع التلاميذ أن يجاهروا. ولو لم يقم المسيح حقاً لَمَا تجرأوا أن يعلنوا ما أعلنوه.

ثم أنه لا يُعقل أن الرؤساء المبغِضين الذين بذلوا غاية الجهد حتى يصلبوا المسيح يسكتون عن تلاميذٍ سرقوا الجسد ويسكتون عن حراسٍ أقاموهم ليمنعوا التلاميذ عن عملٍ كهذا، فقصَّروا في مهمتهم. لو تجاسر تلاميذه وسرقوا الجسد، فماذا يربحون من سرقة الجسد. لأن مَنْ يصدق قولهم بقيامة سيدهم لمجرد فروغ القبر من جسده؟ وبأي حق يجعلون قيامته أساس وعظهم، وليس لديهم برهان إلا وجود القبر فارغاً؟

ثم أن المحبين الذين يسرقون الجسد في وجود الحراس (على فرض نومهم كما قال اليهود) لن يجرأوا أن يبقوا في القبر أكثر من الدقائق الضرورية لأخذ الجسد، فلا يمكن أن يهتموا بأن يرفعوا الأكفان عن الجسد، ثم يضعوها ملفوفة بترتيب. وأي عاقلٍ يُسلِّمُ بأنهم يسرقون الجسد ويتركون لأعدائه وأعدائهم الأكفان الثمينة؟ وكيف يرفعون الحجر الضخم الذي على باب القبر بدون أن يوقظوا الحراس؟ وكيف يسرقون الجسد ثم يرفض قادتهم من التلاميذ تصديق قيامته، وينسبون الهذيان إلى النساء القائلات بها؟ وكيف يسرق التلاميذ جسده ليلاً ثم في الصباح تتوجَّه النساء اللواتي كُنَّ في مقدمة تابعيه، وبعضهن أمهات بعض التلاميذ آخذات الحنوط إلى القبر؟

ثم أن الصفات والمبادئ السامية القويمة التي اشتهر بها تلاميذه سريعاً بعد موته، واستشهادَهم دون تردد انتصاراً لقيامته، أمورٌ لا تتّفق مطلقاً مع اتِّهامهم بحيلةٍ كاذبة لهذه الدرجة.

لو كانت القيامة اختلاقاً:

ثم أنه لو كانت قصة القيامة اختلاقاً، لذكر الرواةُ ظهورَ المسيح لغير تلاميذه، ليزيد برهانُ ما يدَّعونه. ولَمَا خطر على بالهم أن يحصروا ظهوره بالتلاميذ وحدهم. لأن المختلِق الذكي لا يترك هذا الباب دون أن يطرقه. ونعلم من التاريخ أن هذا الانتقاد حصل باكراً من أعداء المسيحية. أما الذين يقولون باستحالة المعجزات فيضطرون طبعاً لإِنكار القيامة التي هي أعظمها.

وهناك من يقول إن التلاميذ لم يختلقوا خبر القيامة، لأنهم رجال صالحون صادقون، لكنهم رأوا رؤى ظنوها حقيقة. لكننا يجب ألاَّ نغفل أن تحقيق قيامة المسيح لم تبتدئ بمشاهدة شخصه، ليصحَّ القولُ إنه رؤيا، بل ابتدأ بالبرهان الحسّي في فراغ قبره. ومعلوم أن الرؤيا الوهمية تأتي الإِنسان طِبقاً لتصوُّراته. وقد كان التصوُّر بقيامة المسيح، بعيداً عن كل استعدادات التلاميذ الفكرية السابقة. ونعود إلى القول بأن البشيرين لم يوردوا خبراً من الأخبار التحليلية، بل اقتصروا على ما هو تحت حكم حواس البصر والسمع واللمس، وبذلك ختموا على أهمية شهادة الحواس في الدين. نعلم أنه لما ظهر المسيح لهم ألزمهم أن يلمسوه ويطعموه لكي يعرفوا أنه بالحقيقة قام.

كان الرسل في وعظهم يعودون إلى حقيقة القيامة، دون أي معجزة أخرى، كشهادة بأن المسيح ابن اللّه. وعلى تصديق القيامة يتوقف تصديق المعجزات كافة.