المسيح يظهر بعد القيامة

ظهوره لتلميذي عمواس

»وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، اسْمُهَا »عِمْوَاسُ«. وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هذِهِ الْحَوَادِثِ. وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. وَلكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. فَقَالَ لَهُمَا: »مَا هذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟« فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، الَّذِي اسْمُهُ كَِلْيُوبَاسُ: »هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الْأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الْأَيَّامِ؟« فَقَالَ لَهُمَا: »وَمَا هِيَ؟« فَقَالَا: »الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللّهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ، مَعَ هذَا كُلِّهِ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذلِكَ. بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلَاتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلَائِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ«. فَقَالَ لَهُمَا: »أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟« ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الْأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ. ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: »امْكُثْ مَعَنَا لِأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ«. فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: »أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟« فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا الْأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: »إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ« (لوقا 24:13-34).

كان ظهور المسيح الثالث لتلميذين ليسا من رسله المختارين هما تلميذا عمواس. ويُرجَّح أن عدم ظهوره لتلاميذه أولاً، وفي عدم ذكر ظهوره لوالدته مطلقاً، قصد خصوصي، هو تخفيف خطر المبالغة في إكرام الذين لهم المقام الأول في الكنيسة. ويوضح هذا الظهور الثالث التغيير الذي حصل لجسد المسيح بموته ثم قيامته، فنقرأ أنه ظهر »بهيئة أخرى« لاثنين من الذين معه، وهما منطلقان في ذلك اليوم إلى قرية عمواس التي تبعد عن أورشليم، ستين غلوة (أي نحو عشرة كيلو مترات). يُستنتج أنه ظهر بغتة ومشى وراءهما مسافة قصيرة، ثم أدركهما وكلَّمهما فظنَّاه أحد المسافرين، إذ لا شيء  في هيئته الظاهرة يذكّرهما بسيدهما. وسألهما وهو يمشي معهما: »ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسَيْن؟« يُحتمَل أن بعض عبوستهما نتج عن تعرُّض رجلٍ لهما، ظنَّاه غريباً، بينما حديثهما في مصابهما الجسيم بسبب صلب المسيح كافٍ للعبوسة. سمعهما يرددان عبارات اليأس ثم الرجاء، وبراهين الشك ثم اليقين، وقد ظهر من كلامهما صدق إيمانها ومحبتهما للمسيح، وجرأتهما في إظهار علاقتهما معه لهذا الغريب في هذه الأحوال الحرجة. فعلى سؤاله أجاب أحدهما - وهو كليوباس - مستغرباً كيف أن إنساناً قادماً من المدينة يجهل هذا الموضوع الذي يشغل أفكار الجميع. فلما حثَّهما المسيح ليوضِّحا ما يشيران إليه، أجابا أنه عن الأمور المختصَّة بيسوع الناصري، الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول، أمام اللّه وجميع الشعب. فمَنْ لا يغتاظ ويأسف على عمل رؤساء الكهنة الذين أسلموه لحكم الموت وصلبوه؟

لما وجد كليوباس من هذا الغريب إصغاءً وُدِّياً، كشف له سرَّهما في قوله: »نحن كنّا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل«. كانا كغيرهما ينتظران من المسيح متى جاء خلاصاً سياسياً، لأن معظم التاريخ اليهودي كان حوادثَ الخلاص السياسي الذي ناله هذا الشعب بواسطة عظمائه، كموسى ويشوع وداود وحزقيا وأمثالهم. ثم اعترف كليوباس بأن مرور ثلاثة أيام على صَلْب المسيح، قد أيَّد يأسهم. فهل في كلام كليوباس تلميحٌ إلى ما قاله المسيح تكراراً عن أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ أو إلى كونهم انتظروا في أورشليم إلى ختام اليوم الثالث، ولما لم يروه زاد يأسهم وتوجهوا إلى قريتهم؟

اعترف كليوباس قائلاً: »بعض النساء منّا حيَّرْننا إذْ كنَّ باكراً عند القبر، ولما لم يجدْنَ جسده، أتيْنَ قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه«. فهل استخفَّا بأخبار النساء لأنهنّ نساء؟ أم استبعدا أن الملائكة تظهر للنساء، ولا تظهر للرسل، أو لوالدته المكرمة المكتئبة؟

اضطر المسيح أن يلقي عليهما تعاليمه قبل أن يعلن عن نفسه لهما. »أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان«. إنه يصف الشاكِّين بالغباوة لأنهم لا يصدقون ما ورد في التوراة. وقد دعاهما غبيين لأنهما لم يفهما النبوات التي أعلنت لزوم آلام المسيح قبل دخوله إلى مجده. فلو فهما الكتاب لعلما عندما رأياه يتألم أنه لا بد أن يتمجد أيضاً. افتكرا أن ما قاساه نفيٌ للقول بأنه المسيح المنتظَر. والحق أن ما قاساه هو شرط لازم لكونه المسيح. فلم يوبخهما لعدم تصديقهما النساء والملائكة والقبر الفارغ، بل لعدم فهمهما الكتاب الإلهي أساس اليقين الثابت، ولأنهما نسيا أن الأنبياء صرحوا بأن طريق المجد تمرُّ على الرَّفض والآلام والقبر.

ثم ألقى المسيح تعليماً وافياً على هذين المجهولين في التاريخ، الخارجين عن صف الرسل. ابتدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصَّة به في جميع الكتب. فلو سُئلنا ما هي أعظم خسارة من أقواله التي لم تحفظ، نجيب أنها الشرح الذي فسَّر فيه النبوات والإِشارات والرموز المختصَّة به في كل أسفار التوراة، ولا سيما التي تشير إلى آلامه وموته وكفارته. فما أعظم اندهاش تلميذي عمواس في أثناء هذا الشرح الذي استمر مدة ساعتين، مضتا كأنهما دقيقتان، بسبب تلذُّذ كليوباس ورفيقه واستفادتهما - لأن التوراة صارت دفعة واحدة كأنها كتاب جديد. فتح هذا المتكلم ذهنيهما للفهم، وأشعل قلبيهما للشعور. وهذا الفعل المزدوج هو فعل روحه على الدوام، في كل من يصغي إليه بإخلاص، إذْ يترجم لفهمه أقوال الكتاب ثم يطبعها على قلبه. وصف كليوباس ورفيقه شعورهما بقولهما »ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذْ كان يكلّمنا في الطريق، ويوضح لنا الكتب؟«.

أخيراً اقتربوا من قرية عمواس، فودعهما كأنه قاصد أن يتقدم إلى مكان أبعد، إنْ سمحا له، فأوقفاه بقولهما: »امكث معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار«. فقبل دعوتهما ودخل ليمكث معهما. مكث معهما جسدياً فترة قليلة ليحقق لهما أنه يمكث معهما روحياً على الدوام. لكن لما جلسوا على مائدة العشاء، اتخذ مقام صاحب البيت لا مقام الضيف، لأنه أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما، فانتبها وانفتحت أعينهما فرأيا مسيحهما المفقود. فكان ردُّ الفعل عظيماً فيهما، من اليأس إلى الابتهاج. لكن حالما عرفاه اختفى عنهما. فقاما فوراً وعادا إلى أورشليم ليبشّرا محبي المسيح اليائسين. ولو كان كلُّ من يظهَر له المسيح روحياً، يسرع ليبلغ الآخرين الشهادة بفضله ورحمته الخلاصية، لحدثت أعظم بركة له ولمن يسمع شهادته.

المسيح يظهر لبطرس

»وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا« (1 كورنثوس 15:5).

بينما كان كليوباس ورفيقه راجعَيْن إلى أورشليم في نور البدر، ظهر المسيح ظهوره الرابع لبطرس. »الرب قام بالحقيقة، وظهر لسمعان«. لكننا نجهل مكان ذلك الظهور وساعته وكيفيته، وما دار فيه من الكلام بين المخلِّص وزعيم تلاميذه. لكننا نرجح أن المسيح قصد بهذا الظهور أن يؤكد لبطرس استمرار حبه له وثقته فيه وقبوله توبته على أثر سقطته الهائلة، ليَسْلَم من خطر اليأس بسبب هذا السقوط.

المسيح يظهر لعشرة من تلاميذه

»وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التَّلَامِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: »سَلَامٌ لَكُمْ«. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التَّلَامِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: »سَلَامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الْآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا«. وَلَمَّا قَالَ هذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: »اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ« (يوحنا 20:19-23).

وفي مساء هذا اليوم المجيد اجتمع التلاميذ سراً، خوفاً من أن يتعقَّبهم الرؤساء ليهلكوهم كما أهلكوا سيدهم، ولا سيما أن خبر قيامة المسيح هيَّج الرؤساء كثيراً، فغلَّقوا الأبواب تحفُّظاً. وكان توما غائباً عن هذا الاجتماع لأسباب نجهلها.

في هذا الاجتماع حكى بطرس لرفاقه خبر ظهور المسيح له. وفي أثناء ذلك وصل كليوباس ورفيقه، فوجدا المجتمعين يتحادثون في أن المسيح قام بالحقيقة وأنه ظهر لبطرس. فأخبراهم بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز. ويظهر أن بعض الحاضرين كانوا لا يزالون يشكُّون في حقيقة قيامته، ويفسِّرون ظهور المسيح للمجدلية ثم للنساء ثم لبطرس أنه وهمي، فقيل: »إنهم لم يصدقوا ولا هذين«.

ففي هذا الاجتماع مساء يوم قيامته، ظهر المسيح فجأة، ودون فتح بابٍ لدخوله. ووقف في الوسط وقال لهم: »سلام لكم«. لم يقل: »سلام عليكم« كأنه سلام خارجي زمني بل »سلام لكم« لأنه سلام داخلي روحي يهبه هو لهم في وسط الجزع والاضطراب. هذا السلام هو الميراث الذي تركه لهم في خطابه الوداعي لما قال: »سَلَاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلَامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا« (يوحنا 14:27) كان السلام هو أول ما كلَّمهم به في اجتماعه الأول بهم كجماعة.. فسكّن اضطراب قلوبهم بقوله: »السلام لكم«، كما سكَّن سابقاً بكلمة منه اضطراب البحيرة. به وحده يحصل المؤمن على سلامٍ مع اللّه، ومع ضميره الذي يدينه، ومع البشر في المعاشرة اليومية، وفقاً للوصية الرسولية: »حَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ« (رومية 12:18).

لم يكن التلاميذ مستعدين لهذا السلام المقدَّم لهم بسبب ضعف إيمانهم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم رأوا روحاً. فعَذَرهم لأن هيئته غير معروفة عندهم. كان ظهوره كل مرة بعد قيامته، بهيئة غير القديمة، ضرورياً ليؤكد لهم التغيير العظيم الذي حصل لجسده في قيامته. فلا عجب أنه حيَّر التلاميذ جداً، لأنه كان يظهر ويختفي فجأة، ويظهر كل مرة بهيئة جديدة.

وبما أن المسيح كان يكلّمهم كثيراً بأمثال، فقد حسبوا كلامه عن موته وقيامته من الأمثال، فلم يكترثوا له كثيراً، ولا اكترثوا لشهادة النساء، لأنهم حسبوهنَّ أكثر عُرضة للأوهام. فلأسباب كهذه كان شكُّهم أقربَ إلى المعقول، وكان توبيخُ المسيح لهم لطيفاً. قال: »ما بالكم مضطربين؟« ونفى أنه خيال كما توهموا بسبب كيفية دخوله، وتلطَّف بدعوتهم ليلمسوه قائلاً: »أنظروا يديَّ ورجليَّ. إني أنا هو. جسُّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي«. وأراهم جنبه أيضاً.

هذه مرة أخرى أكرم فيها المسيح شهادة الحواس إثباتاً للحقيقة، وأيَّدها في أهم القضايا، وهي قيامته. أضاف المسيح على ما سبق أنه طلب طعاماً. ولما ناولوه من العسل والسمك المشوي الجاهز لديهم، أخذ وأكل قدامهم. ثم فعل مع هؤلاء المجتمعين ما فعله مع التلميذين في طريق عمواس، لأنه فتح ذهنهم ليفهموا الكتب، وذكَّرهم بالنبوات القديمة وبإنباءاته هو المتكررة. فجاز له الآن بعد أن سكَّن خوفهم أن يوبخهم على عدم إيمانه وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدقوا قول الذين كانوا قد رأوه بعد ما قام، لا سيَّما وأن شهادة هؤلاء كانت تطابق أقوال التوراة.

ثم أكد المسيح أهمية الكرازة باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مبتدئاً من أورشليم، وأنهم يكونون شهوداً في كرازتهم لِمَا عاينوه وسمعوه وتيقنوه، وأعاد لهم وعده بأن يرسل لهم الروح القدس الذي وعدهم به الآب أيضاً، وأوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بعد صعوده قبل أن يُلبِسهم هذا الروحُ قوة من الأعالي، وسلَّمهم وظيفته في قوله: »كما أرسلني الآب أرسلكم أنا«.

ثم قال لهم: »اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفَر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت«. هذا هو »الكلمة« الذي »كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ« (يوحنا 1:3). والذي به أيضاً عمل اللّه العالمين (عبرانيين 1:2). فكما نفخ في الإنسان الأول نسمة الحياة الطبيعية، نفخ الآن في هؤلاء اليائسين نسمة الحياة الروحية الجديدة.

المسيح يقدِّس يوم الأحد:

قدَّس المسيح اليوم الأول في الأسبوع بقيامته يوم الأحد، وبظهوراته الخمسة التي ذكرناها، فلا عجب أن قدَّس تابعوه يوم الأحد، لأن المسيح وضع فيه نظاماً جديداً وأساساً لكنيسة جديدة ولعالم جديد، بمعنى روحي. وكرسه ليكون على الدوام يوماً خصوصياً لتابعيه، بدلاً من السبت اليهودي الذي كان تذكار إتمام الخلق الطبيعي وجعل هذا اليوم الأول تذكاراً لإِتمام الخليقة الجديدة في عمل الفداء. ومما يؤيِّد هذا اليقين غيابُه عن تابعيه أسبوعاً كاملاً قبلما ظهر ظهوره السادس في يوم الأحد الذي بعده، ثم أثبت هذا الاستبدال بِسكْبه الروح القدس لميلاد الكنيسة المسيحية يوم الأحد في عيد الخمسين. وقد اهتم البشيرون كلهم أن يوردوا خبر هذا الظهور الخامس أمام الرسل العشرة، خلافاً للظهورات الأخرى.

المسيح يظهر للأحد عشر

»أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ التَّلَامِيذُ الْآخَرُونَ: »قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ«. فَقَالَ لَهُمْ: »إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لَا أُومِنْ«. وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلَامِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالْأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ: »سَلَامٌ لَكُمْ«. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: »هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلَا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً«. أَجَابَ تُومَا: »رَبِّي وَإِلهِي«. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: »لِأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا« (يوحنا 20:24-29).

لما ظهر المسيح في الأحد الثاني للمرة السادسة، كان التلاميذ داخل علية كما كانوا في المرة السابقة، وتوما معهم. فجاء المسيح والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط وحيَّاهم بذات ألفاظِ تحيته الأولى.

والظاهر أن المسيح جاء بالأكثر في هذه المرة لأجل توما، لأنه دعاه ليفعل ما طلبه لكي لا يكون غيرَ مؤمنٍ بل مؤمناً. ذلك أن توما أصرَّ على عدم الإيمان بالقيامة حتى يرى ويلمس، ورفض البراهين الكثيرة القوية التي أقنعت رفقاءه، وأصرَّ على أن يبصر أثر المسامير في يدي سيده ويضع إصبعه فيها، وأن يضع يده في جنبه المجروح بطعنة حربة الجندي الروماني.

لا نعلم هل خجل توما من كلام المسيح، وتنحَّى عن وَضْع إصبعه ويده أم لا، إنما نعلم أنه حالاً طرح شكوكه وصرَّح بإيمانه التام قائلاً: »ربي وإلهي«. فأعلن كامل الإيمان. لكن المسيح وبَّخه وأوضح له أفضلية الإِيمان الذي لا يتطلَّب العيان، لأن الإِيمان لا يكون إيماناً بعد أن يرى الإنسانُ بعينه، فطوبى للذين آمنوا ولم يروا. وهذه الطوبى مذخورة لجميع المؤمنين في كل الأزمان، فلا يحسدنَّ أحدٌ أولئك الذين بنوا إيمانهم على رؤيته.

نمدح توما لأنه طلب البراهين الكافية قبل أن يقبل قضية دينية جوهرية، لأنه لا يجوز تعليق اليقين الديني على خيوط العنكبوت، ولا يكتفي الفهيم بأنه تناول اليقين الديني من أسلافه، لئلا يكون قد تناول الضلال، لأن الضلال يتسلسل كما يتسلسل الحق. ولا يكتفي أن يتناول يقينه من علماء جيله، دون أن يقف على البراهين التي يستندون عليها. ويجوز لنا أن نقول إن الشك في الدين هو باب اليقين، لأن الشك يؤدي إلى الفحص، والفحصُ إلى اليقين، ولا يقينَ حقيقي إلا بعد الفحص.

إذاً لماذا وبَّخ المسيح توما؟

وبَّخه لأنه تجاوز الحد المعقول في إصراره على براهين أكثر من الكافية، لأنه أظهر عدم الميل إلى اليقين، كأنه يطلب عذراً يتذرَّع به لأجل الإِنكار. أخطأ توما لأنه تشبث بالبراهين الحسية، كأنه يزدري بالبراهين المعنوية والروحية. فإذا كنَّا لا نلومه على إصراره أن يرى كما رأى غيرُه، نلومه على عدم قبوله شهادتهم. ولو فعل القضاة في أحكامهم فِعْل توما لما أمكنهم أن يحكموا في أية قضية، لأنه لم يُسمَع في الزمان أن قاضياً أصرّ على أن يرى بعينه ما رآه الشهود في دعوى تقدمت له. ولو اقتدى الناس بتوما في ما فعل، لبَطَلَ التبشير تماماً، واختنقت الكنيسة المسيحية في مهدها.

المسيح يظهر لسبعة تلاميذ

»بَعْدَ هذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتَّلَامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هكَذَا: كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلَامِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ. قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: »أَنَا أَذْهَبُ لِأَتَصَيَّدَ«. قَالُوا لَهُ: »نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ«. فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً. وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلكِنَّ التَّلَامِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟«. أَجَابُوهُ: »لَا!« فَقَالَ لَهُمْ: »أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الْأَيْمَنِ فَتَجِدُوا«. فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ. فَقَالَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: »هُوَ الرَّبُّ«. فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ، اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ. وَأَمَّا التَّلَامِيذُ الْآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الْأَرْضِ إِلَّا نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ. فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الْآنَ«. فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الْأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً، مِئَةً وَثَلَاثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هذِهِ الْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »هَلُمُّوا تَغَدَّوْا«. وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التَّلَامِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ. ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذلِكَ السَّمَكَ. هذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الْأَمْوَاتِ« (يوحنا 21:1-14).

أمر المسيح تلاميذه أن يسبقوه إلى الجليل. وفي هذا حكمة، لأن معظم المؤمنين موجودون في الجليل. فيحقُّ لهؤلاء أن يسمعوا من مواطنيهم التلاميذ وغيرهم من رجالٍ ونساء، خبر آلام المسيح وموته وقيامته. فذهبوا إلى الجليل، وهناك ظهر المسيح لنخبة منهم ظهوره السابع بعد قيامته. أما قول يوحنا إن هذه »مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه بعدما قام من الأموات«. فيعني أنها المرة الثالثة التي ظهر فيها لجماعةٍ من التلاميذ، بقطع النظر عن ظهوراته الأخرى الفردية.

اختار المسيح شاطئ بحر الجليل الذي قدستْهُ قدماه الطاهرتان، مكاناً لهذا الظهور السابع، وهو أجمل موقع في الأرض المقدسة، واختار وقتها سبعةً من أفضل تابعيه في سفينة واحدة. وهم سمعان بطرس، ويوحنا بن زبدي الملقَّب بالحبيب. ويعقوب أخو يوحنا. وتوما الذي شُفي من مرض الشكوك. والخامس كان ذلك النبيل الذي قال عنه المسيح إنه لا غش فيه، وهو نثنائيل أو برثلماوس. أما السادس والسابع فلم يُذكرا بالاسم، والأرجح أنهما أندراوس وفيلبس.

كان التلاميذ صيادي سمك، ولما دعاهم المسيح ليتبعوه تركوا شباكهم وانضموا لخدمته. ولكن يبدو أن صَلْب المسيح وموته جعلهم في حالةٍ من اليأس، دفعتهم للعودة إلى وظيفتهم القديمة، بعد أن نسوا كل ما تعلموه.

وحالما اقترح بطرس عليهم مصاحبته في الصيد انضمُّوا إليه. في تلك الليلة لم يصيدوا شيئاً، فقد منعت العناية الإلهية عنهم السمك لتفتح عيونهم إلى ما هو أعظم. وهكذا تعمل العناية معنا دوماً.

ولما مضى الليل دون أن يصيدوا شيئاً، سحبوا الشباك إلى السفينة وتوجَّهوا إلى البَرّْ. ولما وصلوا إلى بُعْد نحو مئتي ذراع عن البَرّ جاءهم صوتٌ من شخص غريب واقف على الشاطئ يناديهم: »يا غلمان، ألعل عندكم إداماً؟« (الإدام هو ما يؤكل مع الخبز) فلما أجابوه: »لا«. أمرهم أن يلقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فيجدوا، ففعلوا، لكن دون أمل بالنجاح، فكوفئوا بأنهم لم يعودوا يقدرون أن يجذبوا الشبكة من كثرة السمك.

وأدرك يوحنا الحبيب ببصيرته الروحية من هو هذا الغريب، فقال لرفيقه بطرس: »هو الرب«. فاتَّزر بطرس بثوبه، وألقى بنفسه في البحر ليأتي إلى المسيح، وتبعه بقية التلاميذ الستة في السفينة ومعهم السمك، فنظروا عند ذلك جمراً وسمكاً موضوعاً عليه وخبزاً. وطلب منهم المسيح أن يقدموا من السمك الذي في الشبكة، ولما أحصوه وجدوا أنه مئة وثلاثٌ وخمسون سمكة كبيرة، فاندهشوا.

كان المسيح يعلَمُ مقدار تعبهم كل الليل، ثم جوعهم، فبحكمته اهتمَّ أولاً بحاجتهم الزمنية، ودعاهم للطعام، وأخذ الخبز وأعطاهم وكذلك السمك. وبعدما أكلوا أعطى المسيحُ لبطرس التفاتاً خاصاً ليعلَمَ هو ورفقاؤه أنه قد قَبِلَ توبته بعد سقوطه العظيم، وأن مركزه الرسولي محفوظ عند سيده. وكان هذا الإلتفات مقروناً بتأنيب معنوي لطيف للجميع، ولا سيما لبطرس، لأنهم تركوا صيد النفوس ليصيدوا السمك.

ثم عاد بهم بالفكر إلى العلية في أورشليم، وقت عشاء الفصح، حين قال الجميع إنهم لا يتركونه، فقال بطرس مفتخراً: »إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت. وإنْ شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشك. ولو اضطُررت أن أموت معك لا أنكرك«. فهل صَدَقَ في افتخاره الحبي؟ وهل فاق رفقاءه في ساعة الامتحان الشديد؟

أتحبني أكثر؟

»فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: »يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلَاءِ؟« قَالَ لَهُ: »نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ«. قَالَ لَهُ: »ارْعَ خِرَافِي«. قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: »يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟« قَالَ لَهُ: »نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ«. قَالَ لَهُ: »ارْعَ غَنَمِي«. قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: »يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟« فَحَزِنَ بُطْرُسُ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: »يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ«. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: »ارْعَ غَنَمِي« (يوحنا 21:15-17).

كطبيب روحي جرح المسيح بطرس ليشفيه، فسأله: »أتحبني أكثر من هؤلاء؟« أي أكثر مما يحبني رفقاؤك التلاميذ، الذين مع أنهم تركوني خوفاً، لكنهم لم ينكروني؟ فأجابه على النصف الأول من سؤاله: »نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك«. لم يقُلْ: »أحبك أكثر من هؤلاء«. يسأل المسيحُ عادةً عن الأساس قبل البناء، وعن الأصل قبل الفرع. لذلك لا نسمعه يسأل بطرس عن أعماله، ولا عن معارفه، ولا عن مقاصده، بل عن أصل كل هذه وأساسها: أي عن حالة القلب. سأله عن شعوره الداخلي. لو سأله عن أعماله لما نال بطرس غير الدينونة والخجل. ولصمَتَ عن الجواب، لأن ظواهره كانت سيئة.. الإنسان الذي ظواهره الحسنة تخالفُ بواطنَه السيئة هو المرائي. أما بطرس فكانت ظواهره الضعيفة تخالف بواطنه الصالحة واستعدادته الطيبة.

ولما كانت حالة القلب تستلزم أعمالاً تناسبها وتبرهنها، لم يكتفِ المسيح بأن يعلِنَ بطرسُ حبَّه له، بل طلب منه العمل أيضاً، فقال له: »ارع خرافي« معِيداً له بهذا الكلام الوظيفة الرسولية التي سقطت عنه بسقوطه، ومُبْدلاً صورة صياد النفوس بصورة راعي النفوس، لأن بطرس أخطأ، ليس فقط في تَرْكه صَيْد النفوس ليصيد السمك، بل أيضاً في تركه رعاية غيره لأجل رعاية ذاته. في هذه الوصية بالخراف، نرى درساً لجميع الرعاة الروحيين، أن يبتدئوا في خدمتهم بالصغار، صغار السن وصغار النفوس، كالفقراء والضعفاء واليائسين.

ثم كرر المسيح سؤاله لبطرس، وقال: »ارع غنمي«. فأخذ ذات الجواب الأول. لقد قال بطرس ثلاث مرات إنه لن ينكر المسيح، ثم كرر إنكاره ثلاث مرات. فالآن يكرر المسيح ثلاث مرات سؤال الإمتحان. جَرَحت المرةُ الثالثة بطرس أكثر، فحزن وأجاب بانفعالٍ ممتزجٍ بالحب: »يا رب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف أني أحبك«. لأن المحب لا يمكن إلا أن يطيع إلهاً يحبُّه، ولا يمكن أن يفعل إلا الخير لقريبه المحبوب، ولا زال المسيح يسألك: »أتحبني؟«. فماذا ستقول له؟.

المسيح يظهر لأكثر من 500

»وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى الْآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا« (1 كورنثوس 15:6).

يقول سفر الأعمال عن المسيح إنه »أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللّهِ« (أعمال 1:3). قضى المسيح في أول خدمته أربعين يوماً في مصارعة إبليس في البرية، والآن يقضي أربعين يوماً يظهر لتلاميذه معلِناً انتصاره الأخير على إبليس. وليسهِّل لهم ولجميع المؤمنين أن يفهموا حضوره معهم روحياً على الدوام.

ومن أهم ظهورات المسيح الظهور الثامن، وهو أيضاً الثاني والأخير في وطنه الجليل، عندما ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخٍ كان أكثرهم لا يزال حياً عندما كتب بولس عنهم في رسالته لأهل كورنثوس. ويقول البشير متى: »ولما رأوه سجدوا له، لكن بعضهم شكُّوا«. وشكُّ هؤلاء معقول بالنظر إلى التغيير الكلي في هيئة المسيح الخارجية البشرية، مما صعَّب التصديق بأنه هو.

واجتماع خمسمئة أخٍ في وقت واحد دليل على نجاحٍ ليس بقليل. والتقاء هؤلاء في أحد جبال الجليل حسب تعيينٍ سابق كان ضرورياً، ليتمكَّن عدد كهذا من مشاهدة المسيح دفعة واحدة. وفي خبر هذا الاجتماع أوضَحُ دليلٍ على حقيقة قيامة المسيح، لأنه يحتوي على كلام قاله لتلاميذه يستحيل اختراعه-لو أن المسيح لم يقم.

لنستمِعْ إلى بعض أقوال المسيح القوية: »دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الْأَرْضُِ« (متى 28:18). فأي منطق يُنسَب إلى شخص صُلِبَ بإهانةٍ فائقة، أمام جماهيرٍ من أنحاء العالم، يفوه بكلام كهذا؟ ثم لنسمع قوله: »فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الْأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ« (متى 28:19). معلومٌ ما هو تعليم اليهود ومشربهم منذ القديم، في أنهم يتشبَّثون بالانفراد عن غيرهم من الأمم، ويحصرون الدِّين وفوائده في جماعتهم، ويحتقرون كل الشعوب الأخرى دينياً.

وهل يُعقَل أن التلاميذ يستنبطون تعليماً مبنيّاً على معرفة طبيعة الإِله الواحد في ثلاثة أقانيم، بينما هذا لم يُذْكَر في تعاليمهم اليهودية؟

لكن أعظم ما قاله المسيح، وأقواه برهنةً للقيامة قوله: »هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الْأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ« (متى 28:20 ، مرقس 16:16). فإذا كان لم يَقُمْ، لا يمكن أن يكون معهم. وإنْ كان معهم حقاً فلا يبقى ريْبٌ في قيامته. فبما أن حضوره معهم لا يكون إلا روحياً، أراد أن يحققه لهم بواسطة علامات ظاهرة للحواس في السنين الأولى بعد اختفائه، أي بواسطة معجزات يعطيهم أن يفعلوها. ومتى دوَّنوا خبرها في تاريخ صادق، يكفي ذلك شهادة للعالم فيما بعد، ولا يعود يلزم تكرارها جيلاً بعد جيل.

لذلك وعدهم أن هذه الآيات تتبع المؤمنين: يُخِرجون الشياطين باسمه، ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون حيَّات. وإنْ شربوا شيئاً مميتاً لا يضرُّهم. ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون (مرقس 16:17 ، 18). لذلك كانت الآيات التي صنعها الرسل فيما بعد باسمه، إثباتاً كافياً لكل ما ورد في هذا الخطاب، لأن هذه الزُّمرة الضعيفة نشرت التعليم المسيحي في أكثر البلدان الراقية، وفي وقت قصير جداً. وانضمَّ ملايين من الأمم إلى الكنيسة الجديدة. فأخبار هذا النجاح الصادقة تبرهن أن القيامة قد حدثت فعلاً، وتبرهن نسبة هذه الأقوال القوية إلى المسيح نفسه.

يرتبط كلام المسيح في هذا الخطاب الوداعيّ لتلاميذه في الجليل بعضه ببعض ارتباطاً فلسفياً متيناً. فلما كان قوله إنه صاحب السلطان في السماء وعلى الأرض يحتاج إلى برهان، أعطاهم الآيات التي يُجريها بواسطة المؤمنين به. وفي الوقت ذاته تفتقر هذه الآيات إلى عاملٍ قادرٍ أن يجريها، وهذا يستدعي حضوره معهم كل الأيام. فهذه القضايا الثلاث تستلزم كلٌّ منها الأخرى، ويُثْبِتُ كلُ واحدةٍ منها الأخرى. ولا يقدر المسيح أن يمكِّن رسله من فعل المعجزات بحضوره معهم، وأن يكون صاحب سلطان كهذا، ما لم يصعد إلى السماء بعد قيامته، ويجلس عن يمين العرش في الأمجاد السماوية.

أمر المسيح تلاميذه أن يبشروا العالم بإنجيله، وهذا أمرٌ عام ودائم لكل فرد من تابعيه. ويتوقف وعده لهم بأنه يكون معهم كل الأيام على إتمام هذه الوصية. لا يوجد عمل بشري أشرف وأسمى وأجزل من هذا العمل التبشيري. لكن النجاح الذي وعد المسيح تلاميذه به في تبشيرهم، يتوقَّف على فعل الأقنوم الثالث في الإِله الواحد، الروح القدس، الذي نعتمد عليه في الأعمال الروحية، ولا سيما بعد صعود الأقنوم المتأنِّس المُقام إلى السماء.

لذلك أوصى المسيح رسله أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب، وقال: »وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الْأَيَّامِ بِكَثِيرٍ«.  »لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الْأَزْمِنَةَ وَالْأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الْآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ« (أعمال 1:5، 7، 8).

المسيح يظهر ليعقوب

»وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ« (1 كورنثوس 15:7).

أما ظهور المسيح التاسع بعد قيامته فكان ليعقوب الرسول وحده. ونلاحظ أن ظهوراته كافة (بعد قيامته) حُصرت في تابعيه المؤمنين. وهذا الحَصْر في محله، لأنه يعلم أن ظهوره لخصومه لا يأتي بهم إلى الإِيمان. قال مرة: »إِنْ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءِ، وَلَا إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ« (لوقا 16:31). فالبرهان الحسي لا يكفي لتوليد الإِيمان بالأمور الروحية. مثال ذلك أن رؤساء اليهود علموا يقيناً بواسطة الحراس الذين استخدموهم بأن المسيح حقاً قام. لكنهم لم يؤمنوا.

المسيح يظهر لشاول الطرسوسي

»وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا. لِأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أَنَا الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لِأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لِأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللّهِ« (1 كورنثوس 15:8، 9).

لا يُستثنى من هذا الحَصْر في ظهورات المسيح ظهوره الأعظم والأهم الذي حدث بعد صعوده، لما ظهر لشاول الطرسوسي، لأنه قاد هذا المضطهِد، حالاً وفجأة إلى الإِيمان به. ولهذا الظهور الأخير فائدة، هي نفي أقوال المعترِضين بأن الذين تصوَّروا هذه الظهورات ورووا أخبارها هم محبُّوه سابقاً، وتصوَّروها بسبب شدة حبّهم له وتمسُّكهم به، وأن شهادتهم شهادة مغرضين له، فهي ليست ثابتة.

ملكوت المسيح الروحي

»أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللّهِ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا »مَوْعِدَ الْآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، لِأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الْأَيَّامِ بِكَثِيرٍ«. أَمَّا هُمُ الْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: »يَا رَبُّ، هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟« فَقَالَ لَهُمْ: »لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الْأَزْمِنَةَ وَالْأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الْآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ« (أعمال 1:3-8).

أطفأ موتُ المسيح آمال التلاميذ السابقة في الملكوت الزمني، لكن قيامته أحيت وجددت هذه الآمال. فلنا في سؤالهم في هذا الوقت برهانٌ آخر لحقيقة قيامته. إذْ سألوه: »يا رب، هل في هذا الوقت تردُّ المُلْك لإِسرائيل؟« فكان جوابه لهم بيان خطئهم في السؤال، مع بيان الآمال التي يجوز لهم إحياؤها، وهي الآمال بالقوة الروحية التي تكفل لهم النجاح في عملهم الجديد كشهود للمسيح المخلص. علَّمهم أن يبتدئوا بالقريب في تبشيرهم، ولكن لا يقفوا عند هذا الحد، بل يمتدوا فيه إلى أقصى الأرض.

أشعةٌ نور من صباح القيامة:

ليس عبثاً أن يسمّي المسيحيون صباح القيامة »صباح النور«. لأن أعظم نورٍ رآه العالم، أبرق عندما قام من قبره، ذاك الذي قال: »أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ« (يوحنا 8:12). والحق أن قبر المسيح المفتوح منبعٌ عظيم للنور الروحاني.

 

فالشعاع الأول من هذا النور يُثبِّت مجيءَ المسيح من السماء، وكمالَ عمله الخلاصي، وتحقيقَ صلاحيته كابن للّه وابن للإنسان لأن يكون المخلص الكافي والوحيد لبني البشر.

 

والشعاع الثاني إنارةُ القبر المظلم سابقاً، حتى يزول رعبُه من قلوب المؤمنين. نزل المسيح إلى القبر أمامنا، فلا نخاف نحن عند نزولنا وراءه. قال مرة: »لَيْسَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ« (متى 10:24). فلا نخاف مما ذاقه سيدنا قبلنا. لذلك نادى بولس: »أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ قد »ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ« (1كورنثوس 15:55 و54). فقد اشترك المسيح مع البشر »فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ... لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ« (عبرانيين 2:14 ، 15).

 

والشعاع الثالث من نور القيامة هو تحقيق قيامة المؤمنين بالمجد، لأن قيامة المسيح مثالٌ وعربون لذلك. وبهذا المعنى يُسمَّى المسيح »بِكْرٌ مِنَ الْأَمْوَاتِ« (كولوسي 1:18). لأنه أول من مات وقام لكي لا يعود إلى الموت.

 

والشعاع الرابع من نور القيامة هو أن قيامة المسيح مقدمة لصعوده في جسده الممجد ليجلس إلى الأبد كابن الإنسان وابن اللّه عن يمين العرش الإلهي في السماء، يمارس عمله الشفاعي، ويُنير بمجده البهيّ الديار السماوية. فلا عجب إذا كتب الرسول بولس إلى الكنيسة في فيلبي أنه يحسب كل شيء خسارة ونفاية لكي يعرف قوة قيامة يسوع المسيح (فيلبي 3:8).

 

والشعاع الخامس هو تعزية الحزانى الذين يموت أعزاؤهم ممن لهم الحق بالطوبى القائلة: »طُوبَى لِلْأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الْآنَ - نَعَمْ يَقُولُ الرُّوحُ، لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ« (رؤيا 14:13). لأن هؤلاء الحزانى لهم أيضاً الطوبى الأخرى »طُوبَى لِلْحَزَانَى، لِأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ« (متى 5:4).

كان المسيحيون في زمان الرسل والآباء يلبسون الأبيض عند موت ذويهم، إشارة إلى مجد قيامتهم العتيدة، ويحسبون يوم موت المؤمن يوم ميلاده، ومن جملة أعمال المسيح المجيدة وعده للمؤمنين أن يمسح كل دمعة من عيونهم، فيقول كل مؤمن مع بولس: »لِأَنَّ لِيَ الْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ« (فيلبي 1:21) لأن المؤمن سيقوم بناء على قيامة المسيح.