المسيح يصعد للسماء

»وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلَانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالَا: »أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ«. حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الّزَيْتُونِ، الَّذِي هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ« (أعمال 1:9-12).

بعد أن أُكمل العمل الذي كان يستدعي وجود المسيح جسدياً وظاهراً بين الناس، هيأ المسيح تلاميذه للفراق الجسدي النهائي. فبعد عودتهم إلى أورشليم طاعةً لأمره، ظهر لهم وأخرجهم إلى بيت عنيا إلى مكان في جبل الزيتون، وهناك رفع يديه وباركهم، ثم انفرد عنهم وارتفع وصعد إلى السماء وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم. وبينما هو منطلق وقف أمامهم ملاكان بهيئة رجلين بلباس أبيض وقالا لهم: »أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء«. حينئذ سجدوا له بعد أن زاد يقينهم بوحدته مع اللّه.

ثم رجع التلاميذ من الجليل إلى المدينة بفرح عظيم. وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون اللّه. رجعا بفرح عظيم على رغم خسارتهم الجسيمة في فقدهم حضور المسيح جسدياً معهم. وفرحوا لأن عمل سيدهم الخطير قد كمل. وفرحوا لأنه سلَّمهم عملاً يتبع عمله ويؤيده، وأرسلهم كما أرسله الآب. وفرحوا لتأكيده لهم أنه يكون معهم كل الأيام، وفرحوا لأنه وعدهم بقوة كافية ليكونوا شهوده إلى أقصى الأرض.

وكان من أعظم الأسباب الموجبة للفرح حينئذ، بشارة الملاكين برجوع سيدهم ثانية إلى العالم. كان المسيح قد قال هذا كثيراً، لكن الأرجح أن تأثير هذا الكلام في التلاميذ كان ضعيفاً، فكان قول الملاكين ضرورياً ومناسباً في ساعة افتراقه عنهم. وموضوع مجيء المسيح ثانية بالمجد من أهم المواضيع لكنيسة المسيح الآن. هذا رجاء الكنيسة العظيم، ولو أننا لا نعرف موعده. ولا يجوز الجَزْم بتفاصيل مجيئه متى جاء، لأن الكلام الحرفي لا يُفصَل عن الكلام المجازي في النبوَّات المختصة بمجيئه. ومع ذلك فإن صلاة المؤمنين الأمناء المنتبهين إلى وصايا سيدهم هي التي وردت في آية خاتمة الإِنجيل: »يَقُولُ الشَّاهِدُ بِهذَا: »نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً«. آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ« (رؤيا 22:20).

التلاميذ يكرزون

»ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللّهِ. وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلَامَ بِالْآيَاتِ التَّابِعَةِ« (مرقس 16:19 ، 20).

بعد صعود المسيح خرج التلاميذ ليكرزوا في كل مكان، والرب يعمل معهم ويثبّت الكلام بالآيات التابعة، لأن سيدهم بسط فوقهم من عرشه السماوي بساط حمايته، ولم يسمح لأعدائه أن يفعلوا بهم في تلك الأيام كما فعلوا به. ومع أننا لا نعلم ماذا حفظوا وماذا نبذوا من اصطلاحات العبادة اليهودية في تردُّدهم إلى الهيكل، إلا أنهم قدّموا أهمَّ التقدمات والذبائح المُرضِية للّه، أي تقدمات الروح المنكسرة، وذبائح الحمد والشكر (مزمور 51:17 ، عبرانيين 13:15).

ولئلا نظن أن هذه الأخبار هي كل ما يهمّ في تاريخ المسيح. قيل في خاتمة البشارة الرابعة: »وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ« (يوحنا 21:25). هذه نهاية أخبار هذا الشخص الفريد الإلهي، مدة وجوده ظاهراً على الأرض.

كان لقبه المعروف بين الناس »المعلِّم« في سنيه الثلاث ونصف وهو يمارس وظيفته، كان عمله الأكثر والأعظم ليس المعجزات بل التعليم.

علّم المسيح أن الإله الواحد الذي هو روح، هو أب البشر جميعاً، وأنه يحبهم بالرغم من شرورهم. وأن الأصل في الدين ليس ما يعمله الإِنسان طاعة وإرضاءً للّه، بل ما يعمله الإِله للإنسان وما يهبُه له حباً. علّم أن الأعمال البشرية مهما حسُنت ولا تمنح من يقوم بها خلاص النفس، لأن الخلاص يُعطَى فقط بالإِيمان، بالذبيحة التي قدَّمها المسيح لما قدم نفسه، وأن قيمة الدنيا وكل ما فيها زهيد جداً بالنسبة إلى الصلاح الحقيقي والرضى الإِلهي، وأن الدين لا يقوم بالطقوس والفرائض الخارجية، لأن هذه مهما كانت حسنة وضرورية ليست سوى الثوب الخارجي اللائق للدين، لأن جوهر الدين داخلي وروحي، ومركزه الحقيقي في القلوب لا في الأبدان حتى ولا في العقول. وأن الرياء والنفاق في الدين، أي التظاهر بما ليس في القلب هو أكره جميع أنواع الشر لدى اللّه. وأن الخطاة أقربُ إلى ملكوت السماوات من رؤساء الدين إن كانوا مرائين، وأن خدمة الإنسان لغيره أساس عظمته الحقيقية، وأن الإكرام ليس للمتكبر بل للمتواضع، وأن الأصل في كتاب الوحي هو روح كلامه لا حرفه، وأن لا يجوز إضافة التقاليد البشرية إلى التعاليم الإِلهية كقانون يربط الضمير.

المسيح حي هنا والآن:

إنجيل يسوع المسيح هو لكل العالم وإلى كل الأيام حتى انقضاء الدهر. ليس هو مجرد خبر عن أمور ماضية وشخص غائب، كغيره من أخبار العظماء، بل هو إعلانٌ بمخلِّص حاضر وبأمور حالية تهمُّ كل إنسان. ففوق ضجيج أعظم أنواء الحياة، يسمع المؤمن صوت هذا العظيم قائلاً: »لا تخف. أنا هو الأول والآخر، الكائن والذي كان والذي يأتي، وها أنا حي إلى أبد الآبدين. ثق يا بنيَّ، أنا قد غلبتُ العالم. بحسب إيمانك ليكن لك«. ويشعر بلمْسِ يديه القادرتين، ويعلم أن لمسهما يمنحه الشفاء والحياة، لأنه بمعرفته يجد الحياة الأبدية. والذي يدرس سيرة يسوع المسيح يجد أن كثيراً من القياسات البشرية لا تصِحُّ فيه، فيشعر بأن هذا الخروج عن تلك القياسات نتيجة لازمة عن طبيعته الأخرى الإِلهية الحقيقية.

ينال المؤمن من رفيقه »عمانوئيل« العزاء في زمان الوحشة، والفرج في زمان الضيق، والتشجيع في ساعة الخوف، والتحذير في ساعة التجربة، والتوبيخ في ساعة السقوط، والتنشيط في ساعة العمل، والهُدى والتدريب في ساعة الحيرة والشك والقصور، والمغفرة في ساعة التوبة، والمديح في ساعة الانتصار.

بعد أن سمعنا تهليل الملائكة حول مهده، ورأينا شهادة نجم المجوس لعظمته، وفَتْح السماوات ليحلَّ الروح القدس عليه عند نهر الأردن، ومجيءَ الصوت من السماء الذي أعلن مقامه عند اللّه، وخدمةَ موسى وإيليا له من السماء، وصوتَ الآب ثانية لابنه الحبيب على جبل التجلي، يقول: »هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، له اسمعوا«. والصوتَ الثالث الإلهي في دار الهيكل في أسبوع الآلام يقول »مجدت وسأمجد أيضاً«. وخدمة الملائكة له في بستان جثسيماني، وإظلام الشمس وزلزلة الأرض وشقَّ الصخور وفتحَ القبور في الجلجثة، والزلزلة الثانية التي أفزعت الحُرَّاس. والملاكَ الذي دحرج الحجر عن باب القبر، وظهوراتِ الملائكة المتكررة حول القبر، وظهوراتِه العشرة لتلاميذه بعد قيامته، ثم سهولة صنعه معجزاته طول أيامه ووفرة عددها وبهجة أسلوبها، وكمالاته الأخلاقية والروحية، ثم صعوده الممجَّد إلى السماء في مركبته السحابية، وجلوسه عن يمين اللّه.. بعد مشاهدتنا هذه كلها نفهم فاتحة يوحنا البشير لما كتب: »فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللّهَ.. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً« (يوحنا 1:1 ، 14).

في تعاليم المسيح وتأثيرها الفائق الوصف، وفي حبه الصبور المتفاني، ولطفه الحنون المتسامح، كما في غضبه الحاد الصالح، وتوبيخه المرّ الصادق، وفي احتماله العجيب المتناهي لمحبيه ومبغضيه، ثم في انتصاره التام على كل المكائد العدوانية، وكل ذلك لخلاص البشر، نرى الأساس الكافي لخاتمة البشارة ذاتها لما كتب يوحنا: »وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ« (يوحنا 20:31).