الصحابة
أبو بكر لم يكن مع النبي في الغار
تاريخ
الزيف.. وزيف التاريخ)! حقائق حُرِّفت لتصبحِ غرائب، وأكاذيب زُيُنت لتكون ثوابت، وأحاديث
محيِت وحُرقت، ونصوص غُيِّبت ودُفنِت، وعقائد استُبدلت، وأحكام ابتُدعت!
ذلك ما جرى طوال ألف وأربعمائة
عام،على يد
أجهزة التحريف والتوزير التابعة للسلاطين والحكام! فكل ما يمكن أن يساعد على
تثبيت المُلك؛ لم تتردد تلك
الأجهزة في نسجه وصنعه وتدوينه، وكل ما يمكن أن يهدد استقرار النظام؛ لم تتردد تلك الأجهزة في
محوه وإلغائه وتحريفه!
فليفرح
المخلصون بشتى أصنافهم في وصولنا جميعاً إلى قصة الغار الحقيقية دون زيادة ولا نقصان.
لنطوي
سوية 1422هـ سنة من الكذب والاختلاق الذي لف تلك القضية وأخرجها عن صحتها وسيرتها
الأصلية.
فقد
مضت 1420 سنة هجرية والمسلمون يقرؤون ما لفقه لهم الحكام وما كتبه لهم وعاظ
السلاطين وأعوانهم.
فاعتادت
الأجيال الإسلامية على قراءة
الأكاذيب المكتوبة عن الغار والهجرة فأصبح الخطأ فادحاً والأمر مريباً.
ولقد
نجح الحكام المستبدون في فرض الظلام على الشعوب .
وفي عالم الفكر أفلحوا في فرض تعتيم ثقافي على المسلمين في أغلب الحقبات التاريخية
التي مرت على الشعوب. فكتبوا التاريخ كتابة ذاتية في مصلحتهم بعيداً عن الواقع
والحقيقة. وهذا البحث يفنّد قضية حضور أبي بكر في الغار بشكل علمي
استناداً لرواية صحيحة ومتواترة وشواهد وقرائن كثيرة. ولأن حبل الكذب قصير فقد تبين
أن هذه الأكذوبة وضعت لمعارضة حادثة الغدير الواقعة في 18 ذي الحجة. فقد جعل رجال
السياسة حادثة الغار في 26 ذي الحجة! في حين كانت
واقعة
الغار في شهر صفر! ويتعب المرء من كثرة أكاذيب ق وأذنابها وقدرتهم الفنية العالية في هذا
المجال. ويكفي أن تعلم أن دهاء قريش لا يلحقه دهاء في ذلك الوقت.
لهذا يجب أن لا نستغرب إذا اكتشفنا الآن أن كل قضية هجرة
وحضور أبي بكر في الغار ليس لها أساس من الصحة، وأنها قضية مختلقة ملفقة،
بل أكذوبة، ذلك لأنها تصطدم بالحقائق الموضوعية والروايات التاريخية، ونحن سنناقشها
ونعرضها نقدياً كي تتضح الصورة للجميع.
إن ما هو منتشر بشكل خاطئ بين المسلمين في شأن هذا
الموضوع، أن
النبي خرج من بيته ليلة الهجرة وقد أنام
علياً في مكانه، وقد كان خروجه إعجازياً
لأن مشركي قريش الذين كانوا يحوطون داره لم يروه بعدما قرأ الآيات: (وجعلنا من بين
أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون...) فعموا عن مشاهدته. ثم
توجه إلى بيت أبي بكر
بن أبي قحافة، وهناك انتظر إلى
الصباح ثم خرج هو وأبو بكر للهجرة بصحبه أحد أدلاء الطرق ويدعى عبد الله بن أريقط بن بكر، وبدلاً
من أن يسلك ابن بكر بهما طريق الشمال حيث يثرب (المدينة المنورة) فإنه سلك بهما
طريق الجنوب، أي جنوب مكة، تمويهاً للكفار الذين كانوا يريدون القضاء على خاتم الأنبياء
ورسالته السماوية.
إلا أن الكفار فطنوا إلى ذلك من خلال دليل آخر هو كرز بن علقمة الخزاعي،
الذي تتبع آثار أقدام النبي
وقارنها بقدم جده إبراهيم، فوصلوا أخيراً إلى جبل (ثور) حيث كان النبي وأبو بكر في غاره مختبئين، وعندما وصلوا هناك بدأ أبو
بكر يرتجب وكان حزيناً وخائفاً، فنهاه النبي عن ذلك بقوله له: (لا تحزن إن الله
معنا). وقد جاءت في تلك اللحظات حمامة وباضت بيضة أمام الغار، ثم جاء عنكبوت
من العناكب فنسج خيوطه على الغار أيضاً، الأمر الذي جعل كفار قريش ينصرفون لاعتقادهم أنه مادامت الخيوط العنكبوتية موجودة
وكذلك البيضة فإن أحداً لم يدخل في هذا الغار. وكذبوا بذلك دليلهم كرز بن علقمة
رغم تأكيده مراراً على أن النبي موجود في
هذا الغار. وبقي النبي مع أبي بكر في هذا الغار ثلاثة أيام انتظاراً لهدوء حملات
الملاحقة ضده، وطوال تلك الفترة كانت
أسماء بنت أبي بكر هي التي تأتي بالطعام من
مكة إلى الغار لتقديمه إلى رسول الله وإلى أبيها. بعد
ذلك تحرك النبي نحو المدينة بصحبة دليله
عبد الله بن أريقط بن بكر، ووصل إليها واستقبله المسلمون مبتهجين فرحين.
هذه
هي محصلة ما يتناقله المسلمون في شأن قضية غار جبل ثور، وهي محطة لعبت فيها السياسة
بألاعيبها، ونحن هنا سنبرهن إن على بطلان كثير من تفاصيل هذه الرواية بناء على مصادر أهل
السنة، كقضية كون أبي بكر مع النبي في الهجرة وفي الغار، وكقضية أن أسماء بنت أبي بكر
هي التي كانت تغذي الرسول وتهيئ له الطعام وتوصله إليه، وكقضية أن الحمامة قد باضت
والعنكبوت قد نسج خيوطه وما شاكل ذلك من أمور عارية عن الصحة.
1) أول ما يجب أن نعلمه
أن النبي قد
اعتمد أسلوب السرية التامة في أمر هجرته تلك الليلة، خاصة بعدما أمر بهجرة جميع
المسلمين إلى المدينة. وكان لابد من
اعتماد أسلوب السرية لأن كفار قريش كانوا يحيكون .
المؤامرات
للحيلولة دون وصول النبي إلى يثرب، لذا فإن أحداً لم يكن عالماً بخروج النبي في
تلك الليلة سوى أهل بيته المقربين، علي وفاطمة، وأم هانئ بنت أبي طالب.
ومصادر
أهل السنة متفقة على أن أبا بكر لم يكن عالماً بخروج النبي في تلك
الليلة، بل فوجئ بمسألة الهجرة
صباحاً فطلب منه أن صحبه، فقبل النبي. تفسير القرطبي: ج 3 ص 21، تاريخ الطبري: ج 2
ص 102، البحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 118.
إن
هذه السرية تتناقض مع الرواية المنقولة، والتي تقول بأن النبي قد خرج من بيت أبي بكر نهاراً
وأمام مرأى من المسلمين كلهم! . تاريخ الطبري: ج 2 ص 100.
فكيف
يحرص النبي على إنجاح مشروع الهجرة وهو يعرض نفسه للقتل هكذا أمام الكفار، ويمشي أمامهم في
النهار في طريقه إلى خارج مكة؟! وكيف يمكن ذلك وقد كان الكفار يطلبونه ويلاحقونه في أي
مكان وقد كانوا ليلتها قد أحاطوا بداره متقلدين سيوفهم عزماً على قتله! إن هذا
يعني الانتحار! وهذا يضع علامة استفهام كبيرة على مسألة توجه النبي إلى بيت أبي بكر
وانطلاقه من هناك صباحاً. لقد كان من حرص النبي على إنجاح الهجرة والتستر عن أعين
المجرمين،أن طلب من المسلمين القليلين المتبقين في مكة عدم الهجرة في تلك الليلة
التي سيهاجر فيها، مخفياً عنهم سبب طلبه. وكان من حرصه أن اختار وقت الهجرة ليلاً وفي نهاية شهر
صفر لئلا يكون في السماء ضوء
القمر فينكشف في الطرقات.
فبالنظر
إلى هذه الحيطة
والسرية الكاملتين؛ هل من المعقول أن يخرج النبي صباحاً وأمام أعين المشركين؟! بالطبع لا..
لذا فما دامت الرواية تقول أنه قد خرج صباحاً من بيت أبي بكر فإنها تسقط تلقائياً.
2) إن الرواية تتقاطع
مع روايات أخرى، قد تبدو مضحكة بعض الشيء، حيث يُذكر أن النبي خرج من بيته متوجهاً
مباشرة إلى غار ثور، وفي تلك الأثناء ذهب أبو بكر إلى بيته فلم= يجده، فسأل
علياً فأخبره بأن النبي في طريقه إلى خارج
مكة، فانطلق أبو بكر ليلحق بالنبي وقد كان يحمل جرساً معه، فعندما أدركه ظن النبي
أن أبا بكر
من المشركين فأسرع في المشي حتى يبتعد عنه، ولكن الله جعل شسع نعله ينقطع
فانطلق إبهام النبي بالحجر
وسالت منه الدماء، الأمر الذي أدى إلى توقف النبي عن المسير اضطراراً، وعندئذ وصل أبو
بكر إليه فاجتمع معاً وسارا خارج مكة! . تاريخ الطبري: ج2 ص 102.
إن
هذه الرواية توضح جانباً من الكذب والبهتان، فكيف يمكن أن يدخل أبو بكر بيت النبي
والحال أن البيت محاصر من قبل المشركين في تلك الليلة العصيبة ولم يكن يسمح لأي
أحد بالخروج أو الدخول؟! وكيف له أن يسأل علياً وهذا معناه كشف الخطة النبوية لأنه
سيتبين لدى المشركين أن هذا النائم ليس محمدا بل علي؟!
ثم
كيف استطاع أبو بكر أن يعرف الزقاق الذي مر فيه النبي ؟! وكيف تمكن من تشخيص ورؤية
النبي في ذلك الليل الدامس؟!
أما قضية فلق الإبهام وانقطاع شسع النعل فربما
نحن لسنا بحاجة إلى الرد عليها!
فليس مجرد دم يسير خارج من إبهام النبي بجاعل إياه يتوقف عن إكمال مسيرته تجاه
المدينة وتهديد مشروع الإسلام كله للخطر كون أحد المشركين يتعقبه.. لقد أُدمي
النبي من رأسه إلى أخمص قدميه في رحلته لدعوة أهل الطائف إلى الإسلام عندما
رموه بالأحجار، ولكنه لم يتوقف عن أداء مهمته تلك، فكيف
يتخلى عن أداء أعظم المهمات بهذه السهولة؟!
إن
هذه من الأراجيف الواضحة التي تحاول أن تصور أن لأبي بكر منزلة كبيرة
عند السماء حتى يجبر الله نبيه
على التوقف بإيذائه وإسالة الدم منه!
إن
هذا التناقض يثير
علامة استفهام أخرى، فهل ذهب النبي إلى بيت أبي بكر ومن هناك اصطحبه
معه، أم توجه مباشرة إلى خارج
مكة وفي الطريق أدركه أبو بكر؟! أيهما نأخذ؟! إذا تعارضتا تساقطتا.
3) هناك شيء غريب في الرواية
المزعومة، إذ
تذكر أن أسماء بنت أبي بكر كانت موجودة في بيت أبيها عندما وصل النبي إليه، وأنه استراح
فيه قليلاً ثم أخذ أبا بكر معه، ومن بعد ذلك كانت أسماء تأخذ إليهما الطعام في الغار...
الغرابة
هي في: كيف يمكن أن تكون أسماء في مكانين يبعد كل منهما عن الآخر آلاف آلاف
الأميال في الوقت نفسه؟!
إن
التاريخ يقول أن أسماء بنت أبي بكر كانت في تلك الفترة مع زوجها الزبير
بن العوام في الحبشة!!. راجع:
الثقات لابن حبان: ج 3 ص 23.
إن
هذا يدلل على أن (صناعة حكومية)
وراء قصة صحبة أبي بكر للنبي في تلك الهجرة .
هناك
سؤال منطقي آخر هو: كيف يتوجه النبي إلى بيت أبي بكر الذي
كان
يحوي المشركين؟! ألا يفترض به أن لا يتوجه إلى ذلك البيت بالذات حتى لا
يكشفه أحد من هؤلاء المشركين؟!
إن بيت أبي بكر كان يضم كلاً
من: ابنيه عبد العزى وعبد الله، وابنته عائشة، وأمهم أم رومان (نملة
بنت عبد العزى) بالإضافة إلى أبيه أبي قحافة. وتنص الروايات على أن عبد العزى بن أبي بكر
كان: (كافراً عنيداً محارباً للإسلام)! . راجع : تاريخ ابن عساكر: ج
13 ص 280.
وكذلك
تنص على أن أم رومان كانت كافرة، وقد طلقها أبو بكر بعد هجرته إلى
المدينة عند نزول آية: ولا تمسكوا بعصم الكوافر..! وكذلك تنص على أن أبا قحافة -
والد أبي بكر - كان كافراً أيضاً! . شرح النهج: ج 13 ص 268.
فهل
يعقل أن يتوجه النبي إلى هذا البيت في هذه الليلة الخطيرة التي خططت فيها قريش
لقتله ووأد حركة الهجرة؟! هل يعقل أن يلجأ النبي إلى الذين يحاربونه ويرصدونه؟! هل يعقل
أن يتكلم في ذلك البيت عن الهجرة ويأخذ أبا بكر معه ولا يفترض أن أهله المشركين الموجودين
في ذلك البيت سوف يكشفون الموضوع لرؤوس الكفر في قريش؟! إن هذا يدلل على أن النبي لا يمكن أن يكون
قد ذهب إلى بيت أبي بكر
إطلاقاً. خاصة وأن عبد العزى بن أبي بكر
كان من جملة الذين جندتهم قريش لملاحقة النبي .
4) لقد أجمعت الروايات
على أن النبي قد توجه من بيته
إلى الغار وحيداً فريداً، وهذا أصل وجوهر الحادثة.راجع: مسند أحمد: ج 1 ص 331،
المستدرك:
ج 3 ص 133، فتح الباري: ج 7 ص 8، سنن النسائي: ج 5 ص 113، شواهد التنزيل: ج 1 ص 135.
والروايات
الملفقة تقول
بأن أبا بكر صحب النبي في طريقه إلى
الغار، ولكن ذلك يتناقض بشكل صارخ مع حقائق تاريخية ثابتة.
فعندما أخذ المشركون معهم
دليلهم كرز
بن علقمة الخزاعي لتتبع مسير رسول الله والقبض عليه، رأى كرز آثار قدمي النبي فقال: (هذه قدم محمد
المشابهة للقدم التي في المقام) ويقصد بها قدم إبراهيم الخليل في مقامه قرب الكعبة.
الإصابة: ج 5 ص 436، فتوح البلدان للبلاذري: ج 1 ص 64
ومادام
كرز لم يذكر مشاهدته لآثار قدمي أبي بكر، فإن الإشكال على صحبته للنبي في هجرته يتعاظم ويكبر.
والمثير أن عبد العزى بن أبي
بكر كان من
بين مجموعة المشركين الذين كانوا يلاحقون النبي. طالع ترجمة عبد الرحمن عبد العزى بن أبي بكر في
تاريخ ابن عساكر وأسد الغابة.
وذلك
يعني أن عبد العزى الذي هو ابن أبي بكر نفسه، لم يتعرف على قدم أبيه،كما لم يتعرف
عليها الدليل كرز الخزاعي. وهذا مما يزيد من الإشكال ويدلل على أن أبا
بكر لم يصحب النبي أصلاً في تلك
الرحلة.
5) إن الرسول لم يؤثر عنه أي قول
أو نص يثبت فيه وجود أبي بكر معه في الغار، ولو كان كذلك لحصل أبو بكر على منقبة عظيمة يستحق بها
المديح والإطراء النبوي بينما لم نلحظ ذلك.
ولو
كان أبو بكر حاضراً مع رسول الله في الغار، وقد نزلت فيه تلك الآية، لما عرض به النبي . يضاف
إلى ذلك أن
معظم الروايات المنقولة عن صحبة أبي بكر للنبي في الغار، منقولة على لسان عائشة
وأبي هريرة وأنس بن مالك وعبد
الله بن عمر، وهؤلاء مشكوك في روايتهم لأنهم من المحسوبين على أبي بكر نفسه.
في المقابل لم نجد أحداً من معارضي
أبي بكر، كسعد
بن عبادة والزبير بن العوام والحباب بن المنذر ومالك بن نويرة وغيرهم من
الصحابة، يقر بحضوره الغار، إذ
لو كانوا يقرون بذلك لما عارضوا حكمه وتمردوا عليه ورفضوا مبايعته بدعوى أنه (أبو فصيل) أي الذي
لا فضائل له أو لقومه.
6)
جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الأموي عن ابن جرير الطبري ما يؤيد هجرة
رسول الله إلى غار ثور وحده،
فخاف ابن كثير من هذه الرواية الصحيحة الدالة على بطلان صحبة أبي بكر فارتجف قائلاً:
وهذا غريب جداً وخلاف المشهور من أنهما خرجا معاً!. البداية والنهاية: ج3 ص
219، السيرة النبوية لابن كثير أيضاً: ج 2 ص 23.
7) أجمعت الروايات على أن النبي
خرج وحيداً إلى الغار، وهناك سأل الله تعالى أن يبعث إليه من يدله على
الطريق، فكان أن التقى النبي
بالدليل عبد الله بن أريقط بن بكر حيث تذكر الروايات أن النبي قال له: (يا ابن أريقط.. أأتمنك على
دمي؟ فقال ابن بكر: إذا والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك. فأين تريد يا محمد؟ فقال : يثرب.
قال ابن بكر:
لأسلكن بك مسلكاً لا يهتدي فيها أحد). المستدرك: ج 3 ص 133، فتح الباري: ج 7
ص 8، سنن النسائي: ج 5 ص 113،
شواهد التنزيل: ج 1 ص 135.
فما
دام هذا هو الثابت، أي أن النبي خرج مع ابن بكر - وليس أبا بكر - من
الغار متوجهاً إلى يثرب ، ومادامت جميع الروايات تذكر أن أهل المدينة وكذلك الذين
يسكنون ما
بين المدينة ومكة، لم يشاهدوا سوى
شخصين
اثنين فقط . الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1 ص 230 ،سيرة ابن هاشم: ج 2 ص 100، عيون الأثر:
ج 1 ص 248.
فإن
ذلك يعني أن
أبا بكر لم يكن مع النبي في هجرته، لأن ذلك يتطلب أن يرى الناس ثلاثة أشخاص وليس شخصين فقط.
وكما
ذكرنا فإن الثابت هو خروج النبي مع دليله ابن بكر، لأنه بدونه لا يستطيع الاهتداء في طريقه
إلى يثرب، فهو الخبير بالطرقات والمسالك.
8)
الروايات
المختلقة التي تقول أن أبا بكر قد خرج مع النبي إلى الغار، تذكر أيضاً أن أسماء بنت
أبي بكر تزودهما بالطعام طوال فترة مكوثهما في الغار والبالغة ثلاثة
أيام.
إن
هذا أمر يتناقض
مع العقل والمنطق، لأنه لو كان أبو بكر مهاجراً مع النبي فعلاً لكان من أيسر
اليسير على مشركي قريش أن
يتعقبوا ابنته التي تخرج كل يوم، ويتتبعوا خطواتها حتى يتوصلوا إلى مكان النبي. خاصة وأن عبد العزى
بن أبي بكر وهو أخ أسماء ويسكن معها في البيت نفسه، كان من الذين
يلاحقون النبي، فكان سهلاً عليه ملاحظة أخته وهي خارجة كل يوم حاملة معها الطعام
والزاد.
على
أننا أثبتنا سابقاً أن أسماء لم تكن في مكة أصلاً، إذ كانت مع زوجها
الزبير في الحبشة، ضمن مجموعة
المسلمين الذين لجؤوا إلى هناك.
وهذا
التخبط والتضارب
يسقط أكذوبة وجود أبي بكر مع النبي في الغار، وينفي هجرته معه، بل يؤكد أنه قد هاجر مع بقية
المسلمين في المجموعة الأولى المتوجهة إلى المدينة. خاصة إذا ما أدركنا أن أبا بكر كان
ملازماً دائماً لعمر بن الخطاب في حله وترحاله، وقد ثبت في السير أن ابن الخطاب قد
هاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي إليها.
9) جاء في أصح كتب أهل العامة ما
يثبت حقيقة أنه لم تنزل آية واحدة في القرآن تمدح أبا بكر أو أهله، فقد
ورد عن عائشة في صحيح البخاري قولها: (لم ينزل فينا قرآن)! صحيح البخاري: ج 6
ص 42، تاريخ ابن الأثير: ج 3 ص 199، الأغاني: ج 16 ص 90، البداية والنهاية ج 8 ص 96
وغيرها كثير.
وهنا
فلنركز قليلاً: لقد ذكرت عائشة هذا أمام جميع الصحابة والمسلمين
الأوائل، وقالت: لم ينزل فينا
قرآن. ولو كانت آية: (ثاني اثنين..) نازلة في أبي بكر لما قالت هذا الكلام لأنها تنتقص بذلك أباها وتجرده
من مزية واضحة في القرآن. أو على الأقل لرد عليها الصحابة الذين يفترض أنهم متيقنون
من حضور أبي بكر في الغار، ولذكروها بالآية وبقضية هجرته مع النبي.
لكن شيئاً من
هذا لم يحدث، وهو ما يثبت زيف
أحاديث حضور أبي بكر في الغار، حتى تلك المسندة إلى عائشة منها. وهذا يوضح أن مسألة حضوره في
الغار هي مسألة طارئة ولم تكن معروفة في صدر الإسلام. خاصة أننا إذا تتبعنا التاريخ فإننا لن نجد إشارات واضحة على
لسان أبي بكر حول حضوره في
الغار، وهجرته مع النبي. مما يدعم كون القضية من
اختلاقات السلطة لإثبات مزية لأبي بكر.
10) كان يحيى بن معين من المشككين برواية حضور أبي بكر في
الغار الواردة عن طريق أنس بن مالك. فكانت الشكوك تحوم حول ذلك الحديث بصور متعددة. سير
أعلام النبلاء للذهبي: ج 10 ص 362 تهذيب الكمال للمزي: ص 29.
وقد
ذكر حديث الغار العباس بن الفضل الأزرق عن ثابت عن أنس، فقال فيه يحيى بن معين: (كذاب
خبيث)!. تاريخ بغداد: ج 12 ص 13.
وإذا
نظرنا إلى رواة حديث الغار، نجدهم بين كذاب ومدلس وضعيف، فقد كان
سليمان بن حرب يضعف حديث الغار
الذي ذكره خالد بن خداش عن حماد بن زيد عن أيوب بن نافع عن ابن عمر. سؤالات الآجري لأبي داود
سليمان بن الأشعث: ج 1 ص 399.
ولقد
ازدادت الطعون في رواة الحديث المكذوب في حضور أبي بكر في الغار.
طالع تاريخ بغداد: ج 8 ص 302،
تهذيب الكمال للمزي: ج 1 ص 314، تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 1 ص 27، تاريخ دمشق: ج 5 ص 235، سير
أعلام النبلاء: ج 12 ص 232، ميزان الاعتدال للذهبي: ج 1 ص 73 وغيرها).
11) إن الذي كان حاضراً مع النبي
في الغار، ليس سوى دليله ابن بكر، الذي التقى به النبي في اليوم الأول من هجرته
ومكوثه في الغار، فطلب منه مساعدته، واستجاب الرجل للأمر النبوي. وقد ذكرت مصادر العامة أن ابن بكر كان مشركاً
في ذلك الوقت!
وهنا نضع علامة استفهام كبيرة، إذ لو كان ابن بكر مشركاً حقاً فما الداعي
لأن يساعد رسول الله؟! إن هذا يكشف جزءاً من الحكمة النبوية، فلقد كان ابن بكر يمارس
التقية، وكان يخفي إسلامه حتى يقوم بهذه
المهمة العظيمة
في حفظ النبي وإيصاله سالماً إلى المدينة.
لقد كان ابن بكر معروفاً في أوساط كفار قريش بالكفر، وكان يتظاهر بعبادة
الأوثان، حتى لا يشكوا فيه، خاصة أنه كان من أشهر الأدلاء على الطرق.إنه لم يرد في
التاريخ أن النبي منح مكافأة لابن بكر، أو أنه كانت لديه مصلحة معينة معه، حتى
نقول مثلاً أنه قد ساعد النبي
في الهجرة لغرض دنيوي. فلابد لنا والحال هذه أن نقول بأن ابن بكر كان رجلاً مسلماً صالحاً قام
بدوره بدافع من عقيدته.
12) الظاهر أن الماكرين قد قاموا
بتصحيف وتزوير
كبيرين، ليوافق اسم (أبي بكر) اسم (ابن بكر). فقد غيروا اسم أبي بكر الحقيقي (عتيق) وجعلوه (عبد الله) ليوافق اسم (عبد
الله) بن أريقط بن بكر. مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 13 ص 35.
وبهذا
بقي التغيير بين (ابن بكر) و(أبي بكر) وهو سهل وبسيط، لأن الكتابة في السابق لم تكن
منقوطة، لذا فإن اسم أبي بكر وكذلك ابن بكر يكتبان بالطريقة نفسها.
13) إن الروايات التي تذكر هجرة
أبي بكر مع خاتم الأنبياء هي
روايات إسرائيلية، لأنها تشتمل على بعض التفاصيل الواضح اتصالها باليهود وتراثهم. من تلك القضايا، أن حمامة قد جاءت وباضت بيضة أمام الغار، وأن عنكبوتاً قد
جاء ونسج خيوطه على فتحةالغار، الأمر الذي جعل المشركين يتوهمون عدم وجود أحد فيه.
وهذا الأمر
مناقض للعقل وللصحيح من
الروايات، لأن غار ثور - كما شاهدناه - هو غار صغير لا تتعدى مساحته مترين مربعين فقط، فمن غير
الممكن أن يحجب أي شيء الرؤية إلى داخله، فلو وقف أي شخص أمام فتحة الغار لشاهد كل ما
فيه بشكل واضح جداً، لأنه غار صغير، ويضاف إلى ذلك أن هناك فتحة أخرى جانبية في الغار، الأمر
الذي يجعل الضوء ينفذ ويضيء الغار بأكمله مما يسهل الرؤية. لذا فلا معنى لخيوط
عنكبوت ولبيضة حمامة، فالرؤية واضحة تماماً.
والحقيقة
أنهم قد جاؤوا برواية العنكبوت من سيرة النبي داود في كتب اليهود، حيث نسج العنكبوت
خيوطه على غار داود عندما لاحقه جالوت بغرض قتله. تفسير القرطبي: ج13 ص 346.
الشيخ
نجاح الطائي مجلة المنبر العدد 19 (السنة الثانية)
شهر رمضان 1422.