انقسم علماء المسلمين في تفسير لفظة "متوفيك" إلى فريقين. واستطاع الرازي أن يجمع مختلف الآراء في سياق تأويله لآية : "إني متوفيك...". والواقع أن الرازي امتنع أن يقدم رأياً شخصياً في الموضوع، ونزع إلى استعراض تعليلات الآخرين من غير أن يلتزم بموقف ما. وفي رأيي أن الموقف الذي اتخذه الرازي، على ما فيه من تهرُّب، كان أسلم له في مجتمع لا يجيز لأحد كبار علمائه أن يخرج على إجماع المسلمين في قضية خطيرة مثل هذه. من هنا عمد، كما يبدو إلى الجمع تاركاً للقارئ المسلم حرية اختيار الرأي الذي ينسجم مع خلفيته الدينية.
أما الآراء أو الوجوه التي عرضها الرازي في تأويل لفظة متوفيك فهي:
(1) متمم عمرك: أي أتوفاك فلا أترك أعداءك اليهود يقتلونك.
(2) مميتك: وهو قول مروي عن ابن العباس ترجمان القرآن ومحمد بن اسحق، وقالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه اليهود إلى قتله. ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه (أحدها) قال وهب: توفي ثلاث ساعات ثم رفع. و(ثانيها) قال محمد بن اسحق تُوفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه. و(ثالثها) قال الربيع بن أنس إنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال الله: "اللهُ يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا والّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا".
(3) الواو تفيد الترتيب: من حيث أن عيسى هو حي فمعنى ذلك أنه رفعه أولاً، ثم سينزل ويقتل الدجال وبعد ذلك يتوفاه الله.
(4) التأويل المجازي: وهو ما نادى به أبو بكر الواسطي (إني متوفيك) عن شهواتك وحظوظ نفسك. ثم قال (ورافعك إليّ) لأنه لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له الوصول إلى مقام معرفة الله. وأيضاً فعيسى لما رُفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة.
من الجلي أن هذا التأويل الصوفي مخالف لمبدأ عصمة الأنبياء وسمو أخلاقهم. نرى هنا أيضاً تأثير الأبيونية التي ادّعت أن المسيح في صعوده قد صار رئيس الملائكة.
(5) الرفع الكامل: أي رفع عيسى ابن مريم بتمامه بروحه وجسده وليس بروحه فقط كما قد يظن البعض. و يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: "وَمُا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ" (سورة النساء 4: 113).
(6) أجعلك كالمتوفَّى: فرفع عيسى إلى السماء، وزوال كل أثر مادي له في الأرض، وانقطاع أخباره كان كمن توفّى. "وإطلاق اسم شيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن".
(7) القبض: ومعناه الإيفاء أو الاستيفاء، كاستيفاء المرء ما له من مال "وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له".
(8) استيفاء العمل: أي أن الله قد "بشره بقبول طاعته وأعماله وعرفه ما يصل إليه من المتاعب والمشاق، في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء وهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه".
(9) ويضيف الرازي: فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
ويعلق الرازي على الذين يقولون أنه "لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، وقالوا إن قوله (ورافعك إليّ) يقتضي أنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير. والمعنى إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن" بقوله:
أما الآيتان الواردتان في سورة مريم في السلام على يحيى وعلى عيسى في مولدهما وموتهما ومبعثهما، فقد مر بهما المفسرون مرور الكرام، ولا سيما لفظة "أموت" وإن كان الشائع بينهم أنها تشير إلى موت عيسى بعد رجوعه في آخر الزمان للقضاء على الأعور الدجال.
ولم يخرج موقف الطبري، وابن كثير، والزمخشري، والبيضاوي، والجلالين عما قاله الرازي، بل كانوا جميعاً عالة بعضهم على بعض، يعتمد الآخرون ما ادعاه الأولون إلا فيما ندر من آراء وتأويلات جديدة[2] .
ماذا نستخلص من عرض الرازي لآراء المفسرين لكلمة متوفيك؟
أولاً: من الواضح أن الرازي كان جمَّاعاً للآراء ولم يكن متفاعلاً معها. ويخالج القارئ إحساس عميق بأن هذا العالم لم يكن مقتنعاً بتأويلات المفسرين، كما كان يتعذر عليه أن يأتي بتأويل جديد مخالف للإجماع العام.
ثانياً: إن آراء المفسرين وتأويلاتهم المتعارضة تثير الارتباك والحيرة في نفوس الساعين وراء الحقيقة، إذ يعسر عليهم أن يستقروا على رأي أو عقيدة. فهؤلاء المفسرون والرواة يحتلون مكانة مرموقة في تاريخ الإسلام ويأخذ عنهم الباحثون والدارسون. لهذا، يجد المسلم الموضوعي نفسه في حيرة أمام هذه التأويلات المتناقضة التي تزيده ارتباكاً وتشل مداركه. وقد يتساءل: ما هو التأويل الصحيح؟ لماذا اختلف المسلمون في تفسير هذه اللفظة؟ أيُّ شرح يمكننا أن نعتمده في فهم هذه الآية؟ إن من مظاهر هذا الضياع ما نراه من ترديد لعبارة "والله أعلم" التي ختم بها الرازي عرضه لآراء المفسرين. وهي إن دلت على شيء إنما تدل على عدم الشعور باليقين.
ثالثاً: إن سبب الإشكال الرئيسي في تأويل لفظة "متوفيك" في الآيات المتعلقة بموت المسيح يُعزى في أساسه إلى موقف العلماء المسلمين المكابر وتهرُّبهم من تفسير هذه اللفظة بما تحمله من معنى حقيقي وهو الموت. إذ أن إجماع أكثرية المسلمين على هذا المعنى يقتضي منهم أن يتفحصوا بجدية، وعلى ضوء جديد، قضية الصليب وهو أمر يرفضه المسلمون كل الرفض.