فماذا نستخلص من هذه البيّنات؟

أولاً: إن تأثير هرطقات الفِرق الدينية المسيحية التي كانت مزدهرة في عصر ظهور الإسلام كان عميقاً على مواقف المفسرين الذين تلقوا أخبارهم بما يختص بالعقائد اليهودية والمسيحية من رواة أو علماء اقتصرت معارفهم على علوم تلك الفرق وبدعهم. ومن الجلي أن وهب هذا كان مطلعاً على مبادئ الدوكيتيين والأبيونيين والغنوسيين.

ثانياً: إن بعض هؤلاء الرواة كانوا قد أسلموا كمثل وهب بن منبه، فحملوا معهم بذور عقائدهم الأولى وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين تعاليم الإسلام. والواقع أن ما رواه وهب كان أقرب شيء إلى معتقدات المسيحيين. ولعله سعى من وراء ذلك أن يقوم بعملية توفيقية واعية مقصودة للتقريب بين وجهتي نظر متباينتين11 .

ثالثاً: نجد في رواية وهب دليلاً تاريخياً على صحة ما نقله إلينا الإنجيل من قصة الظلمة مما يخالف ما جاء عن حادث الرفع المباشر الذي ورد ذكره في القرآن. وأرى لزاماً عليّ أن أشير هنا إلى حديث نبوي متفق عليه جاء فيه:

وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى رسول الله... يحكي نبياً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"12 .

فمن هو النبي الذي ردد هذه الكلمات؟ وفي أي مناسبة؟ إن الباحث في الكتاب المقدس بأكمله لا يعثر على مثل هذا النبي في العهد القديم، وإنما يجد تقريراً ضافياً عما تعرض له المسيح من إهانة وآلام ثم تعليق على خشبة الصليب، وهناك في لحظاته الأخيرة قال:

هذا هو النص الكامل لدعاء المسيح على الصليب في لحظة هي من أشد لحظات الألم التي يتعذر على العقل البشري أن يتصورها. والحق يُقال أن ما أورده الحديث هو دليل آخر وإن كان غير مباشر، على صدق الكتاب المقدس. وهذا الحديث بالذات يتنافى مع ادعاء الرفع المباشر الذي يخلو كلياً من أي ذكر لآلام المسيح، إن في القرآن أو في تأويلات المفسرين.

أما الآيتان 15 و33 الواردتان في سورة مريم في السلام على يحيى وعيسى في يوم مولدهما وموتهما وبعثهما فهما، في رأيي برهان آخر على موت المسيح لسببين أساسيين هما:

أولاً: إن جميع المفسرين المسلمين يُجمعون علىأن يحيى قد مات وأن آية "وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً" التي قيلت فيه مماثلة في صياغتها اللغوية للآية التي نطق بها عيسى عن نفسه: "سَلاَمٌ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً" (سورة مريم 19: 15 و33). فلماذا إذاً لا يطبق المفسرون المسلمون على عيسى نفس التأويل الذي طبقوه على يحيى؟ لماذا يتلاعبون بتفسير الآيتين وفقاً للأهواء والنوايا المغرضة؟ لماذا يقولون في شرح الآية الأولى إنها تشير حقاً إلى موت يحيى ويزعمون أن لفظة "أموت" في الآية الثانية تعني الموت المستقبلي في آخر الزمان؟

ثانياً: إن الوثائق التاريخية، والبينات القرآنية، والقرائن المنطقية التي اعتمدناها واستقرأناها من بطون الكتب، والمراجع الموثوق بها، تثبت أن لفظة "أموت" الواردة في الآية أعلاه كانت تلمح إلى موت المسيح القريب وليس إلى ما سيحدث في آخر الزمان. أضف إلى ذلك أن ابن عباس المعروف بترجمان القرآن وسواه من المفسرين الذين كانوا أقرب منا إلى اللغة قد فهموا أن الإشارات المختلفة المبثوثة بين آيات القرآن عن وفاة المسيح توعز إلى موته القريب بغض النظر إن كانت الوفاة ثلاث ساعات أو سبع ساعات.

الصفحة الرئيسية