قال الدكتور محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق:
إن عبارة توفَّيتني... تحمل في ذاتها معنى الموت العادي. وليس هناك من سبيل لتأويل "الموت" بأنه سيقع بعد رجوع (المسيح) من السماء، على فرض أنه الآن حي في السماء، لأن الآية تحدد بكل وضوح علاقة عيسى بقومه في زمانه وليس بعلاقته بأهل زمان رجوعه... فإن كل ما تعنيه الآيات التي تشير إلى هذا الموضوع هو أن الله قد وعد المسيح أنه سيتمم له حياته وأنه سيرفعه إليه13 .
وفي هذا الصدد يقول G. Parrinder "إن قواعد الآية 33 القرآنية من سورة مريم لا تتضمن المعنى المستقبلي الذي يوحي بالموت بعد المجيء الثاني. إن المعنى البسيط، كما يبدو، هو الموت الجسدي في نهاية حياته الإنسانية الأرضية يومئذ"14 .
وينبر أحد الكتاب المحدثين على أن الله يخاطب في سورة آل عمران 3: 55 المسيح بما معناه "حقاً أنا الذي أدعوك للموت" أو "إنه أنا الذي أميتك"15 .
ويشير Neal Robinson في كتابه Christ in Islam and Christianity إلى أن:
والسؤال المطروح أمامنا هو: شُبِّه لمن؟ لا شك أن المقصود في النص القرآني بكلمة "لهم" هم اليهود والرومان الذين أقدموا على صلب المسيح. ولكن ماذا عن حواريي المسيح وأمه وأتباعه؟ فهل شُبه لهم أيضاً؟ إن القرآن يسكت عن ذكرهم إذ من الجلي أنهم لم يكونوا من الذين "شُبِّه لهم". بمعنى آخر إن الحواريين الذين كانوا موجودين هناك لم يقعوا في فخ "شُبِّه لهم" بل أدركوا أن المصلوب هو المسيح بالذات وليس سواه. ولعل أكبر دليل على ذلك أن الحواريين ورسائلهم المكتوبة بوحي من الروح القدس، محورها صلب المسيح وقيامته. هذا مع العلم أنه لم يوجد أي دليل وثائقي أو تاريخي يمكن الاعتماد عليه يثبت أن اليهود والرومان كانوا في شك من حقيقة المصلوب. فيهوذا قد انتحر وعثروا على جثته ودفنوها في حقل الفخاري، والظلمة خيمت بعد أن استودع المسيح روحه على الصليب بين يدي الآب السماوي وليس قبل أن يُصلب كما يزعم بعض الرواة المسلمين، ومريم أم المسيح وبعض حوارييه وأتباعه كانوا حاضرين عند صلبه، وجثمان المسيح طُيِّب وكُفِّن بأيدي مَن يعرفونه حق المعرفة، وكذلك الجنود الرومان الذين أشرفوا على صلب المسيح، واقتسموا ثيابه، وطعنوه بالحربة. هؤلاء لم تخالجهم أية ريبة في حقيقة المصلوب، بل إن قائد المئة والحراس الذين كانوا معه إذ شاهدوا الظلمة ثم الزلزلة اعتراهم رعب شديد، وقالوا: "حقاً كان هذا ابن الله". وأكثر من ذلك فإن القبر الفارغ أكبر برهان على حقيقة شخصية المصلوب. فلو كان المصلوب غير المسيح أكان بوسعه أن يقوم من الأموات ثم يظهر للحواريين وأتباعه لمدة أربعين يوماً؟
والحق يُقال، إن كل ما لدينا من وثائق معتمدة تدحض بقوة كل زعم أن المصلوب كان الشَّبيه، فأيُّ عذر بعد للمتشككين والرافضين؟
أما النص الأخير من آية 157 من سورة النساء:
فيشوبها كثير من الغموض إن أخذناها على ظاهر النص لأنها في الواقع لا تتفق مع السياق العام للحادث. فقد بينا أعلاه أن حواريي المسيح لم يقعوا في فخ الشبه، وأنه لا يوجد أي برهان على أن الرومان واليهود كانوا في شك منه. إذاً من هم الذين اختلط عليهم الأمر؟
نجيب بكل بساطة، إنها الفرق المسيحية المختلفة التي كانت منتشرة في شبه الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام. صحيح أن القرآن كان يتكلم عن صلب المسيح ولكنه في سياق ذلك كان يعكس حركات التيارات الدينية والاتجاهات اللاهوتية التي كانت سائدة في زمانه. فالدوكيتيون والأبيونيون وسواهم من الفرق الهرطوقية من أصحاب الشبيه كانوا على خلاف مستمر مع المسيحية الكتابية التي تنادي بحقيقة صلب المسيح ولا تؤمن بخرافة الشبيه التي تخالف تعليم الكتاب المقدس17 .
ومن الواضح أيضاً أن القرآن قد اتخذ موقفاً مؤيداً لعقائد الفرق الهرطوقية فانضم إليهم في صراعهم ضد المسيحية الكتابية. وأُرجِّح أن السبب الرئيسي في ذلك هو اقتصار اطلاع محمد على تعاليم هذه الفرق دون سواها، والتي تركت أثراً بليغاً في اتجاهه الديني. أضف إلى ذلك أن بعضاً من أتباع هذه الفرق قد انضموا إلى دعوته لأنها لم تتناف، في معظمها، مع ما كان يدعو إليه. وعلى ضوء هذا الترجيح يمكننا تعليل مواقف القرآن المتناقضة من المسيحيين، فالذين كان يطريهم هم فرق الشَّبيه من النصارى، أما الذين هاجمهم فهم أهل الإنجيل الذين آمنوا بموت المسيح وصلبه. ولعل قصة حواره مع مسيحيّي نجران وخلافه معهم حول لاهوت المسيح دليل ساطع على هذه الحقيقة.
ومن المعروف أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام18 . أما موقف محمد من ذلك فغير واضح تماماً. فتارة نراه يبيح للمسلمين الأخذ عن أهل الكتاب. وطوراً نراه يحظر عليهم19 . بيد أن محمداً نفسه كان أحياناً يعقد حلقات حوار دينية مع أهل الكتاب من يهود ونصارى، بل كان يزور الكنيس اليهودي في يثرب20 . وتخبرنا كتب السيرة الإسلامية أن محمداً كان على صلة وثيقة بأحد أبرز الشخصيات المسيحية في مكة هو ورقة بن نوفل21 . كان ورقة ابن عم خديجة أُولى زوجات النبي. ويبدو أن علاقة محمد بورقة تعود إلى عهد مبكر جداً من حياة الدعوة الإسلامية22 ، كما أن ورقة بصفته الدينية والاجتماعية قام بعقد مراسيم زواج محمد بخديجة23 . وكان محمد آنئذ في الخامسة والعشرين من عمره. وعندما عاد محمد من غار حراء وروى لزوجته خديجة رؤياه أسرعت به إلى ابن عمها ورقة تسترشد برأيه خشية أن يكون قد أصاب زوجها مكروه. ولا شك أن محمداً الذي رفض أن يعبد آلهة مكة قد وجد في ورقة بن نوفل خير مرشد ديني يأنس إليه ويأخذ برأيه، وهو الخبير الضليع بشؤون الدين وأسفار أهل الكتاب. لقد عاصر محمد ورقة ما لا يقل عن ثماني عشرة سنة، خمس عشرة منها قبل الدعوة، وثلاث بعد الدعوة. وفي غضون هذه الفترة كما يبدو، لم يكف محمد عن البحث والتأمل. ويلوح لي أن ورقة بما تمتَّع به من معرفة باللغة العبرانية ونزعته التوحيدية كان المصدر الرئيسي في تغذية ذهن محمد بمفاهيمه الدينية. إن المصادر الإسلامية نفسها تؤكد لنا أن ورقة كرئيس للجالية المسيحية في مكة قد انهمك في ترجمة إنجيل العبرانيين الأبيوني إلى اللغة العربية24 . بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الدارسين يعتقدون أن ورقة كان في الواقع أسقف مكة وينتمي إلى المذهب الأبيوني25 . فإن صح هذا الكلام - وليس هناك ما يدعو إلى الشك فيه - فإن اتجاهات ورقة اللاهوتية قد تركت أثراً بليغاً على مفاهيم محمد بشأن المسيح، والصليب والتجسد26 .
ومن صحابة محمد من اليهود والنصارى الذين أسلموا لسبب أو لآخر: عبد الله بن سلام، وتميم الداري، وعبد الله بن صوريا وبلال الفارسي الذي قيل عنه إنه اعتنق المسيحية قبل إسلامه. فضلاً عمن كان في أهل الرسول من نساء وجوار ينتمين إلى أهل الكتاب. هؤلاء ولا ريب، قد نقلوا إلى الرسول كثيراً من أخبار أهل الكتاب وأنبيائهم كما كانت شائعة في الأوساط الشعبية.
ثم كان هناك جمهرة من الصحابة الذين أخذوا عن أهل الكتاب واشتهروا برواية أخبارهم من غير أن يميزوا بين ما هو مقتبس حقاً من الكتاب المقدس أو ما نسج من أخيلة المحدثين الذين أولعوا بالقصص الشعبية والهراطقة. من هؤلاء الصحابة عبد الله بن العباس ترجمان القرآن، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة.
وتوحي بعض الروايات المتوافرة لدينا أن محمداً، لم يحظر في كثير من الأحيان، على أتباعه دراسة أو مطالعة التوراة أو الإنجيل. غير أن هذه الروايات لم تفصل لنا أي جزء من التوراة أو أي إنجيل من الأناجيل أذن لهم بقراءته،وما هي الدواعي لذلك. وهناك روايات أخرى تنفي أن الرسول قد سمح للمسلمين أن يقرأوا أي كتاب ديني باستثناء القرآن27 .
أورد البخاري في صحيحه بسند عبد الله بن سلام أن النبي قال: "بلِّغوا عني ولو آية واحدة وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار"28 .
وأشار الحافظ الذهبي إلى حديث جاء فيه أن عبد الله بن سلام قدم على النبي وقال له: ·إني قرأت القرآن والتوراة فقال له: اقرأ هذه ليلة وهذه ليلة29 .
ونعثر في صحيح مسلم على رواية طريفة متَّفق عليها عن طريق فاطمة بنت قيس أنها قالت إن رسول الله قال بعد أن جمع الناس:
... إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميم الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء وبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال30 .
أما الحديث الذي أشار إليه محمد فهو عن الدابة الجساسة وهي، في رأيي، قصة من خرافات الأولين. وفحوى هذا الحديث كما رواه النبي أن تميماً الداري حدثه أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من قبيلتي لخم وجذام. وبعد أن مضى عليهم شهر في البحر هبت عاصفة هوجاء ألجأتهم إلى جزيرة حيث لقيتهم دابة كثيفة الشعر بحيث لم يتبينوا "ما قُبُلُهُ من دُبُرِه". وعندما سألوها عن نفسها أخبرتهم أنها الجساسة، وطلبت إليهم أن ينطلقوا إلى رجل في الدير.
"قال: لما سمَّت لنا رجلاً فَرَقنا (خفنا) منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد...".
ويدور حوار طويل بين هؤلاء البحارة والرجل المصفد بالأغلال يكتشفون فيه أنه هو الأعور الدجال أي المسيح الكذاب.
والواقع إنني أربأ بمحمد أن تكون هذه القصة قد صدرت عنه حقاً، لاعتقادي أنها أقرب ما يكون إلى قصص السندباد البحري منها إلى الحديث الصحيح. ولعل تميماً الداري هذا قد وصلته قصة الوحش الطالع من البحر الواردة في سفر الرؤيا، أصحاح 13، مشوهة فرواها كما أوحت له مخيلته.
ولكن إن صح هذا الحديث فإنه يكشف أولاً عن اهتمام محمد البالغ في الحصول على تأييد أهل الكتاب لصدق دعوته. وهذا أمر ضروري تتطلبه الظروف الدينية والاجتماعية التي أحاطت بالنبي لإثبات ما يدّعيه من نبوّة ولإضفاء صفة الشرعية عليها. وثانياً، إن شطراً كبيراً من الأحاديث المرويّة تنم عن التأثير العميق الذي تركته القصص الشعبية والأساطير في تأويل الآيات القرآنية وتفسيرها. إن الدراسات المقارنة في الأديان وآدابها تبين بوضوح مدى تأثر القرآن بالكتب الأبوكريفية والأساطير اليهودية - المسيحية. فلا عجب إذاً أن يكون التّشويه قد طرأ على قصة الصلب كما أوردتها كتب التفاسير لأنها اعتمدت هذه الخرافات المنكرة31 .
ولكن قبل أن نستوفي البحث في هذا الفصل الأخير أود أن أعلق على آيتين قرآنيتين أعتقد أنهما تلقيان مزيداً من الوضوح على لفظة متوفيك: أما هاتان الآيتان فهما:
إذا أمعنا النظر في هاتين الآيتين علىأساس علاقتهما بمصير الأنبياء السابقين نجد أن هناك عاملاً مشتركاً بينهم جميعاً: أنهم كلهم ماتوا. وطبقاً للقرآن، فإن المسيح ومحمداً كانا عرضة للموت. فهما لا يختلفان عن بقية الأنبياء والرسل الذين مضوا من قبلهما. ومن العسير على الباحث الافتراض أن القرآن الذي يجمع بين المسيح وسواه من الأنبياء السابقين أن يستثنيه من الموت. فكما أن عيسى ابن مريم ليس سوى رسول خلت من قبله الرسل يماثلهم في كل شيء، فلماذا لا يماثلهم في الموت أيضاً؟ ومن الواضح أن سياق البحث يتمحور حول الماضي ولا يدور حول حدث مستقبلي، بل إن وجه الشبه يعتمد الماضي وحده. إن المتأمل في هاتين الآيتين لا يجد أي فارق لغوي بينهما. إنهما تشيران إلى المعنى نفسه. وكما مات محمد فإن المسيح مات من قبله أيضاً. وعندما حاول العلماء المسلمون كالجلالين والبيضاوي والرازي تأويل معنى هاتين الآيتين حرصوا جداً على تفادي الإشارة إلى موت الأنبياء القدامى في معرض مقارنة المسيح بهم. صحيح أن القرآن كان يؤنب النصارى الذين ألَّهوا المسيح ومريم، ولكنه في سياق المقارنة بينهما وبين بقية الأنبياء كان يسعى إلى التأكيد على بشريتهما من كل ناحية، وأنهما عرضة للموت. وهذا واضح أيضاً في حالة محمد. إن الدارس للآية 144 من سورة آل عمران يدرك بوضوح أنها تشير إلى معركة أُحد التي كاد النبي أن يُقتل فيها. فمن أغراض هذه الآية إذاً هو الإشارة إلى حقيقة الموت، أي العامل المشترك بين الأنبياء جميعاً بل البشر كلهم.