سلسلة محاضرات تبسيط الإيمان
لنيافة الأنبا بيشوى
مطران دمياط وكفر الشيخ والبرارىورئيس دير القديسة دميانة وسكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية بمصر
إن المسيحية من الممكن أن يفهمها الأطفال الصغار، وقد قال السيد المسيح "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال" (مت11: 25)، وقال أيضاً "ليس أحد يعرف الابن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت11: 27). وقال أيضاً "أما المعزى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26).
إن الروح القدس هو الذى يعرفنا كل شئ عن الآب.. عن الابن.. عن الخلاص.. عن الفداء.. وعن أهمية صلب السيد المسيح من أجل خلاصنا. فالروح القدس هو الذى يبكتنا على خطايانا، ويعرفنا مدى احتياجنا للخلاص. وإنه بدون يسوع المسيح لا يمكن أن نصل إلى الحياة الأبدية. فالروح القدس هو الذى يكشف لنا حقيقتنا الصعبة.. حقيقتنا البشعة عندما نكون محرومين من نعمة الخلاص والتبرير والبنوة لله. عندئذ يرى الإنسان الحالة التى وصـل إليها عصيانه لله ومخالفته للوصية.
إن الشيطان هو الذى أغوى الإنسان وهو فى الفردوس، وجعله يخالف وصية الله، وشككه فى محبته!! وقال له: إن الله لا يريدك أن تكون مثله عارفاً الخير والشر. وعندما شك الإنسان فى محبة الله سقط تحت سلطان إبليس، وسقط تحت سلطان الخطية عندما أكل من الشجرة التى قال الله له لا تأكل منها.
أجرة الخطية هى الموت
وبسبب الخطية دخل الفساد إلى طبيعة الإنسان، ودخل الموت كنتيجة للخطية. ونرى عند القبر الإنسان وهو ينتن ويأكله الدود فنعرف نتيجة الخطية وأن أجـرة الخطية هى الموت. إن الدليل على حالة الفساد التى سببتها الخطية، هى حالة الفساد التى يصل إليها الإنسان فى القبر. وهنا يبدأ الإنـسان يفكر كيف سـيخرج من حالة الفسـاد؟!! هـو يحتاج إلى الخـلاص من الموت ومن الفساد.
لقد أصبح هناك عداوة بين الله وبين الإنسان. وصحيح إن أجرة الخطية هى موت، لكن الإنسان أصبح يخاف من الله، وغير قادر على اكتشاف محبته. ويحتاج إلى أن يصالحه أحـد مع الله، يحتاج إلى أن ينقذه أحد من سلطان الخطية، ويعطيه قوة الانتصار عليها ويشفيه منها ويشفى طبيعته. ويعيد إليه الحياة التى فقدها بسبب الخطية.
الله يعلن حبه للإنسان
لم يكـن مـن الممكن أن يتخلى الله عـن الإنــسـان، وأن لا يسعى فى طلبه ويعمل شيئاً لأجله. لأن الله يحب الإنسـان، ويعرف أن الشيطان هو الذى أغواه وهو الذى خدعه. ولكن ليس من الممكن أن يسامح الله الإنسان بدون أن يعلن غضبه ضد الخطية. لأنه كيف يسامحه بدون أن يدفع ثمن الخطية ويوفى الدين؟! ليس لأن الله يريد الانتقام، ولكن لأن الله لابد أن يعلن قداسته. فلابد أن يظهر الله مـدى كراهيته للخطية. وفى نفس الوقت هو يريد أن يُخلّص الإنسان ويعرّفه مدى محبته.
إن الله يريد أن يبين للإنسان بشاعة الخطية، ويجعله يكرهها. ولكن لا يكفى أن يسامحه الله ويغفر له، ولكن لابد أن يشفيه. لأنه لو غفر له بدون أن يدفع ثمن الخطية لن تظهر قداسة الله بوضوح فى نظر الإنسان. فيقول الإنسان فى نفسه إن الله من الممكن أن يقبل الخطية. أى أن الخطية شئ سهل بالنسبة لله ولا تعنيه فى شئ. وبالتالى من الممكن أن يستسهل الإنسان الخطية ويعتبرها شيئاً عادياً، ولا تستحق أن يحاول أن يتحرر منها ويتركها. لذلك كان لابد أن يعمل الله شيئاً يجعل محبته وقداسته تتقابلان معاً.. فيبين للإنسان مدى كراهيته للخطية، إلى جوار محبته الجارفة للإنسان.
تقابل قداسة الله مع محبته
أهمية الفداء
الرحمة والحق تلاقيا
على الصليب كان الحل؛ فالإنسان يحتاج أن يعرف عن الله أمرين فى نفس الوقت والاثنان يتقابلان معاً. يعرف أن الله يكره الخطية جداً، ويعرف أن الله يحبه جداً. فلو علم أن الله يحبه فقط ولكن يترك له الخطية فبذلك تكون صورة الله فى نظره أنه ليس قدوساً، وبذلك فإن الإنسان من الممكن أن يستسهل الخطية ولا يكرهها. وكذلك إذا رأى أن الله يكره الخطية فقط، ولم يبصر محبته فسوف يخاف من الله، وتكون هناك عداوة بينه وبين الله ولا يشعر بأبوته.
ولكن هذه المشكلة ليست عند الله، ولكن عند الإنسان. إنه غير قادر على فهم الله فهماً سليماً. لذلك يقول المزمور "الرحمة والحق تلاقيا العدل والسلام تلاثما" (مز84: 10). أى أنه على الصليب الرحمة والحق إلتقيا معاً، ورأينا بأعيننا الرحمة والحق معاً، أو الرحمة والبر، فكلمة الحق تأتى أحياناً بمعنى البر.
إن الله يريد أن يبين لنا مدى غضبه من الخطية: فعندما حمل السيد المسيح خطايانا ورأيناه يُجلَد.. ويُعذَب.. ويتألم وهو لم يفعل شيئاً سيئاً!! ولكن كل هذا بسبب خطايانا نحن.
فهل إلى هذه الدرجة تؤذى الخطية قلب الله ويكرهها إلى هذه الدرجة؟!! لدرجة أنها استوجبت أن المسيح البار القدوس، ابـنه الوحيـد، يـتألم كـل هـذه الآلام لكى يـدفـع ثمـن خـطـية الإنسان!!
إن هذا يجعل الإنسان ينظر إلى الخطية ويرى مدى فظاعتها ويرى المسيح وهو يُجلَد، ويعرف أن المسيح قد جُلِد لأجله، لأنه دفع ثمن لذة الخطية. إذ أن الله يحبه ويريد أن يخلصه من الهلاك الأبدى. ولكن بالرغم من أن هذا الجلد لم يقع على الإنسان الخاطئ.. ولكنه يشعر أنه هو الذى يُضرَب، لأن هذه هى خطيته. وهذا يجعله يخجل من الله، ويشعر أن السياط ينزل على مشاعره هو. وصوت الرب يناديه: هل هذه هى لذة الخطية التى تحبها؟!. انظر أن السيد المسيح هو الذى يدفع ثمنها!! هل سوف تحبها مرة أخرى أم سوف تبدأ فى كراهيتها؟!.
إن الله لو فعل ذلك فى الإنسان الخاطئ نفسه فلن يشعر أن الله يحبه بالرغم من أن الإنسان يستحق هذه العقوبة. لكن عندما يرفع الله عن الإنسان العقوبة ويدفع هو ثمنها. يبدأ الإنسان يقول فى نفسه: هل أنا الذى سوف أتسبب للبار القدوس فى أن يتعذب بهذه الطريقة. لابد أن أراجع نفـسى.. لابـد أن أتـوب.. لابـد أن أكـره الخطـيـة ولا يمكن أن أحبها.
فيه كانت الحياة
يُحكَى عن إنسان كان بحاراً وكان له أخ أكبر رجل قديس وبار. وهذا البحار كان إنساناً شريراً وخاطئاً. وكان الإثنان بحارة على مركب واحد. وفى أحد الأيام هاج البحر وكانت المركب على وشك الغرق. وعدد الركاب كان كبيراً جداً فى السفينة، وعدد قوارب النجاة قليل. فقال القبطان سوف نعمل قرعة ومن أتى اسمه فى القرعة هو الذى سوف يركب فى قوارب النجاة ومن لم يأتِ اسمه فى القرعة سوف يُترك فى المركب.
وعندما تم عمل القرعة جاء اسم الأخ القديس فى القرعة لكى يركب قارب النجاة، أما الأخ الخاطئ فاسمه لم يأتِ فى القرعة. فحزن جداً وقال سوف أموت الآن. فالأخ الكبير قال له لا تبكى ولكن اركب أنت مكانى وأنا سوف آخذ مكانك. فقال له ما ذنبك؟ فقال له الأخ الأكبر أنت الآن إذا مت وأنت غير مستعد سوف تهلك وتذهب إلى الجحيم، ولكن أنا أحب السـيد المسيح وأتمنى أن أكون فى أحضانه، وبنعمة الله سوف أذهب إلى الفردوس بعد موتى لأن "لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً" (فى1: 23).
فمن الأفضل أن أموت أنا الآن لأن موتى لن يـؤدى إلى هلاكى. ولكن موتك أنت سوف يؤدى إلى هلاكك. لكن لى شرطاً أنك تحيا حياتى التى كنت أحياها أنا. لأنى سوف أموت لأجلك، فلابد أنك تعيش لأجلى. وقد وافقه الأخ الأصغر على هذا الشرط وعاهده عليه. وعندما نزلت قوارب النجاة إلى البحر بدأ الأخ الصغير يندم على خطيته ويتوب، وهو يرى الأخ الأكبر وهو على مسطح المركب الغارق وهو يناديه ويلوح له من بعيد قائلاً: لا تنسى العهد الذى بيننا أنك تعيـش حياتى كما أنى أموت بدلاً منك.
إن هذه القصة توضح لنا ما فعله السيد المسيح لأجلنا. فـنحن إذا حملنا خطايانا فسوف نهلك إلى الأبد، لكن إن حمل هو خطايانا لن يهلك لأنه هو الحياة "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6).
فقد كانت قوة الحياة التى فى المسيح يسوع، أقوى من قوة الموت الذى لنا. فالله يريد أن يبين لنا مدى كراهيته للخطية وأنـه يغضب بسببها. وقد أعلن الله غضبه ضد الخطية عندما دفع السيد المسيح ثمن خطايانا على الصليب "البار من أجل الأثمة" (1بط3: 18).
السـيد المسـيح لا يمكن أن يمسـكه الـموت، وأما نحن فالموت حـيـنما يبتـلعنـا لا نسـتطيع أن نخرج مـنه مـرة ثـانية، إلا إذا أخرجنا السيد المسيح بنفسه من جوف الموت.
الله يخفى لاهوته عن الشيطان
عـندما أغـوى الشـيطان حـواء قال لها تـعالى انـظرى هـذه الشجرة "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل" (تك3: 6). والشيطان لكى يفعل ذلك اختفى فى الحية "وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية" (تك3: 1).
فقال السيد المسيح سوف أسقى الشيطان من نفس الكأس التى سقاها للبشر. فأتى ابن الله الوحيد -كلمة الله- وتجسد وأخفى لاهوته عن الشيطان وأتى فى صورة إنسان. وأصبح الشيطان متحيراً إن كان هو كلمة الله أم لا؟ فأحياناً يقول لا؛ لأنه عندما صام على الجبل جاع أخيراً، وبدأ الشيطان يشك ويجربه والسيد المسيح كان يخفى لاهوته عنه. وظل هكذا حتى غضب الشيطان منه لأنه كان يصنع معجزات كثيرة ويبشر بحياة القداسة والتوبة ويجذب الناس إلى محبة الله فقرر أن يتخلص منه.
فعلق السيد المسيح على الصليب. والصليب صنع من خشب الشجر ويقول القديس مار أفرام السريانى }على الصليب عُلقت الثمرة{ وقال الرب للشيطان: هل ترضى أيها الموت أن تبتلع هذه الثمرة المعلقة على هذه الشجرة؟ والمقصود بالموت هنا هو إبليس. قال: نعم سوف ابتلعها. وفتح الموت فاه لكى يلتهم هذه الثمرة المعلقة على الشجرة. لأنه رآها شهية للنظر وجيدة للأكل. لكن عندما ابتلع الموت هذه الثمرة ابتلع الحياة فكانت النتيجة أن ابُتلع الموت من الحياة. كأن تبتلع حجرة مظلمة مصباحاً موقداً مضيئاً، فالظلام يتبدد. فمـن هو الـذى ابتلع الآخر؟؟ هل الظلام هو الـذى ابتلع النور؟ أَم النور هو الذى ابتلع الظلام؟!.
إن هنـاك نـوع مـن السـمك الصغير عنـدمـا يبتـلعه السـمك الكبير؛ فالسمكة الصغيرة تأكل بطن السـمكة الكبيرة من الداخل حتى تثقبها وتخرج منها وتتغذى عليـها. فمع أن السمكة الكبيرة هى التى ابتلعت الصغيرة، لكن الصغيرة هى التى أكلت الكبيرة. فكما قال القديس مار أفرام السريانى}الموت ابتلَع الحياة فالموت ابتُلِع من الحياة{. فالجحيم ابتلع الحـياة ولكنه لم يستطع أن يحتمل الحياة فى داخله.
بالموت داس الموت
صحيح أن الموت أعلن قداسة الله على الصليب. حينما احتمل السيد المسيح الغضب الإلهى الذى نتج عـن خطايا البشر، ولكنه فى نفس الوقت غلب الموت وانتصر عليه. مثل شخص مصارع يسألونه هل تستطيع أن تغلب الأسد؟ فيقول نعم. بل أستطيع أكثر من ذلك. أستطيع أن أترك الأسد يبتلعنى ثم بعد ذلك انتصر عليه. وبذلك يكون ذلك المصارع هو أقوى الأقوياء. فالسيد المسيح ترك الموت لكى يبتلعه ثم بالموت داس الموت وقام منتصراً فى اليوم الثالث من بين الأموات. لم يقمه أحد ولكنه بسلطانه الإلهى قد أقام نفسه.
فمثلاً لعازر أخو مرثا ومريم أقامه السيد المسيح إذ قال له "لعازر هلُمَّ خارجاً" (يو11: 43). ولكن السيد المسيح من الذى أقامه؟!! وكما قال "ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدى الناس فيقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم" (مت17: 22، 23). وقال لليهود عن هيكل جسده "انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه" (يو2: 19). وقد اعتقد اليهود أنه يتحدث عن هيكل سليمان ولكنه كان يتكلم عن هيكل جسده وكما يقول الكـتاب "أين شـوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية؟!" (1كو15: 55).
وقد قـام الســيد المســيح من بين الأمـوات. وإن لم يـكن قد قام فسـوف تكون القصة محزنة جداً. فالسـيد المسيح بموته حل مشكلة الخطية. ولكن إن كان قد مات ودفع ثمن خطايانا وحل مشكلة الخطية لكنه لم يحل مشكلة الموت. فبموته حل مشكلة الخطية وبقيامته حل مشكلة الموت الذى نتج عن الخطية. إنه بالقيامة قد فرح التلاميذ، وفرحت الكنيسة، وفرح العالم كله "أنار الحياة والخلود" (2تى1: 10). وأيضاً يقول الكتاب "فإن الحياة أُظهَرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأظهرت لنا" (1يو1: 2)
أهمية القيامة بالنسبة للبشرية
إن هـذه القـصة تبـين لنا أهمية القيامة بالنسبة للبشرية، وكذلك تبين لنا فكرة الفداء والكفارة والخلاص بدم المسيح.. كان شخصاً يوصى ابنته أن لا تخرج من المنزل فى وقت متأخر، لأنه يخاف عليها. ولكنها كانت تظن أن والدها لا يحبها. لأنه يقيدها ويعطيها أوامر. وهى تريد أن تخرج مع صديقاتها وتستمتع. وفى أحد الأيام تزينت وكانت تريد أن تخرج. وسـألها والدها إلى أين تذهب؟ ولكنها لم ترد أن تجيب وخرجت وهى لا تبالى. فذهب وراءها بدون أن تشعر لأنه كان يخاف عليها.
فطلع عليها مجموعة من الشبان يريدون أذيتها وسرقتها. فلم يحتمل والدها هذا المنظر وتحرك بسرعة نحوهم وهو يصرخ: ابنتى.. ابنتى. وبظهوره المفاجئ تركوا الابنة، واشتبكوا مع الأب بالسكاكين. وأفلتت الابنة ونظرت والدها وهم يذبحوه أمام عينيها. وذهبت إلى منزلها وهى فى حالة من الانهيار التام وهى تبكى وتقول لأمها: أنا السبب فى قتل أبى وهو قد ذُبح أمامى. وجلست تتذكر أنه كم من المرات قد أوصاها وكانت تعتقد أنه لا يحبها: كانت ترى فى وصيته أنه يكرهها وهى لا تدرك مـدى محبته لها. وقد ظلت على هذه الحالة حزينة وكئيبة، وهى لا تطيق الحياة.
وفى أحد الأيام وجدت الباب يقرع. وعندما فتحت الباب وجدت والدها أمامها، فرحت به وقبلته وسألته كيف أتى؟ فقال لها قد أتيت حتى لا تعيشين طوال عمرك وأنت تشعرين أنك أنت التى تسببتى فى موتى. فكما أن حبى لكِ جعلنى أموت من أجلك.. فحبى لكِ أيضاً هو الذى جعلنى أرجع مرة ثانية للحياة لكى أجعلك تفرحين بقيامتى.. تفرحين بتوبتك ورجوعك إلىّ.. تفرحين بحياتك معى. وهذه كانت فرحة الكنيسة عندما تقابلت مع السيد المسيح القائم.
المغزى من وراء القيامة
وهنا نسـتطيع أن نفهم المغزى الذى وراء القيامة. حيث إن السيد المسيح قد رجع إلى الكنيسة لكى يفهمها أنه حتى حزن الصليب لا يستطيع أن يتركها فيه. فبالرغم من أنه قد دفع ثمن خطايانا ولكننا سوف نعيش طوال العمر ونحن نشعر أن أيدينا ملوثة بدم السيد المسيح لأننا نحن السبب. لذلك قال القديس بولس عن السيد المسيح "الذى أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" (رو4: 25). لأننا لا نستطيع أن نتبرر ونستعيد سلامنا إلا إذا قام السيد المسيح من بين الأموات. فإذا كان بالصليب قد دفع ثمن خطايانا، فبقيامته محا خطايانا وسامحنا وصالحنا.
وقد كان الإنـسـان لابـد أن يـطمئن على مصــيره وذلك بعودة الحياة من جديد مرة أخرى. وهذه هى القيامة التى تبشر بها المسيحية فى العالم كله. وعندما أراد الرسل اختيار أحـد التلاميذ بدلاً من يهوذا الإسخريوطى قالوا نختار واحداً شاهداً معنا بقيامة السـيد المسـيح "يصـير واحداً منهم شاهداً معنا بقيامته" (أع1: 22).
المسيح هو باكورة الراقدين
إن المسيحية تبشر بالحياة وبقيامة السيد المسيح من بين الأموات "قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين" (1كو15: 20). وبذلك عرف الإنسان أنه يوجد حياة أخرى بعد الموت، وكذلك عندما شاهد التلاميذ السيد المسيح صاعداً إلى السماوات. عرفوا أنه ليس فقط يوجد حياة بعد الموت ولكن يوجد ملكوت سماوى وحياة أفضل. لذلك فإن السيد المسيح قال "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10).
الذى رآنى فقد رأى الآب
يُحكَى عـن ملك أوحـى عـدو لـه إلى الشـعب أنه ملك مستبد وقاسى لذلك شعروا أنهم لا يستطيعون أن يحبوه. فسمع الملك هذا الكلام وشعر أن الشعب متضايق منه لأنهم لا يفهموه. فلبس ثياب بسيطة فوق ثياب الملك ونزل وعاش فى وسطهم، يحل لهم مشاكلهم ويترأف عليهم، ويعطيهم من حكمته، والمريض يظل بجواره ويخدمه حتى يُشفى. فأحبه جميع الشعب جداً وقالوا لم نرَ شخصاً بهذه الروعة نحن نريد هذا الرجل أن يكون ملكاً علينا.
وفى أحد الأيام خطفوه وذهبوا به إلى قصر الملك واقتحموا القصر وهتفوا قائلين: يحيا الملك.. يحيا الملك وأجلسوه على العرش. فخلع الملك الثياب التى كان متخفياً فيها وقال لهم أنا هو الملك أنتم لم تعرفونى، ولكنكم الآن قد عرفتم محبتى وعرفتم حقيقتى.
لذلك عندما قال فيلبس أحد الإثنى عشر تلميذ للسيد المسيح "يا سيد أرنا الآب وكفانا. قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفنى يا فيلبس. الذى رآنى فقد رأى الآب فكيف تقول أنـت أرنــا الآب؟! ألسـت تؤمن إنى أنــا فى الآب والآب فىّ" (يو14: 8-10). فالآب والابن والروح القدس إله واحد.
هل المسيح هو الله أم ابن الله؟
سألتنى إحدى البنات الصغيرات فى مدارس الأحد هل المسيح هو الله أم ابن الله؟ فأجبتها إن أى ملك هو ابن ملك فعندما نقول عنه أن هذا هو الملك يكون الكلام صحيحاً، وعندما نقول إنه ابن الملك يكون الكلام صحيحاً أيضاً لأنه من الجنس الملوكى: فهو ملك ابن ملك.
فالسيد المسيح هو الله بسبب جوهره الإلهى أنه واحد مع الآب فى الجوهر، وهو ابن الله بسبب أنه كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. وهناك من يسأل. هل المسيح إنسان ثم أصبح إله فنجيب. لا. لأننا نرفض تماماً أن أى إنسان يصير إلهاً. لكن السيد المسيح هو إله متجسد، وليس إنساناً متألهاً. لذلك نقول فى قانون الإيمان }نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور{ أى قبل خلق العالم والملائكة والبشر. فكلمة الله مولود من الآب.}نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوى للآب فى الجوهر{.
مولود غير مخلوق
إن الآب لم يخلق الابن، لأننا نعرف أن الابن هو كلمة الله، ويمكن أن نأخذ تشبيهاً سهلاً: مثل العقل والفكر. فالعقل يلد الفكر، ولا يوجد عقل بدون فكر. والعقل بدون فكر لا يكون عقلاً. والنور يلد الشعاع، فهل النور يتزوج لكى يلد الحرارة!! بالطبع لا. إذن فولادة العقل من الفكر هى ولادة طبيعية، وكذلك ولادة النور من النور هى ولادة طبيعية.
ولكن هـل لأن العقـل هو الذى يلد الفكر فمعناه أن العقل كـان يوجد من قبل الفكر؟! فالإجابة لا. لأن العقل بدون فكر لا يكون عقلاً. فالعقل والفكر شئ واحد، لا يمكن فصلهما لأنه كيف يمكن فصل العقل عن الفكر الموجود داخله!! لأنه لو تم فصل العقل من الفكر: فالعقل لا يكون عقلاً. وكذلك لو تم فصل كلمة الله عن الله، فالله يفقد ألوهيته. وإذا كان العقل لا يوجد له بداية فالفكر أيضاً لا يوجد له بداية.
إذا كان الآب أزلياً فالابن أيضاً أزلى والآب وكلمته واحد لا يمكن فصلهما لذلك قال "أنا والآب واحد" وليس فقط الآب والكلمة واحداً؛ ولكن الآب والكلمة والروح القدس لـذلك نقول }باسـم الآب والابـن والـروح القدس إله واحد آمين{.
نحن نؤمن أن الله واحد. لأنه لا يوجد أكثر من إله فى الوجود. لكن الله الآب ليس من الممكن أن يكون هو الله إلا إذا كان هو أبو الكلمة فلا يوجد أب بدون ابن. مثل الينبوع والتيار فالينبوع يلد التيار. الينبوع والد التيار المولود: لكن لا يوجد ينبوع بدون تيار ولا تيار بدون ينبوع، لأنه كيف أتى الماء. فلابد أن يكون الينبوع له تيار والتيار له ينبوع لذلك قال "تركونى أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم أباراً أباراً مشققة لا تضبط ماء" (أر2: 13). والسيد المسيح قال "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو14: 6). فالماء الحى الخارج من الآب هو الابن. لأن الابن قال أنا هو الحياة. فالآب هو الوالد والابن هو المولود. لكن بدون زواج.
إن الـولادة من الآب السـماوى شـئ، والـولادة من العـذراء شئ آخر. فهو مولود من الآب قبل كل الدهور وقبل خلق العالم كله ولادة إلهية روحية بدون أم. لذلك نقول عنه فى قانون الإيمان }المولود من الآب قبل كل الدهور{. عندما أراد الله أن يخلصنا أرسل ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدى الذين هم تحت الناموس من لعنة الخطية كما قال الكتاب "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس. ليفتدى الذين تحت الناموس لننال التبنى" (غل4: 4، 5) وأيضاً يقول الكتاب "الكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً" (يو1: 14). إنه كلمة الله الأزلى الذى هو كائن فى حضن الآب كل حين وكما يقول "الابن الوحيد الذى هو فى حضن الآب هو خبَّر" (يو1: 18). فعندما تجسد الكلمة رأينا الله. لذلك يقول "الذى رآنى فقد رأى الآب" (يو14: 9).
كيف تم التجسد؟
لقد حل الروح القدس على العذراء مريم بدون زواج، وطهَّرها، وقدسها، وملأها نعمة، وكوّن من جسدها ناسوتاً أو طبيعة إنسانية. وهذه الطبيعة البشرية الخاصة بـه اتخذها كلمة الله وتجسد بها، لكى يولد من العذراء كإنسان. وكما نقول إنه بولادته من الآب قد دعى ابن الله، هكذا نقول بولادته من العذراء يسمى ابن الإنسان. ولكن ابن الله هو هو نفسه ابن الإنسان، وليس شخصاً آخر؛ حتى بعد ولادته من العذراء هو ابن الله. لذلك قال الملاك للعذراء "القدوس المولود منك يدعى ابن الله" (لو1: 35). والسيد المسيح نفسه كان أحياناً يسمى نفسه "ابن الإنسان"، وأحياناً أخرى "ابن الله".
فكما وُلد من الآب قبل كل الدهور ولادة روحـية إلهية بدون أم، هكذا أيضاً ولد فى ملء الزمان ولادة إنسانية بدون أب. فهو ولد من الآب أزلياً بدون أم، وولد من العذراء ولادة زمنية بدون أب. فلا ينبغى أن يتم خلط الولادتين معاً. ولا يسأل واعظ ساذج أو بسيط فى عظة }المسيح من أبوه؟!{. فيرد الناس ليس له أب. فيرد فى بساطة ويقول لأن الله أبوه. وهذا الكلام غير صحيح فالمسيح ليس له أب جسدى لأنه ولد من العذراء بدون أب، وليس له أم فى اللاهوت لأنه ولد من الآب بلاهوته بدون أم.
كيف أن الآب والابن والروح القدس واحد؟
النار يوجد بها لهب؛ واللهب يخرج منه نور وحرارة. فاللهب يسمى نار، والنور يسمى نار، والحرارة تسمى نار، والدليل على ذلك من الممكن أن نقول إننا نوقد النار، أو إننا نوقد اللهب، أحياناً نقول نحن نستنير بالنار أو نحن نستدفئ على الحرارة أو نحن نستدفئ على النار. فاللهب والنور والحرارة الخارجة منه شئ واحد أى نار واحدة وليسوا ثلاثة نيران. ولكن اللهب غير النور غير الحرارة. ومع أن اللهب غير النور غير الحرارة ولكن اللهب إن لم يلد نوراً ويشع حرارة لا يكون ناراً على الإطلاق. فاللهب بنوره وحرارته يكون ناراً حقيقية.
هكذا إذا تأملنا فى الثالوث القدوس نفهم أن الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هـو الله. مثل اللهب نـار، والنور نـار، والحرارة نار، فالآب هو الله الآب، والابن هو الله الابن، والروح القدس هو الله الروح القدس، ويمكن أن يُقال الله فقط بدون الآب. كما نقول أن اللهب هو نار فالتسمية ليست مشكلة ولكن إذا لم يوجد الابن لا يوجد الله. لأنه لا يوجد آب بغير ابن ولا توجد نار بغير حرارة؛ حتى لو كان هناك لهب. لأن اللهب بدون حرارة ليس له قيمة، وكذلك أيضاً العقل بدون فكر ليس له قيمة، فالمولد يلد كهرباء، والنور يلد شعاع، والعقل يلد فكر، والزهور تلد رائحة، والمغناطيس يلد مجال مغناطيسى، والنبات يلد براعم، ولا يوجد شئ فى الوجود كله لا يلد غير الحجر والجماد الأصم. فالله أعلن لنا أنه كإله واحد هو آب وابن وروح قدس.
كيف يموت السيد المسيح وهو الله الكلمة المتجسد ؟
إن السـيد المسـيح قد مات بحسب الجسـد، لكن لم يمت بحسب طبيعته الإلهية. فالإنسان العادى له روح وجسد: فروحه لا تموت، ولكن جسده يموت، وهو إنسان واحد. فبعد أن يموت جسد الإنسان يبقى روحاً حياً لأن إلهنا "ليس هو إله أموات بل إله أحياء" (مر12: 27).
فإذا كان الإنسان روحه وجسـده متحدان معاً، ومـن الممكن أن يموت بحسب الجسد ولا يموت بحسب الروح كما قيل عن ناسوت السيد المسيح بعد موته على الصليب بالجسد وبقاء روحه الإنسانية حياً وكلاهما متحداً باللاهوت "مماتاً فى الجسد ولكن محيياً فى الروح" (1بط3: 18). فبنفس الصورة الكلمة المتجسد من الممكن أن يموت بحسب الجسد ولا يموت بحسب الروح الإنسانية، وبالطبع أيضاً بالمثل لا يموت بحسب الطبيعة الإلهية، لأن لا الروح الإنسانية يموت، ولا اللاهوت يموت.
كيف يوضع فى القبر ومن كان يدير العالم وقتئذ؟
إن الذى وضع فى القبر هو جسد السيد المسيح المتحد باللاهوت، ولكن فى نفس الوقت لاهوته يملأ الوجود كله. وأيضاً بالمثل كيف وهو فى بطن العذراء يدير العالم كله؟!
إن أى شـخص لـه جـهاز تليـفـزيـون يمكـنه أن يسـتقبل فـيه الصورة والإرسال. ولكن الإرسال مالئ الفراغ المحيط به بحيث يمكن أن يستقبل نفس الإرسال شخص آخر فى دولة أخرى حول العالم، وهو نفس الإرسال فبرغم من أن الإرسال مالئ الأجــواء العليا إلا أنــه يمـكن أن يُســتقبَل فى جهاز صغير بكل تفاصيله وأحداثه وألوانه وكلماته.
فعندما تجسد السيد المسيح فى بطن العذراء اتحد اللاهوت بالناسوت وفى نفس الوقت لاهوته كان يملأ الوجود كله، ولا يحده مكان. فإذا كان إرسال التليفزيون من الممكن أن يملأ الأجواء والعالم كله ولا نتعجب من استقباله فى جـهاز صغير فى بيت!! هل نتعجب أن لاهوت السـيد المسيح يملأ الوجود كله وفى نفس الوقت تستقبله العذراء مريم متجسداً فى بطنها بسر لا ينطق به ومجيد. ونفس الوضع عندما كان فى القبر وهو نفسه قال "ليس أحد صعد إلى السـماء إلا الـذى نزل من السماء ابن الإنسان الـذى هو فى السـماء" (يو3: 13). أى أن لاهوته يملأ السماء والأرض.
هل يمكن أن يتجسد الله؟
إن الله منزه عن الخطية، والتجسد ليس خطية والسيد المسيح جاء قدوس وبلا خطية. والجميع يعترفون بـهذا والله منزه عن التغير ونحن نقول إن لاهوته متحد بناسوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، والتجسد لم يجعل اللاهوت يتغير بدليل أننا نقول إن السيد المسيح مـات بحسب الجسد، وليس بحسب اللاهوت. فعند التجسد لم يمت اللاهوت أى أن لاهوته لم يتغير قبل وبعد التجسد. فطبيعته الإلهية لم تتغير. إذن فلا يوجد تغير ولا خطية، ولكن التجسد كان لأجل خلاص البشرية ولإظهار حب الله.
وكما ظهر الله لموسى على هيئة نار فى العليقة والكل يعترفون بذلك.. وكلمه قائلاً "أنا الله" وقد رآه على هيئة نار مشتعلة فى الشجرة. إذن الله من الممكن أن يظهر. فأيهما أفيد وأفضل؟! أن يظهر على هيئة نار؟ أم أن يظهر كفادٍ ومخلص، لكى يـظهر لنا محبته على الصليب؟!! إن العليقة المشتعلة بالنار فى برية سيناء كانت تشـير إلى التجسد فى بطن العذراء مريم حيث لم يحترق الناسـوت لسبب اتحاده باللاهوت، وتشير إلى الصليب، لأنه على الصليب اشتعلت نار العدل الإلهى. والشجرة التى ترمز إليها العليقة هى خشبة الصليب. لذلك يذكرنا مشهد الصليب بالمشهد الذى رآه موسى على الجبل.
وهنا قـد أوضـحنا أن السـيد المسـيح هـو ابـن الله الوحـيد الذى تجسّد لأجل خلاصنا، لكى يفدينا وأعطانـا حياته لكى نعيش بها كما يقول بولس الرسول "وهو مات لأجل الجميع كى يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذى مات لأجلهم وقام" (2كو5: 15) فهل نحيا نحن وندرك أننا لسنا لذواتنا ولا لشهواتنا بل للمسيح الذى اشترانا بدمه؟..