حياتي قبل الإيمان
كان لا بد لي أن أتكلم ولو بإيجاز عن حياتي قبل الإيمان؛ لأنه من خلالها ستتضح مدى محبة الله لنا نحن البشر، وتظهر أنه في الوقت الذي نسعى نحن جاهدين لمقاومة عمل الله؛ يسعى هو في الاتجاه المضاد ليجتذبنا إليه كراعٍ يبحث عن قطيع له قد ضاع في البرية القفراء الجرداء.
فقد نشأت في أسرة متدينة أصولية إلى أبعد الحدود، مما دفعني إلى أن أسلك نفس المسلك الديني الأصولي، إما بإرادتي أو بحكم النشأة الأسرية، وبدأت مشواري مع الكُتاب الصغير الذي كان يقع على أطراف قريتنا الصغيرة الواقعة في إحدى محافظات الوجه القبلي على مسافة 200 كم جنوب القاهرة. كان اهتمامي في البداية مجرد حفظ ما كان مقرراً علينا من السور القرآنية في مادة التربية الدينية بالمدرسة، ثم تدرّج ذلك إلى اهتمام شخصي نابع من حبّي لكلمات الله. وفي تلك الأيام كان المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ينظم مسابقة سنوية بصفة دورية بين طلاب جميع مدارس الجمهورية في حفظ جزء أو جزأين من القرآن، طلب مني والدي أن أشارك فيها. وأول مرة شاركت حصلت على المركز الأول وكانت الجائزة 10 جنيهات فرح بها والدي كثيراً، وكان يشجعني على المشاركة باستمرار ليس إلا للفوز بالعشرة جنيهات. استمرّ ذلك حتى استطعت حفظ أكثر من خمسة عشرة جزءاً من القرآن قبل أن أنهي المرحلة الإعدادية، وأكملت ما تبقى منه في المرحلة الثانوية. كنت في هذه الفترة أقيم مع الأسرة في منزل العائلة الذي كان يضم بقية أعمامي وأولادهم، وكان واحد من أبناء أعمامي شديد التديّن، إذ كان يدرس في إحدى كليات جامعة الأزهر، وكان يشجعني على قراءة الكتب وفي بعض الأحيان كان يشتريها هو لي على نفقته الخاصة ، لكن في أثناء هذا الوقت انتقلت أسرتنا للإقامة في بيت منفرد عن بيت العائلة هذا ، وسافر ابن عمي إلى إحدى البلاد العربية ليعمل إمام وخطيب لمسجد هناك ، واستمرت إقامته هناك مدة عامين ، وبعد عودته في إحدى المرات أفهمني أننا لسنا على الإسلام الصحيح الذي يدخل من يدين به الجنة ؛ لأننا لا نعرف إلا القليل ، وأنه قد تقابل هناك بقيادات مسلمة واخوة فارين من ظلم الحكم الطاغي هنا ، وطلب مني التعمق في دراسة بعض الكتب للإمام ابن تيمية والشيخ سيد قطب وابن حزم الظاهري ، ورغم صعوبة أفكار بعض هذه الكتب إلا أنني أعجبت بها كثيراً ؛ إذ كانت هذه الكتب تضع منهجاً شاقاً يصعب على المرء منا أن يؤديه كما هو ، فمثلاً وجدت هناك حديث يقول: "من أكل مع مشرك أو ساكنه فهو مثله " ، من هنا بدأت أدخ إلى مرحلة جديدة في حياتي الدينية ، إذ بدأت أتفحص الناس من منهم الكافر ومن منهم المسلم ، وبدأت أيضاً أجمع النصوص التي تسهل علي تمييز المسلم من غير المسلم حتى أرسم وأحدد علاقتي به حسب نوعية كل منهم، حتى وجدت نفسي أمام موقف صعب جداً إذ أن والدي ووالدتي بناءاً على ما وصلت إليه، يعدا من الكافرين. فوالدي كان يدخن ، ولا يطلق لحيته، ووالدتي لم تكن تصلي وكانت تسب الناس كثيراً، كذلك إخوتي كانوا كفاراً أيضاً فمنهم من يجلس يشاهد التليفزيون ومنهم من لا يصلي، ومنهم من يحلق لحيته ومنهم من يدخن السيجارة، لدرجة أنني قد منعت أخواتي عن تكملة الدراسة في مراحل مختلفة ، وطلبت من والدي أن يطلق والدتي لأنها لم تكن على نفس تجاوبه معي مما أثار والدي عليّ. وصلت في نهاية الأمر إلى أن والدي ووالدتي وإخواني مشركون، وسألت هل يجب عليّ مقاطعتهم وعدم الأكل أو النوم معهم؟ فأجابني ابن عمي: نعم، فقلت إذن وأين سأذهب؟ قال: تعال عندي. هل تثق في عمك وامرأته من حيث الإيمان ؟ قلت كلا فهما مؤمنين حقاً ، قال إذن فاذهب وأت بمتعلقاتك لتعيش معي بعيداً عن حياة الكفر والشرك التي في بيتك ، حملت أمتعتي ورحلت وسط دموع والدتي واخوتي ولم أشفق عليهم بل كنت أقول إنه لا مقام لي بينكم اليوم إذ أنكم كافرون ، وكنت في غاية السعادة وأنا أراني أهجر بيتي في سبيل الله.
استقر ابن عمي في القاهرة واستأجر شقة بالقرب من جامعة الأزهر حيث كان في السنة النهائية مما اضطرني للعودة ثانية لبيت أبي ، أجر أذيال الخزي والانكسار ، وسألت ابن عمي ألا يعد رجوعي هذا معصية ؟ قال : لا "فالضرورات تبيح المحظورات" وقرأ عليّ آية سورة البقرة:"فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه " ففرحت كثيراً بذلك. كنت آنذاك في الثانوية العامة وقررت الاجتهاد حتى لا يُقال بأنّ التديّن يعيق الدراسة، ونجحت وحصلت على نسبة مئوية عالية أهلتني لدخول كلية الطب بجامعة القاهرة، وبعد ذلك بدأت انفصل فكرياً وبالبتدريج عن ابن عمي إذ قرأت كثيراً من الكتب كان هو يرفضها قائلاً: إنها تحمل أفكار التكفير والهجرة أو خوارج القرن العشرين. كان كلامه هذا لي دافعاً قوياً لأعرف ماذا يقول هؤلاء الناس الذين نسمع عنهم ولم نقابل أحد منهم؟
وجدت داخل الكلية كثير من التيارات السياسية داخل جماعات صغيرة وقانونية مما دفعني أن ألتحق بالجماعة الدينية بكليتي لكي لا نترك الساحة لهم. كان مقرر الجماعة أحد أعضاء هيئة التدريس وكنت أميناً عاماً لها، وكان معنا رجلاً آخر مسئولاً للاتصالات بالجماعة. لا أخفي أنني وجدت متاعب كثيرة داخل الجماعة لأنهم كانوا يعيشون حياة إسلامية تقليدية بعيدة كل البعد عن المفهوم الصحيح للإسلام من حيث تعاملهم مع غير المسلمين (لا أعني المسيحيين بل المسلمون بالاسم فقط).
بدأت طموحاتي الدينية تنمو باطراد وكنت أسابق الزمن للوصول إلى حالة لا تقل عن حالة من كنت أسمع عن صولاتهم ضد الحكومة والنظام. فبدأت بتكوين نواة لجماعة صغيرة أقوم بتلقينها الإسلام كما فهمته، وكنت ألمس فيهم الطاعة والخضوع. كنا نصلي معاً في زاوية بعيداً عن المساجد لأنها كما علمنا ما هي إلا مساجد ضرار بُنيت على غرار ما بناه اليهود لإعاقة دعوة الرسول.
شعرت بعد ذلك بضرورة ترتيب علاقتي بكل الناس، كلٌ حسب موقفه وفهمه للإسلام؛ فكل من لا يقبل ما نقول فهو كافر ويعامَل معاملة الكفار:"لا يتّخذ المؤمنون الكافرون أولياء من دون الله". لم أجد في ذلك صعوبة لأننا كنا مدفوعين برغبة وحماس شديد لأن نعيش كما كان رسول الله يعيش وكان تتراءَى لنا صورة أبوعبيدة بن الجراح الذي قال عنه محمد أنه أمين هذه الأمة عندما قتل والده الذي رفض الإسلام. كذلك صورة مصعب ابن عمير الذي لم يرضخ لتوسلات والدته وتركها تموت لرفضها للإسلام. وكذلك أبو بكر الذي قال لوالده: لو أنني أدركتك لقتلتك. كل هذه الصور كانت تنمي داخلنا القسوة على الأهل والأصدقاء إن هم رفضوا إسلامنا ، ولم يكن ذلك لمجرد الكراهية بل على العكس كنت أتألم وأنا أرفع صوتي في والدتي ووالدتي وأسب أخي وأخوتي وأهددهم بالقتل ، لكن الدافع كان الرغبة الصادقة لديّ لأن أطيع الله ورسوله وأصل إلى ما وصل إليه هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وكنت أضع نصب عيني حديث الرسول الذي يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه".
كان هناك فرقة أو طائفة من الناس نحن بحاجة إلى تحديد علاقتنا بهم وتعاملاتنا معهم حسب نصوص القرآن والسنة: وهم أهل الكتاب ، والحقيقة كان هم النصارى لأن مصر يندر تواجد اليهود بها وإن وجدوا فلا يقيمون علاقات مع أحد . من خلال البحث عن سلوكيات الرسول تجاه النصارى ، وجدنا الصورة قاتمة جداً ، لكنها كانت مريحة لنا إذ كنا نغار منهم في بساطتهم وحسن معاملاتهم ، وسرعة إقامتهم لصداقة مع مسلمين اسميين ، كان لديهم برود غريب تجاه ما كنا نوجهه إليهم من مضايقات والتي فسرناها على أنها مجرد محاولة قذرة منهم للخروج من عزلتهم وهم الأقلية في مجتمع أغلبيته من المسلمين ، ولم يك أمامهم سوى هذا الخبث والدهاء في حسن معاملة المسلمون لأنهم إن أبدوا غير ذلك فلن يكون لهم مقام وسطنا ، وهذا هو بعينه ما قاله القرآن عنهم من أن الله سيضرب عليهم الذلة والمسكنة ، بدأت كراهيتنا للنصارى في صورة مضايقات في الشوارع والطرقات ، لكنهم كانوا يقبلون ذلك بوداعة تثير اشمئزازنا مما يدفعنا لزيادة الكيل من المضايقات ، فبدأنا نفكر في كيفية إرهابهم فعلمنا أن الله قد أحل دمائهم وأموالهم وقال عنها أنها " فَيِء " أي تأخذ بدون حرب مثل ما فعل الرسول بيهود بني قريظة ، إذ حاصرهم وقتل شبابهم وسبى نسائهم واستحل نخيلهم وأجلاهم عن المدينة ، رغم أننا لم نكن قادرون على عمل ما عمل محمد لكن كنا نسطوا على محلاتهم وننهبها ، ووصلت درجة عداوتنا للنصارى إلى درجة التعدي على كنائسهم ودور العبادة في أماكن متفرقة من القرية التي كنت أقطن فيها ، كان أشدها هو التخطيط وتنفيذ عملية تدمير إحدى الكنائس ، أثار هذا التصرف شعور الحكومة حيث تظاهر الأقباط ضد هذا العمل وكان يبدوا أن الحكومة مسرورة بهذا السلوك ؛ إذ كان يتم معاملتنا داخل الحبس على أفضل ما يكون ، وعندما أنهينا فترة السجن هذه خرجنا واستقبلنا أهالي القرية استقبال الأبطال مما دفعنا للتمادي في ذلك لكن بطرق أكثر دقة وحكمة لا تمكن الحكومة من القبض علينا . كل ذلك تم في فترة وجيزة وتناقل الطلبة في الكلية هذه الأخبار مما دفع أحد قيادات التكفير والهجرة إلى طلب الجلوس معي ليعبر لي عن فخره بشجاعتي وحبي لله ورسوله ، علمت أنه من جماعة شكري أحمد مصطفى ففرحت وتمنيت لو كنت واحداً منهم ، كان صديقي هذا حريصاً جداً في حديثه معي وفي إحدى عطلات الصيف قمنا بتنظيم معسكر للجماعة الإسلامية بالكلية وحصلنا على الدعم المادي لهذا المعسكر من إدارة الكلية كان الهدف من هذا المعسكر هو أن نقضي أنا وعضو التكفير والهجرة أكبر وقت ممكن للمناقشة وتداول الأفكار حول الإسلام ، بعد المعسكر طلب مني صديقي أن أبدي رأيي في الجماعة الإسلامية ، وهل أريد الانضمام إليها لو أتيحت لي الفرصة ؟، وكان يردد على مسامعي الأحاديث التي تتكلم عن ضرورة الانضمام لجماعة تقيم كتاب الله وسنة رسوله مثل قوله : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " ، و لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا أمير " شعرت أنه لا بديل لدي سوى الانضمام للجماعة ما دمت أحب الله ورسوله ، وهذه الجماعة هي أفضل ما رأيت من حيث توافق فكرها مع ما كان بداخلي عن الإسلام ، تم ترتيب لقاء لي بالقاهرة في منزل أحد الأعضاء بالقاهرة ووضعت يدي بيد الأمير شكري قائلاً " أبايعك على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن أوثرك على نفسي إلا أن أرى منك كفراً بواحاً " لم تكن البيعة مجرد كلمات تردد ؛ بل كانت كأنك تضع حياتك في يد الأمير وتكون قد بعت نفسك لله وللرسول ، الحقيقة كنت سعيداً جداً بهذا اليوم ولم أسعد أكثر من هذا اليوم إلا يوم معموديتي . غرست البيعة هذه في نفسي شيء من الخضوع وعدم الخوف وتنفيذ كل ما يطلب مني بدون التفكير في ما ينتظرني من ألم أو مشاكل لأنني اعتبرت ذلك طاعة لله وللرسول ، وكنت مستعداً لأن أفعل أكثر مما يطلب مني ، بدأت القسوة تظهر على تعاملي مع أسرتي وكنت لا أسلم عليهم ، وعندما يسألونني كنت أقول لهم إنكم كفاراً إنكم تشبهون الذين قال الله عنهم " هل أدلكم على الاخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا " طلب والدي مني أن أرشده لما يجعله مسلماً في نظري فقلت له أولاً تطلق لحيتك ، لا تجلس للراديو فوافق ، فقلت له إن والدتي لا تصلي وتارك الصلاة كافر وعليه فهي كافرة وحياتك معها حرام فثار والدي وحلق لحيته وكاد يضربي بحجر كان أمامه لولا أنني هربت منه ، هناك نقطة للأمانة أريد أن أذكرها ، وهي إن أول شيء جعلني أتحمس للانضمام لجماعة التكفير أنها كانت شديدة القسوة على النصارى الذين كنت أكرههم وأريد نصوصاً قرآنية تؤيد كراهيتي هذه بحيث انطلق تحت مظلة قرآنية فلا يحدث لدي شيء من تأنيب الضمير في ما أفعله.
بعد ذلك عيّنني شكري أميراً لمجموعة في ضواحي القاهرة وكان يعبر لي عن إعجابه بي وبإخلاصي فأطلق علي لقب " أبوعبيدة " ، للعلم كان كل فرد في الجماعة يحمل اسماً حركياً ولم نكن نعرف أسماء بعضنا البعض الحقيقية.
زادت ثقة شكري بي فقام بإرسالي إلى عدة دول عربية وأجنبية ممن كان يتواجد بها أعضاء للجماعة وقمنا بالتعاون معاً لاجتذاب أعضاء جدد وأخذ البيعة منهم نيابة عن الأمير العام شكري مصطفى ، كانت هناك بعض المضايقات من الحكومة ؛ مما كان يضطرنا للهجرة لأوقات قصيرة لجبال المنيا والبداري وأسيوط القريبة من إقامتي ، لكن في كل مرة كان يتم القبض علينا وترحيلنا للقاهرة ثم الإفراج عنا ، هذا كله كون لدينا جميعاً شعور بأن الهجرة الآن أصبحت أمراً لا مفر منه إذ لا مقام لنا بين ظهراني المشركين عملاً بنص الحديث : أنا بريء من كل من أقام بين ظهراني المشركين " ، وهذا تطلب منا أن نرسل أحد الأعضاء للبحث عن أنسب مكان يمكننا أن نهاجر إليه الهجرة الكبرى التي لا يحق لنا الرجوع منها إلا لإقامة الدين والقضاء على نظام الحكم الأرضي الذي لا يحكم بما أنزل الله ، وفي أحد الأيام من عام 1977جاءنا أمر بضرورة البحث عن شقة مفروشة في أحد الأماكن الشعبية دون أن نسأل لماذا ، قمت أنا وأحد الأخوة بالبحث عن هذه الشقة واستأجرناها دون أن ندري سبب ذلك ، وفي صباح اليوم الثاني علمنا أنه قد تم اختطاف الشيخ محمد حسين الذهبي على يد رجال من جماعتنا ، وبعد لحظات من سماعنا هذا البيان زارنا أحد أفراد الجماعة وحكى لنا ما تم بالضبط ، كان الشيخ الذهبي دائم التهجم على أفكار الجماعة ، وللحقيقة كان يكتب عنا أمور غير حقيقية مثل أننا نزوج المرأة لأكثر من رجل ، وقد وجهت إليه الجماعة تحذيرات متكررة للتوقف عن مهاجمة الجماعة إلا أنه استهان بهذه التهديدات والإنذارات ، علمنا من أخينا أن الهدف من هذه العملية هو الضغط على الحكومة للإفراج عن بعض القيادات التي تورطت في عملية الفنية العسكرية مع صالح سرية وكارم الأناضولي ، كذلك طلب فدية مادية تمكننا من تغطية نفقات الجماعة المتعددة ، فوجئنا في مساء يوم الاختطاف هذا بالقبض على معظم إن لم يكن كل أعضاء الجماعة في كل مصر ، حتى من كان له أدنى علاقة بنا دون أن يكون عضواً ، اُدخلنا معتقل القلعة وقضينا عامين تحت التعذيب والتحقيق في ما كان يعرف بقضية الانتماء لجماعة مناهضة لنظام الحكم ، بعد ذلك أطلق سراحنا فهربنا خارج البلاد ، وانتشرنا في عدة دول عربية انتظاراً لأوامر من الأمير الذي عينه شكري بدلاً عنه ، كانت هذه بداية تفتت وانهيار الجماعة وأقول بكل صدق وأمانة لو لم تكن عملية الذهبي هذه لكان للجماعة شأن آخر في تسيير الأمور بمصر . كنا كما سبق أن قلت قد أرسلنا من يبحث عن بلد يمكننا أن نعيش فيه فترة استعداد للجهاد الأكبر ، وكانت النتيجة مشجعة ، وبدأت بعض الأعضاء تهاجر إلى هذه المنطقة تباعاً ، جاءني رسالة بمكان الهجرة فتوجهت إليهم في أوائل عام 1980 ، وبدأنا نرتب كيف سنقيم في هذه المنطقة ؟ خاصة وأننا قد علمنا أنها منطقة صحراوية خالية من السكان اللهم بعض البدو الذين يسلكون خلالها للتجارة . انتهينا من كل الترتيبات وبدأنا نرحل على مجموعات متفرقة حيث لم يكن لدينا سوى سيارة واحدة ، كان من ضمن أعضاء الجماعة كثيرون من مواطني البلدة التي هاجرنا إليها مما ساعدنا على سهولة التعرف على جغرافية المكان وعادات وتقاليد هذا المجتمع الجديد ، حفرنا آبار للمياه ، قمنا بعمل كلمة سر بيننا ، وتناوبنا حراسة المعسكر وقمنا بتدريب من لا يعرف إطلاق النار ، ووفرنا لكل فرد سلاح شخصي للدفاع عن نفسه وقت الضرورة ، سارت الحياة بالنسبة لنا في أول الأيام في فرح وسرور ، إذ كنا نتذكر هجرة الرسول وننتظر اليوم الذي سنعود فيه إلى مصر فاتحين كما فعل الرسول عند خروجه من مكة ، وكان كل واحدِ منا يترك أهله الكفار ويهاجر في سبيل الله لا يفوته أن يردد هذه الأبيات الشعرية التي كانت تبث فينا الحماس والنخوة الإسلامية غير مهتمين بما قد يواجهنا من صعوبات فكل شيء يحدث لنا هو في سبيل الله ولإن متنا فلنا الجنة وإلا فالنصر حليفنا:
وداعاً يا ديار الاقربين وداعاً فقد تطول السنون
يعز علّي ترككم ولكن سأمضي أقصد الحق المبين
فقومكم ودياري تركوا كتاب الله رغم القارئين
كنا عندما نردد هذه الأبيات تمتزج فينا مشاعر الزهو والابتهاج بدموع الأسى والحزن على فراق الأهل والأصحاب.
كانت البلدة التي هاجرنا إليها تعاني من القلاقل والاضطرابات وحرب العصابات، وكان أهلها جميعاً مسلحين مما أتاح لنا فرصة حمل السلاح دون مضايقة من أحد ، بدأت أخبارنا تتسرب للجهات الأمنية هناك عن طريق البدو الذين كثيراً ما كانوا يتيهون في الصحراء فيلجئون إلينا لإرشادهم ، وذات يوم فوجئنا بسيارتين مدرعتين تقتربان من موقعنا رصدهم مسئول الحراسة من خلال التلسكوب الذي كان بحوزته ، وعندما وصلوا على بعد أمتار من المعسكر فوجئوا بمن يستوقفهم طالباً الاستفسار منهم عما يريدون ، طلبوا مقابلة أحدنا ليتعرفوا عن سبب إقامتنا في هذه المنطقة ، وإلى أي جهة نحن ننتمي ، إذ قد تولدت لديهم مخاوف كبيرة من أن نكون موالين للمنشقين هناك ، بعد حوار طويل كنت مشاركاً في بعضه اكتشفوا أننا لسنا من مواطنيهم بل نحن غرباء مما زاد من مخاوفهم تجاهنا ، وبعد عدة مناقشات كان علينا أن ننسحب من الموقع في يأس وأسى لعدم تمكننا من تنفيذ ما كنا نصبوا إليه ، وحيث أننا كنا في بلدة مجاورة لمصر فقد كان الرجوع إلى مصر سهلاً ويسيراً وغير مكلف ، لذا فلما لم نجد بد من الاستمرار في خطتنا قرر الجميع العودة للقاهرة ، تخلفت أنا وبعض الزملاء عن العودة لظروف خارجة ومكثنا وحدنا فترة طويلة تعرفنا خلالها على بعض الأخوة الذين كانوا قد شاركوا في حرب أفغانستان واقنعناهم بأن تلك الحرب ليست بهدف نصرة دين الله وبايعونا وأصبحوا اخوة لنا وقدموا لنا مساعدات كبيرة حتى رجعنا إلى مصر بطريق البر وكان ذلك في مطلع عام 1990.
تمّ القبض علينا بمنفذ الدخول للقاهرة واصطحبنا لوزارة الداخلية، وبعد فترة من التحقيقات أطلقوا سراحنا، حاولنا نحن ومن بقى على بيعته للجماعة إعادة ترتيب الجماعة وكنا نلتقي مرتين شهرياً وذلك لدراسة الأفكار الأساسية للجماعة وإعادة صياغتها من جديد ، انتهينا من ذلك في فبراير 1990، ذات يوم طالعتنا الصحف عن طريق أحد الأخوة الذي كان متخصصاً في قراءة الكتب والمجلات والبحث عن كل شيء يتعلق بنشاط الجماعات الأخرى في العالم إلا أنه فجأة جاءنا ووجهه محمراً قائلاً : هل علمتم بما في الصحف اليوم ؟ قلنا لا ماذا حدث ؟ قال لقد تم القبض على مجموعة مبشرين كانوا يقومون بتنصير المسلمين الاسميين نظير اغراءات مادية وغير ذلك أو توريطهم في علاقات جنسية ، وكان ذلك في شهر رمضان مما أثارنا جداً وجعلنا نشعر بالخزي والعار ، مما دفعنا لضرورة أن يكون لنا رد فعل إيجابي أمام هؤلاء الذين يأمرون بالمنكر إذ لا بد من تغييره ، لكن كيف نغيره ؟ هل باليد ؟ ذاك صعب جداً هل باللسان ؟ ذاك هو أضعف الإيمان ، لكن كيف ومتى ؟