2 - الفرس والروم:
ليس من الحكمة في شيء أن نُغمِض أعيننا عن تلك الأخبار التي تتحدث عن علاقة العرب بالفرس والروم ? وتلك الزيارات التي كان يقوم بها بعض ذوي الشأن من العرب لقيصر روما? أو لكسرى الفرس? فهذه الأخبار تحدد صورة العلاقات الدولية كما كان ينظر لها العرب? وإن كان هناك الكثير من المبالغة في حقيقة من يطلق عليهم العرب لفظة قيصر أو كسرى? وهل هم فعلاً هكذا أم هم مجرد بعض الحكام الموالين لفارس وروما. فإن هناك أمراً هاماً في كل هذه الأخبار? وهو نظرة العرب لهؤلاء الحكام على أنهم فرس ورومان? وهذا جعل العرب يتطلعون لكل شيء في بلاط هؤلاء الولاة ويحاولون محاكاته.
ومن المرجح أن يحاول بعض سادة القبائل محاكاة تلك النظم القانونية التي عرفوها في زيارتهم المتعددة للشام واليمن. وقد روت كتب التاريخ العربي الشيء الكثير عن تلك الزيارات بدئاً من أمرئ القيس وانتهاء بعثمان بن الحويرث (المعروف بالبطريق) الذي حاول أن يكون والياً على مكة من قبل قيصر? ولكن رفضه المكيون? فيذكر جواد علي أن عثمان طمع في ملك مكة? فلما عجز عن ذلك? خرج إلى قيصر? فسأله أن يملكه على قريش وقال: احملهم على دينك ? فيدخلون في طاعتك ? ففعل وكتب له عهداً وختمه بالذهب? فهابت قريش قيصر وهمّوا أن يدينوا له? ثم قام الأسود بن عبد المطلب? فصاح: إن قريشاً لُقاح! لاتُملك ولا تُمَّلك وصاح الأسود بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لُقاح لاتدين لملك فاجتمعت قريش على كلامه? ومنعوا عثمان بن الحويرث مما جاء له? ولم يتم له مراده (المفصل 4:92). وهناك موقفان حدثا بعد الإسلام قد يوضحان لنا مدى اهتمام العرب بأمور الفرس والروم? أولهما هو ما يرويه صاحب السيرة الحلبية من أن النبي استشار أصحابه بعد الهجرة في كيفية جمع الناس للصلاة? فقال بعضهم بالقرن? وقال بعضهم بالناقوس? وقال بعضهم بالنيران. (السيرة الحلبية 2:297). أما الموقف الثاني فيرويه السيوطي قال: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه فقال بعضهم: سموه إنجيلاً? فكرهوه? وقال بعضهم: سموه سفراً فكرهوه من يهود? فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف? فسموه به (الإتقان للسيوطي 1:148). فهذان الموقفان يوضحان وقوف العرب على كثير من أمور الفرس والروم والأحباش? مما جعلهم يلمون بكيفية جمعهم للناس للصلاة? وأسماء كتبهم المقدسة. بل أننا لانبالغ إذا قلنا إن العرب تأثروا بهؤلاء إلى حد كبير? أو على الأقل حاولوا الاقتداء بهم. فهذان الموقفان يتناولان أكثر المقدسات الإسلامية? الصلاة والمصحف? ومجرد تفكير الصحابة في هذه الأسماء والطرق لدليل كاف على أن العرب لم يروا غضاضة في الاقتداء بالفرس والروم في أي شيء. فالصحابة هم أولاً وأخيراً عرب ? وقد تكونت ثقافتهم ومعرفتهم قبل الإسلام? مثلهم مثل باقي عرب الجزيرة في هذا الأمر. وهم أيضاً من قطاعات مختلفة فكرياً واجتماعياً? واقتراحهم لتلك المسميات إنما يدل على نظرة العرب تجاه الفرس والروم? بل وعلى إلمامهم بكثير من أمورهم. وأحد هذه الأمور هي القوانين المتبعة في تلك البلاد? ولذا نجد تشابهاً بين بعض الأحكام العربية ومدونة جستنيان في القانون الروماني. وخلاصة القول إن العرب كغيرهم من الشعوب تأثروا بما يحيط بهم من دول وحضارات مختلفة? وعملوا على محاكاة مارأوا أنه صالح لواقع وظروف الجزيرة العربية? وكانت هناك عدة عوامل ساعدت على هذا التأثر مثل: رحلتي الشتاء والصيف? ووجود عدد غير قليل من العبيد الرومان في الجزيرة وهم من يسمون بالأحابيش.