الشريعة وواقع عرب الجزيرة
لم يكن العرب قبل الإسلام هذه الأمة الهمجية المنعزلة التي لاتفعل شيئاً إلا بمشيئة أربابها من الأصنام ? ولم يكن اهتمامهم محصوراً في الخمر والإبل والنساء. بل على العكس من ذلك. كان في الجزيرة العربية كثير من الحكماء وذوي الرأي? فقد كان هناك قُصي بن كلاب واضع لبنات الإمبراطورية العربية? وكعب بن لؤي الذي تتبع قُصي خطواته في تأسيس حكومة مكية? وهاشم بن عبد مناف التاجر الحاذق الذي استطاع أن يخرج بقريش من قوقعتها المغلقة لتحتك بالعالم في رحلتي الشتاء والصيف. كل هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن كان لهم الأثر الكبير في حالة الجزيرة العربية قبل الإسلام جعلوا شخصاً مثل أكثم بن صيفي حكيم العرب يقول مشيراً إلى بني عبد المطلب بن هاشم : يابني تميم إن الله إذا أحب أن ينشئ دولة نبَّت لها مثل هؤلاء? هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال (أكثم بن صيفي? ص 128). ولم تكن الجزيرة العربية أيضاً هذا المجتمع الذي لايحكمه شيء? بل إن هناك إرهاصات لقوانين منظمة وضعتها العقلية العربية -وإن كانت قليلة - تتناسب مع الواقع العربي واحتياجاته البسيطة. ولعل الزمن يكشف لنا عما يخبئه باطن الجزيرة العربية من آثار? ونجد بينها ما يشبه مدونة جستنيان في الفقه الروماني. فقد أثبتت الأبحاث الحديثة وجود أثر لمجرى مائي يمتد بطول الجزيرة العربية? ووجود هذا النهر يمكن أن يكشف لنا في المستقبل عن وجود حضارة مندثرة في الجزيرة العربية? ومن المحتمل أيضاً أن يكشف لنا عن وجود قوانين وشرائع لم يكشف عنها التاريخ العربي للآن.
وكما رأينا فيما سبق أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا عُزلاً من القوانين التي يدبرون بها شئونهم ? ورأينا أيضاً اتفاق هذه القوانين مع بعض القوانين التي جاء بها الإسلام. فالواقع التاريخي يؤكد على أن الإسلام لم يأت بمعزل عن الواقع المحيط به? ولم يأت كذلك بشرائع مجهولة - كلها أو بعضها - بالنسبة للعرب. وإذا سلمنا بعجزنا كبشر عن إدراك الماورائيات أو دراستها دراسة موضوعية? وإذا سلمنا أيضاً بأن الأمم لاتُولد ناضجة? قوية مكتملة الشرائع والقوانين?فيجب أن نسلم بأن الشريعة الإسلامية قد تأثرت بشكل أو بآخر بكل ما سبقها من شرائع. أو بمعنى آخر? إن الإسلام قد شرع للناس أمور دينهم? أما أمور دنياهم فقد تركها لهم? أو وافق على ما كان قائماً بالفعل. وبالرغم من علمنا بذلك? إلا أننا سوف نجد لدى الكثيرين آذاناً صاغية لمن يحاولون العودة بنا للخلف قروناً عديدة? ففي هذه الأيام نجد بعض من يرددون مقولات وهم ربما لايدرون أثرها إذا هي طُبقت كما يقولون. ولعل أشهر هذه المقولات التي ترددت أخيراً في مختلف المجالات الدينية هي مقولة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ? ونتيجة لهذه المقولة انتزع بعضهم آيات القرآن من سياقها وفسرها كما يحلو له فقالوا بظلم? وفسق? وكفر كل من يجرؤ ويفكر مجرد التفكير في أن يتحدث عن إمكانية وضع قوانين مناسبة للظروف الموجودة في المجتمع اليوم ? وطالبونا بتطبيق ما كان معمولاً منذ أكثر من ألف عام ? وحجتهم في ذلك آيات سورة المائدة 5:44-47 ونسوا أو تناسوا أن هذه الآيات تتحدث عن اليهود والمسيحيين ? وعن التوراة والإنجيل.ولم يقل أحد بأن هذه الآيات نزلت في شأن المسلمين ? أو في قضية الحاكمية. وبنفس الطريقة اقتطعت الآيات من سياقها? وعُزلت عن أسباب نزولها لا لشئ إلا لتكفير مجتمع بكامله واستباحة أمواله وأرواح من فيه. والحجة القوية للمُكفرين إن العبرة بعموم اللفظ . فإذا تكلم القرآن عن اليهود والتوراة? فيجوز أن تُطبق الآية على المسلمين والقرآن. وإذا جاء في السيرة أن رسول أمر بقتل كعب بن الأشرف لأنه كان يهجو النبي(السيرة الحلبية 3:146)? فمن الممكن أن يقتل أي شخص بحجة هجائه لهم. وهكذا اختلط الحابل بالنابل? وصار توجيه النقد لشيوخ توظيف الأموال ردة وطعناً في رموز العقيدة? والمطالبة بإعمال العقل في أمور الحياة إلحاد وزندقة? وقتل الأفراد وترويع الآمنين مجرد افتئات على السُلطة (الافتئات:هو الاستبداد بالرأي دون مشورة). ولم يعدم هؤلاء فقهاء يحلون لهم كل ما يريدون حله? ويحرمون ما يريدون حرمته. ولو تعاملنا مع هؤلاء بنفس المنطق واستعملنا نفس الأسلوب? لقلنا لهم: لقد قررتم أن العبرة بعموم اللفظ فهل توافقون على عموم كل الألفاظ? ولكي لايكون كلامنا مبهماً سنحاول أن نضرب بعض الأمثال حتى يتضح ما نقصده.
عن ابن مسعود قال: دية الخطأ أخماساً? عشرون جذعة? وعشرون حُقة? وعشرون بنات لبون? وعشرون بنو لبون ذكور? وعشرون بنات مخاض (سنن الدارقطني 3:172).
ونحن نسأل:هل يطلب منا دعاة العودة للخلف أن يتضمن التشريع الجنائي الإسلامي هذا النص ? أم سوف يسمحون بأن يوضع في القانون ما يقابل بنات المخاض ? وبنات اللبون?
لعل الموقف ليس هيناً? فإذا هم أصروا على وضع هذا النص كما هو? فكم من القضاة والمحامين يعرف الفرق بين الحقة والجذعة. وإن طالبوا بوضع ما يقابل ذلك بلغة العصر خرج عليهم بعض الشباب - كما يخرجون علينا كل وقت - واتهموهم بأنهم يشرعون من دون الله ويضعون قوانين ما أنزل الله بها من سلطان? وأنهم فاسقون? ظالمون? كافرون... - إلى آخر كل هذه الألفاظ التي يتقنها دعاة التأسلم السياسي - والسبب في كل هذه الاتهامات التي قد يُرمى بها هؤلاء الذين يرموننا بها اليوم? هو مقولتهم العبرة بعموم اللفظ . ولا مفر من التسليم بأن هناك طريقين لاغير? الأول: طريق إعمال العقل والبحث عن منظور جديد لقوانين تتناسب مع معطيات العصر الذي نحياه مع الالتزام بالمبادئ الإسلامية في التشريع? والثاني الوقوع في متاهة بنو المخاض? وبنو اللبون. وهناك مقولة اخرى شغلت حيزاً كبيراً من كتب الفقه الإسلامي? وهي لاعقوبة إلا بنص ? والنص المقصود هنا ليس نصاً قانونياً? وإنما المقصود هو وجود نص واضح في القرآن أو الأحاديث الصحيحة - وهذا الكلام جميل ولا نعترض عليه - ولكن لنا سؤال: ماذا عن الجرائم المستحدثة? وماذا عن النصوص التي يستحيل تطبيقها? فمثلاً يُروى عن ابن عباس قال: قال رسول الله ليس على العبد ? ولا على أهل الكتاب حدود (الدارقطني 3:87) فهل إذا تم تطبيق هذا النص سوف تستقيم الأمور? أي إذا ارتكب المسلم أي مُحرَم يقام عليه الحد? وإذا ارتكب واحد من أهل الكتاب نفس الجريمة لايعاقب لعدم وجود نص! أليس في هذا عدم مساواة بين رعايا الدولة الواحدة بل وفي جريمة واحدة? هل عرفنا الآن خطورة الأمر? وإننا في حاجة لأن ينقذنا دعاة التأسلم السياسي باجتهاد مستنير يتوافق مع معطيات العصر الذي نحياه? أم أنهم يفضلون الحياة في الماضي وأحلامه? والاعتماد على فتاوى ابن تيمية? وابن القيم ومحاولة تطبيقها الآن. إن أكثر من يسيء إلى الإسلام في وقتنا الحاضر هم المسلمون أنفسهم? فقد أعطوا للعالم أنطباعاً بأنهم يعشقون العيش في الماضي ويجترون أفراحه وأحزانه? حتى أصبح الإسلام - بفضلهم - يعني العودة للماضي السحيق. وبدلاً من أن يحاولوا مجابهة الحضارة العالمية? أخذوا يصرخون ويذرفون الدمع زاعمين أن الإسلام مستهدف من كل دول العالم. والواقع يقول إن الإسلام مستهدف فعلاً? لكن من دعاة التأسلم أولاً. فلو حاول كل أعداء الإسلام أن يسيئوا إليه بكل الوسائل لما استطاعوا أن يفعلوا ما فعله المتأسلمون بالإسلام? فقد حولوه من دين يأمر بعبادة لله_ ويحض على مكارم الأخلاق? إلى قنبلة ومدفع? ومن دعوة الي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة? إلى دعوة إلىسبيلهم بالجهل والتعصب? ومن المجادلة بالتي هي أحسن? إلى المجادلة بالتي هي أشد انفجاراً.