حد الردة :
إن حد الردة من أكثر الحدود التي أسيء فهمها وإستغلالها? فقد أُلقي هذا القفاز في وجوه كثيرين على مدار التاريخ الإسلامي? وأول من قتل لأن المخالفين له بكفره هو عثمان بن عفان? فقد قالت عائشة: أقتلوا نعثلاً? لعن الله نعثلاً (ضحى الإسلام 3:252)? ونعثل اسم لرجل مسيحي من المدينة كانوا يشبهونه بعثمان لعظم لحيته) . ثم تذكر كتب السيرة بعد ذلك منع الناس من الصلاة عليه ودفنه بحش كوكب - مقابر اليهود بالمدينة - وأثناء احتضار عثمان نزا عليه عمير بن ضابئ فكسر أضلعه? ومُنع الناس من الصلاة عليه أو دفنه مدة ثلاثة أيام (تاريخ الرسل والملوك? الطبري? 4:412 وما بعدها ). وفي فترة الخلافة العباسية قتل الحلاج بدعوى كفره وارتداده ? فصُلب وقُطعت أطرافه وحُرقت جثته (البداية والنهاية? ابن كثير? 11:139 وما بعدها ). وفي خلافة أبي جعفر المنصور قُتل ابن المقفع بتلفيق تهمة الكفر له? لأنه أرسل خطاباً إلى الخليفة يوصيه بتقوى الله? فما كان من الخليفة إلا أن اتقى الله - بطريقته الخاصة - وأمر بشيّ أطراف ابن المقفع وإطعامها له (البداية والنهاية? ج 9ص 96ـ الخلافة الإسلامية? العشماوي? ص 177). أما في العصر الحديث فقد قامت جماعة التكفير والهجرة بقتل الشيخ الذهبي? ولن نحاول أن نستنتج التهمة الموجهة للشيخ? بل سندع أميرهم شكري مصطفى يجيب عن ذلك. ففي تحقيقات النيابة معه سُئل:
س: وما رأيك في المرحوم الشيخ الذهبي? أمسلم هو أم كافر?
ج: هو عندي كافر.
س: وما دليلك?
ج: دليلي أنه يعمل في هيئة الأوقاف? وكان وزيراً لها ومديراً للإشراف على مساجد الضرار? وقد أقسم اليمين على الحكم بغير ما أنزل الله في قَسَم الوزراء? وهذا لا يمكن أن يعتبر جهلاً منه وجوب الحكم بما أنزل الله? ولبعد الدولة والمجتمع عن الإسلام.
س? وهل هو مستحق القتل?
ج? من الناحية النظرية نعم ... ومن الناحية العملية لا... (النبي المسلح? رفعت سيد أحمد? ج أول الرافضون ص 103), أعلم أن البعض سيقولون: إن هذا المثال الذي اخترته لايعبر عن رأي الإسلام لأن جماعة التكفير لاتمت للإسلام بصلة? ولكني ألفت انتباه القارئ إلى أني لا أناقش فكر الجماعة أو اتجاهاتها? وأن من يقولون ذلك سوف يقعون دون شك في نفس الخطأ الذي وقعت فيه جماعة التكفير? ألا وهو اتهام الآخر بالكفر والخروج عن صحيح الإسلام ولم ينتهِ المسلسل عند جماعة التكفير? ولكنه امتد بعد ذلك للجماعة الإسلامية? أو كما تسمى أمنياً تنظيم الجهاد ? فهذه الجماعة بدأت بتكفير المجتمع? والعمل العسكري ضد مخالفيهم منذ أواخر السبعينات وحتى الآن. وهذا محمد عبد السلام أمير التنظيم يقول في كتيبه الفريضة الغائبة : فحكام هذا العصر في ردة عن الإسلام تربوا على موائد الإستعمار? سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية . فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء? وإن صلى وصام وادّعى أنه مسلم . وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة ? منها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزاً عن القتال? بخلاف الكافر الأصلي الذي هو من أهل القتال? فإنه لايقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد. ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد (النبي المسلح? 1:130) .
والملاحظ أن تهمة الردة والكفر تُلصق غالباً بالمخالفين في الرأي .. وفي الرأي فقط. فأشهر من اتهموا بالارتداد لم يحمل أحدهم سيفاً على معارضيه? وما كان يوماً عنيفاً? وقد أُلقيت هذه التهمة على بعض أئمة الإسلام كأحمد بن حنبل فيما يعرف بفتنة خلق القرآن.
و هذا مولانا أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان يقول: إن هناك طريقان لا غير للتعامل مع المرتد: إما أن نعتبره مجنوناً ونتركه حياً مع حرمانه من كل حقوق المواطنة? أو أن نُنهي حياته بالقتل. ومن المؤكد أن الطريقة الأولى أشد قسوة من الثانية? لأنها تجعله لا حياً ولا ميتاً? فالقتل أفضل له? إذ يضع نهاية لعذابه ولعذاب المجتمع في وقت واحد (عقاب المرتد? أبو الأعلى المودودي? نقلاً عن مرتد كي سزا إسلامي قانون مير بالأردية ? لاهور? 1981). يا لها من رحمة من مولانا المودودي ? ويالها من طريقة جديدة لاستنباط الأدلة الشرعية! لقد اتفق المسلمون عبر التاريخ على أن مصادر التشريع الإسلامي هي: القرآن الكريم? والسنة النبوية المطهرة? والقياس? وإجماع الأئمة? ولكن هاهو المودودي يضيف لنا مصدراً جديداً للتشريع? ويقرر المودودي حلاً لمشكلة المنافقين في المجتمع الإسلامي - حسب مفهومه - أنه حينما تقع الثورة الإسلامية.. يُعلن جميع المسلمين غير الملتزمين تحوُّلهم عن الإسلام? وخروجهم من المجتمع المسلم .. وذلك خلال عام واحد. وبعده يعتبر المسلمون بالمولد مسلمين ? وتسري عليهم كل القوانين الإسلامية (عقاب المرتد? ص 81). ألم نقل إنه مصدر جديد للتشريع يضعه المودودي? حيث يقرر من هو المسلم ومن هو المرتد? وما هي المدة التي يستحقها غير الملتزمين بالإسلام - حسب فهم مولانا - ليخرجوا من دين الله أفواجاً. ولو كان المودودي وحده هو صاحب هذا الرأي لكان الأمر هيناً? حيث يمكن أن يعتبره البعض متطرفاً? ولكن نفس هذا الرأي صدر مؤخراً من أحد أكثر المعتدلين - إن صحت التسمية - وهو الشيخ محمد الغزالي? فقد سأله الكاتب الصحفي صلاح منتصر? من أن هناك بعض الدارسين الذين يشككون في حد الردة? ويقولون: إنه ليس موجوداً صراحة في القرآن الكريم? فهل هذا صحيح? فأجاب فضيلته: نعم لم يرد في القرآن الكريم قتل المرتد? وإنما وردت بذلك السنن الصحاح. وعندي أن جريمة الردة متفاوتة السوء والخطر? وقد تستحق القتل إذا ساوت ما نسميه الآن الخيانة العظمى? أو ما نسميه الخروج المسلح على الدولة. وقد تكون شُبهة عارضة يُكتفَى فيها بالتوبة النصوح. وأمام القضاء تُعرف الحقيقة ويتحدد العقاب العدل ويُوزن خطأ كل فرد!! (مجرد رأي? جريدة الأهرام القاهرية? ص 9? بتاريخ 21/7/93). وفي شهادته أمام القضاء قال الغزالي إن له رأياً خاصاً في تطبيق حد الردة ? وهو أنه يجوز للحاكم إيداع المرتد في سجن مؤبد .. ولو أن المرتد هرب فلا يجري البحث عنه (مجلة أكتوبر? العدد3592? 13/7/1993م? ص 21). وهذا الرأي الأخير للشيخ الغزالي يحدد مدى تيقن الشيخ من حد الردة? فلو كان يراه حداً لما قرر - برأيه الشخصي - عقوبة أخرى غير القتل? وإلا كان يشرع من دون الله? وهو ما نستبعده على الشيخ الجليل. وكما أن هناك رأي مولانا المودودي? وشيخنا الغزالي فهناك رأي أخر وهذا الرأي لأحد المرتدين - حسب فهم المودودي - الذين يجب قتلهم? وهو مرزا طاهر أحمد إمام الطائفة الأحمدية فيقول في كتابه القتل باسم الدين : إن حرية التحول من دين وإليه هي المحك الحقيقي لمبدأ لا إكراه في الدين? إذ لايمكن أن تكون الحرية في اتجاه واحد? هو اتجاه دخول الإسلام? ثم لا مخرج منه (القتل باسم الدين? مرزا طاهر أحمد? لندن? ص 69). ويقول في موضع آخر يتحدث رجال الدين المسلمون بصوت عال عن الحرب المقدسة.. والتدمير النهائي للقضاء على القوى غير الإسلامية? وهم في الحقيقة لايقصدون بالقوى غير الإسلامية قوى المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الإلحادية.. وإنما يعنون بها كل من سواهم من الطوائف الإسلامية الأخرى.. فهم أعداء الإسلام.. إما بسبب خصائص معينة فيهم? أو بسبب عقائدهم التي تجعلهم محط لعنة الله وعباده الصالحين! فليس أعداء الإسلام الحقيقيون - في نظرهم - هم غير المسلمين? وإنما هم بعض الطوائف الإسلامية في عالم الإسلام. والميول النضالية المناهضة تتوجه من طائفة إسلامية ضد طائفة إسلامية أخرى أكثر من توجهها ضد غير المسلمين. وهذا هو السبب في إصرارهم على عقوبة الإعدام للمرتد. إنه سلاحهم الذي يشهرونه ضد الأقليات الإسلامية الذين يخالفونهم في مسألة مذهبية شائعة بين غالب أهل هذا البلد. هذه الطوائف - المناضلة - توزع ضربة الموت في طعنتين: الأولى إعلان أن عقائد مخالفيهم غير إسلامية? أي تعدهم مرتدين? والثانية القول بأن عقوبة الارتداد هي الموت? ومن ثم فهم يستحقون الإعدام (القتل باسم الدين? ص 125).
و لو تأملنا القرآن حول آيات الردة نجد أنه قد تكلم عنها في عشر آيات إحداها مكية. وهذه الآيات لم تقرر أي عقوبة دنيوية للردة? بل تُوقف العقاب كله على الآخرة? ولنقرأ معاً هذه الآيات جيداً.
جاء في سورة البقرة وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِا للَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (البقرة 2:126).
وفي سورة آل عمران كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (آل عمران 3:86-91).
وفي سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (النساء 4:137).
وفي سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة 5:54).
وفي سورة النحل مَنْ كَفَرَ بِا للَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِا لْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِا لْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النحل 16:106)
وفي سورة مُحمد إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (محمد 47:25) وكما نرى لم تقرر هذه الآيات أي عقوبة على المرتد بل على العكس فآية النساء 137 تنفي أي احتمال لعقوبة ما? فلو كانت عقوبة المرتد هي الإعدام كما يقولون? لما كان للمرتد هذه الفرصة في التردد بين الكفر والإيمان? وبالرغم من أن آيات القرآن تنفي زعم عقوبة الردة تماماً إلا أننا نجد أن بعض المتفقهين يحاولون إيجاد أسانيد لها بأي وسيلة. أما أدلتهم فهي هذه المجموعة من الأحاديث التي نعرضها مع تحليلها من حيث المتن والسند.