الأحاديث الموضوعة:
لم تمضِ على وفاة النبي أكثر من خمس وعشرين سنة حتى بدأت الآراء المختلفة تظهر? والعصبيات القبلية القديمة تسود? وكانت الفتنة الكبرى والتي راح ضحيتها كثير من المسلمين وعلى رأسهم عثمان بن عفان? بأيدي إخوانهم المسلمين? وكما شُرع وقتها قتال أهل القبلة بالسلاح? دون تكفيرهم? فقد ظهرت وسائل أخرى أمضى من كل السيوف التي رُفعت في الحرب? ألا وهي التوثيق الديني للآراء السياسية. ولتأكيد الآراء بدأ كل فريق ينسب ما قاله للنبي, ويقول الأستاذ محمود أبو ريّة: وقد أجمع الباحثون والعلماء المحققون على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته? ثم اشتد الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي? فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغتصب الخلافة من أصحابها ويجعلها حكماً أموياً (أضواء على السنة المحمدية? محمود أبو ريّة? ص91). ولم تكن الأسباب السياسية هي فقط الدافع لوضع الحديث النبوي? بل كان هناك أيضاً المكاسب المادية? والعصبية القبلية? بل إن البعض وضع الحديث على النبي ظناً منهم أن هذا في صالح الإسلام? وهذا مثل ما يروى عن أبي عمار المروزي: قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي: من أين لك عن عكرمة? عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة شئ منه? فقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن اسحاق? فوضعت هذا الحديث حسبة ? وكان من هؤلاء الوضاع من يظن أن هذا جائز في الشرع لأنه كذب للنبي لا علي (الآثار المرفوعة? اللكنوي? ص 14). وأما من جهة المكاسب المادية فيروى أن غياث بن إبراهيم قال للمهدي حين رآه يلعب بالحمام: أن النبي قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح فزاد فيه جناح? فأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم? وأمر بذبح الحمام وقال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله (السنة قبل التدوين? محمد عجاج الخطيب? ص 217). وقد تُزال دهشتنا? أو تزيد? حينما نعرف أن البخاري قال: أحفظ مائتي ألف حديث صحيح? ومائتي ألف حديث غير صحيح . ومسلم قال: أخرجت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ? ثم نجد أن ما أخرجاه في الصحيحين معاً حوالي عشرة آلاف حديث (شروط الأئمة? ابن طاهر المقدسي? ص 19). وهذا يعني أن هناك آلاف الأحاديث غير الصحيحة يرددها بعض الناس وهي تملأ بطون الكتب? وهذه الأحاديث لها رواتها والمولعين بها حيث أنها غالباً ما تحوي كل عجيب وغريب. أما الوضع في الحديث النبوي لأسباب سياسية مثل التشيع لعلي أو لمعاوية فكثير? بل إن البعض كان يضع الحديث لمجرد إستحسانه لرأي ما? مثل ما قاله حماد بن سلمة: حدثني شيخ من الرافضة قال كنا إذا اجتمعنا استحسنا شيئاً جعلناه حديثاً (الموضوعات? ابن الجوزي? 1:39). ويحدد الأستاذ عبد الرحمان عثمان في مقدمة كتاب الموضوعات لإبن الجوزي بعض الأسباب التي ساعدت على انتشار الوضع في الحديث فيقول: مات الرسول الكريم? وكان عدد من بقي بعد موته من أصحابه الذين رأوا وسمعوا منه? زهاء مائة ألف أو يزيدون? سمع منهم من التابعين وتابعي التابعين من لا يحصى كثرة.. من مختلف الأجناس وفي مختلف البقاع? وفي غمرة هذه الكثرة? وافتقاد ضابط الصحة للرواية? في الزمان والمكان? غافل الكذابون الناس ووضعوا ما شاءوا? وتعذر بل استحال حصر ما وضعوه. وانتهز الكذابون فرصة كثرة ما رواه أمثال أبي هريرة من الأحاديث الصحيحة عن النبي? بلغ ما رواه أبو هريرة عن النبي 5374 حديثاً? فوضعوا من الأحاديث المكذوبة شيئاً كثيراً ونسبوه للنبي زوراً عن طريق أبي هريرة? ليتوه كثيرهم المكذوب في كثيره الصحيح? وليشق تمييز صحيحه من سقيمهم..وقد كان (الموضوعات? ابن الجوزي? المقدمة? ص7).
إن السبب الواضح لكل هذا الكم من الأحاديث هو كيفية جمعها.ففي بداية الإسلام وقبل موت النبي لم يكن هناك من يقوم بكتابة الحديث النبوي? لأن النبي قال: لا تكتبوا عني? ومن كتب عني غير القرآن شيئاً فليمحه (مسلم بشرح النووي 5:847). وكما لم يقم أحد في عهد النبي بكتابة الأحاديث? كذلك لم يعن أحد بكتابتها في عهد الخلفاء الراشدين? وظل أمر جمع وكتابة الحديث لايتعدى محاولات فردية من بعض الفقهاء والمفسرين مثل: الزهري ومالك بن أنس? وحماد بن دينار? وسفيان الثوري? والليث بن سعد? وكان كل هؤلاء في فترة واحدة تقريباً وهي منتصف القرن الثاني الهجري? وكانت معظم كتبهم مقسمة لضعيف وصحيح? على حسب درجاته? وكان كل منهم يأخذ برأيه فقط في رجاله? فربما صح عند أحدهم ما هو ضعيف عند آخر. ولذلك قد نجد في بعض ما يرويه هؤلاء ما هو مردود أو ضعيف لا يحتج به. وبدخول القرن الثالث الهجري بدأ بعض أهل الحديث في العناية بتدوين وتدقيق الحديث? حتى وصلوا به إلى الصورة التي عليها كتب الحديث اليوم (أحاديث الرسول? عبد المنعم النمر? ص 72 وما بعدها).
وكما نرى فأول بداية حقيقية لجمع وتدوين الأحاديث كانت في منتصف القرن الثالث الهجري? أي بعد حوالي 240 سنة من وفاة النبي? وهذه الفترة حفلت بالكثير من أنواع البدع التي ظهرت في بداية ظهور الإسلام? فقد ظهر في هذه الفترة: الخوارج? والشيعة? والمرجئة.. وغيرهم كثير من الطوائف الإسلامية. والنتيجة الطبيعية أن نرى في موضوع الخلافة قدراً كبيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة? بل قد نجد بعضاً من هذه الأحاديث صحيحة سنداً ولكنها تخالف ما جاء في القرآن أو الأحاديث الصحيحة مثل ما رواه الترمذي عن زياد بن كُسيب? قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب? وعليه ثياب رِقاق. فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُساق . فقال أبو بكرة: أسكت? سمعت رسول الله يقول: من أهان سُلطان الله في الأرض أهانه الله (المشكاة? حديث رقم 3695). وعن أبي هريرة? قال: قال رسول الله: من أطاعني? فقد أطاع الله. ومن عصاني? فقد عصى الله. ومن أطاع الإمام? فقد أطاعني. ومن عصى الإمام? فقد عصاني (سنن ابن ماجة? حديث رقم 2859). والملاحظ على هذه الأحاديث أنها اللبنات الأولى التي وضعت في تقرير فكرة الحكم بالحق الإلهي وهي الفكرة التي لاقت رواجاً طوال فترة الحكم الأموي والعباسي? وهي الفكرة التي لانجد لها سنداً في كتاب ولا سنة. وعن معاوية? قال: قال رسول الله: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله واعدل (المشكاة? حديث رقم 3715). وعن عبد الرحمان بن أبي عميرة? عن النبي أنه قال لمعاوية: اللهم اجعله هادياً مهدياً? واهد به (المشكاة? حديث رقم 6235). عن جابر بن سمرة? قال: سمعت رسول الله يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفةً? كلهم من قريش . وفي رواية: لا يزال أمر النَّاس ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من قريش . وفي رواية: لايزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة? أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (مشكاة المصابيح? 3:1688? حديث رقم 5974). فهذه الأحاديث رغم صحتها إلا أنها تتعارض مع نصوص أخرى صحيحة مثل ما رواه البخاري عن أنس أن رسول الله قال: أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة (المشكاة? حديث رقم 3663). إن وضوح وتعارض الرؤية السياسية في الأحاديث السابقة لأمر يبعث على التساؤل حول مدى صحة هذه الأحاديث. إنني أعتقد أن الصواب قد جانب بعض المتفقهين وهم يحاولون التوفيق بين كل هذه الأحاديث فقد وجدوا أنهم مضطرون إلى تحميل الأحاديث ما لا تحتمله? مثل قولهم في حديث أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة قال بن بطال عن المهلب: لا تجب الطاعة للعبد إلا إذا كان المستعمل له إماماً قرشياً? لأن الإمامة لا تكون إلا في قريش (نيل الأوطار? للشوكاني? 8:266). لقد تولى الخلافة الكثير من الحكام الذين ينتمون لقريش? فهل كان الإسلام عزيزاً في ظل حكمهم? وبنفس الأسلوب يحاول البعض أن يوفق بين كل ما يُروى من الأحاديث.
و بالرغم من أن صحة سند وتسلسل رواة هذه الأحاديث? إلا أن هذا لا يعني بالضرورة صحة المتن. لقد أنصف الإمام الغزالي الحديث بحق في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث فقال فيه: ألم تر إلى ابن حجر على صدارته في علوم السنة قوَّى حديث الغرانيق? وأعطاه إشارة خضراء? فمر بين الناس يفسد الدين والدنيا...وفي هذه الأيام صدر تصحيح من الشيخ الألباني لحديث لحم البقر داء وكل متدبر للقرآن يدرك أن الحديث لا قيمة له? مهما كان سنده ويقول: عيب بعض الذين يشتغلون بالحديث قصورهم في تدبر القرآن وفقه أحكامه فلم الغرور مع هذا القصور? ولماذا يستكثرون على غيرهم من رجال الفكر الإسلامي الرحب أن يكتشفوا علة هنا أو شذوذاً هناك? (السنة النبوية ص 20 و21).
لعل الأمر اتضح الآن أمامنا. إن من ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة ويدعون أنها موجودة في بطون الكتب لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذه الكتب? ولو هم فعلوا لأراحوا واستراحوا? فلعلهم يعلمون? إن هم أرادوا? إن الأمر كان محض ملك وسياسة أُلبست عباءة الدين? وادعى أصحابها أنهم حكام بأمر الله وأنهم ظل الله في أرضه. وفي هذه الأيام عادت الدعوة من جديد للحكم بالحق الإلهي? وهي دعوة ظاهرها الرحمة وباطنها الخلافة العباسية? فالذين يريدون هذا الشكل من الحكم لا يريدون حكم الإسلام? بل يريدون حكم الإسلام كما يفهمونه هم. وينسى هؤلاء أو يتناسون أن هناك دائماً وجه النظر الأخرى والاجتهاد الآخر. إنهم يقررون تكفير من يحدد عقوبة أخرى غير التي وردت في كتب الفقه. أما وجه النظر الآخرى هنا فهي ليست لأحد الذين يمكن أن يتهموا بالعمالة والخيانة? بل هي للخليفة العادل عمر بن الخطاب? فعمر لم يعطل الحد عام الرمادة فقط? بل إنه قام بإلغاء سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاه? وهو ثابت بنص قرآني لم يُنسخ (الإجتهاد? عبد المنعم النمر ص 93 وما بعدها). والسؤال: هل ما فعله عمر? وحجته في ذلك? كافيان لإقناع هؤلاء بوجود اجتهاد آخر مع وجود نص أم لا? إن الأمر الغائب عن هؤلاء هو وجود نصوص مرتبطة بواقع البيئة والزمن الذي قيلت فيه? وإن كل الأوامر والنواهي ليست واجبة التنفيذ? يحسن بنا أن نفسر ما نقصده هنا قبل أن نتهم بالكفر والمروق من الدين? إن هناك كثيراً من الأخبار الصحيحة الثابتة عن النبي ليست ملزمة التطبيق? مثل ما يرويه البخاري عن أبي هريرة قال: إن رسول الله قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كلَّه ثم ليطرحه? فإن في أحد جناحيه شفاء والآخر داء (البخاري? 4:158). فهذا الحديث رغم صحته? إلا أن هناك كثيراً من العلماء من رفضه جملة وتفصيلاً? فقد أثبت العلم الحديث أن الذباب كله أضرار? وهذا مما لايشك فيه عاقل? ورفض هذا الحديث تنزيهاً للنبي أن يقرر مثل هذا الكلام. وهناك حديث آخر أثبت صحته بعض رجال الحديث? وهو ما رواه إبن ماجة في باب الديات عن أبي جُحفة? قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم شئ من العلم ليس عند الناس? قال: لا. والله ما عندنا إلا ما عند الناس. إلا أن يرزق الله رجلاً فهماً في القرآن. أو ما في هذه الصحيفة? فيها الديات عن رسول الله? وأن لا يقتل مسلم بكافر (إبن ماجة 2:887? حديث رقم 2658). الحديث قد صححه أكثر من واحد من رجال الحديث? ورفضه أكثر من واحد من رجال الفقه? وقال فيه الغزالي: إن المتن معلول بمخالفته للنص القرآني النفس بالنفس (السنة النبوية ص 25).
هذا ما قصدناه من أن هناك أحاديث غير واجبة التنفيذ وإن صحّت سنداً? فهل اتضحت الرؤية? أم أننا ما زلنا ندفن رؤسنا في الرمال. معتبرين أن فهمنا للإسلام هو الإسلام? وأن من يخالفنا الرآي إما كافر أو مخدوع! إن مشكلتنا القديمة التي ما توشك أن تختفي إلا لتظهر من جديد هي: أننا لا نعرف كيف نختلف? فضلاً عن أن نتفق? ففي هذا الزمن لا نكاد نعرف أن هناك شيئاً ما يسمى الرأي الآخر? فمن يختلف معنا في الدين ..كافر. ومن يختلف معنا في تفسير الدين..كافر. ومن يختلف معنا في وجهة النظر السياسية..عميل. لقد صرنا لا ننظر إلا لأنفسنا? ولا نسمع إلا أصواتنا. ولكن الحمد لله? فهناك بقية من الرجال الذين يعرفون كيف يختلفون وكيف يتفقون. إن من أمتع الجمل التي قرأتها في الفترة الأخيرة هي تلك التي كتبها شيخنا الغزالي في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث فيقول: إذا استجمع الخبر المروي شروط الصحة المقررة بين العلماء فلا معنى لرفضه? وإذا وقع خلاف محترم في توفر هذه الشروط أصبح في الأمر سعة? وأمكن وجود وجهات نظر شتى? ولا علاقة للخلاف هنا بكفر ولا إيمان? ولا بطاعة ولا عصيان (السنة النبوية ص 34).
ما أجمل هذا الكلام! وما أعقله! إن ما يقرره شيخنا الغزالي هنا? وما نصرخ ليل نهار مطالبين به? هو وجود مساحة للخلاف المنطقي مع كل شئ? إذا ما توفرت وجهه نظر محترمة لهذا الخلاف? حسب تعبير الغزالي. وإذا لم نفعل? فعلى أهلها جنت براقش!