الفصل الثالث
الصابئة:
لم يرد في كتب التاريخ الإسلامي ما يشبع نهم الباحث حول الصابئين? لكن القرآن أشار إليهم أكثر من ثلاث مرات (البقرة 2:62? المائدة 5:69? الحج 22:17), وقد ربط الإخباريون بين الصابئة المذكورين في القرآن وصابئة حران والعراق وجعلوهم طائفيتن: حنفاء ومشركون (المفصل 6:701), وقد أطلق القريشيون هذه اللفظة على المسلمين في أول الأمر? وذكرت كتب السيرة أن قريش دعت النبي صابئاً (المفصل 6:703), ولعل سبب هذه التسمية أن العرب تستخدم هذا اللفظ لوصف الخروج على مُثل المجتمع وتقاليده,
والصابئون على ما تذكر الكتب الإسلامية? هم عُباد الكواكب? وقد قسمهم الشهرستاني إلى قسمين: أصحاب الروحانيات? وأصحاب التجسد, أما أصحاب الروحانيات فيقولون: إن للعالم صانعاً? فاطراً? حكيماً? مقدساً عن سمات الحدوث, والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله, وإنما يُتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه? وهم الروحانيون المطهرون جوهراً? وفعلاً وحالة , ويقولون: إن الأنبياء أمثالنا في النوع? وأشكالنا في الصورة? يشاركوننا في المادة? يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب? ويماثلوننا في الصورة? فمن أين لنا طاعتهم? وبأية مزية لهم علينا لزمت متابعتهم? (الملل والنحل - ج 2 ف أصحاب الروحانيات),
وقد كان لهم عدة هياكل أكبرها الشمس? ثم القمر? فالزهرة? وزحل? والمريخ? وعطارد? والمشتري? ولهم أيضاً هياكل أخرى مثل هيكل العلة الأولى? وهيكل العقل? وهيكل السياسة? وهيكل الصورة? وهيكل النفس (الملل والنحل - ج 1 ف أصحاب الهياكل), ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات خاصة يصورونها في الهياكل ويتخذون لها أصناماً تخصها ويقربون لها القرابين? وكانت لهم صلوات تقام في الليل والنهار تقترب في طقوسها من الصلاة الإسلامية? واختلفوا في عدد هذه الصلوات فهي ثلاثة عند الشهرستاني? وخمس عند البغدادي (الملل والنحل - 2:56 وما بعدها - فصل مزاعم الحِرنانية? بلوغ الأرب - 2:223 وما بعدها - الصابئة),
المفسرون والصابئة:
لعل الغريب في الأمر هو ما قرره بعض أهل التأريخ كالبغدادي - حسب رؤيته للقرآن - فيقول: وقداختلف الناس في الصابئين اختلافاً كبيراً بحسب ما وصل إليهم من معرفة عن دينهم? وهم ينقسمون إلى مؤمن وكافر إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِا للَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة 5:69), فذكرهم في الأمم الأربع الذين تنقسم كل أمة منهم إلى مؤمن وكافر, وذكرهم أيضاً في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناجٍ وهالك كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (سورة الحج 22:17), فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهما ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد - وهم المجوس والمشركون - في آية الفصل? ولم يذكرهم في آية الوعد بالجنة? لكنه ذكر الصابئين (بلوغ الأرب - فصل الصابئة),
فالبغدادي يقرر أن الصابئين منهم مؤمن ناج? وكافر هالك? ولعل هذا الموقف من عبدة الكواكب غريب بعض الشيء بالنسبة لشخص مثل البغدادي? ولكن إذا نظرنا إلى تشريعات الصابئة قد يتضح لنا الموقف أكثر,
تشربعات الصابئة:
سبق وقررنا انقسام الصابئة إلى طائفيتن وكان لكل طائفة منهم تشريعاتها الخاصة? فمنهم من كان يصوم شهر رمضان? ويستقبل الكعبة في الصلاة? ويعظم مكة? ويحجون البيت كل عام? ويحرمون الميتة والدم والخنزير? ويحرمون من ذوي القرابة في الزواج ما يراه الإسلام محرماً (بلوغ الأرب - فصل الصابئة), وكان الصابئون يصلون ثلاثة صلوات - إلا طائفة منهم كانت صلواتها خمسة كأوقات الصلاة الآن - ويغتسلون من الجنابة? ومن مس الميت? ويحرمون أكل الكلب وكل ما له مخلب من الطير? وينهون عن السكر في الشراب ويأمرون بالاختتان? والزواج بولي وشهود? ولا يُجيزون الطلاق إلا بحكم حاكم? ولا يجمعون بين امراتين ( الملل والنحل - ج 1 - فصل عبادات الصابئة وهياكلهم),
وكان من شرائعهم رجم الزاني المحصن? وقطع يد السارق اليمنى? والقصاص من القاتل,
لعل الموقف قد صار اكثر وضوحاً الآن فالإسلام لم يجد فروقاً جوهرية بين ما جاء به من شرائع وشعائر وما كان يفعله الصابئون? ولذا كان تقسيمهم إلى مؤمن وكافر? وكانت المرجعية في الإيمان أو الكفر هي: الإيمان بالله? والعمل الصالح? وما خلا ذلك فالله يفصل فيه بينهم? فالإسلام إذن لم يقرر هلاك جميع من سبقوه - حتى وإن ظلوا على اعتقادهم - ولكنه ترك الفصل في هذا - لأن الإيمان صلة شخصية بين الإنسان وربه لا يحكم فيها سوى الله,