اسمي:
مظفر
ميلادي
: تم في سنة 1969
.
كنت
الطفل البكر .. لعائلة متوسطة الحال في مدينة
تتسم بالجمال والهدوء.
كبرت
وتربيت على الإحساس بالمسئولية، كنت طفلا ليس
ككل الأطفال، لا ألعب كثيراً ولا انزل إلى
الشارع كأطفال الحي الذي أسكن فيه .. وكنت دائم
الالتزام باخوتي الاثنين ( المتوسط حسن
والصغير أنور ) لأن طبيعة عمل أبى في مدينة
أخرى غير التي نسكن نحن فيها أجبرني
للالتزام .. وجعلني العب دور أبى الغائب
اكثر أيام الأسبوع .
ومرت
الأيام والسنون دون مشاكل
لي ولعائلتي، فمن الناحية الاقتصادية نحن شبه
أغنياء، فتعليمي كان في مدارس خاصة. ومن
الناحية الدينية، كنا مسلمين نصلي ونصوم ..
نقيم الفرائض ولكن بشكل عادي غير متزمت أو
متعصب.
إلى
أن جاء اليوم الذي فجر كل علامات الاستفهام
بداخلي وغير مجرى حياتي .. من حياة عادية ..
إلى حياة مليئة بالمفاجآت والمتغيرات. هذا
اليوم يوم دخولي المرحلة الثانوية،هذه
المرحلة المهمة جداً بحسب رأيي لكل شخص، لأن
فيها يبدأ الإنسان في البحث عن ذاته.. في البحث
عن أشياء تعود أن يتلقاها دون فحص أو امتحان
أو حتى استفهام بديهي؟!!!
فكل
منا توارث دينه .. ولونه .. ولغته .. وجنسه لم
يختر أحد منا أي شيء من هذه الأشياء رغم
أهميتها وتأثيرها.. وتشكيلها لكل منا، فنحن
نتعامل بهذا التراث الجبري مع أنفسنا .. ومع
الله .. ومع الآخرين فمثلاً : نحن المسلمون
ولدنا وتربينا على كره اليهود وبعضنا تربى
على كرهه اليهود والمسيحيين، وعلى أننا نحن
المسلمون خير أمة أخرجت للناس، ولا يتخيل أحد
منا أن الآخر اليهودي أو المسيحي أو .. الخ على
صواب إطلاقا. هذه الفكرة ( صواب الآخر ) لا تأتي
حتى في الأحلام!!
وعلى
ما أظن أن قلة قليلة جداً هي التي تفكر في
البحث عن الأشياء التي تسلمتها بالوراثة.
وعلى مدى صحة هذا التوارث لأننا أن كنا نطالب
الأخر ( اليهودي أو المسيحي ) أن يبحث في تراثه
لاكتشافه وتنقيحه، لأننا على يقين مسبقاً انه
على خطأ، ونعتبرهم عميان لأنهم يقبلون تراثهم
دون فحص، فنحن بالأولى ينبغي أن نفعل ذلك (
المنطق يقول كما تريد أن يعاملوك الناس
عاملهم أنت أيضا) وعلى ما أظن أن إعادة البحث
في التراث .. و محاولة كشف حقيقته تجعلنا اكثر
تجذرا وثباتا في مناطق الصواب فيه وتجعلنا
مرنين ومتطورين ومتغيرين في مناطق الجاهلية
والباطل فيه فبالتأكيد إن الإله الحقيقي يحب
القوم الباحثين عن الحق وعن النور .. وعن الخير..
وعن الحياة الأفضل.
وبدأت
المرحلة الثانوية…
بعلاقات
جديدة .. ومدرسة جديدة .. مليئة بالمفاجآت
والتنوع ( وعلى ما أظن أن المدرسة لن تنسى في
تاريخها هذا الجيل) . تعرفت على طلبة ملحدين
لا تؤمن بوجود الله وعلى
طلبة من الجماعات الإسلامية المتعصبة إلى حد
العنف ، وعلى طلبة يحيوا سنهم ومراهقتهم .. غير
مهتمين بشيء غير البنات.. تنوع عجيب وثري ..
وبالذات بالنسبة لي .فمن حياة عادية تقترب إلى
حد الملل .. إلى حياة ثرية كماً وكيفاً.
وبدأت
اصنع علاقات متعددة وعميقة إلى أن تعرفت إلى
شخص أصبحنا في وقت قليل صديقين بمعنى الكلمة.{
أتخيل بعد 16 عام تقريبا من صداقتنا أن من لا
يختبر الصداقة الحقيقية يظل وحيداً إلى الأبد
.. لا يعرف معنى الدفء.. والمعية.. والصدق ..
والإخلاص .. لم يكتشف الآخر لانه لم يكتشف ذاته
أولاً .. "سامحوني فأنا متعصب للصداقة"
وكان صديقي الجديد ( باسل ) يحمل نفس
أفكاري عن الإنسانية باعتبارها ذات منبع واحد
هو أبونا آدم وأمنا حواء .. وان الإخاء
والصداقة هو الشعور الذي ينبغي أن يحكم كل
العلاقات الإنسانية وهو الوحيد القادر على
تخطي كل الحواجز الوهمية منها والحقيقية ( حيث
حاجز العقيدة واللغة واللون والجنس والطبقة )
وكان
يقول:
أن البشر لو عادوا لحقيقة الوحدة لم تكن هناك
حروب أو مجاعات ولا صبح العالم اكثر سعادة مما
نحن فيه الآن .. لأصبح العالم بيتاً صغير
لعائلة كبيرة .. حيث السلام والعدالة
والمساواة والحرية .
وكانت
هذه المبادئ هي شغلنا الشاغل حتى في علاقتنا
العاطفية كنا ننتمي لهذا النوع من الحب
الأفلاطوني .. ( هذا النوع من الحب الذي يقدس
الروح ولا يهتم بالجسد ) كانت لحظات وأيام
وسنين جميلة حقا .
كنا
مراهقين مثاليين .. نحمل قلب الأطفال .. وبراءة
الأطفال .. ودهشة الأطفال.
حيث
حلم اليوتوبيا ( المدينة الفاضلة ) كان حلمنا
المفضل والمُلح في اليقظة وحتى في المنام.
أتذكر
كنا نقضي ليالي كاملة في النقاش والقراءة ..
وكانت لعائلتي شقة أخرى غير التي نسكن فيها،
كانت بمثابة صومعتنا أنا وباسل .. كنا نقضي
اكثر أوقاتنا فيها نكتب، ونسمع الأغاني التي
نعشقها ونقرأ كل الكتب الممنوعة وغير
الممنوعة ( باعتبار الممنوع مرغوب ومن وجهة
نظري الممنوع مرغوب وأيضا مطلوب)
وكانت
ممنوعاتنا من نوع خاص. ليست هي بالسجائر أو
المخدرات ولكن ممنوعاتنا كانت من هذه الكتب
التي حرم علينا قراءتها، لأنها كانت محرمة.
(
ما تدخلنيش الجنة يارب لو للجنة سور ) صلاح
جاهين
وكان
صديقي باسل يثير أسئلة عديدة. أتذكر كان
يقول لي أن دعوة التحريف التي يعلنها الإسلام
عن اليهودية والمسيحية دعوة تسقط كل الأديان .
حتى الإسلام ذاته.
كنت
أقول له كيف؟! الإسلام الوحيد المحفوظ ..
والمهيمن عليه وأقول له الآية الشهيرة ( إن
نحن نزلنا الذكر وأنا له أتحافظون) فيقول، نحن
نصدق هذا الكلام لأننا مسلمون .. ولم يحاول أحد
منا أن ينظر لمسألة التحريف نظرة محايدة
وموضوعية بمعنى.. هل الله هو الذي أوحي
بالتوراة والزبور والإنجيل؟
أقول
له: نعم
فيقول
باسل هل مبدل لكلمات الله أو مغير لها.
فأقول
له الآيات التي تعلن انه لا تبديل لكلمات الله
و لا تغيير، فلا يقدر أحد من البشر أو حتى من
الملائكة أن يفعل ذلك لأن الله هو القادر
والقوي والجبار الذي يقدر أن يحافظ على كتبه.
فيقول
باسل: أنت تؤمن أن الله قوي وقادر على كل شيء
وجبار ولا مبدل لكلماته، فكيف سمح أن يحدث
التحريف ليس فقط لكتاب واحد من كتبه بل لجميع
كتبه ما عدا كتاب واحد.
فسمح
بتحريف التوراة الذي أنزله على موسى!!
وبعد
ذلك سمح بتحريف الزبور ( المزامير ) الذي أنزله
على داود!!!
وبعد
ذلك سمح بتحريف الإنجيل الذي أنزله على عيسى!!!!
وبعد
600 سنة تقريباً .. ستة قرون متكاملة .. أجيال
ماتت وأجيال عاشت على الضلال وعلى تحريف
الكتب المقدسة. آتى الله بكتاب لا يقدر أحد أن
يحرفه !!!!!
فجأة
اصبح الله قوي وجبار وغير مبدل لكلماته ، بعد
كل هذا التاريخ الذي حرفت فيه كتبه وضلت فيه
عباده ( بني إسرائيل الذي فضلهم على العالمين )
والقسيسين والرهبان الذين يتلون الكتاب
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر!!
كل
هؤلاء ضلوا ..
فهل
تتخيل معي اله لم يقدر أن يحفظ كتابه من
التبديل والتغيير والتحريف .. يقدر ان يحفظ
عباده؟!!
كنت
أفكر واصمت ولا أجد أجابه للرد عليه، لأنني
كنت أعلم أن القضية ليست في إيجاد حلول أو
إجابة تنقذ الله من المعضلة التي وضع نفسه
فيها .. ولم يضعه فيها أحد.
وفي
نفس الوقت كنت أثق في علامات استفهام صديقي
باسل وإنها استفهامات منطقية يسألها أي شخص
عاقل يفكر وكنت اعلم أيضا انه يحمل نية خالصة
لله لا يطلب منها رضا بشر أو متع الدنيا
الزائلة.
وكان
يقول
لماذا ندعي نحن المسلمون بتحريف الكتب
المقدسة وفي نفس الوقت ندعي بحفظ القرآن وحده
(
وكأن القرآن وحده هو كتاب الله ) فهل يوجد
لدى الله محاباة بين كتبه ورسله؟!!
وهل
لا يهتم الله بهذه الأجيال من البشر التي ماتت
في ضلال وهي تتخيل أنها ماتت على حق.. سنين من
الإخلاص يقرؤون الكتب بكل تقديس وبكل طهارة
وبكل تقوى وهي في الحقيقة كتب محرفة.
فيا
صديقي.. أنا لا أؤمن بان الله الحقيقي يفرق بين
أحد من كتبه ورسله ..ولا أؤمن حتى انه يفرق بين
أعجمي وعربي إلا بالتقوى..
ولذلك
يا صديقي ينبغي أن نسأل كل هذه الأسئلة ليس
لليهود أو للمسيحيين ولكن نسألها لله سبحانه
وتعالى. كنت اشعر أن باسل صادق في كل كلمة
يقولها، أتذكر أن بعض الليالي كنا نقضيها في
قراءة الكتب الثلاثة (التوراة والإنجيل
والقرآن ) نخرج التشابه والاختلاف بينهم.
كانت
أوقات جميلة .. رغم أنها كانت مرهقة جدا فكريا
ونفسيا .. لان النزاهة الفكرية والحياد في
البحث أمر ليس بهين.. فلا يوجد اسهل من أن تخرج
دينا صحيحا وآخر خطأ دون بحث حقيقي.. يرضي ذاتك
ويرضي الله.
وكان
باسل يقول لي
هل العملة الجيدة تكون أولا أم العملة
المزيفة تكون أولا؟
أقول
له طبعا العملة الجيدة الحقيقية أولاً ، وبعد
ذلك تقلد وتزيف .. فيقول المنطق يقول هذا ولكن
كيف يسمح الله أن يكون كتبه الثلاثة الأوائل
محرفة وكتابه الرابع ( القرآن ) هو الوحيد غير
المحرف .. كيف؟!!
أين
العملة الحقيقية التي نقيس عليها التحريف؟
الكتب الأولى؟ أم الكتاب الأخير؟!!
وكان
باسل
يتأسف كثيراً وهو يقول لي .. " سامحني يا
صديقي كيف يجرؤ شخص سمح بهذا التفريط في كتبه
أن يطالبنا بهذه الثقة في كتابه الرابع !!
هل
تصدقوا إنني كنت اقبل هذه الاستفهامات
الجريئة من باسل دون أدنى إحساس انه يسخر من
الله أو من القرآن أو من أحد. فأنا اعرفه بحق
انه يحب الله ويحترم الجميع .. لكنه فقط كان
يفكر بعدالة وبأمانة وبلا أي محاباة.. فكان
يقول لي دائما .. أن الآخرة لن ينفع فيها شفيع
إلا الحق. فكان باسل يثير كل الأسئلة
البديهية مثلاً كان يقول: كيف حرفت الكتب
المقدسة ومتي حرفت واين حرفت ومن حرفها؟!
وكثير
من الأسئلة التي لم ينشغل أحد من المسلمين
الأوائل ولا المتأخرين ( من السلف أو الخلف )
من أن يبذل القليل من الجهد للإجابة عليها
وكأن مسألة التحريف واضحة وضوح الشمس ولا
يجهلها إلا الجاهل!!!
وكان
صديقي باسل اكثر مني اهتماما بالأمور الدينية
والأخروية.
وفي
ذات ليلة من ليالينا الجميلة المليئة بالنقاش
والبحث.. اخترقنا الصمت نحن الاثنين في لحظة
واحدة ، ولمعت في أذهاننا فكرة أيضاً واحدة (
نوع من توارد الأفكار التي كنا نسمع عنه)
الفكرة كانت أن نصنع لنا ولأصدقائنا شبه كتيب
يحمل مبادئنا وأحلامنا وأفكارنا وحواراتنا
ولحظاتنا الجميلة.
في
نفس الوقت كان هذا الحلم يداعبني ويداعبه،
وبالفعل لم نترك اللحظة التي تحمل الحلم تعبر
علينا عبور الكرام دون أن نرصدها ونوقفها
ونبدأ في تحقيقها، وكانت هذه الليلة في سنة 1986
ليلة لا تنسى، كان اسم الكتيب ( لا نؤمن ) وكانت
أفكاره تدور حول ما لا نؤمن به ، أتذكر هذه
المقدمة المتمردة التي كانت تقول:
وفي
يوم جاءني باسل .. رأيت في عينيه شيء لم أره من
قبل، وكأنه يحمل سرا لا يقدر صدره أن يحتمله.
شعرت أن عينيه تسبق لسانه في إفشاء سره.
بدأ
يتمشى أمامي ويتكلم بصوت عال وكأنه يفكر بصوت
عال وليس يحاورني ( كان بالحق حوار خاص جداً)
وبدأ
يقول
: أنت تعلم أني ابحث منذ زمن بعيد واقرأ كل
الكتب المقدسة وغير المقدسة وكنت أحاول دائما
أن أكون محايدا ، فأنا لا ابتغي غير وجه الله
وليس لدي أي نية مسبقة في إعلاء دين عن دين آخر.
وبعد
وقت من البحث المرهق والليالي الباكية
الباحثة عن لحظة أمن وعن حضن أب يحتوي تيه
وترحال الابن الضال، لا اكذب عليك.. و أقول ان
طريق البحث المحايد رحب أو مفروش بالورود، بل
على العكس تماما في لحظات كنت اشعر أنى اغرق
داخل طوفان من الأسئلة التي ليس لها إجابة،
ولحظات أخرى كدت أتنازل عن هذه المحايدة
النزيهة وامسك بأي دين كغريق يمسك بقشة ، ولكن
لا اقدر أن أنكر أن قوة العلي كانت تظللني،
كنت اشعر في ذروة الإرهاق والإحباط برجاء
جديد يتسرب إلى روحي بقوة جديدة تعضد مفاصلي ..
تنهضني .. معونة جديدة تجدد منابعي .. وكانت هذه
الأشياء بمثابة علامات على الطريق.
كنت
في كل صباح اجدد عهودي بالاستمرار نحو الهدف
والمثابرة لاكتشاف الحقيقة لاكتشاف إلها
يصالحني مع السماء .. ويصالحني مع ذاتي ..
ويصالحني مع الآخرين.. كل الآخرين.. الأحباء
منهم والأعداء ، إلها يقدر أن يغير قلبي .. بل
يخلق في قلباً جديدا..
قلباً يعرف كيف يسبحه .. كيف يرحم .. كيف يغفر ..
كيف يرعى .. كيف ينير .. كيف يغير العالم إلى
عالم افضل.
فهل
تصدق يا صديقي أن هذا الإله الرائع العظيم
وجدته..
هو
مخلصي والهي وتاجي وعزي وسيدي وقضيتي ونضالي
.. يسوع المسيح .
صدقوني
رغم معرفتي الجيدة بباسل وبأفكاره المتطورة،
لكن لا اقدر أن أنكر أن خبر ارتداده عن
الإسلام نزل علي كالصاعقة. فصديقي الذي احبه..
قد ترك الإسلام وكفر، لم أستطع الرد عليه وشعر
هو بصدمتي فتركني بمفردي أعيد حسابات صداقتنا
وحسابات بحثي.
وبدأ
القلق ينتابني وشعرت أن الشك بدأ يتسرب إلى
مورثاتي ، وأن جذوري
تقتلع، فقلت لنفسي ان هذا الشعور بالشك الذي
أصابني .. أصابني لاني لا أعرف ديني حقا ، وغير
ملتزم التزاما كاملاً به ولعلي إن درست
الإسلام والتزمت بكل فروضه ونوافله لأصبح لدى
إجابات على كل الأسئلة التي تدور في رأسي ،
وحينئذ سوف يتبخر الشك من قلبي وينبت بدل منه
الإيمان الراسخ بالإسلام .. ديني ودين آبائي.
وبعد
ذلك سوف اقدر أن اهدي صديقي باسل الذي ضل
الطريق وكفر.
وبالفعل
ذهبت إلى باسل وقلت له كل ما يدور في نفسي،
وفوجئت برد فعله الذي كان بمثابة صاعقة أخرى
لي فهو لم يرفضني ولم يرفض ما قلته ولم يستاء
حتى ولو بوجهه ولكن على العكس إطلاقا، كان
فرحاً بما وصلت إليه وكأنه كان يريد مني أن
ادرس الإسلام وان
التزم بحق وان أصير مسلما بكل ما بالكلمة من
معنى.
فشجعني
باسل وقال لي
( الحق لا يعرف برجال ولكن الرجال يعرفون
بالحق ) وان الله لم يترك شخصا يبحث عنه بصدق
يقع في الضلال! ولذلك أنا لا أخاف عليك كما لا
أخاف على نفسي. فأستمر فيما أنت مزمع أن تفعله
ولتلتزم بالإسلام والله الموفق.
ولكن
انتبه يا مظفر
.. أن النية الصادقة وحدها لن تكفي للوصول إلى
شاطئ الحق، ولكن النية الصادقة مع البحث
المحايد والنزيه والعادل مع المثابرة بدون
كلل ، كل هذا سيوصلك إلى شاطئ الأمان
بإذن الله، حيث الطريق والحق والحياة
الأفضل.
وبالفعل
بدأت حياة الالتزام والدراسة الإسلامية
العميقة والتزمت في جماعة إسلامية تسمى
الجماعة السلفية.
كنا
نصلي معاً كل الفروض في المسجد، ونحضر دروس
تعليم الفقه والعقيدة، ونخرج ندعو الشباب إلى
حياة الالتزام الإسلامي، وكنت اذهب أنا
والاخوة كل فترة للاعتكاف .. ثلاثة أيام، أو
أسبوع، أو اكثر.. للعبادة والصلاة في مساجد في
مدن أخرى.
وكنا
نصنع المعسكرات لنقرأ القرآن ونناقش الأمور
الدينية والسياسية المعاصرة والمُلحة على
الجماعة.
وكان
هذا تحت إشراف أساتذة جامعيين وصفوة شباب
الأمة ( طب .. هندسة .. حقوق .. آداب) ورغم هذا
الالتزام وتغيير كثير من أشكال حياتي القديمة
في البيت ومع الجيران ومع أصحابي في المدرسة،
فكنت أحرم التليفزيون والأغاني وكل أنواع
اللهو.
وكنت
آمر أمي وكل أقربائي النساء بلبس الخمار (
الزي الإسلامي للمرأة ) وآمر
أصحابي كلهم بالالتزام بالصلاة في أوقاتها،
كل علاقاتي تغيرت ، إلا علاقتي مع باسل .. لم
أقدر على تغييرها رغم إننا أصبحنا الآن
مختلفان إلى حد التناقض والتنافر في العقيدة،
فهو كافر في نظر عقيدتي التي أصبحت الآن كل
شيء، ولكن في نظر إنسانيتي التي لم أقدر أن
أتخلى عنها .. هو صديقي الوحيد.
نعم
هو كافر لانه اصبح مسيحيا، ولكنه صادق ومخلص
وأمين ومحب للجميع.
وكنت
أدعو الله دائماً أن يهديه للإسلام .. أتذكر أن
الاخوة في الجماعة السلفية كانوا دائماً
يطلبون مني أن اقطع علاقتي معه، وان أحاربه
لأنه كافر ( أنه قد عرف عن باسل في مدينتا انه
اصبح مسيحيا ) ونتيجة لذلك مر باسل باضطهاد
ليس بقليل .
ولكني
كنت أراه دائماً صلباً وبشوشا وغافراً ومحباً
لمضطهد يه. وكانت هذه الأحاسيس تبهرني
وتصيبني بشلال من علامات الاستفهام
كنت
اعرف منه انه يشابه المسيح الذي يؤمن به. كان
يقول انه يحب أعداءه ويغفر للمسيئين إليه ،
وأمام هذا الحب كانت تتضاءل كل سنين التزامي
بالإسلام ، وتشددي ، وتعصبي الذي جعلني لا
احمل هذا القلب ولا احمل هذا الحب.
كان
هذا الحب يواجهني ويواجه كل ما أعلنه بان ديني
هو الدين الحقيقي .. وان الهي هو اله الكون ،
وأننا خير واعظم أمة أخرجت للناس ، وان نبينا
هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، كل هذه الأشياء
لم تكن تصمد أمام هذا النهر الجارف من الحب.
فكنت اهرب و أعود إلى التزامي، لعلي في يوم من
الأيام أتغير و أصير أقوى من باسل ومن اله
باسل فأواجهه وانتصر عليه.
وبعد
سنتين كاملتين من الالتزام الكامل بالفرائض
الإسلامية ومن البحث المخلص والامين بدأت
اكتشف اكتشافا يهز كياني ويشككني اكثر من كل
الماضي، اكتشفت أن كل العبادات الإسلامية لم
تكن وليدة الوحي الإسلامي بل كانت موجودة قبل
الرسول وقبل القرآن في الجزيرة العربية.
واكتشفت
أيضا أن الشريعة وكل الحدود كانت تطبق قبل
الإسلام وان كثيرا من التعاليم مأخوذة من
التوراة
(رجم
الزاني .. قطع يد السارق .. الخ )
وان
المسيحية التي حاربها الإسلام والتي يقول
عنها بان أصحابها يؤمنون بان الله ثلاثة ويرد
عليهم بان الله لم يلد ولم يولد . { باعتبار
انهم يقولون بان الله تزوج مريم وانجب المسيح
ابن الآلهة}
وانهم
يقولون أن المسيحيين اتخذوا عيسى وأمه مريم
العذراء الهين من دون الله ، كل هذه المسيحية
المعلنة في القرآن ، اكتشفت إنها ليست هي
المسيحية الحقيقية ، ولكنها الهرطقات التي
كانت موجودة في الجزيرة العربية قبل عصر
الرسول وفي عصر الرسول.
فالمسيحية
الحقيقية تؤمن باله واحد قبل الإسلام بستة
قرون ، وبها تعليم ومبادئ سامية لا يقدر بشر
أن يواجهها إلا وهو خاشع.
بعد
أربع سنوات من الدراسة والنقاش والبحث
والالتزام الإسلامي في الجماعة السلفية وسهر
ودموع وبكاء لله تعالى لكي يهديني إلى الطريق
الصحيح قررت التوقف وان أعيد حساباتي كلها،
ولكن كان التوقف أزمة كبيرة فأنا ملتزم مع
جماعة بشكل يومي في المسجد ودروس العقيدة
والفقه والخروج للدعوة فكيف كنت اترك كل هذا
فجأة وكيف احلق لحيتي ولا ارتدي الجلباب الزي
الإسلامي ،
وكيف
.. وكيف .. كيف ..
وماذا
سيقولون عني بالذات وأنا لي علاقة بصديقي
الذي اصبح مسيحيا، سيقولون أنني أصبحت مسيحيا
مثله وتبدأ المشاكل ويبدأ الاضطهاد . ولكن رغم
كل مخاوفي تلك لم أجد مفرا من مواجهة الحقيقة
وجها لوجه ولكن بمنطق وبحكمة وبعد أربع
سنوات من البحث المضني لا يمتلك الإنسان إلا
الاعتراف بنتائج البحث مهما كانت ضريبة هذا
الاعتراف. وبالفعل قررت التوقف وبدأت اطلب
من الله أن يعرفني الطريق الحقيقي فأنا الآن
اكثر شكا واكثر اهتزازا من كل الماضي في
عقيدتي الإسلامية واكثر اقتناعا بالمسيح.
ولكن
رغم محاولات صديقي باسل لإيضاح كل القضايا
والإشكاليات التي كانت تواجهني في المسيحية
وعدم يأسه معي لمدة أربعة سنوات متواصلة شبه
يوميا يتكلم معي عن المسيح بكل مثابرة وبروح
مليئة بالجدية والثقة أصبحت أنا شبه مؤهل أن
اقبل المسيح إلها ومخلصاً، ولكن كان يوجد شيء
بداخلي ما زال لم يتشرب هذا الإيمان ، ما زال
الإيمان بالمسيح لا يملئ كل كياني فقلت
لصديقي باسل إنني لا اعرف السبب فقال لي
ولا أنا اعرف ، ولكن هل تثق أن الله يعرف كل
شيء وهو الوحيد القادر أن يجيبك وان يشبع كل
مناطق الجوع التي فيك للحق؟ قلت له أثق.
قال
وأنا أيضا أثق في الله لذلك دعنا
نصلي له لكي يظهر ويعلن لك ذاته بوضوح فالله
الذي نؤمن به إلها قريبا حقا ، لا يسمع فقط
صلواتنا ولكن يتكلم
معنا لانه حي ويتفاعل معنا ليس وهم أو إيحاء
نفسي نخدع به أنفسنا ونخدع به آخرين .
فقلت
له أنا أؤمن بكل ما تقول يا باسل وبالفعل بدأت
اصلي واطلب من الله أن يعلن لي
ذاته بكل وضوح كضال يهديني .. وكعطشان للحق
هو وحده القادر أن يرويني ..
وكان
هذا في سنة 1988 في ليلة من ليالي آذار الباردة
جداً
قضيت
طول الليل في صلاة لم تنقطع .. ودموع لم تجف ..
إلا عند اختراق الفجر لهذا الليل الطويل الذي
كان يحمل مخاض الأربع سنوات .. فأنا متذكر بكل
تفاصيله رغم مرور أحد عشر عاما عليه , كانت
بالحق ليلة في قدس أقداس الإله .. أربع سنوات
من الإرهاق ومن عدم الآمان ومن القلق ..
رغم
محاولاتي الدائمة لكي ارضي الإله لكي اشعر
ولو للحظة واحدة انه معي .. انه قريب مني .. انه
يشعر بي ولكن على العكس …
كنت
ازداد إسلاما فازداد وحدة .. كنت ازداد طاعة
فأزداد قلقاًَ.. كنت ازداد خشوعا فأزداد خوفا..
أربع
سنوات بلا سكينة أو هدوء أو طمأنينة أو أمان ..
رغم كل ادعائي أن اله الإسلام اقرب إلينا من
حبل الوريد!!!!
ولكن
ها أنا الآن رغم عدم اعترافي بالمسيح إلها..
ولكن اقترابي منه فقط وملامستي لهدب تعاليمه
ورفع قلبي نحوه عوضني عن سنين القحط والوحدة
والمرارة .. ملئني بالفرح والسكينة وبهدوء لا
اقدر ان أوصفه وبأمان لم اختبره طيلة حياتي .
وفي
الصباح الباكر كنت أريد أن أهرول إلى الجميع
إلى كل أهلي ومعارفي وأصدقائي لأقول لهم عن
الكنز الذي اكتشفته عن الإله الحقيقي الذي
عرفته عن يسوع المسيح الذي احبني فعشقته ..
وبالفعل
ذهبت إلى باسل وحكيت له كل قصتي من بدايتها
وحتى نهايتها وكأنه لا يعرفها وكان باسل ليس
في حالة الإصغاء التي تعودت عليها ولكن كانت
دموعه تسقط بغزارة ولسانه لم يتوقف عن الشكر
لله ,كأم كانت تستقبل ولدها وكأب انتظر أربع
سنوات عند مشارف المدينة عودة ابنه الضال.
مظفر