مقدمة لسفر أيوب
يحظى الرجل المسمى أيوب بتقدير عظيم سواء في العهد القديم أو الجديد. فإن الله نفسه يقول: إن كان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب (حزقيال 14:14،16،18،20). وفي العهد الجديد يقول: قد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب، لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف (يعقوب 11:5).
إن "أرض عوص" ليست محددة الموقع بالضبط، ولكن في تكوين 23:10 و 20:22-22 نجد علاقة بين عوص وبين الآراميين. فهي على الأرجح تقع شرق إسرائيل بالقرب من الصحراء العربية، إلى الجنوب الشرقي من الجزء الأسفل من نهر الأردن والبحر الميت، ولكن نحو الجنوب من موآب وأدوم. وهي تقع في منطقة القبائل التيمانية والشوحية والنعماتية وأيضا البوزية (أيوب 11:2؛ 2:32). وهي أيضا على مسافة تسمح بشن الغارات من السبأيين والكلدانيين (أيوب 15:1،17).
ولا يهم الموقع بالضبط بالمقارنة مع المفاهيم الروحية الفائقة الأهمية من جهة فهمنا وتقبلنا للظروف في ضوء سيادة الله التي لا تخطئ في كل أمور حياتنا.
يفتتح هذا السفر بقصة قصيرة عن رجل تقي صاحب ثروة عظيمة اسمه أيوب - أعظم كل بني المشرق ... رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر (أيوب 3:1؛ 3:2). وفي الأصحاحين الأولين نقرأ عن شكوى الشيطان ضد أيوب وعن المآسي الرهيبة التي سمح بها الرب لأيوب.
في سفر أيوب نرى أفكار الله والشيطان وأيوب وزوجته وأصدقائه الثلاثة وأليهو. وأثناء قراءتك لكل أصحاح حاول أن تفرق بدقة بين حكمة أيوب، وبين أقوال أصدقائه التي على الرغم من حسن النية فيها إلا أنها غير دقيقة ومضللة. وقد مدح الرب أيوب لكونه قد تكلم بالصدق، ولكنه قال عن أصدقاء أيوب أنهم لم يقولوا الصواب كعبده أيوب (أيوب 7:42).
ويوضَع أيوب على قدم المساواة مع نوح ودانيال من جهة العمق الروحي والصدق والولاء لله. فلا عجب إن كان أصدقاؤه الثلاثة قد استخدموا بمثل هذه القوة لتشويه الحقيقة وتصوير أيوب بأنه خاطئ ومرتبك ومشوش. نعم إن الشيطان يسعى إلى تشويه الحقائق بخصوص المؤمنين، بل إنه استخدم يهوذا والقادة الدينيين لأجل تسليم ابن الله الكامل وصلبه.
إن هذا السفر يكشف بوضوح أن الشيطان هو المسبب لجميع الآلام. وهو يحاول أن يخدع الناس من جهة من هو المسئول عن النكبات وبذلك فهو يسعى إلى تقويض ولائنا ومحبتنا لله.
تكشف أقوال أصدقاء أيوب عن فساد التفكير البشري ما لم يكن منقادا بالكتاب المقدس.
وسوف تلاحظ في قراءة كل يوم ليس فقط تزايد الألم لدى أيوب، بل أيضا تزايد تمييزه الروحي.
وفي الأصحاحات الختامية (38-42)، يعلن الله حكمته ويزيل كل الشكوك من جهة بر أيوب قبل وأثناء جميع تجاربه (أيوب 1:1،8،22؛ 10:2؛ 7:42-8).
من يستطيع أن يفهم معاناة أيوب - عبد الرب الذي فقد أسرته وممتلكاته وصحته؟ إن هذه المعاناة لم تكن مصادفة أو حظ سيّئ، ولم تكن عقابا من الله على الخطية كما افترض أصدقاء أيوب وغيرهم. ولكن جميع آلام أيوب كانت هجمات من الشيطان من أجل اختبار صدق ولاء أيوب لله وأيضا لكي يكشف له في النهاية مدى احتياج أصدقائه لصلواته (أيوب 8:42).
قد يبدو غريبا للبعض أن يجدوا الشيطان في محضر الله - ليس في السماء كما ظن البعض - ولكن على الأرض؛ إذ يقول: جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب (أيوب 6:1-12؛ 1:2-7). فجاء الشيطان وبصفته المشتكي على إخوتنا (رؤيا 10:12)، اشتكى على أيوب أمام الرب قائلا: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ (أيوب 9:1). لقد جاء لكي يشتكي على رجل كامل ومستقيم ... يتقي الله ويحيد عن الشر (أيوب 1:1،8؛ 3:2).
لم يقدر الشيطان أن ينكر أن أيوب يعبد الرب، ولكنه افترض أن إخلاص أيوب نابع من أغراض أنانية، مثل الحصول على مكاسب مادية.
إن الشيطان لا يستطيع أن يرى ما بداخل قلوبنا، وإنما يستطيع فقط أن يحكم وفقا لتفكيره الشرير. فالشيطان يستطيع أن يمتلك أذهان الناس، مثلما حدث مع يهوذا وغيره الكثيرين من بعده الذين باعوا أنفسهم من أجل المكاسب الأنانية؛ ولكنه لا يستطيع أن يقرأ ذهن أولاد الله. ولهذا السبب فلا ينبغي أن نناقش مع غير المؤمنين الأمور التي نصلي من أجلها - وذلك حتى لا نعطي الشيطان فرصة ليعطل مقاصد الله.
إن إله هذا العالم يعمي أذهان غير المؤمنين. فالسبب وراء كل شرور العالم هو جولان الشيطان في الأرض والتمشّي فيها (أيوب 7:1)، مما يدل على مجهوداته المستمرة الدؤوبة لإفساد كل ما هو جيد. ولكن الشيطان لا يستطيع أن يكون في أكثر من مكان في آن واحد، وكذلك فهو تحت الملاحظة المستمرة من الله القدير، ولا يستطيع أن يفعل شيئا إلا بإذنه.
وقد سمح الرب للشيطان أن يمتحن صدق أمانة أيوب بتعريضه للخسارة المأساوية في أولاده وممتلكاته وصحته. وحتى أصدقاء أيوب فلقد اتهموه بالرياء.
أثناء هذه التجربة، اقترحت زوجة أيوب عليه أن يلعن الله. فهي أيضا قد تعرضت للخسارة، وإن كانت خسارتها الأكبر هي أنها فقدت إيمانها بالله. ولكن في وسط هذه الأزمة استطاع إيمان أيوب أن يشع مثل نجم لامع في أحلك الليالي، فقال: الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركا (أيوب 21:1).
وكما استخدم الشيطان "أصدقاء" أيوب للتقليل من شأنه وإدانته، وبنفس الطريقة فإنه لا يزال يسعى إلى تشويه الحق وخداع الجهلاء.
ولكن الرب يعرف من هم الذين يحتملون الألم حتى يعدهم لخدمة أعظم (أعمال 41:5؛ 16:9؛ رومية 17:8؛ فيلبي 29:1؛ 12:4؛ عبرانيين 25:11).
لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح (1 بطرس 7:1).
إعلان عن المسيح: في المناقشة التي دارت بين الشيطان والرب (أيوب 8:1-12)، يمكننا أن نفهم معنى الكلام الذي قاله الرب لبطرس: هوذا الشيطان قد طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة (لوقا 31:22).
أفكار من جهة الصلاة: صل من أجل إخوتك وأخواتك لكي يمتلئوا بالتمييز الروحي وبملء المسيح (أفسس 14:3-19).
بعد أسبوع كامل من التأمل الصامت في معاناة أيوب، ابتدأ أليفاز بالكلام، وهو الأكبر سنا بين أصدقاء أيوب. وبحسب ما لاحظه على مدى سنين عديدة فإنه كان يعتقد أن أي معاناة هي نتيجة للخطية. لذلك قال لأيوب: كما قد رأيت أن الحارثين إثما والزارعين شقاوة يحصدونها (أيوب 8:4). يا لها من كلمات قاسية حقا وغير معزية بالمرة.
وحاول أليفاز أن يقنع أيوب بأنه ينبغي أن يعترف بخطيته، فقال: هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله، فلا ترفض تأديب القدير (أيوب 17:5). وبعد أن انتهى من توجيه اتهاماته، لم يدع مجالا للشك فقال: ها إن ذا قد بحثنا عنه، كذا هو، فاسمعه واعلم أنت لنفسك (أيوب 27:5).
بالإضافة إلى آلام أيوب الجسدية، وخسارته المادية، وموت أولاده، ومرارة زوجته تجاه الرب، فإن أصدقاءه الثلاثة جميعهم شككوا في استقامته. وقد اعترف أيوب بأن بعض أقواله كانت طائشة مثل تمنيه بألا يكون قد ولد من الأصل (أيوب 1:3،3-11). ولكنه كان في هذه اللحظات يعبر عن معاناته النفسية الرهيبة بسبب آلامه المبرحة واشتداد أحزانه. وقد شعر أيوب بالألم الشديد بسبب إدانة أليفاز له. ولكنه تجاهل التلميح بأنه منافق، وطالب بتقييم شامل لطباعه، قائلا: ليت كربي وُزِنَ ومصيبتي رُفِعت في الموازين جميعها [أي ليظهر هل حزني في غير محله] (أيوب 2:6).
لم يكن أيوب منافقا كما ظن "معزوه". ولكن لأسباب لم يفهمها أيوب لم يدافع الرب عنه. بل أكثر من ذلك فلقد كان يبدو مصابا بسهام القدير (أيوب 4:6). ومرة أخرى أدت آلام أيوب إلى لمعان إدراكه الروحي: ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك وتتعهده كل صباح وكل لحظة تمتحنه؟ (أيوب 17:7-18).
هذا القول يعبر عن المستوى العالي من الشفقة والعطف الموجودين في قلب الله من نحو الإنسان، خاصة إذا نظرنا إليه في ضوء قلة شأن الإنسان. فالإنسان مخلوق من تراب. وطبيعته قد تنجست بالخطية. وأجله قصير الأمد. وبدون الولادة الجديدة المعجزية يصبح مصيره الجحيم الأبدي. ولكن بسبب محبة الله العظيمة فإنه يزور كل واحد منا في كل صباح لكي يوجه حياتنا نحوه.
نحن أيضا قد تصدر منا أحيانا أقوال طائشة عندما نجتاز في تجارب غير متوقعة. ولكن ليس لنا أي عذر بالمرة أكثر من أيوب، إذ أن لدينا كل من العهدين القديم والجديد لإنارة أفهامنا وتقوية إيماننا.
إن حياتنا بأكملها هي امتحان، وليس فقط جزئيات معينة منها. فإن الله يمتحنا في كل لحظة - إن لم يكن بالآلام فبالبركات، وإن لم يكن بالأحزان فبالمسرات. وهو يسعى من خلال هذا كله أن ينشئ فينا محبة حقيقية له. وهذا هو معنى القول: لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضا أن تتألموا لأجله (فيلبي 29:1).
إعلان عن المسيح: من خلال أحزان أيوب (أيوب 1:7-6). لقد عرف المسيح بأنه "رجل أوجاع ومختبر الحزن" (إشعياء 3:53).
أفكار من جهة الصلاة: تأكد أن الصلاة هي إحدى الوسائل التي يستخدمها الله لكي تتقوى في شدة قوته (أفسس 10:6،18).
أمام الإعلانات المجيدة التي نطق بها أيوب، استشاط بلدد غضبا وقال: إلى متى تقول هذا وتكون أقوال فمك ريحا شديدة؟ ... إن كنت أنت زكيا ومستقيما فإنه الآن يتنبه لك ويُسْلِم مسكن برك (أيوب 2:8،6). وبذلك أثبت بلدد أنه ليس فقط عديم الشفقة بل أيضا عديم البصيرة الروحية. فشأنه شأن أليفاز (أيوب 26:6)، حاول بلدد أن يحمل كلمات أيوب بأردأ المعاني وأن يصفها بأنها مجرد ريح بلا معنى. ولا توجد كلمة واحدة تشير إلى أن بلدد شعر بالشفقة أو الرحمة على صديقه المتألم المسكين.
وقد استنتج بلدد أن الذين يتمتعون بالخيرات في هذه الحياة إنما هم يحصدون فقط جزاء سلوكهم الحسن. ولكن النظرية القائلة بأن الآلام هي دائما نتيجة للخطية وأن الخيرات هي دائما مكافأة للأشخاص الصالحين، هي نظرية خاطئة - كما يتضح من المثل الذي ذكره الرب يسوع عن الرجل الغني الذي ازدهرت أحواله فبنى مخازن أكبر لتخزين خيراته الكثيرة . وقد أوضح الرب أيضا أن الرجل المولود أعمى لم يكن بسبب الخطية، بل أنه ولد أعمى ... لتظهر أعمال الله فيه (يوحنا 2:9-3؛ لوقا 25:16؛ 1:13-5).
تعرض أيوب لمعاناة رهيبة إذ استمر هؤلاء الأصدقاء يضايقونه، ولكنه استفاد من ذلك في أنه اكتسب فهما روحيا أعمق. فلقد أدرك أن الله هو خالق كل الأِشياء (أيوب 8:10) وأنه أعلى منه بقدر ارتفاع السماء عن الأرض. ومن هنا عرف أنه لا توجد وسيلة يمكنه من خلالها أن يلتقي مع الله على نفس المستوى. لأنه ليس إنسانا مثلي فأجاوبه ... ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا (أيوب 32:9-33)!
لقد اكتشف أيوب أن الخطية قد وضعتنا جميعا في موقع خاطئ بالنسبة لله. وقد أعرب عن احتياج الجنس البشري كله إلى وسيط، إلى شخص يستطيع أن يقرر وأن يصحح، شخص يضع يده على كلينا ،شخص يقدر أن يمثل كل من الله القدوس والإنسان الخاطئ.
إن ربنا يسوع المسيح - من خلال ولادته من عذراء، وحياته التي بلا خطية، وموته على الصليب من أجل خطايانا - قد أصبح الوسيط لنا الذي يقدر أن يعيد لنا علاقتنا المفقودة مع الله (رومية 8:5-10). إن ربنا يسوع لا يتكلم فقط بسلطان إلهي بصفته الله القدوس ولكنه يستطيع أيضا أن يصل إلينا في مستوانا الشخصي. إننا نستطيع الآن أن نقترب من الآب من خلال وسيطنا الرب يسوع المسيح الذي دخل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا (عبرانيين 24:9).
تكلم صوفر مرة أخرى. فابتدأ بتوبيخ أيوب واتهامه بأنه مخادع وكاذب ومدعي البر، فقال له: أَ صلفك يفحم الناس؟ [أي هل تظن أن تفاخرك سيجعل الناس يصمتون؟].. وليس من يخزيك (أيوب 1:11،3-4).
في كثير من الأحيان يكون الانتقاد المرير للمؤمنين بتهييج من الشيطان. لذلك يجب أن نحذر من أن نسبب المزيد من الألم للأشخاص الذين يحتاجون إلى الشفقة والعطف. إن النقاد الدينيين كثيرا ما يسيئون فهم أساليب وطرق الله في التعامل مع أتباعه المختارين. وليس من السهل أن نصلي من أجل "معزينا" مثلما فعل أيوب. ولكن لا يوجد شيء يبين طبيعتنا على حقيقتها إلا الطريقة التي بها نتعامل مع الناقدين الذين يسيئون الظن بنا.
وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم... وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم (متى 44:5).
إعلان عن المسيح: من خلال المصالح (الوسيط) (أيوب 32:9-33). المسيح هو "الوسيط الواحد بين الله والناس" (1 تيموثاوس 5:2).
أفكار من جهة الصلاة: صل إلى الرب بلجاجة في الليل والنهار (1 تسالونيكي 10:3).
شن الشيطان هجومه على أيوب من خلال زوجته وأصدقائه "الأوفياء" محاولا أن يؤيد اتهامه لأيوب بأنه سوف يلعن الله عندما ينال قدراً معيناً من التجارب. وكان الشيطان يعتقد أن أيوب سيتخلى في النهاية عن إيمانه بالله. ولكن جميع الاتهامات أدت إلى تعميق البصيرة الروحية لدى أيوب وتشديد إيمانه بحكمة الله ورحمته ومحبته. فإن ولاءه لله قد هوجم بشدة، وربما يبدو أنه قد تزعزع في بعض الأحيان هذا إذا صدقنا آراء أصدقائه المشوهة. ولكن أيوب يقول بكل ثقة: هوذا يقتلني لا أنتظر شيئا، فقط أزكي طريقي قدامه، فهذا يعود إلى خلاصي أن الفاجر لا يأتي قدامه [أي حتى إذا قتلني سأظل أنتظره وأثق فيه، ومع أنه ليس لي رجاء، إلا أني سأظل أفعل ما يرضيه لأنه في النهاية سيخلصني إذ أن الشخص الشرير لا يمكن أن يقترب من الله] ... أعلم أني أتبرر (أيوب 15:13-18).
كان أيوب متأكدا من أنه سيخلص، فيقول: هذا يعود إلى خلاصي أن الفاجر لا يأتي قدامه [أي سيكون في هذا خلاصي لأن الشرير لا يمكن أن يقترب من الله]. لقد علم أيوب أنه سيتبرر ليس لأنه قد وصل إلى الكمال وإلى العصمة من الخطية، ولكن لأنه كان يعيش في خضوع وطاعة لكلمة الله كما هو واضح في قوله: من وصية شفتيه لم أبرح؛ أكثر من فريضتي [أي طعامي اليومي] ذخرت كلام فمه (أيوب 12:23). وهذا هو اليقين لدى كل مؤمن بالمسيح.
لم يقدم أصدقاء أيوب أي شفقة أو عطف. فلم يكن له أي عزاء أرضي، ولم يكن أمامه سوى أن يتجه إلى المصدر الحقيقي للعزاء، وقد قال بوضوح أنه سيلقي بنفسه على عدالة الله الأبدي بغض النظر عن النتائج. لقد استطاع أن يقول بمنتهى الثقة: أعلم أني أتبرر . ومرة أخرى أبدى أيوب إيمانا أكيدا بأن حياته هي في يدَي الله عندما قال: فقط أزكي طريقي قدامه، فهذا يعود إلى خلاصي. لقد حدثت نقطة التحول في تجربة أيوب عندما أعرب بشفافية روحية واضحة عن ثقته في الله القدوس ساكن السماء الذي يرى كل شيء ويعرف قلوبنا. قال: لكي يحاكم الإنسان عند الله كابن آدم لدى صاحبه [أي ليت هناك شخصا يقدر أن يترافع عن الإنسان أمام الله كما يترافع الإنسان عن أخيه الإنسان] (أيوب 21:16). فها هو أيوب يقدم للمرة الثانية إعلانا مدهشا عن الاحتياج للرب يسوع - الله الظاهر في الجسد (مرقس 62:14؛ يوحنا 26:5-27) لكي يمثل الإنسان الخاطئ أمام الله القدوس.
يحق لنا كمسيحيين أن نشكر الله لأن لنا رئيس كهنة عظيم هو حي في كل حين ليشفع فينا (عبرانيين 25:7). فعندما نصلي بصدق في اسم يسوع، يكون لنا اليقين من كلمته أنه سيتشفع من أجلنا وسيوصل طلباتنا إلى أبينا السماوي.
إن أيوب مثال للشخص الذي لديه محبة الله أهم من الحياة نفسها - فإن جميع الذين يعيشون للمسيح بأمانة يمكنهم أن يقولوا مع أيوب: شاهدي في الأعالي (أيوب 19:16).
فمهما كانت ظروفنا مناوئة، نستطيع نحن أيضا أن نقول بثقة: ذو الرأي الممكن تحفظه سالما سالما لأنه عليك متوكل [أي أن الشخص الذي يثبت ذهنه وميوله عليك فإنك تحفظه في سلام كامل ودائم] (إشعياء 3:26).
إعلان عن المسيح: من خلال لطم أيوب (أيوب 10:16). لقد لطموا المسيح أيضا واستهزأوا به (متى 29:27-44؛ يوحنا 22:18-23؛ أيضا مزمور 7:22-8؛ 25:109؛ إشعياء 53).
أفكار من جهة الصلاة: ارفع صلواتك إلى الله أينما ذهبت (1 تيموثاوس 8:2).
لقد افترض أيوب أن كل أمل في الشفاء قد انتهى عندما قال: روحي تلفت، أيامي انطفأت، إنما القبور لي ... أوقفني مثلا [أي عبرة] للشعوب وصرت للبصق في الوجه. كلت عيني من الحزن وأعضائي كلها كالظل (أيوب 1:17،6-7).
كان بلدد سريعا في الرد، وكان رده الثاني أكثر انتقادا من الأول. فقد كان في رأيه أن آلام أيوب قد كشفته كخاطئ ومنافق وأنه وقع في فخ شروره وأنها هي سبب سقوطه. ووصل الأمر ببلدد أنه قال: إنما تلك مساكن فاعلي الشر وهذا مقام [أي مكان] من لا يعرف الله (أيوب 7:18،21). ولا بد أن هذا الاتهام الظالم من "صديق" أيوب كان بمثابة صفعة قوية له. إن ذلك حقا فوق طاقة الاحتمال أن يموت الإنسان بدون أن يفهمه أحد، حتى أن أقرب أصدقائه كانوا يقولون له في وجهه: هذا مقام من لا يعرف الله .
يا له من أمر مؤثر حقا أن نرى هذه النفس المسكينة الممتلئة بالوحدة والتي لا تجد من يفهمها، تتحول عن آلامها وترفع عينيها نحو السماء، وبشفافية روحية عظيمة تتكلم عن الرب مخلصنا وتقول: أما أنا فقد علمت أن وليّي [أي فاديّ أو منقذي] حيّ والآخر على الأرض يقوم [أي أنه في اليوم الأخير سوف يتسلط على الأرض] ... الذي أراه أنا لنفسي وعيناي تنظران وليس آخر، إلى ذلك تتوق كليتاي في جوفي (أيوب 25:19،27). يا لها من شهادة عظيمة! إن المضايقة المستمرة التي تعرّض لها أيوب جعلته يقترب من الله أكثر. هذا الإعلان بشأن الحياة بعد الموت هو واحد من أعظم الإعلانات في العهد القديم وقد شجع الملايين من الناس المتألمين عبر العصور.
لقد نطق أيوب بهذا الإعلان الرائع عندما لم يكن هناك من يبالي به، وبحسب الظاهر كان يبدو أن الله أيضا لا يبالي. ولكن إيمان أيوب لم يكن معتمدا على الظروف المبهجة وإنما كان مؤسسا على توقع الظهور المجيد لمنقذه.
لقد كان أيوب واثقا أنه حتى إذا كان أصدقاؤه الأرضيون وأحباؤه قد تحولوا عنه (أيوب 13:19-19)، إلا أن مخلصه الحي سيسرع للدفاع عنه.
بحسب الناموس كان الوليّ [أو الفادي المنقذ] هو أقرب الأقارب والذي يكون مسئولا عن افتداء قريبه إذا بيع كعبد أو عن استرداد ميراثه المفقود (لاويين 25:25). إن الولي يرمز إلى فادينا المسيح. وما قاله أيوب بالإيمان، نقدر نحن أيضا أن نقوله بالإيمان: أما أنا فقد علمت أن وليّي حيّ! وكما أن الرب أنقذ أيوب من أسر الشقاء، فإن المسيح أيضا ينقذ المؤمن من أسر الخطية (مزمور 14:19؛ 35:78؛ رومية 24:3؛ غلاطية 13:3؛ أفسس 7:1).
إننا نستطيع نحن أيضا أن نحتمل جميع التجارب ونكون منتصرين عندما ننظر إلى يسوع، ولينا الحي. فإنه يظل دائما أمينا لكلمته.
لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم (2 تيموثاوس 12:1).
إعلان عن المسيح: من خلال الوليّ [أي الفادى والمنقذ] (أيوب 25:19). إن المسيح هو فادينا الذي اشترانا بدمه على الصليب (رؤيا 9:5).
أفكار من جهة الصلاة: اسأل الرب عن طرق لمشاركة حبه مع الآخرين (عبرانيين 10:6).
كان أليفاز مقتنعا بأن البؤس هو من نصيب الناس الأشرار. وحيث أن أيوب كان في منتهى البؤس، فلا بد أنه شرير جدا. وفي محاولة أخيرة لإقناع أيوب بأنه منافق، هاجمه أليفاز بشدة قائلا: تعرّف به واسلم [أي لتنال السلام] بذلك يأتيك خير (أيوب 21:22). كان إيمان أيوب غير متزعزع لأنه كان يعرف كلمة الله. وكان مقتنعا أنه طالما أن الله أمين لكلمته فلا بد أن يكون أمينا لعبيده.
وقد شرح أيوب ثقته في حكمة الله وفي محبته بالقول: هأنذا أذهب شرقا فليس هو هناك وغربا فلا أشعر به، شمالا حيث عمله فلا أنظره، يتعطف الجنوب فلا أراه. لأنه يعرف طريقي، إذا جربني أخرج كالذهب (أيوب 8:23-10).
فأينما يتلفت أيوب يبدو أنه لا يجد الله في أي مكان. وعلى الرغم من الشكوى البسيطة التي أبداها أيوب إلا أنه أثبت أن الشيطان كاذب. فإن أيوب لم يكن مستعدا بأي حال من الأحوال أن يلعن الله، لأن إيمان أيوب لم يكن مؤسسا على الاختبارات والمشاعر والظروف وإنما على كلمة الله. فكان يعلم أنه عندما ينتهي الله من تجربته فإنه سيخرج كالذهب (أيوب 10:23).
لم يكن أيوب مهتما بمعرفة "سبب" آلامه بقدر اهتمامه بأن يكون في علاقة صحيحة مع الله، الذي يعلم جميع الأشياء. ففي وسط التلميحات والاتهامات الكاذبة كان إيمان أيوب بكلمة الله هو مصدر قوته، وبكل ثقة استطاع أن يقول: بخطواته استمسكت رجلي، حفظت طريقه لم أحد. من وصية شفتيه لم أبرح، أكثر من فريضتي ذخرت كلام فيه [أي أن كلام فمه أهم عندي من طعامي الضروري] (أيوب 11:23-12). فإن التمييز الروحي لدى أيوب لم يتأثر بآراء ناقديه.
إن الله يعطي دائما أفضل نصيب للشخص الذي يترك له زمام الاختيار. لذلك فإننا نقدر أن نحمده من أجل الآلام والإحباطات والأوقات التي نتعرض فيها لسوء الظن. وكأن أيوب يقول: "في وسط اضطرابي وحزني، لجأت إلى كلمة الله. لقد كان احتياجي للعزاء عظيما حتى أني انكببت عليها مثلما ينكب الشخص الجائع على الطعام. لقد التهمتها فتعزت نفسي وتشدد كياني".
إن مفتاح النصرة النهائية عند أيوب كان اقتناعه بأن كلمة الله أهم من الحياة ذاتها - أهم من القوت الضروري. فكما أن الطعام الذي نتناوله يشدد كياننا المادي، كذلك فإن كلمة الله هي الطعام الذي يقوي حياتنا الروحية. لذلك، كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به (1 بطرس 2:2).
إعلان عن المسيح: من خلال أمانة أيوب تجاه الله في وسط آلامه (أيوب 10:23). "المسيح أيضا تألم لأجلنا تاركا لنا مثالا" (1 بطرس 21:2).
أفكار من جهة الصلاة: اطلب من الرب حكمة أثناء قراءتك لكلمته، فسيعطيها لك (يعقوب 5:1).
كان أصدقاء أيوب الثلاثة متفقين في أن الله يعطي الرخاء للأبرار والشقاء للأشرار. وكان رد أيوب عليهم أن تجربته الشخصية تثبت العكس، لأنه كان بارا ومع ذلك أصابته الكوارث. وكان أيضا يعرف أن الأشرار لا يتألمون دائما بسبب خطاياهم.
عندما نقابل الرب بطريقة شخصية، فإن لغز الألم سيصبح مفهوما تماما. فإننا سنرى بكل وضوح أن الله في حكمته له قصد أزلي وعظيم في السماح بالألم.
إن منطقنا يقودنا عادة إلى استنتاجات خاطئة. أما الحكمة فمن أين توجد؟ وأين هو مكان الفهم؟ لا يعرف الإنسان قيمتها ولا توجد في أرض الأحياء... لا يعطى ذهب خالص بدلها ولا توزن فضة ثمنا لها ... فمن أين تأتي الحكمة؟ وأين هو مكان الفهم؟ إذ أخفيت عن عيون كل حي وسترت عن طير السماء ... هوذا مخافة الرب هي الحكمة والحيدان عن الشر هو الفهم (أيوب 12:28-13،15، 20-21،28).
إن الله هو مصدر الحكمة الحقيقية وهو أيضا الذي يعلنها للناس. فلا يوجد بديل عن قراءة الكتاب المقدس والاعتماد على الروح القدس لكي ينير أذهاننا. لذلك فمن المهم أن نقرأ جميع أسفار الكتاب المقدس بدقة وعناية ومواظبة وبروح الصلاة مع الرغبة الصادقة في تطبيق كلمته على حياتنا اليومية.
يوجد أناس كثيرون لهم أذهان دنيوية يلقون اللوم على الله ولكنهم لا يقرأون الكتاب المقدس أبدا، تماما مثل بني إسرائيل الذين تاهوا في البرية وكانوا يشتكون باستمرار من جهة ظروفهم ويندمون على ما تركوه في مصر. هذا يصور لنا الارتباك الذي ينتج عن محاولة الوصول إلى السلام الداخلي والراحة الذهنية بالانفصال عن طاعة إرادة الله المعلنة.
لا يوجد بديل عن قراءة كلمة الله كلها من أجل فهم إرادته.
وإنما أقول هذا لئلا يخدعكم أحد بكلام ملق (كولوسي 4:2).
إن "المعرفة" البشرية في عالمنا الدائم التغير هي معرفة محدودة وهي عرضة باستمرار للمراجعة والإضافة عليها أو الحذف منها. فبعيدا عن كلمة الله لا توجد إجابات نهائية عن مشاكل الحياة ولا يوجد أي فهم بخصوص الأبدية. ورغم غرابة هذا بالنسبة للعالم المتشكك، فإن حكمة الله لا يمكن أن نعرفها إلا بعد أن نتوب عن خطايانا ونعترف بأن المسيح مات لكي ينقذنا، ونطيع كلمته مثلما قال يسوع: إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي كما أني أننا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته (يوحنا 10:15). فإن الحقائق الروحية لا يمكن أن يفهمها إلا الذين ولدوا ولادة ثانية من الروح القدس. فإن العالم ... لم يعرف الله بالحكمة [أي أن العالم بكل حكمته الأرضية فشل في أن يعرف الله بواسطة فلسفاته] (1 كورنثوس 21:1)، ولكن معرفة مشيئة الله متاحة لكل إنسان صادق. أما الذين يستبعدون المسيح - الكلمة الحية - من حياتهم فإنهم لا يكتشفون أبدا الحكمة الحقيقية والفهم. إنهم يضيعون على أنفسهم أعظم اكتشاف في الحياة - المسيح، الذي هو الحق. المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم (كولوسي 3:2).
إعلان عن المسيح: من خلال إشفاق أيوب على الآخرين (أيوب 15:29-16). لقد أشفق المسيح على الجموع الذين كانوا محتاجين إلى عون (متى 14:14؛ 30:15-39).
أفكار من جهة الصلاة: صل لكي تكون مطيعا للكلمة وليس فقط سامعا خادعا نفسك (يعقوب 22:1).
كان أيوب لا يزال جالسا فوق الرماد، تغطي جسده القروح المؤلمة من الرأس إلى القدمين، وكان وحيدا ومعذبا بسبب النقد اللاذع من أصدقائه يوما بعد يوم على مدى فترة زمنية طويلة. وكانت حالته التي تدعو للرثاء في تدهور مستمر. فبعد أن كان موضع تقدير واحترام، أصبح مادة للسخرية القاسية. يقول بمنتهى الذل والهوان: يكرهونني، يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق (أيوب 10:30).
إن البصق أمام وجه شخص كان تعبيرا عن الازدراء والاحتقار الشديد (تثنية 7:25-10). فلو بصق أب في وجه ابنته فإنها تشعر بالخزي الشديد حتى أنها تبتعد عن صديقاتها وأحبائها لمدة أسبوع بأكمله (عدد 14:12).
ويبدو أن قسوة الناس بلا حدود - وهذا ما جعل معاناة أيوب أكثر إيلاما: يزيحون رجلي ... أفسدوا سبلي ... أعانوا على سقوطي ... انقلبت علي أهوال (أيوب 12:30-15). وعلى حد ما استنتجه أيوب فإن الله لم يكن يسمع صلاته: إليك أصرخ فما تستجيب لي (أيوب 20:30). فلا يوجد في الكتاب المقدس كله شخص آخر غير المسيح قاسى مثل هذا الهوان والألم الشديد في الجسد والنفس والروح. لقد أصبح وضع أيوب على النقيض تماما مع وضعه السابق من حيث الجاه والمال. لقد كان قبلا يمثل السلطة الإدارية العليا في البلد وكان يسكن كملك (أيوب 25:29)؛ لقد أنقذ المسكين المستغيث واليتيم ولا معين له ... كان عيونا للعمي وأرجلا للعرج ... وأبا للفقراء (أيوب 12:29،15-16). فهو من داخله كان خاليا من الشهوة والكذب والظلم وإهمال الفقير. لم يكن لئيما مع أعدائه ولم تكن لديه أي أفكار شماتة تجاه مصائبهم - وقد ذكر 16 خطية لا يمكن لأحد أن يتهمه بارتكابها. لقد كان يعيش حياة روحية وأخلاقية توبخ معظم المسيحيين.
لم يجد أصحاب أيوب الثلاثة شيئا آخر يقولونه،ومع ذلك فلم ينطق أي منهم ولا مرة واحدة بكلمات الشفقة أو الرثاء، لأنهم اعتبروا أن أيوب بار في عيني نفسه (أيوب 1:32)، على الرغم من أن أيوب في مرات عديدة اعترف بأنه خاطئ. في إحدى المرات قال: كيف يتبرر الإنسان عند الله؟... إن تبررت يحكم علي فمي وإن كنت كاملا يستذنبني (أيوب 2:9-20). لقد كان لأيوب إدراك عميق للطبيعة الخاطئة في الجنس البشري كله. قال أيضا: الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبا ... من يخرج الطاهر من النجس؟ لا أحد! (أيوب 1:14،4).
عندما نتأمل في أيوب الذي كان في زمانه أكمل إنسان على الأرض، فهل يمكننا أن نندهش أو نشتكي عندما يتهمنا الآخرون زورا أو ينتقدوننا أو يحكمون علينا أننا منافقون؟ من الواضح أن أكثر المؤمنين إخلاصا هم الذين يقاسون عادة من الإهانات والتحقير من قبل أشخاص متهورين عديمي التفكير - بل وأيضا من بعض الذين يعترفون هم أنفسهم بأنهم مسيحيين.
إن المسيح، ابن الله الكامل، قد تعرض هو أيضا للازدراء والإساءة في مناسبات عديدة، وبصقوا على وجهه. قال يسوع: ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم (يوحنا 20:15).
إعلان عن المسيح: من خلال الاستهزاء والآلام التي قاساها أيوب (أيوب 10:30-11). لقد تألم المسيح وتفلوا على وجهه (مرقس 15:15-20؛ أيضا إشعياء 6:50؛ 2:53-5؛ متى 26:27-30؛ يوحنا 1:19-5).
أفكار من جهة الصلاة: صل أن تصبح حياتك شهادة حسنة للآخرين، حتى عندما تواجه مقاومة (1 بطرس 12:2).
لم يكن أصغر أصحاب أيوب، وهو أليهو، قد تكلم بعد حتى فرغ الثلاثة الآخرون من توجيه اتهاماتهم والتعبير عن رأيهم في أيوب. وقد كان أليهو مستاء من أصحاب أيوب الثلاثة لأنهم فشلوا في إقناع أيوب بأن آلامه هي نتيجة لخطاياه. وكان أليهو مستاء بدرجة أكبر من أيوب لأنه هو أيضا كان يظن أن أيوب خاطئ وأنه بار في عينَي نفسه. أربع مرات في خمسة أعداد نقرأ أنه حمي غضبه (أيوب 1:32-5). فليت أيوب كان يمتحن إلى الغاية من أجل أجوبته كأهل الإثم ... فغر أيوب فاه بالباطل وكبّر الكلام بلا معرفة (أيوب 36:34-37؛ 16:35). بالإضافة إلى ذلك فإن هذا المغرور استخدم ضمير المتكلم "أنا" ومشتقاتها أكثر من 60 مرة في الأعداد الـ 49 التالية ليبين لأيوب أنه هو وحده يقدر أن يتشفع من أجله (أيوب 6:32-32:33). فإن اتهاماته ضد شهادة أيوب هي أنصاف حقائق مشوهة كما أنها تناقض تماما تقييم الله لأيوب. فإن اتهامات أليهو لأيوب (أيوب 8:33-13) تتناقض تماما مع ما قاله الله عن أيوب سواء قبل تجربته أو بعدها (أيوب 8:1؛ 7:42-8).
إننا نميل عادة إلى انتقاد أفعال الآخرين والحكم عليها ونتسرع في تقديم النصائح لهم مع أننا في الواقع لا نعرف ما الذي يفعله الله وما هي الطريقة التي يتعامل بها مع نفس هذا الشخص. إن الإدانة والنقد اللاذع وتصيّد أخطاء الآخرين هي خطية جسيمة ليس فقط في حق الأخ المعني بل أيضا في حق الله (متى 1:7-2). وهي تحرمنا ليس فقط من شركتنا مع الرب وإنما تضعنا أيضا في موضع الدينونة.
إن اتهامات أليهو لأيوب تبين لنا كيف أن استنتاجاتنا تكون عادة حمقاء عندما نرى مؤمنا متألما ونحاول أن نجد تفسيرا عن سبب سماح الله بهذا الألم.
من أنت الذي تدين عبد غيرك؟ ...وأما أنت فلماذا تدين أخيك؟ أو أنت أيضا فلماذا تزدري بأخيك؟ لأننا جميعا سوف نقف أمام كرسي المسيح (رومية 4:14،10).
عندما يصاب المؤمنون بخسائر أو آلام أو كوارث، فإن الشيطان ومعظم الناس يفترضون أن الله لا يتدخل في المسار الطبيعي للأمور، وأن الأمر لا يهمه ولا يعنيه، وأننا لا نكون مستحقين أن يستجيب صلواتنا. وكنتيجة لذلك فإننا نكون معرضين للإصابة باليأس فلا نقدر أن نصلي في الوقت الذي نكون فيه في أشد الاحتياج للصلاة. فلا تشك أبدا في أن الرب مسيطر على جميع الأمور التي تحدث في حياتك، مهما كانت تبدو لك سيئة، فإنه يريد أن يستخدمها لخيرك ولمجده (رومية 28:8؛ أيضا تكوين 20:50).
في أوقات الحزن والألم والاضطهاد والأمور التي تحطم القلب والظلام الروحي، سبّح الرب من أجل حضوره فإن سلامه الكامل سوف يدفئ قلبك. ولا تنسى أبدا النتائج المجيدة التي حدثت عندما رنم بولس وسيلا ترنيمات الحمد في منتصف الليل بعد أن تعرضوا للضرب المبرح والسجن في فيلبي (أعمال 25:16).
إن فهمنا المحدود لا يستطيع أن يدرك كمال محبة الله، ولكن يمكننا أن نثق أنه كلي الحكمة وأنه يعمل كل شيء لصالحنا. فثق في كلمته، ثم أ لقِ كل همك عليه لأنه هو يعتني بك (1 بطرس 7:5).
إعلان عن المسيح: بصفته الشخص الذي "عينيه على طرق الإنسان" (أيوب 21:34). "لأن عيني الرب على الأبرار وأذنيه إلى طلبتهم" (1 بطرس 12:3).
أفكار من جهة الصلاة: افرح واعتبر نفسك محظوظا عندما تتألم من أجل اسم المسيح (1 بطرس 14:4).
بالإضافة إلى كل الاتهامات الباطلة التي وجهها أصحاب أيوب إليه، كان أليهو أكثرهم قسوة وظلما، فلقد اتهمه بأنه يسير متحدا مع فاعلي الإثم وذاهبا مع أهل الشر ... يتكلم بلا معرفة ... أضاف إلى خطيته معصية [أي بالإضافة إلى عدم اعترافه بخطيته فهو يتمرد على الله] ... ويكثر كلامه على الله (أيوب 8:34،35،37). حجة الشرير أكملت فالحجة والقضاء يمسكانك [أي أنك ممتلئ بالشر لذلك أصبحت تستحق الدينونة] (أيوب 17:36).
لذلك فلا عجب أن يتدخل الله من العاصفة لينهي كلمات أليهو الظالمة، فيسأل أيوب: من هذا [أليهو] الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟ (أيوب 1:38-2).
ولأول مرة منذ أن بدأت أحزانه، يسمع أيوب كلمة تعزية من الرب: أشدد الآن حقويك كرجل (أيوب 3:38). وكأن الرب يقول له: "قم الآن من فوق الرماد؛ لقد تألمت بما فيه الكفاية، وأثبتّ أن الشيطان كاذب؛ فاستعد الآن لتقترب مني - فإني لست بعيدا عنك كما كان يبدو لك عندما قلت: هأنذا أذهب شرقا فليس هو هناك، وغربا فلا أشعر به، شمالا حيث عمله فلا أنظره، يتعطف الجنوب فلا أراه (أيوب 8:23-9). إني أريدك أن ترى بأكثر وضوح كيف أني أتحكم في الكون الشاسع ومع ذلك أهتم بأدقّ تفاصيل حياتك".
لقد أراد الرب أن يمدح حكمة أيوب في كل أحاديثه مع أصحابه (أيوب 7:42). ولكنه أراد أولا أن يجعل أيوب يدرك محدودية حكمته بالمقارنة مع حكمة الله اللانهائية، الذي خلق جميع الكواكب والمجرات المنتشرة في كل أنحاء الكون. هل تربط أنت عقد الثريا [مجموعة مكونة من سبعة نجوم تصنع كوكبة الثور]؟ أو تفك ربط الجبار [مجموعة النجوم المسماة بالجوزاء]؟ لا يستطيع أحكم علماء الفلك ولا أكثر الأشخاص روحانية أن يشرح أو يغير مسار نجم واحد في مجرة الثريا المدهشة - التي تعتبر واحدة من أجمل المجرات التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة. إن التفسير الوحيد الصحيح لتنظيم الكون هو الكلام المسجل في سفر التكوين عن اليوم الرابع في الخليقة (تكوين 14:1-19).
إن الله القدير هذا الذي خلق الكون، يعتني بنا ويصغي إلى صلواتنا ويسدد احتياجاتنا! ألا يجعلنا هذا ننحني أمامه بالحمد والتمجيد؟
ووضّح الرب أيضا لأيوب كيف أن الإنسان غير مؤهل لأن يسأل الرب لماذا سمح بالكرب الشديد. قد نتعرض أحيانا مثل أيوب للعديد من التجارب التي لا يمكننا تفسيرها، ولكن جميع الأمور بلا استثناء التي تحدث في حياة المؤمن هي امتحانات له. فالثروة تمتحن فينا روح العطاء أو تكشف عن طمعنا. والألم يمتحن فينا طول الأناة أو يكشف عن قلة صبرنا. والإحباطات تمتحن ثقتنا في الرب أو قد تؤدي إلى المرارة. ولكن في جميع الأحوال بلا استثناء يكون الله مع كل مؤمن حقيقي محاولا أن يتمم مشيئته في حياتنا. فلا يوجد شيء غير متوقع عند أبينا السماوي، ولا يوجد شخص متروك أو مهمل منه.
فهل نقدر أن نقول مع بولس: أعرف أن أتضع وأعرف أيضا أن أستفضل، في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقص، أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني (فيلبي 12:4-13).
إعلان عن المسيح: بصفته الشخص الذي "أسس الأرض" (أيوب 4:38). فإن الله بواسطة المسيح "عمل العالمين" (عبرانيين 1:1-2؛ أيضا يوحنا 1:1-3).
أفكار من جهة الصلاة: أخبر الرب بكل ما يسبب لك القلق والهم، فإنه دائما يفكر فيك وفي الأمور التي تهمك (1 بطرس 7:5).
لقد أعلن لنا سفر أيوب الكثير بخصوص الآلام والأحزان والكوارث التي تصيب المؤمنين، ولكن لا تزال هناك أسئلة كثيرة ليس لها إجابة. ومع ذلك فإننا من خلال أيوب قد تعلمنا أنه ليس من المفترض أن نعرف الإجابة على جميع مشاكل الحياة.
من خلال سلسلة تشمل حوالي 60 سؤالا، كشف الله ذاته لأيوب في عجائب الكون التي لم يعرفها الإنسان من قبل على الإطلاق. ومرة أخرى تلقّى أيوب إعلانات مجيدة عن عظمة وكمال الله وطرقه، فقال: بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني (أيوب 5:42).
لقد أدرك أيوب لأول مرة كمال وعظمة الله بالمقارنة به هو شخصيا الذي قال الله عنه: ليس مثله في الأرض (أيوب 8:1). فأجاب أيوب قائلا: أنا حقير! ... وضعت يدي على فمي (أيوب 4:40). وهذا يعني: "على الرغم من أني لا أفهم، إلا أني لن أسأل ما الذي يفعله الله أو لماذا سمح به حيث أن محبته وحكمته كاملتان".
أصبح أيوب واثقا تماما أنه لا يحتاج أن يعرف "لماذا؟" فإنه يوجد إعلان عن الله وكلمته يفوق مجرد تصديق حقائق الكتاب المقدس. فإن الذين يثقون في الرب، كما فعل أيوب، لا يطلبون إجابات عن جميع مشاكل الحياة ولا يسألون "لماذا؟" أو "لماذا أنا؟"وإنما يثقون فقط في الآب المحب الكلي الحكمة الذي يعرف دائما أبدا ما هو الأفضل لنا.
كان أصحاب أيوب متأكدين من أن الله سيصادق على مجهوداتهم لإقناع أيوب بأنه مخطئ. فلا بد أن أليفاز قد اندهش جدا عندما سمع الصوت من السماء قائلا: قد احتمى غضبي عليك وعلى كلا صاحبيك لأنكم لم تقولوا في الصواب كعبدي أيوب (أيوب 7:42). كان من الممكن أن يشعر أيوب بالفخر عندما جاء الله إلى صفه. ولكنه بدلا من ذلك اختار أن يصلى بتواضع من أجل أصحابه الثلاثة الذين كانوا قد أدانوه بكل قسوة. وبسبب صلاته من أجلهم ومن أجل نعمة الله في حياتهم، تعلّم أصحاب أيوب الثلاثة ألا يكونوا مسرعين في الحكم على آلام الأصدقاء وضيقاتهم وشدائدهم بأنها دينونة من الله.
على الجانب الآخر، لا بد أن أيوب قد اندهش أيضا عندما سمع أن الله راض عنه، لأنه قبل أن يأتي الصوت من السماء مباشرة، قال أيوب: أرفض وأندم في التراب (أيوب 6:42) - بمعنى أني عديم الشأن ووضيع جدا بالمقارنة مع جلال وعظمة وقداسة الخالق القدير. وعلى الرغم من أن أيوب قد اعترف بأخطائه، إلا أنه كانت لديه الرغبة الصادقة في إرضاء الله.
إن الذين يعرفون الله حق المعرفة يكونون مدركين لنقائصهم وعدم استحقاقهم. فعندما رأي إشعياء نفسه بالمقابلة مع الله القدوس، سقط على وجهه صارخا: إني إنسان نجس الشفتين (إشعياء 5:6). وحدث نفس الشيء مع دانيال عند نهر دجلة (دانيال 9:10) ومع يوحنا في جزيرة بطمس (رؤيا 17:1). قال الرسول بولس: مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ، فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي (غلاطية 20:2).
إعلان عن المسيح: من خلال صلاة أيوب من أجل "أصحابه" (أيوب 10:42). هذا يذكرنا بوصية المسيح لنا: صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم (لوقا 28:6).
أفكار من جهة الصلاة: اذهب إلى الله بقلب وحياة يحفظان وصاياه فسوف يستجيب لك (1 يوحنا 22:3).