الاعتراض الأول:
إن النبي لم يتكلم بهذا القول "تلك الغرانيق، ولا الشيطان تكلم بها ولا أحد، بل كل ما في الأمر أنه e لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفَّار، فحسبوا بعض ألفاظه ما رواه من قولهم، وذلك حسب ما جرت العادة بهم من توهُّم بعض الكلمات على غير ما يُقال.
الرد على الاعتراض الأول:
إن هذا الكلام ضعيف لعدة أسباب أهمها:
1. إن التوهُّم في مثل هذه الأمور يصحُّ على الأشياء التي جرت العادة بسماعها، أما غير المسموع فلا يقع عليه ذلك؛ لأنه جديد لم يسمعوه من قبل.
2. إنه لو كان الأمر كذلك لوقع الأمر لبعض السامعين دون البعض، فإن العادة مانعة من اتفاق الكل على كلام أو خيال واحد فاسد المحسوسات.
3. لو كان الأمر كذلك، فلماذا نسبوه إلى الشيطان حسب الآية في (سورة الحج52:22).
الاعتراض الثاني:.
إن ذلك الكلام هو كلام شيطان الجن، وذلك بأن تلفَّظ بكلام من تلقاء نفسه وأوقعه في درج التلاوة، ليُظَن أنه من درج الكلام المسموع من الرسول، والذي يؤكد ذلك هو أن الجن والشياطين يتكلمون، فلا يُمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت رسول الله، والدليل على ذلك أن القوم الذين سمعوه لم يروا شخصاً آخر فظنوا أن هذه الكلمات من فم الرسول.
الرد على الاعتراض الثاني :.
فإنك أيها القارئ العزيز إذا اقتنعت بالرأي السابق، وقلت:"إنه من الممكن أن يتكلَّم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على السامعين كونه كلام الرسول"، بقى هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول؛ فينتج من ذلك رفع الثقة عن القرآن كله.
الاعتراض الثالث :.
قالوا إن رسول الله قال هذه الجملة "تلك الغرانيق سهواً كما يُرْوَى عن قتادة ومقاتل -من أصحاب محمد- أنهما قالا:"إنه eكان يصلى عند المقام، فنعس وجرت على لسانه هاتان الكلمتان {تلك الغرانيق العُلى إن شفاعتهن لترتجى}، فلما فرغ من السورة، سجد وسجد كل من في المسجد، وفرح المشركون بما سمعوه . فأتاهُ جبريل فاستقراء السورة، فلما انتهى من أفرأيتم آللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى تلك الغرانيق العُلى إن شفاعتهن لترتجى، قال جبريل لم آتيك، بهذا فحزن الرسول إلى أن نزلت سورة الحج (52:22).
الرد على الاعتراض الثالث:.
إن هذا الكلام ضعيف لعدة أسباب أهمها:
1. لو جاز على النبي السهو هنا، لجاز أيضاً في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن بقية السور.
2. إن الساهي لا يجوز أن تقع منه هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها.
3. افترض أنه تكلم بذلك سهواً، فلماذا لم ينتبه إلى ذلك حين قرأ السورة مع جبريل؟!.فهل يقع السهو عليه مرتين ويكرر نفس الألفاظ في نفس موضعها ؟!
الاعتراض الرابع:
إن الرسول تكلَّم بهذه الكلمات مجبراً "أي الشيطان أجبر الرسول على أن يتكلم هذه الكلمات".
الرد على الاعتراض الرابع
إن هذا الكلام ضعيف لعدة أسباب أهمها:
1. إن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي، لكان اقتداره علينا أقوى؛ فوجب أن يزيل الشيطان العباد عن الدين، ولجاز في أكثر مما يتكلم به الواحد منا أن يكون إجباراً من الشيطان.
2. إن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام مثل هذا الاحتمال.
الاعتراض الخامس:
إن النبي تكلم بهذه الكلمات بمحض إرادته حسب هذه الرواية:»قال ابن عباس في رواية عطا:"إن الشيطان يقال له الأبيض، أتى النبي على صورة جبريل، وألقى على لسانه هذه الكلمة ‘‘تلك الغرانيق‘‘ فقرأها، فلما بلغ تلك الجملة قال:"جبريل أنا ما جئتك بذلك"، فحزن الرسول، وقال أتاني على صورتك فألقاها على لساني.«
الرد على الاعتراض الخامس:.
إن الذين يؤمنون بهذا الرأي عليهم أن يوضّحوا لنا ويجيبوا عن هذا السؤال: هل النبي غير قادر على التمييز بين جبريل والشيطان؟! وما المانع أن يكون الشيطان أتاهُ بصورة جبريل في مواضع أخرى؟!
الاعتراض السادس:
إن الرسول لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمات من نفسه ثم رجع عنها.
الرد على الاعتراض السادس:.
إن الرسول في هذه الحالة خائناً في الوحي، وهذا خروج عن الدين بوجه عام، وعن النبوَّة بوجه خاص.
ومن تفسير الجلالين لنص (سورة الحج 52:22)، الجزء الثاني، صفحة 45»)وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاَّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته( قراءته ما ليس من القرآن بما يرضاه المرسَل إليهم، وقد قرأ النبي في سورة النجم بمجلس من قريش بعد أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه {وتلك الغرانيق العُلى إن شفاعتهن لترتجى}. ففرحوا بذلك ثم أخبره جبريل بما ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك، فحزن فسُلَّي بهذه الآية ليطمئن )فينسخ الله (يبطل) ما يلقى الشيطان، ثم يحكم آياته (يثبتها)، والله عليم حكيم (عليم بإلقاء الشيطان)((الحج 22: 52).
لا يخفى عليك أيها القارئ العزيز أن هذا الحادث حقيقة مؤكدة بشهادتي القرآن والتاريخ، الذي لم ولن يجد المسلمون مخرجاً لإنكار هذا الحادث. وها أنك قد رأيت المفسّرين المسلمين بمذاهبهم المتضاربة السخيفة في هذه المسألة، قد قدحوا -وهم لا يدرون- في دعوى محمد بالنبوّة والرسالة من الله، وإني أرى أنه من الأنسب لو قالوا:"إن رسول الإسلام فعل ذلك لغاية حميدة من نفسه، وإن ذلك درج على لسانه لمؤالفته سماع ذلك من قومه على توالى الأيام، كما هو شأن الضعف البشري، ثم انتبه إلى غلطته ورجع عنها، وإن ذلك كان إلقاءاً أدبياً من الشيطان". فما أوردناه في هذا الموضوع يظهر لنا جليّاً أربعة أمور جديرة بالاعتبار وتستدعي التفات نظر القارئ الأريب والنبيه وهم:
1. الأمر الأول : أكيدية حدوث إلقاء الشيطان على لسانه ذلك المديح لآلهة قريش.
2. الأمر الثاني : تكذيب فريق لهذه الحادثة، ورمى محدّثيها بالافتراء.
3. الأمر الثالث : الإقرار بوجهٍ سلبي ثبوت إلقاء الشيطان على لسان النبي قادح في نبوّته
4. الأمر الرابع : تضارُب المذاهب بشأن هذا الحادث.
التعليق على الأمر الأول
أكيدية إلقاء الشيطان على لسان محمد ذلك المديح لآلهة قريش.
ما من عاقل نبيه لدى اطلاعه على هذه المسالة، إلاَّ ويرى في قصة مدح محمد للأصنام حادثة واقعية لا تقبل الشك لخمسة أسباب:
1. بساطة القصة وخلوُّها من التصنيع، الأمر الدال على كونها قصة تاريخية غير مؤلّفة.
2. إنها مروية عن فريق من الصحابة، كقتادة ومقاتل وإلياس، الذين بعضهم نسبوا هذه القصة إلى السهو وبعضهم إلى إلقاء على لسانه من الشيطان يُقال له الأبيض.
3. تعليق الفريق الذين رجعوا من الحبشة على هذا الحادث.
4. اعتراف مفسّر الجلالين والرازي بوقوع الحادث.
5. العلاقة الطبيعية بين الآية (الحج 52:22) وبين القصة في (سورة النجم 53)، فعلى افتراض ضياع القصة ونكران هذا الحادث من عامة المسلمين، وإجماعهم على بطلان القصة؛ فالآية تدل دلالة راهنة على تمنى محمد شيئاً أو أشياء على إلقاء الشيطان في أمنيته، وهنا الفاجعة الكبرى، لأنه عوّض تقييد النص بحادث؛ وهذا يعنى أنه يصبح مطلق الإشارة إلى حوادث شتى.إذاً على الذاهبين ببطلان واختلاق هذه القصة أن يبيّنوا لنا - إن كان في استطاعتهم- الباعث على ذلك النص )وما أرسلنا من قبلك من رسول أو نبي إلاَّ وإذا تمنّى( (سورة الحج 52:22)، ويشرحوه لنا شرحاً وافياً يقبله العقل. وهل من عاقللا يرى أن ذلك لم يكن إلاَّ لتعزية قلب محمد على حزن وخوف خامره بسبب إلقاء الشيطان على لسانه. فاسمحوا لي أن أشرح هذا النص من وجهة نظري الخاصة »يقول الله لمحمد:"لا يرهبك ولا يجذعك ما ألقى الشيطان على لسانك من تعظيم أوثان قريش الباطلة، ولست أنت النبي الوحيد الذي جرى له مثل ذلك، لقد طرأ مثل هذا على بعض أسلافك من أنبيائي ورسلي إذ تمنوا على نحو ما تمنيت، فألقى الشيطان في أمنيتهم كلاماً في درج تلاوتهم كلامي، فنسخت ما ألقى الشيطان وأحكمت آياتي، فلك يا محمد أُسوةٌ بهم، وكنْ مطمئناً مرتاحاً، فإني نسخت ما ألقى الشيطان على لسانك في درج كلامي«
التعليق على الأمر الثاني
وهو تكذيب فريق لهذا الحادث ورمي محدّثيها بالافتراء
وهم الذين نعتهم الرازي بأهل التحقيق بأن قالوا:"هذه الرواية باطلة"، وعلّلوا بطلانها بما عللوا.
أولاً : لقد أخطأ الرازي بنعته مثل هؤلأ بأهل التحقيق، وهم لم يأتوا بشيء من التحقيق، وكان الأحقّ بهذا النعت الفريق الأول الذي نعتهم بالظاهريين، التي تنطبق روايتهم كل الانطباق على النص القرآني، وعلى ما يُنسب إلى بعض الصحابة وأمر رجوع من مهاجرة الحبشة، ولا يُرى قول هؤلاء المنعوتين بأهل التحقيق هذه الرواية باطلة موضوعة إلاّ إفكاً وبهتاناً، إذ ليس في احتجاجهم ما يُعتبر برهاناً على صحة دعواهم .وما ذلك منهم إلا محاولة ستر البيِّن بالظاهر. فهم آهلين بأن يُنعتوا بأهل التمويه لا بأهل التحقيق.
ثانياً :.وليس من مسلم عاقل يسلِّم بأن نفراً من أصحاب محمد المخلصين يختلقون على نبيهم العزيز هذا الأمر المشين، لو لم يكن هذا الأمر أكيداً، وما ذكروه لو لم يكن مشهوراً، وما نسب بعضهم إلى السهو من قبيل النعاس، وآخرون إلى شيطان أبيض جاء محمد بصورة جبريل وألقى على لسانه تلك الجملة التي كررناها عشرات المرات، فضلاً عن العلاقة الكلية بين النص والحادث لا تدع سبيلاً إلى إنكاره أو تكذيبه.
ثالثاً :. وما احتجاجهم بالمنقول والمعقول إلاّ احتجاجاً صبيانياً لا يحرز شيئاً، فما أوهى حجتهم )وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحيٌ يوحي( (سورة النجم53 :3،4). فسخافة هذه الحجة تظهر لنا ظهور الشمس في رائعة النهار.
1. إن هذا النص حسب شرح الفخر الرازي ما كان إلاَّ ردّاً على طعن المشركين الذين رموا محمد بالافتراء على الله إذ قالوا:)افتراه على غير الله وأعانه عليه قوم آخرون(.
2. إن هذا الاحتجاج باطل أيضاً، لأن سورة النجم (3:53،4)، )وما ينطلق عن الهوى( لأنه إذا كان الشيطان ألقى على لسان محمد ذلك المديح، وهو يفتكرها إلقاء الله فلا يمكن أن يكون نطق بها عن الهوى (أي الغرض الذاتي)، فما كان أغناهم عن مثل هذا الاحتجاج الفارغ بهذا المنقول الدال على عدم رويّتهم وتدبٌّرهم نصوص القرآن.
وليس في احتجاجهم بالمعقول أقل سخافة إذا قالوا:"إن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، بداعي أن أعظم سعيه كان نفي الأوثان، وجواز ذلك يعنى رفع الأمان عن شرعه. فعجباً لهؤلاء المحققين كيف للداعي الذي ذكروه قد كفَّروا من جوَّز على محمد تعظيم الأوثان بطريقة إلقاء الشيطان ذلك على لسانه متجاهلون نص القرآني المبين (سورة الحج 52:22)، فقد جوَّز القرآن ما اعتبروه أهل التحقيق كُفْراً، وكيف لهم أن ينكروا على القرآن ما جوَّزه ويكذِّبون ما شهد بوقوعه بمحمد وأصحابه. أليس ذلك امتهان لكتابهم ولأصحاب نبيهم؟!
التعليق على الأمر الثالث
وهو الإقرار بوجه سلبي أن إثبات إلقاء الشيطان على لسان النبي قادح في نبوَّته
ومن قولهم:"إن ذلك الكلام هو كلام شيطان الجن، أوقعه في درج التلاوة، ليُظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول، فلا يمُتنع أن يأتي الشيطان في أثناء كلام الرسول بصوت مثل صوته، والحاضرون إذ لم يروا شخصاً آخر ظنوا أن هذا الكلام هو كلام رسول الله، ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوَّة".
الرد على هذا الكلام:.
هؤلاء القوم أذكياء، إذ أنكروا على محمد تفوُّهه بهذه الكلمات، لكي يهربوا من النتيجة المرَّة المترتبة على ذلك، فهربهم هذا لا يعتبر بالضرورة هرباً أو تخلُّصاً من تلك النتيجة، بل هي محاولة فارغة لا تجديهم شيئاً؛ لبقاء هذا الاحتمال في كل ما تفوَّه به الرسول أو سُمع أنه تكلَّم به، وبذلك يرتفع الأمان عن شرع محمد وعن قرآنه.
التعليق على الأمر الرابع
وهو تضارُب المذاهب بشأن هذا الحادث
إذ قد ذهب بعضهم أنه كان النبي يتلو في أحد أندية قريش سورة النجم حتى بلغ تلاوته أفرأيتم اللاَّت والعزى "ألقى الشيطان على أمنيته كلام ذلك المديح. وبعضهم:"إن ذلك وقع على الرسول سهواً من جراء النعاس".وبعضهم قال:"إن ذلك كان كلام شيطان الجن أوقعه في درج التلاوة".وبعضهم قال:"إن الشيطان أتى محمداً بصورة جبريل، فظنه محمد جبريل".وبعضهم قال:"إن محمداً تكلَّم ذلك الكلام من تلقاء نفسه، ثم رجع عن ذلك".وبعضهم قال:"إن ذلك كلام الرسول، أجبره عليه الشيطان".
فلماذا هذا التضارب؟!
فهل من مسلم عاقل لا يرى في هذه المذاهب المتضاربة، التي بها حاولوا عبثاً إخراج نبيهم من وصمة عار هذا الحادث تقدح في أركان دعوى محمد بالنبوَّة والرسالة من الله؟ لأنك كيفما قبلتها لا تراها إلاَّ سهماً قادحاً في دعواه، ألا ترى أنهم بتضاربهم هذا قد نزعوا من نبلاء المسلمين الثقة بكل ما يرونه. فكان من الأصلح للمسلمين أن يسلِّموا بصحة القصة من أولها قبل أن ينسبوا إلى نبيهم عدم المقدرة على التمييز بين الأرواح، ومعرفة الملاك الصالح من الملاك الشرير. وكل باحث أمين يرى أن ما ألجأ القوم إلى السهو والإجبار إلاَّ معرفتهم الأكيدة أن محمداً قال في أثناء قرآته السورة كلمات التعظيم للأوثان، فلكي يتفادوا سهام اللوم نسبوا ذلك إلى ما نسبوه مما زاد الطين بلَّة.
فقل لي أيها الإمام الشارح بأي حق تنعت هؤلاء القائلين بإدخال محمد هذه الكلمة من تلقاء نفسه بالجُهَّال؟! ألأنهم قالوا ما هو أكثر موافقة للقرآن وأقربه للعقل؟! كان جديراً بك أن تنعتهم بالمحققين والباحثين الأُمناء، و أولئك الذين نحلتهم هذا النعت بالجهلاء المموِّهين، فبذلك تكون من المنصفين.