تعليقات على الإسلام

 

الباب الثامن

فضائل بيت المقدس

 

أولاً : مصادر البحث

1.جاء في كتاب »العِقد الفريد« لابن عبد ربه، الجزء الثالث، ص364 ما يلي: ]قال الرسول e »يُنصَب الصراط في بيت المقدس، ويُؤتى بجهنم نعوذ بالله منها إلى بيت المقدس، وتُزفُّ الجنَّة يوم القيامة مثل العروس إلى بيت المقدس، وتُزفّ الكعبة إلى بيت المقدس، ويُقال لها مرحباً بالزائرة والمزورة، ويُزفّ الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر الأسود يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس. ومن فضائل بيت المقدس أن الله رفع نبيه e من بيت المقدس، ورفع عيسى ابن مريم u من بيت المقدس، ويغلب المسيح الدجَّال على الأرض كلها إلاَّ بيت المقدس، وحرَّم الله على يأجوج ومأجوج أن يدخلوا بيت المقدس، والأنبياء كلهم من بيت المقدس، والإبدال كلهم من بيت المقدس، وأوصى آدم ويوسف وموسى وجميع أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم وسلامه أن يُدفَنوا في بيت المقدس[.

2.جاء أيضاً في كتاب »العِقد الفريد« لابن عبد ربه، الجزء الثالث، ص180 ما يلي :]قال النبي e »الشام صفوة الله من بلاده، وإليها يجتبي صفوته من عباده، يا أهل الإسلام عليكم بالشام فإن صفوة الله من الأرض الشام. وقال عبد الله بن مسعود حدَّثنا رسول الله e »قسَّم الله الخير عشرة أجزاء، فجعل منهُ تسعة أجزاء في الشام وجزءاً واحداً في العراق. قسَّم الله الشرّ عشرة أجزاء، فجعل منهُ تسعة أجزاء في العراق وجزءاً واحداً في الشام«. وقال الكلبي :»صعد إبراهيم u جبل لبنان، وقيل له انظر مما أدركه بصرك وهو ميراث لذريتك من بعدك«. فذلك قوله تعالى: ]يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله لكم[. (سورة المائدة 5 : 21).

ثانياً : التعليق على ما سبق

لك عزيزي القاريء مما تقدَّم ثلاثة أمور تستدعي التعليق عليها:

الأمر الأول : إن بيت المقدس في أورشليم هو البيت الذي قد اختصَّه الله مركزاً لشعائر دينه، ومقصداً لعباده.

الأمر الثاني : إن الشام صفوة الله من أرضه، وإليها يجتبي صفوته من عباده، وخصَّها بالخير تسعة أعشار.

الأمر الثالث : إن الله أعطاها ميراثاً لذرِّية خليله إبراهيم.

التعليق الأول

إن بيت المقدس في أورشليم هو البيت الذي قد اختصَّه الله مركزاً لشعائر دينه، ومقصداً لعباده.

 

بيت المقدس لله ومكة هيكل للأصنام!!

لا شك أن مثل هذه الامتيازات السنية المذكورة لبيت المقدس باعث كبير لاعتباره من المسلمين البيت الوحيد لله في الأرض. نعم هو كذلك بحسب نص التوراة الصحيح؛ لأنه هو البيت الوحيد الذي قد بُنِيَ لاسم الرب حسب أمره، بمواصفات أراها الله لعبده داود، وأفهمهُ إيَّاها. (انظر 1 أي 28 : 11، 12، 19)[1]. وهكذا بناه سليمان بن داود ملك إسرائيل في أورشليم ليكون بيتاً لاسم الرب مركزاً لشعائر دينه ومراسيم عبادته. ولم يُعرَف في العالم بيتاً لله سواه، بينما كان للعالم كافة ما عدا إسرائيل- هياكل فخمة لآلهتهم الباطلة[2]، وأصنامهم الجامدة كحرم مكة الذي كان هيكلاً لأصنام العرب يعبدونها فيه ويحجُّون إليها وعن هذا الموضوع يتحدَّث الشيخ الدكتور خليل عبد الكريم »كان العرب قبل الإسلام- يحجُّون في شهر ذي الحجًّة من كل عام (يرحلون إلى مكة من كل مكان من الجزيرة في موسم الحج من كل عام لتأدية الفريضة . « . ويستطرد في القول :»كانوا (الجاهليون) يقومون بذات المناسك التي يقوم بها المسلمون حتى اليوم مثل التلبية (مع وجود بعض عبادات فيها شرك بالله) الإحرام، وارتداء ملابس الإحرام، وسوق الهدى وإشعاره، والوقوف بعرفة، والدفع إلى مزدلفة، والتوجه إلى منى لرمي الجمرات، ونحر الهدى، والطواف حول الكعبة سبعة أشواط (لم تزد أو تنقص في الإسلام)، وتقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة«.[3]

أفضلية بيت المقدس على مكة

ولننظر كيف أفصح محمد هكذا بكلامه وأعلن لأصحابه أن بيت المقدس هذا ((مع أنه كان في عصره -محمد- خراباً لم يبق منه إلاَّ أساسات مغطاة بالردم. لأن سليمان وضع أساس الهيكل في اليوم الثاني من الشهر الثاني عام 1012 ق.م. وبعد سبع سنوات ونصف انتهى من بناء الهيكل أي عام 1004 ق.م. وفي عام598 ق.م. حاصر نبوخذ نصر أُورشليم وأسر الملك صدقيا إلى بابل، ثم أحرق المدينة والهيكل وسبي كل شعب يهوذا إلى بابل (2مل25). ومن هنا نعلم أن بعد سقوط أورشليم على يد نبوخذ نصر لم يبق أثراً لما هو يُسمَّى بهيكل سليمان. ثم حدث بعد ذلك أن كورش ملك الفُرْس أصدر أمره برجوع اليهود من أرض بابل، وكان بالفعل أن رجع اليهود تحت يد واليهم زربابل أعادوا بناء هيكل أُورشليم (وليس هيكل سليمان) عام 536 ق.م. قد خُرِّب هذا الهيكل (هيكل أُورشليم) أثناء حصار أورشليم على يد تيطس الروماني عام 70م))[4] هو البيت الذي ستُقادُ إليه الجنَّة وجهنَّم والكعبة، وفيه يُنصب الصراط. لماذا؟! وما معنى ذلك؟! هل أن عرش الديَّان سيُنْصَب في اليوم الأخير في أُورشليم، وإليها يُحشر الناس للدين والقضاء؟! لماذا سيُجاء بالكعبة إلى بيت المقدس؟! ألكي تتشرَّف به، أو أن هذا اعترافٌ منها بلسان حالها أنها ليست هي البيت لله، ولا هي أهل لأن تكون قِبلة عباد الله وحجهم، وإلاَّ ما الباعث إلى ذلك؟! وعلى كلٍّ فإن جذبها إليه من أرض الحجاز دليل أفضليته عليها، أليس الخليق بالمسلم أن يكون بيت الله هذا حجه لا حرم مكة وكعبتها، لأن الأحرى بالعاقل اختيار الأفضل! وإذا كانت كعبة العرب ستُقاد في اليوم الأخير هكذا إلى بيت الله في أُورشليم كالعبدة إلى سيدتها، فما يخلق بك اليوم ألاَّ تُنقاد إليه بعواطفك واستقبالك إيَّاه في صلواتك، وسجودك باعتباره بيت الله الخاص في أرضه.

بيت المقدس إشارة ورمز للمسيح الفادي والمُخلِّص.

ولنتأمَّل معاً قول محمد :]ومن فضائل بيت المقدس أن الله رفع منه نبيه إلى السماء[. لِمَ يا تُرى؟! ولماذا لمْ يُرفع من مكة؟! بل جيء به منها إلى بيت المقدس في أورشليم ليُرفع منه إلى السماء. كأن مكة ليست مكاناً مقدَّساً ولا آهلاً لأن يُرْفع منهُ إنساناً إلى السماء. وهل يمكن أن يكون قصْد محمد أن باب السماء في بيت المقدس؟ نعم هو كذلك، ولكن بمعنى روحي، وهو أن باب السماء الوحيد والطريق إلى الملكوت هو شخص ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح القائل :"أنا هو الباب إن دخل أحدٌ بي فيخلُص (أي آمَنَ بي)، أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاَّ بي". (يو 10 : 9، 14 : 6). الذي هو حسب قول محمد من بيت المقدس إذ قال :]والأنبياء كلّهم من بيت المقدس[. والذي قد أتمَّ الفداء بدمه من بيت المقدس.

غلبة المسيح الدجَّال على الأرض كلها إلاَّ بيت المقدس

ولنتأمَّل في القول :]ويغلب المسيح الدجَّال على الأرض كلها إلاَّ بيت المقدس[.إذاً يغلب المسيح الدجَّال على مكة لدخولها في حُكم كل[5]. فما سبب ذلك، وعلام يدل؟؟ ولماذا حرَّم الله على بأجوج ومأجوج الدخول إلى بيت المقدس؟ ]وكل الأنبياء والإبدال من بيت المقدس[ وكأن محمد يريد ببيت المقدس ليس فقط البيت الذي بناه النبي سليمان لاسم الرب، بل أيضاً كافة مدينة أُورشليم التي فيها البيت، وكذلك اعتبر كل أنبياء بني إسرائيل خرجوا من أورشليم مع أنهم ليسوا كلهم من أورشليم بل أكثرهم من خارجها.

دفن الأنبياء في بيت المقدس!!

ولماذا أوصى آدم ويوسف وموسى وكافة الأنبياء أن يُدفَنوا -على قوله- في بيت المقدس؟! [6]. ولماذا لم يوصِ أحدٌ منهم أن يُدفَن في مكة أو بجانب الكعبة؟ وما السرّ في ذلك؟ ألا يدل ذلك على أن أورشليم هي مدينة الله المقدَّسة وبيت المقدس فيها هو البيت الوحيد لاسم الرب الذي يدعونه مسلموا فلسطين عرش الله الأدنى؟؟

عزيزي القاريء المسلم، إن محمداً قد حشر جميع الفضائل في بيت المقدس ولم يترك ذرَّة منها لسواه، نسب إليه فضائل لم ينسبها القرآن لمكة أو عرفات، وكذلك نسب محمد إليه فضائل لم ينسبها له الكتاب المقدَّس أثناء كونه عماراً أو خراباً. فما المراد بذلك؟ وما تأثيره؟؟

الجنة وجهنَّم في بيت المقدس!!

ولنا هنا وقفة وهي أن مساحة الجنة على ما يصف محمد في قصة المعراج أضعاف أضعاف مساحة الكرة الأرضية، ولا بد أن جهنَّم كذلك. فكيف يُؤتى بهما إلى بيت المقدس؟ وأين توضعان؟ فمن له ذرَّة من العقل يرى خرافة هذه الحكاية، وأي اقتضاء لحشر الجنَّة وجهنم والكعبة بحجرها الأسود في ذلك اليوم إلى بيت المقدس، الأمر الذي لا ذِكْر له في الكتاب المقدَّس، وكذلك الأمر الذي وإن دلَّ وإنَّما يدلُّ على خرافات وتصوُّرات فارغة.

حوار مع محمد

ألا يجدر بالناقد لدى وقوفه على ما تقدَّم في هذا الباب أن يخاطب نبي الإسلام بوجه التخيُّل كمن هو حاضر يسمعه يقصّ ذلك على أصحابه على سبيل السؤال :"يا أبا القاسم، إن كان لبيت المقدس حسب قولك كل هذا الفضل، حتى تُقاد إليه في اليوم الآخر ليس فقط الأحياء بل الجمادات عدية الحس كالجنة وجهنم وكعبة العرب، فلماذا لم ترتضيه قِبْلةً وحجَّاً لأتباعك؟ بل رغبت استبداله ببيت أصنام مكة. هل دعاك إلى ذلك غرضٌ سياسي، ومصلحة حالية؟ ألتُرضي قومك قريشاً وقبائل العرب التي اعتادت طويلاً الحج إلى الكعبة؛ وتزيل نفورهم منك اتخذتها لك ولأصحابك قِبْلةً تولُّون وجوهكم في الصلاة شطرها، وحجاً تحجُّون إليها، وكذلك اتخذت نفس شعائر دينهم ومناسك حجّهم وأقررتها في الإسلام سُنَّةً كالاعتمار، والإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، وهدي الهدايا،والنحر، والأشهر الحرام، والصلاة على الموتى، وغير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره[7]. ولم تكتفِ بذلك لمقاربتهم منك وقبولهم دعوتك بل أبقيت لهم أحد أوثانهم ومعبوداتهم في الكعبة وهو الحجر الأسود بكل اعتباراته، واعتقدت فيه اعتقادهم، وجريت مجراهم في الطواف به وتقبيله، فنعم السياسة يا أبا القاسم؛ لأن المعقول أن القوم قالوا حين وافقتهم على هذه الأمور وأقررت شعائر دينهم في الإسلام كرسوم إلهيه :"فما أقل الفرق بين ديننا ودين محمد بن عبد الله، ونحن نؤمن بالله كبير الآلهة، ونقول ونكتب في كتبنا وصكوكنا مستفتحين: "باسمك اللهم". وهو يقول ]بسم الله الرحمن الرحيم[. فأي فرق بين القوليْن، أليس الله برحيم وكريم وحليم وعليم؟ ومع أنه أنكر الأصنام وأزالها من البيت فقد أبقى لنا الحجر الأسود المكرَّم في مكانه وأقرَّه على اعتباره فهو يطوف به ويقبِّله نظيرنا وقد صادق على شعائر ديننا ومناسك حجَّنا وأقرَّها في الإسلام كأمور شريفة مقدَّسة يجب على المسلمين القيام بها فالإسلام إذاً أكثره منَّا، وبما أن الرَّجُل مظفر في غزواته وحروبه، وقد وعدنا بسعادة عاجلة وآجلة إن قبلنا دعواه كرسول الله فما يضرنا إن فعلنا؟!".

ورب معترض يقول :"أي بأس من إقرار بعض عوائد ورسوم ديانة الجاهلية في الإسلام، وتحويل مجراها من الوثنية إلى ما هو لله، وهي غير مضرّة وخاصة وإن كانت تتفق مع الضمير البشري وروح الدين".

وللرد نقول :"لا نعترض على ذلك وخاصة أن معظم الشرع الإسلامي مستعار من اليهودية والمسيحية، ولكن إبقاء عادات ورسوم جاهلية مثل إكرام الحجر الأسود لا سبيل إليه. أليس إكرام الحجر الأسود وهو من معبودات الجاهلية يُطاف ويُمسح عثرة للمسلمين؟! أم هو حجر عديم الحس لا ينفع ولا يضر؟! أليس أن عبادة الحجر إهانة لله ولا تخلق بذوي العقول؟! وكيف يُقال :"ويُزف الحجر الأسود إلى بيت المقدس، والحجر يومئذ أعظم من جبل أبي قبيس"، فكيف يكون الحجر بهذا المقدار؟! وأنِّي للجماد عديم الحس أن ينمو؟ أليس ذلك من جملة الخرافات السخيفة التي لا تُعار شيئاً من الاعتبار؟!

عمر وتقبيل الحجر الأسود!!

روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف مرة بحرم مكة، فقبَّل الحجر الأسود ثم قال:"أما والله لقد علمت أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك" ((صحيح مسلم، الجزء الثالث، صفحة 235، 236)).

لقد استبدل محمد بيت المقدس بحرم مكة قبلةً بدعوى أنه أُحي إليه ذلك }وقد نرى تقلُّب وجهك في السماء فلنوليّنك قبلة ترضاها الخ{ (سورة البقرة 2: 144)، وكذلك هناك نص يصادق على الحج، ولكن ليس هناك نص يقول بتقبيل الحجر الأسود! إنما هكذا استحسن محمد وفعل، وجعل ذلك سُنَّة يجري عليها أتباعه إرضاء للعرب، كما حدث في تمنيه شيئا يُقارب بينه وبين العرب[8]. وإني أظن أن سهم مدح محمد للأصنام (سورة النجم 53 ثم الحج 22: 52) لم يصب شيئاً، بل على العكس ازداد العرب من محمد نفرة وكراهية، رأى محمد من الحكمة والسداد أن يتلافى خواطرهم ويعوِّضهم عن السهم الذي لم يفلح فأبقى لهم في الكعبة أحد معبوداتهم وهو الحجر الأسود الذي زعم أنه هبط من الجنة، وجعل إكرامه من شعائر دينه الجديد؛ وبذلك أعطاهُ الشيطان نعمة في عيون أهل قريش وتمكَّن من مقاربتهم إليه، وجمعهم تحت كلمته كما كان يتمنّى.

التعليق الثاني

إن الشام صفوة الله من أرضه، وإليها يجتبي صفوته من عباده، وخصَّها بالخير تسعة أعشار.

لا خير في مكة!

عزيزي القارئ، إنه بحسب هذا الحديث وراية عبد الله بن مسعود لم يخصّ الله الحجاز بشيء من الخير؛ لأن محمد قال (على ذمّة الراوين) قسّم الله الخير عشرة أجزاء، خصّ منه الشام بتسعة أجزاء والعراق بجزء واحد. وبحسب هذه القسمة لم يبقَ شيءٌ من الخير ليُعطى للحجاز بلاد الكعبة، والنتيجة هي أنه لا خيراً في الحجاز، فالعراق خيرٌ منها لأنها خُصَّت بعُشر الخير وهي لم تُخَصّ بشيء منه، وما لك إلاَّ ما قسَّم الله. أما نحن فلا نتعرَّض هنا للتعليق على هذا الحديث الذي ليس له شبه صحة، فقط نكتفي منه بأن سواء قائله محمد أو غيره فقد أقرَّ أن لا خير من الله لبلاد الحجاز، فهل ينظر الحُجَّاج المسلمون من كل الأقطار إلى هذا القول بعين الرضى، أيصدقون بهذه القسمة سواء نظروا إليها بعين الرضا أو الكراهية؟ ألا يقول عقلاء المسلمين في قلوبهم :"إذا كانت الشام صفوة الله من أرضه، وقد خصها من خيره بتسعة أعشار، ولم يخص الحجاز ولو بعُشر ولا بشيء، فما لنا إذاً وزيارة الكعبة؟! أنتحمَّل عناء السفر الطويل لنذهب زائرين أرض لا خير فيها من ربها؟! وكيف نرجو البركات والنعم من أرض لم يقسم لها من الله خير؟!". وهنا أمرٌ غريب وهو إذا كانت مكة مهد الإسلام، وفيها الحجر الأسود الهابط من الجنة، ومنها نبي ورسول لله من أعظم أنبيائه ومرسليه سيد الأولين والآخرين، أفلا يكون ذلك خيراً جزيلاً لها من الله؟! وكيف يقسِّم الله الخير بين الشام والعراق دون أن يلتفت إلى مكة وكأنها غير موجودة؟! أليس ذلك إشكالاً ليس له مخرجاً؟! ألم يكن الإسلام خيراً لهذه البلاد؟! وإني أظنّ أن محمداً فاه بهذه الأقوال في بداية ادعاءه النبوَّة، إذ كان وقتئذ في مكة منكراً ومضطهداً من قومه، والكعبة يومئذٍ مشحونة بالأصنام، وهو يرى الحجاز قاحلاً أجرد لا شيء لها من جمال أرض الشام وخصوبتها، التي كان قد زارها مراراً مع عمه أبو طالب ثم في تجارته لخديجة التي صارت له زوجة فيما بعد، كأنه رأى بحدة نظره أنه لم يخص الله الخير لبلاد فاجرة تنكر نبيها وتسيء إلى المحسِن إليها متشبثة بأوثانها وأرجاسها.

الشام كما في الكتاب المقدَّس

مما لا شك فيه أن الشام بها أرض كنعان التي وعد الله بها إبراهيم أن يعطيها ميراثاً لذريته من بعده، والتي قد أورثهم إياها وجعل فيها بيت المقدس ومنها لبنان ودمشق وما يليها حتى أرض الفرات هي الأراضي التي أخضعها الله للنبي داود وابنه سليمان ملكي إسرائيل والمنعوتة في التوراة بفخر كل الأراضي (حز 20: 6، 15. دا 8: 9)، والأرض البهية (دا 11: 16)وأي أرض أفخر وأبهى من أرض اصطفاها الله لتكون محلاً لمقدسه، ومهبط وحيه، ومقام أنبيائه ورسله ولا سيما كلمته وروحه؟!

عزيزي القارئ، لماذا لم يرضى محمد ببيت المقدس قبلة لعباده وحجاً لهم؟! وإذا كان بيت المقدس هكذا كريماً في عيني الله حتى أنه ستُقاد الجنة وجهنم وحرم مكة إليها فلماذا فضَّل عليها حرم مكة قِبلة للمسلمين؟! أيخلق بالرسول أن يبتغي الأدنى على الأفضل؟!

وخلاصة الأمر أن السبب سياسي محض، وهو أن محمداً خاف على أتباعه أن يتهوَّدوا أو يتنصَّروا إذا ظلّوا يقتبلون بيت المقدس في الصلاة، واتخذوه كبني إسرائيل حجاً لهم. فرأى من الصواب العدول عن هذا الأمر الذي لا تُحمد عواقبه، وأن تكون كعبة العرب قبلتهم وحجهم ومحط رحالهم آمالهم، ليكون ذلك صوناً لهم من الارتداد عنه. ونعم الاحتياط والسياسة يا محمد!! غير أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فالسياسة ميكافيلية تبرر فيها الغاية الوسيلة وتبرر فيها الضرورات المحظورات أما الدين صدق ووضوح واستقامة.

التعليق الثالث

الكتاب المقدَّس هو الأصل الذي يُرجع إليه

وهو أن أرض الشام وبالأخص أرض الكنعانيين التي أعطاها الله لبني إسرائيل ميراثاً ذرية خليله إبراهيم كما في قول القرآن :"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" (سورة المائدة 5: 21). ومن المعلوم أنه لم يرث الأرض المقدسة من ذرية إبراهيم سوى بني إسرائيل نسل يعقوب حفيد إبراهيم الذين نزلوا مصراً بواسطة يوسف وأخرجهم الله منها على يد كليمه موسى، وأعطاهم إياها بيد يشوع بن نون خليفة موسى. فلم يرث في الأرض معهم نسل إسماعيل ولا نسل عيسو مع كونهم من ذرية إبراهيم، لماذا؟! وما سبب ذلك؟! لأن القرآن لا يشير إلاَّ لإسحاق ويعقوب كهبة من الله لخليله إبراهيم كما في قوله :}ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوَّة والكتاب{(سورة العنكبوت 29: 27). بغض النظر عن عيسو وإسماعيل وكأن إسحق ويعقوب هما قصد الله وأبوا الذرية الصالحة لإبراهيم. ويظهر ذلك بأجلى بيان من قول الله لإبراهيم بعد أن طلبت منه زوجته سارة والدة إسحق أن يطرد الجارية هاجر وولدها إسماعيل :"اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق " وساء هذا الكلام في عيني إبراهيم لسبب ابنه "لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنه بإسحق يُدعى لك نسل" (تك 11: 10- 12).

ثم حوَّل الله بركة إسحق لابنه يعقوب بدلاً من عيسو، وأورث الله أولاد يعقوب أو بني إسرائيل الأرض التي وعد الله بها إبراهيم أن يعطيها له ولنسله من بعده. إذاً المعتبرون من ذرية إبراهيم هم بنو إسرائيل، التي أورثها الله الأرض المقدسة والنبوَّة والكتاب }ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوَّة والكتاب{(سورة العنكبوت 29: 27).

والنتيجة الطبيعية مما تقدَّم أن نسل يعقوب ذرية إبراهيم هو الشعب الذي اصطفاه الله من شعوب الأرض، وأورثه الأرض الصالحة  }ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم{ (سورة المائدة 5: 21)، وكتابه }لقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأُلي الألباب{ (سورة غافر 40: 53). }لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحُكْم والنبوَّة ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على العالمين{ (سورة الجاثية 45: 16). وجعل في وسطه بيت مقدسه ليعلن به نعمته وحقِّه وعدله ويجري بواسطته بركات خلاص لأمم الأرض  كما قال لإبراهيم وإسحق ويعقوب :"وبنسلك تتبارك كل أُمم الأرض" (تك 23: 18، 46: 4، 38: 24).[9]


 

[1] كتاب »مُرشد الطالبين« للمستشرق سيكل سل،كلية اللاهوت بيروت 1868م.

[2] انظر كتاب »الباحث عن الله« للدكتور القس لبيب مشرقي، من ص3_40، Call of Hope. Stuttgart. W. Germany.

[3] »الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية« ص16 17، د:خليل عبد الكريم، دار سينا، القاهرة،1990م.

[4] كتاب »مُرشد الطالبين« للمستشرق سيكل سل،كلية اللاهوت بيروت 1868م.ص98-115.

[5] ((لأن مكة جزء من كل، وحسب حسب قواعد المنطق أن كل ما يصدق على الكل يصدق على الجزء الذي يندرج تحته)).

[6] ((لم يجيء في الكتاب المقدَّس أن أحد أنبياء الله أوصى أن يُدفَن في بيت المقدس، وفي حياة آدم لم يكن يُعْرَف محلٌ بهذا الاسم. نبيان فقط أوصيا بأن يُحملا ويُدفنا في أرض الموعد، وهما يعقوب وابنه يوسف، فدُفِنَ الأول في حبرون والثاني في شكيم (تك 49 : 29-33 ويش 24 : 32). وموسى لم يُعرَف له قبر. كتاب »قصص الكتاب المقدَّس« د. القس لبيب مشرقي. دار الثقافة، القاهرة. والظاهر أن محمداً التقط هذه الأخبار من بعض جهلاء اليهود فجاءت مختبطة!!

[7] راجع كتاب »الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية«. مرجع سابق.وكذلك كتاب »تنوير الأفهام في مصادر الإسلام«.للدكتور المستشرق : كلير تِسدل. مرجع سابق.وكذلك. كتاب »عَلَم الأعلام في حقيقة الإسلام«. مجهول المؤلّف، القاهرة 1894م.

[8] راجع الباب الأول "آيات شيطانية".

[9] يجدر بالقارئ الكرم أن يرجع للمراجع الآتية إن أراد الدراسة أكثر في هذا الموضوع :

1)- "منار الحق". 2)-"مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين". 3)- "إبراهيم خليل الله".

الصفحة الرئيسية