شفاء كثيرين في كفر ناحوم

»وَلَمَّا قَامَ مِنَ الْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَانْتَهَرَ الْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي الْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، جَمِيعُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: »أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ!« فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ« (لوقا 4:38-41).

ذهب المسيح ومن معه إلى بيت سمعان بطرس، إمّا لأن المسيح كان ساكناً هناك، أو لأن بطرس دعاه ليضيّفه، إظهاراً لامتنانه للشرف الذي منحه له بدعوته أن يصير صياد الناس وأن يلازمه كتلميذٍ دائم. وربما اشتركت مع عاطفة الشكر عاطفة الأمل أن معلّمه وسيده يُجري في بيته قوة الشفاء التي أظهرها في بيت خادم الملك، منذ عهد قريب في هذه المدينة، إذ كانت حماة بطرس مريضة في بيته، وقد أخذتها حمى شديدة. يظهر أن بطرس لم ير من اللياقة أن يكلّف المسيح أن يشفيها، لكنه وجد من ينوب عنه. فأخبروه عنها وسألوه من أجلها. ولا نعلم بأي كلام انتهر المسيح الحمى، لكنه أقام حماة بطرس من فراشها ماسكاً بيدها فتركتها الحمى حالاً. وكان شفاؤها معجزة مزدوجة، لأن الضعف الكلي الذي يتولد من حمى شديدة زال بغتة، حتى أمكنها أن تمارس حالاً شغل البيت. وبذلك صارت أول النساء، اللواتي تطوعن لخدمة المسيح بعد بدء خدمته.

وانتشر سريعاً في كل البلد خبر ما فعله المسيح عند ضُحى ذلك السبت في شفاء حماة سمعان، بعد إخراج الشيطان من المسكون، فانتظر أهل المدينة إلى ما بعد غروب الشمس، احتراماً لنظام السبت، ثم أتوا بمرضاهم طالبين الشفاء من هذا القادم العجيب الذي استوطن عندهم. وظاهر الخبر هو أنه لم يَبْق في كفر ناحوم عليل، لأن جميع الذين كان عندهم سقماء بأمراض مختلفة قدموهم إليه، فوضع يديه على كل واحد منهم وشفاهم. فما أعظم ذلك السبت إذْ كانت المدينة كلها مجتمعة على باب بيت سمعان بن يونا الصياد.

يخصُّ البشيرون في هذا الخبر، المصابين بالسكن الشيطاني الذين كان عددهم وافراً. ويظهر أنه لم يضع يده على هؤلاء كما فعل في سائر الأمراض، لأنه يقول إن الشياطين كانت تخرج بكلمة. في المجمع قال للشيطان: »اِخرس« بعد أن شهد له أنه »قدوس اللّه«. وفي المساء زادت شهادات الشياطين له قوة ووضوحاً، إذْ أنهم كانوا يصرخون قائلين: »أنت المسيح ابن اللّه«. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه. تُرى هل شعر أهل المدينة بالخجل عندما رأوا الشياطين تسمّيه المسيح وابن اللّه؟ هل يمكن أن الأبالسة تعظّم كذباً الذي يطردها؟ أوَلَيسوا هم كشعب اللّه أوْلَى بتأدية شهادة كهذه؟

ما أجمل صورة المسيح، هذا المحسن، واقفاً عند باب البيت في أول ساعات الليل، يمدّ يده اللطيفة ليمسَّ كل عليل يجيء إليه، فقد برهن بذلك اشتراكه القلبي في مصائب هؤلاء المساكين، وأبان لهم أن قوة الشفاء فيه، وأن فعلها يصل إليهم عن طريق أنامله، متحولاً في طريقه إلى أنواع الصحة المطلوبة على أشكالها، حسب الاقتضاء. وبهذا العمل أفهمهم (إن شاءوا أن يفهموا) أن أمراضهم الروحية قابلة أيضاً للشفاء، وأنه قادر على هذه كما على تلك، ومستعد لشفائها جميعاً إن طلبوا ذلك منه. حقاً قال عنه النبي إشعياء: »أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا« (إشعياء 53:4).

هذه بداءة اشتغال المسيح بخدمته الطويلة في شفاء الأمراض. ونؤكد أنه في كل أعماله الشفائية كان ينظر أولاً إلى علاقة الخطيئة بالأمراض، لأن الجنس واحد، فالمرض خلل في الأجسام، وإفساد للوضع الأصلي الإِلهي الحسن. والخطيئة خلل في النفوس. وكان قصد المسيح أن يبيّن استعداده ومقدرته على منح الشفاء للنفوس من داء الخطيئة، لأنه أتى ليخلّص شعبه من خطاياهم، وظهر كحمل الله الذي يرفع خطية العالم بعد أن نزل من السماء لينال كل من يؤمن به مغفرة الخطايا. ولما كانت الأمراض في أصلها نتيجة الخطيئة، صار من الضروري أن الذي يحارب الخطيئة يحارب نتائجها أيضاً، وأن لا يتغاضى عن الفرع في مطاردته الأصل. علم المسيح أن الناس يحتاجون إلى ما يشوّقهم لطلب الشفاء الروحي، لأن الخطيئة تُمِيت الشعور الروحي، فقصد إيقاظ الناس بواسطة معجزات الشفاء.

وكلُّ من فيه روح المسيح يهتمُّ بتخفيف ويلات بني جنسه، ومن أعظمها الأمراض. والروح المسيحي يقود الأطباء إلى مخاطرات بحياتهم وتضحية بأوقاتهم وأموالهم لأجل اكتشاف أسباب الأمراض ثم معالجتها لأنهم يحسبون محاربة الأمراض مثل محاربة الخطيئة، ويعتبرون الاهتمام بخير البشر الجسدي عملاً ضرورياً، مع الاهتمام بخيرهم الروحي. ويقود روح المسيح الشعب المسيحي إلى إنشاء المستشفيات والملاجئ على أنواعها، التي لم يكن لها وجود في العالم القديم أو الحديث، إلا في البلاد التي أنشأ فيها المسيحيون أولاً فرع الإِحسان هذا.

طبيبنا اليوم

»يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الْأَبَدِ« (عبرانيين 13:8). لذلك يهتم الآن بأمراض البشر، ويريد أن يخفّفها. وكما كان يشفي المرضى في أماكن لم يكن حاضراً فيها جسدياً، هكذا يفعل الآن. ويريد أن يأتيه كل مريض طالباً منه الشفاء، وأن يعتبر المريض طبيبه البشري مكلَّفاً من المسيح، والعلاج الذي يستعمله مرسلاًَ من اللّه. وأن يشكر اللّه على نَيْل الشفاء لأنه هو الطبيب الأصلي، ولأن الشفاء هبة منه. قال الرسول يعقوب: »أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَصَلَاةُ الْإِيمَانِ تَشْفِي الْمَرِيضَ وَالرَّبُّ يُقِيمُهُ« (يعقوب 5:14 و15).

يحسب المؤمن أن المسيح هو الطبيب الماهر الشهير، وأن الطبيب البشري هو الممرّض الذي يأخذ تعليماته من الطبيب ويعامل العليل بموجبها. فمهما كان اتكالنا على الممرّض عظيماً، وشكرنا له عند النهوض من المرض وافراً، يكون الاتكال الأعظم والشكر الأوفر للطبيب الذي درّبه استجابة لاستغاثتنا به.

المسيح وخلوته مع الآب

»وَلَمَّا صَارَ النَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ، وَكَانَ الْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: »إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الْأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ اللّهِ، لِأَنِّي لِهذَا قَدْ أُرْسِلْتُ«. فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ الْجَلِيلِ« (لوقا 4:42-44).

رأينا المسيح محاطاً بالجماهير - إنما الازدحام الدائم لا يوافقه، فلا يستغني مطلقاً عن الاختلاء مع الآب السماوي. ولذلك »في الصبح باكراً جداً، لما صار النهار، قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك«. كانت خدمته للناس تسوقه إلى الصلاة للّه، لأنه بواسطة الاختلاء مع الآب يتأهّل لعمله اليومي الخطير بين الناس. كانت صلاته للّه تقوده إلى خدمة الناس حباً للّه، فيعود من صلاته إلى أعماله بنشاط جديد وفرح مضاعف. الحياة التي كلها صلاة تعطل خدمة المصلي. والحياة التي كلها خدمة تجعل الذي يخدم يفقد ما يحتاج إليه من الفوائد الروحية، التي بها يقدر أن يخدم الآخرين الخدمة العظمى والأسمى. فمع طهارة المسيح التامة وقوته الفائقة وكل كمالاته، كانت طبيعته البشرية تحتاج إلى الصلاة، وكانت هذه لذته العظمى، لا بل تنفسه الروحي الضروري الدائم. فمن أهم فروع الاستفادة من المسيح الاقتداء به في صلاته الانفرادية.

لكن لم يرْضَ الجمهور ولا تلاميذ المسيح الجدد، باختلائه هذا. فأخذ بطرس والذين معه يفتشون عنه، ولما وجدوه قالوا له: »إن الجميع يطلبونك«. وأمسكوه لئلا يذهب عنهم أيضاً. أما هو فلم يسلّمْ لإِنسانٍ حقَّ الحكم في كيفية تحرُّكاته، بل كان يتبع دائماً هدى الروح الذي حلَّ عليه عند معموديته. فبينما يمتثل لطلب الناس تلطُّفاً، يستقلُّ عنهم ويخالف طلبهم، ولهذا قال: »ينبغي أن أبشر المدن الأخرى بملكوت اللّه. لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضاً، لأني لهذا قد أُرسلت«.

فشرع من ذلك الوقت بخطة جديدة مختلفة عن غيره من معلمي الدين، الذين يتبعون خطة المعمدان، إذ يتخذون مراكز يستقبلون الناس فيها. والذي لا يقصدهم لا يراهم ولا يسمعهم. أما خطة المسيح فكانت على قاعدة »ابْن الْإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ« (لوقا 19:10). وخصَّ مقاطعة الجليل وطنه أولاً في هذا.

وقد أشار البشير إلى أنواع عمله الثلاثة:

 

الكرازة ببشارة الملكوت، كما رأيناه يفعل في اليهودية.

 

محاربة إبليس وتحرير الناس من سكنه فيهم، كما فعل في مجمع كفر ناحوم صباح ذلك السبت الشهير.

 

شفاء كل مرض وكل ضعف في الشعب، كما فعل في مساء ذلك السبت عينه. وسنرى المسيح يقوم بهذه الخدمات الثلاث في الأجزاء الخمسة الباقية من كتابنا هذا.