المسيح يختار تلاميذه الأولين

»وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلَامِيذِهِ، فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: »هُوَذَا حَمَلُ اللّهِ«. فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: »مَاذَا تَطْلُبَانِ؟« فَقَالَا: »رَبِّي، (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟« فَقَالَ لَهُمَا: »تَعَالَيَا وَانْظُرَا«. فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ. كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ. هذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: »قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا« (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ). فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: »أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا« (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ)« (يوحنا 1:3

42).

كان يوحنا المعمدان واقفاً مع اثنين من تلاميذه، عندما رأى المسيح مقبلاً، فقال عنه: »هوذا حمل الله«. وكان أحد هذين التلميذين أندراوس من مدينة بيت صيدا الواقعة على رأس بحيرة طبرية الشمالي في منطقة الجليل، فيكون قد أتى من محلٍ بعيد ليتتلمذ للمعمدان. أما الثاني يوحنا بن زبدي، فهو أيضاً من بيت صيدا. ولا نعلم كل ما سمعاه سابقاً من معلمهما المعمدان عن المسيح، لكنهما سمعاه يقول إنه حمل الله (يوحنا 1:29 ، 36). ويؤيد هذه التسمية قول إشعياء النبي: »تَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ« (إشعياء 53:7).

كان يوحنا المعمدان ابن كاهن. وعمل الكاهن الخصوصي هو ذبح الحملان في الهيكل، والشرط في الذبيحة أن تكون سالمة من كل عيب. فيوحنا وهو يطلق على المسيح لقب حمل الله يشهد بسلامة المسيح من كل عيب.

وبما أن هذا الناسك والواعظ القدير مملوء من الروح القدس، فقد علم جيداً أن الذبائح الحيوانية في الهيكل لم تكنْ إلا رمزاً للذبيحة الحقيقية الأصلية الوحيدة، التي هي »حمل الله« المذبوح حسب القصد الإلهي، من قبل تأسيس العالم، وأن الذبائح الحيوانية لا تصلح لرفع الخطايا، لأن هذا هو فعل ذبيحة حمل الله.

ظهر تأثير شهادة المعمدان عن المسيح في أنّ أندراوس ويوحنا تبعا المسيح فوراً بكل احترام، دون أن يقولا شيئاً، إلى أن شعر المسيح بمرافقتهما له، فسألهما: »مَاذَا تَطْلُبَانِ؟« (يوحنا 1:38). والمسيح عادة يسأل كل شخص يتظاهر باتّباعه: »ماذا تطلب؟« لأن مطاليب تابعيه تختلف كثيراً، وعليه تختلف أيضاً معاملته لهم، وقد قال لبعضهم: »أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي... لِأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ« فلم يقبلهم تلاميذ له (يوحنا 6:26).

كانت إجابة أندراوس ويوحنا على سؤال المسيح باحترام وتحفُّظ، كأنهما يريدان في وقت آخر مناسب أن يأتيا ليسمعا كلامه ويتعلّما منه، فقالا: »يا معلم، أين تمكث؟« فلم يرْضَ أن يخبرهما، لأنه أراد أن يعلمهما أن المطلوب من كل واحد أن يتبعه حالاً، فهو يرفض دائماً الذين يؤجلون اتّباعه، ويلزمهم أن يتبعوه عاجلاً، وإلا فإنه لا يقبلهم، فقال لأندراوس ويوحنا: »تعاليا وانظرا«. ولما أطاعاه أبقاهما عنده ذلك اليوم. ولا زال هذا هو الترتيب الإلهي - فالإنسان يتخذ الدين لا لأن غيره شهد له، بل لأنه هو اختبره شخصياً - فعليه أن يأتي وينظر حسب قول داود: »ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ!« (مزمور 34:8).

تغيّرت حياة أندراوس ويوحنا تماماً بعد أن التقيا بالمسيح، ولو أن أندراوس لم يشتهر كثيراً فيما بعد، بل كان أعظم أعماله ما فعله في ذلك الوقت، إذ أتى بأخيه سمعان إلى المسيح. ويظهر أن سمعان كان تلميذاً معه للمعمدان، ففتش عنه حتى وجده، وأخبره عن كنز لا يُثمَّن قد اهتدى إليه مع رفيقه يوحنا، إذ قال: »وَجَدْنَا مَسِيَّا« (يوحنا 1:41).

تتضمن هاتان الكلمتان طريق الخلاص كله. من وجد المسيح شخصياً فقد وجد كل شيء، ولا يحتاج إلى غيره، فهو الذي قال عنه النبي داود: »اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ« (مزمور 23:1). هو »الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ« (يوحنا 14:6). فمن وجد هذه الثلاثة وجد الكل. ولم يكتفِ أندراوس بالكلام، بل أردفه بالفعل، فجاء بأخيه إلى المسيح. وكل من وجد المسيح حقاً يسرع في دعوة الآخرين والإتيان بهم إليه، مبتدئاً بالأقربين، كما جاء أندراوس بأخيه سمعان.

وعرف المسيح سمعان حالما رآه، لا بل قبلما رآه، وعلم مزاياه ومواهبه ومستقبله، فأعطاه في هذه المقابلة الأولى اسماً جديداً: بطرس (في اليوناني) أو صفا (في الأرامي) وكلاهما معناه »صخرة«. وهذا اسم لم يستحقه إلا بعد أن حلَّ عليه الروح القدس، فظهرت فيه المواهب التي أهَّلتْهُ لهذا الاسم.

»فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: »اتْبَعْنِي«. وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: »وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالْأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ«. فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: »أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟« قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: »تَعَالَ وَانْظُرْ«.

وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: »هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لَا غِشَّ فِيهِ«. قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: »مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟« أَجَابَ يَسُوعُ: »قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ«. فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: »يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!« أَجَابَ يَسُوعُ: »هَلْ آمَنْتَ لِأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هذَا!« وَقَالَ لَهُ: »الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الْآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلَائِكَةَ اللّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الْإِنْسَانِ« (يوحنا 1:43-51).

انضم سمعان حالاً إلى أندراوس ويوحنا. فضمَّ المسيح هؤلاء الثلاثة إليه كتلاميذ، وبذلك تم قصده من زيارته لبيت عبرة. واستعد ليذهب في اليوم التالي إلى وطنه الجليل. ولكن قبل سفره اتّخذ تلميذاً رابعاً اسمه فيلبس، وهو أيضاً من بيت صيدا، وجده المسيح ودعاه قائلاً: »اتْبَعْنِي« (يوحنا 1:43). فإن القاعدة العمومية في الدين هي »اُطْلُبُوا تَجِدُوا« (متى 7:7) »وَتَطْلُبُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قَلْبِكُمْ« (إرميا 29:13). لكن لهذه القاعدة شواذ، وكان فيلبس، مثل متى، من هذا الشواذ، فصحَّ فيهما قول النبي: »وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي« (إشعياء 65:1).

ظهرت الغَيْرة لربح النفوس للمسيح في أندراوس، ثم ظهرت حالاً في فيلبس، لأنه وجد صديقاً خاصاً له اسمه نثنائيل من قانا الجليل، فأخبره عن المسيح، وقال له إنه هو الذي أخبر عنه موسى في أسفار شريعته، وكتب عنه الأنبياء بعد موسى، وإنه ابن يوسف من الناصرة (يوحنا 1:45) ولم يصدق نثنائيل هذا الخبر، فقد ظن أن المسيح لا يمكن أن يجيء من الناصرة، إمّا لحقارتها، أو لأن صيتها كان رديئاً بسبب شرور أهلها. فاعترض نثنائيل على فيلبس بقوله: »أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟« (يوحنا 1:46). فلم يشأ أن يحاجَّه في الأمر. لأنه كان يعلم أن مقابلة المسيح تفوق كل برهان آخر، وتُغني عن ذلك. وكثيراً ما يكون الجدال في المعتقدات الدينية فارغاً، وأحياناً مُضراً. أما أفضل برهان في فم المؤمن فهو جواب فيلبس لنثنائيل: »تعال وانظر«. لقد تكلم الروح القدس في المسيح لما قال للتلميذين: »تعاليا وانظرا« وتكلم مرة أخرى في فيلبس بذات اللفظ، فاقتنع نثنائيل بهذه الدعوة ولم يطالب ببراهين تسندها، بل وضع ثقته في مدارك فيلبس واستقامته، وقبل أن يأتي ليقابل المسيح بنفسه.

كان المسيح يعلم خفايا تاريخ نثنائيل وصفاته، دون سابق مقابلة بينهما أو سماع خبر عنه من إنسان، فبينما نثنائيل آتٍ مع فيلبس لمقابلة المسيح قال للذين معه: »هوذا إسرائيلي حقاً لا غشَّ فيه«. ولما تعجب نثنائيل من هذه الشهادة الممتازة من غريب سأل: »من أين تعرفني؟« فأظهر له المسيح أنه كان يراه ببصر غير طبيعي قبل أن دعاه فيلبس وهو جالس تحت التينة، مشغولاً بالصلاة والتأملات الروحية، بعيداً عن مراقبة الناس، وهو يظن أن لا أحد يدري به. أدرك نثنائيل أن المسيح يعرف الغيب، وبنى نثنائيل حالاً على كلام فيلبس له، فآمن فوراً إيماناً كاملاً وقال للمسيح: »يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ«. قد يكون أن نثنائيل سمع من قبل بنفسه أو من آخرين شهادة المعمدان للمسيح أنه ابن الله، فأعاد شهادة معلّمه الأول. أما تسميته للمسيح بلقب »ملك إسرائيل« فهو أول من لفظ بها (يوحنا 1:49).

أجاب المسيح على شهادة نثنائيل بقوله: »سوف ترى أعظم من هذا«. سوف ترى أنت وغيرك من الآن أن السماء قد فُتحت للبشر، بعد أن كانت الخطيئة قد أغلقتها في وجوههم، وترون أنني أنا كابن الإنسان أوصّل بين الأرض والسماء. وأرسل الملائكة من السماء لخدمة البشر، فتحمل الملائكة إلى السماء صلاة المؤمنين، ثم أرواحهم متى انتهت حياتهم على الأرض. وتأتي لخدمتي كابن الإنسان أيضاً عند الاقتضاء (يوحنا 1:50 و51).

لنا من الصوت السماوي وقت معمودية المسيح، ثم من فم المعمدان، ثم من فم نثنائيل شهادة مثلثة أن المسيح هو ابن الله. أما الآن فلنا لأول مرة شهادة من فم المسيح ذاته بأنه ابن الإنسان أي »ابن آدم«. وهذا الاسم ليس مقصوراً على المسيح، بل تلقَّب به أنبياء قبله ولا سيّما حزقيال (حزقيال 2:1). لكن المسيح لم يستصغره على ذاته بل افتخر به. ومع ذلك مدح نثنائيل لأنه آمن به أنه »ابن الله وملك إسرائيل«. فهل يمدحه على كذب أو خرافة أو وهْم أو مبالغة، ويقبل كلاماً هو كُفْر، ما لم يكن صدقاً؟ وكيف يقبل لقب ملك إسرائيل، إن كان مجرد بشر، ابن مريم؟

في كلام المسيح لنثنائيل نجد شهادته الأولى لنفسه، بكلام لا يجوز لنبي أو رسول أو بشر آخر أن يقوله عن نفسه، لأن ما يقوله إنسان فهيم ومستقيم عن نفسه مهمٌّ جداً لمعرفة حقيقة شخصه. ولهذا قال المسيح: »وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لِأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَب« (يوحنا 8:14). فلا يمكن أن إنساناً مثل المسيح يشهد لنفسه شهادة غير صحيحة، لأن استقامته تحميه من استعمال الخداع، وفهمه يحميه من الإنقياد للأوهام. وكل من يقول عن نفسه قولاً غير حقيقي، إمّا أن يكون قاصراً في مداركه، أو مختلاً في آدابه، لأن الشريف يأبى أن ينسب الآخرون إليه فوق ما يحق له من الفضيلة أو المقدرة أو المقام. فكم بالحري إذاً يأبى كُليّاً أن يدّعي لنفسه ما يخالف الحقيقة؟

علم رؤساء اليهود أهمية ما يقوله  الرجل المستقيم عن نفسه، فأرسلوا المعمدان يسألونه: »مَنْ أَنْتَ؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟« (يوحنا 1:22) فقال عن نفسه أقل ما يحق له من المقام والفضيلة والمقدرة، ولا يعتبر أحد أن المعمدان أصلَحُ أو أفهَمُ أو أصدق من المسيح، الذي قاد جميع الناس في الذكاء والصدق والتواضع، وأقواله أصحُّ الأقوال في العالم، ولذلك نعلّق أهمية عُظمى على ما يقوله المسيح عن نفسه.

والأمر واضح أنه لو قال غير المسيح ما قاله المسيح عن نفسه، لما نال من أذكياء البشر وأتقيائهم سوى التقبيح والتحقير. قال أحد الملحدين استخفافاً في حديث مع الكاتب الإنجليزي الشهير كارليل: »أستطيع أن أقول عن نفسي ما قاله يسوع عن نفسه: أنا والآب واحد«. فأجابه كارليل: »نعم، لكن العالم صدَّق يسوع في قوله، أما أنت فمن يصدقك؟«.